علي ومناوئوه

علي ومناوئوه0%

علي ومناوئوه مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 219

علي ومناوئوه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 219
المشاهدات: 26004
تحميل: 6666

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 219 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26004 / تحميل: 6666
الحجم الحجم الحجم
علي ومناوئوه

علي ومناوئوه

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف.. فأتوا علياً فأخبروه بذلك.. فجرت مناوشات بالسلاح بين الفريقين بدأها أهل الشام في أواخر عام ٣٦ هـ.

ثم دخلت سنة ٣٧ هـ وفيها جرت موادعة بين علي ومعاوية، توادعاً على ترك الحرب بينهما حتى ينقضى المحرم طمعاً في الصلح. واختلف بينهما الرسل.. فلم يسفر ذلك عن شيء.. فلما انسلخ المحرم.. خرج معاوية وعمرو يكتبان الكتائب ويبعثان الناس.. وعلي يقول لأصحابه:لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، فأنتم على حجة وترككم قتالهم حجة أخرى. فإذا هزمتموهم: فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عن عورة، ولا تمثلوا بقتيل، ولا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا شيئاً، ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم . وكان علي يقول بهذا المعنى لأصحابه في كل مكان).

ذلك ما يتصل بالمرحلة التمهيدية لحرب صفين قبل أن ينشب القتال بين الطرفين، ونحسب أن القارئ قد لاحظ معنا جملة أمور:

منها: سعى الإمام إلى دعوة ابن أبي سفيان - بالطرق السليمة المألوفة - إلى عدم شقِّه عصا الطاعة على النظام، وإحداث الفتنة بين المسلمين، ليتسنى للخليفة - بعد ذلك - أن ينظر في الطلب الذي يقدِّمه له عمرو بن عثمان بن عفان - ولى عثمان حسب منطوق الآية التي ذكرناها - بشأن المتَّهمين بقتل عثمان كي يجري التحقيق اللازم ويتخذ الإجراءات القانونية بحق الجناة. ولكن معاوية ألَّب الناس على الإمام واتخذ قميص عثمان ستاراً للخروج على النظام؛ وسار بجيوشه متمرداً باغياً يريد العراق. واستولى على ماء الفرات في موقع تجمع الجيشين ومنع أصحاب الإمام الذين لم يخرجوا لقتاله بل للتفاوض معه عساه يثوب إلى رشده فيحقن دماء المسلمين.

١٦١

فاضطر الإمام إلى دعوة أصحابه لقتالهم على الماء فقط، بعد أن فشلت مساعي صعصعة بن صوحان كما رأينا، وبعد أن بلغ العطش بأصحابه حداً لا يطاق.

وعندما أصبح الماء بحوزة أصحابه أمرهم بالسماح لخصومه بالاستسقاء. ولم يثنه غدر ابن أبي سفيان وأمشاجه، وخروجهم متمردين من الشام، وابتداؤهم أصحابه بالقتال، وحجزهم الماء عنهم، عن مواصلة مساعيه السلمية. فأرسل بشير الأنصاري، وسعيد الهمداني، وشبث التميمي، لمفاوضة معاوية وإقناعه بالانصياع إلى أوامر الله وسنة الرسول. فأغلظ معاوية لهم القول وشتمهم وطردهم بعد أن حاول أن يوقع بين سعيد وشبث العداوة والبغضاء بإثارة العصبية الجاهلية التي حاربها الإسلام. فأبى معاوية إلا الاستمرار في الطيش والعبث بأرواح الناس ومقدراتهم والاستهانة بمبادئ الدين الحنيف.

فحدث القتال المرير بين الجانبين وانهزمت قوى الشر أمام جيوش الإمام. فلجأ معاوية إلى الحيلة والغدر - كعادته - فرفعت المصاحف وحصل التحكيم وخرج المارقون واغتيل الإمام كما سنرى.

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول مرة أخرى: إن الصراع بين القاسطين وبين قوى الإمام ما هو - في جوهره - إلا صراع بين رجلين يختلفان كل الاختلاف في الخلق وفي العقيدة. فمعاوية: (رجل لم يردعه وازع عن التماس أي أسلوب... مشروع أو غير مشروع، للوصول إلى هدفه، وهو: انتزاع الحكم من الإمام. ولم ير حرجاً في الدس، ولا في الغدر ولا في الادعاء الباطل. فقد كان همه أن يغدر وإن وطئت قدمه الملوثة قدس الحق وقيم الأخلاق.

وكانت الخطة التي درج عليها الإمام تغاير ذلك؛ لهذا فقد تباينت الأسلحة: فهي في يد علي معدومة وفي يد خصمه وفيرة، وتعددت ميادينها أمام معاوية وضاقت حلقتها على الإمام إلا ما أقره منها الدين وارتضته المثل

١٦٢

الإنسانية الرفيعة)(١) .

وتباين المقربون كذلك في الخلق والدين والهدف، فهم عند علي من خيرة أصحاب النبي وهدفهم السير وفق مستلزمات الإسلام. وهم - عند معاوية - من الوصوليين الانتهازيين. عمار بن ياسر ومن هم على شاكلته من جهة، وعمرو بن العاص ومن لف لفه من جهة أخرى.

وتباين الأتباع كذلك. فقد كان معاوية يحارب الإمام (بمئة ألف ما فيهم - على حد قوله - من يفرق بين الناقة والجمل)(٢) . وقد بلغت طاعة أهل الشام لمعاوية حداً يفوق الوصف(٣) ؛ فقد صلَّى بهم على ما يذكر المسعودي - عند مسيرهم إلى صفين - الجمعة: يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها).

وفي معرض التحدث عن موقف أهل الشام إزاء معاوية يقول المسعودي(٤) إن أحد إخوته من أهل العلم قال له: (كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر، وعلي ومعاوية.. فقالت لي ذات يوم بعض أهل الشام - وكان من أعقلهم وأكبرهم لحية -: كم تطنبون في علي ومعاوية؟! فقلت له: من هو علي؟ فقال:... قُتل علي في غزوة حنين مع النبي. ولما خرج عبد الله بن علي في طلب مروان إلى الشام... وجه إلى أبي العباس السفاح أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرئاسة، فحلفوا للسفاح أنهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أُمية حتى وليتم الخلافة).

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٢) عباس محمود العقاد، عبقرية الإمام: ٥٠.

(٣) المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ٢ / ٣٣٤.

(٤) المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر: ٢ / ٥١.

١٦٣

وكان ذلك دون شك من آثار معاوية في تضليل الناس والتغرير بهم. فيكون معاوية - بالإضافة إلى ما ذكرنا - مسئولاً عن تشويه كثير من حقائق التاريخ الإسلامي وتزوير حوادثه.

أما أساليبه في الغدر بمناوئيه وتدبير المؤامرات لاغتيالهم، فمعروفة لدى الكثيرين، فقد دبَّر قضية سم الأشتر والحسن، بعد أن نكث عهده. وتتلخص قضية الأشتر النخعي في أن الإمام علياً قد ولاَّه مصر بعد أن عزل عنها محمد بن أبي بكر، ولكن الأشتر لم يكد يصل إلى القلزم حتى مات. وأكثر المؤرخين يتحدثون بأن معاوية أغوى صاحب الخراج في القلزم... إن هو احتال في موت الأشتر، فدس هذا الرجل للأشتر سُمَّاً في شربة من عسل فقتله ليومه. وكان معاوية وعمرو يتحدثان فيقولان: إن لله جنوداً من عسل)(١) .

وكان غدره يترواح بين الشدة واللين حسب الظروف، فيلجأ إلى القسوة إذا أعيته الحيلة والمراوغة والدس، من ذلك مثلاً: أنه اختار بسر بن أرطأة المعروف بقساوته، وسيره على رأس جيش لتعقُّب خصومه. وقد أوصى معاوية بسر بن أرطأة أن يقسو على البادية من شيعة علي. فمضى بسر ونفذ وصية معاوية وأضاف لها من عنده قسوة وغلظة وإسرافاً في الاستخفاف بالدماء والأموال، والحقوق والحرمات، فكان كثير الفتك في البادية، وجاء المدينة فروَّع أهلها... وأمرهم بالبيعة لمعاوية ففعلوا مرغمين. ومضى إلى اليمن ففر عنها عامل علي وأعوانه. ونشر فيها الروع بالإسراف في القتل، ثم أخذ البيعة لمعاوية.

وبلغ خبره علياً فأرسل جارية بن قدامة ليرده عن اليمن، ففر عنها بسر بن أرطأة ورجع إلى الشام مفسداً في الأرض أثناء رجوعه، ومسرفاً في القتل والنهب، حتى ذبح ابني عبيد الله بن العباس وكانا صبيين.

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ١٣١.

١٦٤

وردَّ جارية اليمن إلى طاعة الإمام، وعاد إلى مكة فعرف فيها أن علياً قد قُتل)(١) .

يتضح مما ذكرنا أن خلق معاوية كان أقرب إلى الوحشية منه إلى الإنسانية، على أنه كان في - وحشيته الخلقية - كالوحش المفترس تارة، وكالثعلب المراوغ تارة أخرى. أما الإمام، فكان إنساناً كاملاً في دينه، وسياسته وأخلاقه، فقد امتلأت نفسه الكبيرة من خشية الله، وحب الناس، ونشر العدالة والإخاء بين المسلمين.

وكان موقف اتباعه منه على حقه، مغايراً لموقف اتباع معاوية له على باطله كما رأينا. وإلى القارئ طائفة من أقوال الإمام لأتباعه وهو في أحرج ساعات نزاعه مع مناوئيه:

(أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم؛ ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطلهم وإبطائكم عن حقي. ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي. أيها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصى الله وهم يطيعونه. والله، لكأني بكم فيما أخالكم أن لو حمس الوغى وحمى الضرب قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قُبُلِها، وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيِّي، وإني لعلى الطريق الواضح أَلْقُطُه لقطاً) (٢) .

وقال في مكان آخر:

(ولكنْ بمن؟ وإلى من؟! أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي! كناقش الشوكة بالشوكة

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ١٥٠.

(٢) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٢ / ١٨٢ - ١٨٥. (حمس الوغى: اشتد وعظم. الوغى في الأصل: الأصوات والجلبة، وسميت الحرب نفسها (وغى) لما فيها من ذلك. وانفراج المرأة عن قبلها: أي وقت الولادة. وقوله (أَلْقُطُه لقطاً): يريد أن الضلال غالب على الهدى وأنه التقط طريقه من ههنا وههنا كما يسلك الإنسان طريقاً دقيقة قد اكتنفها الشوك والعوسج من جانبيها كليهما فهو يلتقط النهج التقاطاً).

١٦٥

وهو يعلم أن ضلعها معها) (١) .

وأشار الإمام - في مناسبة أخرى - إلى العامل الرئيسي في تقاعسهم عن نصرة الحق فقال:(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمَن وليت عليه؟! والله لا أَطُورُ به ما سَمَرَ سَمِيرٌ... ولو كان المال لي لسوَّيتُ بينكم فكيف وإنما المال مال الله؟! وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله) (٢) .

وخاطب أتباعه - في موقع آخر - فقال:(أيتها النفوس المختلفة، الشاهدة أبدانهم والغائبة عنهم عقولهم، أَظْأَرُكُم على الحق وأنتم تنفرون منه. هيهات أن أَطْلَعَ بكم سَرَارَ العدل، أو أقيم اعوجاج الحق! اللهم أنت تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لِنَرِدَ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المُعَطَّلةُ من سننك) (٣) .

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٢٦١، ٢٦٢. ولكن بمن كنت أعمل ذلك وإلى من أخلد في فعله.. وأما الحاضرون لنصرتي فأنتم وحالكم معلومة في الخلاف والشقاق والعصيان. وأمَّا الغائبون من شيعتي - كأهل البلاد النائية - فإلى أن يصلوا قد بلغ العدو غرضه مني، ولم يبق من أخلد إليه في إصلاح الأمر وإبرام هذا الرأي... إلا إذا استعين ببعضكم على بعض فأكون كناقش الشوكة بالشوكة. يقول: لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها فإن أحداهما في القوة والضعف كالأخرى. فكما أن الأولى انكسرت لما وطئتها فدخلت في لحمك فالثانية - إذا حاولت استخراج الأولى بها - تنكسر في لحمك.

(٢) ابن أبي الحديد، شرج نهج البلاغة: ٢ / ٣٠٥.

(٣) المصدر نفسه: ٣٧٨، ٣٧٩. أظأركم: أعطفكم.. والسَرَار: آخر ليلة في الشهر وتكون مظلمة. ويمكن عندي أن يفسر على وجه آخر، وهو: أن يكون السرار ههنا بمعنى السرر، وهي: خطوط مضيئة في الجبهة.. فيكون معنى الكلام: (هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل، وتتجلى أوضاعه ويبرق وجهه). وهو يمكن أن يكون فيه أيضاً وجه =

١٦٦

وخاطبهم في موقف آخر فقال:(لم تكن بيعتكم إيَّاي فلتة (١) ؛وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم. أيها الناس، أعينوني على أنفسكم، وايم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارهاً) (٢) .

____________________

= آخر، وهو: أن يُنصب سَرَار ههنا على الظرفية ويكون التقدير: (هيهات أن أطلع بكم الحق زمان استسرار العدل واستخفائه) فيكون قد حذف المفعول به.

(١) الفلتة: الأمر يقع في غير تدبُّر ولا روية. وفي الكلام تعريض ببيعة أبي بكر لأن المشهور عن عمر أنه قال: (إن بيعة أبي بكر فلتة وقانا الله شرها).

(٢) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٢ / ٤٠٣.

١٦٧

[ الفصل الثالث: ] التحكيم، المارقون، ومصرع الإمام

لقد حاول علي جهد استطاعته أن يتجنَّب الحرب التي سعى معاوية ما أمكنه إلى إشعال نارها. كما حاول عبثاً إقناع معاوية وصحبه بالكف عن إيذائه وإيذاء رعاياه؛ فأوكل - مضطراً - أمره إلى السيف، فبدأت الحرب بين الجانبين.

(ولما رأى عمرو بن العاص أن أمر العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم. قال: نرفع المصاحف ثمّ نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم. فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم. فلما رآها الناس قالوا: نجيب كتاب الله. فقال لهم علي:عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم؛ فإن معاوية وعمرو وابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. أنا أعرف منكم بهم؛ قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً. ويحكم ما رفعوها إلا خديعة . فقال أصحابه: لا يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله. فقال لهم علي:إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم كتاب الله. فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم . فأصر أصحابه إلا وقف القتال وقبول التحكيم.

واقترح أصحاب معاوية أن يبعث كل فريق من يمثِّله على أن يعمل الحكمان بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم يتبع الفريقان ما اتفق عليه الحكمان، فاختار أهل الشام عمرو، وبعض أهل العراق أبا موسى الأشعري.

فقال علي لقومه:قد عصيتموني في أول الأمر - فأوقفتم القتال -فلا تعصوني الآن.

١٦٨

إني لا أرى أن أولِّي أبا موسى؛ فإنه ليس بثقة. قد فارقني وخذَّل الناس عني ثم هرب مني . فأبوا إلا أبا موسى. فقال:فاصنعوا ما أردتم ..

فكتب كتاب التحكيم:هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. أننا ننزل عند حكم الله وكتابه.. فما وجد الحكمان في كتاب الله عملا به، وما لم يجداه.. فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة .

وأخذ الحكمان من علي ومعاوية، ومن الجندين، من العهد والمواثيق أنهما آمنان وأهليهما والأمة)(١) .

وشهد على ما في الكتاب من أصحاب علي: (الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والأشعث بن قيس، والأشتر بن الحارث، وسعيد بن قيس، والحسين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب، وأبو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن أرت، وسهل بن حنيف، وأبو بشر بن عمر الأنصاري، وعون بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن عبد الله الأسلمي، وعقبة بن عامر الجهني، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن العجلان الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي، ويزيد بن حجية النكري، ومالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجية.

ومن أهل الشام: حبيب بن مسلمة، وأبو الأعور السلمي، وبسر بن أرطأة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والمخارق بن الحارث، ومسلم بن السكسكي، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وحمزة بن مالك، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الكلبي، وخالد بن الحصين

____________________

(١) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٣ / ١٦٠ - ١٦٨.

١٦٩

السكسكي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، ويزيد بن أبجر العبسي، ومسروق بن جبلة العكي، وبسر بن أبي يزيد الحميري، وعبد الله بن عامر القرشي، وعتبة بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمار بن الأحوص الكلبي، ومسعدة بن عمرو العتبي، والصباح بن جهلمة الحميري، وعبد الرحمن بن ذى الكلام، وتمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكم)(١) .

ثم اتفق علي ومعاوية على ما يذكر الدينوري(٢) (على أن يكون مجتمع الحكمين بدومة الجندل، وهو المنصف بين العراق والشام. ووجَّه علي مع أبي موسى شريح بن هانئ في أربعة آلاف من خاصته وصيّر عبد الله بن عباس على صلاتهم. وبعث معاوية عمرو بن العاص وأبا الأعور السلمي في مثل ذلك من أهل الشام. فساروا من صفِّين حتى وافوا دومة الجندل. وانصرف علي بأصحابه حتى وافى الكوفة(٣) ، وانصرف معاوية بأصحابه حتى وافى دمشق، ينتظران ما يكون من أمر الحكمين.

وكان علي إذا كتب إلى ابن عباس في أمر اجتمع إليه أصحابه فقالوا: ما كتب إليك أمير المؤمنين؟، وتأتي كتب معاوية إلى عمرو بن العاص فلا يأتيه أحد من أصحابه يسأله عن شيء من أمره..

وعندما اجتمع الحكمان وتداولا في الأمر(٤) ، قال عمرو لأبي موسى: وأين أنت من معاوية؟ قال أبو موسى: ما معاوية موضعاً لها.. قال عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوماً؟ قال: بلى.

____________________

(١) الدينوري، الأخبار الطوال: ١٩٨، ١٩٩.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٠٠ - ٢٠٣.

(٣) فامتنع الذين أصروا على وقف القتال، وقبلوا التحكيم من أصحاب الإمام من دخول الكوفة مع الإمام، فيكون منهم المارقون الذي أرغموا الإمام - بعد ذلك - على حربهم بالنهروان.

(٤) وأوحى عمرو إلى رفيقه: أن موضوع خلع علي من الخلافة قد بات مفروغاً منه، وأن المشكلة هي اتفاقهما على من سيخلفه.

١٧٠

قال: فإن معاوية وليّ عثمان.. قال أبو موسى: إن ولى عثمان ابنه عمرو. ولكن إن طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكْرُه بتوليتنا ابنه عبد الله.. هلَّم نجعلها للطيب ابن الطيب. قال عمرو: ياأبا موسى لا يصلح لهذا الأمر إلا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما ويطعم بالآخر. قال أبو موسى: أرى أن نخلع هذين الرجلين - علياً ومعاوية - ثم نجعلها شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم من أحبوا. قال عمرو: فقد رضيت بذلك، وهذا الرأي الذي فيه صلاح الناس).

كان أبو موسى قد عوَّده عمرو أن يتقدم في الكلام عليه. وكثيراً ما كان عمرو يقول له: (أنت صاحب رسول الله وأسن مني فتكلَّم وأتكلم، وتعوَّد ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك أن يقدَّمه في خلع علي. فلما اتفقا على خلع علي ومعاوية.. أقبلا إلى الناس وهم مجتمعون. فقال عمرو: ياأبا موسى أعلمهم أن رأينا اتفق، فتكلم أبو موسى فقال: إن رأينا اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبر. تقدم ياأبا موسى فتكلَّم. فتقدَّم أبو موسى ليتكلَّم فقال ابن عباس: ويحك إني والله لأظنه قد خدعك، إن كنتما قد اتفقتما على رأي فقدمه ليتكلم به قبلك، ثم تكلم بعده، فإنه رجل غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بينكما، فإذا قدمت في الناس خالفك. وكان أبو موسى مغفلاً فقال: إنَّا قد اتفقنا. وقال: أيها الناس، إنَّا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألمَّ لشعثها.. إلا أن نخلع علياً ومعاوية، ويولَّى الناس أمرهم من أحبَّوا.. وإني قد خلعت علياً ومعاوية.. ثم تنحى وأقبل عمرو فقام وقال: إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه. وأنا أخلع صاحبه كما خلعه؛ وأثبت صاحبي معاوية فإنه وليّ ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.

١٧١

قال أبو موسى الأشعري لعمرو: لا وفقَّك الله غدرت وفجرت. إنما مثلك( كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) ‏، قال عمرو: إن مثلك( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) .. والتمس أهل الشام أبا موسى فهرب إلى مكة. ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلَّموا عليه بالخلافة)(١) .

يتضح مما ذكرنا: أن رفع المصاحف حيلة دبَّرها عمرو بن العاص للحيلولة بين القاسطين وبين الفرار أمام جيوش الإمام، وقد فطن الإمام إلى ذلك ووصف عمرو ومعاوية وابن أبي معيط بأنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. وقد مر بنا ذكر شيء من سيرة معاوية وابن أبي معيط، ونود في هذه المناسبة أن ننقل إلى القارئ، قبل الاسترسال في موضوع التحكيم، طرفاً من سيرة عمرو بن العاص ليتبين الأسس التي استند إليها علي في وصمه عمْراً وصاحبيه بالبعد عن الدين والقرآن.

وعمرو هو: ابن العاص السهمي الذي كان من المستهزئين بالنبي. وقد أنزل الله فيه قول:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) (٢) .

أما المستهزئون الآخرون فقد ذكرهم ابن خلدون(٣) بقوله: (ولما رأت قريش النبي قد امتنع بعمه وعشيرته، وأنهم لا يسلمونه، طفقوا يرمونه - عند الناس ممن يفد على مكة - بالسحر والكهانة والجنون والشعر؛ يرومون بذلك صدهم عن الدخول في دينه. ثم انتدب جماعة منهم لمجاهرته بالعداوة والإيذاء، منهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعقبة بن أبي معيط - أحد المستهزئين. وأبو سفيان من المستهزئين، والحكم بن أُمية من المستهزئين أيضاً.

____________________

(١) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٣ / ١٦٠ - ١٦٨.

(٢) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٢ / ٤٩، ٥٠.

(٣) ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر: ٢ / ١٧٧.

١٧٢

والعاص بن وائل السهمي وابنا عمه: نبيه ومنبه. وقاموا يستهزئون بالنبي ويتعرضون له بالاستهزاء والأذية حتى لقد كان بعضهم ينال منه بيده).

أما أم عمرو بن العاص (فثَمَّة صحيفة من صحائف فجور الجاهلية تنتشر عن الباغية أم عمرو كامرأة تلقفتها آونة مضاجع الرجال. فلما خرج ابنها إلى النور تهامست الألسن عن أبيه وتاهت حقيقة نسبه بين بضعة نفر.. منهم العاص ومنهم أبو سفيان. ولكن الأم حزمت أمرها على أن تلصق وليدها بأول الرفيقين؛ إذ كان أوفر النفر ثروة وأسخاهم عليها في الإنفاق، فكأنها بهذا الاختيار قد ضربت لابنها أول مثل في تغليب المادة على أوثق العلاقات وإنه لمبدأ رضعه من ثدييها وظل يدين بناموسه مدى عمره المديد)(١) .

هذا هو البيت الذي نشأ فيه عمرو بن العاص.

أما مواقف عمرو نفسه من الإسلام - في أوائل عهده - فمعروفة لدى الكثيرين؛ فقد كان أشد الكفار خصومة للنبي يوم أحد. ويحضرنا - في هذه المناسبة - بعض شعره:

لمّا رأيت الحرب ينزو

شرّها بالرّضف نزوا

أيقنت أنّ الموت حقّ

والحياة تكون لغوا

حمّلت أثوابي على

عُتَد يبذّ الخيل رهوا (٢)

ولما يئس عمرو من الانتصار على النبي في الحرب لجأ إلى الغدر والدس والتواري عن الأنظار. قال عمرو، على ما يذكر ابن هشام(٣) : (لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني. فقلت لهم: إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ٢ / ٢٧٥.

(٢) ابن هشام، سيرة النبي محمد: ٣ / ١١٦. ينزو: يرتفع ويثب. وأرضف: الحجارة المحماة بالنار. العُتَدُ: الفرس الشديد. يَبُذُّ: يسبق. والرَّهو: الساكن، اللين.

(٣) سيرة النبي محمد: ٢ / ١٧٧.

١٧٣

منكراً.. فأرى أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده. فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب ألينا أن نكون تحت يدي محمد. وإن ظهر قومنا، فنحن من عرفوا).

وقد كان عمرو - كما رأينا - من أكبر المؤلِّبين على عثمان، وهو الذي صرفه عن تطبيق حد الله في عبيد الله بن عمر بن الخطاب لقتله الهرمزان. (فقد أقبل ابن العاص على عثمان، حين رأى عثمان أن ينظر في الاقتصاص من عبيد الله... فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان، إنما كان الحدث ولا سلطان لك)(١) .

ولما بلغ عمرو - وهو بفلسطين كما ذكرنا - بأن الناس قد بايعوا علياً وبأنَّ معاوية يأبى البيعة، اتصل عمرو بمعاوية وحبَّذ له فكرة المطالبة بدم عثمان.

ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة: أن المؤرخين يكادون يجمعون على ذكر قصة استشارة عمرو لولديه عبد الرحمن ومحمد، وهو بفلسطين، في شأن موقفه من النزاع بين علي ومعاوية (فقال له عبد الله: إن كنت لا بد فاعلاً فإلى علي. قال عمرو: إني إن أتيت علياً يقول لي: إنما أنت رجل من المسلمين. وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في الأمر. وكان محمد ابنه الآخر على هذا الرأي. فقال لهما عمرو: أما أنت يا عبد الله فقد اخترت لآخرتي. وأما أنت يا محمد فقد اخترت لدنياي.. وقدم عمرو على معاوية.. وسأله: أترى أننا خالفنا علياً لفضل منا عليه؟.. لا والله إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها)(٢) .

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ٤ / ٨٣. وإذا كان الأمر كذلك فقد قُتل عثمان وليس لعلي سلطان على الناس فلماذا أقام عمرو الدنيا عليه وأقعدها.

(٢) عباس محمود العقاد، معاوية بن أبي سفيان: ٥٣ - ٥٥.

١٧٤

ولا ندري ما صلة ذلك بالمطالبة بدم عثمان!!

هذا هو ممثل معاوية في التحكيم.

أما ممثل علي، فهو أبو موسى الأشعري الذي كان يخذِّل الناس عن نصرة الخليفة حين كان والياً له على الكوفة، الأمر الذي اضطر الخليفة إلى عزله.

ولنعد الآن إلى موضوع التحكيم:

فإذا نظرنا إليه من الناحية المبدئية العامة - أي تحكيم كتاب الله وسيرة نبيه فيما يحصل من اختلاف بين وجهات نظر المسلمين في أمورهم الدينية والدنيوية - فإن الإمام علي لا يرضى بغير ذلك بديلاً، وقد بنى سياسته العامة - في السلم والحرب ومع أنصاره وأعدائه على السواء - وفق مستلزمات القرآن والسنة، وتألَّب عليه خصومه - وهرب منه بعض أنصاره - لتمسكه بذلك في جميع تصرفاته. وقد مر بنا رفضه قبول الخلافة أثناء الشورى لوضعِ شرطٍ ثالثٍ بجانب الكتاب والسنة، كما مر بنا جانب من موقفه مع الناكثين ودعوته إياهم إلى تحكيم الكتاب والسنة فيما خرجوا عليه.

فلم يعترض الإمام - إذن - على التحكيم الذي دعا إليه معاوية وأصحابه من حيث المبدأ، وإنما اعترض على الشكل الذي جاء فيه والظروف التي أحاطت به. فقد رفع خصومه المصاحف على الرماح في الوقت الذي كانت فيه جيوشه سائرة إلى نصرها المبين. ودعوا - كاذبين - إلى تحكيم القرآن الذي حاربوه، وحاربوا من أُنزل عليه في الجاهلية والإسلام، واخترقوا نصوصه (وسنة الرسول) في تصرفاتهم العامة من الناحيتين الدينية والدنيوية. فقد أمر معاوية - باقتراح من ابن العاص كما ذكرنا - أصحابه أن يربطوا المصاحف على أطراف القنا، فرُبطت المصاحف. وأول ما ربط مصحف دمشق الأعظم، ربط على خمسة أرماح يحملها خمسة رجال.

١٧٥

ثم ربطوا سائر المصاحف، جميع ما كان معهم. وأقبلوا في الغلس(١) .

ونظر أهل العراق إلى أهل الشام قد أقبلوا وأمامهم شيبه بالرايات، فلم يدروا ما هو حتى أضاء الصبح، فنظروا فإذا هي المصاحف. وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون(٢) أشهب وعلى رأسه مصحف وهو ينادي: يا أهل العراق، هذا كتاب الله حكَماً فيما بيننا وبينكم. فتكلم علي وقال:عباد الله أنا أحرى من أجاب إلى كتاب الله... إن القوم ليسوا يريدون بذلك إلا المكر، وقد عضتهم الحرب، والله لقد رفعوها وما رأيهم العمل بها. وليس يسعني - مع ذلك - أن أدعى إلى كتاب الله فلا أجيب. وكيف! وإنما قاتلتهم ليدينوا بحكمه! )(٣) .

وعندما وقف القتال، وانصاع القاسطون - في الظاهر - إلى رأي الإمام في تحكيم القرآن والسنة لحسم النزاع بين المعسكرين. وافق الإمام على قبول التحكيم، التحكيم الذي هو مبدؤه في تصرفاته كافة. استمع إليه يخاطب ابن أبي سفيان:إن البغي والزور يوقعان بالمرء في دينه ودنياه... ويبديان خلله عند من يعيبه. قد علمت أنك غير مدرك ما قضى فواته. وقد رام أقوام أمراً بغير الحق فتأولوا على الله فأكذبهم... وقد دعوتنا إلى حكم لقرآن ولستَ من أهله. ولسنا إياك أجبنا ولكننا أجبنا القرآن في حكمه )(٤) .

وخاطبه - في موضع آخر - فقال:(لقد ابتلاني الله بك وابتلاك بي. فجعل

____________________

(١) الغلس: بعد العشاء الآخرة وقبل الفجر (الناشر).

(٢) البرذون: صنف من الخيل الغير العربية (الناشر).

(٣) الدينوري، الأخبار الطوال:١٩١، ١٩٢.

(٤) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٤ / ١١٣، ١١٤.

١٧٦

أحدنا حجة على الآخر. فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن وطلبتني بما لم تجن يدي ولا لساني، وعصيته أنت وأهل الشام بي. وألَّب عالمكم جاهلكم وقائمكم قاعدكم) (١) .

فالإمام إذن لم يعترض على مبدأ التحكيم، بل التحكيم بالشكل الذي دعاه إليه معاوية والظروف التي حصل فيها. وبعد أن زالت تلك الظروف ووضعت الحرب أوزارها اختفت عوامل ممانعة الإمام بقوله.

غير أن الإمام اعترض - بعد ذلك - على تعيين بعض أصحابه أبا موسى الأشعري ليمثله في ذلك. وقد كان اعتراض الإمام مبنياً - من حيث الأساس - على القول بأن الممثل يجب أن يتبنى فكرة من يمثِّله - بغض النظر عن سلامتها - ليتسنى له القيام بواجبه على وجهه الأتم، فعمرو بن العاص خير من يمثِّل معاوية في هذه الناحية.

فلما أصر أصحاب الخليفة على رأيهم في تعيين أبي موسى، رجع الإمام إلى نفسه - على ما يبدو - وقلَّب الأمر على وجوهه، فلم ير بأساً من الموافقة على ذلك؛ لأن موضوع التحكيم سوف يسير - حسبما اتفق الجانبان المتعاقدان - على نصوص القرآن وسنة النبي حيث ينكشف لأبي موسى زيفه السابق في التخذيل عن الإمام. وما دام موضوع التحكيم - برأي الإمام - مُنْصَباً على حسم الخلاف بينه وبين معاوية، وهو نزاع يتصل - على ما ادعى معاوية - بالمطالبة بدم الخليفة القتيل، فسوف ينظر الحكمان في القرآن والسنة فيما إذا كان عثمان قد قتل مظلوماً من جهة؟ وفيما إذا كان لمعاوية الحق في المطالبة بدم عثمان من الناحية الشرعية - أي أنه ولي عثمان - من جهة ثانية؟ وفيما إذا كان الأسلوب الذي اتبعه معاوية للمطالبة المذكورة - في حالة شرعيتها - هو الأسلوب السليم من جهة ثالثة؟ وفيما ينبغي للخليفة أن يفعله من جهة رابعة؟

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٤ / ١٦٠. والإشارة هنا إلى مقتل عثمان.

١٧٧

فاطمأن علي إلى ذلك كل الاطمئنان.

غير أن اجتماع الحكمين قد جعل الموضوع يسير باتجاه آخر لا صلة له إطلاقاً بموضوع المطالبة بدم عثمان ابن عفان. فأغفل عمرو صاحبه ابتداءً كما رأينا. وألقى في روعه أن موضوع التحكيم ينحصر في تعيين خليفة جديد للمسلمين كأن خلع علي من الخلافة قد بات أمراً مفروغاً معه. فاقترح عمرو اسم معاوية فرفضه أبو موسى كما رأينا. واقترح عمرو - بعد ذلك - اسم ابنه عبد الله فرفضه أبو موسى أيضاً، الأمر الذي حدا بأبي موسى أن يتقدم هو بمرشح جديد، وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب.

ولما اطمأن عمرو إلى ثبوت ذلك الرأي في ذهن زميله - أي فكرة خلع الخليفة وتعيين آخر بدله - جعل موضوع البحث ينحصر في الاتفاق على المرشح الجديد. ولما ظهر أنهما لم يتفقا على شخص معين بالذات، طلب من أبي موسى أن يقترح حلاً للخروج من ذلك المأزق الحرج الذي يتوقف عليه مصير الحكم في البلاد، والذي يرقبه المسلمون - بفارق الصبر - في كل مكان. فتقدم أبو موسى باقتراح جديد ظنه كسباً له واندحاراً لعمرو بن العاص. فقد خيل إليه أنه سينتصر إذا ما وافق عمرو على (خلع) معاوية بعد أن بات خلع الإمام أمراً متفقاً عليه. فوافق عمرو - في الظاهر - على الفكرة وأغراه بإعلانها على الناس، ثم عاد فغدر به على الشكل الذي وصفناه.

وقد برز عمرو - في ذلك كله - بأبشع ما يبرز فيه الرجل من الخداع والدس والتدني عن مستويات الأخلاق الرفيعة. فأغفل صاحبه وأغراه على خلع علي ومعاوية على السواء ليترك الأمر للمسلمين يختارون من يشاءون. فلما أعلن أبو موسى رأيه على الناس - كما مر بنا - نهض عمرو فأكد خلع علي

١٧٨

وتثبيت ابن أبي سفيان. ولا ندري علاقة ذلك كله بالمطالبة بدم عثمان!! وهل تنازع علي ومعاوية على الخلافة؟! وهل كان معاوية خليفة حتى يخلعه أبو موسى ويثبته ابن العاص؟!

ومهما يكن من شيء فقد حصل خلع الإمام وتثبيت معاوية، فارتاع دعاة التحكيم في عسكر الإمام. فظهر المارقون من الخوارج.. وقالوا: (لا حكم إلا لله)، وهي كلمة حق يراد بها باطل على ما ذكر الخليفة. وأراد أصحاب علي قتال الخوارج في بادئ الأمر، ولكنه أبى عليهم ذلك وأنكره - كشأنه في مواقفه الأخرى ضد مناوئيه - وقال:(إن سكتوا تركناهم وإن تكلموا حاججناهم وإن أفسدوا قاتلناهم) (١) .

بدأ المارقون نشر الفساد في المناطق التي كانوا يسكنون فيها، فنهبوا واغتالوا وتعاطوا كثيراً من الموبقات (فقتلوا عبد الله بن الخباب بن الأرت - وخباب من خيرة الصحابة - وقتلوا نسوة كن مع عبد الله. وجعلوا يتعرضون الناس ويذيعون الذعر. فأرسل إليهم علي رجلاً من أصحابه يسألهم عن هذا الفساد، فلم يكد هذا الرسول يدنو منهم حتى قتلوه)(٢) ؛ فلم يجد علي بداً من مقاتلتهم في النهروان.

وقد وجد الإمام نفسه مع ذلك كله، وأمام هذه الأمور العظام، وفي قلب هذه الفتنة الغليظة المظلمة.. كأحسن ما يجد الرجل نفسه: صدق إيمان، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل ولا يداهن من أمر الإسلام في قليل ولا كثير. وإنما يرى الحق فيمضي إليه لا يلوي على شيء ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ١١٣.

(٢) المصدر نفسه: ١١٣.

١٧٩

أن يجد في آخر طريقه نجحاً أو إخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتاً. وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه - وفي آخرها - رضا ضميره ورضا الله(١) .

فلا عجب أن رأينا حياته بعد النهروان خاصة، على ما يقول الدكتور طه حسين(٢) : (محنة شاقة إلى أقصى حدود المشقة، كان يرى الحق واضحاً صريحاً.. وقد ظل الخوارج معه بعد ذلك يعايشونه في الكوفة، ويعايشون عامله في البصرة، وينبثون في أطراف السواد بين المِصْرَيين.. وكانوا يكيدون للإمام. يشهدون صلاته ويسمعون خطبه وأحاديثه، وربما عارضه منهم المعارض فقطع عليه الخطبة والحديث، وهم على ذلك مطمئنون إلى عدله. ويأخذون تعيينهم من الفيء وحظوظهم من المال!! فأطمعهم عدله وإسماحه، وأغراهم لينه وبِرُّه.

جاء أحدهم ذات يوم، وهو الحريث بن راشد السامي، فقال له: والله لا أطعتُ أمرك ولا صلَّيت خلفك.. فلم يغضب علي ذلك ولم يبطش به، وإنما دعاه إلى أن يناظره ويبيِّن له وجه الحق لعله أن يثوب إليه. فقال له الحريث: أعود إليك غداً. فقبل منه علي فانصرف الرجل إلى قومه. ثم خرج بهم في ظلمة الليل من الكوفة يريد الحرب. ولقي الحريث وأصحابه في طريقهم رجلين سألوهما عن دينهما، وكان أحدهما يهودياً، فلمَّا أنبأهم بدينه خلّوا سبيله. وأما الآخر فكان مسلماً من الموالي، فلما أنبأهم بدينه سألوه عن رأيه في علي

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ١٢٢.

(٢) المصدر نفسه ١٢٢ - ١٢٦.

(٣) المصدر نفسه ١٣٣.

١٨٠