مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 50841
تحميل: 6387

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50841 / تحميل: 6387
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

التناقض الطبقي؛ لأنّ جَدَل الإنسان من وراء هذا التناقض كان أقوى من جَدَل الإنسان من وراء ذلك التناقض، والثراء الهائل الذي تكدّس في أيدي الطبقة الرأسمالية في الدول الرأسمالية لم يكن كلّه - بل ولا معظمه - نِتَاج عَرَق جبين العامل الأوروبي والأمريكي، وإنّما:

- كان نِتَاج غنائم حرب.

- كان نِتَاج غنائم غارات، غارات على هذه البلاد الفقيرة، على بلاد أخرى استطاع الإنسان الأبيض أنْ يغزوها وأنْ يَنْهَبَهَا.

هذا النعيم الذي تَغْرق فيه تلك الدول:

- ليس من عَرَق جبين العامِل الأوروبي.

- ليس من نتاج التناقض الطَبَقِي بين الرأسمالي والعامِل.

وإنّما هذا النعيم:

- هو من نفط آسيا وأمريكا اللاتينية.

- هو من أَلْمَاس تَنْزَانْيَا.

- هو من الحديد، والرصاص، والنحاس، واليورانيوم في مختلف بلاد أفريقيا.

- هو من قطن مصر.

- هو من تنباك لبنان.

- هو من خمر الجزائر! نعم من خمر الجزائر؛ لأنّ الكافر المستعمِر الذي استعمر الجزائر، حوّل أرضَها كلّها إلى بستان عنب، لكي يقطف هذا العِنَب ويحوِّله إلى خمر؛ ليسكر به العمّال، ولِيُشْعِر أولئك العمّال بالنشوة والخُيَلاَء؛ لأنّهم يشربون خمر الجزائر، يقطفون عنب الجزائر فيُحَوِّلُونَه إلى خمر.

نعم ذلك النعيم، لكن من

١٨١

هذه المصادر، من هذه الينابيع. سكروا على خمر الجزائر ولم يسكروا على عَرَق جَبِين العامِل الفرنسي أو الأوروبي أو الأمريكي.

إذاً، التناقض الذي جمّد ذلك التناقض والذي أوقف ذلك التناقض هو هذا التناقض الأكبر، التناقض بين المحور الرأسمالي ككل بِكِلْتَا طبقتَيه وما بين الشعوب الفقيرة في العالم.

من خلال هذا التناقض وجد الرأسمالي الأوروبي والأمريكي أنّ من مصلحته:

- أنْ يُقاسم العامِل شيئاً من هذه الغنائم التي نَهَبَهَا ( مِنِّي ومِنْكَ ) التي نهبها من فقراء الأرض والمستضعَفين في الأرض.

- وأنّ من مصلحته أنْ يعطي نعمةً منها، أنْ يَسكر هو ويُسكر العمّال أيضاً بخمر الجزائر.

- أنْ يتزيّن بماس تنزانيا ويتزيّن العامِل أو زوجته بماسّة من ماسّات تنزانيا.

ولهذا نرى أنّ العامل بدأتْ حياته تختلف عن نبوءات ماركس:

- ليس ذلك لأجل كرم طبيعي في الرأسمالي الأوروبي والأمريكي.

- وليس لتقوى.

وإنّما هي غنيمة كبيرة كان من المفروض أنْ يعطي جزءً منها لهذا العامل، والجزء وحده يكفي لأجل تحقيق هذا الرفاه بالنسبة إلى هذا العامل الأوروبي والأمريكي.

إذاً، الحقيقة التي يثبتها التاريخ دائماً هو أنّ التناقض لا يمكن حصره في صيغة واحده، التناقض له صيغ متعدِّدة؛

١٨٢

وذلك لأنّ كل هذه الصِيَغ تَنْبع من منبع واحد وهو التناقض الرئيسي، الجدل الإنساني والجدل الإنساني لا تعوزه صيغة. إذا حُلّت صيغة وُضِتْ صيغة أُخرى مكانها.

ليس من الصحيح أنْ نطوِّق كلّ التناقضات في التناقض الطَبَقِي، في التناقض بين مَن يملك ومَن لا يملك، فإذا حَلَلْنا هذا التناقض قلنا بأنّ التناقضات كلّها قد حُلّتْ.

التناقض لا يمكن حصره في هذه الصيغة، التناقض هو استغلال القوي للضعيف.

١٨٣

الدرس الثالث عشر:

قلنا: إنّ خط علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلِف، مشكلةً وقانوناً عن خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وذكرنا أنّ هذَين الخطَّين كلّ واحدٍ منهما مستقل استقلالاً نسبِيّاً عن الخط الآخر، لكن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير المتبادَل إلى حدِّ ما بين هذين الخطَّين، فلكلٍّ منهما لون من التأثير الطرْدي أو العَكْسي على الخط الآخر.

وهذا التأثير المتبادَل بين الخطَّين يمكن إبرازه ضمن علاقتين قرآنيّتَين بين هذين الخطّين:

* العلاقة الأولى:

تُبْرِز مدى تأثير خط علاقات الإنسان مع الطبيعة على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان.

* والعلاقة القرآنية الثانية:

تُبْرِز من الجانب الآخر مدى تأثير علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على علاقات الإنسان مع الطبيعة.

* أمّا العلاقة الأولى:

التي تُبْرِز تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة على

١٨٤

الخط الآخر، فمؤدّى هذه العلاقة:

هو أنّه كما نَمَتْ قدرة الإنسان على الطبيعة، واتَّسعتْ سيطرته عليها، وازداد اغتناءً بكنوزها ووسائل إنتاجها، تحقّقت بذلك إمكانية أكبر فأكبر للاستغلال على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان:

( كَلاّ إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) (١) .

هذه الآية الكريمة تشير إلى هذه العلاقة، إلى أنّ الإنسانية بقدر ما تتمكّن وتستقطب الطبيعة وتتوصّل إلى وسائل إنتاج أقوى وأدوات توليد أوسع، تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، انعكاساته على شكل إمكانيات وإغراءات وفَتْح الشهيّة للأقوياء؛ لكي يستثمروا أداة الإنتاج في سبيل استغلال الضعفاء.

تصوّروا مجتمعاً يعيش على الصيد باليد، والحجارة، والهراوة، مثل هذا المجتمع لا يتمكّن من أنْ يمارس بذور الأقوياء، بذور الوحوش فيه، لا يتمكّنون على الأغلب من أنْ يمارِسوا أدواراً خطيرةً من الاستغلال الاجتماعي؛ لأنّ مستوى الإنتاج محدود، والقدرة محدودة، وكل إنسان لا يكسب عادةً بعرق جبينه إلاّ قوت يومه فلا توجد إمكانية الاستغلال بشكله الاجتماعي الواسع، وان كان توجد ألوان أُخرى من الاستغلال الفردي.

ولكنْ لاحظوا من الجانب الآخر

____________

(١) سورة العلق: الآية ( ٦-٧ ).

١٨٥

مجتمعاً متطوّراً استطاع الإنسان فيه أنْ يصنع الآلة البخاريّة، والآلة الكهربائية، استطاع فيه أنْ يُخْضِع الطبيعة لإرادته، في مثل هذا المجتمع سوف تكون الآلة البخارية والآلة الكهربائية المعقّدة المتطوِّرة الصُنْع تكون أداةً، إمكانيةً على ساحة علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، تشكّل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ويبقى أنْ يخرج ما بالقوّة إلى ما بالفعل؛ وذلك على عهدة الإنسان، ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية.

فالإنسان هو الذي يصنع الاستغلال، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية، ولكن الآلة البخارية والكهربائية هي التي تُعطيه إمكانية هذا الاستغلال، هي التي تهيئ له فرصةً تفتح شهيّته، توقظ مشاعره، تحرّك جَدَلَه الداخلي وتناقضه الداخلي من أجل أنْ يبرز صيغة تتناسب مع ما يوجد على الساحة من قوى الإنتاج ووسائل التوريد.

وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية، المادية التاريخية اعتقدت بأنّ الآلة هي التي تصنع الاستغلال، هي التي تصنع النظام المتناسب لها، ولكنّنا نحن لا نرى أنّ دور الآلة هو دور الصانع، وإنّما دور الآلة هو دور الإمكانية، دور توفير الفرصة والقابليّة، وأمّا الصانع الذي يتصرّف إيجاباً وسلباً،

١٨٦

أمانةً وخيانةً، صموداً وانهياراً، إنّما هو الإنسان وِفْقَاً لمحتواه الداخلي، لِمَثَلِهِ الأعلى، لمدى الْتِحَامِهِ مع هذا المثل الأعلى. هذه هي العلاقة الأولى.

* وأمّا العلاقة القرآنية الثانية:

التي تمثّل وتجسِّد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة، فمؤدى هذه العلاقة القرآنية:

هو أنّه كلّما جسّدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالةَ، وكلّما استطاعت أنْ تستوعب قِيَم هذه العدالة وأنْ تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الإنسان لأخيه الإنسان، كلّما وقع ذلك:

- ازدهرتْ علاقات الإنسان مع الطبيعة.

- وتفتّحتْ الطبيعة عن كنوزها.

- وأعطت المخبوء من ثرواتها.

- ونزلت البركات من السماء.

- وتفجّرت الأرض بالنعمة والرخاء.

هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة، قال سبحانه وتعالى:

( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً ) (١) .

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) (٢) .

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ

____________

(١) سورة الجن: الآية (١٦).

(٢) سورة المائدة: الآية (٦٦).

١٨٧

يَكْسِبُونَ ) (١) .

هذه العلاقة مؤدّاها:

أنّ علاقات الإنسان مع الطبيعة تتناسب عكسيّاً مع ازدهار العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان:

- فكلّما ازدهرت العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان أكثر فأكثر، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة.

- وكلّما انْحَسرتْ العدالة عن الخط الأوّل، انحسر الازدهار عن الخط الثاني.

أي إنّ:

مجتمع العدل: هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة.

ومجتمع الظلم: هو الذي يؤدّي إلى انحسار تلك العلاقات، علاقات الإنسان مع الطبيعة.

وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غَيْبِي فقط، نعم نحن نُؤمِن أيضاً بمحتواها الغيبي، ولكن إضافةً إلى محتواها الغيبي الربّاني هي تُشكِّل سُنّة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم؛ وذلك لأنّ مجتمع الظلم، مجتمع الفراعنة - على مرّ التاريخ - مجتمع ممزّق، مُشَتّت.

الفرعونية على مرّ التاريخ حينما تتحكّم في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان تستهدِف:

- تمزيق طاقات المجتمع.

- وتشتيت فئاته.

- وبَعْثَرة إمكانياته.

ومن الواضح أنه تشتيت وبعثرة وتفتيت وتجزئة من هذا القبيل لا يمكن لإفراد المجتمع أنْ يحشدوا قواهم الحقيقية والسيطرة على الطبيعة.

وهذا هو الفرق بين

____________

(١) سورة الأعراف: الآية (٩٦).

١٨٨

المُثُل العُليا المنخفضة الفرعونية، وبين المَثَل الأعلى الحق، مثل: التوحيد [لله] سبحانه وتعالى، فإن المثل الأعلى:

- يوحِّد الجامعة البشرية.

- ويُلْغِي كلّ الفوارق والحدود. باعتبار شموليّة هذا المثل الأعلى.

باعتبار شموليته فهو يستوعِب:

- كلّ الحدود وكلّ الفوارق.

- يهضم كلّ الاختلافات.

- يصهر البشرية كلّها في وحدة متكافِئة، لا يوجد ما يُميِّز بعضها عن بعض، لا من دمٍ ولا من جنسٍ ولا من قوميّةٍ ولا من حدودٍ جغرافية أو طبقيّة، المثل الأعلى بشموليّته يوحِّد البشرية، ولكنّ المُثُل العليا المنخفضة تجزئ البشرية، وتُشَتِّت البشرية.

انظروا إلى المثل الأعلى كيف يقول:

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١) .

( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (٢) .

هذا هو منطق شمولية المثل الأعلى التي لا تعترف بحدٍّ وبحاجزٍ في داخل هذه الأسرة البشرية، انظروا، استمعوا إلى المثل المنخفض، إلى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم كيف يقولون، أو كيف يتحدّث عنهم القرآنُ الكريم:

( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ) (٣) . فرعون المثل الأعلى المنخفض.

____________

(١) سورة الأنبياء: الآية (٩٢).

(٢) سورة المؤمنون: الآية (٥٢).

(٣) سورة القصص: الآية (٤).

١٨٩

- الفرعونية على مرّ التاريخ التي تبني العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس الظلم والاستغلال.

- الفرعونية تجزِّئ المجتمع.

- تبعثر إمكانيات المجتمع، وطاقات المجتمع.

ومن هنا تَهْدر ما في الإنسان من قدرة على الإبداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة.

وعمليّة التجزئة الفرعونيّة للمجتمع:

تقسّم المجتمع إلى فصائل وجماعات:

* الجماعة الأُولى:

* ظَالِمُوْن مُسْتَضْعَفُوْن.

هذه الجماعة الأُولى في التقسيم الفرعوني هم( الظالمون المستضعَفون ) في نفس الوقت( الظالمون الثانويّون ) أو بحسب تعبير أئمّتنا عليهم الصلاة والسلام:( أعوان الظلمة ) .

هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكّلون حماية لفرعون وللفرعونية، وسنداً في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها وإطارها، قال الله سبحانه وتعالى:

( إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) (١) .

هنا القرآن يتحدّث عن الظالمين يقول:( إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ ) . لكنّ الظالمين صنّفهم إلى قسمين:

١- إلى من استضعفت منهم.

٢- ومن استكبر منهم.

إذاً، فالظالمون فيهم مستكبرون: وهم الذين يمثّلون الفرعونية في المجتمع. وفيهم

____________

(١) سورة سبأ: الآية (٣١).

١٩٠

مستضعفون. فالطائفة الأولى إذن في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون، هؤلاء الذين يُحشَرون يوم القيامة في زُمرة الظالمين، ثم يقولون للمستكبرين من الظالمين: لولا انتم لكنّا مؤمنين. هذه هي الطائفة الأولى التي تشكّل الحماية والسند للفرعونية.

* الطائفة الثانية:

في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع الظلم ظالمون يشكلون حاشية ومتملقين، أولئك الذين قد لا يمارسون ظلماً بأيديهم بالفعل، ولكنّهم دائماً وأبداً على مستوى نَزَوَات فرعون، وشهوات فرعون، ورغبات فرعون، يسبقونه بالقول من أجل أنْ يُصَحِّحوا مسلكه ومسيرته، قال الله سبحانه وتعالى:

( وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) (١) .

شكّلوا دور الإثارة لفرعون، هؤلاء كانوا يعرفون أنّهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحسّاس في قلب فرعون، وأنّ فرعون كان بحاجة إلى كلام من هذا القبيل، فتسابقوا إلى هذا الكلام؛ لكي يجعلوا فرعون يعبّر عمّا في نفسه، ويتّخذ الموقف المنسجِم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيّته.

* الطائفة الثالثة:

في عمليّة

____________

(١) سورة الأعراف: الآية (١٢٧).

١٩١

التجزئة الفرعونيّة لمجتمع الظلم، أولئك الذين عبّر عنهم الإمام علي ( عليه الصلاة والسلام ): بـ ( الهَمَج الرُعَاع )، جماعةٌ هم مجرّد:

- آلات مستسلِمة للظلم.

- لا تحس بالظلم.

- لا تدرك أنّها مظلومة.

- ولا تدرك أنّ في المجتمع ظلماً.

- هي آلات تتحرّك تحرُّكاً آليّاً، تحرّكاً يشبه التحرّك الميكانيكي للآلة، تحرّك التبعيّة والطاعة دون تدبير، دون وعي، سلب فرعون منها تدبّرها، عقلها، وعيها، ربط يدها به لا عقلها به؛ ولهذا فهي تحرّك يدها تحريكاً آليّاً وتستسلِم للأوامر، للأوامر الفرعونية دون أنْ تناقشها، حتى دون أنْ تتدبّرها، حتى بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين.

هذه الفئة طبعاً تفقد كلّ قدرة على الإبداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة، تفقد كل قابليّات النمو؛ لأنّها تحوّلت إلى آلات، إذا وجد أنّ هناك إبداع في هذه الفئة إنّما هو إبداع من يحرِّك هذه الآلات، إبداع تلك الفرعونية التي تحرّك هذه الآلات، وأمّا هذه الفئة فلم تعد أُناساً وبشراً يفكِّرون ويتدبَّرون لكي يستطيعوا أنْ يحقِّقوا لوناً من الإبداع على هذه الساحة. قال الله سبحانه وتعالى:

( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ ) (١) .

لا يوجد في كلام هؤلاء ما يُشعِر بأنّهم

____________

(١) سورة الأحزاب: الآية (٦٧).

١٩٢

كانوا يحسّون بالظلم، أو كانوا يحسّون بأنّهم مظلومون، وإنّما هو مجرّد طاعة، مجرّد تبعيّة، هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قال:

(( الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق )) (١) .

وهذا القسم الثالث يشكّل مشكلة بالنسبة إلى أي مجتمع صالح.

وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أنْ يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله إلى القسم الثاني، بتحويله:

- إلى متعلّم على سبيل النجاة على حدّ تعبير الإمام.

- إلى تابع بإحسان على حدّ تعبير القرآن.

- إلى مقلّد بِوَعْي وتَبَصُّر على حدّ تعبير الفقه.

بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث إلى القسم الثاني يمكن للمجتمع الصالح أنْ يستمر وأنْ يمتد.

ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الإمام عليه الصلاة والسلام هو شجب هذا القسم الثالث، هؤلاء همج رعاع ينعقون مع كلّ ناعق، ليس لهم عقل مستقل وإرادة مستقلّة. كان الإمام ( عليه السلام ) يرى أنّ هذا القسم الثالث يجب تصفيته من المجتمع الصالح، ذلك لا بالقضاء عليه فردياً، بل بتحويله إلى القسم الثاني ضمن أحد الصيغ الثلاثة التي ذكرناها، لكي يستطيع المجتمع الصالح أنْ يواصل إبداعه، ولكي يستطيع كل أفراد

-ـ-ـ-ـ-ـ-ـ-ـ-ـ-

(١) يراجع نهج البلاغة، قصار الحكم: ١٤٧، وفيه: (( الناس ثلاثة: فعالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق... ))

١٩٣

المجتمع الصالح أنْ يشكّلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الإبداع.

وخلافا لذلك الفرعونية، الفرعونية تحاول أنْ توسّع من هذا القسم الثالث، هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق تحاول الفرعونية أنْ توسّع منهم، وكلّما توسّعت هذه الفئة أكثر فأكثر قدّمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة؛ لأنّ هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه أنْ تدافع عن المجتمع إذا حلّت كارثة في الداخل أو طَرَأَت كارثة من الخارج.

فكلّما توسّعت هذه الفئة، هذا القسم الثالث، هؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق، كلما توسعوا في المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع، وبهذا تموت المجتمعات موتاً طبيعياً.

مفهوم الموت لدى القرآن ( للمجتمعات وللأقوام وللأمم ) الموت الطبيعي للمجتمع لا الموت المخروم. المجتمع له موتان، موت طبيعي وموت مخروم.

الموت الطبيعي للمجتمع: يكون عن طريق توسّع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعيّاً وعددياً في المجتمع، إلى أنْ تحل الكارثة فينهار المجتمع. هذه الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية.

* أما الطائفة الرابعة:

هم أولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم، أولئك الذين لم يفقدوا لُبّهم أمام فرعون والفرعونية، فهم يستكنرون الظلم لكنّهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة التوتّر

١٩٤

والقلق في أنفسهم وهذه الحالة - حالة التوتر والقلق - أبعد ما تكون عن حالةٍ تسمح للإنسان بالإبداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة. هؤلاء يسميهم القرآن الكريم( ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) ، قال الله سبحانه وتعالى:

( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ) (١) .

- هؤلاء لم يظلموا الآخرين.

- ليسوا من الظالمين المستضعفين كالطائفة الأولى.

- وليسوا من الحاشية المتملّقين.

- وليسوا أيضاً من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبّهم.

بل بالعكس هم يشعرون بأنّهم مستضعفون:

( قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ ) .

هؤلاء لم يفقدوا لبّهم، يدركون واقعهم ولكنّهم كانوا عملياً مهادنين، ولهذا عبّر عنهم القرآن بأنّهم ظلموا أنفسهم.

* هذه الطائفة هل يترقّب منها أنْ تساعد بإبداع حقيقي في مجال علاقات الإنسان مع الطبيعة؟ طبعاً كلاّ.

* الطائفة الخامسة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي:

الطائفة التي تتهرّب من مسرح الحياة، تبتعد عن المسرح وتتهرّب منه وتترهّب، وهذه الرهبانية موجودة في كلّ مجتمعات الظلم على مرّ التاريخ، وهي تتّخذ

____________

(١) سورة النساء: الآية (٩٧).

١٩٥

صيغتين:

١- الأولى صيغة جادّة، رهبانية جادّة، تريد أنْ تفر بنفسها لكي لا تتلوّث بأوحال المجتمع، هذه الرهبانية الجادّة التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله:

( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) (١) .

هذه الرهبانية يشجبها الإسلام؛ لأنّها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الإنسان على الأرض.

٢- وهناك صيغة مفتعلة للرهبانية، يترهّب ويلبس مسوح الرهبان، ولكنّه ليس راهباً في أعماق نفسه، وإنّما يريد بذلك أنْ يخدِّر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون، ويسطو عليهم نفسيّاً وروحيّاً، وهذا هو الذي عبّر عنه القرآن الكريم بقوله:

( إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (٢) .

* الجماعة السادسة والأخيرة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم المستضعَفون:

الفرعونية حينما جزّأت المجتمع إلى طوائف، فرعون حينما اتخذ من قومه شِيَعَاً، استضعف طائفة معيّنة منهم خصّها بالاستضعاف والإذلال وهدر الكرامة؛ لأنّها كانت هي الطائفة التي يتوسّم أنْ تشكّل إطاراً للتحرّك ضِدّه، ولهذا استضعفها بالذات:

( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ

____________

(١) سورة الحديد: الآية (٢٧).

(٢) سورة التوبة: الآية (٣٤).

١٩٦

نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ) (١) . هذه هي الطائفة السادسة.

وقد علّمنا القرآن الكريم - ضمن سُنّة من سنن التاريخ أيضاً - أنّ موقع أيّ طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكساً مع موقعه بعد انحسار الظلم، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى:

( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٢) .

تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب يريد الله سبحانه وتعالى أنْ يجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، وهذه علاقة أخرى وسُنّة تاريخية أخرى يأتي الحديث عنها إنْ شاء الله تعالى.

* إذاً، فإلى هنا استخلصنا هذه الحقيقة وهي:

- أنّ المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسباً عكسيّاً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة، ويتناسب مدى العدل فيه تناسبا طرديّاً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة.

- مجتمع الفرعونية المجزّأ، المشتّت، مهدور القابليّات والطاقات والإمكانيّات، ومن هنا تحبس السماء قطرَها، وتمنع الأرض بركاتها.

- وأمّا مجتمع العدل فهو على العكس تماماً هو مجتمع تتوحّد فيه كلّ القابليّات وتتساوى فيه كلّ الفُرَص والإمكانيّات.

هذا المجتمع الذي تُحدِّثُنَا الرواياتُ عنه،

____________

(١) سورة البقرة: الآية (٤٩).

(٢) سورة القصص: الآية (٥).

١٩٧

تَحَدَّثْنَا عنه من خلال ظهور الإمام المهدي عليه الصلاة والسلام، تحدثنا عمّا تحتفل به الأرض والسماء في ظل الإمام المهدي ( عليه السلام ) من بركات وخيرات، وليس ذلك إلاّ لأنّ العدالة دائماً وأبداً تتناسب طرداً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة، هذه العلاقة الثانية بين الخطّين.

١٩٨

الدرس الرابع عشر:

خرجنا ممّا سبق بنظرية تحليلية قرآنية كاملة:

* لعناصر المجتمع.

* ولأدوار هذه العناصر.

* وللعلاقة القائمة بين الخطّين المزدَوجَين في العلاقة الاجتماعية:

١- خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان.

٢- وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة.

وانتهينا على ضوء هذه النظرية القرآنية الشاملة إلى أنّ هذين الخطّين أحدهما مستقل عن الآخر استقلالاً نسبيَّناً، ولكن كل واحد منهما له نحو تأثير في الآخر على الرغم من ذلك الاستقلال النسبي.

وهذه النظرية القرآنية في تحليل عناصر المجتمع وفهم المجتمع فهماً موضوعياً تشكّل أساساً للاتجاه العام في التشريع الإسلامي، فإنّ التشريع الإسلامي في اتجاهاته العامّة وخطوطه يتأثّر وينبثق ويتفاعل مع وجهة النظر القرآنية والإسلامية إلى المجتمع، وعناصره، وأدوار هذه العناصر، والعلاقات المتبادلة بين الخطين.

هذه النظريات التي قرأناها والتي

١٩٩

انتهينا إليها على ضوء المجموعة المذكورة سابقاً من أنّ النصوص القرآنية هذه النظريات هي في الحقيقة الأساس النظري للاتجاه العام للتشريع الإسلامي، فإنّ الاستقلال النسبي بين الخطّين:

١- خط علاقات الإنسان مع أخيه.

٢- الإنسان وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة، هذا الاستقلال النسبي يشكّل:

- القاعدة لعنصر الثبات في الشريعة الإسلامية.

- والأساس لتلك المنطقة الثابتة من التشريع، التي تحتوي على الأحكام العامّة المنصوصة ذات الطابع الدائم المستمر في التشريع الإسلامي.

بينما منطقة التفاعل بين الخطين: بين خط علاقات الإنسان مع الطبيعة وخط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، منطقة التفاعل والمرونة تشكّل في الحقيقة الأساس لما أسميناه في كتاب( اقتصادنا ) بمنطقة الفراغ، تشكّل الأساس للعناصر المرنة والمتحرّكة في التشريع الإسلامي.

هذه العناصر المرنة والمتحركة في التشريع الإسلامي هي انعكاس تشريعي لواقع تلك المرونة وذلك التفاعل بين الخطين، والعناصر الأولى الثابتة والصامدة في التشريع الإسلامي هي انعكاس تشريعي لذلك الاستقلال النسبي الموجود بين الخطين: بين خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة.

ومن هنا نؤمن بأنّ الصورة التشريعية الإسلامية الكاملة للمجتمع

٢٠٠