مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 50835
تحميل: 6387

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50835 / تحميل: 6387
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

وشؤونها تصبح حالة تكرارية، تصبح بتعبير آخر: محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله إلى المستقبل، بدلاً عن التطلّع إليه فقط، يكون في الحقيقة تجميداً لهذا الواقع وتحويله من حالة نسبية ومن أمر محدود إلى أمر مطلق؛ لأنّ الإنسان يعتبره هدفاً ومثلاً أعلى.

وحينما يتحوّل هذا الواقع من أمر محدود إلى هدف مطلق، إلى حقيقة مطلقة، لا يتصوّر الإنسان شيئاً وراءها، حينما يتحوّل إلى ذلك، سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية لحالة سابقة؛ ولهذا سوف يكون المستقبل تكراراً للواقع وللماضي.

هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية إلى ظروف مطلقة؛ لكي لا تستطيع الجماعة البشرية أنْ تتجاوز الواقع، وأنْ ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع.

تبنِّي هذا النوع من المثل العليا له أحد سببين:

*السبب الأوّل :

الأُلفة، والعادة، والخمول، والضياع. وهذا سبب نفسي، وإذا انتشرتْ هذه الحالة في مجتمع حينئذٍ يتجمّد ذلك المجتمع؛ لأنّه سوف يصنع آلهة من واقعه، سوف يحوّل هذا الواقع النسبي المحدود الذي يعيشه إلى حقيقة مطلقة، إلى مثل أعلى، إلى هدفٍ لا يرى وراءه شيئاً.

وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم

١٢١

في كثير من الآيات التي تحدّثت عن المجتمعات التي واجهت الأنبياء، حينما جاءوها بمُثُل عُلْيَا حقيقية ترتفع عن الواقع، وتريد أنْ تحرِّك هذا الواقع وتنتزعه من حدوده النسبية إلى وضع آخر.

واجه هؤلاء الأنبياءُ مجتمعاتٍ سادَتْها حالةُ الأُلفة، والعادة، والتميُّع، فكان هذا المجتمع يردّ على دعوة الأنبياء ويقول: بأنّنا وجدنا آباءنا على هذه السنّة، وجدنا آباءنا على هذه الطريقة، ونحن متمسِّكون بمثلهم الأعلى.

سيطرةُ الواقع على أذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ إلى درجةٍ تحوّل هذا من خلالها إلى إنسان حِسِّي لا إلى إنسان مفكِّر، إلى إنسان يكون ابن يومه دائماً، ابن واقعه دائماً، لا أبا يومه، أبا واقعه؛ ولهذا لا يستطيع أنْ يرتفع على هذا الواقع.

لاحظوا القرآن الكريم وهو يقول:

( قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (١) .

( قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (٢) .

( قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) (٣) .

____________

(١) سورة البقرة: الآية (١٧٠).

(٢) سورة المائدة: الآية (١٠٤).

(٣) سورة يونس: الآية (٧٨).

١٢٢

( أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) (١) .

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ) (٢) .

( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) (٣) .

في كل هذه الآيات يستعرض القرآنُ الكريم السببَ الأوّل لتبنِّي المجتمع هذا المثل الأعلى المنخفض. هؤلاء بحكم الأُلفة والعادة، وبحكم التميّع والفراغ، وجدوا سنّةً قائمةً، وجدوا وضعاً قائماً، فلم يسمحوا لأنفسهم بأنْ يتجاوزوه، بل جسّدوه كمثلٍ أعلى، وعارضوا به دعوات الأنبياء على مرِّ التاريخ. هذا هو السبب الأوّل لتبنِّي هذا المثل الأعلى المنخفض.

* السبب الثاني:

لتبنِّي هذا المثل الأعلى المنخفض هو التسلّط الفرعوني على مرّ التاريخ. الفراعنةُ حينما يحتلّون مراكزهم، يجدون في أيّ تطلع إلى المستقبل وفي أيّ تجاوز للواقع الذي سيطروا

____________

(١) سورة هود: الآية (٦٢).

(٢) سورة إبراهيم: الآية (١٠).

(٣) سورة الزخرف: الآية (٢٢).

١٢٣

عليه، يجدون في ذلك زعزعةً لوجودهم وهزّاً لمراكزهم.

من هنا كان من مصلحة فرعون على مر التاريخ أنْ يغمض عيون الناس على هذا الواقع، أنْ يحوّل الواقع الذي يعيشه مع الناس إلى مطلق، إلى إله، إلى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه، يحاول أنْ يحبس وأنْ يضع كلّ الأمّة في إطار نظرته هو، في إطار وجوده هو؛ لكي لا يمكن لهذه الأمّة أنْ تُفتِّش عن مثل أعلى ينقلها من الحاضر إلى المستقبل، من واقعه إلى طموح آخر، أو أكبر من هذا الواقع. هنا السببُ اجتماعي لا نفسي، السبب خارجي لا داخلي.

وهذا أيضاً ما عرضه القرآنُ الكريم:

( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) (١) .

( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (٢) .

هنا فرعون يقول: ما أُريكم إلاّ ما أرى. يريد أنْ يضع الناس الذين يعبدونه كلَّهم في إطار رؤيته، في إطار نظرته، يحوّل هذه النظرة وهذا الواقع إلى مطلق لا يمكن تجاوزه، هنا الذي يجعل المجتمع يتبنّى مثلاً أعلى مستمداً من الواقع هو التسلُّط الفرعوني، الذي يرى في تجاوز هذا المثل الأعلى خطراً عليه وعلى وجوده. قال الله سبحانه وتعالى:

( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى

____________

(١) سورة القصص: الآية (٣٨).

(٢) سورة غافر: الآية (٢٩).

١٢٤

وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) (١) .

نحن غير مستعدِّين أنْ نؤمن بهذا المثل الأعلى الذي جاء به موسى؛ لأنّه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لنا.

إذنْ، هذا التجميد ضمن إطار الواقع الذي تعيشه الجماعة - أيّ جماعة بشرية - ينشأ من حرص أولئك الذين تسلّطوا على هذه الجماعة، على أنْ يَضْمِنوا وجودهم ويضمنوا الواقع الذي هم فيه، وهم بُنَاتِهِ. هذا هو السبب الثاني الذي عرضه القرآن الكريم.

والقرآن الكريم يسمِّي هذا النوع من القوى التي تحاول أنْ تحوِّل هذا الواقع المحدود إلى مطلق، وتحصر الجماعة البشرية في إطار هذا المحدود، يسمِّي هذا بـ ( الطاغوت ). قال سبحانه وتعالى:

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) (٢) .

لاحظوا، ذَكَرَ صفةً أساسية مميَّزة لِمَنْ اجتنب عبادة الطاغوت، ما هي؟

____________

(١) سورة المؤمنون: الآية (٤٥ - ٤٧).

(٢) سورة الزمر: الآية (١٧ - ١٨).

١٢٥

قال:

( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (١) .

* يعني لم يجعلوا هناك قيداً على ذهنهم.

* لم يجعلوا إطاراً محدوداً لا يمكنهم أنْ يتجاوزوه.

* جعلوا الحقيقة مدار همِّهم، هدفهم؛ ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه، يعني: هم في حالة تطلّع وموضوعية تسمح لهم بأنْ يجدوا الحقيقة، يتَّبعوها.

بينما لو كانوا يعبدون الطاغوت، حينئذٍ يكونون في إطار هذا الواقع الذي يريده الطاغوت، سوف لن يستطيعوا أنْ يستمعوا إلى القول فيتبعون أحسنه، وإنّما يتّبعون فقط ما يراد لهم أنْ يتبعوه. هذا هو السبب الثاني لاتباع وتبنِّي هذه المثل.

إذنْ، خلاصة ما مرّ بنا حتى الآن:

* أنّ التاريخ يتحرّك من خلال البناء الداخلي للإنسان، الذي يصنع للإنسان غاياته.

* هذه الغايات تُبْنى على أساس المثل الأعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات.

* لكلِّ مجتمع مثلٌ أعلى، ولكن مثل أعلى مسار ومسيرة. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدِّد في تلك المسيرة معالم الطريق، وهو على ثلاثة أقسام، حتى الآن استعرضنا القسم الأوّل من المثل العليا وهو المثل الأعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع، ويكون منتزعاً

____________

(١) سورة الزمر: الآية (١٧ - ١٨).

١٢٦

عن الواقع الذي تعيشه الجماعة، وهذا مثل أعلى تكراري، وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الأعلى حركة تكرارية، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل، وقلنا بأنّ تبنّي هذا النوع من المثل الأعلى يقود إلى أحد سببين بحسب تصورات القرآن الكريم:

* السبب الأوّل: سبب نفسي، وهو الأُلفة والعادة والضياع.

* والسبب الآخر: سبب خارجي، وهو تسلّط الفراعنة والطواغيت على مرّ التاريخ.

١٢٧

الدرس العاشر:

هذه المثل العليا المنخفضة المتنوّعة عن الواقع - والتي تحدّثنا عنها في الدرس السابق - في كثير من الأحيان تتّخِذ طابع الدِّين، ويُسبغ عليها هذا الطابع؛ من أجل إعطائها قُدسيّة تحافظ على بقائها واستمرارها على الساحة، كما رأينا في الآيات الكريمة المتقدِّمة كيف أنّ المجتمعات التي رفضت دعوة الأنبياء كثيراً ما كانت تصرّ على التمسّك بعبادة الآباء وبدين الآباء، بالمَثَل الأعلى المعبود للآباء.

بل إنّ الحقيقة أنّ كلّ مثل أعلى من هذه المثل العليا المنخفضة لا ينفكّ عن الثوب الديني، سواء اُبرز بشكل صريح أو لم يبرز؛ لأنّ المثل الأعلى دائماً يحتلّ مركز الإله بحسب التعبير القرآني والإسلامي.

ودائماً تستبطن علاقة الأمّة بمثلها الأعلى نوعاً من العبادة، من العبادة لهذا المثل الأعلى، وليس الدين بشكله العام إلاّ علاقة عابد بمعبود.

إذاً، المثل الأعلى لا ينفك عن الثوب الديني، سواء كان ثوباً دينياً صريحاً أو ثوباً

١٢٨

دينياً مستتراً مُبَرْقَعَاً تحت شعارات أخرى، فهو في جوهره دين وفي جوهره عبادة وانسياق.

إلاّ أنّ هذه الأديان التي تفرزها هذه المثل العليا المنخفضة أديانٌ محدودة، تبعاً لمحدودية نفس هذه المثل، لما كانت هذه المثل مُثُلاً منخفضة ومحدودة قد حوّلت بصورة مصطنعة إلى مطلقات، وإلاّ هي في الحقيقة ليست إلاّ تصوّرات جزئية عبر الطريق الطويل الطويل للإنسان، إلاّ أنّها حوّلت إلى مطلقات بصورة مصطنعة.

إذاً، هذه المحدودية في المثل تعكس الأديان التي تفرزها، فالأديان التي تفرزها هذه المثل، أو بالتعبير الأحرى:

الأديان التي يفرزها الإنسان من خلال صنع هذه المثل، ومن خلال عملقة هذه المثل، وتطويرها من تصوّرات إلى مطلقات، هذه الأديان تكون أدياناً محدودة، وضئيلة، وتجزئة.

وهذه التجزئة في مقابل دين التوحيد - الذي سوف نتكلّم عنه حينما نتحدّث عن مثله الأعلى القادر على استيعاب البشرية بأبعادها، وأديان التجزئة هذه، وهذه الآلهة، التي فرزها الإنسان بين حين وحين - هي التي يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله:

( إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) (١) .

فهذه الآلهة التي يفرزها الإنسان، هذا الدين الذي يصنعه الإنسان، وهذا المثل الأعلى الذي هو نتاج بشري، هذا

____________

(١) سورة النجم: الآية (٢٣).

١٢٩

لا يمكن أنْ يكون هو الدين القيِّم، لا يمكن أنْ يكون هو المصعد الحقيقي للمسيرة البشرية؛ لأنّ المسيرة البشرية لا يمكن أنْ تخلق إلهَهَا بيدها.

المجتمعات والأُمم التي تعيش هذا المثل الأعلى المنخفض المستمَد من واقع الحياة، قلنا بأنّها تعيش حالة تكرارية، يعني: أنّ حركة التاريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية، وهذه الأمّة تأخذ بيدها ماضيها إلى الحاضر، وحاضرها إلى المستقبل، ليس لها مستقبل في الحقيقة وإنّما مستقبلها هو ماضيها.

ومن هنا إذا تقدّمنا خطوة في تحليل ومراقبة ومشاهدة أوضاع هذه الأمّة التي تتمسّك بمثل من هذا القبيل، إذا تقدّمنا خطوة إلى الأمام نجد:

أنّ هذه الأمّة بالتدريج سوف تفقد ولاءها لهذا المثل أيضاً، لنْ تظل متمسِّكة بهذا المثل؛ لأنّ هذا المثل بعد أنْ يفقد فاعليّته وقدرته على العطاء، بعد أنْ يصبح نسخة من الواقع ويصبح أجراً مفروضاً ومحسوساً وملموساً وغيرَ قادرٍ على تطوير البشرية وتصعيدها في مسارها الطويل، تفقد هذه البشرية وهذه الجماعة بالتدريج ولاءها لهذا المثل.

ومعنى أنّها تفقد ولاءها لهذا المثل يعني: أنّ القاعدة الجماهيرية الواسعة في هذه الأمّة سوف تتمزّق وحدتها؛ لأنّ وحدة هذه القاعدة إنّما هي بالمثل الواحد، فإذا ضاع المثل ضاعت هذه القاعدة.

١٣٠

هذه الأمّة بعد أنْ تفقد ولاءها لهذا المثل تصاب:

* بالتشتت، بالتمزق، بالتبعثر، تكون كما وصف القرآن الكريم:

( بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ) (١) .

بأسهم بينهم شديد باعتبار أنّ هذه الأمّة التي لا يجمعها شيء إلاّ تماثل الوجوه وتقارب الوجوه.

- لا يجمعها مثل أعلى.

- لا تجمعها طريقة مثلى.

- لا يجمعها سبيل واحد.

- قلوب متفرّقة، أهواء متشتّتة، أرواح مُبَعْثَرَة، وعقول مجمَّدة.

في حالة من هذا القبيل لا تبقى أُمّة، وإنّما يبقى شبح أُمّة فقط، وفي ظل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد في هذه الأمّة:

* ينصرف إلى همومه الصغيرة، إلى قضاياه المحدودة؛ لأنّه لا يوجد هناك مثل أعلى تلتف حوله الطاقات، تلتف حوله القابليّات والإمكانات، تحشّد من أجله التضحيات، لا يوجد هذا المثل الأعلى حينما:

- يسقط هذا المثل الأعلى.

- تسقط الراية التي توحِّد الأمّة.

- يبقى كل إنسان مشدود إلى حاجاته المحدودة، إلى مصالحه الشخصية.

- إلى تفكيره في أموره الخاصّة، كيف يُصبح وكيف يُمسي؟ وكيف يأكل وكيف يشرب؟ وكيف يوفِّر الراحة والاستقرار له ولأولاده ولعائلته؟ أيّ راحة وأيّ استقرار؟

الراحة بالمعنى

____________

(١) سورة الحشر: الآية (١٤).

١٣١

الرخيص، بالمعنى القصير من الاستقرار، يبقى كلُّ إنسان سجينُ حاجاته الخاصّة، سجين رغباته الخاصة، يبقى يدور ويلتف حول هذه الرغبات وحول هذه الحاجات لا يرى غيرها إذْ لا يوجد المثل، إذ ضاع المثل وتفتَّتَ وسقط.

في حالة من حالات هذه الأمّة، قلنا بأنّ الأمّة تتحوّل إلى شبح، لا يبقى أُمّة حقيقية، وإنّما هناك شبح أُمّة وقد علّمنا التاريخ أنّه في حالة من هذا القبيل توجد ثلاث إجراءات، ثلاث بدائل يمكن أنْ تنطبق على حالة هذه الأمّة الشبح:

الإجراء التاريخي الأوّل:

هو أنْ تتداعى هذه الأمّة أمام غزوٍ عسكري من الخارج؛ لأنّ هذه الأمّة التي أُفرغت من محتواها، التي تخلّت عن وجودها كأمّة وبقيت كأفراد، كلُّ إنسان يفكِّر في طعامه ولباسه ودار سكناه، ولا يفكِّر في الأمّة، مَنْ يُفَكِّر إذاً؟

ففي وضع من هذا القبيل يمكن أنْ تتداعى هذه الأمّة أمام غزو من الخارج، وهذا ما وقع بالفعل بعد أنْ فقد المسلمون مَثَلَهم الأعلى، وفقدوا ولاءهم لهذا المثل الأعلى، ووقعوا فريسةَ غزو التتار حينما سقطت حضارة المسلمين بأيدي التتار، هذا هو الإجراء التاريخي الأوّل.

والإجراء التاريخي الثاني:

هو الذوبان والانصهار في مَثَلٍ أعلى أجنبي، في مَثَلٍ مُستورَد من الخارج. هذه

١٣٢

الأمّة بعد أنْ فقدت مُثُلَها العليا النابعة منها، فقدت فاعليّتها وأصالتها، حينئذٍ تفتِّش عن مثل أعلى من الخارج تعطيه ولاءها؛ لكي تمنحه قيادتها. هذا هو الإجراء التاريخي الثاني.

والإجراء التاريخي الثالث:

أنْ ينشأ في أعماق هذه الأمّة بذور إعادة المثل الأعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه الأمّة.

هذان الإجراءان ( الثاني والثالث ) وقفتْ الأمّة أمامهما على مُفْتَرَق طريقين حينما دخلتْ عصر الاستعمار:

* كان هناك طريق يدعوها إلى الانصهار في مثل أعلى من الخارج، هذا الطريق الذي طبّقه جملةٌ من حكّام المسلمين في بلاد المسلمين ( رضا خان ) في إيران و ( أتاتورك ) في تركيا.

حاول هؤلاء أنْ يجسِّدوا المثل الأعلى للإنسان الأوروبي المُنتصِر، ويطبِّقوا هذا المثل الأعلى ويكسبوا ولاء المسلمين أنفسهم لهذا المثل الأعلى، بعد أنْ ضاع المثل الأعلى في داخل المسلمين.

* بينما روّاد الفكر الإسلامي في بدايات عصر الاستعمار وفي أواخر الفترة التي سبقتْ عصر الاستعمار، روّاد الفكر الإسلامي وروّاد النهضة الإسلامية أطلقوا جهودهم في سبيل الإجراء الثالث، في سبيل إعادة الحياة إلى الإسلام من جديد، في سبيل انتشار هذا المثل الأعلى وإعادة الحياة إليه وتقديمه بِلُغَةِ

١٣٣

العصر، وبمستوى العصر، وبمستوى حاجات المسلمين. الأمّة تتحوّل إلى شبح، فتواجه أحد هذه الإجراءات الثلاثة.

الآن تكلّمنا عن أُمّة هذه الآلهة المنخفضة. إذا تقدّمنا خطوة نجد:

- المثل التكراري يتمزّق.

- أنّ الأمّة تفقد ولاءها.

- أنّ الأمّة تتحوّل إلى شبح تواجه أحد هذه الإجراءات الثلاثة.

الآن نرجع إلى الوراء خطوة، سوف نواجه النوع الثاني من الآلهة، من المثل العليا. أليس قلنا في البداية: إنّ المثل العليا على ثلاثة أنواع؟ تكلّمنا الآن عن النوع الأوّل. إذا رجعنا خطوة أخرى إلى الوراء - وهذا ما سوف اشرح معناه بعد لحظات - سوف نواجه النوع الثاني من الآلهة من المثل العليا.

هذا النوع الثاني يعبّر عن كلّ مثل أعلى للأمّة يكون مشتقّاً مِن طموح الأمّة، مِن تطلّعها نحو المستقبل، ليس هذا المثل تعبيراً تكرارياً عن الواقع، بل هو تطلّع إلى المستقبل، وتحفّز نحو الجديد والإبداع والتطوير.

ولكنّ هذا المثل منتزَع عن خطوة واحدة من المستقبل، منتزع عن جزء من هذا الطريق الطويل المستقبلي، أي أنّ هذا الطموح الذي منه انتزعت الأمّة مثلها، كان طموحاً محدوداً، كان طموحاً مقيَّداً، لم يستطع أنْ يتجاوز المسافات الطويلة، وإنّما استطاع أنْ يكون

١٣٤

رؤية مستقبلية محدودة، وهذه الرؤية المستقبلية المحدودة انتزع منها مثلها الأعلى.

وفي هذا المثل الأعلى جانب موضوعي صحيح ولكنّه يحتوي على إمكانيات خطر كبير، أمّا الجانب الموضوعي الصحيح فهو:

إنّ الإنسان عبر مسيرته الطويلة لا يمكنه أنْ يستوعب برؤيته الطريق الطويل الطويل كلّه، لا يمكنه أنْ يستوعب المطلق؛ لأنّ الذهن البشري محدود، والذهن البشري المحدود لا يمكن أنْ يستوعب المطلق وإنّما هو دائماً يستوعب نفحةً من المطلق، شيئاً من المطلق، يأخذ بِيَدِهِ قبضةً من المطلق تُنير له الطريق، تُنير الدرب. فكون دائرة الاستيعاب البشري محدودة، هذا أمر طبيعي، أمر صحيح وموضوعي.

ولكن الخطير في هذه المسألة أنّ هذه القبضة التي يقبضها الإنسان من المطلق، هذه القبضة هذه الكومة المحدودة، هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق، يحوّلها إلى نور السماوات والأرض، يحوِّلها إلى مثل أعلى، يحوّلها إلى مطلق.

هنا يكمن الخطر؛ لأنّه حينما يصنع مَثَلَهُ الأعلى وينتزع هذا المثل من تصوّرٍ ذهني محدود للمستقبل، لكن يحوّل هذا التصور الذهني المحدود إلى مطلق، حينئذٍ هذا المثل الأعلى سوف يخدمه في المرحلة الحاضرة، سوف يهيئ له إمكانيّة النمو بقدر طاقات هذا المثل، بقدر ما يمثّل

١٣٥

للمستقبل، بقدر إمكاناته المستقبلية سوف يحرّك هذا الإنسان وينشّطه، لكن سرعان ما يصل إلى حدوده القصوى، وحينئذٍ سوف يتحول هذا المثل نفسه إلى قيد للمسيرة، إلى عائق عن التطوّر، إلى مجمِّد لحركة الإنسان؛ لأنّه أصبح مثلاً، اصحب إلها، أصبح ديناً، أصبح واقعاً قائماً، وحينئذٍ سوف يكون بنفسه عَقَبَة أمام استمرار زحْف الإنسان نحو كماله الحقيقي.

وهذا المثل الذي يعمّم خطأ، يحوّل من محدود إلى مطلق خطأ. التعميم فيه تارةً يكون تعميماً أفقيّاً خاطئاً، وأخرى تعميماً زمنيّاً خاطئاً. هناك تعميمان خاطئان لهذا المثل، هناك تعميم أفقي خاطئ، وهناك تعميم زمني عمودي خاطئ:

* التعميم الأفقي الخاطئ:

أنْ ينتزع الإنسان من تصوّره المستقبلي مثلاً، ويعتبر أنّ هذا المثل يضمُّ كلَّ قِيَم الإنسان التي يُجاهد من أجْلها، ويناضل في سبيلها، بينما هذا المثل على الرغم من صحَّته إلاّ أنّه لا يمثّل إلاّ جزءً من هذه القيم. فهذا التعميم تعميم أفقي خاطئ، هذا المثل يكون معبِّراً عن جزء من أفق الحركة، بينما جُرِّدَ منه ما يملأ كل أفق الحركة.

الإنسان الأوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلاً أعلى وهو الحرّية. جعل الحرّية مثلاً أعلى؛ لأنّه رأى أنّ الإنسان الغربي كان

١٣٦

محطَّماً ومقيَّداً، كانت على يَدَيه الأغلال في كل ساحات الحياة:

- كان مقيَّداً في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتَعَنُّتِهَا.

- كان مقيّداً في قوَّته ورِزْقه بأنظمة الإقطاع.

- كان مقيّداً أينما يسير.

أراد الإنسان الأوروبي الرائد لعصر النهضة أنْ يُحرّر هذا الإنسان من هذه القيود، من قيود الكنيسة، من قيود الإقطاع، أراد أنْ يجعل من الإنسان كائناً مختاراً، إذا أراد أنْ يفعل يفعل، يفكّر بعقله لا بعقل غيره، ويتصوّر ويتأمّل بذاته ولا يستمد هذا التصوّر كصِيَغ ناجزة من الآخرين.

وهذا شيء صحيح، إلاّ أنّ الشيء الخاطئ في ذلك هو( التعميم الأفقي ) فإنّ هذه الحرّية بمعنى كَسْر القيود عن هذا الإنسان، هذا قيمة من القيم، هذا إطار للقيم، ولكن هذا وحده لا يصنع الإنسان، أنت لا تستطيع أنْ تصنع الإنسان بأنْ تكسر عنه القيود وتقول له: افعل ما شئت.

لا يوجد إنسان ولا كائن، لا يوجد إقطاعي ولا قِسِّيس، ولا سلطان ولا طاغوت يضطرّك إلى موقف، أو يفرض عليك موقفاً. هذا وحده لا يكفي فإنّ كسر القيود إنّما يشكّل الإطار للتنمية البشرية الصالحة، يحتاج هذا إلى مضمون، إلى محتوى، مجرد أنّه يستطيع أنْ يتصرّف، يستطيع أنْ يمشي في الأسواق هذا لا يكفي، أمّا كيف ويمشي؟ وما هو الهدف الذي من أجله يمشي في الأسواق؟

١٣٧

المحتوى والمضمون هو الذي فات الإنسان الأوروبي.

الإنسان الأوروبي جعل الحرّية هدفاً وهذا صحيح، ولكنّه صيّر من هذا الهدف مثلاً أعلى، بينما هذا الهدف ليس إلاّ إطاراً في الحقيقة، وهذا الإطار بحاجة إلى محتوى، وإلى مضمون، وإذا جرّد هذا الإطار عن محتواه سوف يؤدِّي إلى الوَيل والدمار، إلى الوَيل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم، التي صنعتْ للبشرية كلَّ وسائل الدمار؛ لأنّ الإطار بقي بلا محتوى، بقي بلا مضمون. حينئذٍ هذا هو مثالٌ للتعميم الأفقي، التعميم الأفقي للمثل الأعلى.

وأمّا التعميم الزمني أيضاً، كذلك على مرّ التاريخ توجد خطوات ناجحة تاريخياً ولكنّها لا يجوز أنْ تحوّل من حدودها كخطوة إلى مطلق، إلى مثل أعلى، يجب أنْ تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل الأعلى لا أنْ تحوّل هذه الخطوة إلى مثل أعلى.

حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الأُسر فشكّلوا القبيلة. ومجموعة من القبائل فشكّلت عشيرة، ومجموعة من العشائر فشكّلت أُمّة، هذه الخطوات صحيحةٌ لتقدّم البشرية وتوحيد البشرية، ولكن كل خطوة من هذه لا يجب أنْ تتحوّل إلى مثل أعلى، لا يجوز أنْ تتحوّل إلى مطلق، لا يجوز أنْ تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من أجله

١٣٨

هذا الإنسان، وإنّما المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان يبقى هو ذاك المطلق الحقيقي، يبقى هو الله سبحانه وتعالى. الخطوة تبقى كأسلوب ولكن المطلق يبقى هو الله سبحانه وتعالى.

هذا التعميم الزمني أيضاً هو شكل من التعميم الخاطئ حينما يحوّل هذا المثل المنتزَع من خطوة محدودة عبر الزمن يحوّل إلى مثل أعلى.

وحال هذا الإنسان الذي يحوّل هذه الرؤية المحدودة عبر الزمن، يحوّلها إلى مطلق، حاله حال الإنسان الذي يتطلّع إلى الأفق فلا تساعده عينه إلاّ إلى النظر على مسافة محدودة، فيُخيّل له أنّ الدنيا تنتهي عند الأفق الذي يراه، أنّ السماء تنطبق على الأرض على مسافة قريبة منه، وقد يُخيّل له وجود الماء، وجود السراب على مقربة منه، إلاّ أنّ هذا في الحقيقة ناشئٌ من عَجز عينيه عن أنْ يتابع المسافة الأرضية الطويلة الأمد.

كذلك هنا، هذا الإنسان الذي يقف على طريق التاريخ الطويل، على طريق المسيرة البشرية، له أُفق بحكم قصوره الذهني وبحكم محدوديّة الذهن البشري، له أفق كذاك الأفق الجغرافي، ولكن هذا الأفق يجب أنْ يتعامل معه كأفق لا كمطلق، كما إنّنا نحن على الصعيد الجغرافي لا نتعامل مع هذا الأفق الذي نراه على بُعْد عشرين متراً أو مائتي متر أنّه نهاية الأرض، وإنّما

١٣٩

نتعامل معه بأنه أفق. كذلك أيضاً هنا يجب أنْ يتعامل هذا الإنسان معه كأفق لا يحوّل هذا الأفق التاريخي إلى مثل أعلى، وإلاّ كان من قبيل مَنْ يسير نحو سراب.

انظروا إلى التمثيل الرائع في قوله سبحانه وتعالى:

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (١) .

يعبّر القرآن عن كل هذه المُثُل المصطنعة من دون الله سبحانه وتعالى بأنّها كبيت العنكبوت، حيث يقول:

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (٢) .

اذا قارنّا بين هذين النَوعَين من:

* المُثُل العليا المشتقّة من الواقع.

* والمثل العليا المشتقّة من طموح محدود.

لَلاحظْنا أنّ المثل العليا المشتقّة من الواقع كثيراً ما تكون قد مرّتْ بمرحلة هذه المثل التي تعبّر عن طموح محدود، يعني كثيراً ما تكون تلك المثل من النوع الأوّل، امتداداً للمثل من النوع الثاني، بأنْ يبدأ هذا المثل الأعلى مشتقّاً من طموح، لكن حينما يتحقّق هذا الطموح

____________

(١) سورة النور: الآية (٣٩).

(٢) سورة العنكبوت: الآية (٤١).

١٤٠