تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة0%

تجلي القرآن في نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 130

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف: آية الله محمد تقي مصباح اليزدي
تصنيف:

الصفحات: 130
المشاهدات: 64097
تحميل: 7081

توضيحات:

تجلي القرآن في نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 130 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64097 / تحميل: 7081
الحجم الحجم الحجم
تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

استغلال مواطن ضعف شياطين الإنس وعبيد الدنيا؛ لإبعاد الناس عن القرآن، ومن البديهي أنّه لا يُرتجى من الشيطان غير ذلك؛ لأنّه سبق وأن أقسم :( فَبِعِزّتِكَ لأُغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (١) وفي سياق تطبيق الشيطان لخطّته الهادفة إلى إضلال الناس وحرمانهم من معارف القرآن، فهو يتشبّث بالمتشابهات من آيات القرآن، ويحثّ عبيد الدنيا وأولياءه على اتّباع متشابهات القرآن بدون الالتفات إلى محكماته، لكي يتسنّى له عن طريقهم إلقاء الشبهات والشكوك إلى الآخرين وإضلالهم، لقد قال الباري تعالى، بعد تقسيمه آيات القرآن الكريم إلى محكمات ومتشابهات :( فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) (٢) فالذين يعج وجودهم انحرافاً ولوثاً وعبادةً للذات والمريضة قلوبهم، والواقعون تحت تأثير إيحاءات الشيطان، يتركون محكمات القرآن والعقائد المسلّمة والواضحة للدين، ويحاولون مستندين إلى ظاهر الآيات المتشابهة إضلال الناس من خلال الكلام والتفاسير الخاطئة والتحريف في معارف القرآن، أمثال هؤلاء ربائب الشيطان الذين يعينونه على تحقيق غايته، والقرآن الكريم يصفهم بعناوين مثل :( في قلوبِهِم زيغٌ ) أو( في قلوبِهِم مرضٌ ) ويحذّر الناس من اتّباعهم.

إنّ ما يُبحث في هذا المجال هو، بيان دوافع أمثال هؤلاء الناس في معارضتهم للثقافة الدينية من وجهة نظر القرآن، فالقرآن الكريم ينصّ على أنّ مَن يتّخذون متشابهات القرآن ملاكاً لفكرهم وعملهم بقصد ( ابتغاء الفتنة )، ويتذرّعون بالمتشبهات أو بتأويلات وتفسيرات سقيمة للآيات، يتركون ظاهر القرآن ويثيرون الفتنة.

السؤال الذي يُثار هنا هو ما معنى الفتنة ؟ وما ابتغاء الفتنة ؟ قال علماء اللغة، وخاصة مَن يحرص منهم على إرجاع الكلمات إلى أصولها، وتفسيرها في ضوء معناها الأصلي، بأنّ الفتنة تعني أساساً تسخين الشيء على النار، فعندما يوضع الشيء على

____________________

(١) ص : ٨٢ و٨٣.

(٢) آل عمران : ٧.

١٠١

النار لتسخينه أو حرقه أو إذابته، فالعرب يقولون عن هذا العمل ( فتنة )، وفي القرآن الكريم استخدمت كلمة ( فتنة ) بهذا المعنى اللغوي، فحينما يقول :( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) ،(١) أي يوم يحرَقون بالنار.

وعلى هذا الأساس فإنّ أصل المعنى اللغوي ل- ( الفتنة ) هو الحرق والإذابة، ولكن كما يقول علماء اللغة : إنّ المعنى اللغوي يسري أحياناً على لوازمه أو ملزوماته في ضوء ما لذلك المعنى اللغوي من اللوازم، ويغدو ذلك اللازم تدريجياً بمثابة معنىً ثانٍ وثالث للكلمة من خلال إشراب قرينة المعنى، واستعمال تلك الكلمة في قرينة المعنى، وهكذا الحال بالنسبة إلى كلمة الفتنة أيضاً؛ لأنّه - كما سبق القول - فإنّ كلمة ( الفتنة ) تعني أصلاً التسخين، بيد أنّ للتسخين قرينةً وهي أنّ التسخين والوضع في النار إذا حصل للإنسان كما جاء في الآية( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) (٢) يجعله في حالة من الاضطراب، وقد يكون الاضطراب جسمياً وظاهرياً تارةً، مثلما يتعلق في الحرق والكي الجسماني، وقد يكون تارةً أخرى ناجماً عن أمور باطنية ونفسية.

إذاً، فالاضطراب في الواقع من قرائن الفتنة والتسخين ثمّ أُطلق هذا اللفظ من باب التوسّع في معنى اللفظ، على الأشياء الأخرى التي تؤدّي إلى الاضطراب المعنوي والباطني، وبما أنّ قسماً من الاضطرابات النفسية تحصل من القلق والشكوك في مجال العقائد، فقد أُطلق على ما يُسبّب مثل هذه الاضطرابات اسم الفتنة.

وعندما يقال ( الفتنة في الدين ) فذلك؛ بسبب ما يقوم به بعض الأشخاص من محاولات إلقاء الشكوك الوهمية الباطلة؛ لزعزعة معتقدات وإيمان الناس المتديّنين وصدّهم عن دين الحق وعن العقائد الدينية.

وقد سُمّي الامتحان ( فتنة ) أيضاً؛ لأنّه يؤدّي إلى إثارة القلق والاضطراب؛ وذلك لأنّ الإنسان يبقى أثناء الامتحان مضطرباً وقلقاً، ولا يقر له قرار من أجل النتيجة، وقد

____________________

(١) الذاريات : ١٣.

(٢) الذاريات : ١٣.

١٠٢

وردت كلمة الفتنة في العديد من آيات القرآن بمعنى الاضطراب الناجم عن الامتحان، جاء في القرآن الكريم :( أَنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) ( وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) (٢) وقد تُطلق كلمة الفتنة على العذاب والأذى.

من البديهي أنّ الآية الموضوعة على بساط البحث :( هُوَ الّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ) ، جاءت فيها كلمة ( الفتنة ) بمعنى الفتنة في الدين؛ وذلك لأنّ اتّباع المتشابهات لا يتناسب مع معنى الامتحان والابتلاء، والذين يتبعون متشابهاته لا يبغون إيذاء وتعذيب الآخرين، وكذلك الفتنة هنا لا تعني الحرق والكي بالنار، وإنّما فتنتهم تأتي انطلاقاً من محاولتهم التشبّث بالآيات المتشابهة من أجل؛ إيجاد القلق في نفوس الناس وزعزعة معتقداتهم الدينية وإضلالهم.

موقف القرآن إزاء الفتنة في الدين

( الفتنة في الدين ) بالمعنى الذي سبق شرحه تعدّ مواجهةً خفيةً، ونوعاً من الخداع والتحايل، ويأتي هذا العمل تحت غطاء الإيمان الظاهري بهدف القضاء على أصل الدين، هؤلاء المثيرون للفتنة يتستّرون تحت نقاب النفاق؛ لإخفاء أفكارهم الشيطانية، بحيث يغدو من العسير على الناس العاديين معرفة دوافعهم المناهضة للدين، ولهذا السبب اعتبر القرآن هذه الممارسة أكبر الذنوب، ولفت أنظار الناس إلى هذا الخطر العظيم الذي يهدد دنياهم وآخرتهم، داعياً إيّاهم إلى أن يهبّوا لمجابهته دفاعاً عن كيانهم المادي والمعنوي.

يتّبع الأعداء عادةً أسلوبين رئيسيين لمجابهة الإسلام والمسلمين، وسنطّلع هنا في سياق توضيح أساليب أعداء القرآن والثقافة الدينية، على موقف القرآن في مواجهة مؤامرات الأعداء.

____________________

(١) الأنفال : ٢٨.

(٢) الأنبياء : ٣٥.

١٠٣

١ - الفتنة العسكرية

أحد الأساليب التي عادةً ما يتّبعها الأعداء لمجابهة الإسلام والمسلمين هي الحرب والمواجهة العسكرية، حيث يحاولون تحقيق أهدافهم من خلال الهجوم العسكري على البلاد والشعوب المسلمة، وقتل المسلمين ونهب ثرواتهم، وفي مثل هذه الحالة قد يستشهد عدد من المسلمين وتلحق أضرار بالبلد الإسلامي، لكنّهم - الأعداء - لا يفلحون في تحقيق أهدافهم، ولا يلحق المسلمين ضرر من جرّاء القتل في سبيل الدين، بل بالعكس إذ يؤدي إلى مزيد من رسوخ إيمانهم واعتقادهم.

في الثقافة الدينية يكون الهدف من الحياة في هذه الدنيا تكامل الإنسان، وبلوغه مقام القرب من الله في ظل العقائد الحقة والعبادة، وذلك ما يتجلّى ويبلغ ذروته على شكل الشهادة في سبيل الله.

وفي مقابل هذه الإستراتيجية التي يتّبعها الأعداء، ينصّ موقف القرآن على ما يلي :( قَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ‏ ) (١) وشعار المسلمين في هذا القتال هو :( هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ ) (٢) .

٢ - الفتنة الثقافية

الأسلوب الرئيسي الثاني للأعداء في مجابهة الإسلام والمسلمين هو العمل الإعلامي، الذي تعتبر أهم جوانبه إثارة الشبهات بهدف إضلال المسلمين، ومن البديهي أنّ الأدوات والوسائل والمعدّات التي تُستخدم في هذا النوع من الصراع، وكذلك أساليبه ونتائجه، تختلف كلياً عن الهجوم العسكري، فإن كان العدو في حالة الهجوم العسكري ينزل إلى الساحة بأحدث الأسلحة؛ لقتل المسلمين والقضاء على كيانهم ونهب

____________________

(١) الأنفال : ٣٩.

(٢) التوبة : ٥٢.

١٠٤

ثرواتهم، فهو في الحالة الثانية ينزل إلى الساحة بسلاح القلم والبيان؛ لحرف وإفساد أفكارهم، وإذا كان العدو في حالة الهجوم العسكري يواجه الجنود المسلمين بأبشع أنواع القسوة، فهو في حالة الهجوم الثقافي يدخل بوجه بشوش ومن باب الحرص، وإذا كان المسلمون - في حالة الهجوم العسكري - يعرفون عدوّهم تمام المعرفة، ففي حالة الهجوم الثقافي لا تكون معرفة العدو أمراً سهلاً، وإذا كان العدو في حالة الهجوم العسكري يهدف إلى القضاء على الأجسام الترابية، بواسطة ميادين الألغام والمعدّات الحربية المتطوّرة، فهو يحاول في حالة الهجوم الثقافي الاستحواذ على الأرواح والأفكار، من خلال نصب حبائله الشيطانية، وإثارة الشبهات التي لا أساس لها من الصحة، ويعمل على إفراغهم من الداخل؛ لغرض سوقهم في اتجاه خدمة مصالحه.

وفي حالة الهجوم العسكري إذا كان العدو قوياً فهو يقتل عدداً من جنود الإسلام، ويخرجهم من هذه الدنيا الدنيّة المادية، أمّا في الهجوم الثقافي فالشياطين يتربّصون للإيقاع بالشباب الطيّبين، الذين ليس لديهم معرفة كافية بالعلوم والمعارف الدينية، وهم يمثّلون ثروةً قوميةً هائلة للشعب المسلم، ممّا يؤدّي بهم إلى الانحراف والسقوط في مستنقع اللادينية، ومع أنّ الأعداء لن يجنوا شيئاً من هذا الأسلوب المناهض للدين، وأنّ أبناء الشعب المسلم خاصة الشباب المسلمين المثقفين، الذين خرجوا مرفوعي الرأس من الهجوم العسكري، أوعى من أن يكونوا في غفلة عن انتقال العدو من الجبهة العسكرية إلى جبهة الصراع الثقافي، لكن القرآن الكريم ونتيجةً لجسامة خطر الهجوم الثقافي، وما يتمخّض عنه من مردودات وعواقب وخيمة - تأتي بسبب هزيمة المسلمين في جبهة الهجوم الثقافي - قد ركّز على ذلك، وطلب من المسلمين في سياق تحذيره لهم في هذا المجال مجابهة أعداء الله والدين بكل ما أوتوا من قوّة.

تحذير القرآن من الفتنة الثقافية

بما أنّ خطر ونتائج الهزيمة في الهجوم الثقافي - خلافاً للهجوم العسكري - تنعكس على

١٠٥

ميادين الفكر والعقائد الدينية للناس، ممّا يعني أنّ الغفلة عنها تؤدّي إلى المخاطرة بإنسانية المسلمين وسعادتهم في الدنيا والآخرة، من هنا فقد اهتم القرآن بهذا الموضوع اهتماماً بالغاً وحذّر منه.

لا يخفى على المسلمين الواعين بأنّ النتائج التي تتمخّض عن الهزيمة في جبهات الصراع الظاهري والفتنة العسكرية، ليست ذات أهمية تذكر بالمقارنة مع نتائج الغفلة عن الهجوم الثقافي؛ وذلك لأنّه في حالة الهجوم العسكري تتعرض حياة المسلمين لأيام معدودات للخطر، ولكن في حالة الهجوم والفتنة الثقافية، فإنّ خطراً جاداً يهدّد عقائد المسلمين ودينهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

لهذا السبب اعتبر القرآن خطر الفتنة في الدين والهجوم الثقافي أعظم من خطر الهجوم العسكري، فحذّر المسلمين من الغفلة عنه، معتبراً أهميته وخطر الحرب والفتنة العسكرية أقل من خطر الهجوم الثقافي.

يقول القرآن الكريم :( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ القَتْلِ ) (١) ونحن ندري طبعاً أنّ معارضي القرآن والثقافة الدينية في صدر الإسلام وزمن نزول آيات القرآن، كانوا غالباً ما يحاولون القضاء على الإسلام والمسلمين بالهجوم العسكري والمواجهة الحربية في ميادين القتال، ولكن مع كل ذلك فإنّ الحساسية التي يبديها القرآن إزاء الفتنة الدينية والثقافية أكبر ممّا يبديه إزاء خطر الهجوم العسكري، يقول القرآن :( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) (٢) أي أنّ فكرة الشرك أكبر خطراً من الهجوم العسكري والقتل، وإثمها أشد من إثم القتل، وقد سبق أن بيّنّا أسباب كون الفتنة الثقافية أكبر.

الشرك في ثوب جديد

كانت فكرة الشرك تسير بموازاة فكرة التوحيد، وتستحوذ طيلة التاريخ على جزء من

____________________

(١) البقرة : ١٩١.

(٢) البقرة : ٢١٧.

١٠٦

أفكار البشر، فالذين لم يخضعوا لعبودية الله وأبوا التسليم لبارئ الكون؛ رغبةً في إرضاء أهوائهم النفسية، كان يسوؤهم اعتناق الآخرين لدين الحق، وكانوا يصدّونهم عن ذلك بشتّى الأساليب.

من البديهي أنّ أنصار فكرة الشرك يختارون في كل عصر الأسلوب الذي يتناسب مع أفكار أهل ذلك العصر، ويتّبعون الأساليب المناسبة لتحقيق أهدافهم، وعلى هذا الأساس لمّا كانت فكرة الشرك تتجلّى في صدر الإسلام على شكل عبادة الأصنام، فقد أخذ كبراء أهل الشرك، ومَن لم يكونوا مستعدّين للخضوع لعبادة الله والانقياد لدين الحق، يدعون إلى عبادة الأوثان الحجرية والخشبية، ويصدّون الناس عن اعتناق التوحيد، وكان السبب الرئيسي الذي يدعوهم إلى هذا العمل هو، حاكمية الدين والثقافة التوحيدية لا تدع مجالاً لإشباع أهوائهم النفسية.

واليوم أيضاً تُمارس الدعاية لفكرة الشرك بشكل حديث، وتُعرض بصورة نظرية علمية في شتّى الأوساط، فإذا كان هناك في صدر الإسلام ٣٦٠ صنماً ووثناً، وكان عبيد الدنيا يدعون إليها لتخدير أفكار الناس، فإنّ أنصار فكرة الشرك يحاولون اليوم نحت أصنام خيالية على قدر عدد الناس؛ لصرف عقولهم عن الله تعالى، والانكفاء على أوهامهم وخيالاتهم وإيحاءاتهم الشيطانية.

يبدو أنّ فكرة ( الصرط المستقيمة والقراءات المختلفة للدين ) تصب في هذا السياق؛ لأنّ المراد من هذه الفكرة كما يُفهم من عنوانها أن يبني كل شخص اعتقاده ويعمل حسبما يفهمه من النصوص الدينية عن الله والدين؛ لأنّ ذلك هو عين الحق والواقع.

وعلى هذا الأساس يجب أن تُصاغ آلهة وأديان فردية وخاصّة بعدد الناس وأفهامهم المختلفة لله والدين، ومن البديهي أنّ هذا الكلام يقف على الضد من روح التوحيد، التي تتجسد في شعار ( لا إله إلاّ الله )، ويتعارض معها تماماً.

على أية حال، بما أنّ القضية تتعلق بأهم موضوع في حياة الإنسان، أي الشرك

١٠٧

والتوحيد، وهو ما تتوقف عليه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فحري بالإنسان أن يتأمّل ويعيد النظر بأفكاره ومعتقداتها، ويعرضها على القرآن وعلوم أهل البيت، وينقدها في ضوء المنطق والعقل السليم وبعيداً عن الأهواء؛ لأنّه في مثل هذه الحالة فقط يستطيع الإنسان الإفلات من فخ تخيلاته الشيطانية، وينجو من السقوط في هاوية الضلال، ومن الطبيعي أنّ الانتصار على نوازع النفس عمل عسير وشاق جداً، وليس عبثاً أن يعتبره الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الجهاد الأكبر، خاصة إذا كان المرء في موقع يشجّعه فيه الشياطين وأعداء التوحيد والإسلام، ويكونون على استعداد ليصنعوا منه شخصيةً عالمية من أجل تحقيق مآربهم السياسية والاستعمارية ومجابهة الإسلام، ورغم أنّ عودة الإنسان إلى رشده في مثل هذا الظرف، والدخول في ميدان الجهاد الأكبر، والإعراض عن وعود ووعيد الشياطين وأعداء الإسلام، عمل إعجازي ومثير للدهشة إلاّ أنّه ليس مستحيلاً، فليسوا قلةً في التاريخ الأشخاص الذين عادوا إلى رشدهم في لحظة، وانتزعوا أنفسهم من حبائل شياطين الجن والإنس والأهواء، ونجوا من الهلكة وعادوا إلى أحضان التوحيد.

نبوءة القرآن بوقوع الفتنة في الدين

لقد بيّن القرآن الكريم للمسلمين سُبل بلوغ السعادة والتكامل، وأضاء أمام طلاّب الحقيقة طريق الهداية المستقيم كالمشعل الوضّاء الذي لا يخبو أبداً، وقد أزاح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً غبار الشرك والكفر عن وجه الإنسانية، وغرس في نفوس وقلوب المتعطّشين للحقيقة بذور الأمل والنجاة، وتعاهدها بالرعاية، وأرسى صرح الحكومة على أساس التوحيد.وفي تلك الظروف لم يكونوا قلةً أولئك الذين دخلوا الإسلام انطلاقاً من دوافع مصلحية، وما كان إيمانهم يتعدى اللسان، ولم يدخل التوحيد إلى قلوبهم، وكان من الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يقدّمون أهواءهم ورغباتهم على

١٠٨

إرادة الله وأوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهذا كانوا يضمرون العِداء للإسلام والرسول، ولكنّهم ما كانوا يرون من المصلحة أن يكشفوا عن معارضتهم في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعلنوا خطّتهم الهادفة إلى تحريف الحكم الإلهي، ومعارضة الإمام المعصوم، وحرمان الأمّة من قيادة الأئمة المعصومين، فبقي هؤلاء الشياطين وعبيد الدنيا يتربّصون إلى حين رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من الدنيا؛ لكي ينفّذوا مخططاتهم المشؤومة.

وقد تنبّأ القرآن بهذه المؤامرة وحذّر منها على النحو التالي :( أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) (١) .

كان الإمام عليعليه‌السلام يتحدّث يوماً عن القرآن الكريم، ويدعو الناس إلى الالتفاف حول هذا الحبل الإلهي المتين والعمل بأحكامه، ويبشّر أهل السعادة بالجنة وأهل الشقاء بجهنّم، فقام رجل وسأل عن الفتنة ويروي حديثاً عن رسول الله بهذا الصدد فقالعليه‌السلام : لمّا أنزل الله سبحانه قوله :( أحسب النّاس ) ، وأخبر الناس عن وقوع فتنة في الدين وابتلاء عظيم، علمت أنّ الفتنة ستكون بعد رحيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت : يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها ؟ فقال : يا علي، إنّ أُمّتي سيفتنون من بعدي، وقبل أن يقسّم الرسول أنواع الفتن بعد وفاته سأله علي مخافة أن يفوته الفوز بالشهادة في سبيل الله، فذكّر الرسول بما جرى يوم أحد قائلاً : يا رسول الله أَوَ ليس قد أخبرتني يوم أحد حيث استشهد مَن استشهد من المسلمين - من أمثال حمزة سيد الشهداء - وحيزت عني الشهادة فشُقّ عليّ ذلك فقلت لي أبشر فإنّ الشهادة من ورائك وها أنا انتظر.

يا رسول الله هل ستنتهي الفتنة التي ستقع بعدك بشهادتي ؟ فقال رسول الله : نعم ستبلغ مناك، فكيف صبرك إذاً ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر.

ثمّ أشار الرسول إلى جانب من الفتن التي ستقع في الدين وحذّر الناس منها.

____________________

(١) العنكبوت : ٢.

١٠٩

التنبّؤ بالفتن بعد الرسول

وبعد أن طمأَن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله علياً إلى تحقّق أمنيته بالشهادة، بيّن له أنواع الفتن التي يثيرها عبيد الدنيا في الدين وفي كلامه يركّزصلى‌الله‌عليه‌وآله على ثلاثة أصناف من الفتن فيقول : ( يا علي، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته ويأَمنون سطوته، يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء؛ فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع )(١) .

١ - الفتنة بالمال

أَوّل قضية يشير إليها الرسول هي الفتنة في الأموال، لا يخفى على المطلعين على الفقه الإسلامي، أنّ جانباً كبيراً من أحكام الإسلام العملية تُعنى بالأموال والكسب والتجارة والشؤون الاقتصادية، وقد اهتمت الشريعة المقدّسة بحقوق الأفراد على أفضل وأدق ما يمكن، وقد شُرّعت أحكام وقواعد البيع والشراء والكسب والتجارة، التي ألزمت الشريعة المقدّسة المسلمين بالعمل بها على أساس المصالح الواقعية، التي تفرضها الحياة الاجتماعية للناس؛ لكي يتسنّى للناس من خلال الالتزام بها أن يعيشوا حياةً دنيويةً وأخروية سعيدة، وبما أنّ أكثر العلاقات الاقتصادية في المجتمع تأتي على أساس البيع والشراء، ويُبنى قِوام الحياة الاجتماعية، والتعاون والتكافل بين الناس في قضاء حاجات بعضهم الآخر، على المقايضة والتبادل والمعاملات، ومن جهة أخرى بما أنّ ظاهرة التعامل الربوي، التي تأتي انطلاقاً من غريزة الإنسان في حب الاستكثار - وهي أسوء وأبغض أنواع المعاملات من وجهة نظر الإسلام - كانت منتشرةً آنذاك بين الناس، فقد نهى الإسلام بشدّة عن التعامل الربوي، وجاء لحن القرآن في النهي عن هذا العمل شديداً جداً إلى

____________________

(١) بحار الأنوار : ج٣٢، ص٢٤١.

١١٠

درجة أنّه اعتبره بمثابة حرب على الله :( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ) (١) .

يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ القوم سيفتَنون بعدي بأموالهم وعلاقاتهم الاقتصادية، وسيتجاهلون الحكم الصريح في القرآن القائم على حرمة الربا، وسيتوسلون بالحيل الواهية فيأكلون الربا بذريعة البيع والشراء.

٢ - الفتنة العقائدية

إنّ ما يؤمن به كل عاقل من أعماق قلبه، ويجب عليه بعد الإيمان به الالتزام بمقتضياته، هو أنّنا بنو الإنسان خَلق الله وعباده، فالباري تعالى هو الذي خلقنا ومنحنا نعمة الوجود، وأتمّ نعمته علينا إذ أرسل إلينا خِيَرة خَلقه، وأنزل معهم الكتب السماوية من أجل أن نصل إلى التكامل والسعادة، ومن الطبيعي أنّ حمده وشكره على نعمة الهداية والدين - التي هي أكبر النعم الإلهية بعد نعمة الوجود - لا يتحقق إلاّ بالخضوع لعبودية الله، وهذه أسمى مرتبة يمكن تصوّرها للإنسان.

وعلى صعيد آخر فإنّ الباري تعالى قد مَنَّ على الناس إذ أتمّ نعمته عليهم وهداهم، وأنزل إليهم دين الحق، ولكن ما أقل مَن يدركون ضعفهم وضآلة قدرهم، ويفهمون مدى عظمة الله وكثرة نعمه التي خلقها للإنسان، ولطفه ورأفته به !

حقاً ما أقبح وأجحد أن يمَنّ الإنسان الجاهل على الله أن آمن بهديه ورسالته، غافلاً عن أنّ المنّة لله علينا؛ لأنّه هو الذي هدانا إلى دين الحق.

يخاطب القرآن الكريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنّوا عَلَيّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ ) (٢) فأنتم الذين يجب أن تؤدوا هذا الحق كما ينبغي بالطاعة والعبادة، لا أن تعتبروا أنفسكم أصحاب حق بذريعة الإيمان، وترون أنّ لكم على الله حقاً، وعلى هذا الأساس فالأصل في الرؤية الدينية التسليم

____________________

(١) البقرة : ٢٧٩.

١١١

والعبودية لله وليس المنّة والاستكبار عليه، وقد وصف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله روح المنّة والاستكبار على الله بدلاً من الاستسلام والخضوع له بأنّه من مظاهر الفتنة في الدين، فقال بأنّ الناس من بعدي سيمنّون على ربّهم بدلاً من شكره على نعمة الهداية، والامتنان له لقاء ما جعله لهم من دين الحق، فهم يرون لأنفسهم حقّاً على الله، ويرجون رحمته انطلاقاً من موقف التفضّل والمنّة، كما أنّهم بناءً على إيمانهم لا يرون أنّهم يستحقون أي نوع من العقاب، ومع أنّ الله عزّ وجل لا يعاقب عبداً من غير سبب، لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعتبر مثل هذا الشعور بمثابة فتنة في الدين؛ لأنّ مَن يحملون مثل هذا الشعور لا ينسجم الالتزام بالتعاليم الدينية مع أهوائهم النفسية، ولهذا يحاولون خداع أنفسهم وخداع الآخرين بذرائع واهية.وعلى هذا الأساس فإنّ وجود روح الاستكبار إزاء الله عزّ وجل لا ينسجم مع حقيقة الدين ورح الإسلام، الذي هو ليس الاستسلام التام لله.

٣ - التبريرات الكاذبة أخطر فتنة

إنّ أخطر فتنة في الدين أقلقت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كشفها للإمام عليعليه‌السلام محذّراً الناس منها، هي الفتنة ومؤامرة تحريف الدين وتحليل المحرّمات الإلهية في مجال العقيدة، ورغم أنّ عدم الالتزام بأحكام الشريعة في مقام العمل، والاتصاف بروح استكبارية إزاء الباري عزّ وجل ذنب كبير، غير أنّ ما هو أخطر منه أن يحاول المرء اختلاق تبريرات واهية لذنوبه وأعماله المناهضة للدين، ويضفي على أهواء نفسه صبغةً دينيةً وشرعية.

في مثل هذه الحالة يهبّ الشيطان بكل قواه لمعاضدة عبيد الدنيا المتظاهرين بالإسلام؛ لمؤازرتهم في إثارة الشبهات وتحريف أحكام الدين.

يقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ مثيري الفتنة يحاولون تحقيق مآربهم من خلال التشبّث

١١٢

بالشبهات والتبريرات الزائفة والخيالات الواهية؛ لكي يحلّلوا ما حرّم الله ويتلاعبوا بدين الله.

إنّ ما ينبغي التذكير به، ويُشير إليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عند بيانه لواجب الإمام عليعليه‌السلام إزاء الفتن ومثيريها، هي قضية استمرار هذه الفتن إلى حين ظهور صاحب الزمانعليه‌السلام ، إنّ ما بيّنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تحليل الخمر باعتباره نبيذاً أي عصيراً لمادة الزبيب، أو تحليل الرشوة على أساس أنّها هدية، أو تحليل الربا بذريعة البيع والشراء، ليست إلاّ أمثلةً من أنواع الفتن التي تقع في الدين، لا أنّ القضية تنتهي عند هذا الحد.

واليوم هناك مَن يعيشون بين المسلمين، وهم حسب الظاهر مسلمون، ولا يرون أنفسهم خارجين عن دائرة الإسلام، إلاّ أنّهم من الناحية النفسية ليسوا بالشكل الذي يجعلهم يقبلون على أحكام الإسلام رغبةً وطواعية، هؤلاء الذين لبعضهم مكانة اجتماعية أيضاً متأثّرون بالثقافة الغربية، ومنبهرون بها، وقد ابتعدوا عن هويتهم الدينية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليست لديهم معلومات كافية عن المعارف الدينية، في مثل هذه الحالة ينبري هؤلاء الأشخاص، الذين لا يملكون أدنى أهلية لإبداء رأي في القضايا التخصصية للدين؛ لإصدار الأحكام، ويقعون أحياناً تحت تأثير إيحاءات الشيطان، وتشجيع أعداء الدين، ويتحدثون عن قصد أو عن غير قصد بكلام لا يعني سوى إنكار الدين والخروج من ربقة الإسلام، فعلى سبيل المثال لو أنّ أحداً قال بأنّ أحكام الإسلام تختص بزمن صدر الإسلام وأهل ذلك العصر، وأنّ أحكامه تتناسب مع مجتمعات صدر الإسلام، وأنّ القرآن والأحكام ليست كافيةً الآن وعلى أعتاب القرن الحادي والعشرين لإدارة المجتمع، ويجب تغيير أحكامه بما يتلاءم ورغبة الناس، أو أن يقول إنّ أهل القرن الحادي والعشرين يحتاجون إلى نبي يناسب زمانهم، إنّ مثل هذا وإن كان يعدّ بمثابة إنكار للدين لكنّه بالدرجة الأُولى يمثّل دليلاً على انعدام المعرفة الصحيحة للدين وأحكامه، وحري بأصحاب مثل هذه الأفكار أن

١١٣

ينتبهوا جيداً لمقتضيات وعواقب كلامهم قبل أن يبدوا وجهة نظرهم ويتكلموا، لعلّهم في مثل هذه الحالة يرعوون عن النطق بكلام تفوح منه رائحة الفتنة في الدين، ويُخلصون أنفسهم من فخ الشيطان وأعداء الإسلام والقرآن.

تعتيم الأجواء لتضليل الرأي العام

عرفنا ممّا تقدم بيانه لحد الآن، أنّ أساليب أعداء الدين والقرآن تختلف كلياً في إطار الفتنة والهجوم العسكري عمّا عليه في هجومهم في صيغة الهجوم والفتنة الثقافية، لقد تقدم القول إنّهم - وفي إطار الفتنة الثقافية وعلى العكس من الهجوم العسكري - لا يظهرون بشكل سافرٍ في موقف إنكار الدين ومعارضة الثقافة الدينية للناس، ولا يعبّرون بشكل صريح عن معتقداتهم القلبية؛ لأنّ المستمعين - في مثل هذه الحالة - لكلام هؤلاء وبعد قليل من التأمل إمّا أن يقبلوا هذا الكلام أو يدركوا بطلانه، وفي جميع الأحوال فإنّ الضلال الحاصل في حالة القبول بعقائدهم الباطلة إنّما يكون قد جاء عن علم ودراية، وما وقع لا ينطوي تحت عنوان الفتنة لأنّ الإضلال لم يقع عن طريق الخداع وتضليل الأفكار.إنّ ما يجري اليوم في مجتمعنا من فتنة ثقافية، ويقوم به أعداء القرآن والثقافة الدينية بكل جدّ عن طريق الغزو الثقافي هو، العمل على توتير وتعتيم الجو الثقافي للمجتمع بنحو يفقد معه الشعب لاسيما شريحة الشباب من الطلبة القدرة على التمييز بين الحق والباطل، ويقعون دون إرادة منهم في مصيدة أفكارهم الباطلة والمنحرفة، ومن الطبيعي إذا ما أُصيبت الطبقة المثقفة في البلاد بانحراف فكري فستتهيّأ الأرضية لضلال وانحراف الرأي العام في ذلك المجتمع؛ لأنّه إذا فسد العالِم فسد العالَم.

بناءً على هذا؛ إنّ الفتنة الثقافية المذكورة، التي حذّر منها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أخطر الأمور التي تهدّد سعادة الناس في الدنيا والآخرة، ويبدو أنّه من أجل التصدي لمثل هذه

١١٤

الأخطار يجب أن تكون الدولة الإسلامية قويةً، من حيث القدرة على بيان حقائق الدين، ونشر ثقافة القرآن ومعارفه، وأن يخضع النظام التعليمي بدءً من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة وجميع المراكز الثقافية في البلاد لرقابة صارمة؛ حيث لا يستطيع ذوو النوايا السيئة وأعداء الإسلام إضلال الآخرين من خلال تشويش الجو الثقافي.

من جهة أخرى أنّ أهم واجبات علماء الدين هداية الناس، لاسيما شريحة الشباب في المجتمع التي لا تتمتع بمعرفة كافية بمعارف الدين وعلوم القرآن، والتصدي للفتنة الثقافية، فالعارفون بعلوم الدين هم المكلّفون - من خلال إرشاداتهم - بتوعية الناس وجيل الشباب بالأخطار الثقافية، ومؤامرات أعداء الدين، وتحذيرهم من مكائد الشيطان، والمتدينون لهم المقدرة على إسناد الملتزمين من علماء الدين، وإعانتهم في أداء رسالتهم الكبرى في هداية المجتمع.

كما ذُكر في بداية الكتاب فإنّنا نتطرق في هذا المقطع من الكتاب إلى ذكر أسباب ودوافع المناهضين للثقافة الدينية من منظار عليعليه‌السلام في نهج البلاغة، فنتناول هنا وفي البداية التعريف بهؤلاء من وجهة نظر عليعليه‌السلام ، ومن ثَمّ ننهي ببيان الأسباب ودوافع الأشخاص المذكورين في مناوئة الثقافة الدينية وتعاليم القرآن وأحكامه.

محرفو العلوم الدينية من منظار عليعليه‌السلام

يصف الإمام عليعليه‌السلام الذين يعملون على تحريف حقائق الدين وإفساد الثقافة الدينية للناس بأنّهم جهلاء، متظاهرون بالعلم فيقولعليه‌السلام : ( وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ )(١) ففي مقابل الأتباع الصادقين للقرآن، هنالك فئة أخرى قد يعتبرون في المجتمع من العلماء في حين أنّهم لا حظّ لهم من العلم، وهؤلاء يستغلون العناوين الاعتبارية التي لا حقيقة لها لإضلال الناس.

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٨٦.

١١٥

ربّما يتبادر هذا التساؤل للقرّاء وهو : ما هذا الذي يطرحه هؤلاء على أنّه موضوعات علمية ودينية ؟ هؤلاء الذين يقدّمون كلامهم على أنّه فهم واستنباط عن الدين والقرآن، يقول عليعليه‌السلام في الإجابة : ( فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ )(١) .

إنّ ما يقدّمه هؤلاء تحت يافطة الموضوعات العلمية وأفهام عن الدين، وتحت ذريعة القراءات المتعددة للدين، ينبرون لإملاء العقائد الباطلة على الدين إنّما هي جهالات أخذوها عن أناس جهّال آخرين، ويقدّمونها باسم معارف دينية وموضوعات علمية، لعلّكم تتعجبون كيف يمكن لأناس أن يقتبسوا الجهل عن غيرهم ! فماذا يعني اقتباس الجهل عن الغير ؟! لغرض أن نقف على الإعجاز في كلامهعليه‌السلام ، ونقف كذلك على مسؤوليتنا في النهوض بعملية الإرشاد إزاء المنحرفين عن الحق أكثر فأكثر، نشير إلى نموذج من اقتباس الجَهَلة المتظاهرين بالعلم للجهالات عن الآخرين، الذي يُطرح الآن على أنّه إنجازات علمية.

تشيع اليوم في الغرب الفكرة الفلسفية القائلة بتعذّر حصول العلم بالنسبة للإنسان، وعلى الإنسان أن يشك في كل شيء ولا يحصل لديه يقين بأمر قط، فيعتقد أنصار هذه الفكرة أنّ إذا ما قال أحد بأنّني أَتَيقّن أمراً فذلك دليل على عدم فهمه وحماقته لتعذّر العلم بأي شيء، ويقول هؤلاء مفتخرين بشكهم وجهلهم هذا : إنّ أمارة العلم والمعرفة والعقل أن لا يعلم أو يتيقّن الإنسان بأي شيء دينياً كان أم غير ديني، وكان هذا الكلام السخيف قد طُرح قبل ما يناهز المِئة عام بين أوساط الأوربيين، وكان قبلها القاعدة الفكرية للشكاكين.

واليوم هنالك أناس في مجتمعنا أيضاً قد اتخذوا المنطق الجاهلي لأولئك، وانبروا للتشكيك في العقائد الدينية للناس، متذرعين بالقول إنّنا عاجزون عن الحصول على معرفة يقينية في أي مجال؛ لإضعاف العقائد الدينية للناس وتمرير مآربهم وأهواءهم النفسية.

____________________

(١) نفس المصدر.

١١٦

والظريف أنّهم يقدّمون كلامهم هذا على أنّه مطالب علمية، ويتوقعون من شعبنا الواعي النبيه أن يتقبّله.

يشير عليعليه‌السلام إلى وجود أمثال هؤلاء الناس الشيطانيين على مدى التاريخ فيقول : ( فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاّلٍ )، فهؤلاء يقتبسون من فئة ضالة وجاهلة أموراً ملؤها الجهل، ويطرحونها على أنّها كلام علمي.إنّ كلامهم العلمي يتمثل في وجوب الشك بكل شيء، وليس للإنسان أن يعلم أو يتيقّن شيئاً ! فكل ما يفهمه المرء في الأمور الدينية هو حق؛ لأنّه لا وجود للحق والباطل على الإطلاق ! ولا ملاك للحق والباطل سوى الفهم الشخصي للإنسان !

( وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ )(١) فهذه الفئة الضالة والجاهلة وهؤلاء الجَهَلة المتظاهرون بالعلم قد نصبوا للناس مصائد من حبال الخداع والقول الكذب، وأخذوا يخدعونهم بأقوالهم وأفعالهم الخاطئة.

( قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ )(٢) فهؤلاء يفسّرون القرآن الكريم بآرائهم، ويحملون آياته على أفكارهم، ويصنّفون الحق طبقاً لرغباتهم وأهوائهم النفسية.

ثمّ يشيرعليه‌السلام إلى الأساليب الدعائية لهؤلاء الناس ويقول : إنّ هؤلاء ولغرض إثارة اهتمام الناس واستقطاب الآخرين، يجعلون الناس يأمنون كبائر ذنوبهم والعواقب الوخيمة لأعمالهم وأفعالهم، ويقلّلون من شأن الذنوب الكبيرة في أنظار الناس، ويشجّعونهم على ارتكابها، ويهوّنون اقتراف الجرائم المعاصي، ويصوّرونه سهلاً في أعين الناس، وهم في الحقيقة إنّما يُضعفون الحَمية الدينية والخوف من الله لدى الناس بانتهاكهم للحرمات.

يقولعليه‌السلام : إنّ هؤلاء الناس يقولون لدى الحديث والجدال : إنّنا نتحاشى ارتكاب الشبهات، ونتجنّب قول الكلام والأحكام المشكوك بها والمشبوهة، في حين بما أنّهم

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٨٦.

(٢) نفس المصدر.

١١٧

يجهلون أحكام وموازين الشرع والدين فهم يخوضون في وَحل الشبهات، ففي معرض الكلام يقولون : إنّنا نتحاشى البدع والأحكام المخالفة للدين بينما هم يرقدون في وسط البدع، وكل ما يدلون به في شأن الدين على أساس رأيهم هو بدعة، وأمثال هؤلاء رغم أنّهم بصورة إنسان لكن قلوبهم وأرواحهم قلب وروح حيوان؛ لأنّهم لا يعرفون باب الهداية ليهتدوا، ولا يعرفون باب الضلال والغواية كي يتجنبوه، وهؤلاء أموات بين الأحياء.

ثمّ يخاطبعليه‌السلام الناس قائلاً : بعد اتضاح الحق من الباطل ومعرفة أتباع كلٍّ منهما، وقد ارتفعت رايات الحق وتجلت وبانت معالمه فأين تذهبون ؟! لماذا تحرمون أنفسكم من علوم أهل البيتعليهم‌السلام ، وتبقون حيارى تائهين وبين ظهرانيكم صراط الهداية المستقيم، وعترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبإمكانكم الانتهال من أنوار هداية الأئمةعليهم‌السلام ؟!.

وفي بيان أشد بكثير من كلامهعليه‌السلام يذكر القرآن الكريم هؤلاء الجَهَلة المتظاهرين بالعلم، ويوجّه التحذير للناس من مكائدهم فيقول :( وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (١) .

بالرغم من أنّ أعداء الأنبياء ومناوئي الهداية الإلهية بشر في الظاهر والصورة، ولكن بما أنّ جميع أفعالهم لا مردود منها سوى إضلال الآخرين، ولا عاقبة لها سوى إثارة الشبهات، وبالتالي إضعاف العقائد الدينية لدى الناس، ومواجهة الهداية الإلهية، فإنّ القرآن يصفهم بشياطين الإنس، ويحذّر الناس من اتّباعهم.

تعامل عبيد الدنيا المتظاهرين بالإسلام مع القرآن

إنّ الذين ليسوا أقوياء من حيث الإيمان بالله ولوازمه، ولم يترسّخ الإيمان في قلوبهم

____________________

(١) الأنعام : ١١٢.

١١٨

وأرواحهم كما يجب وينبغي، لا يستبشرون إزاء الدين والقيم الدينية لدى حصول تعارض بين رغباتهم النفسية وإرادة الله والقيم الدينية، ويميلون من الناحية النفسية لأن يفسّروا ويوجّهوا الأحكام والقيم الدينية بما يلائم ميولهم وباتجاه أهوائهم النفسية، وسيكون مفرحاً بالنسبة لهذه الفئة إذا ما غدا تفسير الدين والقرآن مباحاً بما يتناسب مع أهوائهم النفسية؛ لأنّهم بذلك يكونون قد حقّقوا مطامحهم النفسية من جهة، ولم يخرجوا حسب الظاهر من ربقة الإسلام، ويتمتعون بامتيازات الإسلام داخل المجتمع الإسلامي من جهة أخرى.

من الطبيعي أيضاً أن يُقبل الذين لم يترسّخ الإيمان والتقوى في قلوبهم وأرواحهم، وليسوا من الملتزمين كثيراً بالقيم الدينية والأحكام الإلهية على مثل هذه الاستنباطات للدين والقرآن، وأن يحتذوا بالذين يفسّرون ويوجّهون الدين والقرآن والقيم الدينية طبقاً لميولهم النفسية، ويتخذوهم قدوةً لهم ويُطرون عليهم ويمدحونهم، ومن الطبيعي أيضاً أن لا تربط هؤلاء الناس علاقة حسنة مع تلك الطائفة من علماء الدين، الذين يفسّرون القرآن والأحكام ويبينوها كما هي عليه، دون الأخذ بنظر الاعتبار رضا الناس وأذواقهم.

ومع شديد الأسف أنّنا نشهد اليوم أناساً يعملون وتحت طائلة القراءات المتعددة للنصوص الدينية؛ لإضفاء صبغة دينية على مطامحهم وأهوائهم النفسية، ويتلاعبون بدين الله وبالقرآن الكريم؛ لغرض بلوغ مآربهم الدنيوية.

إلى جانب توقعه للوضع المذكور يشكو عليعليه‌السلام غربة القرآن في زمانه وفي آخر الزمان فيقول: ( إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاّلاً، لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَلا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَلا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ )(١) .

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٧.

١١٩

ويقولعليه‌السلام حول موقع القرآن ومعارف الدين بين أهل آخر الزمان : وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ( فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ، فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، لا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ، فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ؛ لأَنَّ الضَّلالَةَ لا تُوَافِقُ الْهُدَى وَإِنِ اجْتَمَعَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ وَافْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ )(١) .

حريّ جداً وضروري أن يضع مجتمعنا وشعبنا في الحسبان نبوءات القرآن ونهج البلاغة هذه، حول الأجيال القادمة والأوضاع والوقائع الدينية، ويستقرؤوا الوضع الثقافي السائد في مجتمعهم ويعرضوه على هذه التنبؤات؛ ليشعروا بالخطر إذا ما وجدوا الوضع الديني للمجتمع لا يسير بالاتجاه المنشود - لا سمح الله - وينبروا لإصلاح الثقافة الدينية في المجتمع، على أبناء كل عصر أن يتبعوا الولي الفقيه وعلماء الدين وأعلامه، ويعملوا على الحفاظ وصيانة ثغور العقيدة وقيمهم الدينية، ويتخذوا القرآن أسوةً لهم؛ ليأمنوا فتن آخر الزمان، ويكونوا على حيطة وحذر؛ لئلا يصبحوا مصداقاً لهذه التنبؤات.

على أية حال، إنّ أمير المؤمنين يتنبأ فيقول : سيأتي من بعدي زمان ليس فيه أخفى من الحق، ولا أشهر من الباطل، وأكثر الأمور في ذلك الزمان هو الكذب والافتراء على الله ورسوله، يتشبث به الجهلاء بالعلم والمنافقون عبيد الدنيا؛ لبلوغ مآربهم.

____________________

(١) نفس المصدر : الخطبة ١٤٧.

١٢٠