علي ومناوئوه

علي ومناوئوه0%

علي ومناوئوه مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 219

علي ومناوئوه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 219
المشاهدات: 27322
تحميل: 7493

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 219 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27322 / تحميل: 7493
الحجم الحجم الحجم
علي ومناوئوه

علي ومناوئوه

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ... ) (١) دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال:اللَّهُم هؤلاء أهلي... . وأخرج الترمذي بإسناد قوي عن عمران بن حصين في قصة قال فيها رسول الله:ما تريدون من علي؟ إن علياً مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي ).

فما الذي حال إذن دونه ودون ارتقاء منبر النبي بعد وفاته مباشرة؟

إن الإجابة على هذا السؤال تستلزم أن يتطرق الباحث إلى ذكر ظروف وفاة الرسول؛ وانشغال الإمام بتغسيله وتجهيزه ودفنه والصلاة عليه من جهة، وباجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وموقف عمر بن الخطاب من ذلك كله من جهة أخرى، وإلى قول ذكره عمر، على ما يظن، وتردد على ألسنة بعض القرشيين يتضمن كرههم أن تجتمع النبوة والخلافة للهاشميين.

وخلاصة الأمر: أن الرسول توفِّي في داره بالمدينة سنة ١١ هـ وانشغل علي بأمر تغسيله وتكفينه والصلاة عليه. وكان الجو السياسي خارج دار النبي آنذاك نشطاً مملوءاً بالمفاجآت والأحداث الجسام، وفي مقدمتها مسألة خليفة الرسول. اجتمع عمر بأبي عبيدة بمسجد المدينة وتشاورا في أمر الخلافة، واجتمع سعد بن عبادة بسقيفة بني ساعدة يشاور الأوس والخزرج في أمر الخلافة أيضاً. واجتمعت في أماكن شتى زمر أخرى تتحدث في هذا الأمر الخطير. على حين أن الإمام علياً قد لازم دار النبي، وكان منهمكاً بإعداد الجثمان لوضعه في مثواه الأخير، يساعده نفر من أهل البيت المفجوعين، ومنهم أبو بكر(٢) .

ومما يلفت النظر أن أبا بكر قد قدم من السُّنْح(٣) بعد أن بلغه خبر وفاة الرسول،

____________________

(١) آل عمران: ٦١.

(٢) أبو بكر لم يكن من المفجوعين بوفاة النبي (ص) ليساعد الإمام علي في إعداد جثمان الرسول في مثواه الأخير، وإنما دخل دار الرسول (ص) ليتطلع الأخبار ويدبر أمر الخلافة. راجع كتابنا: (مع رجال الفكر في القاهرة). (الناشر)

(٣) السُّنْح - بالضم، ثم السكون [وقيل: بضم أوله وثانيه، كما في "معجم ما استعجم"شبكة الإمامين الحسنين (ع) ]، وآخره حاء مهملة: إحدى محال المدينة، كان بها منزل أبي بكر، وهي منازل بني الحارث بن الخزرج، بعوالي المدينة. ابن عبد الحق البغدادي، مراصد الاطلاع: ٢ / ٧٤٥ (طبعة عيسى الحلبي - القاهرة). (الناشر)

٤١

فدخل دار النبي في حين أن عمر بن الخطاب قد بقي خارج الدار.

وفي زحمة تلك الظروف طرق باب دار النبي رجل أوفده ابن الخطاب يدعو أبا بكر لمقابلة عمر للتشاور معه في أمر عظيم، فخرج أبو بكر والتقى بصاحبه وسارا معا إلى السقيفة، حيث اجتمع الأوس والخزرج بسعد بن عبادة. استمر الإمام المفجوع منهمكاً في أمر الجثمان والألم يحز نفسه على وفاة الرسول. وساور العباس عم النبي قلق شديد يتصل بإرث النبي، وبالمهمة السرية التي قدم عمر متكتماً من أجلها للتداول مع أبي بكر دون سواه ممن في الدار، فهَمَّ بمبايعة الإمام، غير أن علياً رفض ذلك بشدة احتراماً لجلال الموقف الرهيب.. وتقدم أبو سفيان لمبايعة الإمام بالخلافة أيضاً فنهره... ثلاث مرات...

ويلوح للباحث أن اجتماع الأنصار بابن عبادة في السقيفة لم يكن في ابتدائه رامياً للاستئثار بتراث النبي بقدر ما كان رامياً لتقرير منزلتهم في العهد الجديد. ومهما يكن الأمر، فقد رافق اجتماع السقيفة شيء من التأزم والامتعاض، وبخاصة عندما حضره أبو بكر وأبو عبيدة بن الجرَّاح، غير أنه انتهى بمبايعة أبي بكر على الشكل المعروف.

وخلاصة ذلك(١) : أن الأنصار من الأوس والخزرج - وفيهم سعد بن عبادة الذي كان مريضاً حينذاك - قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول مباشرة للتداول في تقرير مصيرهم في العهد الجديد، فقال سعد بن عبادة لبعض بنيه:

____________________

(١) هذه الخلاصة موجودة في أُمهات كتب التاريخ الإسلامي، وهي هنا ملخَّصة عن الطبري: "تاريخ الأمم والملوك ".

٤٢

إنه لا يستطيع أن يُسمع المجتمعين صوته لمرضه، وأمره أن يتلقَّى منه قوله ويردده على مسامع الناس، فكان سعد يتكلم ويستمع إليه ابنه، ويرفع صوته بعد ذلك. قال سعد - يخاطب الحاضرين -: (إن لكم سابقة إلى الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب... إن رسول الله لبث في قومه بضع عشرة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن من قومه إلا قليل، حتى أراد بكم خير الفضيلة وساق إليكم الكرامة وخصّكم بدينه، فكنتم أشد الناس على من تخلَّف عنه، وأثقلهم على عدوه من غيركم. ثم توفاه الله وهو عنكم راض.. فشدوا أيديكم بهذا الأمر فإنكم أحق الناس وأولاهم به).

وأتى الخبر عمر فأتى باب منزل النبي واستدعى أبا بكر - كما ذكرنا - وخرجا إلى السقيفة، وخطب أبو بكر في المجتمعين فقال: (إنَّا معاشر المسلمين المهاجرين أول الناس إسلاماً، ونحن عشيرة رسول الله.. وأنتم أنصار الله.. وإخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين، وفيما كنا فيه من خير فأنتم أحب الناس إلينا وأكرمهم علينا.. وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، وأحق الناس أن لا يكون انتقاض هذا واختلاطه على أيديكم، وأنا ادعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر، فكلاهما قد رضيت لهذا وكلاهما أراه له أهلاً، فقال عمر وأبو عبيدة: ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك.. فأنت أحق الناس بهذا الأمر.. فقام الحباب بن المنذر من الجموع فقال: (يا معاشر الأنصار، املكوا عليكم أيديكم.. والله ما عُبِد الله علانية إلا عندكم، فأنتم أهل الإيواء والنصرة، وإليكم كانت الهجرة.. فإن أبي هؤلاء، فمنا أمير ومنهم أمير).

فقال عمر: هيهات..

فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة، وكان حاسداً له، وكان من سادات الخزرج، قام فقال:

٤٣

(أيها الأنصار إنا وإن كنا ذوي سابقة فإنا لم نرد بجهادنا، وإسلامنا إلا رضا الله وطاعة نبينا.. إن محمداً رجل من قريش وقومه أحق بميراث أمره.. فاتقوا الله ولا تنازعوهم).

فقام أبو بكر وقال: (هذا عمر وأبو عبيدة، بايعوا أيهما شئتم، فقالا: (والله، لا نتولى هذا عليك.. ابسط يدك نبايعك). فلما بسط يده وذهبا يبايعانه.. سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه.. فناداه الحباب بن المنذر: (يا بشير، عُقَق‏ عَقاقِ؟! والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك!).

ولما رأت الأوس أن رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع، قام أسيد بن حضير، وهو رئيس الأوس، فبايع حسداً لسعد أيضاً ومنافسة له أن يلي الأمة، فبايعت الأوس كلها لما بايع أسيد. وحمل سعد بن عبادة، وهو مريض، فأدخل إلى منزله فامتنع عن البيعة. ثم خرج إلى الشام فاغتيل في أواخر خلافة أبي بكر، وقد اتهم خالد بن الوليد بتدبير مؤامرة الاغتيال.

وبعد الانتهاء من ذلك قصد البراء بن عازب دار النبي وفيها جثمان الرسول وحوله علي وأهل بيته فخاطبهم قائلاً: (لقد شهدتُ أبا بكر بعد السقيفة بعيني: إلى يمينه عمر، وإلى يساره ابن الجراح، لا يمر بهم أحد ولا يمرون بأحد إلا قدموا يده - شاء أم أبى - فمسحوها على يد أبي بكر)(١) .

تلك قصة السقيفة، وهي قصة لا تخلو من أمور وأحداث تسترعي انتباه الباحثين

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ١ / ١٤٩.

٤٤

فمن يتصفح اجتماع السقيفة بدقة وإمعان ويتأمل النتيجة التي أدى إليها ذلك الاجتماع الذي أسفر عن ارتقاء أبي بكر منبر النبي، لا يسعه أن يغفل الدور الحاسم الذي لعبه عمر بن الخطاب في هذا الموضوع الخطير. ولا ندري لماذا أحجم ابن الخطاب عن دخول دار النبي والمساهمة في تهيئة الجثمان ووضعه في مثواه الأخير. ولماذا أحجم ثانية عن دخول الدار، حينما رأى اجتماع الأوس والخزرج في السقيفة، للاتصال مباشرة بأبي بكر؟ لماذا فضَّل عمر أن يمكث بباب دار النبي ويرسل شخصاً غيره يدعو أبا بكر ليقابله خارج الدار؟ ولماذا اقتصرت المشاورة على أبي بكر دون سواه من أهل البيت ومن أصحاب الرسول؟ هل كان وجود أبي بكر داخل دار النبي وبقاء عمر خارجها طليقاً يتصل ويفاوض، من الأمور التي وقعت مصادفة؟ أم كان موضوعاً وفق خطة معينة اتفق عليها الرجلان؟ هل بقي أبو بكر في دار النبي رقيباً على من فيها لضمان عدم مفارقتهم إياها ولمعرفة من يتصل بهم من الأشخاص الموجودين خارجها لتحديد هذا الاتصال في حالة حدوثه، أو لمنع حدوثه بمجرد وجوده هناك؟ هل هناك علاقة بين هذه الحادثة، وبين جيش أسامة وقضية الدواة والقرطاس؟ ما هي الأمور التي تم الاتفاق عليها بين عمر وابن الجراح عندما كانا يتناجيان في مسجد المدينة قبل أن يدعي إليهما أبو بكر؟ لماذا احتج أبو بكر على الأنصار بأفضلية المهاجرين؟ هل كان أبو بكر يعني المهاجرين إطلاقاً، أم الذين حضروا السقيفة - هو وعمر وأبو عبيدة - لكسب معركة الرئاسة؟ وإذا كان المهاجرين أولى بميراث النبي من غيرهم؛ لسابقتهم في الإسلام

٤٥

ولكونهم عشيرة النبي على حد قول أبي بكر، أفلا يصبح الهاشميون أولى من قريش؟ وعلي أولى من الجميع؛ لأن مقياس الفضل - الذي وضعه أبو بكر في كلمته التي ذكرناها - كان ينحصر في السابقة إلى الإسلام وفي القرابة من النبي؟ لماذا رشَّح أبو بكر صاحبيه للخلافة دون سائر المهاجرين؟ ما حقه في ذلك الترشيح؟ ما أثر رضائه عن عمر وأبي عبيدة من الناحية الشرعية؟ ألم يكن باستطاعته أن يدعو الأنصار إلى مبايعة من يرتضونه من المهاجرين إذا كان لا بد من حصر الخلافة في المهاجرين؟ لماذا اقتصر ترشيحه على عمر وأبي عبيدة؟ ولماذا رفض عمر وأبو عبيدة هذا الترشيح؟ ورشَّحا أبا بكر؟ هل حدث ذلك صدفة أم أنه كان جارياً وفق اتفاق سابق؟ هل لتلك الأحداث علاقة بجيش أسامة وبمناجاة عمر وأبي عبيدة في مسجد المدينة؟ وباجتماعهما بأبي بكر أثناء المسير إلى السقيفة؟ أين كان المهاجرون الآخرون أثناء اجتماع السقيفة؟ هل حصل التنابز بين الأنصار، الأوس والخزرج، عفواً؟ أم كانت هناك أيادٍ خفية أثارته في تلك اللحظة الحاسمة من التاريخ؟ هل كان باستطاعة أبي بكر أو عمر أن يقترحا على الأنصار تأجيل البت في أمر الخلافة إلى ما بعد الانتهاء من دفن جثمان الرسول؟ هل لذلك صلة بحديث الدواة والقرطاس وبجيش أسامة؟... تلك أسئلة تسترعي انتباه الباحثين.

وعندي أن الإجابة عليها ذات صلة وثقى بشخصية عمر بن الخطاب (إن الذي يؤخذ على ابن الخطاب حقاً أنه دعا أبا بكر من دار النبي ولم يدع معه أحداً من آل الرسول.. وإنه وضع أبا بكر في كفة الترجيح دون مشورة رجل واحد غير أبي عبيدة ابن الجراح كأنه وكل بقلوب المسلمين يكشفها، وبألسنتهم يجري عليها الكلام رغم

٤٦

تخلّفه عن كثيرين منهم وسبقهم عليه بالإسلام.. ولقد كانت في الرجل دفعة لا مراء، عرفت فيه إبان إسلامه وشركه.. استبدت به جاهليته ذات ليلة... فأقسم ليمشين إلى محمد فيقتله.. تلك كانت دفعة عمر عرفت فيه كبعض خُلقه، راضها الإسلام.. ولكنه لم يأت عليها.. حتى في حضرة الرسول كانت تملكه.. وكذلك كان يوم الحديبية.. فإن عمر لم يتحر مشورة رجل واحد من المسلمين قبل أن يبعث رسوله إلى دار النبي يدعوا صاحبه إليه.. لم يتحرَّ مشورة مسلم واحد في ترشيح الرجل الذي ستصير إليه قيادة الإسلام)(١) .

* * *

لقد مر بنا وصف مجمل للظروف التي أحاطت بوفاة الرسول وبيعة أبي بكر، وهناك أمر آخر يتعلق أشد التعلُّق بموضوع تحويل الخلافة عن علي أشار إليه الجاحظ فيما يتصل بموقف زعماء قريش من علي بعد وفاة الرسول لا بد من ذكره في هذه المناسبة.

فالإمام في حروبه مع النبي ضد قريش كان قد وترها كما يقول الجاحظ: (وسفك دماءها وكشف عن منابذها.. وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس.. هب أنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهلياً.. وقد قتل واحدٌ من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت، أكان إسلامك يُذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل وشنآنه؟.. هذا إذا كان الإسلام صحيحاً.. لا كإسلام كثير من العرب - فبعضهم تقليداً، وبعضهم للطمع والكسب، وبعضهم خوفاً من السيف، وبعضهم عن طريق الحمية والانتصار لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام وأعدائه. واعلم أن كل دم أراقه رسول الله بسيف علي وبسيف غيره فإن العرب بعد

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ١ / ١٨٤.

٤٧

وفاته عصبت تلك الدماء بعلي وحده، لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعتهم وعادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا علي وحده)(١) .

يتضح مما ذكرنا أن الذي حال بين علي والخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة، إذا استثنينا النص على وصيته الذي يقول به فريق من المسلمين، ليس هو شيئاً متعلقاً بأهليته لتحمل مسئولية هذا المنصب الخطير، ولكنه كان، كما رأينا، نتاج ظروف اجتماعية خاصة نتجت عن انشغال الإمام بجثمان الرسول، وعن تنازع بعض كبار المهاجرين والأنصار للاستئثار بتراث الراحل العظيم.

ولو أنصف الناس حق الإنصاف لأرجئوا البيعة حتى يتم لهم مواراة جثمان الرسول.. كان ذلك أدنى إلى الصواب - إن لم يكن هو الصواب - أن يترك القوم من المهاجرين والأنصار لا يتنازعون سلطان محمد بينهم ومحمد ما زال مسجى على فراشه لم يغيبه عن عيونهم مثواه(٢) . ومهما يكن من الأمر فقد نحِّي الإمام علي عن الخلافة، ولكنه مع ذلك، تعاون مع أبي بكر بقلبه ولسانه ويده في جميع الأمور التي تتصل بجوهر الإسلام والمحافظة عليه، استمع إليه يقول:(أما بعد، فإن الله بعث محمداً نذيراً للعالمين.. فلما مضى، تنازع المسلمون الأمر بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تُزْعِجُ هذا الأمر من بعده عن أهل بيته، ولا أنهم منحّوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان (٣) يبايعونه. فأمسكت بيدي حين رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام... فخشيت إن لم انصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل) (٤) .

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٣ / ٢٨٣ (طبعة أولى).

(٢) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ١ / ١٨٤.

(٣) كناية عن أبي بكر بن أبي قحافة.

(٤) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٤ / ١٦٤: ١٦٥ (الطبعة الأولى - مصر).

٤٨

ولم يختلف الإمام مع أبي بكر أو مع الذين جاءوا من بعده إلا في الأمور التي ساقه اجتهاده الشخصي إليها حرصاً على الإسلام كذلك. ويتجلى كبر نفس الإمام في هذا الباب إذا تذكَّرنا بعض المواقف الغليظة التي وقفها منه أبو بكر في صدر خلافته، ربما بتأثير من عمر، وبخاصة في قضية ميراث فدك: (فقد سبقت الشائعات خطوات ابن الخطاب وهو يسير إلى دار فاطمة... لطلب البيعة لأبي بكر. وهل على ألسنة الناس عقال يمنعها أن تروي قصة حطب أمر به ابن الخطاب فأحاط بدار فاطمة وفيها علي وصحبه!!(١) .

وخلاصة قصة فدك: قرية حجازية قريبة من المدينة، سكنها اليهود منذ زمن بعيد وعمّروها وزرعوها، وفي السنة السابعة للهجرة أعلن سكّانها خضوعهم للرسول - دون حرب - فأصبحت فدك خالصة للنبي من دون المسلمين وفق منطوق الآية الكريمة:( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ) (٢) ، وقد وهب الرسول فدك في حياته لابنته فاطمة - بعد أن غرس فيها بيده الكريمة إحدى عشرة نخلة، فكانت السيدة فاطمة هي التي تتصرف بفدك منذ أن وهبها لها أبوها حتى وفاته حيث انتزعها منها أبو بكر بعد توليته الخلافة مباشرة.

وقد أشار إلى ذلك الإمام في إحدى رسائله إلى عثمان بن حنيف حين قال:(بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت بها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين...) (٣) .

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ١ / ٢١٦.

(٢) الحشر: ٦.

(٣) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٤ / ٧٨ (الطبعة الأولى - مصر).

٤٩

فالسيدة فاطمة إذن تستحق ميراث فدك من ناحيتين، هما: الميراث، والنحلة. وكان على الخليفة، وقد ارتأى انتزاعها منها، أن يبقيها تحت تصرّفها مجاملة للرسول ولها، ويقترح - في حالة اختلافه معها - إنفاق بعض غلتها في وجوه الخير التي يتفق عليها الطرفان، هذا إذا سلَّمنا جدلاً بأنها لا ترث أباها، وأن النبي لم يهبها إياها في حياته.

كما كان على الخليفة كذلك، من الناحية القانونية العرفية، وقد قرَّر أن ينتزعها من السيدة، أن يستبقيها في يدها إلى أن يثبت له عدم أحقيتها بها. ومن الطريف أن نذكر قبل التصدي للبحث في طبيعة النزاع بين الزهراء وأبي بكر في قضية فدك، أن فدك بقيت بيد الخلفاء الراشدين، فلما استولى معاوية على الملك قسَّمها مثالثة بين: مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان بن عفان ويزيد ابنه، وهو أمر على جانب كبير من الغرابة، غير أنها قد أصبحت خالصة لمروان في خلافته فوهبها لابنه عبد العزيز الذي وهبها بدوره لابنه عمر الذي ردها عند توليته الخلافة لأولاد فاطمة. وكان رده إياها، على ما يقول المؤرخون: أول ظلامة ردها، فلما ولى يزيد قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان، وبقيت كذلك إلى سقوط دولتهم. فلما جاء العباسيون ردها السفاح إلى أهلها، ثم قبضها المنصور، وردها ابنه المهدي، وقبضها الهادي والرشيد، وردها المأمون بعد أن ناظره في أمرها شيخ طاعن في السن، ثم قبضها المعتصم.. وبعد ذلك ضاعت معالمها على المؤرِّخين.

ويلوح مما ذكرنا أن فدك كانت وسيلة بيد الخليفة، إن شاء ردها لأهلها وإن شاء قبضها عنهم؛ وفق: مزاجه الخاص وحالته النفسية من جهة، وموقف الطالبيين في زمانه من الأحداث السياسية العامة في الدولة من جهة أخرى.

٥٠

ولما كان إرجاع فدك إلى ورثة السيدة فاطمة قد حصل في عهد المأمون بشكل يدعو إلى التأمل، ويشير بصراحة، لا لبس فيها ولا غموض، إلى حق السيدة في فدك؛ لذلك نرى هنا إثباته بالشكل الذي ذكره البلاذري(١) : (ولما كانت سنة عشرة ومئتين، أمر المأمون.. برد فدك إلى ولد فاطمة، وكتب بذلك إلى قثم بن جعفر عامله على المدينة: أما بعد، فإن المؤمنين بمكانة من دين الله وخلافة رسوله والقرابة به أولى من استن سنته ونفذ أمره وسلّم لمن منحه منحة وتصدق عليه بصدقة منحته وصدقته. وقد كان رسول الله أعطى فاطمة بنت رسول الله فدكاً وتصدَّق بها عليها. وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه.. فرأى أمير المؤمنين أن يردَّها إلى ورثتها ويسلمها إليهم تقرُّباً إلى الله بإقامة حقه وعدله، وإلى رسول الله بتنفيذ أمره وصدقته. فأمر بإثبات ذلك في دواوينه والكتابة به إلى عمّاله. فلئن كان ينادى في كل موسم بعد أن قبض الله رسوله: أن يذكر كل من كانت له صدقة أو عدة ذلك فيقبل قوله وينفذ عدته، أن فاطمة لأولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله لها. وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري، مولى أمير المؤمنين، يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة إليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك إلى: محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين إياهمها القيام بها لأهلها. فأعلم ذلك من رأى أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفَّقه له من التقرُّب إليه وإلى رسوله واعلمه من قبلك.

____________________

(١) فتوح البلدان ص ٤٦، ٤٧.

٥١

وعامل محمد بن يحيى ومحمد بن عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها إن شاء الله. والسلام). وقد كتب ذلك في يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة ٢١٠ هـ.

وتصدي أبو بكر للرد على السيدة فاطمة(١) في موضوع فدك من (ناحية الميراث) إلى حديث انفرد بذكره على ما يبدو، هو:(نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة) . وقد انفرد أبو بكر كذلك بذكر حديث آخر عندما اختلف المسلمون في محل دفن النبي فقال: سمعت رسول الله يقول:(ما قبض نبي إلا ودفن حيث قبض) في حين أن التاريخ - على ما يذكر الطبري - يخبرنا أن الكثيرين من أنبياء بني إسرائيل قد دفنوا في غير الأماكن التي قبضوا فيها.

وقد استغربت السيدة من ذلك أشد الاستغراب، وكانت هي دون شك أولى من غيرها بسماعه؛ لأنه يخصها أكثر مما يخص أبي بكر. كما أن علياً لم يسمعه كذلك؛ بدليل أن فاطمة لم تخرج إلى أبي بكر مطالبة بميراثها من فدك إلا بعلم منه وإذن منه كذلك. ولا ندري لماذا همس الرسول بهذا الحديث إلى أبي بكر دون سائر المسلمين؟! وقبل أن يصبح أبو بكر طرفاً في النزاع على هذا الميراث الذي يتصل بفاطمة وبنيها أشد الاتصال!!

ومما يضعف هذا الحديث - بنظر فاطمة - أنه يتنافى هو وكثير من الآيات القرآنية الصريحة في هذا الباب.

____________________

(١) وقد امتعضت السيدة فاطمة من موقفه، ولم تكلمه إلى أن توفِّيت - بعد وفاة أبيها باثنتين وسبعين ليلة - وذكر البخاري في الصحيح أن النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم) قال:فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها . (الناشر)

٥٢

فقد جاء في ذكر الميراث بشكل مطلق، دون أن يُستثنى الأنبياء من ذلك، قوله تعالى في سورة النساء:( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (١) . وجاء في ذكر الميراث الذي وقع بالفعل للأنبياء الذين سبقوا محمداً قوله تعالى في سورة النمل:( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) (٢) . وخاطب زكريا ربه في سورة مريم( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (٣) .

لقد أشارت السيدة فاطمة إلى ذلك كله في مناقشتها لأبي بكر بمحضر جماعة من الصحابة، ثم ختمت محاورتها مع الخليفة قائلة:(فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك... فنِعم الحكم الله... والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون... يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ ( لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيّاً ) ، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء أظهركم؟ ألم تسمع قوله تعالى: ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) ؟ أخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون: أهلي ملتين لا يتوارثان؟ أولستُ أنا وأبي من أهلي ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

ولما رأت السيدة فاطمة أن الخليفة مصر على رأيه تركت الأمر وأعرضت عنه. ويلوح للباحث أن السيدة فاطمة كانت عارفة منذ البداية أن الخليفة سوف

____________________

(١) النساء ١١.

(٢) النمل ١٦.

(٣) مريم ٥، ٦.

٥٣

لا يعيد لها فدك، وأنها ذهبت إليه لإلقاء الحجة عليه، ولعل ذلك راجع إلى أنها لم تعرف من حيث الأساس بشرعية خلافته، فالشخص الذي له القدرة والجرأة على سلب الخلافة من صاحبها الشرعي بنظرها لهو أقدر على سلب فدك وأمثالها!

إذا أمعن الباحث في الحديث الذي ذكره أبو بكر في ضوء سيرة الرسول بصورة عامة، أمكنه أن يقول: إن الرسول لم يستثن نفسه من الخضوع للقواعد العامة التي جاء بها الإسلام، فما عُرف عنه أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نصلى أو لا نصوم... إلخ) فكيف يعزل عن ميراث فدك وحده! فهل لقضية فدك جانب سياسي؟ هل قصد بذلك إخضاع السيدة فاطمة وزوجها لأوامر الخليفة لإرغامها على الاعتراف بخلافته التي قابلاها بالصدود والامتعاض؟ وهل لهذا الموضوع جانب اقتصادي؟ هل قصد بذلك حرمان علي من التمتع بواردات فدك، وهي مورده الوحيد؛لكيلا يصبح مكتفياً من الناحية الاقتصادية وليصرفه ذلك عن المطالبة بالخلافة؟ هل لموضوع فدك جانب مالي يتصل بوضع الدولة الإسلامية آنذاك وحاجتها إلى المال لمواجهة الذين اتهموا بالارتداد عن دفع الزكاة؟ هل لقضية فدك جانب معنوي يتعلق بمحاولة تضعيف موقف آل النبي عند عامة المسلمين، فيقال: إن النبي قد حرمهم كل شيء حتى ميراثه من فدك، فتضعف حجتهم بالمطالبة بالخلافة؟ هل لموضوع فدك أكثر من عامل واحد؟ ثم لماذا وضع الرسول - إن صح الحديث الذي استشهد به الخليفة - صيغته بهذا الشكل من الإطلاق بحيث جعله يشمل معاشر الأنبياء كافة؟ ما الهدف الذي كان يرمي إليه الرسول من هذا الحديث؟ هل كان يخشى أن تتصرف السيدة فاطمة بعوائد فدك في غير أوجهها السليمة؟! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا وضعها تحت تصرفها في حياته؟

٥٤

ويجمل بنا قبل أن نتصدى لبحث فدك من (ناحية النحلة) أن ننبه القارئ إلى أننا عثرنا على نقاش رائع من حيث الفكرة والأسلوب حصل بين قاضي القضاة والشريف المرتضى ذكره ابن أبي الحديد(١) الأول: ينفي أن يورِّث الأنبياء، والثاني: يثبته. يدلل الأول على رأيه بأن ما ورد في القرآن لا يتضمن إلا وراثة العلم والفضل. ويبرهن الثاني على أن الإرث يتضمن المال والعقار أو لا، ومن ثم العلم والفضل من باب التجوز؛ وأن كلمة ميراث في اللغة وما يتصل بها من المشتقات تعني ميراث الأمور المعنوية من باب التجوز والاتساع، وأن الدلالة إذا دلت في بعض الألفاظ على معنى المجاز فلا يجب أن يقتصر عليه، بل يجب أن نحمل معناها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع. وإذا فرضنا جدلاً أن الميراث يقتصر على العلم والفضل ألا يكون آل النبي، بحكم ذلك الميراث، أولى من غيرهم بالخلافة!

ذلك ما يتصل بموضوع فدك من(ناحية الميراث) .

أما ما يتصل به من(ناحية النحلة) ، فقد ذكرت السيدة فاطمة لأبي بكر أن رسول الله قد وهبها فدك، فطلب الخليفة منها البينة على ذلك، فقدَّمت له علياً، وأم أيمن - مربية الرسول - فلم يلتفت إلى ذلك وبدا كالمتشكك في شهادة سيدة، قمين بأبي بكر أن يسمو بها عن التشكك(٢) ؛ فليس من المتوقع أن تكذب السيدة فاطمة على أبيها بعد موته بعشرة أيام فقط، وفي مسألة تافهة كفدك، أو أن تكذب أم أيمن العجوز الجليلة التي رافقت الرسول من المهد إلى اللحد، أم أيمن التي خرجت مهاجرة إلى رسول الله من مكة إلى المدينة وهي ماشية وليس معها زاد، أم أيمن زوج زيد بن حارثة مولى النبي وأم أسامة بن زيد!! أو أن يكذب ابن أبي طالب!!

____________________

(١) شرح نهج البلاغة: ٤ / ٧٨ - ١٠٣.

(٢) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ١ / ٢١٦.

٥٥

ولا ندري كيف فات أبا بكر أن يتذكر أن الله قد أنزل قرآناً في علي وفاطمة وأذهب عنهما الرجس(١) .

وقد كان المتوقع أن يكتفي الخليفة برواية فاطمة وحدها كما اكتفى أبوها قبل ذلك حين نازعه أعرابي في ناقة ادعى كل منهما أنها ناقته. فشهد خزيمة بن ثابت للرسول فأجاز شهادته وجعلها شهادتين؛ فسمى: ذا الشهادتين، ولكن موضوع السيدة فاطمة - مع هذا - لا يحتاج إلى شهود ذلك؛ لأنها روت رواية عن أبيها، كما روى أبو بكر رواية أخرى. وأن السيدة فاطمة لم تطلب منه البينة على ما ادعاه على الرغم من شكها في صحته.

أما الشهود فموقعهم في الدعوى:

استمع إلى قوله تعالى في سورة البقرة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ) (٢) . والحجة التي نستند إليها في أهمية شهادة فاطمة أن موقفها عند الرسول - من حيث صدقها - لا يقل، على أسوأ الفروض، عن موقع خزيمة بن ثابت. ويصدق الشيء نفسه على أم أيمن، وابن أبي طالب الذي لم يعرف عنه قط إلا اتباع الحق وقول الصدق. فموقف أبي بكر غريب في بابه: وأغرب منه أنه ترك سيف رسول الله ونعله وعمامته في يد علي على سبيل النحلة، بغير بينة ظهرت ولا شهادة قامت. كما أنه لم ينتزع من علي الخاتم والسيف اللذين وهبهما له النبي أثناء مرضه. ولم يطالب كذلك بثياب الرسول التي مات فيها فأخذتها فاطمة بعد موته، ولا بحجر رسول الله التي بقيت بيد نسائه.

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

(٢) البقرة: ٢٨٢.

٥٦

ولم يطلب أبو بكر من جابر - على رواية البخاري(١) - البينة على دعواه حين زعم أن رسول الله وعده بإعطائه مقداراً معيناً من المال، بل سلَّمه إياه عند ما ورده مال من قبل العلاء بن الحضرمي.

كما أن أبا بكر أيضاً لم يطلب البينة - عندما قَدِم عليه مال من البحرين - من أبي بشير المازني حين ادعى أن النبي قال له:إذا جاءنا شيء فائتنا ، وإنما دفع له حفنتين أو ثلاثاً من ذلك المال.

وإذا كان النبي لا يُورِّث، وما تركه صدقة، فكيف يجوز أن يوارى جثمانه في الحجرة التي كانت تسكنها زوجته عائشة بنت الخليفة؟ لأن تلك الحجرة قد أصبحت صدقة بعد وفاة الرسول مباشرة بحكم ذلك الحديث.

ثم كيف نوفِّق بين ذلك الحديث وبين الحديث الآخر الذي انفرد بذكره أبو بكر القائل بأن الأنبياء يدفنون حيث يُقبضون؟ أفي الحديث ناسخ ومنسوخ؟ ثم كيف نفّذ الخليفة محتويات (الحديثين) على تناقضهما؟ وبقدر ما يتعلق الأمر بالحديث الثاني يمكننا أن نقول: إن النبي يموت في أحد موضعين: ما كان يملكه قبل وفاته! وما كان يملكه غيره من الناس. ولا يجوز أن يدفن جثمانه في المحل الأول لأنه أصبح صدقة على رواية أبي بكر عن النبي، كما لا يجوز دفنه في المحل الثاني لأن ملكيته عائدة لغيره. كيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق الحرج؟ ثم كيف جاز لأبي بكر نفسه أن يطلب بدفن جثمانه قرب النبي؟ في أرض لا حق له بها من الناحية الشرعية؟وإذا كان دفن جثمان النبي على الشكل الذي ذكرناه مستنداً إلى الحديث الذي ذكره أبو بكر، فإلى أي حديث يستند أبو بكر في طلب دفنه بجوار النبي؟ هل قال النبي: يدفن الخليفة الأول قريباً مني؟

____________________

(١) صحيح البخاري: ٣ / ١٨٠.

٥٧

كل ذلك غريب في بابه، وأغرب منه أن كثيراً من المفسرين قد تكلّفوا فيما بعد تفسير آيات الميراث، فزعموا للرد على من طعن بصحة الحديث بأن الوراثة المذكور في القرآن مقصورة على العلم والفضل، دون سائر الأمور. ولسنا نعلم كيف يورث العلم والفضل، وهو أمر يخالف ما ألفه الناس من قديم الزمان، ويتعارض مع أبسط مبادئ علم النفس وعلم الاجتماع؟

وأغرب من ذلك كله أن الخليفة يحرم السيدة فاطمة ميراث فدك ليطبق الحديث الذي انفرد بذكره، في الوقت الذي يخالف فيه حديثاً آخر أجمع الرواة على صحته باعتراف أبي بكر نفسه:(فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله) (١) . ولا ندري - بالإضافة إلى كل ما ذكرنا - كيف فات أبا بكر أن يتذكر موقف الرسول من أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت خديجة زوج النبي حين أسر في بدر مع المشركين.. وإلى القارئ تلك القصة على رواها ابن الأثير(٢) :

(وكان في الأُسآرى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس زوج زينب بنت خديجة(٣) .

____________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه. (الناشر)

(٢) الكامل في التاريخ: ٢ / ٩٣ - ٩٥.

(٣) وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة زوج رسول الله، فسألته أن يزوجه زينب ففعل قبل أن يوحى إليه، فلما أوحى إليه آمنت به زينب وبقى أبو العاص مشركاً، ولم يستطع الرسول في بادئ الأمر أن يفعل شيئاً تجاه زينب المسلمة أو زوجها المشرك. فلما هاجر إلى المدينة ووقعت بدر وأسر أبو العاص وأطلق سراحه كما ذكرنا، أخبر النبيَ بأنه سوف يرسل إليه زينب إلى المدينة، فأرسل الرسول زيد بن حارثة مولاه ورجلاً آخر من الأنصار ليصحبا زينب من مكة. فلما قدم أبو العاص أمرها باللحاق بالنبي ففعلت ذلك.

٥٨

فلما بعثت قريش في فداء الأُسآرى، بعثت زينب بفداء أبي العاص زوجها بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها معها، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة، وقال:إن رأيتم أن تطلقوا أسيرها وتردّوا عليها الذي لها فافعلوا ، فأطلقوا لها أسيرها وردوا القلادة... فلما كان قبل الفتح خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام بأمواله وأموال رجال قريش. فلما عاد لقيته سرية لرسول الله فأخذوا ما معه وهرب منهم، فلما كان الليل أتى إلى المدينة فدخل على زينب. فلما كان الصبح خرج رسول الله إلى الصلاة فنادت زينب من صفة النساء: (أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص.. فقال رسول الله:إن رأيتم أن تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإذا أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم وأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله نرده عليه، فردوا ماله كله حتى الشظاظ)(١) .

نقول: ألم يكن باستطاعة أبي بكر - في حالة التسليم معه بأن السيدة فاطمة لا ترث أبيها، وأن النبي لم يهب فدكاً لها - أن يتخذ موقفاً كهذا الذي أشرنا إليه؟ مع وجود الفارق الكبير بين الحالتين، فقد وهب المسلمون حقهم لأبي العاص المشرك، وكانوا - دون شك - على استعداد تام لوهب حقوقهم - في حالة التسليم بصحة الإجراءات التي اتخذها الخليفة - إلى ابنة الرسول. ألم يكن تصرّف الرسول مع أبي العاص - في الحالتين - سنة! فهل يعتبر ترك أبي بكر لها - في هذه الحالة - منسجما مع السنة!!

____________________

(١) شظاظ على وزن كتاب، وهو: خشبة عقفاء تجعل في عروتي الجولقين.

٥٩

ب - عمر بن الخطاب

(أما والله لقد تقمَّصها (١) ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى.. فسدلت دونها ثوباً.. حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده.. فصبرت على طول المدة وشدة المحنة.. فواعجباً بينما هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لَشَدَّ ما تشَطَّرَا ضرْعَيْها).

وهكذا كان! انتقلت الخلافة التي تسلمها أبو بكر بجهود عمر - كما ذكرنا في حديث السقيفة - إلى عمر نفسه بعد وفاة صاحبه. وقبل أن يوصى أبو بكر بالخلافة من بعده لعمر، استدعى قبل وفاته عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان لاستشارتهما في موضوع تخليفه عمر بن الخطاب، فسألهما رأيهما في عمر:

فكان جواب الأول: أن عمر (أفضل من رأيك فيه)(٢) مع العلم أن عمر كان يحتل المركز الأول

____________________

(١) تقمَّصها: جعلها كالقميص مشتملة عليه، والضمير للخلافة، ولم يذكرها للعلم بها... فسدلتُ: أرخيتُ... ومضى لسبيله: مات... وقوله:(فأدلى بها) من قوله تعالى:( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ) (البقرة: ١٨٨) أي تدفعوها إليهم رشوة. وأصلها من أدلت الدلو في البئر أرسلتها... كان علي يرى العدول عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق... من باب الاستعارة. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ١ / ٥٠ - ٦٧ (الطبعة الأولى).

(٢) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ١ / ٢٣٩.

٦٠