مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 50877
تحميل: 6397

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50877 / تحميل: 6397
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

على مستوى عرض هذه القوانين وبيان مصاديق ونماذج وأمثلة من هذه القوانين التي تتحكّم في المسيرة التاريخية للإنسان.

وبيّنت في سياق آخر على نحوٍ تمتزج فيه النظريّة مع التطبيق، أي بُيِّنَ المفهوم الكلّي، وبَيِّنٍ في إطار مِصداقه.

وفي آيات أُخرى حصل الحثّ الأكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية وشحذ الهمم؛ لإيجاد عمليّة استقراء للتاريخ، وعمليّة الاستقراء للحوادث كما تعلمون هي عمليّة عِلْمِيّة بطبيعتها، تُريد أنْ تُفتِّش عن سُنّةٍ، عن قانونٍ، وإلاّ فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنّة أو قانون.

إذنْ هناك أَلْسِنَةٌ متعدِّدةٌ درجت عليها الآيات القرآنية في مقام توضيح هذه الحقيقة وبلورتها.

٤١

الدرس الرابع:

قلنا: إنّ هذه الفكرة القرآنيّة، عن سنن التاريخ، بُلْوِرَتْ في عددٍ كثير من الآيات بأشكال مختلِفة وأَلْسِنَة متعدّدة، في بعض هذه الآيات أُعطيتْ الفكرة بصيغتها الكلِّيّة، وفي بعض الآيات أُعطيتْ على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج.

في بعض الآيات وقع الحثُّ على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخيّة من أجل الوصول إلى السنّة التاريخية.

وهناك عددٌ كثير من الآيات الكريمة استعرضتْ هذه الفكرة بشكلٍ وآخر، وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة، وبعض هذه الآيات التي سنستعرضها واضحُ الدلالة على المقصود، والبعض الآخر له نحو دلالة بشكلٍ وآخر، أو يكون معزَّزاً ومؤيَّداً للروح العامّة لهذه الفكرة القرآنية...

فمن الآيات الكريمة التي أُعطيتْ فيها الفكرة الكلّيّة، فكرة أنّ التاريخ له سننٌ وضوابط ما يلي:( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً

٤٢

وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) .

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (٢) .

نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين أنّ الأجل أُضيف إلى الأُمّة، إلى الوجود المَجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات أو هذا الفرد بالذات.

إذنْ، هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكلِّ إنسان بوصفه الفردي، هناك أجلٌ آخر، وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، للأُمّة بوصفها مُجتَمَعاً يُنْشَئ ما بين أفراده العلاقاتُ والصلات القائمة على مجموعة من الأفكار والمبادئ المُسْنَدَة بمجموعةٍ من القوى والقابليّات.

هذا المجتمع الذي يُعبِّر عنه القرآن الكريم بالأُمّة، هذا له أجلٌ، له موتٌ، له حياةٌ، له حركةٌ، كما أنّ الفرد يتحرّك فيكون حيّاً ثم يموت، كذلك الأُمّة تكون حيّةً ثم تموت، وكما أنّ موت الفرد يخضع لأَجَلٍ ولِقَانونٍ ولِنَاموسٍ، كذلك الأُمم لها آجالها المضبوطة، وهناك نواميس تحدِّد لكلِّ أُمّة هذا الأجَل.

إذنْ هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاءٌ واضحٌ للفكرة الكلِّيَّة، فكرةُ أنّ التاريخ له سننٌ تتحكّم به وراء السنن الشخصية التي تتحكّم في الأفراد بهويّاتهم الشخصيّة.

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ

____________

(١) سورة يونس: الآية (٤٩).

(٢) سورة الأعراف: الآية (٣٤).

٤٣

مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) (١) .

( مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) (٢).

( أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) (٣) .

ظاهر الآية الكريمة أنّ الأجل الذي يترقّب أنْ يكون قريباً، أو يهدّد هؤلاء بأنْ يكون قريباً، هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردي؛ لأنّ قوماً بمجموعهم لا يموتون عادةً في وقتٍ واحدٍ، وإنّما الجماعة بوجودها المعنوي الكلِّي هو الذي يمكن أنْ يكون قد اقترب أجله.

فالأجل الجماعي هنا يعبِّر عن حالةٍ قائمةٍ بالجماعة، لا عن حالة قائمة بهذا الفرد أو بذاك؛ لأنّ الناس عادةً تختلِف آجالهم حينما ننظر إليها بالمنظار الفردي، لكنْ حينما ننظر إليهم بالمنظار الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظُلْمها وعَدْلها، في سرَّائها وضَرَّائها، حينئذ يكون لها أجلٌ واحدٌ، فهذا الأجل الجماعي المُشار إليه إنّما هو أجل الأُمّة، وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة.

( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ

____________

(١) سورة الحجر: الآية: (٤ - ٥).

(٢) سورة المؤمنون: الآية (٤٣).

(٣) سورة الأعراف: الآية (١٨٥).

٤٤

يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ) (٢) .

( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) (٢) .

( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ) (٣) .

في هاتين الآيتين الكريمتين تحدّث القرآن الكريم عن أنّه لو كان الله يريد أنْ يُؤاخذ الناس بظلمهم وبما كسبوا لَمَا ترك على ساحة الناس من دابّةٍ، ولأَهْلَكَ الناس جميعاً.

وقد وقعتْ مشكلةٌ في كيفيّة تصوير هذا المفهوم القرآني، حيث إنّ الناس ليسوا كلّهم ظالمين عادةً، فيهم الأنبياء، فيهم الأئمّة، الأوصياء. هل يشمل الهلاكُ الأنبياءَ والأئمّة العدول من المؤمنين؟

حتى إنّ بعض الناس استغلّ هاتَين الآيتين لإنكار عصمة الأنبياء (عليهم السلام) والحقيقة إنّ هاتين الآيتين تتحدّثان عن عِقاب دنيوي لا عن عقاب أُخروي، تتحدّث عن النتيجة الطبيعيّة لِمَا

____________

(١) سورة الكهف: الآية (٥٨-٥٩).

(٢) سورة النحل: الآية (٦١).

(٣) سورة فاطر: الآية (٤٥).

٤٥

تكسبه أُمّةٌ عن طريق الظلم والطغيان. هذه النتيجة الطبيعية لا تختصّ حينئذٍ بخصوص الظالمين من أبناء المجتمع، بل تعمُّ أبناء المجتمع، على اختلاف هويّاتهم وعلى اختلاف أنحاء سلوكهم.

حينما وقع التَيْهُ على بني إسرائيل نتيجةَ ما كسب هذا الشعب بظُلمه وطُغيانه وتمرّده، هذا التَيْه لم يختص بخصوص الظالمين من بني إسرائيل، وإنّما شمل موسى (عليه السلام) شمل أطهر الناس وأزكى الناس، وأشجع الناس، في مواجهة الظَلَمة والطواغيت؛ لأنّ موسى (عليه السلام) جزءٌ من تلك الأُمّة، وقد حلّ الهلاك بها، قد قُرِّرَ نتيجةَ ظلمهم أنْ يتيهوا أربعين عاماً، وبهذا شمل التَيْهُ موسى (عليه السلام).

حينما حلّ البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فأصبح يزيدُ بن معاوية خليفةً عليهم، يتحكّم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وعقائدهم، حينما حلّ هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الإسلامي، وقتئذٍ شمل الحسينَ (عليه السلام)، أطهر الناس، وأزكى الناس، وأطيب الناس، وأعدل الناس.

شمل الإمام المعصوم (عليه السلام) فَقُتِلَ تلك القتلة الفظيعة، هو وأصحابه وأهل بيته، هذا كله هو منطق سُنّة التاريخ.

والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمعٍ وِفْقَ سنن التاريخ، لا يختصُّ بالظالمين من أبناء ذلك المجتمع، ولهذا قال القرآن الكريم في آيةٍ أُخرى:

( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ

٤٦

تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (١) .

بينما يقول في موضع آخر:

(وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (٢) .

فالعقاب الأخروي دائماً ينصب على العامل مباشرة، وأمّا العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك.

إذنْ هاتان الآيتان تتحدّثان عن سنن التاريخ، لا عن العقاب بالمعنى الأخروي والعذاب بمقاييس يوم القيامة، بل عن سنن التاريخ وما يمكن أنْ يحصل نتيجةَ كسب الأُمّة، سعي الأمّة، جهد الأمّة.

( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) (٣) .

هذه الآية الكريمة أيضا تؤكّد المفهوم العام، يقول:( وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) هذه سُنّة سَلَكْناها مع الأنبياء من قبلك، وسوف تستمر، ولنْ تتغير، أهلُ مكّة يحالون أنْ يستفزِّوك لِتَخرج منْ مكّة؛ لأنّهم عجزوا عن إمكانيّة القضاء عليك، وعلى كلمتك، وعلى دعوتك، ولهذا صار أَمَامهم طريق واحد، وهو إخراجك منْ مكّة.

وهناك سنّة منْ سنن التاريخ - سوف يأتي شرحها بعد

____________

(١) سورة الأنفال: الآية (٢٥).

(٢) سورة فاطر: الآية (١٨).

(٣) سورة الإسراء: الآية (٧٦-٧٧).

٤٧

ذلك - يُشار إليها في هذه الآية الكريمة، وهي: أنّه إذا وصلتْ عملية المعارضة إلى مستوى إخراج النبي منْ هذا البلد بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والأساليب الأخرى، فإنّهم لا يلبِثُون بعده إلاّ قليلاً.

ليس المقصود منْ: (أنّهم لا يلبِثون إلاّ قليلاً) يعني أنّه سوف يَنزل عليهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء؛ لأنّ أهل مكّة أخرجوا النبيَّ بعد نزول هذه السورة، استفزّوه وأرعبوه، وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من مكة إذ لم يجد له أماناً وملجأً فيها، فخرج إلى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة.

وإنّما المقصود في أكبر الظن منْ هذا التعبير أنّهم لا يمكثون كجماعةٍ صامدةٍ معارِضةٍ، يعني كموقعٍ اجتماعيً لا يمكثون، لا كأناس، كبشر، وإنّما هذا الموقع سوف ينهار نتيجةَ هذه العمليّة، لا يمكثون إلاّ قليلاً؛ لأنّ هذه النبوّة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها، سوف تستطيع بعد ذلك أنْ تهزّ هذه الجماعة كموقع للمعارَضة.

وهذا ما وقع فعلاً، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين أُخرج منْ مكّة لم يمكثوا بعده إلاّ قليلاً، إذْ فقدتْ المعارَضة في مكّة موقعَها، وتحوّلتْ مكّة إلى جزءٍ من دار الإسلام بعد سنين معدودة.

إذنْ الآية تتحدّث عن سنّة من سنن التاريخ، وتؤكّد وتقول:

( وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ).( قَدْ خَلَتْ مِنْ

٤٨

قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ) (١) .

تؤكّد هذه الآية على السنن وتؤكّد على الحقّ والتتبع لأحداث التاريخ؛ من أجل استكشاف هذه السُنن والاعتبار بها.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ... ) (٢) .

هذه الآية أيضاً تثبّتُ قلبَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، تحدِّثه عن التجارب السابقة، تربطه بقانون التجارب السابقة، توضّح له أنّ هناك سنّة تجري عليه وتجري على الأنبياء الذين مارسوا التجربة من قبله، وأنّ النصر سوف يأتيه ولكنْ للنصر شروطه الموضوعية: -

الصبر، والثبات، واستكمال الشروط. هذا هو طريق الحصول على هذا النصر، ولهذا يقول:

( فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) .

إذنْ، هناك كلمةٌ لله لا تتبدّل على مرِّ التاريخ، هذه الكلمة هي علاقةٌ قائمةٌ بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات، وُضِّحَتْ في آياتٍ متفرقة وجُمِعَتْ على وجه الإجمال هنا. إذنْ فهناك سنّة للتاريخ.

(... فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً *

____________

(١) سورة آل عمران: الآية (١٣٧).

(٢) سورة الأنعام: الآية (٣٤).

٤٩

اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) (١) .

( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) (٢) .

هناك آياتٌ استعرضتْ نماذجَ من سنن التاريخ:

(..إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.. ) (٣) .

المحتوى الداخلي النفسي والروحي للإنسان هو القاعدة، الوضع الاجتماعي هو البناء العلْوِي، لا يتغيّر هذا البناء العلوي إلاّ وِفقاً لتغيّر القاعدة على ما يأتي - إنْ شاء الله - شرحُهُ بعد ذلك.

هذه الآية إذنْ تتحدّث عن علاقة معيّنة بين القاعدة والبناء العلوي، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للإنسان وبين الوضع الاجتماعي، بين داخل الإنسان وبين خارج الإنسان، فخارج الإنسان يصنعه داخل الإنسان، مرتبطٌ بداخل الإنسان، فإذا تغيَّر ما بنفس القوم تغيّر وضْعُهم، وعلاقاتهم، والروابط التي تربط بعضهم ببعض.

إذنْ فهذه سنّة

____________

(١) سورة فاطر: الآية (٤٣).

(٢) سورة الفتح: الآية (٢٢-٢٣).

(٣) سورة الرعد: الآية (١١).

٥٠

من سنن التاريخ ربطت القاعدة بالبناء العلوي.

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ.. ) (١) .

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (٢) . يستنكِر عليهم أنْ يأملوا في أنْ يكون لهم استثناء من سنن التاريخ، هل تطمعون أنْ يكون لكم استثناء من سنة التاريخ، وأنْ تدخلوا الجنّة، وأنْ تُحقِّقوا النصر، وأنتم لم تعيشوا ما عاشتْه تلك الأُمم التي انتصرتْ ودخلت الجنّة، من ظروفِ البأساء والضراء التي تصل إلى حدِّ الزلزال، على ما عبّر القرآن الكريم؟

إنّ هذه الحالات - حالات البأساء والضراء - التي تتعَمْلق على مستوى الزلزال، هي في الحقيقة مدرسة للأمّة، هي امتحان لإرادة الأمّة، لصمودها، لثباتها؛ لكي تستطيع بالتدريج أنْ تكتسب القدرة على أنْ تكون أمّةً وسطاً بين الناس.

إذنْ نصر الله قريب، لكنّ النصر له طريق. هكذا يريد أنْ يقول القرآن: نصر الله ليس أمراً عفويّاً، ليس أمراً على سبيل الصُدفة، ليس أمراً عمياويّاً. نصر الله قريب

____________

(١) سورة الأنفال: الآية (٥٣).

(٢) سورة البقرة: الآية (٢١٤).

٥١

ولكنْ اهْتدِ إلى طريقه، الطريق لا بدّ أنْ تعرف فيه سنن التاريخ، لا بدّ وأنْ تعرف فيه منطق التاريخ؛ لكي تستطيع أنْ تهتدي فيه إلى نصر الله سبحانه وتعالى.

قد يكون الدواء قريباً من المريض، لكنْ إذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلميّة التي تؤدِّي إلى إثبات أنّ هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء، لا يستطيع أنْ يَستعمِل هذا الدواء، حتى ولو كان قريباً منه.

إذنْ، الاطِّلاع على سنن التاريخ هو الذي يُمكِّن الإنسان من التوصل إلى النصر، فهذه الآية تَستنكِر على المخاطَبين لها أنْ يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ.

(... وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.. ) (١) .

هذه علاقة قائمة بين النبوّة على مَرِّ التاريخ، وبين موقع المُترَفين والمسرِفين في الأمم والمجتمعات. هذه العلاقة تمثّل سنّة من سنن التاريخ، وليستْ ظاهرة وقعتْ في التاريخ صُدفة، وإلاّ لَمَا تكرّرتْ بهذا الشكل المطّرد لمّا قال: -

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا )

إذنْ، هناك علاقة سلبيّة، هناك علاقة تَطَارد وتناقض بين

____________

(١) سورة سبأ: الآيات (٣٤-٣٥).

٥٢

موقع النبوّة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية، والموقع الاجتماعي للمُترفين والمسرفين.

هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوّة في المجتمع، ودور المترفين والمسرفين في المجتمع. هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع، بما سوف يتّضح إنْ شاء الله حينما نبحث عن دور النبوّة في المجتمع والمَوقع الاجتماعي للنبوّة، سوف يتّضح حينئذٍ أنّ النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المُترفين والمُسرفين. إذنْ هذه سنة من سنن التاريخ.

(.. وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً ) (١) .

هذه الآية أيضاً تتحدّث عن علاقة معيّنة بين ظلمٍ يسود ويسيطر، وبين هلاكٍ تُجرُّ إليه الأمّة جرّاً، وهذه العلاقة أيضاً الآيةُ تؤكِّد أنّها علاقةٌ مطَّرِدة على مرِّ التاريخ، وهي سنّة من سنن التاريخ.

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم... ) (٢) .

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ

____________

(١) سورة الإسراء: الآية (١٦-١٧).

(٢) سورة المائدة: الآية (٦٦).

٥٣

وَلَكِنْ كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (١) .

( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً ) (٢) .

هذه الآيات الثلاث تتحدّث عن علاقة معيّنة، هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام الله سبحانه وتعالى، وبين وَفرة الخيرات وكثرة الإنتاج وبِلُغَةِ اليوم بين عدالة التوزيع وبين وَفرة الإنتاج. القرآن يؤكِّد أنّ المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع، هذه العدالة في التوزيع التي عبّر عنها القرآن تارةً:

( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ) ،وأخرى:

( لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ ) ، وأُخرى بأنّهم:

( لَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ؛ لأنّ شريعة السماء نزلتْ من أجل تقرير عدالة التوزيع، من أجل إنشاء علاقات التوزيع على أُسسٍ عادلةٍ. يقول: -

لو أنّهم طبّقوا عدالة التوزيع لَمَا وقعوا في ضيقٍ من ناحية الثروة المُنْتَجَة، وفي فقرٍ، بل لازداد الثراء والمال وازدادت الخيرات والبركات، لكنّهم تخيّلوا أنّ عدالة التوزيع تقتضي الفقر، بينما الحقيقة السُنّة التاريخية تؤكِّد عكس ذلك، تؤكِّد بأنّ

____________

(١) سورة الأعراف: الآية (٩٦).

(٢)سورة الجن: الآية (١٦).

٥٤

تطبيق شريعة السماء وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع تؤدِّي - دائماً وباستمرار - إلى زيادة الإنتاج وإلى كثرة الثروة، إلى أنْ يفتح على الناس بركات السماء والأرض. إذنْ هذه أيضاً سنّة من سنن التاريخ.

وهناك آيات أُخرى أكّدتْ على الاستقراء والنظر والتدبّر في الحوادث التاريخية، من أجل تكوين نظرة استقرائية من أجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية: -

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) (١) .

( أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (٢) .

( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ... ) (٣) .

( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ

____________

(١) سورة محمّد: الآية (١٠).

(٢) سورة يوسف: الآية (١٠٩).

(٣) سورة الحج: الآية (٤٥ - ٤٦).

٥٥

شَهِيدٌ ) (١) .

من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلْور المفهوم القرآني، وهو تأكيد القرآن على أنّ الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط، كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الأُخرى.

وهذا المفهوم القرآني يُعتبر فتْحاً عظيماً للقرآن الكريم؛ لأنّنا - بحدود ما نعلم القرآن - أوّلُ كتابٍ عَرَفَهُ الإنسان أكّد على هذا المفهوم وكشف عنه وأصرّ عليه، وقاوم بكلّ ما لديه من وسائل الإقناع والتفهيم، قاوم النظرة العَفَوِيَّة أو النظرة الغيبيّة الاستسلامية بتفسير الأحداث.

الإنسان الاعتيادي كان يفسِّر أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكِمة من الأحداث، يفسِّرها على أساس الصُدفة - تارةً - وعلى أساس القضاء والقدرة والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى.

القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العَفَوِيَّة، وقاوم هذه النظرة الاستسلامية، ونبَّه العقلَ البَشَرِي إلى أنّ هذه الساحة لها سنن ولها قوانين، وأنّه لكي تستطيع أنْ تكون إنساناً فاعِلاً مؤثِّراً لا بدّ لك أنْ تكتشف هذه السنن، لا بدّ وأنْ تتعرّف على هذه القوانين؛ لكي تستطيع أنْ تتحكّم فيها، وإلاّ تحكّمتْ هي فيك وأنت مُغْمَضُ العينين، افتح عينيك على هذه

____________

(١) سورة ق: الآية (٣٦-٣٧).

٥٦

القوانين وعلى هذه السنن؛ لكي تكون أنت المتحكِّم، لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكِّمة فيك.

هذا الفتح القرآني الجليل، هو الذي مهّد إلى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرونٍ، إلى أنْ تَجْرِي محاولات لفهم التاريخ فهْماً عمليّاً.

بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأتْ هذه المحاولات على أيدي المسلمين أنفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ، وكشف سُنَنِهِ وقوانينه، ثمّ بعد ذلك بأربعة قرونٍ - على أقلّ تقديرٍ - اتجه الفكر الأوربِّي في بدايات ما يُسمَّى بعصر النهضة، بدأ؛ لكي يجسِّد هذا المفهوم الذي ضيَّعه المسلمون، والذي لم يستطع المسلمون أنْ يتوغّلوا إلى أعماقه.

هذا المفهوم أخذه الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة، وبدأتْ هناك أبحاث مُتنوِّعة ومُختلِفة، حول فهم التاريخ وفهم سُنَنه، ونشأتْ على هذا الأساس اتجاهات مثاليّة ومادِّية ومتوسِّطة ومدارس متعدِّدة، كلُّ واحدةٍ منها تُحاوِل أنْ تحدّد نواميس التاريخ، وقد تكون المادّية التاريخيّة أشهر هذه المدارس، وأَوسعها تَغَلْغُلاً، وأكثرها تأثيراً في التاريخ نفسه.

إذنْ كلّ هذا الجهد البشري - في الحقيقة - هو استمرار لهذا التنبيه القرآني، ويبقى للقرآن الكريم مَجْدُه في أنّه طرح هذه الفكرة لأوّل مرّة على ساحة المعرفة البشريّة.

٥٧

الدرس الخامس:

من خلال استعراضنا السابق للنصوص القرآنية البيِّنة، التي أوضحتْ فكرة السنن التاريخية، وأكّدت عليها، يمكننا أنْ نستخلص - من خلال المقارنة بين تلك النصوص - ثلاث حقائق أكّد عليها القرآن الكريم بالنسبة إلى سنن التاريخ: -

الحقيقة الأولى:

هي الاطّراد بمعنى أنّ السنّة التاريخية مطّرِدة، ليست علاقة عشوائية ذات طابع موضوعي، لا تتخلّف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون وعلى السنن العامة.

وكان التأكيد على طابع الاطّراد في السنة تأكيداً على الطابع العلمي للقانون التاريخي؛ لأنّ القانون العلمي أهم مميِّز يميِّزه عن بقية المعادلات والفروض هو الاطّراد والتتابع وعدم التخلّف.

ومن هنا استهدَف القرآن الكريم من خلال التأكيد على طابع الاطّراد في السنة التاريخية، استهدَف أنْ

٥٨

يؤكِّد على الطابع العلمي لهذه السنّة، وأنْ يخلق في الإنسان المسلم شعوراً على جريان أحداث التاريخ، متصبِّراً لا عشوائياً، ولا مستسلِماً ولا ساذِجاً.

( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) (١) .

( وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) (٢) .

( وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) (٣) .

هذه النصوص القرآنية تُقدّم استعراضاً، تؤكِّد فيه طابع الاستمراريّة والاطّراد، أي طابع الموضوعيّة والعلميّة للسنّة التاريخيّة، وتستنكِر هذه النصوص الشريفة، كما تقدّم في بعضها أنْ يكون هناك تفكير أو طمع لدى جماعة من الجماعات، بأنْ تكون مستثناة من سنّة التاريخ.

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (٤).

هذه الآية تستنكر على مَن يطمع في أنْ يكون حالة استثنائية من سنّة التاريخ، كما شرحنا في ما مضى.

إذن الروح العامّة للقرآن تؤكِّد على هذه الحقيقة الأولى، وهي حقيقة

____________

(١) سورة الأحزاب: الآية (٦٢).

(٢) سورة الإسراء: الآية (٧٧).

(٣) سورة الأنعام: الآية (٣٤).

(٤) سورة البقرة: الآية (٢١٤).

٥٩

الاطّراد في السنّة التاريخية الذي يعطيها الطابع العلمي؛ مِن أجل تربية الإنسان على ذِهنيّةٍ واعية علميّة، يتصرّف في إطارها ومِن خلالها مع أحداث التاريخ.

الحقيقة الثانية:

الحقيقة الثانية التي أكّدتْ عليها النصوصُ القرآنيّة هي ربّانيّة السنّة التاريخية.

إنّ السنة التاريخية ربّانيّة مرتبِطة بالله سبحانه وتعالى، سُنّة الله، كلمات الله، على اختلاف التعبير، بمعنى أنّ كلّ قانونٍ من قوانين التاريخ، هو كلمةٌ من الله سبحانه وتعالى، وهو قرار ربّاني.

هذا التأكيد مِن القرآن الكريم على ربّانيِّة السُنّة التاريخية وعلى طابعها الغيبي، يستهدف: -

* شدّ الإنسان - حتى حينما يريد أنْ يستفيد من القوانين الموضوعيّة للكون - شدّه بالله سبحانه وتعالى.

* وإشعار الإنسان بأنّ الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونيّة والاستفادة مِن مختلف القوانين والسنن التي تتحكّم في هذه الساحات، ليس ذلك انعزالاً عن الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الله يمارِس قدرتَه من خلال هذه السُنن، ولأنّ هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، وهي مُمَثَّلَةٌ لحكمة الله وتدبيره في الكون.

وقد يتوهّم البعضُ أنّ هذا الطابع الغَيبي الذي يُلْبِسُهُ القرآنُ

٦٠