مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 50865
تحميل: 6387

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50865 / تحميل: 6387
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن

السيد محمد باقر الصدر

١

٢

مقدمة الناشر

( السيد محمد باقر الصدر ) التعريف عنه يبقى موجَزاً مهما طال وتشعّب، وما قدّمه للفكر الإنساني عامّةً والإسلامي بوجهٍ خاص، يُغني عن أيِّ تعريف.

فمِن كتاباته ( البنك اللاربوي في الإسلام ) إلى كتاب ( فلسفتنا ) إلى كتاب ( اقتصادنا ) ثم (الأُسس المنطقيّة للاستقراء) إضافةً إلى العديد من كتاباته الأُخرى، التي أصبحتْ مرجِعاً فلسفيّاً يَعتمد عليه أساتذةُ الفلسفة الحديثة على اختلاف اتجاهاتها.

حتى اعتُبِر ( مجدِّداً ) بحقٍّ، ولم تكن جهودُه هذه كلَّ همّه، فكانتْ جنباً إلى جنبٍ مع مساعيه، من دروسٍ ومحاضراتٍ يُلقيها على طَلَبَة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف.

فكان بحدِّ ذاته، مدرسةً يُعتمد عليها في مُختلَف العلوم.

وهذا الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ:

( مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم )

يُمثّل محاضراتٍ ألقاها سماحته، متوِّجاً فيها أعمالَه باتجاهٍ تجديدي، يكون مُكمِّلاً لجهود المفسِّرين بإضافته الاتجاه الموضوعي في التفسير إلى الاتجاه التجزيئي، ولِيَكون بذلك إثباتاً فِعليّاً وعصريّاً لمقولة: (الإسلام نظام شامل وكامل للحياة).

وقد قام بعض الأفاضل من تلامذته بمراجعة هذه الدروس وتحقيقها؛ لتكون على شكل كتاب، فجزاه الله وإيّاهم عن الإسلام أفضل الجزاء.

الناشر

٣

٤

تقديم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

وأفضل الصلوات على سيد الخلق محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

ربّنا فقِّهْنا في كتابك، واكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب؛ لكي نتفهّم آياتك، وأزح عن بصائرنا غشاوة الدنيا وبريقها الكاذب؛ لكي تملأَ قلوبنا بِهُداك، واجعلنا من حَمَلَةِ قرآنك، وسُنّة نبيِّك، والسائرين على طريق طاعتك...

ربّنا اتمِم لنا نورَنا، واغفر لنا، إنّك على كلّ شيءٍ قديرٍ، ربّنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تَحمل علينا إصراً كما حملْته على الذين من قَبلنا، ربّنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقةَ لنا به، واعف عنّا، واغفر لنا، وانصرنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.

٥

ربّنا واغفر لنا ولإخواننا الذين سَبَقونا للإيمان، ولا تَجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين كفروا، ربّنا إنّك رؤوف رحيم.

٦

الدرس الأوّل:

لا شكّ في تنوّع التفسير، واختلاف مذاهبه، وتعدُّد مدارسه، والتباين في كثيرٍ من الأحيان بين اهتماماته واتجاهاته.

* فهناك التفسير الذي يَهتمّ بالجانب اللفظي والأدبي والبلاغي من النصّ القرآني.

* وهناك التفسير الذي يهتمّ بجانب المحتوى والمعنى والمضمون.

* وهناك التفسير الذي يركّز على الحديث ويفسّر النص القرآني بالمأثور عن الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين.

* وهناك التفسير الذي يَعتمد العقلَ - أيضاً - كأساس من أُسُس التفسير، وفهم كتاب الله سبحانه وتعالى.

* وهناك التفسير المتميِّز الذي يَتّخِذ مواقفَ مذهبيّة مُسبَقة، ويحاول أنْ يطبّق النص القرآني على أساسها.

* وهناك التفسير غير المتحيِّز، الذي يحاول أنْ يَستنْطِق النصَّ القرآني، ويطبّق الرأي على القرآن، لا القرآن على الرأي. وإلى غير ذلك من الاتجاهات المختلِفة في التفسير الإسلامي.

إلاّ أنّ الذي يهمّنا - ونحن على أبواب هذه الدراسة القرآنية - أنْ نركّز على إبراز اتجاهين رئيسيَّين لحركة التفسير في الفكر

٧

الإسلامي، ونطلق على أحدهما اسم:

( الاتجاه التجزيئي في التفسير ).

وعلى الآخر اسم:

( الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير ).

الاتجاه الأوّل:

الاتّجاه التجزيئي، المنهجُ الذي يتناول المفسِّرُ - ضمن إطاره القرآن الكريم - آيةً فآيةً، وِفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف.

والمفسّر في نطاق هذا المَنهج يسير مع المِصْحَف، ويفسّر قطعاته تدريجيّاً، بما يؤمن به مِن أدواتٍ ووسائلَ للتفسير، من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو العقل أو الآيات الأُخرى، التي تشترك مع تلك الآية في مصطلحٍ أو مفهومٍ بالقَدر الذي يُلقي ضوءً على مدلول القِطعة القرآنيّة، التي يُراد تفسيرها، مع أَخذ السياق الذي وُضِعتْ تلك القطعة ضِمنه بعين الاعتبار في كلِّ تلك الحالات.

وطبعاً نحن حينما نتحدّث عن التفسير التجزيئي نقدّمه في أوسعِ وأكملِ صورةً، التي انتهى إليها، فإنّ التفسير التجزيئي تدرَّجَ تأريخيّاً، إلى أنْ وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئية.

وكان قد بدأ في عصر الصحابة والذي يُعِين على مستوى شرح تجزيئي لبعض الآيات القرآنيّة وتفسير لمفرداتها، وكلّما امتدّ الزمن ازدادتْ الحاجة إلى تفسير المزيد من الآيات، إلى أنْ انتهى إلى الصورة التي قدّم فيها ابنُ ماجَة والطبَرِي وغيرهما كتبَهما في

٨

التفسير، في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وكانت تمثّل أوسع صورة للمنهج التجزيئي في التفسير.

فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث إنّه كان يستهدِف فهم مدلول اللفظ، وحيث إنّ فهم مدلول اللفظ كان في البداية مُيسّراً لعددٍ كبيرٍ من الناس، ثم بدأ اللفظ يتعقّد - من حيث المعنى - بمرور الزمن، وازدياد الفاصل، وتراكم الخِبرات والتجارب، وتطوّر الأحداث والأوضاع.

من هنا توسّع التفسير التجزيئي؛ تبعاً لِمَا اعترى النصَّ القرآني من غموضٍ ومن شكٍ في تحديد مدلول اللفظ، حتى تَكامَل بالطريقة التي نراها في موسوعات التفسير.

حيث إنّ المفسّر يبدأ من الآية الأولى من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، فيفسِّر القرآن آيةً آيةً؛ لأنّ كثير من الآيات بمرور الزمن أصبح معناها ومدلولها اللفظي بحاجة إلى إبرازٍ أو تجربةٍ أو تأكيدٍ ونحو ذلك. هذا هو التفسير التجزيئي.

طبعاً نحن لا نعني بالتجزيئيّة في هذا المنهج التفسيري أنّ المفسّر يقطع نظرَه عن سائر الآيات، ولا يستعين بها في فَهْم الآية المطروحة للبحث، بل إنّه قد يستعين بآياتٍ أُخرى في هذا المجال، كما يستعين بالأحاديث والروايات، ولكنّ هذه الاستعانة تَتِمُّ بقصد الكشف عن المدلول اللفظي، الذي تَحْمله الآية المطروحة للبحث، فالهدف في كلّ خطوةٍ من هذا التفسير

٩

فهمُ مدلولِ الآية التي يواجهها المفسِّر بكلّ الوسائل المُمْكِنة، أي إنّ الهدف ( هدفٌ تجزيئي )؛ لأنّه يقف دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني، ولا يتجاوز ذلك غالباً.

وحصيلةُ تفسيرٍ تجزيئي للقرآن الكريم كلِّه، تساوي - على أفضل تقديرٍ - مجموعةَ مدلولاتِ القرآن الكريم، ملحوظةً بنظرةٍ تجزيئيّةٍ أيضاً، أي إنّه سوف نحصل على أعدادٍ كبيرةٍ من المعارف والمدلولات القرآنية.

لكنْ، في حالةِ تناثُر وتراكُم عددي، دون أنْ نكتشف أوجه الارتباط، دون أنْ نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار، دون أنْ نُحدّد في نهاية المَطَاف نظريةً قرآنيةً لكلِّ مجالٍ من مجالات الحياة.

فهناك تراكم عددي للمعلومات، إلاّ أنّ الخيوط بين هذه المعلومات، أي الروابط والعلاقات التي تُحوِّلها إلى مركّباتٍ نظريّةً ومجاميعَ فكريّةً، بالإمكان أنْ نحصر على أساسها نظريةَ القرآن لمختلف المجالات والمواضيع، أمّا هذا فليس مستهدَفَاً بالذات في منهج التفسير التجزيئي، وإنْ كان قد يحصل أحياناً.

وقد أدّى هذا التناثر، ونَزْعَة الاتجاه التجزيئي، إلى ظهور التناقضات المذهبيّة العديدة في الحياة الإسلاميّة؛ لأنّه كان يكفي أنْ يجد هذا المفسِّر أو ذاك آيةً تُبَرِّر مذهبه، لكي يُعْلِن عنه، ويَجْمَع حوله

١٠

الأنصار والأشياع، كما وقع في كثيرٍ من المذاهب الكلاميّة، كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلاً، بينما كان بالإمكان تفادي كثيراً من هذه التناقضات، لو أنّ المفسِّر التجزيئي خَطَا خطوةً أُخرى، ولم يَقْتصِر على هذا التجميع العددي، كما نرى ذلك في الاتجاه الثاني.

الاتجاه الثاني:

ونسمِّيه الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير.

هذا الاتجاه لا يتناول تفسيرَ القرآن آيةً فآيةً في الطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي، بل يُحاوِل القيام بالدراسة القرآنيّة لموضوعٍ من موضوعات الحياة العقائديّة، أو الاجتماعيّة، أو الكونيّة، فيُبيِّن ويَبحث ويدرس، مثلاً:

* عقيدة التوحيد في القرآن.

* أو يبحث عقيدة النبوّة في القرآن.

* أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن.

* أو عن سنن التاريخ في القرآن.

* أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم، وهكذا.

ويَستهدِف التفسير التوحيدي أو الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديدَ موقفٍ نظريً للقرآن الكريم، وبالتالي للرسالة الإسلاميّة من ذلك الموضوع أو من موضوعاتِ الحياة أو الكون.

وينبغي أنْ يكون واضحاً: إنّ الفصل بين الاتجاهين المذكورَين ليس حدِّيَّاً على

١١

مستوى الواقع العملي والممارسة التاريخيّة لعمليّة التفسير؛ لأنّ الاتجاه الموضوعي بحاجةٍ - قطعاً - إلى تحديد المدلولات التجزيئية في الآيات، التي يُريد التعامل معها ضمن إطار الموضوع الذي يتبنّاه.

كما أنّ الاتجاه التجزيئي قد يعثر في أثناء الطريق على حقيقةٍ قرآنيّةٍ من حقائق الحياة الأخرى.

ولكنّ الاتجاهين - على أيّة حالٍ - يظلاَّن على الرغم من ذلك مختلِفَين في ملامحهما وأهدافهما وحصيلتهما الفكرية.

وممّا ساعد على شيوع الاتجاه التجزيئي للتفسير، وسيطرته على الساحة قروناً عديدة، النزعةُ الروائيّة والحديثيّة للتفسير؛ حيث إنّ التفسير لم يكنْ - في الحقيقة وفي البداية - إلاّ شعبة من الحديث بصورةٍ أو بأُخرى، وكان الحديث هو الأساس الوحيد تقريباً، مضافاً إلى بعض المعلومات اللغويّة والأدبيّة والتاريخيّة، التي يعتمد عليها التفسير، طيلةَ فترةٍ طويلةٍ من الزمن.

ومن هنا لم يكنْ بإمكان تفسيرٍ يَقِفُ عند حدود المأثور - من الروايات عن الصحابة والتابعين وعن الرسول والأئمّة - أنْ يتقدّم خطوةً أُخرى، وأنْ يحاول تركيب مدلولات القرآن، والمقارنة بينها، واستخراج النظرية من وراء هذه المدلولات اللفظية.

التفسير كان بطبعه تفسيراً لفظياً، تفسيراً للمفردات وشرحَ بعضِ المُستَجَد من المصطلحات

١٢

وتطبيقَ بعضِ المفاهيم على أسباب النزول.

ومثل هذه العمليّة لم يكن بإمكانها أنْ تقوم بدورٍ اجتهادي مُبْدِع في التوصّل إلى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي، في التوصل إلى الأفكار الأساسيّة، التي حاول القرآن الكريم أنْ يعطيها من خلال المتناثر من آياته الشريفة.

ويمكننا أنْ نقرّب إلى أذهانكم فكرةَ هذين الاتجاهَين المختلِفَين في تفسير القرآن الكريم بمثالٍ من تجربتكم الفقهيّة: -

فالفقه:

هو - بمعنى من المعاني - تفسير الأحاديث الواردة عن النبيِّين والأئمة (عليهم السلام).

ونحن نعرف من البحث الفقهي أنّ هناك كتباً فقهيةً شرحتْ الأحاديث، حديثاً حديثاً، تناولتْ كلّ حديثٍ، وشرحتْه وتكلّمتْ عنه، دلالةً أو سنداً أو متناً، أو دلالة وسنداً ومتناً على اختلاف اتجاهات الشُرّاح، كما نجد ذلك في شُرّاح الكتب الأربعة وشرّاح الوسائل.

غير أنّ القسم الأعظم من الكتب الفقهية والدراسات العلميّة في هذا المجال لم تَتَّجه هذا الاتجاه، بل صُنّف البحث إلى مسائلَ، وِفقاً لوقائع الحياة، وجُعلتْ - في إطارِ كلّ مسألةٍ - الأحاديث التي تتّصل بها، وفسّرتْها بالقدر الذي يُلقي ضوءً على تلك المسألة، ويؤدّي إلى تحديد موقف الإسلام من تلك الواقعة التي تَفترِضُها المسألة المذكورة.

وهذا هو الاتجاه الموضوعي على الصعيد الفقهي، بينما ذاك هو الاتجاه التجزيئي في

١٣

تفسير الأحاديث على هذا الصعيد.

كتاب الجواهر:

في الحقيقة، شرحٌ كاملٌ شاملٌ لروايات الكتب الأربعة، ولكنّه ليس شرحاً يبدأ بالكتب الأربعة روايةً روايةً، وإنّما يُصنِّفُ رواياتِ الكتب الأربعة وِفقاً للحياة، وِفقاً لمواضيع الحياة، كتاب البيع، كتاب الجُعالة، كتاب إحياء الموات، كتاب النكاح، ثم يجمع - تحت كلِّ عنوان من هذه العناوين - الرواياتِ التي تتّصل بذلك الموضوع، ويشرحها ويقارِن فيما بينها، فيخرج بنظريةٍ؛ لأنّه لا يكتفي بأنْ يَفهم معنى الرواية فقط بصورةٍ مفردةٍ، ومعنى هذه الرواية بصورةٍ منفردةٍ، مع هذه الحالة من الفرديّة، لا يمكن أنْ يصل إلى الحكم الشرعي.

وإنّما يصل إلى الحكم الشرعي عن طريق دراسة مجموعة من الروايات، التي تحمل مسؤوليّة توضيح حكم واحد، أو باب واحد من أبواب الحياة.

ثمّ عن طريق هذه الدراسة الشامِلَة تخرج نظريةٌ واحدةٌ من قِبَل مجموعة من الروايات، لا من قِبَل رواية واحدة. هذا هو الاتجاه الموضوعي في شرح الأحاديث.

ومن خلال المقارنة بين الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية نلاحظ:

* اختلاف مواقع الاتجاهَين على الصعيدَين.

فبينما انتشر الاتجاه الموضوعي والتوحيدي على الصعيد الفقهي، وما خَطَا الفقهُ والفكرُ الفقهي خطواتٍ في مجال تطوُّره حتّى ساد هذا

١٤

الاتجاه جُلَّ البحوث الفقهيّة، نَجِدُ أنّ العكس هو الصحيح على الصعيد القرآني، حيث سَيطر الاتجاه التجزيئي للتفسير على الساحة عبر ثلاثة عشر قرناً تقريباً، إذ كان كلُّ مفسِّرٍ يبدأ كما بدأ سَلَفُه، مفسّراً القرآنَ آيةً آيةً.

إذن الاتجاه الموضوعي هو الذي سيطر على الساحة الفقهية، بينما الاتجاه التجزيئي هو الذي سيطر على الساحة القرآنية.

وأمّا ما ظهر على الصعيد القرآني، من دراساتٍ تُسمّى: (بالتفسير الموضوعي) أحياناً - من قبيل دراسات بعض المفسّرين حول موضوعات معيّنة تتعلّق بالقرآن الكريم، كأسباب النزول في القرآن أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن - فليست من التفسير التوحيدي والموضوعي بالمعنى الذي نريده؛ فإنّ هذه الدراسات ليس في الحقيقة إلاّ تجميعاً عدديّاً لقضايا من التفسير التجزيئي، لوحِظَ فيما بينها شيءٌ من التشابه. وفي كلمةٍ أُخرى:

ليستْ كلُّ عمليّةِ تجميعٍ أو عزلٍ دراسةً موضوعيةً، وإنّما الدراسة الموضوعيّة هي:

* التي تطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائديّة، أو الاجتماعيّة، أو الكونيّة، وتتّجه إلى دَرْسِهِ وتقييمه من زاويةٍ قرآنيّةٍ؛ للخروج بنظريّةٍ قرآنيّة بصدده.

وأكثر ظنّي، أنّ الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه - بامتداده وانتشاره - ساعد بدرجةٍ كبيرةٍ على تطوير الفكر الفقهي وإثراء

١٥

الدراسات العلميّة في هذا المجال، بقدرِ ما ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النموِّ المستمِر، وساعد على إكسابه حالة تَشْبه الحالات التكرارية، حتى تكاد تقول:

إنّ قروناً من الزمن متراكمة مرّتْ بعد تفاسير الطبري والرازي والطوسي، لم يحقِّق فيها الفكرُ الإسلامي مكاسبَ حقيقيةً جديدةً.

وظلّ التفسير ثابتاً لا يتغيّر إلاّ قليلاً، من خلال تلك القرون، على الرغم من ألوان التغيّر التي حفلتْ بها الحياة بمختلف الميادين، وسوف يتّضح إنشاء الله تعالى - من خلال المقارَنَة بين الاتجاهَين - السببُ والسرُّ الذي يكمن وراء هذه الظاهرة.

* لماذا كانت الطريقة التجزيئيّة عامِلاً في إعاقة النمو؟

* ولماذا تكون الطريقةُ الموضوعيّة والاتجاه التوحيدي عامِلاً في النمو والإبداع، وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد؟

لكي نعرف لماذا كان هذا ولماذا كان ذاك، يجب أن نُكوِّن انطباعاتٍ أوضح وأكثر تحديداً عن هذين الاتجاهين، وأنْ يتّضح ذلك بعد أنْ نشرح بعض أوجه الاختلاف بين هذين الاتّجاهين التفسيريين فيما يلي:

أوّلاً:

إنّ دَور المفسّر التجزيئي سلبيٌّ على الأغلب، فهو يبدأ أوّلاً:

* بتناول النص القرآني المحدّد، آيةً مثلاً، أو مَقْطعاً قرآنيّاً، من دون أي افتراضاتٍ أو طروحات مسبَقَة.

١٦

* ويحاول أنْ يحدِّد المدلولَ القرآني على ضوء ما يُسعِفه به اللفظُ مع ما يُتاح له من القرائن المتّصلة والمنفصلة.

العمليّةُ في طابعها العام، عمليةُ تفسيرِ نصٍّ معيّنٍ، وكأنّ دورَ النصِّ فيها دورُ المتحدِّث، ودور المفسِّر هو الإصغاء والتفهُّم، وهذا ما نسمّيه بالدور السلبي.

المفسّرُ هنا شُغله أنْ يستمِع، لكنْ بذِهْنٍ مضيءٍ، بفكرٍ صافٍ، بروحٍ مُحيطة بآداب اللغة وأساليبها في التعبير، بمثل هذه الروح.

بمثل هذه الذهنية، وبمثل هذا الفكر يجلس بين يدي القرآن؛ ليستمع، وهو ذو دورٍ سلبي والقرآن ذو دور ايجابي، والقرآن يعطي حينئذٍ، وبقدر ما يفهم هذا المفسّرُ من مدلول اللفظ يُسَجِّل في تفسيره.

وخلافاً لذلك المفسّر التوحيدي والموضوعي، فإنّه:

* لا يبدأ في عمله من النص، بل من واقع الحياة، فيركِّز نظرَه على موضوعٍ من موضوعات الحياة العقائديّة، أو الاجتماعيّة، أو الكونيّة.

* ويستوعِب ما أثارتْه تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ.

* ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتّخذ من نفسه - بالنسبة إلى النص - دورَ المستمِع والمسجِّل فحسب، بل لِيطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرِقاً بعددٍ كبيرٍ من الأفكار والمواقف البشريّة.

* ويبدأ

١٧

مع النص القرآني حواراً، المفسّر يسأل، والقرآنُ يُجيبُ المفسِّرَ على ضوءِ الحصيلة التي استطاع أنْ يجمعها من خلال التجارب البشريّة النافِعة، وهو يَستهدِف من ذلك أنْ يكتشفَ موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح، والنظريّة التي بإمكانه أنْ يَسْتَلهِمَها من النص، من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحِث عن الموضوع، من أفكارٍ واتجاهاتٍ.

ومنْ هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائجَ مرتبطةً دائماً بتيّار التجربة البشرية؛ لأنّها تمثّل المعالم والاتّجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة.

ومنْ هنا - أيضاً - كانت عمليّة التفسير الموضوعي عمليّةَ حوارٍ مع القرآن الكريم واستنطاقٍ له، وليستْ عمليّةَ استجابةٍ سلبيّةٍ، بل استجابة فعّالة، وتوظيفاً هادِفاً للنص القرآني، في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتحدّث عن القرآن الكريم:

(( ذلك القرآن فاستنطِقوه ولنْ ينطقَ، لكنْ أُخبركم عنه، ألاَ إنّ مِنْه علمَ ما يأتي، والحديثَ عن الماضي، ودواءَ دائكم، ونظْمَ ما بينكم )).

التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن ( عليه السلام ) أروعُ تعبيرٍ عن عمليّة التفسير الموضوعي، بوصفها حواراً مع القرآن الكريم، وطَرْحاً للمشاكل الموضوعيّة عليه، بقصد الحصول على الإجابة

١٨

القرآنيّة عليها.

إذنْ، فأوّل أوجه الاختلاف الرئيسيّة بين الاتجاه التجزيئي في التفسير، والاتجاه الموضوعي في التفسير: -

* أنّ الاتجاه التجزيئي يكون دورُ المفسّر فيه دوراً سلبيّاً، يستمِع ويسجِّل.

* بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه، وليس هذا كُنْهُهُ، وإنّما وظيفةُ التفسير الموضوعي دائماً في كلّ مرحلةٍ وفي كلّ عصرٍ أنْ يحمل كلَّ تُراث البشريّة الذي عاشَهُ، يحمِل أفكار عصره، يحمِل المقولات التي تعلَّمها مِن تجربته البشرية، ثم يضعها بين يدي القرآن، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلْفه؛ ليحكم على هذه الحصيلة بما يُمكن لهذا المفسِّر أنْ يفهمه مِنْ خلال مجموعة آياته الشريفة.

إذنْ فهنا يَلْتَحِم القرآن مع الواقع، واقع الحياة؛ لأنّ التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن، لا أنّه يبدأ مِن القرآن وينتهي في القرآن، فيكون عمليّةً مُنْعَزِلَةً عن الواقع، بل هذه العمليّة تبدأ مِن الواقع وتنتهي بالقرآن، بوصفه القَيِّم والمصدر الذي يُجَدَّد على ضوئه الاتجاهاتِ الربّانيّة بالنسبة إلى ذلك الواقع.

ومن هنا تبقى للقرآن حينئذٍ قدرته على القَيْمُوْمَة والعطاء المُستجِد، بشكلٍ دائمٍ.

فالقرآن الكريم دلّت الروايات على أنّه لا ينفد، وصرّح القرآن نفسُه بأنّ كلمات الله لا تنفَد، عطاءُ القرآن لا ينفَد، بينما

١٩

التفسير اللغوي ينفَد؛ لأنّ اللغة لها طاقات محدودة، وليس هناك تَجدُّد في الملول اللغوي، ولو وُجِد تجدّد في المدلول اللغوي فلا معنى لتحكيمه على القرآن، ولو وجدتْ لغةٌ أُخرى بعد القرآن فلا معنى لأنْ يُفهم القرآن من خلال لغةٍ جديدةٍ، أو ألفاظ تحمل مصطلحاتٍ جديدةٍ استُحْدثتْ بعد القرآن.

إذنْ فحالة عدم النفاد تَكْمن في منهج التفسير الموضوعي؛ لأنّنا نستنطِق القرآن - وفيه علم ما كان، وعلم ما يأتي، ودواء دائنا، ونظم ما بيننا - ما يمكن أنْ نَسْتشِف منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض.

فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادراً على التطوّر والنمو؛ لأنّ التجربة البشرية تُثْرِيه، والدرس القرآني والتأمّل القرآني - على ضوء التجربة البشرية - يجعل هذا الثراء محوراً إلى فهمٍ إسلامي، قرآني، صحيح.

والحمد لله رب العالمين.

٢٠