الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف:

الصفحات: 177
المشاهدات: 21149
تحميل: 6389


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21149 / تحميل: 6389
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

تأثير الزمان والمكان بين العبادات والمعاملات

* هل يقتصر دور العُرف، في تشخيص موضوعات الأحكام من جهة المفهوم، على باب المعاملات بمعناها العام، أو أنَّ الشارع ضمَّ إلى ذلك العبادات أيضاً؟

الشيخ معرفت: في الواقع، يقتصر إيكال هذه المسألة إلى العُرف على باب المعاملات؛ لأنَّ تشخيص الموضوع في باب العبادات من الجهة المصداقيَّة، هو من وظائف الشارع أيضاً؛ بمعنى أنَّ الفقيه يأخذ الحكم من الدليل ويستنبطه من المباني الشرعية، ويستفيد من الدليل في بيان حدود الموضوع، تماماً كما يجب عليه أيضاً أن يعرف الموضوع من لسان الدليل. على سبيل المثال: بين أيدينا في الشريعة: (الصلاة واجبة)، أو (الزكاة واجبة)، جميع الجزئيات هنا منوطة بالشرع، ويجب الرجوع إلى الدليل الشرعي لتحديدها.

فالحكم الذي هو الوجوب، يُؤخذ من الدليل، كما تُؤخذ منه أيضاً حدود الموضوع وثغوره، التي هي عبارة عن أجزاء الموضوع وشروطه وقيوده، كما تُؤخذ منه تماماً ذات الموضوع، الذي هو عبارة عن مفهوم هذه العناوين (الزكاة والصلاة)؛ أي بأيِّ معنى تكون الزكاة والصلاة.

هنا نلاحظ أنَّ جميع هذه الجزئيات متَّصلة بالشارع، ولا صلة لها أبداً بالعُرف. فإذا قال العُرف - مثلاً - وحكم على عمل شخص بأنَّه صلاة وقطع بذلك، بَيْدَ أنَّ الفقيه حَكَم - وفق الموازين التي بين يديه - بأنَّ هذه ليست صلاة، فإنَّ الحق مع الفقيه. وإذا تَمَّ العكس؛ حيث حكم العُرف بأنَّ ما أدَّاه الشخص ليس صلاة، في حين حَكَم الفقيه بأنَّ هذه الصلاة، فالذي يُؤخذ به هو موقف الفقيه؛ لأنَّه المرجع في هذا المضمار.

يتبيَّن ممَّا مرَّ بنا أنْ ليس للزمان والمكان تأثير في باب العبادات مطلقاً؛ ومردُّ ذلك أنَّه لم يُوكَل إلى العُرف أي عنوان من تلك العناوين الثلاثة في مجال العبادات. أمَّا في المعاملات، فيمكن أن يكون ثَمَّة دخل للزمان والمكان فيها؛ لأنَّ المصداق فيها موكول إلى العُرف.

٦١

* هل تُناط هذه المسألة بقولنا بالحقيقة الشرعية؟ الحقيقة الشرعية بمعنى: أنْ يخترع الشارع موضوعاً وعنواناً بإزاء العُرف، كما في حال الصلاة مثلاً؛ فالصلاة في العُرف بمعنى الدعاء، لكنَّها في لسان الشارع ممارسة، أوَّلها التكبير وآخرها التسليم، بالحدود والشروط التي عيَّنها الشرع؟

الشيخ معرفت: إذا كان المقصود من الحقيقة الشرعية هو: هل للشارع ماهيَّات مخترعة أو لا؟ فالجواب القطعي، هو: أنَّ جميع الماهيَّات في باب العبادات اختراعية.

توضيح المسألة: إنَّه كانت في زمان نبي الإسلام عدد من الممارسات، من قبيل: الحج، الزكاة، الصلاة، وغيرها. وقد كان الناس يفهمون أنَّ هذه الممارسات هي ضرب من العبادة الخاصة، يجب التوجُّه فيها إلى المعبود بصرف النظر عن الشرع. والآن إذا جئنا وطرحنا هذه المسائل، فهذه العناوين ليست لها ماهية اختراعية، وإنَّما بحثنا يتحرَّك في مجال آخر.

في الواقع ينصبُّ بحثنا على أنَّ للشارع، في باب العبادات، مجموعة من الأحكام التي استُخدمت في مجموعة من الموضوعات، وهذه الموضوعات لها بُعد كلّي مثلما لها مصاديق خارجية، وكما أنَّ من مهامِّ الفقيه أن يستنبط لها أحكاماً، فإنَّ من وظائفه أيضاً التعرُّف على الموضوعات التي استخدمت لها تلك الأحكام في هذا الباب.

ممَّا يُذكر في هذا المضمار أن رجلاً جاء إلى الإمام الصادقعليه‌السلام ، وقال له: إنِّي اخترعت دعاءً، فما كان من الإمام إلاّ أنْ ردَّ عليه - ومن دون أن يسمع دعاءه -: دع اختراعك، أدعُ كما أدعو. وسرُّ هذا الموقف واضح؛ ذلك لأنَّ الاحترام والتقديس والثناء الذي ينصرف لشخص معيَّن يتحتَّم أن يكون على وفق مقام ذلك الشخص وقدره، وإذا كنتَ تجهل مكانة الطرف الآخر وشأنه، فلا تستطيع أن توفِّر له الاحترام اللائق. فهل هذا الشخص عالم أو لا؟ وهل هو من وجهاء المدينة أو لا؟ وهل هو من علماء الدرجة الأولى أو لا؟ هل هو فيلسوف أو فقيه؟ ملخَّص الكلام: ينبغي التعرُّف إلى مركز الطرف الآخر ومكانته حتّى يمكن إبداء الاحترام له على قدر موقعه وبما يتَّسق مع شأنه.

٦٢

أمَّا من دون هذه المعرفة، فقد يتقدَّم الإنسان بطراز من الاحترام لا يتناسب مع مركز الطرف الآخر؛ لأنَّ احترام أيَّ شخص يتناسب مع شأنه. وكذا الحال في العبادة؛ إذ يتحتَّم أن تأتي هذه العبادة، وكذلك الثناء، متناسبة مع مقام المعبود وربوبيَّـته، والقضايا في باب العبادات قياساتها معها، ومن ثَمَّ فإنَّ الموضوعات في هذا الباب تأتي بدقَّة من قبل الشارع نفسه.

نستخلص ممَّا مرَّ جواب السؤال المطروح: هل ثَمَّة تأثير للزمان والمكان في موضوعات العبادات؟ الجواب: كلاّ؛ إذ ليس للعُرف دور حتّى في موضوعات العبادات، والزمان والمكان يؤثِّران في المجالات التي يكون فيها دور للعُرف.

* ينبغي إذن أن نُميِّز في هذا المضمار بين العبادات والمعاملات بالمعنى العام؛ أي يجب التفكيك بين العبادات والمعاملات في مسألة تأثير الزمان والمكان فيهما؟

الشيخ معرفت: أجل، يجب التمييز بين العبادات والمعاملات في معناها العام الذي يشمل مجموعة العقود، الإيقاعات، الأحوال الشخصية، السياسات المدنية، العلاقات الدولية، وجميع ما يدخل في بناء النظام ويكون مؤثِّراً في الهيكل الحكومي، إذ ينبغي أن يكون لأيِّ نظام وحكومة برنامج في المجال الثقافي، السياسة الداخلية، السياسة الخارجية، الاقتصاد، وغيره؛ إذ من المعروف أنَّ أيَّ نظامٍ لا يسعه أن يستغني في ممارسته للحكم والحكومة عن تنظيم البرامج في باب المعاملات بمعناها العام المشار إليه.

أمَّا في ما يتعلَّق بطبيعة المسار الذي ينبغي أن يسلكه الناس لإرساء نظامهم المعيشي والاقتصادي، وطبيعة المثال الذي ينبغي أن يحتذوا به لبلوغ هدفهم في ذلك؛ فإنَّ الشارع قد عهد ذلك إلى الناس أنفسهم، بل تخطَّى الأمر هذا التخوم، إلى ما أفادته الشريعة على هذا الصعيد، وهي تفيد: عليكم، أيُّها الناس، أن تنهضوا بأنفسكم بأعباء صياغة القوانين وتشريع الضوابط اللازمة في هذا المجال.

طبيعي أنَّ الشارع قرَّر أيضاً عدم إلحاق الظلم بأحد، فلا ينبغي لأيِّ إنسان أن يُحرَم من الحقوق التي شرَّعها له الله (سبحانه) وأرادتها له الطبيعة، كما ينبغي أن يستفيد كلّ واحد من حقوقه في نطاق القانون.

٦٣

تُعَدُّ الحرية أصلاً مهمَّاً في الإسلام. ومعنى الحرية هو أن يكون الناس أحراراً في تقرير ما يريدونه في شؤون حياتهم؛ أي أن تكون لهم الحرية والإرادة في اتّخاذ القرار الذي يريدونه في دائرة حياتهم الشخصية وشؤونهم الاجتماعية.

لكن إذا ما أُوكل الناس إلى أنفسهم بشكل مطلق، بحيث لم تكن هناك حدود وضوابط في ممارستهم لحرية القرار، فمن الممكن أن يبادر كلُّ إنسان إلى وضع ما يراه هو مناسباً من الحدود التي يرسمها وفق ما يمليه هواه ورغبته، وعندئذ ما أكثر ما يُهضم من حقوق الضعفاء.

لو عُهدت عملية وضع الضوابط والمقرَّرات إلى الإنسان نفسه، على نحو مطلق، فمن الممكن أن يعمَّ قانون الغالب، ويقوم الأقوياء بهضم حقوق الضعفاء والتعدِّي عليهم؛ فإنَّه (كلٌّ يجرُّ النار إلى قرصه)، لذلك كلِّه عرض الشارع لأصل اجتماعي مهمّ بعنوان:( لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) ، إذ ينبغي لهذا الأصل أن يحكم المجتمع الذي يسوده الإسلام، ويخضع لحاكميَّـته.

* إنّ كثيراً من هذه القواعد التي ذكرتموها تواضع عليها العقلاء أنفسهم، بقطع النظر عن الشريعة، وذلك بالمعنى الذي يفيد أنَّ (العدل حسن) و(الظلم قبيح) هما حكمان كلِّيَّان، وليست قاعدة ( لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) سوى واحد من مصاديق (العدل حسن) و(الظلم قبيح).

الشيخ معرفت: لكن ليس الأمر بهذه السعة، بل دائرة ما ذكرتموه أضيق قليلاً من القاعدة التي يرسمها التشريع.

٦٤

* ولِمَ؟ إنَّ ما ذكرتموه إطاراً، تنهض بتأمينه أحكام العقل العملي نفسه، مثلاً يُعَدُّ الاحتكار من مصاديق الظلم، وقبح الظلم هو من الآراء لمحمودة (٨) .

الشيخ معرفت: بين أيدينا أمثلة كثيرة للموارد التي جاء لها الشارع بقواعد وقرَّر لها ضوابط، مضافاً لما هو موجود من أحكام العقل العملي. على سبيل المثال: جاء الشارع المقدَّس بقاعدة(لا ضرر) في مقابل(الناس مسلَّّطون على أموالهم) ؛ ومعنى ذلك أنَّ لكلِّ إنسان، في إطار النظام الاجتماعي الحاكم، سلطة كاملة على ما يتَّصل بشأنه الخاص، فأنا شخصيَّاً لديَّ السلطة على نفسي وأموالي وكل ما يرتبط بي.

وهذا أصل عقلائي، والشارع قد ارتضاه أيضاً؛ وذلك لأنَّ الإنسان خُلق حرَّاً، وخُلق مختاراً، وخُلق ليكون هو الذي يأخذ التدبير في أموره، بَيْدَ أنَّ الشارع نفسه وضع إلى جوار ذلك قاعدة(لا ضرر) أيضاً.

* نودُّ أن تـتحدَّث إلينا عن الحرية في الإسلام بتوضيح أكثر؟

الشيخ معرفت: للحرية معنيان:

الأوَّل هو الانعتاق من القيود؛ بحيث يكون الإنسان حرَّاً تماماً من جميع القيود. لقد أخذ أكثر الذين يميلون إلى الشهوات الحرية بهذا المعنى، بَيْدَ أنَّ الإسلام لا يرتضي ذلك.

المعنى الآخر للحرّية هو إمكان التمتُّع بالحقوق؛ إذ ينبغي للقوانين والضوابط الموجودة في المجتمع، أن تكون بحيث يكون بمقدور كلِّ إنسان أن يستوفي حقوقه. إنَّ الحرية بالمعنى الأوّل الذي يعني التحلُّل مفهوم خاطئ؛ ذلك أنَّ الإنسان مقيَّد وملتزِم من أُمِّ رأسه حتّى أخمص قدميه.

على هذا جاءت التقوى - التي تُعَدُّ أوَّل شرط لتحقُّق الإنسانية - لتكون بمعنى الالتزام والتقيُّد، تماماً كما ذكر ذلك المرحوم مطهري، وهو يفيد أنَّ الإنسان المتّقي هو الذي يتقيَّد بالالتزامات الإنسانية.

٦٥

إذاً، ليس معنى الحرية في مقولة: إنَّ الإنسان خُلق حرَّاً، هو التفلُّت من القيود والتحلُّل منها، بل معنى حرية الإنسان هو ما ذكرناه من إمكان التمتُّع بالحقوق. وذلك بما يفيد أنَّ برنامج المجتمع ينبغي أن تُنظَّم بحيث يستطيع كلّ إنسان التمتُّع بحقوقه الفردية والاجتماعية، فإذا ما رام مثلاً أن يحصل ولده على شهادة (الدكتوراه) من الجامعة، فينبغي أن لا تكون هناك عقبة أمامه، وأن لا تحول دون تحقيق هذه الرغبة مسائل مثل الانتماء الوطني والقومي وغير ذلك.

خلاصة الكلام: إنَّ الشارع المقدَّس لا ينظر إلى الإنسان ككائن أسير، بل ينظر إليه كحر. وفي الوقت نفسه يراه ملتزِماً، وهذا هو معنى(المؤمنون عند شروطهم) (٩). فإذا ما تعهَّد المؤمن بشيء، فإنَّ هذا العهد يتحوَّل إلى قيد عند المؤمن يُملي عليه استحقاق الالتزام.

* نعود الآن إلى الموضوع الأساسي: يبدو أنَّ النتيجة التي انتهى إليها البحث، تتمثّل في أنَّ الشارع عهد بمهمَّة إيجاد النُّظم، في عملية تنظيم المجتمعات البشرية، إلى العُرف، لكن غاية ما في الأمر أنَّ هناك عدداً من الضوابط التي أملاها الشارع نفسه.

الشيخ معرفت: أجل، لقد عدَّه الشارع المقدَّّس بمهمَّة إيجاد النظم ووضع القرَّارات، على صُعدٍ مختلفة من عملية تنظيم المجتمعات البشرية، إلى العُرف. والمقصود من العُرف هو المجتمعات العالمية المتحضِّرة نفسها، أعمُّ من أن تكون مجتمعات إسلامية أو لا؟

أمَّا المقصود من الضوابط والمقرَّرات، فهو عرف عقلاء العالم؛ ممَّا تمَّ ارتضاؤه بوصفه أصولاً عقلائية، مثل: الحدود الجغرافية، النظام الحقوقي في إطار الحركة والانتقال، النظام المصرفي، العلاقات الدولية، وكلُّ ما يدخل في نطاق الضوابط التي ارتضاها عقلاء العالم بوصفها أصولاً عقلائية.

٦٦

بعبارة أخرى: يمكن وصفها بأنَّها الأصول العقلائية الدولية التي ليس لها طابع تحميلي.

على ضوء ذلك، نجد أنَّ الشارع لم يخترع المعاملات، فأمور مثل: البيع، والإجارة، والمضاربة، والمساقاة، وغيرها، ليست شرعية؛ بمعنى أنَّ الشارع لم يجعلها أو يخترعها، بل هي من وضع العقلاء، وأضاف إليها الشارع أو قلّل منها بعض الضوابط والشروط. على هذا عُهد بالموضوعات الكلّية في المعاملات، بجميع أبعادها، إلى العُرف.

كما أنَّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام دعا الناس إلى نظم أمورهم. ومعنى ذلك أنَّ(نظم الأمور) هو مهمَّة تقع على عاتق الناس أنفسهم، حيث قولهعليه‌السلام :(أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم) .

* على هذا، فإنَّ الكثرة الغالبة من أمور المعاملات بالمعنى الأعمّ هي في عُهدة العُرف. من ثُمَّ ليس صحيحاً ما يتوهَّمه بعضهم من أنَّ جميع الأمور ينبغي أن تُؤخذ من الشرع، حتّى طريقة القتال والجهاد مثلاً؟

الشيخ معرفت: أجل، ما هي صلة كيفية القتال بالإسلام؟! لقد قاتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصره بتلك الطريقة؛ لأنَّها هي التي كانت سائدة في ذلك العالم، لا لأنَّ تلك الطريقة التي اختارها النبيّ في مقارعة أعدائه ومواجهتهم تعكس النظام العسكري للإسلام.

من جهتها اكتسبت العلاقات الدولية للإسلام في الصدر الأول صيغتها تلك؛ تبعاً لِمَا كان سائداً في العلاقات الدولية في العالم يومئذ. فإذا ما تحدَّث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البيع والإجارة، فلأنَّه كان يتحدَّث وفاقاً لمباني الأصول العقلائية التي كانت سائدة يومذاك في مجال المعاملات، لا أنَّ الإسلام هو الذي اقترح هذه العمليات واخترعها. وإذا ما نهى عن بعض المعاملات، مثل: بيع الكالي بالكالي، وبيع المنابذة(١٠) وغيرهما، فإنَّ سبب ذلك يعود إلى نظرة الشارع إلى هذا النمط من البيوع التي كان يعدُّها غير عقلائية؛ فرأي الشارع، في هذه الموارد، أنَّه يرى أنَّ هذا الضرب من المعاملات قد نشأ من مناشئ غير عقلائية؛ والدليل على ذلك واضح جدّاً، فبيع الكالي بالكالي وبيع المنابذة يشتملان على الجهالة، والبيع المجهول يستتبع نوعاً من الضَّرر.

٦٧

فإذاً، إذا كان للشارع كلمة في شأن الأصول العقلائية، نفياً أو إثباتاً، فإنَّ هذه الممارسة تعدُّ في الواقع إرشاداً إلى حكم العقلاء، لا أنَّ للشارع تعبَّداً في باب المعاملات.

أمَّا في باب العبادات، فلا يمكن أن نأتي بالتعليلات في شأن الأحكام الشرعية، ففي حال الوضوء لا يمكن القول: إنَّه لا فرق في النظافة بين أن تغسل اليد من الأعلى إلى الأسفل، أو من الأسفل نحو الأعلى. لكن بمقدور الشارع أن يقرّرِ وجوب غسل اليد من الأعلى نحو الأسفل، أو كفاية المسح ولو بإصبع واحد، من دون أن يكون بمقدورنا أن نورد تعليلاً مألوفاً لهذه الممارسة.

على هذا الضوء، ننتهي إلى قاعدة تفيد أنَّ كلِّ مورد نعجز عن الإتيان بتعليل عقلائي له يدخل في باب العبادات. أمَّا المعاملات، فيجب أن تكتسب جميعُ التعليلات وجهةً عقلائية.

ومن حسن الحظّ أنّ علماء السلف كالشيخين محمد بن الحسن الطوسي (ت ٤٦٠ هـ)، والشهيدين محمد بن مكي (ت٧٨٦ هـ)، وزين الدين العاملي (ت٩٦٦هـ)، والمحقِّقِين: جعفر بن الحسن الحلي(ت٦٧٦هـ)، وعلي بن الحسين الكركي(ت٩٤٠هـ). والعلاّمة، جميعهم آمنوا بدور الزمان والمكان. فإذا ما أراد أحدهم أن يقيِّم المسائل المتداولة في دنيا العقلاء، ويطلّ عليها من وجهة نظر الفقه الإسلامي، تراه يفعل ذلك من خلال رؤية مفتوحة، لا فرق بين السياسات، أو العقود، والإيقاعات، وبقيَّة أبواب المعاملات بالمعنى الأعمّ. إذا ما شاء أحدهم أن يدرس ضروب الشراكة في عصره، ممَّا تعاهده العقلاء، تراه قد انتهى به التفحُّص إلى وجود ثلاثة أنماط من الشراكة:نوعان منها لا يتنافيان مع القواعد الشرعية العامة والكلّية؛ لذلك أفتِيَ بجوازهما، في حين قيل ببطلانالنوع الثالث الذي يُطلق عليه اسم(شراكة الوجوه) ، وإن كان عقلاء العالم قد قالوا بجوازه. والسبب في إبطاله هو ما انتهى إليه الفقهاء، بعد الدراسة والبحث، بأنَّ ما يُعرف بشراكة الوجوه لا يتَّسق مع القواعد الشرعية الأوَّلية. إنَّ شراكة الوجوه تقوم على أساس الموقع والمركز المالي، الاجتماعي، السياسي، لا على أساس الرصيد المالي والعمل؛ ولذلك أبطلوه.

٦٨

عندما بادر أولئك الفقهاء لدراسة المضاربة السائدة في عصورهم، وتقييمها من وجهة نظر الشرع، انتهوا إلى تطابق تلك المضاربة التي تمارس في ذلك العصر، مع قواعد الشرع وعدم مخالفتها لها، فحكموا بصحَّـتها، وبذلك أمضاها الشرع. لقد كانت المضاربة، في ذلك العصر، تقوم على أساس أن يُعطي أحد الطرفين رأسمالاً للطرف الثاني الذي يبذل العمل، ويكون شريكاً في الربح، من دون أن يتحمَّل العامل شيئاً من الضرر الذي يتحمَّله صاحب المال.

أمَّا في عصرنا، فقد تنوَّعت الشراكة، وانتهت إلى عشرة ضروب تقريباً، ومن ثُمَّ يتعين على الفقيه أن يعمل بالمنهج نفسه الذي سار عليه علماء السلف؛ لينظر أيُّ هذه الأنواع يتَّسق مع القواعد العامة للشرع، وأيُّها يتعارض معه. لقد كانت أعمال المضاربة في ذلك العصر تدور على أساس النقد متمثلاً بالمسكوكات الفضِّية والذهبية. وما يبعث على الأسف أن نجد بعض فقهاء القرن العشرين (القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجرَّيان) يريد أن يدرس المضاربة في عصره من منظور العلاّمة الحلّي في القرن الهجري السابع!

درس العلاّمة الحلِّي أنواع المضاربة المألوفة في عصره وأفتى بصحَّـتها، أو مخالفتها للقواعد الشرعية، لكن تلك الضروب من المضاربة لم يَعُد لها وجود خارجي في عصرنا، بل راحت تتجلَّى على نحو آخر.

شخصياً لا أريد أن أسيء الظنّ بمركز فقهاء عصرنا الأجلاّء، وما يحظون به من مقام، إنَّما لي معهم كلمة عتاب؛ فحواها: لماذا لم يبحثوا المعاملات المعاصرة مثلما فعل العلاّمة؟ يتحتّم على هؤلاء الأجلاّء أن يبادروا إلى العمل نفسه الذي بادر إليه العلاّمة في عصره، لا أن يقلِّدوا عمل العلاّمة نفسه ويملوه على عصرنا، تماماً كما ذهب إلى ذلك عدد كبير من الفقهاء في عملهم الفقهي واجتهاداتهم واستنباطاتهم في باب المعاملات، حيث لم يزد نصيبهم على تقليد ما انتهى إليه علماء السلف في هذا المضمار. لذلك كلِّه لم تُثمر الطُّرق التي عرض لها بعض فقهاء العصر الحاضر، حلولاً كافية لعلاج مشكلات العالم المعاصر، وليس لها أثر فاعل على هذا الصعيد.

٦٩

إنَّ العالم المعاصر يتحدَّث اليوم بلغة الحدود الجوَّية والبحرية، ممَّا لم يكن له أثر في زمان العلاّمة. في أيَّام الحرب (العراقية - الإيرانية) جمعني لقاء في طهران مع عدد من كبار الحقوقيِّين لندرس موضوع حركة السفن والبواخر العراقية في البحر، ونتبادل الأفكار في شأنه، لنصل إلى قرار في طبيعة السفن والبواخر العراقية التي يمكننا منعها حتّى لو كانت تبحر في المياه الحرَّة. ما حصل في واحدة من تلك الجلسات أنَّ أحد الحقوقيِّين قال: إنَّ هناك ما يناهز ألفي قانون تُطبَّق في العالم، وإنَّ كلَّ بلد يسعى إلى تكييف هذه النُّظم القانونية مع ما ينسجم وأصوله ومرتكزاته، من خلال عملية التغيير والتعديل. ثُمَّ أضاف الحقوقي المذكور موضحاً: إذا لم تبادر الجهورية الإسلامية لعمل شيء في هذا المضمار، فلن يبقى أمامها إلاّ أن تتَّبع النُّظم القانونية الفرنسية، أو الانكليزية، أو الإيطالية، أو السويدية، وتحاكيها على هذا الصعيد.

السؤال: هل ثَمَّة مصلحة في أن تتبنَّى الجمهورية الإسلامية، التي تُدار على قاعدة ولاية الفقيه (وولاية الفقيه بمعنى ولاية الفقه)، النُّظم الحقوقية المقرَّرة في البلدان الأجنبية؟ أليسَ من مهمَّة الفقهاء المعاصرين أن يبادروا لتقويم ما هو موجود في دنيانا المعاصرة، ويدرسوه على ضوء قواعد الإسلام الأوَّلية؟

* أفلا يقوم الفقهاء المعاصرون ببحث القضايا العالمية الراهنة وتقويمها على أساس القواعد الأوَّلية؟

الشيخ معرفت: يفتقر بعض الفقهاء إلى هذا النهج، وإنَّه لَمَا يبعث على الضحك ما كتبه بعض الفقهاء في رسائلهم الفقهية، من أنَّ المضاربة لا تكون صحيحة إلاّ بالنقد المسكوك من الذهب أو الفضّة! لكم أن تتأمَّلوا إلى أيِّ حدٍّ يُعدَّ هذا الضرب من الفكر متخلِّفاً.

٧٠

إنَّ منشأ هذا الرأي هو أنَّ العلاّمة الحلّي وقف على مقتضيات زمانه واستوعبها بالدراسة والبحث، فخلص في رؤيته الفقهية إلى ضرورة أن تكون المضاربة بالنقود المسكوكة من الذهب أو الفضَّة، فلماذا تأتي أنت (الفقيه المعاصر) وتتَّبع رأي العلاّمة، من دون أن تأخذ بنظر الاعتبار متغيِّرات الزمان والمكان، وبناء العقلاء اليوم؟! ما كان يقوله العلاّمة صحيح؛ لأنَّ النقد السائد في زمانه كان من الذهب أو الفضة، لكن لماذا تكرِّر أنت الرأي نفسه من دون بحث ونقاش؟

مثل هذا الواقع الذي ينطوي فيه الفقيه على نفسه، بحيث لا يدري ما يدور حوله، هو واقع يثير العتاب. لقد ذكرت ما سمعتُه من الإمام الخميني الراحل (رضوان الله عليه) مراراً في الندوات والبحوث، فقد كرَّر سماحته في درسه في النجف الأشرف، في مسجد الشيخ الأنصاري، هذا القول مرَّتين:أيها السادة الطلاّب، عليكم أن تبحثوا المسائل الفقهية من خلال سوق (الحويش) (أحد الأسواق المحلّية في مدينة النجف الأشرف)لا في غرف مدارسكم!

وكان سماحته يكرِّر:إنَّ المسائل التي تبحثونها في غرفكم هي تعبير عن فرضيَّاتكم، في حين أنَّ الفقه هو علم عملي يرتبط بمحيط المجتمع ووقائعه. ويتحتَّم عليكم إذاً، أن تعرفوا وقائع المجتمع وتلمسوها، ثُمَّ تطبِّـقوا عليها القواعد الفقهية، لا أن تجلسوا في غرفكم وتأخذوا كتاباً فقهياً قديماً، فتضعون فروضاً من عند أنفسكم (لا صلة للواقع بها)، وبعدئذٍ تطبِّـقوا القواعد الفقهية على تلك الفرضيَّات الذهنية! إذا ساد هذا النهج في الممارسة الفقهية، ليس هناك قيمة عملية لاستنباطكم، ولن يكون هناك مَن يستفيد في الواقع الخارجي من فقهكم، كما لن تكون هناك آيُّة فاعلية لهذا النهج في الاستنباط، ولذاك الفقه.

ثُمَّ قال الإمام الراحل:أنت! أيُّها الطالب الحوزوي، عليك أن تأخذ الوقائع من المجتمع، ومن السوق (أي من خلال الوضع المعيشي والحياتي للناس)،ثُمَّ تطبِّق عليها قواعد فقاهتك، بمثل هذا النهج تكون ثَمَّة قيمة لجهدك في البحث الفقهي.

٧١

إنَّ المعنى الذي يؤكِّده الإمام الخميني، هو الإشارة إلى تأثير المكان والزمان ودورهما في موضوعات الأحكام، لا في الأحكام نفسها؛ لأنَّ الأحكام في نفسها لا تقبل التغيير، فـ(حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة). أمَّا موضوعات الأحكام، فهي حدٌّ وسط بين المصاديق والأحكام الكلّية، وللزمان والمكان تأثير أساسي وكلّي في تعيين الموضوعات وتشخيصها، في باب المعاملات بمعناها العام.

ينبغي لبناء العقلاء أن يكون ممضىً من قبل الشارع، أو واقعاً في إطار رؤيته على أقلِّ تقدير، أو أن نحصل على إمضائه عِبر عدم ردعه عنه، وهذا أصل ثابت غير قابل للإنكار، بَيْدَ أنَّ بحثنا هو: هل عُمر الإسلام يمتدُّ على مساحة مائتين وخمسين سنة وحسب؟ الحقيقة هي: كما أنَّ الإسلام لا يختصُّ بالمنطقة العربية وحدها، فكذلك لا يُحَدُّ بزمان معيَّن، بل هو دين خالد.

على هذا الضوء، ينبغي للشارع المقدِّس أن يكون قد وضع معايير لتعيين التكليف، هذه المعايير تكون بدورها آلة لتشخيص الصحيح من السقيم. إنَّ مقتضى قاعدة الحكمة وقاعدة اللطف أن يكون الإسلام قد وضع بين يدي الفقهاء وعلماء الدين مثل هذه المعايير، وإلاّ كان هذا الدين ناقصاً.

ما دام الإسلام دِيناً مستقبلياً يفكِّر في ما هو آتٍ، وقد قرَّر الشارع المقدَّس أنَّ(حلال محمَّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة) ، فإنَّ مثل هذا الخلود والدوام لهذا الدين، يُحتِّم على الشارع أن يُشرف على عمل العقلاء، ويراقب ممارساتها، بوضع عدد من القواعد والقوانين الكلِّية. بهذا البيان يكون الشارع قد أمضى بعض أعمال العقلاء وبناءاتهم ورَدَع عن بعضها الآخر؛ وإنْ كان بعض هذه البناءات لا وجود له في زمان الشارع، وإنَّما جاء في ما بعد.

نحن الذين نؤمن بأنَّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي له القدرة على تلبية جميع احتياجات البشرية؛ ونحن الذين ندَّعي أنَّ الإسلام بيَّن الحقوق الفردية والاجتماعية كافَّة، ألا يجدر بنا أن نتفحَّص النصوص الدينية لنعثر فيها على قواعد عامة ومعايير كلّية؟

٧٢

غاية الأمر أنَّ بعض القواعد جليٌّ؛ مثل قاعدة(لا ضرر) ، و(أحلَّ الله البيع) ، و(أوفوا بالعقود)، على حين أنَّ بعضها الآخر يتطلَّب بحثاً وتقصيِّاً أكثر؛ لذلك أحسب أنَّ التشكيك في القواعد المكشوفة الجليلة، مثل(أوفوا بالعقود)، ناشئ عن قصر النظر؛ وذلك لأنَّ الألف واللام في كلمة العقود هما ألف ولام الجنس، و(عقود) هي جمع محلَّى بالألف واللام يفيد العموم. لقد أفاد الشارع أنَّه لا ينبغي أن ينطوي العقد على الضرر والسفه والغَرَر وأمثال ذلك. أمَّا ما هو اسم العقد، وما هو عنوان المعاملة، فهذا أمر لا صلة له بالشارع، ولا علاقة له بالإسلام. فالشارع لم يكن في أيِّ وقت من الأوقات في صدد إسباغ الصحَّة على عقد خاص أو الردع عنه، وإذا ما ذُكر في كلام المعصوم عليه‌السلام عقد أو معاملة خاصة، فإنَّه لم يأتِ على ذكره بعنوان كونه شارعاً، إنَّما ذَكَر الإمام المعصوم هذه المعاملة بعنوان كونه فقيهاً في عصره، لكي يطبِّق تلك القواعد الكليِّة العامة على المورد.

ومردُّ ذلك إلى أنَّ النظام الاقتصادي للمجتمع في عصرهم كان يرتكز أيضاً على مجموعة من المعاملات، ومن ثَمَّ فإنَّ الشارع بادر إلى تطبيق القواعد الكلّية على تلك المعاملات، وانتهى إلى صحَّـتها والإفتاء بجوازها؛ لعدم مخالفتها تلك القواعد العامة.

خلاصة الكلام: إنَّ خلود الإسلام هو الذي أملى على الشارع أن يضع بين يدي الفقهاء وعلماء الدين، قواعدَ يستطيعون من خلالها تقويم مباني العقلاء والحكم عليها. ثُمَّ إنَّ فلسفة وجود الفقهاء وعلماء الدين تكمن في مهمَّة تعيينهم لأُطر النظام الاجتماعي والفردي وحدوده. وإذا ما ظهر العجز في بعض المواقع، فإنَّ ذلك يعود إلى نقصنا، وعدم مبادرتنا لإنجاز عملية البحث والاستقصاء كما ينبغي، وإلاّ فإنَّ الإسلام بذاته لا عيب فيه.

إنَّ كثيراً من الأحكام التي يظنُّ الفقهاء أنَّها تفتقر إلى الدليل في النصوص الدينية، هو كلام لا صحَّة له، فأنا أعتقد أنَّ لهذه الأحكام أدلّتها في الكتاب والسُّـنَّة، حيث سأعطي لذلك أمثلة في الموضع المناسب من هذه الندوة.

٧٣

التواصل بين فقه المذاهب

* ننتقل في هذه الندوة إلى محور آخر، يرتبط بـ: تأثير معرفة المدارس الفقهية الأخرى على الفقه الشيعي؟

السيد الحائري: يمكن تمثيل العلاقة بين الفقه الشيعي وفقه أهل السُّـنَّة من خلال مثال، في هذا المثال يبدو فقهنا كحاشية على فقه العامة، وذلك شبيه بالحالة السائدة في الرسائل العملية؛ حيث يأتي الفقيه اللاحق لتحشية رسالة المرجع الذي سبقه، مُعبِّراً في هذه الحواشي عن رؤاه. على ضوء هذه العلاقة، نعرف أنَّ لِفَهم متون فقه العامَّة تأثيره في فهم فقه الشيعة.

كما يؤثِّر في فهم كلام الإمام المعصوم؛ من خلال فهم المرتكزات القبلية التي استقرَّت لدى المتشرِّعة بفعل فتاوى أهل السُّـنَّة. وهذه الحالة شبيهة بالمرتكزات العُرفية التي يتَّفق الجميع على أنَّها مؤثِّرة في فهم كلام الإمام المعصوم.

محصَّل هذا الكلام ومعناه: إنَّ فهم المدارس الفقهية السُّنيَّة يمكن أن يترك أثره في رواياتنا الفقهية من خلال عدَّة موارد، والموارد التي نعنيها هي:

١ -التقيَّة: يكون التأثير من خلال تشخيص جهة الرواية، فتشخيص الجهة يُؤثِّر في معرفة ما إذا كانت الرواية قد صدرت تقيَّة أم لا.

٢ -التصحيح: بمعنى أنَّ نظر الإمام المعصوم كان متَّجهاً إلى الروايات والفتاوى الرائجة في ذلك العصر، وهو في صدد إصلاحها.

٣ -إسباغ الصحَّة: بمعنى أنَّ الإمام المعصوم كان يبغي تصحيح بعض أقوالهم وإمضائها.

لذلك، إذا كانت لنا معرفة بكلام أهل السُّـنَّة، في مضمار الفقه، يكون بمقدورنا أن نتعرَّف إلى حدود كلام الإمام المعصوم وثغوره.

٧٤

د. كُرْجي: أعتقد أنَّ معرفة المدارس الأخرى، بل المعرفة الدقيقة لفقه قدماء الشيعة، له تأثير كبير في استنباط الأحكام الفقهية، فعن طريق هذه المعرفة نستطيع أن نتعرَّف إلى أهداف الشارع ومقاصده بشكل أفضل.

الفقه المعاصر، وإنْ شهد من الوجهة الفنية تطوُّراً كبيراً، إلاّ أنَّني لا أعتقد بأنَّه أحرز بهذه المظاهر الفنّية اقتراباً من الكتاب والسُّـنَّة، بحيث صرنا أقرب إلى أحكامهما الواقعية. ينطوي فقه القدماء، لا سيَّما فقه أهل السُّـنَّة، على سهولة خاصّة، وهو في نظري أشبه ما يكون بشأن نزول آيات القرآن، ومن ثم يمكن من خلاله بلوغ مقاصد الكتاب والسُّـنَّة والوقوف عليها على نحو أفضل.

السيد مرعشي: ما دامت روايات أهل البيتعليهم‌السلام قد صدرت في عصر كان فيه فقهاء العامّة يمارسون الإفتاء؛ ولمَّا كان أئمَّة الشيعة على معرفة بتلك الفتاوى؛ لذا من الممكن أن تكون كلمات الأئمَّة ناظرة إلى تلك الفتاوى. وهذا أمر يمكن أن يُسهم في فهم مراد الإمامعليه‌السلام من الرواية، ويكون مؤثِّراً في ذلك.

ولهذا كان المرحوم آية الله العظمى البروجردي (ت: ١٩٦٠م) يولي أهميَّة لروايات أهل السُّـنَّة وفتاواهم. على سبيل المثال، كان البروجردي يستشكل في الجهر بالبسملة في الصلوات الإخفاتية، وكان يقول: (يمكن أن يكون المراد من الرويات، التي تنص على أنَّ من علامات المؤمن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، أنَّها جاءت ناظرة إلى بعض فتاوى فقهاء العامّة ممَّن يذهب إلى وجوب الإخفات بالبسملة حتّى في الصلوات الجهرية، في حين يمكن لهذا الجهر أن لا يسري إلى الصلوات الإخفاتية).

وعندما نعود إلى كتبنا الفقهية، نجد أنَّ منحى الفقهاء يقوم على الانتباه إلى ما في المدارس الفقهية المختلفة لأهل السُّـنَّة، وما أراه أنَّ الأمر لا يقتصر على ضرورة أن ينفتح فقهاؤنا على النظريات الفقهية لأهل السُّـنَّة، بل عليهم أيضاً أن ينفتحوا على النظريات الحقوقية والقانونية السائدة في العالم؛ والسبب الذي يدعو إلى ذلك أنَّه ليس هناك موضع للتعبُّد الشرعي في كثير من المسائل الفقهية، إنَّما يكتفي الفقيه بعرض نظرياته على أساس مجموعة من الأمور الاعتبارية.

٧٥

لذلك يمكن أن تتغيَّر رؤية مثل هذه القضية بالكامل، حينما تتكثَّف رؤيته حيال نقطة تستقطبه من خلال اطّلاعه على النظريات الحقوقية للآخرين. وهذا أمر يبدو ملحوظاً في كثير من المسائل التجارية والعقود والمواثيق.

د. كاتوزْيان: إذا كان المقصود من المحور المطروح للبحث هو التوجُّه إلى فقه العامّة، ينبغي أن نقول: إنَّ فقهاء الإمامية دأبوا منذ القديم على ملاحظة استنباطات بقيَّة المسلمين، في مسائلهم الفقهية وممارستهم للاستنباط. فما سعى إليه السيّد المرتضى (ت ٤٣٦ هـ) في(الانتصار)، هو إثبات نوع من الخصوصية وأصالة الاستنباط لفقهاء الشيعة إزاء الآخرين، ومثل هذه المبادرة كانت تستلزم معرفة فقه الآخرين والإحاطة بأقوالهم.

أمَّا الشيخ الطوسي، فقد عكس في كتابه(الخلاف) (أوّل مثال للفقه التطبيقي المقارَن في المدرسة الشيعية)، في حين تابع العلاّمة الحلِّي هذا المنهج في أكبر مصنَّفاته الفقهية:(تذكرة الفقهاء) . والذي يبدو أنَّ العمل الذي كان ماثلاً أمام أولئك الفقهاء، ويحفِّزهم إلى سلوك هذا النهج، هو كتاب(المغني) لابن قدامة، الذي كان ينطوي على مجموعة من اجتهادات فقهاء العامّة، وقد استفاد العلاّمة الحلِّي منه على وجه الخصوص.

أمَّا الفقهاء المتأخِّرون، فقد أخذوا بنظر الاعتبار في ممارستهم للاستنباط بعض فروع المدارس الفقهية الأخرى بهذا القدر أو ذاك، حيث يُعدُّ كتاب(تحرير المجلَّة) للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت١٢٢٧ هـ) مثالاً دالَّاً على هذا الاتجاه.

في الحقيقة ، أدرك أولئك الفقهاء الكبار جيَّداً، أنَّ الاستنباط الفقهي لا يعدو أن يكن أكثر من إجراء الصناعات المنطقية والأدبية وتوظيفها في إدراك مفاهيم الكلام. وهذا الفنّ الذي يبحث عن الحقّ ويهدف إلى تنفيذ العدالة، مَثَلُ الفقيه فيه كَمَثلِ أيِّ شخص آخر من أصحاب بقيَّة الفنون؛ لا يستطيع أن يبلغ حالة النضج والاكتمال من دون أن يطَّلع على فنون الآخرين وصناعاتهم.هذه الحقيقة تراها مستبطَنة في قولهم المشهور: تزداد كفاءة الفقيه ومهارته على قدر استفاده من أساتذة متعدِّدين وبارزين. كما يستبطن هذا القول أيضا الحقيقة التي تدلُّ على أنَّ اختلاف الآراء وتضاربها يكون باعثاً لنضج المجتهد وتفتُّح مواهبه.

٧٦

علينا أن نذهب أكثر من ذلك في هذا المجال، فإذا ما رام الفقيه حلَّ القضايا المعاصرة التي تكتنف المجتمع، عليه أن يطَّلع على النظم الحقوقية الحاضرة والنظريات السائدة في البلدان المتقدِّمة، فمن خلال الاطّلاع على مثل هذه المعلومات يستطيع الفقيه الواعي أن يجد أرضية كثير من النظريات الراهنة في عقائد فقهاء السلف وآرائهم، ويبادر إلى استكمالها. أمَّا الذي يمرُّ بالفقه مروراً عابراً، ويكتفي بالقراءة المجرَّدة، فهو لا يقف عند هذه النقاط ويتعمَّق فيها، بل يُعيد تكرار أقوال الآخرين مع إجراء تغيير طفيف عليها، من دون أن يستطيع أن يحصل على أشياء مهمَّة وجديدة.

* جناب الشيخ معرفت، انطلاقاً من معرفتك بنظريات أهل السُّـنَّة في الفقه والتفسير، ما هو يا ترى التأثير المتصوَّر لفقه أهل السُّـنَّة في استنباط الفقيه الشيعي؟

الشيخ معرفت: كنتُ أسمع باستمرار من تلامذة آية الله العظمى البروجردي، أنَّه كان يعتقد بأنَّ معرفة النظريات الفقهية لأهل السُّـنَّة، لها أهميّة أساسية حتّى في فهم روايات الشيعة وفقههم الحديثي. وأنا مع اعتزازي بأحاديث الشيعة وفقههم، أقول - من دون أن أسمح بسوء الاستفادة من هذه المسألة: إنَّ كلام السيد البروجردي حقٌّ، بل يذهب بعض كبار الشيعة وأجلاّئهم إلى أنَّ أحاديث الشيعة هي بمثابة الحاشية على فقه أهل السُّـنَّة، وذلك انطلاقاً من كون أئمَّة الهدىعليهم‌السلام هم حفَظة الشريعة، وهم النظَّار على أن تكتسب المسائل الأساسية والعميقة في الإسلام مسارها الإسلامي الصحيح.

جاء كثير من كلمات الأئمَّة وتعاليمهم من موقع المراقبة والإشراف على المسار الإسلامي الصحيح. لقد كان الأئمَّة الأطهارعليهم‌السلام يضعون أصابعهم على مواطن الخطأ والخلل، وينبِّهون على الطريق الصحيح.

لا تدل سيرة الأئمَّة على أنَّ دورهم كان يقتصر على العمل بين أصحابهم؛ حيث يبيِّنون لهم وحدهم المسائل وحسب، لم تكن سيرة أصحاب الأئمَّة تسير على هذا المنوال، إنَّما كان كلُّ واحد منهم مصباحاً مضيئاً يشعُّ في منطقة.

٧٧

كان نهج الأئمَّةعليهم‌السلام يقوم على أساس عرض المسائل والقضايا الإسلامية في الملأ العام، ثُمَّ يضطلع ببثِّ أفكارهم ومواقفهم في أوساط المجتمع الإسلامي. لو عدنا لنتأمَّل روايات الشيعة، لوجدنا أنَّ ما يربو على ثمانين في المائة منها كان ينظر إلى الوقائع السائدة في ذلك العصر. وإذا أردنا أن نقف على رؤية الأئمَّة المعصومينعليهم‌السلام في مسائل المسلمين المختلفة؛ من كلام وفلسفة وفقه، علينا لكي ندرك ذلك جيِّداً، أن نقف على النظريات الكلامية والفلسفية والفقهية التي كان يتبنَّاها علماء السُّـنَّة في ذلك الوقت، ويروِّجون لها في المجتمع؛ ففهم هذا الجانب من مسار حركة المسلمين، في دائرة أهل السُّـنَّة، يُعيننا على فهم أفضل لإدراك ما وصلنا عن الأئمَّة؛ أي أنَّ الوقوف على خصوصية ذلك العصر والإحاطة بمتغيِّراته وتيَّاراته، له الدور الأساس في فهم دور الأئمَّة، انطلاقاً من كونهمعليهم‌السلام في موقع الإشراف والنظارة على الحياة الإسلامية.

بالنِّسبة إلى السَّاحة الفقهية بالذات، علينا أن نعرف أنَّ النظام السياسي كان يقوم على أساس الفقه في تلك العصور، وأنَّ السائد في العالم الإسلامي لتنظيم أمور المسلمين هو فقه أهل السُّـنَّة، انطلاقاً من هذا الواقع كان أئمَّة أهل البيت يمارسون دور الإشراف؛ لكي لا تختار الحكومة السير في الطريق المنحرف.

نستنتج ممَّا مرَّ أنَّ الاطّلاع على الآراء والنظريات الفقهية والروايات، التي كانت سائدة في القرنين الهجريين الأوّل والثاني، له تأثير كبير في بلوغ كُنه نظريات الأئمَّة في فقه الحديث.

٧٨

* هل ثَمَّة تأثير لفقه أهل السُّـنَّة ورواياتهم في تدوين فقه الشيعة؟

الشيخ معرفت: إنَّ الفقه الشيعي المدوَّن متأخِّر زمنياً عن الفقه المدوَّن عند عامَّة المسلمين؛ وقصّة ذلك أنَّ الشيخ الطوسي (ت: ٤٦٠هـ) أحس بأنَّه لا يمكن أن يأخذ الشيعة موقعهم في العالم الإسلامي، بوصفهم وجوداً مهمَّاً وفاعلاً، وهم يفتقرون إلى الفقه المدوَّن. لقد اكتسب التشيُّع في عصر الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي موقعاً مهمَّاً في العالم الإسلامي، وصار وجوداً يحظى بموقع فاعل ومؤثِّر جدّاً، وليس معقولاً أن يكون مثل هذا الوجود المؤثِّر، والكيان الفاعل، مفتقراً للفقه المدوَّن. صحيح أنَّ هناك عدداً من الرسائل التي كانت قد دُوِّنت على أساس الروايات الشيعية حتّى ذلك العصر، لكن لا يمكن عرض الفقه المدوَّن لطائفة إسلامية لها موقع راسخ وكبير من خلال هذه الرسائل.

على أساس هذه الحُجَّة، بادر الشيخ الطوسي إلى عرض فقه العامّة، بكلّ ما ينطوي عليه من سعة وتفاصل، على المدرسة الشيعية، وأخضعه لرؤية التشيُّع من خلال كتاب(المبسوط). على هذا الضوء، سيكون الفقه الشيعي هو فقه العامَّة نفسه، لكن بعد التكييف الذي خضع له من خلال الرؤية الشيعية، وما أملته هذه الرؤية من إيجاد تغيير وإصلاح في الفقه السُّـنِّي نفسه.

إنَّ ما عرض له الشيخ الطوسي في فقهه، هو المسائل نفسها الموجودة في نطاق فقه العامّة، وبالترتيب والنَّظم نفسيهما اللذين كان عليهما. فما فعله في أبواب الفقه كافَّة، من الطهارة حتّى نهاية الديَّات، هو عرض نظريات فقهاء العامّة، وكان يبادر بعدئذ إلى نقدها بمنتهى الاحترام، إلى جوار ذلك عَرَض إلى نظريات الشيعة ودرسها وفق رواياتهم، لينتهي في المحصَّلة الأخيرة إلى تدوين مجموعة فقهية مقارنة.

على ضوء ذلك، لا يمكن تصوُّر فقه الشيعة بمعزل عن فقه العامّة.

٧٩

* متى أهمل فقهاء الشيعة هذا النهج وأغضُّوا عنه، وراحوا ينظرون إلى الفقه الشيعي بوصفه فقهاً مستقلاً؟

الشيخ معرفت: لديَّ شواهد كثيرة ومجموعة كبيرة من المؤشِّرات التي تُؤكِّد أنَّ إهمال النظر إلى مدارس فقه أهل السُّـنَّة، بدأ مع عصر المرحوم صاحب الجواهر فما بعد، فقد ظنُّوا أنَّ فقه الشيعة هو فقه مستقلّ، في حين أنَّ الأمر ليس كذلك، فنحن جزء من الجسم الإسلامي، ونحن جزء من الجسم الفقهي الإسلامي. فكما أنَّ الحنبلي لا يسعه أن يدرس فقهه من دون الرؤى الفقهية للأحناف، والشوافع، والمالكية، فكذلك لا يسع فقهاء الإمامية أنْ يدرسوا فقههم بمعزل عن بقيَّة المذاهب الإسلامية.

سآتي بمثال من الفقه يكون أنموذجاً لِمَا أقول: هناك مسألة في الفقه مفادها: هل يشترط في الذَّبح أن يكون تحت (الخرزة) أو لا؟ لقد عرض صاحب الجواهر الفقيه محمد حسن بن محمد باقر النجفي (ت ١٢٦٦هـ) لهذه المسألة في باب(الصيد والذباحة) في شروط التذكية، وذكر أنَّه ليس لها أصل، ولم تأت لا في الروايات ولا في كلمات الأصحاب، وبالنتيجة، فإنَّ المعيار هو الصدق العُرفي للتذكية. ثُمَّ عاد في موضع آخر ليذكر أنَّ أصل عدم التذكية يقتضي أن يكون قطع الأوداج الأربعة تحت المهرة والخرزة(١١) ، لكن ابن رشد الأندلسي ذكر في كتاب (بداية المجتهد)، أنَّه ليس أمامنا في باب الذبيحة إلاّ مضمونين(وهذا هو موقف الفقه الشيعي أيضاً)، هما:

١ - أن يقع الذبح وتتمَّ التذكية بفري الأوداج، وفي هذا المضمون ليس هناك موضع لبحث الخرزة وشرطيَّـتها(١٢) .

٢ - أمَّا المضمون الآخر، فهو يتمثَّل بقولهم: (إذا قُطِع الحلقوم وخرج الدم، فلا بأس به)(١٣). في هذا المضمون تكون الخرزة حلقة وصل بين الحلقوم وفضاء الفم، بمعنى أنَّ أعلى الخرزة هو جزءُ فضاء الفم، ولَمَّا كانت الروايات قد ذكرت أنَّ محلَّ قطع الأوداج الأربعة هو الحلقوم؛ لذلك ينبغي أن يقطع أسفل الخرزة.

٨٠