علي ومناوئوه

علي ومناوئوه0%

علي ومناوئوه مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 219

علي ومناوئوه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 219
المشاهدات: 25990
تحميل: 6664

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 219 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25990 / تحميل: 6664
الحجم الحجم الحجم
علي ومناوئوه

علي ومناوئوه

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولأن السيدة عائشة بالذات كانت صغيرة اللسن، بالإضافة إلى خفة وزن جسمها؛ فلم يستنكروا خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وهو خلو منها.. ثم إنها نامت بعد أن يئست من القوم، وكان صفوان من وراء الجيش، فأدركها نائمة فعرفها، وهو سائر في الصحراء ليلاً؛ لأنه كان قد رآها قبل الحجاب، أي حينما كانت سافرة قبل أن يأمرها الله بالتحجب من الرجال، فحملها صفوان على بعيره وأوصلها إلى مكان أمنها. ذلك ما يتصل ببعض عوامل الجفوة بين أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب.

وهنالك عوامل أخرى، غير مباشرة، تتعلق بالجفاء الذي كان بين السيدة فاطمة (بنت النبي من خديجة) وبين السيدة أم المؤمنين بنت أبي بكر. فقد كانت السيدة عائشة تريد الاستئثار بحب النبي وتحويل ما تبقى من ذلك الحب إلى أبيها بدلاً من علي زوج فاطمة. ويذكر بعض الرواة(١) : أن للسيدة عائشة - والسيدة حفصة بنت عمر زوج النبي - ضلعا في تأخير جيش أسامة في عهد الرسول.

هذا بالإضافة إلى العامل النفسي المتصل بحرمان السيدة عائشة من النسل كما أشار إلى ذلك الدكتور طه حسين، والأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود.

أما ما يتصل بموقف الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله تجاه إمام زمانهما، فيمكننا أن نكشف عوامله القريبة والبعيدة بسهولة ويسر. فقد كان كل من طلحة والزبير راغباً في الخلافة منذ زمن ليس بالقصير، وقد مر بنا ترشيح عمر لهما في رهط الشورى. فلما انتقلت الخلافة إلى عثمان، حاول الرجلان - في صدر خلافته - أن ينتفعا به إلى أقصى حدود الانتفاع. وعندما رأى الرجلان تأزم الأحوال العامة على الخليفة ساهما في ذلك إلى حد كبير على الشكل الذي وصفناه؛ ظناً منهما أن الأمر - بعد اندحار عثمان - سوف

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة.

١٤١

لا ينتقل لعلي، غير أن انتقال الخلافة للإمام قد راعهما. فبايعاه على مضض. ثم سألاه عن ولايتي الكوفة والبصرة فلم يجبهما.

يضاف إلى ذلك أن موقف الإمام الشديد في تطبيق مبادئ الدين كان هو الآخر من أقوى عوامل انتقاض الرجلين على الخليفة. فلكل منهما مصالح مركزة في جسم الدولة. ويلوح للباحث أن طلحة والزبير كانا قد اعتادا على الاستئثار ببعض الموارد العامة بعد وفاة الرسول، وقد مر بنا ذكر بعض ما وصلهما به عثمان.

أما ما حصلا عليه في عهد الشيخين فنذكر منه المثالين التاليين:

قال البلاذري(١) : (حدّثني الحسين بن علي الأسود العجلي قال: حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن عروة قال: أقطع أبو بكر الزبيرَ بين الجرف إلى قناة.

وأخبرني المدائني قال: قناة واد يأتي من الطائف ويصب إلى الأرحضية وقرقرة الكدر، ثم يأتي سد معاوية، ثم يمر على طرف القدوم ويصب في أصل قبور الشهداء بأحد.

وحدّثني الحسين بن علي العجلي قال: حدّثنا حفص بن عتاب، عن هشام بن عروة قال: خرج عمر يقطع الناس، وخرج معه الزبير، فجعل عمر يقطع حتى مر بالعقيق. فقال: أين المستقطعون؟.. ما مررت بقطعة أجود منها. فقال الزبير: اقطعنيها. فأقطعه إياها).

فلا عجب أنْ رأى الزبير وطلحة في قميص عثمان ضالتهما المنشودة للانقضاض على الإمام. وقد روى أحد المؤرخين(٢) ملابسات الموقف بين علي من جهة وطلحة والزبير

____________________

(١) فتوح البلدان: ٢٦.

(٢) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٣ / ٤ - ٩ (الطبعة الأولى).

١٤٢

من جهة أخرى حين قال: (أرسل طلحة والزبير إلى علي - قبل خروجهما إلى مكة - محمد بن طلحة يقولان: إننا أصلحنا لك الأمر ووطدنا لك الإمرة، وأجلبنا على عثمان حتى قُتل. فلما طلبك الناس لأمرهم جئنا وأسرعنا إليك وبايعناك وقدنا إليك أعناق العرب، ووطئ المهاجرون والأنصار أعقابنا في بيعتك. حتى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا ورفضتنا رفض التريكة وأذللتنا ذل الإماء. فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذلك. فقال:اذهب إليهما فقل لهما: فما الذي يرضيكما ، فذهب وجاء فقال: إنهما يقولان:ولِّ أحدنا البصرة، والآخر الكوفة. فقال: لها الله!! إذن يحكم الأديم ويستشرى الفساد، وتنتقض علي البلاد من أقطارها. والله إني لا آمنهما وهما عندي بالمدينة فكيف آمنهما وقد وليتهما العراقين! . فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة. فأذن لهما بعد أن أحلفهما ألا ينقضا بيعته ولا يغدرا به، ولا يشّقا عصا المسلمين ولا يوقعا الفرقة بينهم، وأن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما، فحلفا على ذلك كله. ثم خرجا ففعلا ما فعلا.

وكان الإمام قد خاطبهما - قبل خروجهما إلى مكة - فقال:(ألا تخبراني أي شيء كان لكما فيه حق حتى دفعتكما عنه؟ أم أي قسم استأثرت عليكما به؟ أم أي حق رفعه إليَّ أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته أم أخطأت بابه؟ والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إِرْبَة، ولكنكم دعوتموني وجملتموني عليها. فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي فافتديته. فلم أحتجْ في ذلك إلى رأيكما ولا رأى غيركما. ولو وقع حكم جهلته فأستشيركما).

وقد وصف الإمام فتنة طلحة والزبير وأعوانهما بقوله:

١٤٣

(والله ما أنكروا عليَّ منكراً، ولا جعلوا بيني وبينه نصفاً، وإنهم ليطلبون حقاً هم تركوه... ودماً هم سفكوه) (١) .

* * *

خرج الزبير وطلحة وعائشة يريدون البصرة مدَّعين بأنهم يطالبون بدم عثمان، وقد ارتكبوا بعملهم هذا، كما سلف أن ذكرنا، جملة أخطاء من الناحية الدينية والزمنية، فليس من حقهم أن يطالبوا بدم عثمان لأنهم ليسوا أولياءه الذين أجازت لهم الشريعة الإسلامية أن يطالبوا بذلك. إن وليه - كما ذكرنا - ابنه عمرو. وإنهم اتبعوا أسلوباً فظّاً للتوصل إلى ما زعموا أنهم يسعون إليه بدلاً من أن يرفعوا، إذا جاز لهم ذلك، طلبهم إلى الخليفة الذي له وحده الحق؛ بحكم كونه خليفة المسلمين، في إجراء التحقيق وإنزال العقوبة بالجناة.

وإنهم ارتكبوا من الأفعال البشعة ومن القتل والنهب والاعتداء - كما سنرى - ما يتضاءل دونه بمراحل مصرع الخليفة الذبيح على أهميته، وما لا تجيزه الشريعة السمحاء ومبادىء الشرف والأخلاق. وإنهم قصدوا البصرة - دون مصر - للبحث عن القاتلين، وإن السيدة عائشة بالذات لا يجوز لها أن تساهم في مثل هذه الأمور، وقد أوصاها الله أن تقر في بيتها(٢) .

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٢ / ٤٠٣ - ٤٠٥.

(٢) في لقاء لي مع الدكتور طه حسين عام ١٩٦٥م سألته: عن رأيه في عائشة؟ أجاب بقوله: كان أحد الأساتذة يقول: لو أدركت عائشة لأوجعتها ضرباً حتى أقعدتها في بيتها؛ لقوله تعالى:( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ) (الأحزاب: ٣٣). راجع كتابنا:"مع رجال الفكر في القاهرة" ، مطبعة حسان - القاهرة، ط ١، ١٩٧٤م، ص ١٦٠ / ١٧٥. (الناشر)

١٤٤

ثم هل يجوز شرعاً أن تعالج فتنة بإثارة فتنة أغلظ منها؟ وقد حصل ذلك كله مع علم الثائرين أن الإمام نفسه بريء من دم عثمان براءة الذئب من دم ابن يعقوب.(١)

يضاف إلى ذلك أن الإمام - في سياسته العامة - لم يتجه إطلاقاً إلى الاستعانة بالذين ثاروا على عثمان أو تقريبهم أو الاعتماد عليهم في الإدارة أو المال(٢) ؛ فلا غرو أن رأينا أولئك الثوار قد نقموا عليه، كما نقموا على عثمان من قبله (مع فرق كبير في عوامل تلك النقمة في الحالتين). فقد نقموا على عثمان: خروجه في سياسته العامة على مبادئ الدين، ونقموا على علي: تقيده - في سياسته العامة - بمبادئ الدين. لذلك نجد الإمام لم يقربهم إليه أو يعيّن بعضهم في القضاء أو الإمارة أو الإدارة. وقد أصبح الوضع الجديد أشد وطأة عليهم منه في عهد عثمان. أي أن الإمام، بعبارة أخرى: قد ارتقى منبر النبي بعد ثورة لم يساهم فيها. أي أنه اقتطف ثمار ثورة لم يقتطفها الذين قاموا بها. يضاف إلى ذلك أن الثوار أخذوا يشعرون بأن الإمام سوف يقتص من قتلة عثمان بعد حصول البينة عنده. وطلحة والزبير وعائشة يعرفون ذلك حق المعرفة، وعلي نفسه عارف بأنهم عارفون به.

ومهما يكن من شيء فقد خرج الناكثون - وعلى رأسهم طلحة وابن الزبير وبنت أبي بكر - من مكة يريدون البصرة، ومرت إبلهم في طريقها على ماء الحوأب(٣) فنبحتهم كلابه. فنفرت صعاب إبلهم. فقال قائل منهم: لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها!! فلما سمعت عائشة قالت: ردوني... إني سمعت رسول الله يقول:كأني بكلاب الحوأب قد نبحت بعض نسائي ثم قال:إياك يا حميراء أن تكونيها ...

____________________

(١) هذا التشبيه غير مؤدب (الناشر).

(٢) وهو ماء لبني عامر بن صعصعة يقع في بادية العراق الجنوبية.

(٣) ويذكر التاريخ أن الإمام استعان على جملة منهم كعمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر ومالك الأشتر وغيرهم (الناشر)

١٤٥

فقال الزبير لعائشة: مهلاً فإنا قد جزنا ماء الحوأب.. فلفَّق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابياً شهدوا بذلك. فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام.. وكتب علي إلى عثمان بن حنيف واليه في البصرة:

أما بعد، فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا (١) فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة... فإن أجابوا فأحسن جوارهم .

فلما وصل الكتاب أرسل عثمان بن حنيف أبا الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي، فانطلقا. فدخلا على عائشة ووعظاها.. فقالت: القيا طلحة والزبير... فقاما من عندها ولقيا: الزبير فكلَّماه، فقال لهما: إنَّنا جئنا للطلب بدم عثمان... فقالا له: إن عثمان لم يُقتل بالبصرة ليطلب بدمه فيها، وأنت تعلم من هم قتلته وأين هم، وإنك وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه وأعظمهم إغراء بدمه... وقد بايعتم علياً طائعين.. فقال لهما.. اذهبا فالقيا طلحة. فقاما إلى طلحة فوجداه خشن الملمس.. في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب. وأتى طلحة والزبير عبد الله بن حكيم التميمي فأتى بكتب كانا كتباها إليه، فقال لطلحة: أمَا هذه كتبك إلينا؟ قال: بلى. قال: فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائراً بدمه؟!

وخرج عثمان بن حنيف إلى طلحة والزبير في أصحابه فناشدهما الله والإسلام وذكرهما بيعتها لعلي... فقالا نطلب بدم عثمان، فقال لهما: ما أنتما وذاك؟ أين بنوه... الذين أحق منكم؟ فشتماه شتماً قبيحاً.. ثم كتب الطرفان كتاباً للصلح... إلى أن يقدم الخليفة... فمكثوا كذلك أياماً.

ثم إن طلحة والزبير... اجتمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب... فبايعهم على ذلك الأزد، وضبّة، وقيس بن غيلان... وبنو عمرو بن تميم، وبنو حنظلة... وبنو دارم كلهم إلا نفراً من بني مجاشع ذوي دين وفضل.

____________________

(١) يشير إلى بيعة الزبير وطلحة له، ثم نكوصهما عن ذلك، وإلى عهدهما له حين خرجا للعمرة من المدينة لمكة بالرجوع إلى المدينة وخرقهما لذلك العهد.

١٤٦

فلما استوثق لطلحة والزبير أمرهما، خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع وظاهروا فوقها بالثياب. فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه وأقيمت الصلاة، فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير، فجاءت السيابجة(١) . فأخروا الزبير وقدموا عثمان بن حنيف، فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير وأخَّروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع، وصاح بهم: المسجد.. فغلب الزبير فصلى بالناس.

فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المسلمين: أن خذوا عثمان بن حنيف، فأخذوا وضربوه ضرب الموت، ونُتف حاجباه وأشفار عينيه وشعر رأسه ووجهه وأخذوا السيابجة... فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة.. فأمرت بذبح السيابجة، فكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام)(٢) .

ويجمل بنا - إكمالاً للبحث في هذه النقطة - أن ننقل للقارئ قصة الناكثين كما رواها ابن الأثير(٣) :

(خرجت عائشة إلى مكة وعثمانٌ محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة، فلما كانت بسرف(٤) لقيها رجل من أخوالها من بني ليث يقال له: عبيد الله بن أبي سلمة - وهو ابن أم كلاب - فقالت له: مهيم؟ قال: قُتل عثمان وبقوا ثمانياً.. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي، فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه..!! ردوني... فانصرفت إلى مكة تقول: قتل عثمان

____________________

(١) وهم: الشرطة حرس بيت المال، وهم قوم من السند كانوا بالبصرة جلاوزة وحرس سجون.

(٢) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٢ / ٤٩٧ - ٥٠١.

(٣) الكامل في التاريخ:: ٥ / ١٠٥ - ١٣٣.

(٤) موقع بين مكة والمدينة.

١٤٧

مظلوماً(١) ، فقال لها عبيد الله بن أبي سلمة: إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

فمنك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت نا: إنه قد كفر

فهبنا أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فتسترت فيه، فاجتمع الناس حولها، فقالت: أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار.. سفكوا الدم الحرام.. والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض.

وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير، ويعلى بن أُمية - بن منية - من اليمن فلقيا عائشة، فاستقام الرأي على البصرة، وكان أزواج النبي مع عائشة على قصد المدينة، فلما تغير رأيها إلى البصرة تركن ذلك. وخرجت عائشة ومن معها من مكة، فلما خرجوا منها أذّن مروان بن الحكم، ثم جاء طلحة والزبير وقال: على أيّكما أسلّم بالإمرة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي، وقال محمد بن طلحة: على أبي، فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت له: أتريد أن تفرِّق أمرنا؟! ليصل بالناس ابن أختي عبد الله بن الزبير.

وكان معاذ بن عبد الله يقول: والله لو ظفرنا لاقتتلنا، ما كان الزبير يترك طلحة والأمر، ولا كان طلحة يترك الزبير والأمر.. فلما بلغوا ذات عرق لقى سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم.

____________________

(١) لابد أن القارئ قد لاحظ أن السيدة عائشة لم تعلّق بشيء حين سمعت بمقتل عثمان، ولكنها ثارت لمجرد سماعها بإجماع المسلمين على بيعة علي فطلبت أن يردوها إلى مكة وأصبح عثمان مظلوماً بنظرها.

١٤٨

ثم خلا بطلحة والزبير فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ ومضى القوم، ومروا بماء الحوأب فنبحتهم كلابه، فأتوا الحفير.

ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن الحصين، وأبا الأسود الدؤلي وقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فخرجا: فأتيا إليها بالحفير، فأذنت لهما فدخلا وسلّما، وسألاها عن سبب خروجها. فقالت: المطالبة بدم عثمان... فأتيا طلحة... فقال: المطالبة بدم عثمان. فأتيا الزبير وقال لهما: مثل قول طلحة، فرجعا إلى عثمان بن حنيف وأخبراه...

وأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد... فتكلم طلحة بالناس وذكر عثمان وفضله... ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم على الأخذ به. وكذا فعل الزبير، وعائشة... وأقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين: والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك... وقد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك... وخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير وقال: هل جئتما بنسائكما؟!

صنتم حلائلكم وقدتم أمكم

هذا لعمرك قلّةُ الإنصاف

أُمرت بجر ذيولها في بيتها

فهوت تشق البيد بالإيجاف

غرضاً يقاتل دونها أبناؤها

بالنبل والخطّيّ والأسياف

هتكت بطلحة والزبير ستورها

هذا المخبر عنهم والكاف

وجرت بين الطرفين مناوشات باللسان وبالسيف.

ثم كتبا كتاباً للصلح وتهادنا.. وجاء في كتاب الصلح: هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معهما... وعثمان بن حنيف ومن معه، أن عثمان يقيم حيث أدركه الصلح على ما في يده، وأن طلحة والزبير يقيمان

١٤٩

حيث أدركهما الصلح على ما في أيديهما.. ولا يضار واحد من الفريقين في مسجد ولا سوق ولا طريق.. ولكن طلحة والزبير جمعا رجالهما في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر، ثم قصد المسجد فوافقا صلاة العشاء، فقاتلوا أصحاب عثمان بن حنيف في المسجد.. وأخذوا عثمان أسيراً. وضربوه أربعين سوطاً ونتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه.

وكتبت عائشة إلى زيد بن صوحان: من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد: فإن أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا. فإن لم تفعل، فخذّل الناس عن علي.

فكتب إليها: أما بعد: فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت ورجعت إلى بيتك. وإلا فأنا أول من نابذك. وقال زيد: رحم الله أم المؤمنين أُمرت أن تلزم بيتها وأُمرنا أن نقاتل، فتركت ما أُمرت به وأمرتنا به، وصنعت ما أُمرنا به ونهتنا عنه.

وقام طلحة والزبير خطيبين يطالبان بدم عثمان.. فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد، قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا.. ثم قام رجل من عبد قيس فقال: يا معشر المهاجرين.. لما توفِّي الرسول بايعتم رجلاً منكم فرضينا وسلمنا.. ثم مات واستخلف عليكم رجلاً فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا. فلما توفِّي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غير مشورتنا، ثم أنكرتم منه شيئاً فقتلتموه عن غير مشورة منا. ثم بايعتم علياً عن غير مشورة منا. فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء؟ أم عمل بغير الحق؟ أو أتى شيئاً تنكرونه؟ فنكون معكم عليه؟ وإلا فما هذا؟ فهمّوا بقتل ذلك الرجل فمنعته عشيرته. فلما كان الغد وثبوا عليه وعلى من معه فقتلوا منه سبعين.

١٥٠

وبقى طلحة والزبير [ بعد أخذ عثمان بن حنيف ] بالبصرة ومعهم بيت المال والحرس.

وتجهَّز علي إلى الشام، فبينما هو كذلك أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة، فتوجّه إلى البصرة ووقعت الحرب وانتصر علي، فدخل البصرة... وراح إلى عائشة وهي في دار عبد الله بن خلف.. وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة... فلما رأته كلمته بكلام غليظ. فلم يرد عليها شيئاً، ودخل على عائشة وسلَّم عليها وقعد عندها. ثم قال:جبهتنا صفية ... فلما خرج أعادت صفية عليه قولها. فكف بغلته وقال:هممت أن أفتح هذا الباب - وأشار إلى باب في الدار -وأقتل من فيه . وكان فيه ناس من الجرحى فأخبر علي بمكانهم فتغافل عنهم. وكان مذهبه ألا يقتل مدبراً ولا يدنف على جريح(١) ، ولا يكشف ستراً ولا يأخذ مالاً.

ولما خرج علي... قال له رجل من أسد: والله لا تغلبنا هذه المرأة. فقال له:لا تهتكن ستراً، ولا تدخلن داراً، ولا تهيجن امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم .. ومضى فلحقه رجل فقال يا أمير المؤمنين: قام رجلان على الباب فتناولا من هو امض شتماً لك من صفية. قال:ويلك لعلها عائشة! قال: نعم، فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة وهما: عجلان، وسعد، ابنا عبد الله، فضربهما مئة سوط وأخرجهما من ثيابهما.

ثم جهّز عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك، وبعث معها كل من نجا ممن خرج معها ألا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة والمعروفات، وسيَّر معها أخاها محمد بن أبي بكر.

____________________

(١) يدنف: أي مجهز عليه بالقال. (الناشر)

١٥١

فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه أتاها علي فوقف لها. وحضر الناس، فخرجت وودعتهم، وقالت: يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها... وشيعها علي أميالاً وسرح بنيه معها يوماً. وقال عمار حين ودعها: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك؟ قالت: والله إنك - ما علمت - تقول الحق. قال: الحمد لله الذي قضى على لسانك لي).

تلك هي قصة الناكثين، ولا نشك في أن القارئ قد لاحظ معنا الجرائم الكثيرة التي قاموا بها؛ ومدى صلتها بالمطالبة بدم الخليفة الذبيح. فقد لفق الزبير وطلحة خمسين شاهد زور لعائشة في ماء الحوأب، وكانت أول شهادة زور في الإسلام على ما يروي المؤرخون. وفي معرض التحدث عن شهادة الزور بنظر النبي يقول البخاري في صحيحه (ج ٨، ص ٤٨) بأسانيده المختلفة عن أبي بكرة قال: قال النبي:أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور ثلاثاً أقولها ، أوأقول شهادة الزور . فما زال يكررها، قلنا: ليته سكت!!.

على أن أم المؤمنين لو كانت جادة في أمر عودتها إلى المدينة قبل أن تبلغ البصرة، لما ثناها عن ذلك، برأينا، شهود الزور؛ ذلك لأنهم لم ينفوا مرورهم بالحوأب وإنما قالوا: إنهم مروا به قبل فترة.

وقد نكث الزبير وطلحة بيعتهم لعلي، ونقضا عهدهما لعثمان بن حنيف مخالفين بذلك نص الآية الكريمة: ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) . كما اعتديا على حرمة المسجد وعلى الصلاة وقتلا السيابجة غدراً. وصنعا ما صنعا بعثمان

١٥٢

بن حنيف والي البصرة. ولعل موقف الناكثين في باطلهم من عثمان بن حنيف في حقه يعيد إلى الذاكرة - على قاعدة: وبضدها تتميز الأشياء - موقف النبي على حقه من سهيل بن عمرو، وهو على باطل، حين قال عمر بن الخطاب للنبي على ما يحدثنا الطبري(١) : (انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو السفليين، يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً. فقال رسول الله:لا امثل به فيمثل الله بي وأن كنت نبياً ).

فقد امتنع الرسول الكريم عن التمثيل بأحد شيوخ المشركين، في حين أن عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير قد مثّلوا بأمير البصرة وهو شيخ من أفضل المسلمين دون أن يقترف ذنباً يستحق عليه العقاب، اللَّهُم إلا الوقوف بوجه العصاة على الخليفة ومن ورائه كتاب الله وسنة الرسول.

ولسنا نعلم صلة ذلك بالمطالبة بدم عثمان، وهل الاعتداء على عثمان - بغض النظر عن مسبباته - أكثر فظاعة من الاعتداء على عثمان بن حنيف وأصحابه؟ ولماذا اعتدى طلحة والزبير على مسلمي البصرة؟ هل يجيز الدين الحنيف ذلك الاعتداء من حيث المبدأ العام؟ ومن حيث الشكل الذي وقع فيه؟

ذكر الإمام مسلم(٢) بأسانيده المختلفة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (قال رسول الله:أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر ).

____________________

(١) تاريخ الأمم والملوك: ٢ / ٢٨٩.

(٢) صحيح مسلم: ١ / ٤٢.

١٥٣

والمنافقون، كما وصفهم الله في سورة المنافقين: ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) .

ونحن نترك للقارىء تقدير الخلال الأخرى (تزيد عن الخلال الأربع) التي اتصف بها الناكثون. ويتجسم ذلك الموقف إذا ما وازنه القارئ بموقف الإمام الكريم، في حربه وسلمه، مع خصومه وأنصاره على السواء.

____________________

(١) المنافقين: ٢.

١٥٤

[ الفصل الثاني: ] القاسطون

لقد مر بنا الحديث - في فصل سابق - عن حركة الناكثين، تلك الحركة التي زرعت بذور التمرد على النظام في جسم المجتمع الإسلامي في عهد الإمام. وحركة الناكثين ما هي في الواقع إلا جانب واحد من جوانب الصراع المسلح بين علي ومناوئيه، وهي صورة من أروع صور الصراع بين الحق والباطل.

وقد شجعت فتنة الجمل القاسطين الحائرين، معاوية وأصحابه، على القيام بعصيان مسلح على نظام الحكم في البلاد، كما أتاحت لهم فرصة التجمع وحشد قوى الشر والإرهاب لمقاومة مبادئ الدين الحنيف الممثلة في خُلق الإمام وفي سياسته العامة. وقد انضوى تحت لواء معاوية كل من كان حاقداً على الإمام لعدالته وسلامة معتقداته في السياسة والدين والأخلاق. من ذلك مثلاً:

أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب كان قد التحق بمعاوية (خوفاً من علي أن يقيده بالهرمزان. وذلك أن أبا لؤلؤة - غلام المغيرة بن شعبة - قاتل عمر كان في أرض العجم غلاماً للهرمزان، فلما قُتل عمر شد عبيدُ الله على الهرمزان فقتله... وكان الهرمزان عليلاً في الوقت الذي قتل فيه عمر.. فعفا عثمان عن عبيد الله. فلما صارت الخلافة لعلي، أراد قتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان لقتله إياه ظلماً من غير سبب استحقه. فلجأ إلى معاوية)(١) .

____________________

(١) المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ٢ / ٢٦١.

١٥٥

ولجأ إلى معاوية كذلك مصقلة بن هبيرة الشيباني، عامل علي في إحدى خطط فارس؛ وسبب ذلك أن مصقلة كان قد اشترى أسرى الخوارج من جماعة الخريت بن راشد السامي ولكنه التوى بما شرطه على نفسه من ثمنهم. (فلما طالبه ابن عباس بأداء الدين قال: لو طلبت أكثر من هذا المال إلى ابن عفان ما منعني إياه. ثم احتال حتى هرب من البصرة ولحق بمعاوية. فتلقاه معاوية أحسن لقاء وأطمعه وأرضاه حتى طمع مصقلة في أن يحمل أخاه نعيم بن هبيرة على أن يلحق به)(١) .

وهكذا نجد ابن هند يحتضن الجناة الفارين من وجه العدالة، ويغدق عليهم العطاء من بيت مال المسلمين فيزرع بتصرفه هذا بذور فساد الأخلاق في المسلمين، ويشجع الناس على الخروج على مبادئ الدين الحنيف.

ولم تقتصر النتائج على ذلك الزمن الذي عاش فيه ابن أبي سفيان، بل تعدته فسارت في سجل الزمن منذ مصرع الإمام حتى يومنا هذا. لقد تمرد معاوية على الخليفة وتنكَّر لمبادئ الدين متظاهراً بالطلب بدم عثمان بن عفان(٢) . ومعاوية - كما ذكرنا هو: ابن هند آكلة الأكباد، وأبوه أبو سفيان: الذي حارب النبي... ولم يسلم إلا متأخراً حين لم ير من الإسلام بداً، وحين لم يكن إلا أن يختار بين الإسلام والموت...

ولم تكن أم معاوية بأقل من أبيه تنكراً للإسلام وبغضاً لأهله وحفيظة عليهم.. حتى فتحت مكة فأسلمت كارهة كما أسلم زوجها كارهاً(٣) .

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ١٢٧.

(٢) في حين أن ولي عثمان الذي يسوغ له المطالبة بدمه من الناحية الشرعية هو ابنة عمرو كما ذكرنا.

(٣) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ٢ / ٦١.

١٥٦

وكان على معاوية(١) - إذا فرضنا أنه يجوز له أن يطالب بدم عثمان - ولو أنصف وأخلص نفسه للحق أن يبايع كما بايع الناس. ثم يأتي إلى علي - مع أولياء عثمان - فيطالبون بالإقادة ممن قتله. ولكن معاوية لم يكن يريد أن يثأر لعثمان(٢) بمقدار ما كان يريد أن يصرف الأمر عن علي؛ وآية ذلك أن الأمر استقام له - بعد مصرع الإمام - فتناسى ثأر عثمان ولم يتبع قتلته..

فالطلب بدم عثمان إذن لم يكن إلا أقصوصة اشترك في صوغها كل منافس لعلي، حاقد عليه. وقد وَسِعَ كل شيء ووصل إلى كثير من الغايات إلا الثأر للشيخ القتيل).

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ٢ / ٣٠١.

(٢) ليس لدى الباحث من الأدلة المقنعة ما يمنعه من الاعتقاد باشتراك معاوية - بطريقة غير مباشرة - في التآمر على قتل عثمان، فقد وهن العظم من عثمان وبلغ من الكبر عتياً. وليس من الممكن أو المعقول أن تنتقل الخلافة إلى معاوية دون أن يقتل عثمان. وإن بقاء عثمان سنتين أو ثلاثاً في الحكم - وتعديل سيرته السياسية - لم يكن في صالح معاوية. وإذا لم يكن معاوية قد ألب الناس على الشيخ أو خذلهم عن نصرته، فقد تقاعس عن مساعدته في أحرج الظروف، فقد ساهم في قتله من الناحية السلبية على أسوأ الفروض. ذلك لأن معاوية، بحكم مركزه في الشام الذي استمر زهاء عشرين عاماً كان هو الوالي الوحيد الذي باستطاعته إنقاذ حياة ابن عفان. ويجمل بنا في هذا الصدد، أن نذكِّر القارئ بالمحاورة الطريفة التي جرت بين معاوية وأبي الطفيل حول تقاعس كل منهما عن نصرة عثمان. فقد سأل معاوية أبا الطفيل - متخابثاً - عن تقاعسه عن نصرة الخليفة، فأجاب هذا بأن تقاعسه كان ضمن التقاعس العام الذي أبداه المهاجرون والأنصار. ثم وجه السؤال نفسه إلى معاوية فأجابه بأن طلبه بدمه - في خلافة علي - نصرة له. فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر:

لا ألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوَّدتني زادي

هذا إلى أن معاوية بإسناده إمارة مصر لابن العاص - الذي عزله عثمان عنها فجعله من المؤلبين عليه - قد برهن بوضوح على أن المطالبة بدم عثمان وسيلة للثورة على علي.

١٥٧

وكان رأي علي في الموضوع كما يذكر ابن حجر العسقلاني(١) (أن يدخل معاوية وأصحابه في الطاعة، ثم يقوم ولي دم عثمان بن عفان فيعمل الإمام معه ما فيه حكم الشريعة).

وقد أشار الإمام علي إلى ذلك في إحدى رسائله إلى أهل الأمصار بعد صفين حين قال(٢) :(وكان بدء أمرنا أن التقينا والقوم من أهل الشام والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد ودعوتنا في الإسلام واحدة... والأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء. فقلنا: تعالوا نداوي ما لا يدرك بإطفاء الثائرة وتسكين العامة حتى يشتد الأمر ويستجمع فنقوى على وضع الحق في مواضعه. فقالوا: بل نداويه بالمكابرة. فأبوا حتى ضجت الحرب.. فلما ضَرَّستنا وإياهم ووضعت مخالبها فينا وفيهم أجابوا عند ذلك إلى الذي دعوناهم إليه) .

ويلوح للباحث أن الخروج على ما توطأ الناس عليه من العرف والخُلق كان هو القاعدة العامة للأسرة الأموية في الجاهلية والإسلام، وكُتب التاريخ العربي زاخرة بالأمثلة على ذلك. وقد مر بنا في فصل سابق ذكر كثير من الشواهد والأمثلة في هذا الباب عندما تظاهر رءُوس الأمويين في الانضواء تحت لواء الإسلام.

أما في الجاهلية فيجد الباحث، على الرغم من قلة الأخبار الموثوقة عن سيرتهم، قصصاً ممتعة في هذا المضمار، من ذلك مثلاً ما ذكره ابن الأثير(١) حين قال: (كان لعبد المطلب جار يهودي يقال له: أُذينة، يتَّجر وله مال كثير. فغاظ ذلك

____________________

(١) الإصابة في تمييز الصحابة: ٢ / ٥٠١، ٥٠٢.

(٢) شرح نهج البلاغة: ٤ / ١٦١، ١٦٢.

(٣) الكامل في التاريخ: ٢ / ٩.

١٥٨

حرب بن أُمية.. فأغرى به فتياناً من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله، فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن حرب بن عمرو بن كعب التيمي جد أبي بكر).

وتتلخَّص حركة القاسطين - من حيث وقوع حوادثها من الناحية التاريخية - على الشكل التالي(١) :

(لما عاد علي من البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة... وبعث جرير بن عبد الله البجلي... وكتب معه كتاباً إلى معاوية يدعوه فيه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته، فسار جرير إلى معاوية. فلما قدم عليه ماطله معاوية واستنظره، واستشار عمرو بن العاص فأشار عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم علياً دم عثمان ويقاتله بهم. ففعل معاوية ذلك.

وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان - الذي قتل فيه - مخضوباً بالدم.. وضع معاوية القميص مدة وهو على المنبر. واقسموا ألاَّ يمسهم الماء للغسيل من الجنابة وألاَّ يناموا على الفراش حتى يقتلوا: قتلة عثمان، ومن قام دونهم قتلوه.

فلما عاد جرير إلى علي وأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشام على قتاله. خرج علي فعسكر بالنخيلة.. وسرح الأشتر ببعض الجند أمامه.. وقال له:إيَّاك أن تبدأ القوم بقتال. ولا تدن منهم دنو من يريد أن يُنشب الحرب، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس. حتى أقدم عليك .. وأصبح علي على غدوة الأشتر..

وكان معاوية قد سبق.. فأخذ شريعة الفرات.. فطلب أصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا. فأتوا علياً فأخبروه بعطشهم.. فدعا صعصعة بن صوحان. فأرسله إلى معاوية يقول له:

____________________

(١) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٣ / ١٤١ - ١٦٠.

١٥٩

إنا سرنا سيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الاعتذار إليكم. فقدمت لنا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك. وهذه أخرى قد فعلتموها، منعتم الناس عن الماء.. فأبعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء... لننظر فيما بيننا وبينك، وفيما قدمنا له ..

فأصرَّ معاوية وأصحابه على المنع.. فلما علم علي بذلك قال:قاتلوهم على الماء ... فقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء. وصار الماء في أيدي أصحاب علي، فقالوا: والله لا تسقيه أهل الشام. فأرسل علي إلى أصحابه أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم...

ثم إن علياً دعا أبا عمر وبشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي، فقال لهم: ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة... فأتوه.. فبتدأ بشير... وقال يا معاوية: أنشدك الله أن تفرق هذه الأمة وتسفك دماءها بينها.. فقطع معاوية عليه الكلام وقال: ونترك دم عثمان؟ والله لا أفعل ذلك أبداً.

فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي... فقال: يا معاوية، والله لا يخفى علينا ما تطلب! إنك لم تجد شيئاً تستغوى به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك قد قتل إمامك مظلوماً، فنحن نطالب بدمه.. وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب. فاتق الله يا معاوية ولا تنازع الأمر أهله. قال معاوية: إن أول ما عُرفت به سفهك... إن قطعت على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه، ثم... كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف...

١٦٠