علي ومناوئوه

علي ومناوئوه0%

علي ومناوئوه مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 219

علي ومناوئوه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 219
المشاهدات: 27350
تحميل: 7502

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 219 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27350 / تحميل: 7502
الحجم الحجم الحجم
علي ومناوئوه

علي ومناوئوه

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأشار عليه أن يترضّى الناس ويعطيهم من بيت المال ويأخذهم عن طريق إطماعهم. وأما عبد الله بن عامر، فأشار عليه بأن يرسل الناس إلى الجهاد ويشغلهم بالحرب ويطيل إقامتهم بالثغور)(١) .

ويلاحظ القارئ أن هذا المؤتمر - بالإضافة إلى أن أعضاءه هم مصدر الشكوى والتذمر - لم ينجح في الاتفاق على حل للمشكلة التي واجهها عثمان؛ وسبب ذلك على ما يبدو هو: أن أعضاءه لم يتفهّموا طبيعة المشكلة التي كانت تهدِّد خلافة عثمان وحياته على السواء، وقد شغل أعضاؤه أنفسهم - كما رأينا - في ابتداع أساليب فاسدة جديدة لإلهاء الناس في أمور خارجية وصرفهم عن التحدث بمشكلات الساعة، أي أن المؤتمرين واجهوا المشكلة بالهروب عنها وعدم التعرض لها.

ومما يلفت النظر أن عثمان نفسه لم يبد رأيه في المشكلة إطلاقاً، ولم يتخذ أي إجراء - وقائي أو علاجي - لمواجهة الموقف المتأزِّم، بله محاولة التغلب عليه. وخطب عثمان في المتذمرين، ولكنه بدلاً من أن يعالج الموقف المتأزم قد ساعد على جعله أكثر تأزماً وحراجة حين قال: (أما بعد: فإن لكل أمة آفة، وإن لكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه الملة قوم عيَّابون طعَّانون.. أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عبتم عليَّ أشياء ونقمتم فيّ أموراً قد أقررتم لابن الخطاب بمثلها، ولكنه وقمكم وقماً.. أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عدداً)...

فعثمان، كما يبدو من خطابه هذا، يشجب الذين انتقدوا سياسته لعدم

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ١ (عثمان بن عفان): ٢٠٦، ٢٠٧.

١٢١

انسجامها مع القرآن والسنة وسيرة الشيخين - كما رأينا - ويصفهم بأنهم عيّابون طعّانون، دون أن يشير إلى الأمور التي يعيبونها عليه ويطعنون بها على سياسته العامة، ودون أن يناقش تصرّفاته، وتصرفات عمّاله وذوي قرابته في ضوء الأحداث القائمة آنذاك. وأنكى من ذلك أن عثمان حاول تبرير ما أخذه المسلمون عليه بقوله: إن عمر بن الخطاب كان قد فعل مثله دون أن ينقم المسلمون عليه. والأنكى من كل ذلك أنه ختم خطبته بالتهديد والوعيد. وكان الأولى به أن يختمها بذكره وجوه الإصلاح الذي كان الناس يتوقون إليه، والوعد بالابتعاد عما اعتبره المسلمون المعاصرون لعثمان خروجاً على الدين.

ومهما يكن من الأمر، فقد ازداد التذمر، وانتشر بين صفوف الجيش في الثغور، وعاد عبد الله بن سعد ظافراً بقهر أسطول الروم في موقعة ذات الصواري، ولكنه عاد وقد أفسد عليه ابن أبي حذيفة جيشه بما أظهر من النكير عليه وعلى خليفته، وبما كان يقوله للمحاربين: إنكم تسعون إلى الجهاد والجهاد وراءكم في المدينة، حيث يقيم عثمان فيسوس الأمة على غير كتاب الله وسنة رسوله وسياسة صاحبيه، ويعزل أصحاب رسول الله من العمل، ويولي أمور المسلمين جماعة من الفسَّاق وأصحاب المجون. انظروا إلى واليكم وقائدكم إلى الجهاد: إنه نزل القرآن بكفره وأهدر النبي دمه، ولكن عثمان يوليه أمركم على ذلك لأنه أخوه في الرضاعة)(١) .

وقد نتجت عن ذلك كله - بالإضافة إلى ما ذكرنا - معارضة شعبية خفية تجري بها الألسنة ولا يعرف صاحبها، كالذي كان حين وسع عثمان مسجد النبي فقال الناس:

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ١ (عثمان بن عفان): ص ١٢٨.

١٢٢

يوسّع مسجد النبي ويترك سنته. وكالذي كان حين كثر الحمام في المدينة وأقبل الشباب على الرمي، فتقدم عثمان إلى الناس في ذبح الحمام. وولى رجلاً يمنع الرمي بالبندق، فقال الناس: يأمر بذبح الحمام، ويؤوي طريد رسول الله!! يشيرون بذلك إلى إيواء عثمان للحكم بن أبي العاص وبنيه)(١) . قال البلاذري(٢) : (حدّثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: خطب عثمان فأمر بذبح الحمام.. فقال الناس: يأمر بذبح الحمام وقد آوى طرداء رسول الله).

والسؤال الذي لا بد من طرحه وتلمس الإجابة عليه هو: (أين نشأت المعارضة لسياسة عثمان؟ أنشأت في المدينة مستقر الخلافة؟ أم نشأت في الأمصار؟ وبعبارة أدق:.. هل نشأت المعارضة بين أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ثم انتقلت عنهم إلى الجند المرابطين في الأمصار؟ أم نشأت في الجند ثم انتقلت إلى أصحاب النبي في المدينة؟ وواضح جداً أن للإجابة على هذا السؤال خطراً وأي خطر. فإن نشأة المعارضة في المدينة، فمعناها: أن أصحاب النبي قد كانوا أول من أنكر على عثمان بعض سياسته فتبعهم الناس. وإن نشأة المعارضة في الأمصار، فمعناها: أن الجند هم الذين سبقوا إلى الخلاف ثم أقحموا فيه وفي نتائجه أصحابَ النبي.. ونرى أن المعارضة لم تنشأ في المدينة وحدها، وإنما نشأت فيها وفي الأقاليم، بل لعلها نشأت في المدينة ثم في أطراف الأقاليم)(٣) .

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ١ (عثمان بن عفان): ١٦٨.

(١) أنساب الأشراف: ٥ / ٢٧.

(٣) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ١ (عثمان بن عفان): ص ١٣٦.

١٢٣

ومن الأدلة على ذلك ما سلف أن ذكرناه من مواقف كبار الصحابة من تصرفات ابن عفان، فقد مر بنا ذكر جانب من موقف أبي ذر، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر.

وفي التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة أخرى من هذا القبيل، ويلوح للباحث أن النقمة على عثمان قد انتقلت - في عاصمة النبي - من طبقات كبار الصحابة إلى من يأتون بعدهم مباشرة في المركز الاجتماعي والديني، وموقف جبلة بن عمرو الساعدي وأمثاله معروف لدى الكثيرين. وقد ذكر البلاذري(١) موقف جبلة هذا حين قال: (مر عثمان بن عفان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو على باب داره وقد أنكر الناس عليه ما أنكروه، فقال: يا نعثل، والله لأقتلك ولأحملنك على قلوص جرباء.. أطمعت الحارث بن الحكم السوق وفعلت ما فعلت!! وكان عثمان ولّى الحارث بن الحكم السوق، فكان يشتري الحليب بحكمه ويبيعه بسومه ويجبي مقاعد المتسوقين، ويصنع صنيعاً منكراً. فكُلِّم في إخراج السوق من يده فلم يفعل. وقيل لجبلة في أمر عثمان وسئل الكف عنه فقال: والله، لا ألقى الله غداً فأقول:( إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (٢) .

وقد دفع ذلك الامتعاض والاضطراب الذي حدث في بعض الأقاليم الإسلامية أصحاب الرأي فيها إلى أن يرسلوا بعض وجوههم وفوداً إلى عاصمة الخلافة لمقابلة عثمان والتداول معه في الأمر لإيجاد مخرج من هذه الأزمة الحادة والفتنة الغليظة المظلمة، غير أن تصرُّفات مروان بن الحكم - وزير الخليفة وموضع سره ومصدر توجيهه - قد أفسدت الأمر. ومع ذلك فقد رجعت الوفود إلى أمصارها يحدوها اليأس الذي لا يخلو من أمل في الإصلاح، وتساورها الرهبة من البطش ممزوجة بالرغبة في التريث وانتظار مجريات الأمور.

____________________

(١) أنساب الأشراف: ٥ / ٤٧.

(٢) الأحزاب: ٦٧.

١٢٤

ولكن مؤامرات مروان لم تقف عند حد؛ فاختلق على لسان الخليفة كتابه المعروف للإيقاع بأهل مصر، واطَّلع هؤلاء على المؤامرة قبل أن تطأ أقدامهم أرض الكنانة فانقلبوا راجعين.. فثار الناس على عثمان فقتلوه..(١)

* * *

لقد مر بنا التحدث عن مقتل عثمان، ويجمل بنا - قبل أن نتطرّق إلى ذكر انتقال الخلافة إلى علي بن أبي طالب - أن ننبه القارئ إلى أن مروان بن الحكم ومعاوية بن أبي سفيان قد بدءا - منذ أن سمعا بمقتل عثمان، وبيعة المسلمين لعلي - بالتهيؤ للخروج على إمام زمانهما متذرعين بالمطالبة بدم الخليفة القتيل.

وكانت باكورة أعمالهما إرسال جملة كتب إلى من آنسا فيهم القدرة على مشاركتهما أساليبهما وأهدافهما؛ تمهيداً للقيام بعصيان مسلح ضد الخليفة الجديد. وإلى القارئ نُبذاً من تلك الرسائل:

كتب مروان إلى معاوية.. (إني كتبت إليك هذا الكتاب بعد مقتل عثمان.

____________________

(١) يجد القارئ نص الكتاب وملابسات القضية موجودة في أمهات كتب التاريخ، وقد وجدنا تلخيصاً جميلاً لذلك كله في "الإصابة في تمييز الصحابة " (٢ / ٤٥٥، ٤٥٦) لابن حجر العسقلاني، وفي كتاب "الوزراء والكتاب" (مطبعة مصطفى محمد، الطبعة الأولى - مصر، ١٩٣٨م، ص ٢٢ - ٣٠) للجهشياري. قال الجهشياري: (لما صار المصريون بأيلة راجعين عن عثمان، مر بهم راكب أنكروا شأنه فأخذوه، فإذا هو غلام لعثمان على جَمَل له معروف، وكان عثمان يحج عليه، ففتشوه فوجدوا معه قصبة من رصاص فيها صحيفة عليها خاتم عثمان، ففتحوا الصحيفة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد الله بن سعد عامله على مصر فيه: إذا قدم عليك فلان وفلان، وفلان وفلان، فاضرب أعناقهم، وفلان وفلان فاقطع أيديهم وأرجلهم... فكرُّوا راجعين... فأقرءوا الكتاب أصحاب النبي، فعاتب قوم عثمان على ذلك، فقال: أما الخط فخط كاتبي مروان، وأما الخاتم فخاتمي، والله ما أمرت بذلك.... فقال القوم: إن كنت كاذباً فلا إمامة لك، وإن كنت صادقاً فليس يجوز أن يكون إماماً مَن كان بهذه المنزلة من الغفلة).

١٢٥

بعد أن وثبوا عليه وسفكوا دمه وانقشعوا عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها، منكفئين قِبَل ابن أبي طالب انكفاء الجراد أبصر المرعى. فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الأمر بمجرى العيوق. فإن لم يثأره ثائر، فإن شئت - أبا عبد الرحمن - أن تكونه فكنه).

فلما ورد الكتاب على معاوية أمر بجمع الناس ثم خطبهم خطبة أبكى منها العيون وقلقل القلوب حتى علت الرنة وارتفع الضجيج وهم النساء أن يتسلحن. ثم كتب إلى طلحة بن عبيد الله، والزبير بن والعوام، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، والوليد بن عقبة، ويعلى بن أُمية.

فكان كتاب طلحة: (أما بعد، فإنك أقل قريش في قريش وتراً، مع صباح وجهك، وسماحة كفك، وفصاحة لسانك. فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة، وخامس المبشرين بالجنة، ولك يوم أحد وشرفه وفضله، فسارع إلى ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعفك التخلف عنه ولا يرضى الله منك إلا بالقيام به. فقد أحكمتُ لك الأمر من قِبَلي، والزبير غير متقدم عليك بفضل. وأيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام وآمرٌ مَن بعده للمقدم له).

وكتب إلى الزبير: أما بعد، فإنك الزبير ابن عمة رسول الله وحواريه وسلفه، وصهر أبي بكر وفارس المسلمين. اعلم إن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي. فسارع إلى حقن الدماء، فقد أحكمتُ لك الأمر من قبلي ولصاحبك، على أنّ الأمر المتقدم ثم لصاحبه من بعده...

ثم كتب معاوية إلى مروان بن الحكم: أما بعد.. فقد وصل إليَّ كتابك بشرح خبر أمير المؤمنين.. فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلا غيلة ولا يتشازر إلا عن حيلة، وكالثعلب لا يفلت إلا روغاناً.

١٢٦

واخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأُكف، وامتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره... وأنفل الحجاز فإني منفل الشام...

وكتب إلى سعيد بن العاص.. يا بني أُمية، عما قليل تسألون أدنى العيش من أبعد المسافة فينكركم من كان بكم عارفاً، ويصد عنكم من كان لكم واصلاً، متفرقين في الشعاب تتمنون لمظة المعاش. إن أمير المؤمنين عُتب عليه فيكم وقُتل في سبيلكم، ففيم القعود عن نصرته والطلب بدمه؟! وأنتم بنو أبيه ذوو رحمة، وأقربوه وطلّاب ثأره، أصبحتم مستمسكين بشظف معاشٍ زهيد عما قليل ينزع منكم عند التخاذل...

وكتب إلى عبد الله بن عامر.. كأني بكم يا بني أُمية شعار يرك كالأوراك تقودها الحدأة.. فثب الآن قبل أن يستشرى الفساد.. واجعل أكبر عدتك الحذر، وأحدّ سلاحك التحريض. واغضض عن العوراء وسامح اللجوج، واستعطعف الشارد، ولاين الأشوس، وقوِّ عزم المريد...

وكتب إلى الوليد به عقبة.. فلو قد استتب هذا الأمر لمريده أُلفيت كشريد النعام يفزع من ظل الطائر. وعن قليل تشرب الرنق وتستشعر الخوف.

وكتب إلى يعلى بن أُمية.. فكان أعظم ما نقموا على عثمان وعابوه عليه ولايتك على اليمن وطول مدتك عليها.. حتى ذبحوه ذبح النطيحة.. وهو صائم معانق المصحف.. على غير جرم... وأنت تعلم أن بيعته في أعناقنا وطلب ثأره لازم لنا.. فشمر لدخول العراق. فأما الشام فقد كفيتك أهلها، وأحكمت أمرها. وقد كتبت إلى طلحة بن عبيد الله أن يلقاك بمكة حتى يجتمع رأيكما على إظهار الدعوة والطلب بدم عثمان المظلوم.

١٢٧

وكتبت إلى عبد الله بن عامر يمهد لكم العراق... واعلم يا ابن أُمية، أن القوم قاصدوك بادىء بدء لاستنزاف ما حوته يداك من المال.

وكتب إليه مروان جواباً على كتابه:.. زعيم العشيرة وحامي الذمار.. أنا على صحة نيتي، وقوة عزيمتي، وتحريك الرحم لي، وغليان الدم مني. غير سابقك بقول ولا متقدمك بفعل. وأنت ابن حرب طلاب التراث وأبي الضيم. وكتابي إليك وأنا كحرباء السبسب الهجير يرقب عين الغزالة، وكالسبع المفلت من الشرك يفرق من صوت نفسه، منتظراً لما تصح به عزيمتك، ويرد به أمرك فيكون العمل به والمحتذى عليه...

وكتب إليه عبد الله بن عامر:.. فإن أمير المؤمنين كان الجناح الحاضنة تأوي إليها فراخها، فلما أقصده السهم صرنا كالنعام الشارد.. والذي أخبرك به أن الناس في هذا الأمر تسعة لك وواحد عليك. ووالله للموت في طلب العز أحسن من الحياة في الذلة. وأنت ابن حرب فتى الحروب، ونصار بني عبد شمس، والهمم بك منوطة وأنت منهضها.. ولنعم مؤدب العشيرة أنت، وإنا لنرجوك بعد عثمان. وها أنا أتوقع ما يكون منك لأمتثله وأعمل عليه.

وكتب الوليد بن عقبة:.. فإنك أسد قريش عقلاً، وأحسنهم فهماً وأصوبهم رأياً. معك حسن السيرة وأنت موضع الرئاسة، تورد بمعرفة وتصدر عن منهل. وأما اللين فهيهات.. والعار منقصة، والضعف ذل.. قد عقلت نفسي على الموت عقل البعير، واحتسبت أني ثاني عثمان أو أقتل قاتله.

١٢٨

فعملي علي ما يكون من رأيك فإنا مَنوطون بك متبعون عقبك....

وكتب إليه يعلى بن أُمية: إنّا وانتم يا بني أُمية كالحجر لا يبني بغير مدر، وكالسيف لا يقطع إلا بضاربه... ثكلتني من أنا ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان.. أرى العيش بعد قتل عثمان مراً...

أما سعيد بن العاص فإنه كتب بخلاف ما كتب هؤلاء)(١) .

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٥٨٠ / ٥٨٣.

١٢٩

[الفصل الثالث:] خلافة الإمام

(لقد كان علي موفقاً كل التوفيق، ناصحاً للإسلام كل النصح.. صبّر نفسه على ما كانت تكره، وطابت نفسه للمسلمين بما كان يراه حقاً.. بايع علي ثاني الخلفاء كما بايع أولهم كراهية للفتنة.. ونصحاً للمسلمين. ولم يظهر مطالبته بما كان يراه حقاً له، ونصح لعمر كما نصح لأبي بكر.. وقد بايع عثمان، كما بايع الشيخين، وهو يرى أنه مغلوب على حقه، ولكنه على ذلك لم يتردد في البيعة، ولم يقصر في النصح للخليفة الثالث، كما لم يقصر في النصح للشيخين من قبله.. فكان طبيعياً - إذن - حين قُتل عثمان أن يفكّر علي في نفسه، وفيم غُلب عليه من حقه. ولكنه مع ذلك لم يطلب الخلافة، ولم ينصب نفسه للبيعة حين استكره على ذلك استكراها، وحين هدده بعض الذين ثاروا بعثمان بأن يبدءوا به فيلحقوه بصاحبه المقتول)(١) .

أما كيفية مبايعة المسلمين لعلي بالخلافة، فيصفها الطبري(٢) بقوله: (حين قتل عثمان واجتمع المهاجرون والأنصار ومنهم طلحة والزبير، فأتوا علياً وقالوا: يا أبا الحسن، هل نبايعك؟ فقال:لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتم فقد رضيت به..

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ٢٠ - ٢٢.

(٢) تاريخ الأمم والملوك: ٥ / ١٥٢، ١٥٣.

١٣٠

فقالوا: ما نختار غيرك.. فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان مراراً... وخرج علي إلى السوق في يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة فاتبعه الناس وبشوا في وجهه، فدخل حائط بني عمرو بن مبذول وقال لأبي عمرة ابن عمر بن محصن:اغلق الباب . فجاء الناس فقرعوا فدخلوا وفيهم طلحة والزبير فقالا: يا علي، ابسط يدك، فبايعه طلحة والزبير. فنظر حبيب بن ذئب إلى طلحة حين بايعه فقال: أول من بدأ بالبيعة يد شلاء).

وقد أوجز الإمام سياسته العامة في أول خطبة خطبها حين استخلف فقال:(إن الله انزل كتاباً هادياً يبين فيه الخير والشر، فخذوا الخير ودعوا الشر، والفرائض أدوها.. اتقوا الله عباد الله في عباده وبلاده.. وإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم) (١) .

كلمات قصار ولكنها تتضمن إجراء تغيير واسع المدى، وعميق الغور في علاقات المسلمين ببعضهم وبالخليفة. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن الإمام - كما يحدّثنا مؤرخوه - قد اعتذر مراراً عن قبول الخلافة على الرغم من إلحاح المسلمين عليه، وقد مر بنا طرف من ذلك. ولقد أشار الإمام نفسه إلى ذلك في مواطن شتى من(نهج البلاغة) . قال يصف تزاحم المسلمين عليه وإلحاحهم الشديد على مبايعته:(دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفات قد أغامت، والمحجة قد تنكرت. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب) (٢) .

فلما أصر القوم على مبايعته، ورأى أن واجبه الديني يدعوه إلى

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٣ / ١٥٧ (مصر - الطبعة الأولى).

(٢) المصدر نفسه: ٢ / ١٧٠.

١٣١

تلبية الدعوة كَشَفَ لهم عن حقيقة نفسه، فراعهم وألب الكثيرين منهم عليه حين قال:(ذمَّتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم. إن من صرَّحت له العِبَر عما بين يديه من المَثُلات حَجَزته التقوى عن تقحم الشبهات. ألا وإن بليتكم قد عادت لهيئتها يوم بعث الله نبيكم.. والذي بعثه بالحق، لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة، ولتسلطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم. وليسبقن سباقون كانوا قصروا، وليقصرن قاصرون كانوا سبقوا) (١) .

فالإمام إذن يرى أنهم سوف يضيقون به ذرعاً لعدالته وشدته في التزام الحق فيعصون أمره، ولا يستطيعون أن يثنوه عن خطته.

ثم يصف الإمام في خطبة أخرى إقبال المسلمين على مبايعته فيقول:(وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها. ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهِيم على حياضها يوم وردها، حتى انقطع النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف) (٢) .

وأشار الإمام في خطبة أخرى إلى المعنى نفسه حين قال:(فما راعني إلا والناس كعرف الضبع ينثالون إلي من كل جانب - ولقد وطئ الحسنان وشق عطفاي - مجتمعين حولي كربيضة الغنم.

فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون) (٣) .

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ١ / ٩٠ (مصر - الطبعة الأولى).

(٢) المصدر نفسه: ٣ / ١٨١ التداك: الازدحام. الهيم: العطاش.

(٣) المصدر نفسه: ١ / ٥٠ - ٦٧ لقد مر بنا شرح كلامه في فصل سابق.

١٣٢

القسم الثاني: [ قميص عثمان ]

١٣٣

قميص عثمان

١ - الفصل الرابع: الناكثون - أصحاب الجمل (٣٦ هـ).

٢ - الفصل الخامس: القاسطون - أصحاب صفين (٣٧ هـ).

٣ - الفصل السادس: التحكيم، المارقون، ومصرع الإمام (٣٨ - ٤٠ هـ).

١٣٤

[ الفصل الرابع: ] الناكثون

اشترك طلحة والزبير وعائشة في تأليب المسلمين على عثمان، كما ساهم كل منهم بقلبه ولسانه في قتل الخليفة على الشكل الذي وصفناه. وكان أشد الثلاثة وطأة على عثمان الزبير بن العوام، وأخفهم طلحة بن عبيد الله. هذا مع العلم بأن عثمان كان يقول عن طلحة، وهو أخفهم وطأة عليه كما ذكرنا: (ويلي من طلحة! أعطيته كذا ذهباً وهو يروم دمي... اللَّهُم لا تمتعه به ولقه عواقب بغيه)(١) .

ويلوح للباحث أن طلحة قد تظاهر بالمطالبة بدم عثمان - في أوائل خلافة الإمام - وهو أدرى من غيره بقتلة الرجل وبالدور الذي لعبه هو - والزبير وعائشة - في هذا الشأن؛ ليغالط الناس ويوهمهم (أنه بريء من دمه. فلقد قال علي لطلحة وعثمان محصور: أنشدك الله إلا رددت الناس عن عثمان؟ قال طلحة: لا والله حتى تعطي بنو أُمية الحق من أنفسها. ويروي الطبري: أن عثمان كان له على طلحة خمسون ألفاً. فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة: قد تهيأ مالك فاقبضه) فقال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك. قال: فكان عثمان يقول وهو محصور: جزاء سنمار.

وروى المدائني في كتاب(مقتل عثمان): أن طلحة منع من دفنه ثلاثة أيام. وأن حكيم بن حزام... وجبير بن مطعم. استنجدوا بعلي على دفنه، فأقعد طلحة

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ٨.

١٣٥

لهما في الطريق ناساً بالحجارة)(١) .

ولم يكن طلحة على ما يقول الدكتور طه حسين: (ليخفى ميله مع الثائرين ولا تحريضه لهم، ولا إطماع فريق منهم في نفسه. وكثيراً ما شكا منه عثمان في السر والجهر. والرواة يتحدثون بأنه استعان عليه بعلي نفسه، وبأن علياً استجاب له فذهب إلى طلحة ورأى عنده جماعة ضخمة من الثائرين، وحاول أن يرده عن خطته تلك فلم يستجب له طلحة)(٢) .

وأما عائشة فقد مر بنا ذكر موقفها من عثمان، فقد خرجت مراراً - كما ذكرنا - بقميص النبي مؤلبة على عثمان وقائلة: اقتلوا نعثلاً. وكثيراً ما كانت تصيح به - من وراء سترها - وهو على المنبر، كما ذكرنا، تلومه على بعض فعاله. فقد كانت عائشة - والحق يقال - من أعظم المؤلبين على الخليفة الثالث والمخذلين عن نصرته حتى إنه حين بلغها - وهي في بيت الله الحرام: أن عثمان قد انتصر على أعدائه صرخت بأعلى صوتها. أيقتل قوماً جاءوا يطلبون الحق وينكرون الباطل.

وقد سأل سعيد بن العاص أم المؤمنين، قبل سفرها إلى البصرة: ( أين تريدين يا أم المؤمنين؟ فقالت: أريد البصرة. وماذا تصنعين؟ أطلب بدم عثمان. فأجابها سعيد: إن قتلة عثمان معك يا أم المؤمنين)(٢) .

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول: إن أبطال حركة الجمل كانوا قادة الثورة على عثمان ورءوس الفتنة التي انتهت بمصرع ثالث الخلفاء الراشدين.

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٢ / ٥٠٥، ٥٠٦ (مصر - الطبعة الأولى).

(٢) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ص ٨.

(٣) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ٣ / ٤٢٧، ٤٢٨.

١٣٦

وقد كان هؤلاء - دون شك - عارفين حق المعرفة، كغيرهم من المسلمين آنذاك، من هم قتلة عثمان؟ ترى لماذا ألبوا الناس على علي؟! وهل هناك عوامل خفية، قريبة وبعيدة، ساقتهم إلى القيام بعصيانهم المسلح ضد النظام القائم، متخذين من قميص عثمان ذريعة لذلك؟ ولماذا بايع طلحة والزبير علياً بالخلافة؟ هل المطالبة بدم عثمان - أن صحت - تستلزم الثورة على النظام القائم، أم تتم على أساس تقديم شكوى من قبل أولياء عثمان الذين عينهم القرآن بصراحة في سورة الإسراء(١) إلى الحكومة لتجري التحقيق في ذلك وتتخذ الإجراءات القانونية بحق الذين تثبت إدانتهم؟ وما حق عائشة وطلحة والزبير - من الناحية الشرعية - بالمطالبة بدم عثمان؟ إن ولى عثمان هو ابنه عمرو؟! وما شأن البصرة الثورة على عثمان؟ لماذا لم يتجهوا إلى مصر المؤلبة؟

وبقدر ما يتعلق الأمر بالسيدة عائشة نستطيع أن نقول: إن جفاء حصل بين عائشة وعلي - منذ عهد الرسول أيام غزوة بني المصطلق التي سنذكرها.. وهناك عامل آخر أشار إليه بعض الباحثين المحدثين(٢) ملخصه: إن السيدة عائشة وجدت على الإمام - من الناحية النفسية - فحسدته لعقمها، ولأن عقب الرسول قد انحصروا في بنيه من فاطمة زوج علي.

ولكي نعرض على

____________________

(١)( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) (الإسراء: ٣٣)، بغض النظر عن شرعية القتل أو عدمها.

(٢) الدكتور طه حسين،الفتنة الكبرى . وعبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب .

١٣٧

القارئ عوامل الجفاء بين السيدة عائشة وعلي بن أبي طالب نرى لزاماً علينا أن نترك السيدة عائشة نفسها تقص على القارئ ملابسات الموضوع:

قالت السيدة عائشة(١) : (كان رسول الله إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها معه. فلما كانت غزوة بني المصطلق (٦ هـ) أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمي عليهن. فخرج بي رسول الله.. فلما انتهى من سفره ذلك، وجه قافلاً حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً فبات فيه بعض الليل ثم أذَّن في الناس بالرحيل. فلما ارتحل الناس خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي.. فلما فرغت انسلَّ عقدي ولا أدري. فلما رجعت إلى الرحيل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده. وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت.. إلى المكان الذي ذهبت إليه، فالتمسته حتى وجدته.. ورجعت إلى المعسكر وما فيه داع ولا مجيب؛ قد انطلق الناس. فلفلفت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي - وقد كان تخلف عن المعسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس في المعسكر - فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني.. ثم قرب البعير فقال: اركبي.. فركبت. فانطلق سريعاً يطلب الناس.. ثم قدمنا المدينة فلم أمكث أن اشتكيت شكاية شديدة.. وقد انتهى الحديث إلى رسول الله وإلى أبوي. فأنكرت من رسول الله بعض لطفه بي، حتى وجدت في نفسي مما رأيت من جفائه عني. فقلت: يا رسول الله، لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني، قال:لا عليك ، فانتقلت إلى أمي. وجاء رسول الله فدخل عليَّ: ودعا علي بن أبي طالب.

____________________

(١) الطبري، تاريخ الأمم والملوك: ٣ / ٧٦ - ٧٠.

١٣٨

فقال علي:يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف؛ وسل الجارية فإنها تصدقك . فدعا رسول الله بريرة يسألها.. فقام إليها علي فضربها ضرباً شديداً وهو يقول:اصدقي رسول الله ... فوالله ما برح رسول الله مجلسه حتى تغشاه من الله ما يتغشاه. فسجى بثوبه ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه.. ثم جلس فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول:ابشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك . ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بن جحش - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضربوا حدهم).

يتضح من رواية السيدة عائشة أنها خرجت مع النبي في مسيرة مع جيشه إلى بني المصطلق، وأنها أثناء رجوع القوم إلى المدينة - شذت عن الركب لبعض حاجتها - دون أن يعلم بها أحد من الناس، ثم عادت إلى الركب. ولكنها تفقدت عقدها - أثناء عودتها - فلم تجده في جيدها. فعادت إلى المكان الذي جاءت من عنده - دون أن يراها أحد من الناس فعثرت على العقد. ثم عادت إلى الركب فلم تجده. فمكثت في مكانها - بعد أن سار الركب دون أن يتفقدها أحد. فمر بها صفوان الذي هو الآخر - كما تحدثنا السيدة عائشة نفسها - قد شذ عن الركب لبعض حاجته، وقد مر صفوان - على رسله - صدفة بالمكان الذي كانت السيدة عائشة جاثمة فيه. فأركبها على ناقته واتجه بها نحو المدينة كي يلحق بالركب. وقد ارتاب بعض القوم، بما فيهم حسان بن ثابت في موضوع عائشة وصفوان فرموهما بالفاحشة... وأشار علي على النبي - عندما استشاره بأمرها في حضورها - أن يطلقها. ومن الجدير بالذكر - في هذه المناسبة - أن البخاري في صحيحه قد نقل رواية السيدة عائشة مفصلة. وإلى القارئ رواية البخاري(١) .

____________________

(١) صحيح البخاري: ٣ / ١٥٤، ١٥٦ و ٥ / ٥٥، ٥٦.

١٣٩

(قالت عائشة: كان رسول الله إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه، فأيَّهنَّ خرج سهمها خرج بها رسول الله معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي. فخرجت مع رسول الله.. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل. فقمت - حين آذنوا بالرحيل - فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه. قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء آنذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكل الملعقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه. وكنت جارية حديثة السن.. ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش. فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب. فتيممت منزلي الذي كنت به. فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش. فأصبح عند منزلي. فرأى سواد إنسان نائم فعرفني، وكان رآني قبل نزول آية الحجاب. فاستيقظت باسترجاعه.. وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها. فقمت إليها فركبتها. فانطلق يقودها).

أي أن السيدة عائشة - حسب رواية البخاري - شذت عن الجيش لبعض شأنها في اللحظة التي آذنوا بالرحيل ليلاً، دون أن تخبر أحداً منهم بذلك أو تطلب منهم انتظارها. وأن الأشخاص الموكلين بحمل هودجها لم يشعروا بخلوه منها لأن النساء آنذاك - جميعهن لا السيدة عائشة وحدها - كن نحيفات الأجسام؛ لقلة ما يتناولنه من الطعام،

١٤٠