علي ومناوئوه

علي ومناوئوه0%

علي ومناوئوه مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 219

علي ومناوئوه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 219
المشاهدات: 27340
تحميل: 7493

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 219 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27340 / تحميل: 7493
الحجم الحجم الحجم
علي ومناوئوه

علي ومناوئوه

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولهذا السبب نجد بعض المسلمين يجتمعون، بعد وفاة الرسول في سقيفة بني ساعدة(١) كما سنرى، لاختيار الخليفة لتسلم هذا المنصب الرفيع. فاختير أبو بكر، ثم عمر، فعثمان، فعلي، فهؤلاء إذن هم الخلفاء الراشدون، مرتَّبون حسب تسلسهم الزمني وحسب منزلتهم الدينية، على ما يقول حملة هذا الرأي، والحجة التي يستند إليها هذا الفريق من المسلمين هي: أن التعاليم الدينية قد أصبحت كاملة وواضحة بعد وفاة الرسول، ولم تكن هناك ضرورة سماوية لتعيين المشرف على تطبيقها على شئون الحياة. وقد وضع هذا الرأي - بشكله المعتدل - أحد الكتاب المعاصرين(٢) حين قال: (الخلافة الإسلامية - كنظام من نظم الحكم - هي في حقيقتها وليدة رأي، وليست وليدة نص ديني ثابت لا يحتمل التأويل. ورسول الله، وهو يستقبل ربه، لم يوص لأحد بعده بالحكم وصية صريحة، وإن بدرت منه في أوقات شتى إشارات وتلميحات تاه أصحابه في تفسيرها عقب وفاته، بين الاحتمال والترجيح. وثَمَّة أحاديث فيها من الصراحة ما قد يرسم لنا صورة المستخلف كحديث الغدير(٣) وحديث خاصف النعل.

وهناك فريق ثالث من المسلمين وقف، في نظرية الخلافة، موقفاً وسطاً بين الفريقين المختلفين، فهو يتفق مع الفريق الثاني في اعتبار الخلافة منصباً دنيوياً خالصاً وينكر وجود النص الدال بصراحة على وصية النبي لعلي خليفة للمسلمين من بعده، على الشكل الذي ذكره الفريق الأول من المسلمين، ولكن - مع هذا - يعتبر علياً أولى بالخلافة من أبي بكر؛ لأنه أفضل المسلمين على الإطلاق.

____________________

(١) السقيفة اسم لإيوان كبير كانت تجتمع فيه العرب في الجاهلية للمشورة والمداولة بالأمور الباطلة، ومجازاً يطلق على الكلام التافه، انظر: غياث اللغات، طبعة الهند، مادة: (سقف) (الناشر) .

(٢) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب، لجنة النشر للجامعين بالقاهرة، ١٩٥٣ م، ج ٥، ص ١٠٤.

(٣) راجع: الغدير، للشيخ الأميني، صدر منه ١١ جزءاً طبع في العراق وإيران ولبنان.

٢١

وقد لخص هذا الرأي أحد الباحثين حين قال(١) : (اتفق شيوخنا كافة.. على أن بيعة أبي بكر صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع وبغير الإجماع كونه طريقة إلى الإمامة، واختلفوا في التفضيل. فقال قدماء البصريين كأبي عثمان وعمرو بن عبيد: أن أبا بكر أفضل من علي.. وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. وقال البغداديون قاطبة - قدماؤهم ومتأخروهم: إن علياً.. أفضل من أبي بكر: وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهَّاب الجُبَّائي، والشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري.. وقاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد.. وأبو محمد الحسن بن متوية... وذهب كثير من الشيوخ إلى الوقف فيهما، وهو قول أبي حذيفة واصل بن عطاء، وأبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف. وهما وإن ذهبا إلى التوقّف بينه وبين أبي بكر وعمر.. قاطعان على تفضيله على عثمان. وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليهم).

وقد ذهب الباحث الآنف الذكر، في موضع آخر(٢) ، إلى القول في موضوع الخلافة: أن الذي استقر عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره: أن علياً أفضل الجماعة، وأنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها، وإن لم يكن هناك نص يقطع الغموض، وإنما كانت إشارة وإيماء لا يتضمن شيء منهما صريح النص، وإن علياً نازع ثم بايع. ولو أقام على الامتناع لم نقل بصحة البيعة ولا لزومها. وبالجملة أصحابنا يقولون:

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ١ / ٣ (الطبعة الأولى - مصر).

(٢) شرح النهج: ٢ / ٥٧٢. (الناشر)

٢٢

إن الأمر كان له وكان هو المستحق والمتعين، فإن شاء أخذه لنفسه وإن شاء ولاَّه غيره، فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره، اتبعناه ورضينا لما رضى).

أي أن هذا الفريق من المسلمين يقول: بأفضلية علي على أبي بكر وبالتالي بأحقيته بالخلافة دون أن يعترف بالنص على وصية الرسول له، وبذلك تصبح خلافة أبي بكر سابقة لخلافة علي من الناحية الزمنية الواقعية أو (دوفاكتو) كما يقول المشرعون المعاصرون، في حين أن خلافة الإمام سابقة لها من الناحية الشرعية (دوجوري).

كان موضوع الخلافة وما زال محور الخلاف، وأساس الفرقة بين طوائف المسلمين، وقد تفرعت عنه خلافات أخرى كثيرة، نظرية وعملية، وما زالت قائمة بين المسلمين منذ وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) إلى اليوم. وتعصب كل فريق لرأيه، واعتبر نظريته في الخلافة هي النظرية السلمية وما عداها فاختلاق وبهتان، وليس أمام الباحث من سبيل لتقريب وجهات النظر المختلفة؛ ذلك لأن التسليم بأحدها يستلزم إهمال النظريتين الأخريين، وإذا أغفل الباحث أمر التحدث عن وصية النبي لعلي في الخلافة من بعده على الشكل الذي يقول فيه فريق من المسلمين ونظر إلى مسألة الخلافة من الناحية الزمنية الصرفة، فليس لديه - على ما نرى - من الأدلة القاطعة ما يدعوه إلى التسليم بأن الرسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) كان قد أهمل أمر التفكير فيمن يخلفه من بعده في تصريف شئون المسلمين.

وهنا تتوارد إلى الذهن جملة قضايا تاريخية مهمة، وفي مقدمتها قضية (القرطاس والدواة)، يقول ابن الأثير(١) : (اشتد برسول الله مرضه ووجعه فقال:ائتوني بدواة وبيضاء (٢) أكتب لكم

____________________

(١) الكامل في التاريخ: ٢ / ٢١٧.

(٢) قضية ائتوني بدواة وبيضاء: أن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) علم، وهو في مرض موته، ما حدث في المجتمع الإسلامي من تطورات، ووقوع أحداث يخشى على الإسلام منها، فقد كثرت القالة حول الخلافة من بعده: من تنفيذ أمره (بغدير خم)، أو يعود الأمير للمجتمع في الأغلبية =

٢٣

كتاباً لا تضلون بعدي أبداً، فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا: إن رسول الله يهجر، فجعلوا يعيدون عليه. فقال:دعوني! فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ، فأوصى بثلاث:أن يخرج المشركون من جزيرة العرب، وأن يجازي الوفد بنحو مما كان يجيزهم ، وسكت عن الثالثة عمداً أو قال: نسيتها.

وذكر البخاري(١) فقال: (حدثنا سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: اشتد برسول الله وجعه فقال:ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا: ما شأنه! أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يرددون عليه! فقال:دعوني! فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال:اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت عن الثالثة، أو قال: فنسيتها.

وحدَّثنا علي بن عبد الله، حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله

____________________

= الساحقة التي تعارض تلك الفكرة؟ وهل هناك مجموعة تسعى لكسب الأكثرية لأخذ الحكم؟ وما هو موقف الأنصار وكبار الصحابة من هذا الأمر... إلخ.

فكان النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يؤلمه وقوع مثل هذه الأشياء التي تؤول بالأمة إلى الفرقة بعد الاجتماع، والعداوة بعد الإخاء، فأراد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يقرر مصير الأمة وأن يجدِّد موقفها؛ ليقطع بذلك كل طريق يوصل للخلاف المؤدي إلى الضلال، فقال:ائتوني بدواة... الحديث، أراد أن يضع للأمة نظاماً يسيرون عليه دوماً في قضية الخلافة وتحديد الشخصية التي تليق بأن تخلفه في منصبه.

ومن البديهي، وما لا يقبل الشك، أن علياً هو تلك الشخصية التي تتجسد فيها آمال الأمة، ولكن حدث ما حدث! فما أعظم من ذلك الموقف على النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال لهم متأثراً:أبعد الذي قلتم ، ومات والألم يحز نفسه، ولكن أراد أن يطوّق الأمة بواجب لا مفر لهم من الالتزام به، ألا وهو العناية بأهل بيته، فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):(أوصيكم بأهل بيتي خيراً، الله الله في أهل بيتي. واخرجوا اليهود من جزيرة العرب) وهي آخر ما تكلم به (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كما سيأتي. (الناشر)

(١) صحيح البخاري: ٥ / ١٣٧، ١٣٨ (طبع مصر).

٢٤

ابن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي البيت رجال، فقال النبي..:هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله! فاختلف أهل البيت واختصموا. فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله:قوموا .

وذكر ابن سعد(١) : (أن الرسول عندما حضرته الوفاة وكان معه في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال:هلمّوا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله! فاختلف أهل البيت واختصموا. فلما كثر اللغط والاختلاف... قال النبي:قوموا عني .

فما الذي حمل عمر يا ترى على ذلك؟ وهل تجيز آداب المجاملة أو العرف أو الدين أن يقول عمر: إن الوجع قد غلب النبي وعندنا كتاب الله فهو حسبنا؟ وما قصده بذلك القول؟ وهل يتفق موقف عمر مع قوله تعالى في وصف النبي بأنه: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (٢) ؟ وممن يلفت النظر حقاً في هذا الموضوع الخطير: أن أصحاب النبي - على ما يذكر المؤرِّخون - قد سألوه قبيل وفاته عن كثير من الأمور التي تبدو بنظرنا أقل وجاهة من موضوع الخلافة، فقد سألوه على ما يحدِّثنا ابن خلدون(٣) : (عن مغسله؟ فقال:الأدنون من أهلي . وسألوه عن الكفن؟ فقال:في ثيابي، أو ثياب مصر، أو حلة يمانية .... وسألوه عمن يدخل القبر معه؟ فقال:أهلي ). فهل من المعقول أن يغيب عن أذهانهم موضوع الاستفسار عن الخلافة؟ أو أن يغفله النبي نفسه؟ ويستطرد ابن خلدون بعد الذي ذكرنا (المصدر نفسه والصفحة نفسها) فيقول: (ثم قال النبي:ائتوني بدواة وقرطاس، أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده؟ فتنازعوا وقال بعضهم: أهجر؟ ثم ذهبوا يعيدون عليه، فقال:دعوني! فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ).

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٤ / ٦٠ - ٦١.

(٢) النجم: ٣، ٤.

(٣) كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر: ٢ / ٢٩٧.

٢٥

ترى ماذا أراد الرسول أن يكتب؟ ولماذا امتنع القوم عن تلبية الطلب؟ هل أراد أن يثبت النص الشفوي على الخلافة، حسب وجهة نظر بعض المسلمين، بالكتابة زيادة في التأكيد، ودفعاً للالتباس؟ ثم أيجوز أن يقال: بأن الرسول يهجر في واحدة من ثلاث قالها بالتتابع في آن واحد؟ أي أن الرسول كان يهجر(١) بنظرهم في مسألة الدواة والقرطاس فقط على حين أنه لم يكن كذلك بنظرهم في إخراج المشركين من جزيرة العرب ومجازاة الوفد بمثل ما كان يجيزهم فيه؟ لقد نفذ أبو بكر الجزء الخاص من وصية الرسول هذه فيما يتصل بجيش أسامة ومحاربة المشركين في جزيرة العرب، في حين أن الرسول قال ذلك في الوقت الذي طلب فيه الدواة والقرطاس.

ومن الطريف أن نذكر هنا أن ابن عباس قد روى محاورة طريفة جرت بينه وبين عمر بن الخطاب في أوائل عهده بالخلافة، ملخصها: أن عمر قال له: (يا عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتها.. هل بقى في نفس علي شيء من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم أن رسول الله نص عليه؟ قلت: نعم. فقال عمر: لقد كان في رسول الله من أمره ذروه من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام.. فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك(٢) . وإذا صحت هذه الرواية فإن عمر يبدو كأنه أحرص على الإسلام من نبيه! وهو أمر كان المفروض في عمر أن لا يهبط إليه.

وإذا أغفلنا؛ لغرض سهولة البحث بقدر ما يتعلق الأمر بموضوع الخلافة من الناحية الدنيوية، أمرَ الاستشهاد بالنصوص التاريخية التي ينفرد بذكرها الفريق

____________________

(١) قال ابن الأثير في النهاية (٥ / ٢٤٦) في مادة هجر: الهجر (بالضم) هو الخنا والقبيح من القول، ومنه حديث مرض النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ما شأنه! أهجر؟.. والقائل كان عمر. (الناشر)

(٢) ابن أبي الحديد (شرح نهج البلاغة) ٣ / ٩٧ وذكر هذا الخبر أحمد ابن أبي طاهر صاحب كتاب (تاريخ بغداد) في كتابه مسنداً.

٢٦

الأول من المسلمين وركزنا اهتمامنا في النصوص التي يذكرها الفريق الثاني من المسلمين، أصبح بمقدورنا أن نجعل دراستنا لهذا الموضوع تسير في هذا المرحلة من مراحلها بالاتجاه التالي:

ترى ما الذي حال بين علي والخلافة بمعناها الزمني بعد وفاة الرسول؟ وقبل أن نتصدى للإجابة على هذا السؤال يجمل بنا أن ننبه القارئ إلى أن ليس لدينا من الأدلة المقنعة ما يحول بيننا وبين الاعتقاد باندثار كثير من النصوص التاريخية المهمة المتعلقة بالنقطة موضوع البحث بطريقة عرضية، أو مقصودة، أو بتحريف بعض آخر، أو وضع نصوص تاريخية معاكسة وبخاصة في صدر الدولة الأموية. ولكننا مع هذا؛ تمشياً مع وحدة البحث وعدم تشتيت موضوعه، قد اعتمدنا قدر المستطاع على النصوص التاريخية التي تذكرها أمهات كتب التاريخ والسير.

أما حوادث الاعتداء على الطالبيين باللسان والسيف والقلم، منذ وفاة الرسول، فتكاد لا تقع تحت حصر، فقد اتخذ الوصوليون من رجال الدين والقضاة والأمراء من انتقاص الطالبيين وأتباعهم وسيلة يتقربون بها من الفئة الحاكمة في العهدين الأموي والعباسي!! وقد شجعتهم الفئة الحاكمة بدورها على ذلك. وفي معرض التحدث عن هذا الجانب من جوانب الموضوع يقول أحد المؤرِّخين(١) : (روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال: كتب معاوية إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته.

وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: ألاَّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه، وأهل ولايته والذين يرون مناقبه وفضائله فادنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا

____________________

(١) ابن أبي الحديد شرح النهج: ٣ / ١٦ (الطبعة المصرية الأولى).

٢٧

في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم من الصلات.. ثم كتب إلى عماله: أن الحديث عن عثمان قد كثر.. فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا واتوا بمناقض له في الصحابة.. فقُرأت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها.. ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة).

لقد مر بنا الاستفسار عن العوامل التي حالت بين علي وبين ارتقائه منبر النبي بعد وفاته مباشرة، وللإجابة على ذلك ينبغي لنا أن نستعرض صفات الإمام منذ نشأته إلى وفاة الرسول ومواقفه من الرسول، ومن الإسلام، وموقف الرسول منه في حالتي السلم والحرب، عسانا نعثر على مفتاح قفل الخلافة.

إننا نحاول بعبارة أخرى أن نجيب عن السؤالين التاليين:

- هل كان الإمام كفؤاً للخلافة بعد الرسول؟

- وإذا كان كذلك فما الذي حال بينه وبينها؟

والبحث في الشق الأول من هذا الموضوع ( أهلية الإمام للخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة) يستلزم التطرق إلى ظروف ملازمته للدعوة الإسلامية منذ نشوئها. ولابد في هذه المناسبة من الإلمام بموقف أبويه من النبي ومن رسالته قبل ذكر مواقفه هو من الرسول ومن الإسلام في حالتي السلم والحرب. وبما أن مواقف أبي طالب وزوجه فاطمة بنت أسد من النبي معروفة لدى من لهم أدنى إلمام بتاريخ الرسول فإننا سنكتفي بذكر نماذج من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر:

ذكر ابن هشام(١) بصدد التحدث عن صد أبي طالب كفار قريش في صدر الدعوة الإسلامية عن البطش بالرسول أنه: (لما رأت قريش أن رسول الله لا يَعْتِبُهُمْ من شيء أَنْكَرُوهُ علَيه من فِرَاقِهِمْ وعَيْبِ آلهتهم ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب: عتبة، وشيبة ابنا ربيعة ابن عبد شمس، وأبو سفيان بن حرب بن أُمية. فقالوا: يا أبي طالب، إن ابن أخيك قد

____________________

(١) سيرة النبي محمد: ١ / ٢٧٦ - ٢٧٩.

٢٨

سب آلهتنا وعاب ديننا. فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً وردهم رداً جميلاً، ثم إنهم مشوا له ثانية فردهم، ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن مغيرة فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد: أنهد فتى في قريش وأجمله.... فخذه وأسلم إلينا ابن أخيك فقال: لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه وأعطيكم ابني تقتلونه؟!).

وقال ابن سعد(١) : (لما توفِّي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله.. وكان يحبه حباً شديداً لا يحبه ولده. وكان لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج فيخرج معه. وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط).

ويذكر ابن الأثير(٢) في حديث عن موقف أبي طالب في حماية الرسول ضد قريش: أن قريشاً عندما رأت الإسلام يفشو ويزيد... وعاد إليهم عمرو بن العاص... من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم وأمنهم عنده، ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون على أن لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يبتاعوا منهم شيئاً. فكتبوا بذلك صحيفة ثم علّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم... فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، فاعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب، وأقام رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) وأبو طالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين) فأكلت الأرضة الصحيفة وأخبر النبي عمه بذلك (وكان أبو طالب لا يشك في قوله، فخرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع الملأ من قريش) فأخبرهم أبو طالب أن الأرضة أكلت صحيفتهم... وأنشد:

و قد كان في أمر الصحيفة عبرة

متى ما يخبّر غائب القوم يعجب

محا الله منهم كفرهم و عقوقهم

وما نقموا من ناطق الحقّ معرب

فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً

ومن يختلق ما ليس بالحقّ يكذب

فلا عجب أن اشتد كفار قريش عليه بعد وفاة عمه أبي طالب حتى قال رسول الله

____________________

(١) الطبقات الكبرى: ١ / ١٠١.

(٢) الكامل في التاريخ: ٢ / ٥٩ - ٦٢.

٢٩

(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):(ما نالت قريش شيئاً مني أكرهه حتى مات أبو طالب) (١) .

والخلاصة كما يقول ابن خلدون(٢) : (أن عبد المطلب جد النبي توفِّي بعد ولادته بثمان سنين، وعهد به إلى ابنه أبي طالب فأحسن ولايته وكفالته. وكان شأنه في رضاعه وشبابه ومرباه عجباً. وتولَّى حفظه وكلاءته من مفارقة أحوال الجاهلية وعصمته * من التلبس بشيء منها). ثم توفِّي (أبو طالب وخديجة، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فعظمت المصيبة وأقدم عليه سفهاء قريش بالإذاية والاستهزاء، وإلقاء القاذورة في مصلاه)(٣) .

ذلك ما يتعلق بأبي طالب وموقفه من الرسول ومن دعوته.

أما موقف السيدة فاطمة أم علي، فيتضح بما صنعه الرسول عند وفاتها حزناً عليها لما أبدته من عطف عليه وعلى رسالته. فقد تقدم رسول الله عند موت فاطمة بنت أسد زوج أبي طالب وأم علي وأسبق نساء العالمين إلى الإسلام بعد خديجة فألبسها فوق كفنها قميصه، ثم نزل إلى القبر فسواه بيده الكريمة فاضطجع إلى جوارها فيه)(٤) .

ذلك ما يتعلق بالبيت المشبع بالعطف على النبي والإيمان برسالته حيث نشأ ابن أبي طالب وترعرع متنقلاً بينه وبين بيت الرسول نفسه وفي كنف السيدة خديجة أم المؤمنين.

أما إذا نظر الباحث إلى مواقف الإمام نفسه في حماية الدعوة الإسلامية وصاحبها من مؤامرات كفار قريش، تلك المواقف التي دلت على كفاءته لتسلم خلافة الرسول بعد وفاته من جهة، والتي أهَّلته بدورها لتسنم ذلك المنصب الرفيع

____________________

(*) يذهب الشيعة الإمامية إلى أن عصمة النبي (ص) ذاتية (الناشر)

(١) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٢ / ٥٩ - ٦٣.

(٢) كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر: ٢ /١٧١.

(٣) المصدر نفسه: ٢ / ١٧٩، ١٨٠.

(٤) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ١ / ٧٠.

٣٠

من جهة أخرى، فإنه يجد تلك المواقف المشرِّفة كثيرة العدد (تتزاحم بالمناكب وتتدافع بالراح) بحيث يصبح أمر الموازنة بينها (لاختيار بعضها للاستشهاد به) من أصعب الأمور. وقبل أن نتطرق إلى ذكر أهمها يجمل بنا أن نشير إلى الظروف الخاصة التي ربطت بين علي والإسلام من جهة، وبينه وبين النبي من جهة أخرى، وبقدر ما يتعلق الأمر بصلة الإسلام بعلي، أو صلة علي بالإسلام يمكننا أن نقول مع العقاد: (لقد ملأ الدين الجديد قلباً لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة، ولم يخالطه شوب بكدر صفائه ويرجع به إلى عقابيله، فبحق ما يقال: إن علياً كان المسلم الخالص على سجيته المثلى، وإن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاماً منه ولا أعمق نفاذاً فيه)(١) .

فقد بُعث النبي على ما يقول الدكتور طه حسين: (وعلي عنده صبي فأسلم.. وظل بعد إسلامه في حجر النبي يعيش بينه وبين خديجة أم المؤمنين، وهو لم يعبد الأوثان قط.. فامتاز بين السابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة. وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزل الوحي بأدق معاني هذه الكلمة)(٢) .

أما الآثار العميقة التي تركتها هذه البيئة الإسلامية الصافية في الإمام، في عقله وقلبه ولسانه ويده، فتعتبر من أوليات الأمور المسلَّم بها عند الباحثين الحديثين في علم النفس وعلم الاجتماع.

وأما أروع مواقفه في نصرة الإسلام ونبيه وصدى ذلك عند الرسول وموقف الرسول منه، فيتجلى فيما يلي:

١ - في مبيته في فراش النبي يوم أزمع كفار قريش على قتله، الأمر الذي اضطره إلى الهجرة من مكة إلى المدينة. وفي معرض التحدث عن ذلك يقول ابن هشام: إن رسول الله أمر علياً قبل هجرته أن ينام على فراشه ويتسجّى ببرده الحضرمي الأخضر بعد أن أخبره بخروجه من مكة تفادياً لبطش كفار قريش. أي أن قريشاً - بعبارة أخرى - لما علمت (أن رسول الله قد صار له شيعة وأنصار من غيرهم.. وأنه مجمع على اللحاق بهم.. تشاوروا ما يصنعوه في أمره،

____________________

(١) العقاد، عبقرية الإمام: ١٣.

(٢) الفتنة الكبرى، ج ١ (عثمان بن عفان): ١٥١.

٣١

واجتمعت لذلك مشيختهم في دار الندوة: عتبة وشيبة وأبو سفيان من بني أُمية.. فتشاوروا في حبسه أو إخراجه عنهم، ثم اتفقوا على أن يتخيَّروا من كل قبيلة منهم فتى شاباً جلداً فيقتلونه جميعاً؛ فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم. واستعدوا لذلك من ليلتهم... فلما رأى أرصادهم على باب منزله، أمر علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه ويتوشّح ببرده)(١) .

وقد أمر النبي علياً (أن يتخلَّف بعده بمكة حتى يؤدّي عنه الودائع التي كانت عنده للناس... فأقام علي بمكة ثلاث ليالٍ وأيامها حتى أدَّى عن رسول الله الودائع... حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله)(٢) فقطع الإمام المسافة بين مكة والمدينة وحده ماشياً حتى ورمت قدماه(٣) .

٢ - مؤاخاة الرسول له حين آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار حيث أخذ بيد علي بن أبي طالب وقال:هذا أخي (٤) .

٣ - في دفاعه عن الإسلام ونبيه أثناء حروبه ضد الكفار، وبخاصة في موقعة أُحد حيث تعرض الرسول ورسالته لأعظم محنة عسكرية... وقد ناول علي سيفه لفاطمة عند رجوعه من أحد قائلاً: (فوالله لقد صدقني اليوم.. كما صدق سهل بن حنيف سيفه كذلك على ما ذكر الرسول ، ثم أنشد يقول:

أفاطم هاك السيف غير ذميم

فلست برعديد و لا بمليم

لعمري لقد قاتلت في حب أحمد

و طاعة رب بالعباد رحيم‏

____________________

(١) ابن هشام، سيرة النبي محمد: ٢ / ٩٥.

(٢) ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر: ٢ / ١٨٧.

(٣) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٢ / ٧٥.

(٤) ابن هشام، سيرة النبي محمد: ٢ / ٩٥، ٩٨، ١١١.

٣٢

وسيفي بكفي كالشهاب أهزه

أجذ به من عاتق وصميم (١)

٤ - في إرساله من قبل النبي إلى مكة عندما نزلت سورة براءة.. (حدَّثني محمد بن الحسين قال: حدَّثنا أحمد بن المفضَّل قال: حدثنا أسباط عن السدي قال: (لما نزلت هذه الآيات إلى رأس الأربعين، يعني من سورة براءة، فبعث بهن رسول الله مع أبي بكر وأمرّه على الحج، فلما صار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة اتبعه بعلي فأخذها منه، فرجع أبو بكر إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي انزل في شأني شيء؟ قال:لا، ولكن لا يبلِّغ عني غيري أو رجل مني... )(٢) .

٥ - في خروجه إلى اليمن مبعوثاً من قبل النبي (وكان أرسل قبله خالد بن الوليد إليهم يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأرسل النبي علياً وأمره أن يعقل خالداً ومن سار من أصحابه ففعل. وقرأ علي كتاباً من رسول الله على أهل اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد...)(٣) .

٦ - في موقف النبي منه في غزوة تبوك حيث خلفه على أهله في المدينة عندما تخلف فيها عبد الله بن أُبي المنافق فيمن تبعه من أهل النفاق)(٤) . وقد قال الإمام أبو الحسن مسلم بن الحجاج في صحيحه(٥) :

____________________

(١) الطبري، تاريخ الأمم والملوك: ٣ / ١٥٤. المسعودي، مروج الذهب: ٢ / ٢٨٤.

(٢) الطبري، تاريخ الأمم والملوك: ٣ / ١٥٤.

(٣) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٢ / ٢٥.

(٤) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٢ / ٧٠.

(٥) صحيح مسلم: ٢ / ٣٢٣.

٣٣

(حدَّثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو جعفر محمد بن الصباح وعبد الله القواريري وسريح بن يونس.. عن سعيد بن المسيب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: قال رسول الله لعلي:أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي .

وحدثنا أبو بكر بن شيبة، عن سعد بن أبي وقاص قال: خلف رسول الله علياً في غزوة تبوك، فقال:يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان؟ قال:أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي ).

٧ - في موقف النبي منه في غزوة خيبر. قال الإمام مسلم في صحيحه: (حدَّثنا قتيبة بن سعيد... عن أبي هريرة، أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) قال يوم خيبر:لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله ... قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة ألا يومئذٍ. قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها. قال: فدعا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلَّم) علي بن أبي طالب فأعطاه إياها)(١) .

وهناك أمور أخرى تتصل بأهلية الإمام لتولي منصب الخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة لا بد من ذكرها في هذه المناسبة:

أ - تفهمه جوهر الدين الإسلامي وإلمامه به من جميع أطرافه وإيمانه به إيماناً صافياً، بيده وقلبه ولسانه. فقد كان علي محظوظاً من دون الصحابة بخلوات كان يخلوها مع رسول الله (ص) لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما، وكان كثير السؤال للنبي عن معاني القرآن... وإذا لم يسأل ابتدأه النبي بالتعليم والتثقيف، ولم يكن أحد من أصحاب النبي كذلك، بل كانوا أقساماً، فمنهم من يهابه أن يسأله، وهم الذين يحبون أن يجيء الأعرابي أو الطارئ فيسأله وهم يستمعون.

____________________

(١) صحيح مسلم: ٢ / ٣٢٤.

٣٤

ومنهم من كان بليداً بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث. ومنهم من كان مشغولاً عن طلب العلم وفهم المعاني إما بعبادة أو دنيا. ومنهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته بالسؤال عن دقائقه وغوامضه(١) .

ب - إشراك الرسول إياه في تنفيذ أوامره المهمة التي تتصل بجوهرة العقيدة الإسلامية، واعتماده عليه في المواقف الحاسمة من تاريخ التبشير بالدعوة الإسلامية، فكأن الرسول أراد بذلك تدريبه وتهئيته لتولي شئون المسلمين من بعده.

يقابل ذلك من الناحية الثانية أن الرسول لم يعهد لكبار الصحابة، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر، بأمثال تلك الأمور الخطيرة. ومما يؤيد وجاهة ما ذهبنا إليه أن أبا بكر قد قام أثناء خلافته بعمل مشابه لما ذكرنا فيما يتصل بعمر بن الخطاب الذي ولي الخلافة من بعده، فقد هيأه إلى تسنم كرسي الخلافة من بعده عن الطريق إيداعه له كثيراً من الأمور المهمة المتصلة بسياسة الدولة العليا.

ج - وهناك أمر ثالث يتصل بترشيح الرسول علياً للخلافة من بعده، ويتعلق هذا الأمر بقضية جيش أسامة. وتفصيل ذلك على ما يقول ابن سعد(٢) :

(ولما كان يوم الاثنين، لأربع ليالٍ بقين من صفر سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله، أمر رسول الله بالتهيُّؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد فقال:(سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحاً على أهل ابني (٣) وحرِّق عليهم وأسْرِع السير وتسبق الأخبار، وإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الإدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك) .

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٣ / ١٧ (طبعة مصر الأولى).

(٢) ابن سعد، الطبقات الكبرى: ٤ / ٣، ٤.

(٣) كذا وجدناه في المطبوع. [والصحيح: أُبْنَى (بالضم ثم السكون وفتح النون والقصر) على وزن فُعْلى كحُبْلَى. موضع بالشام من جهة البلقاء بفلسطين بين عسقلان والرملة. قال الحموي في معجم البلدان: وفي كتاب نصر: (أُبْنَى) قرية بمؤتة.شبكة الإمامين الحسنين (ع) ].

٣٥

فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواءً بيده، ثم قال:(اغز باسم الله، في سبيل الله، فقاتل من كفر بالله) . فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي وعسكر بالجُرْف(١) مع وجوه المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة... فتكلَّم قوم وقالوا: أيستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟ فغضب الرسول غضباً شديداً، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة... فصعد المنبر... وقال:(أما بعد، أيها الناس! فما مقالة قد بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارة أسامة لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله. وايم الله، إن كان للإمارة لخليقاً، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، إن كان لمن أحب الناس إلي وإنهما لمحلان لكل خير، فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم) .

ثم نزل فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول... وثقل رسول الله وجعل يقول:(انفذوا بعث أسامة) .

فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله وجعه فدخل أسامة معسكره والنبي مغمور مغمى عليه.. فطأطأ أسامة فقبَّله ورسول الله لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة، قال: فعرفت أنه يدعو لي، ورجع أسامة إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب... توفِّي رسول الله... أي أن رسول الله قد بعث قبيل وفاته ببضعة أيام بعثاً إلى الشام وأميرهم أسامة بن زيد مولاه... وأوعب مع أسامة

____________________

(١) الجُرف (بالضم ثم السكون): محل بينه وبين المدينة ثلاثة أميال من ناحية الشام، قاله في: مراصد الاطلاع (طبعة عيسى الحلبي - القاهرة): ١ / ٣٢٦. (الناشر)

٣٦

المهاجرون الأولون منهم أبو بكر وعمر. فبينما الناس على ذلك ابتدأ رسول الله مرضه... فتأخر مسير أسامة... فخرج النبي عاصباً رأسه من الصداع... وأمر بإنفاذ جيش أسامة... وخرج أسامة فضرب بالجُرف العسكر وتمهل الناس وثقل رسول الله... ولم تشغله شدة مرضه عن إنفاذ أمر الله) (١) أي أن الرسول عند رجوعه من حجة الوداع على ما يقول ابن خلدون(٢) : (ضرب على الناس... بعثاً إلى الشام وأمّر عليهم مولاه أسامة بن زيد بن حارثة، أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم إلى الأردن من أرض فلسطين ومشارف الشام، فتجهَّز الناس وأوعب معه المهاجرون الأولون. فبينما الناس على ذلك ابتدأ رسول الله بشكواه التي قبضه الله فيها... وخرج رسول الله عاصباً رأسه من الصداع وقال:لقد بلغني أن أقواماً تكلموا في إمارة أسامة، إن يطعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه لحقيقاً بالإمارة وإنه لحقيق بها. انفروا ).

غير أن جيش أسامة لم يصدع بأمر النبي على الرغم من إلحاح الرسول على تنفيذ أمره. وقد ذكر أسامة نفسه أنه: (لما ثقل رسول الله هبطت أنا ومن معي إلى المدينة فدخلنا عليه وقد اصمت(٣) فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها عليّ فعلمت أنه يدعو لي)(٤) .

والغريب في الأمر هو: إلحاح الرسول على ضرورة مسير جيش أسامة إلى

____________________

(١) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٢ / ٢١٥.

(٢) العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر: ٢ / ٢٦٥.

(٣) هذا مخالف لرأي أكثر العامة والخاصة، لأنهم ذكروا أن النبي (ص) كان يتكلم إلى حين وفاته. (الناشر)

(٤) ابن الأثير، المصدر نفسه.

٣٧

الوجهة التي وجهها إيّاه على الرغم من مرضه، وأعجب من ذلك هو تلكؤ القوم وتملصهم عن تنفيذ أمر النبي، فكأن هناك أمراً خفياً يتنازع عليه الطرفان. ترى لماذا ألح الرسول على إنفاذ الجيش في تلك اللحظة الحاسمة من حياته؟ لماذا وضع في الجيش كبار الصحابة وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر واستثنى علي بن أبي طالب؟ ولماذا جعل أسامة قائداً للجيش رغم احتجاج كبار الصحابة؟ لماذا أحجم القوم عن تنفيذ أوامره؟ هل رغب الرسول في إخلاء الجو لعلي؟ وشعر القوم بذلك فأحجموا؟ تلك أسئلة محيرة دون شك.

ثم هل هناك من صلة بين مسألة جيش أسامة وبين رواية الدواة والقرطاس؟ ومما يجعل هذا الأمر المعقد أكثر تعقيداً، هو: أن الرسول قد فقد قدرته على النطق قبيل وفاته(١) وأثناء الانشغال بجيش أسامة، ولكن إشارته باليد إلى أسامة أبلغ وسيلة للتعبير عن رغبته في إنفاذ ذلك الجيش الذي لو نفذ لتغير مجرى التاريخ الإسلامي تغيراً كبيراً.

____________________

(١) راجع تعليقنا على هامش الصفحة المتقدمة من أن النبي (ص) لم يكن ليفقد قدرته على الكلام. (الناشر)

٣٨

[ الفصل الثاني: ] حديث السقيفة.

أ - أبو بكر الصديق

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول: إن علياً كان مهيئاً للخلافة بعد الرسول - هذا إذا نظرنا للخلافة من جوانبها الزمنية - وإن صلاته بالرسول وبالإسلام، وصلات الإسلام والرسول به، تؤهله لذلك.

ولو احتج المسلمون أثناء السقيفة بعد وفاة النبي: (أن علياً كان أقرب الناس إليه، وكان ربيبه، وكان خليفته على ودائعه، وكان أخاه، بحكم تلك المؤاخاة، وكان ختنه وأبا عقبه، وكان صاحب لوائه، وكان خليفته في أهله، وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسى بنص الحديث عن النبي (ص) نفسه. لو قال المسلمون هذا كله واختاروا علياً بحكم هذا كله، لما ابعدوا ولا انحرفوا. وكان كل شيء يرشح علياً للخلافة... قرابته من النبي، وسابقته في الإسلام، ومكانته بين المسلمين، وحسن بلائه في سبيل الله، وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالكتاب والسنة، واستقامة رأيه)(١) .

وقد لخَّص ابن حجر العسقلاني أهم خصائص الإمام حين قال(٢) : (علي بن أبي طالب.. أول الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم، ربى في حجر

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ١ (عثمان بن عفان): ١٥٢، ١٥٣.

(٢) الإصابة في تمييز الصحابة: ٢ / ٥٠١، ٥٠٢.

٣٩

النبي ولم يفارقه، وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة:ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى... ، وكان لواؤه بيده في أكثر المشاهد. ولما آخى النبي أصحابه قال له:أنت أخي . ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي. وقال غيره: كان سبب ذلك بغض بني أُمية له. فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يثبته. وكلما أرادوا إخماده وهدّدوا من حدّث بما فيه لا يزداد إلاّ انتشاراً... ولم يزل بعد النبي متصدياً لنصرة العلم والفتيا... ومن خصائص علي قول الرسول يوم خيبر:لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله... فدفعها لعلي. فقال عمر: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم.... وبعثه يقرأ براءة على قريش وقال:لا يذهب إلا رجل مني وأنا منه.. وقال:علي وليي في الدنيا والآخرة. وأخذ رداء فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين، وقال:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ... ) (١) . ولبس ثوبه ونام في مكانه، وكان المشركون قصدوا قتل النبي... وقال:أنت ولي كل مؤمن بعدي . وسد الأبواب إلا باب علي(٢) فيدخل المسجد جنباً، وهو طريقه، ليس له طريق غيره. وقال:من كنت مولاه فعلي مولاه.. ولما نزلت هذه الآية:( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

(٢) حديث سد الأبواب الا باب علي. ذكره السمهودي في وفاء الوفاء. (الناشر)

٤٠