تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة0%

تجلي القرآن في نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 130

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف: آية الله محمد تقي مصباح اليزدي
تصنيف:

الصفحات: 130
المشاهدات: 64085
تحميل: 7081

توضيحات:

تجلي القرآن في نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 130 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64085 / تحميل: 7081
الحجم الحجم الحجم
تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

محورية الله، في مثل هذه الحالة ينحني الإنسان تأدباً، ويستعد لتقبّل المعارف الإلهية بكل اندفاع.

التفسير بالرأي

بديهي أنّ التخلّي عن الأهواء والرغبات النفسية، والتسليم المحض أمام التعاليم والأحكام الإلهية والمعارف القرآنية، ليس لا يُعد أمراً متيسراً فحسب بل أنّ التغاضي عن النزوات والرغبات النفسية أمرٌ صعب جداً، بالنسبة للذين لا يمتلكون روحاً صلبةً من العبودية؛ لذلك أطلقوا على هذا العمل الجهاد الأكبر.

يبدو أنّ الدافع الروحي والنفسي للتفسير بالرأي ينشأ من؛ أنّ الإنسان وبسبب ضعف روح العبودية لديه يعجز عن تجاوز أهوائه ورغباته النفسية من جهة، ومن جهة أخرى أنّ الشيطان يستغل هذه الفرصة المؤاتية، ويحاول من خلال الإيحاءات الشيطانية توجيه عقل وتفكير مثل هذا الإنسان في فهمه المنحرف والخاطئ للقرآن والدين وإضلاله، لا سيما إذا كان الشخص يتمتع من حيث الوجاهة الاجتماعية بموقع ثقافي؛ إذ تتضاعف فعالية ووسوسة الشيطان وتزداد مطامع هذا العدو المتربص في إضلال مثل هذا الإنسان؛ لأنّ الشيطان يعرف أنّه وبتضليله لهذا الشخص ربّما يستطيع تضليل جماعة أو فئة لهم آذان صاغية له عن دينهم، فلم يكونوا وليسوا قلّة الذين يصدرون فتوى دون تهذيب لأنفسهم ووفقاً لأحكام مسبقة وقبل الرجوع إلى القرآن، ويدلون بآرائهم دون أن يتوفروا على أدنى جدارة وأهلية علمية وتخصص ضروري، فيقولون إنّ رأي القرآن هو عين رأينا، ومن الطبيعي أن يتشبث مثل هؤلاء بالآيات المتشابهة والغامضة حسب الظاهر؛ ليضفوا على آرائهم وأهوائهم النفسية صبغةً دينية وقرآنية، وبديهي أن لا يكون هنالك أي ضمان للفهم الصحيح والصائب للقرآن مع وجود مثل هذه الروحية وإصدار الأحكام سلفاً، بل من الطبيعي أنّه

٦١

سيخلّف سوء فهم وانحرافٍ عن الحق.

هذا النمط من الفهم والتفسير للقرآن يُعبّر عنه في القاموس الديني بالتفسير بالرأي، وهو يُعد أسوء صنوف المواجهة مع الدين والقرآن، والقرآن يصف هذا النمط من التعامل مع الدين وآيات الله بأنّه استهزاء وينهى عنه بصراحة فيقول :( وَلاَ تَتّخِذُوا آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) (١) .

كما تقدّمت الإشارة أنّ الذين يتنعّمون بهداية القرآن هم المؤمنون به، أمّا الذين ينبرون محمّلين بالسوابق الذهنية والأحكام المسبقة؛ لاختلاق مبرّراً دينياً وقرآنياً لمآربهم وأهوائهم النفسية، ويفسّرون كلام الله ويوجّهونه برأيهم، فلا نصيب لهم من الإيمان بالله، من المناسب هنا أن نتأمل ببضع روايات في هذا المجال : قال رسول الله : قال الله جلّ جلاله : ( ما آمن بي مَن فسّر برأيه كلامي )(٢) .

وفي حديث آخر روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ( مَن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب )(٣) وكلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا مبعثه أنّ الذي يتصدى محمّلاً بأحكام مسبقة لتوجيه آيات الله لصالحه، ويصوّر ذلك على أنّه تفسير للقرآن وكلام الله، إنّما يجعل رأيه هو الملاك في الواقع وينسبه إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا النمط من الرجوع إلى القرآن والفهم لكلام الله مذموم وخطير، ويؤدي إلى الضلال والانحراف بحيث إنّ مرتكبي مثل هذه المعصية يبتلون بأشد أنواع العذاب يوم القيامة، يقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الصدد أيضاً : ( مَن فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار )(٤) .

بناءً على هذا لغرض الأمان من أسوء العذاب، وتجنّب الافتراء على الله تبارك وتعالى، وتحاشي الانحدار في أودية الضلال، يجب التخلي عن الأهواء النفسية، والإيمان

____________________

(١) البقرة : ٢٣١.

(٢) توحيد الصدوق : ص ٦٨.

(٣) بحار الأنوار : ج٣٦، ص٢٢٧.

(٤) عوالي اللآلئ : ج٤، ص١٠٤.

٦٢

بالذات المقدسة التي هي خير محض، ولا تريد إلاّ الخير للإنسان، ونبذ محورية الذات، وتحكيم محورية الله في النفس وتسليم النفس له.

إرشادات عليعليه‌السلام لتجنّب التفسير بالرأي

كما جرت الإشارة آنفاً أنّ للإنسان رغبات وأفكاراً لا تنسجم تارةً مع رأي القرآن، وفي ضوء طبيعته الإنسانية يرغب بأن يتطابق القرآن مع رأيه ورغبته، وتارةً أخرى ربّما تؤثر تلك الأفكار والأحكام المسبقة بشكل لا إرادي في فهمه ودركه للقرآن، وبما أنّ مثل هذا الخطر يتهدّد كل إنسان في مقام تفسير القرآن، وأنّ الشيطان يتحيّن الفرص في كل آنٍ للإيقاع بالشخصيات الثقافية التي تدّعي فهم الدين؛ لحرف جماعةٍ من الناس عن جادة الحق، من المناسب جداً وحريٌ بنا أن نولي اهتماماً متميزاً لهذا المقطع من كلام عليعليه‌السلام .

لغرض الأمن من الزلل في الفهم، وتحاشي ما يُحتمل من انحراف يقولعليه‌السلام : ( وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ )، فعندما تتصدون لفهم وتفسير القرآن عليكم بتخطئة ما لديكم من، أحكام مسبقة، ومخزونات ذهنية، وميول وآراء في مقابل القرآن، ونحّوا جانباً آراءكم الشخصية وأهواءكم النفسية، وكما يُعبّرعليه‌السلام اتهموا وخطئوا أنفسكم في مقابل القرآن.

جديرٌ ذكره أنّ التعبير المذكور يفيد ضرورة التزام أقصى الاحتياط ومراعاة الأمانة والتقوى في فهم القرآن الكريم والاستنباط منه؛ لأنّهعليه‌السلام يصرّح بأن خطّئوا آرائكم في مقابل القرآن، واستقبلوا القرآن بذهنية ملؤها الإقرار بأنّني لا أعلم شيئاً، وكل ما يقوله القرآن حقٌ، ثمّ تصدّوا لفهم القرآن وتفسيره، ( وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ )، أي وانظروا إلى أهوائكم على أنّها ضالة وخاطئة؛ كي تحسنوا الاستفادة من القرآن وإلاّ فإنّكم في معرض الخطأ والانحراف على الدوام.

بناءً على هذا؛ إنّ جوهرة الدين وهي التسليم أمام الله تستدعي أن يكون الإنسان

٦٣

مطيعاً محضاً لله سبحانه وتعالى، وأن يحكم بالبطلان على رأيه ووجهة نظره وأحكامه في مقابل أحكام الله وتعاليم القرآن الكريم، فعندما تحكم الإنسانَ مثل هذه الروحية، فمن الطبيعي أنّه يدرك القرآن والأحكام والتعاليم والمعارف الإلهية على وجه أفضل، إذ ذاك - وفي ضوء التسليم الذي يتمتع به - يتقبّلها من أعماق روحه وقلبه.

رؤيتان للقرآن والمعارف الدينية

ثَمّة نمطان مختلفان من التفكير في التعامل مع المعارف الدينية والقرآن الكريم هما :

١ - الرؤية والتفكير القائم على روح التسليم والعبودية ومحورية الله.

٢ - الرؤية الروحية التي تجعل الأصالة للأهواء النفسية للإنسان، وتعمل على تفسير وتوجيه النصوص الدينية ومعارف القرآن بما يتفق مع رغباته النفسية، وتلك هي الفكرة الرائجة اليوم باسم ( اومانيزم ) أي الفكرة التي تطرح محورية الإنسان في قبال محورية الله.

يبدو أنّ هذا التصنيف أوسع مدىً من الأبحاث والمطالب المتقدمة؛ لأنّ الافتراض كان لحد الآن يقوم على إمكانية حصول نمطين من الفهم أحدهما يقوم على أساس روح التسليم والعبودية، والآخر فهم ربّما يكون متأثراً بالأهواء النفسية، واستناداً لذلك فلغرض تجنّب التفسير بالرأي في فهم القرآن، وأن يفهم كما هو قمنا ببيان وصية عليعليه‌السلام في هذا المجال بناءً على أساس ضرورة تجنّب الحكم المسبق وتزكية العقل من الأهواء النفسية، وفي ضوء هذه الرؤية اعتبرنا كلا الفريقين المخاطبين بكلامهعليه‌السلام مسلمَين، ولغرض تحاشي الانحراف في الدين والانزلاق في هاوية التفسير بالرأي، كنّا نوصي بمراعاة التقوى والابتعاد عن هوى النفس والحكم مسبقاً، والآن إذ نبحث المسألة بعمق أكثر فإنّنا نتوصل إلى أمور أدق، وندرك الإعجاز في كلام عليعليه‌السلام لدى تصنيفه الناس في مجال العبودية إلى طائفتين رئيسيتين، ونطّلع أكثر فأكثر على المعرفة

٦٤

النفسية التي يتمتع بهاعليه‌السلام بنفسيات الناس إزاء الدين والتعاليم الإلهية.

إنّ علياًعليه‌السلام وببيانه لمعلمينِ أساسيين يصنّف الناس في ضوئهما إلى فئتين رئيسيتين، ويحدّد هاتين الفئتين من خلال توضيح خصائص كلٍّ منهما، وفيما يلي نشير إليهما :

١ - فئة آمنوا بالله بكل وجودهم، وهم يعملون على محاربة أهوائهم وإيثار مشيئة الله وإرادته على رغباتهم وأهوائهم النفسية، ومن الطبيعي أنّ أمثال هؤلاء الناس يتقبلون القرآن من أعماقهم، ويفتدون تعاليمه ومعارفه بأرواحهم وقلوبهم، ويجعلونه أسوةً لهم في العمل، ويعملون من أجل إقامة شعائره.

يقول عليعليه‌السلام في وصف هذه الفئة :( إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ ) (١) وبعد بيانه لمواصفات هذه الفئة يتطرقعليه‌السلام لبيان مكانة القرآن بين هؤلاء فيقول : ( قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ )، فهؤلاء القوم وهم المؤمنون أُناسٌ أسلموا زمام أمورهم بيد القرآن الكريم، فالقرآن هو إمامهم وقائدهم، وهم يتوقفون حيثما حطّ القرآن رحاله وأصدر الإيعاز بالتوقّف، فتوقفهم وحركتهم رهن إشارة القرآن.وهذه الفئة قد آمنوا بالقرآن وحقائق الدين وتقبّلوها على أنّها مجموعة من الحقائق العينية، ويرون أنّ أحكام وتعاليم الدين والقرآن الكريم تنم عن حقائق عينية، الالتزام بها له علاقة مباشرة بسعادة الإنسان، معتبرين عدم الالتزام بها يؤدي إلى الحرمان من السعادة في الدنيا والآخرة.

بما أنّ هؤلاء لا يمتلكون رأياً وتصوراً من عند أنفسهم، ويرون للدين والكتب السماوية والتعاليم والأحكام الإلهية حقيقة عينية، ويعتقدون بوجود علاقة العلّة والمعلول فيما بينها وبين مصالح الإنسان، فإنّهم يكرّسون أقصى جهودهم لفهم القرآن فهماً صحيحاً؛ ليدركوا ما يأمر به القرآن ويعملوا به.

٢ - وفي النقطة المعاكسة لرؤية الفئة الأُولى تماماً يقف أُناسٌ يتصورون أنّ القرآن، أو

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٨٦.

٦٥

أي نص ديني وكتاب سماوي آخر تابع لعقليات الناس أنفسهم، وليس أنّه ناطق بأمور قطعية ومحدّدة، أي أنّ القرآن أو أي نص آخر يفتقد المعنى والمضمون وليس ثمّة هدف مرسوم له، وبما أنّ لكل إنسان تصورات خاصة منبثقة عن قواعد تربوية وعائلية واجتماعية وغيرها، فهو عندما يواجه القرآن يستنبط منه الأمور في ضوء تصوراته الشخصية، وليس أنّ القرآن هو الذي ينطق بتلك الأمور، بل أنّ فهمه هو يطرح في إطار القرآن.

من الطبيعي أنّ الدين والقرآن بآياته وأحكامه يعتبر في ظل مثل هذه الرؤية وهذا الاعتقاد ألفاظاً وقوالب خالية من أي مضمون، وتصورات الإنسان هي التي تغذّي هذه الألفاظ بالمعنى والمفهوم، ويجري التصريح على أساس التصور الآنف الذكر أنّ القرآن أو أي نص ديني آخر لا يملك ما يقول، بل أنّ كل شخص يستنبط الموضوعات من القرآن والنصوص الدينية في ضوء تصوره الشخصي، وبديهي أنّ هذا النمط من الرؤية بالرغم من أنّه يتحدث حسب الظاهر عن الدين والقرآن والتعاليم والمعارف الدينية، إلاّ أنّه يعمد في الحقيقة إلى الاستخفاف والاستهزاء بالدين والمتدينين.

التعددية الدينية أو إنكار الدين في إطار القراءات المتعددة

يبدو أنّ ما يُعرف اليوم في مجتمعنا باسم القراءات المتعددة للدين ناشئ عن رؤية الفريق الثاني، ورغم أنّ العنوان المذكور يردّده المثقفون المسلمون في ظاهرهم، لكن ينبغي البحث عن أساس فكرة القراءات المتعددة للدين في نظرية محورية الإنسان، فكما تقدمت الإشارة أنّ الفكر الآنف الذكر يعتبر التعاليم الدينية وأحكام الكتب السماوية عديمة المعنى، ويؤمن بأنّ القرآن وأي نص ديني آخر ساكتٌ ولا ينطوي على معنىً ومفهوم، بل نحن البشر الذين ننسب فهمنا وقراءتنا للدين والقرآن من خلال مخزوننا

٦٦

الذهني، وإلاّ فإنّ القرآن لا يحمل رسالة ولا يبيّن أي حقيقة.

ربّما يكون مفيداً إيراد مثال لبيان ماهية الفكر المذكور، والاطلاع على معنى قول أتباعه في أنّ الدين ساكت، وإمكانية حصول قراءات متعددة له.

الظاهر أنّ الجميع على معرفة تقريباً بديوان حافظ وشعره والقصائد الغزلية لهذا الشاعر الكبير والعارف الجليل، فالقراءات المتعددة لديوان حافظ وأشعاره تعني أنّ منشد هذه الأبيات لم يقصد أي معنىً ومراداً في العبارات والكلمات التي استخدمها في أبياته، وإنّما هي مجرد ألفاظ وكلمات صاغها بشكل موزون، ووضعها إلى جانب بعضها البعض دون أن تفيد معنىً، وقد نظّمها كقوالب فارغة وِفق وزنٍ رائعٍ جداً وممتع، أي أنّ الشاعر قد أنشدها دون أن يتبادر إلى ذهنه أي معنىً أو هدف أو غاية.

استناداً لنظرية القراءات المتعددة يقال إنّ شعر حافظ وأبياته الغزلية تفتقد المعنى، وكل مَن يفتح ديوان حافظ متفائلاً على خلفية نية ومراد معيّنين، يستنبط من أوّل بيت أو مجموعة أبيات غزلية منه أمراً في ضوء نيته، فالذي لديه مريض مثلاً ويتمنى شفاءه يتفاءل به ويستوحي شفاء مريضه من أحد الأبيات، والآخر الذي في ذمته دينٌ يستوحي من نفس الأبيات أداء دينه، وثالث يتمنى عودة مسافرٍ فيستشف من ذلك البيت البشرى بعودة غائبه، وعلى نحو الإجمال أنّ لكل إنسان فهمه من هذه الألفاظ بما يتطابق مع خليفته الذهنية.

وفي الحقيقة أنّ هنالك أُناساً يستنطقون ديوان حافظ وكل منهم يلقي أفكاره على لسان حافظ، فيجري تصور كافة التفاسير والتوجيهات والاستنباطات على أنّها صحيحة؛ لأنّ الاستنباطات المذكورة نابعة من الأفراد أنفسهم، وأنّ الألفاظ والكلمات وأبيات الشعر والغزل - استناداً لهذا الافتراض - تفتقد المعنى.

إنّ الفكرة التي يُروّج لها اليوم في أوساط المجتمع تحت عنوان ( القراءات المتعددة للدين ) هي على هذه الشاكلة، إنّها فكرة تعتبر القرآن وكل نص ديني آخر خالياً من

٦٧

المعنى وفارغاً من كل بلاغة ورسالة، وإنّ أنصار هذه الفكرة يتصورون أنّ القرآن لا يتحدث عمّا يجب فعله أو ما يجب تجنّبه، وما هو حق وصحيح وما هو باطل وخطأ، بل الناس هم الذين يستوحون منه معنىً معيّناً من قبيل الحق والباطل والصحيح والخطأ في ضوء خزينهم الذهني، وبما أنّ هذه الأمور منبثقة عن عقول الأفراد فبالإمكان اعتبارها صحيحةً بأجمعها، بل لا معنى على نحو الإجمال للحكم في صحتها أو سقمها، فعلى سبيل المثال أنّ جميع الاستنباطات المختلفة من آية واحدة تعد صحيحةً وإن تناقضت، كما لو كان شخص يستنبط من بيت غزلي لحافظ شفاء مريضه، وآخر يستوحي منه البشرى بعودة غائبه، وثالث يستوحي منه اليأس ويجلس منتظراً فقدان مريضه.

يقول أصحاب نظرية القراءات المتعددة للدين إنّ القرآن وأي نص ديني آخر هو على هذه الشاكلة، وهؤلاء يعتقدون أنّه لا ينبغي للناس أن يتهموا بعضهم البعض بإساءة فهم القرآن، ففهم القرآن لا يحتاج لأي اختصاص؛ إذ إنّ القرآن وغيره من النصوص الدينية لا ينطوي على أية رسالة حتى يجري الحديث عن فهمه، فالمدار هو فهم الإنسان نفسه.

إنّ طرح هذه الفكرة يأتي - من وجهة نظرنا - لتحقيق أهداف سياسية، غير أنّه يجري الترويج والتبليغ لها على أنّها نظرية في معرفة الدين، وتحت عنوان قراءة جديدة للدين والصراط المستقيمة وما شابه ذلك.

إنّ فكرة التعددية الدينية التي تُطرح في إطار القراءات المتعددة للدين بعيدة كل البعد عن المنطق والعقل، بحيث إنّ كل عاقل إذا ما ألقى نظرةً على جذور هذه الفكرة ومردوداتها سيقتنع دون مواربة ببطلانها، ومن جهة أخرى نظراً للآثار المدمّرة لفكرة التعددية الدينية في المجتمع فلا يمكن المرور عليها ببساطة.

يبدو أنّ من أدهى المصائد التي نصبها الشيطان - هذا العدو المتربص بالإنسان -

٦٨

منذ خلق آدمعليه‌السلام وحتى الآن؛ لخداع عباد الله والموحدين مستعيناً بخبرته الممتدة لعدة آلاف من السنين، هو الإيحاء بفكرة القراءات المتعددة للدين، وثمّة أناس هبّوا لمؤازرة الشيطان تحت يافطة التنوّر الفكري منطلقين من هذه الفكرة الشيطانية، وقد كرّسوا كافة قواهم لإعانته في هذا المجال، وقد كرّسوا عقولهم وأفكارهم وقدراتهم الكلامية والكتابية تحت تصرّف الشيطان، وجعلوا من أنفسهم أداةً لإغواء الناس.

بناءً على هذا لو أردنا الحديث بعبارة موجزة وواضحة عن ماهية فكرة التعددية في المعرفة الدينية، التي تُطرح تحت عناوين من قبيل القراءات المتعددة للدين، أو الصُرط المستقيمة، أو دين الأكثرية ودين الأقلية الخ فحريٌّ بنا القول إنّ الفكرة المذكورة عبارة عن فكرة تتصور الدين والقرآن وكل نص ديني آخر فاقداً للحقائق الثابتة، وترى انتفاء الحق والباطل والصحيح والخطأ فيه، إنّ الدين لدى أصحاب هذه الفكرة مجموعة من الآراء المتباينة والمتناقضة، أحياناً يستفيد الناس منها أثناء الرجوع إلى النصوص الدينية دون أن ينطق القرآن أو النص الديني بشيء.وأصحاب هذه الفكرة يتصورون القرآن - والعياذ بالله - كتاباً قصصياً يثير لدى الإنسان أَوهاماً مختلفة، وكل إنسان يتخيل منه أمراً في ضوء خزينه الذهني فيستنبطه، ويظهر قراءته للدين والقرآن وينسبها إلى الله.

ونحن نؤكد هنا بأنّ علينا أن نفكر أكثر بشأن حقيقة معنى القراءات المتعددة للدين وحقيقة الصُرط المستقيمة، ونتمعّن في الآثار والمردودات المدمرة لهذا الفكر الإلحادي؛ كي ندرك أغراض أصحاب هذه المصيدة الشيطانية والمخطّطين لها، ونطّلع على عمق تحركهم.

على أية حال عندما نقارن التوجه المذكور مع توجه الطائفة الأُولى، نجد أنّ روح التوجه لدى الطائفة الأُولى هي روح محورية الله والعبودية والتسليم في مقابل الله سبحانه وتعالى، والروح الثانية هي روح محورية الإنسان والتهرب من الله وتعاليمه ،

٦٩

وعلى نحو الإجمال أنّ العمل في التوجه الأَوّل يتركز على أن يتقبل الإنسان عبودية الله عزّ وجل، فيما يتركز العمل في التوجه الثاني على أن يبتعد الإنسان عن عبودية الله، ويطيش في الشهوات والنزوات الحيوانية، وهذا التوجه يجعل الأصالة لأهواء الإنسان ورغباته، ويحاول تفسير الدين والقرآن لصالحهما.

لعلّ من الحِكم التي ينطوي عليها القرآن في عبارات من قبيل :( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) ،(١) ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) ،(٢) ( تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ) ،(٣) ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) ،(٤) الوارد التأكيد فيها على جلاء القرآن ووضوحه وفصاحته، هي التصدي للأفكار المنحرفة مثل تعدد القراءات، وأن لا تكون هنالك ذريعة بيد أحد من قبيل غموض وعدم مفهومية المعنى والمراد في القرآن.

بناءً على هذا؛ إنّ القرآن كتاب هداية قد أبان الله سبحانه وتعالى فيه كافة الحقائق الكفيلة بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، والمسلمون مكلّفون بأن يعرفوا واجباتهم الفردية والاجتماعية عبر التدبّر بالقرآن، وضمان فلاحهم باتّباعهم له، لكن مَن الذين له الأهلية لفهم القرآن والعلوم الدينية ؟ هذا أمر سنتطرق لإيضاحه لاحقاً.

ضرورة اكتساب الأهلية لفهم القرآن وتفسيره

من الطبيعي أنّ فهم القرآن وتفسيره ليس من قابلية كل أحد، مثلما أنّ فهم الموضوعات العلمية الدقيقة في كل فرع وحقل ليس من قابلية كل أحد أيضاً، ففهم المعادلات الرياضية المعقدة أو دقائق سائر العلوم إنّما هو في حدود أهلية المختصين بها فقط، وأنّ غير المختصين ليسوا عاجزين عن الإدلاء بدلوهم بشأنها فحسب، بل أنّ وجهات نظرهم حولها تفتقد لأي وزن.

وفيما يخص فهم القرآن وتفسيره أيضاً فإنّ الإدلاء بالرأي من قِبل الذين لا معرفة

____________________

(١) الحجر : ١.

(٢) الشعراء : ١٩٥.

(٣) النمل : ١.

(٤) المائدة : ١٥.

٧٠

لهم بعلوم الدين ومعارفه يفتقد لأي قيمة وشأن، فبالرغم من أنّ القرآن نزل بلسان بليغ ومبين؛ ليفهمه الناس ويعملوا به، لكن ليس الأمر بأنّ عمق معارفه ممّا يتسنّى للجميع فهمه على مستوى واحد، فالمتيسر فهمه من القرآن لعامة الناس هو الظاهر من المعنى إذ يصرّح القرآن : نحن أنزلنا القرآن بلسان مبين، أي أنّ القرآن نزل بنحو يتسنّى لكل عارف بمبادئ وقواعد اللغة العربية وتهيمن عليه روح العبودية، أن ينتهل من القرآن وينتفع منه في حدود عقله ومعرفته، لكن الغور في عمق معاني القرآن ومعارفه يحتاج إلى مقدمات وتفكّر وتدبّر.يقول القرآن بهذا الصدد :( إِنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ،(١) أو قوله :( إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٢) .

على العموم أنّ الآيات التي تدعو الإنسان إلى التدبّر والتفكّر في القرآن ومعارفه تقول لنا : لا تكتفوا بظواهر القرآن، بل أدركوا عمق القرآن ودقائق معارفه، من خلال التدبر والتفكر والانتهال من علوم أهل البيتعليهم‌السلام ، وانتفعوا أكثر فأكثر من كنز العلم الإلهي هذا، وعليه فإنّ فهم القرآن وتفسير علومه السامية إنّما هو قابلية المختصين والعارفين بعلوم أهل البيتعليهم‌السلام فقط، فليس الأمر أن يكون مباحاً لكل مَن وقف على قارعة الطريق أن يدلي بدلوه، ويكون بوسعه أن يتحدث دون أدنى معرفة بعلوم الدين وأصول وقواعد البيان والتفسير عن الدين وأحكامه ومعارفه، على أنّه يقوّم قراءةً جديدة.

المراتب المختلفة لمعاني القرآن وفهم معارفه

يظهر في الكثير من الروايات هذا المعنى من أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، وليس بمقدور كل أحد فهم عمق معارف القرآن، فالقرآن ليس كتاباً ومقالاً عادياً يستطيع جميع الناس إدراك جميع علومه، فكما تقدّمت الإشارة آنفاً أنّ القرآن بحر عميق بعيدة

____________________

(١) يوسف : ٢.

(٢) الزخرف : ٣.

٧١

شواطئه، يقتطف كل إنسان من لآلئ معرفته بقدر قابليته وقدرته على الغوص، وينطلق متخطياً ظواهر القرآن نحو عمق معارفه بمقدار قابليته ومواهبه، فيستفيد مطالب متعددة من آية واحدة تسير مع بعضها طولياً دون أن يكون فيها أدنى منافاة أو تناقض، وهذا بحد ذاته من معجزات القرآن الكريم.

على سبيل المثال، يقول القرآن الكريم :( يَا أَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ ) (١) فالذي يفهمه عامة الناس من هذه الآية ويدل عليه ظاهر الآية هو : أنّكم محتاجون لله سبحانه وتعالى وهو غني ويستحق الحمد، فما يتداعى إلى أذهان الناس من مفردة الفقر، هو فقر الإنسان في مجال المعيشة من مأكل وملبس وغيرهما، ممّا يقوم الباري تعالى من خلال خلق أسبابها وعللها بتوفير مقومات استمرار حياة الإنسان ورقيه وتكامله، في هذه المرتبة من الفهم التي يعبّر عنها بمرتبة الظاهر يكون ظاهر القرآن جلياً وناطقاً يدركه جميع أهل اللغة، لكن ليس الأمر عدم استفادة معنى آخر أكثر عمقاً من المعنى الظاهري، وأن تخلو الآية المذكورة من إشارة إلى مطلب أدق أكثر سعةً من هذا الفهم العام، فكلما كان الإنسان أكثر معرفةً بخفايا الكلام والإسرار الأدبية للغة ومضامينها - ونظراً لأنّ القرآن يوصي في المقابل بالتدبّر والتفكّر لدى التعرض لآيات القرآن - فإنّ المرء سيدرك إبعاداً أدق وأعمق لظواهر الآيات.

لو تأملنا بقليل من التعمّق في هذه الآية، سنرى أنّ فقرنا وحاجتنا إلى الله سبحانه وتعالى أوسع مدىً من المأكل والملبس والمستلزمات الصحية والمادية، فنحن فقراء مطلقون والله الغني المطلق، ونحن فقراء بالذات والله غني بالذات، والفقير في اللغة تعني مَن كسر عموده الفقري ولا قدرة له على الوقوف، والإنسان فقير بمعنى أنّه مهما توفرت له الإمكانيات المادية فإنّ وجوده ناقص وتابع، وعندما ننظر إلى هذه الآية

____________________

(١) فاطر : ١٥.

٧٢

بهذه النظرة وفي ضوء هذا الأمر، سندرك أنّ حاجتنا إلى الله عزّ وجل تتجاوز المأكل والملبس وسائر المستلزمات، فنحن فقراء الله في أصل الوجود، فالله جلّ وعلا قد خلقنا، وهو قد هيّأ مقومات استمرار حياة الإنسان ورقيه وتكامله من خلال إيجاده للأسباب والعلل الوجودية، فنحن محتاجون وفقراء في أصل الوجود وبالذات والله عز وجل غني بالذات.

من الطبيعي أنّ النظرة الثانية أعمق من النظرة الأُولى فهنا يُعدّ المعنى الأوّل ظاهرياً والثاني باطنياً، والمعنى الأعمق من المعنى الثاني هو أن نقول : إنّكم أيّها الناس لستم فقراء ومحتاجين في أصل الوجود فحسب، بل أنتم عين الفقر ومحتاجون بكل كيانكم ووجودكم، وكيانكم عين الارتباط بالله وتعالى، وبالطبع فإنّ إدراك حقيقة المعنى الثالث خارجة عن حدود الفهم العادي.

على أية حال، ينبغي الانتباه إلى أنّ هذه المعاني الثلاثة للآية وتفسيرها تسير طولياً مع بعضها، وفي نفس الوقت أنّ كلاً منها صحيح وصائب، ولا يتنافى أي منها مع غيره، لكن المعاني المذكورة ليست بمستوىً واحد من حيث العمق، وليست جميع مراتب القرآن ممكنة الإدراك بالنسبة للجميع، وأنّ جميع الناس يمتلكون القدرة والقابلية على فهم جميع مراتب القرآن وبواطنه.

والمراد من الكلام المتقدم هو؛ تقريب المطلب الوارد في بعض الروايات القائل بأنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، وليس بمقدور الجميع إدراك عمق معارف هذا الكتاب الإلهي، ومن الضروري التأكيد والتذكير بأنّ الأئمةعليهم‌السلام وحدهم - وبتعليم من الله - المطلعون على معارف القرآن وعلومه، وعالمون ببواطن هذا الكتاب السماوي العظيم، وفي هذا المجال نورد مقطعاً من رواية عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : ( يا جابر، إنّ للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وله ظهر، وللظهر ظهراً.يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية لتكون أَوّلها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل يتصرف على وجوه )(١) .

____________________

(١) بحار الأنوار : ج٩٢، ص٩٥.

٧٣

يخاطب الإمام الباقرعليه‌السلام جابراً بأنّ للقرآن باطناً وللباطن باطناً، والقرآن ذو ظاهر وللظاهر ظاهرٌ أيضاً، وعليك يا جابر أن تعرف أنّ عقول الرجال أعجز من أن تتصدى لتفسير حقيقة القرآن وباطنه؛ لأنّه ربّما يدور أوّل الآية حول شيء ما فيما يتحدث آخرها عن شيء آخر، فالقرآن كلام مترابط ذو قابلية على أن يتضمن عدة معاني دون أن يكون هنالك أدنى تناقض أو منافاة بين المعاني والمعارف.

ما يجري التأكيد عليه هنا هو أنّ فهم بواطن ودقائق معارف القرآن ليس بمستطاع الجميع، وبالطبع ليس المعنى من هذا الكلام أنّ القرآن نزل للأئمة والراسخين في العلم وحدهم، وأنّ الآخرين عاجزون حتى عن فهم ظاهر القرآن، بل أنّ ظاهر القرآن متيسر الانتفاع بالنسبة لكل إنسان في حدود فهمه وإدراكه وقابليته، شريطة أن ينحّي جانباً أحكامه المسبقة ورغباته وأهواءه النفسية، ويتجنّب التفسير بالرأي، وفيما يتصل بفهم القرآن ينبغي أن نشير إلى أمور نتطرق إليها في هذا المقطع من البحث.

اختصاص تفسير القرآن - بمعنى تفصيل الأحكام - بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام

كما جرى إثباته وبيانه في موضعه أنّ أحد منازل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عدا شأن تلّقي الوحي وتبليغه، هو بيان الوحي وتفصيل الأحكام والتعاليم الإلهية، لقد نزل القرآن الكريم بهيئة مجموعة من القوانين والأحكام الكلية على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يتصدَ بنفسه لبيان وتفصيل الأحكام والجزئيات، وفيما عدا موارد معدودات فقد أوكل مهمة تفصيلها وبيانها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمةعليهم‌السلام ، فعلى سبيل المثال أنّ القرآن يأمر بالصلاة على نحو الإجمال ويطلب من المسلمين أن يؤدوا الصلاة، ولكن ما هي الصلاة وكم عدد ركعاتها وكيفية أدائها ؟ وما هي شروطها وتفاصيلها؟ فهذا ممّا لم يجرِ بيانه في القرآن، وقد أُنيطت مهمة تفصيل هذا الحكم الكلي وما شابهه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .بناءً على هذا؛ فإنّ تفسير وبيان الأحكام الإلهية مناط بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن شؤونهصلى‌الله‌عليه‌وآله .فالقرآن بدوره ينوّه إلى مسؤولية

٧٤

بيان الوحي ويعدها من واجبات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) وليس مستبعداً أن يكون المراد من التعليم في بعض الآيات - من قبيل الآية ١٦٤ من سورة آل عمران، التي أوردت التعليم إلى جانب التلاوة - بيان منزلة وشأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان وتفسير الوحي والقرآن.

إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - في الحقيقة - عندما ينبري لمهمة إبلاغ الوحي فهو يتحمّل واجبين مهمين، الأَوّل أن يقوم بتلاوة كلام الوحي وقراءته على الناس، والثاني بيان وتفسير مقاصد الآيات ومضامينها لهم وتعريفهم بأحكام ومعارف القرآن.يقول القرآن :( لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ) (٢) ففي هذه الآية والآيات المشابهة لها جرى بيان الوظيفة الأُولى أي قراءة الآيات من خلال لفظ ( يتلو )، واستخدم لفظ ( تعليم ) لبيان الوظيفة الثانية أي تفسير وبيان المضامين والأحكام.

وبالنتيجة فإنّ بيان الوحي وشرح الأحكام الإلهية، وتفسير القرآن الكريم بالمعنى المتقدم، ليس سوى عملٍ يدخل ضمن أهلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ؛ لأنّهم وحدهم العارفون بالعلم اللدنّي والعلوم والمعارف الإلهية.

فَهْم علوم أهل البيتعليهم‌السلام مقدمة لفهم وتفسير القرآن

الآن وفي ضوء ما تقدم تتضح جيداً مهمة المفسّرين، فكما جرى بيانه أنّ بيان الوحي وشرح الأحكام وتفسير الآيات القرآنية، إنّما تقع في الأصل على عاتق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي حدود مسؤوليته وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله قام بتعريف الناس بعلوم القرآن على امتداد حياته المعطاءة ما أمكنه، وفي هذا الزمان فإنّ المفسّرين مكلّفون أيضاً بالرجوع إلى الروايات والأحاديث الواردة في هذا المجال، عبر أسانيد صحيحة عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومطالعة

____________________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) آل عمران : ١٦٤.

٧٥

الآيات ذات العلاقة والتدقيق بها على أساسها، وصياغة أفكارهم وآرائهم في إطار بيان وتوضيح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يتمسكوا بالثقل الأصغر أي أهل البيت والأئمة المعصومين (عليهم السلام) حيثما لم يتسنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان الثقل الأكبر والقرآن الحكيم، وفي هذا المجال أيضاً فإنّ المتخصصين والعارفين بالعلوم والمعارف الدينية مكلّفون بأن يجعلوا الروايات والأحاديث الصحيحة السند مرتكزهم ودليلهم في فهم القرآن الكريم، وينبروا لفهم القرآن وتفسيره على أساس الروايات الصحيحة.

بناءً على هذا، إنّ أَوّل ملاك في الفهم الصحيح للقرآن وعلوم الدين، هو البيان والإيضاح الوارد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، وبالنتيجة فإنّ أوّل وأهم واجب على المفسّر هو فهم وبيان التفسير الوارد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمةعليهم‌السلام ، ففي ظلال علوم أهل البيتعليهم‌السلام فقط يمكن الوصول إلى فهم معارف القرآن.

تفسير القرآن بالقرآن

الأمر الثالث المهم جداً والضروري الانتباه إليه في الفهم الصحيح لكلام الوحي هو تفسير القرآن بالقرآن، والتأمل بالترابط بين الآيات، فبالرغم من أنّ آيات القرآن تبدو حسب الظاهر منفصلة فيما بينها، وأنّ كلاً منها أو أنّ كل مجموعة منها تبيّن موضوعاً معيّناً، لكن الفهم الصائب والتفسير الصحيح إنّما يتيسر تحقّقه عندما يُنظر إلى آيات القرآن على أنّها مترابطة فيما بينها، ويحاكي بعضها البعض، فالكثير من آيات القرآن وعلوم هذا الكتاب الإلهي يفسّر بعضها البعض، وتشهد على صدق وصحة مضامين بعضها البعض.

يقول عليعليه‌السلام بهذا الصدد :( كِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ وَتَنْطِقُونَ بِهِ وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلا يَخْتَلِفُ فِي اللَّهِ وَلا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ ) (١) .

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٣٣.

٧٦

فالقرآن كتاب الله هو الذي يجعلكم تبصرون الحق وتنطقون به وتسمعونه، والقرآن كتاب يفسّر بعضه بعضاً، ويشهد بعضه على البعض الآخر.

من موارد تفسير القرآن بالقرآن يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى الآية ١١ من سورة الشورى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .والآية ١٠ من سورة الفتح :( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) .

إنّ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) من محكمات القرآن ومعناها واضح ومعلوم، فالآية تقول ليس مثل الله شيء والله سبحانه وتعالى حقيقة لا مثيل لها، وفي الآية( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) يقول تعالى إنّ يد الله تعلو كافة الأيادي، فرغم أنّ هذه الآية تنسب اليد لله لكن الآية( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) تنفي هذا المعنى الظاهري، وفي ضوئها نفهم أن ليس المراد من اليد معناها الظاهري، بل ينبغي أن يكون المراد معاني كنائية من قبيل القدرة وما شابهها.وعليه؛ إنّ تفسير وبيان الآية( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) دون العودة إلى الآية( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) خروج عن النهج الصحيح للتفسير، وربّما يطرأ خطأ وفي ضوء التفسير الخاطئ تقدّم صورة خاطئة وجسمانية عن الله.

بناءً على هذا يجب أن نلتفت لدى تفسير القرآن إلى هذا الأمر، وهو أن ننظر إلى الآيات المترابطة مع بعضها، ونحاول فهمها بالاستعانة بالقرآن نفسه.

الالتزام بأصول وقواعد الحوار العقلائي في فهم القرآن

الأمر الرابع الذي يتعيّن الاهتمام به في تفسير القرآن، هو الالتزام بأصول وقواعد الحوار العقلائي في الفهم الصحيح للقرآن الكريم، لاسيما عندما لا يكون هنالك في متناول اليد حديث صحيح، أو بيان واضح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الأئمة المعصومينعليهم‌السلام بشأن آية ما، فذلك ممّا يضاعف من ضرورة مراعاة مبادئ وقواعد الجدال العقلائي في الفهم الصحيح لآيات القرآن، وفي هذا المقطع يبرز دور أعلام الدين والمفسّرين والعارفين بعلوم أهل البيت، الذين افنوا عمرهم في فهم معارف القرآن وعلوم أهل البيت، في

٧٧

الفهم الصحيح للقرآن وبيان معارف الدين، فهؤلاء وطبقاً لأصول الحوار العقلائي هم الذين يميّزون عام القرآن عن خاصّه، ويشخّصون حدود معاني كلّ منها، ويعرفون مطلقه من مقيّده، ويفسّرون الآيات ببعضها، ويشخّصون ترابط كل آية بالآية الأخرى، ويراعون ذلك عند التفسير.

ملائمة فهم المفسّرين لقابلياتهم

الأمر الآخر الذي ينبغي أن يحظى بالعناية في هذا المجال لا يقتصر على فهم القرآن ومعارف الدين، بل هو موضع قناعة من الجميع في سائر الفروع ومختلف الاختصاصات العلمية، وهو وجود درجات للفهم وتناسبها مع القدرات العقلية ومقدار السعي والجهد والدقة في الفهم الصحيح وتوضيح ذلك وهو :

من المسائل التي يفتي بها جميع الفقهاء تقريباً في الأبحاث الفقهية، ويعتبرونها واجباً على المقلّد هي مسألة تقليد الأعلم، فعلى هذا الأساس يقال إنّ الفقاهة والتخصّص في فرع الفقه واستنباط الأحكام ذات مراتب، وعلى كل مكلّف أن يقلّد الفقيه الأعلم أي الأكثر فهماً ومهارةً من الآخرين في استنباط الأحكام، ومَن يتمتع بتفوق في الفقاهة، وبطبيعة الحال أنّ سائر المراجع الذين ليسوا بمستوى ذلك الفقيه الأعلم هم فقهاء ومجتهدون أيضاً لكنّهم يأتون في مراتب تالية.

لا يخفى أنّ فتوى الفقهاء في وجوب تقليد الأعلم نابعة من منهج عقلائي أيضاً، فهي بالضبط كالرجوع إلى الطبيب المتخصص الذي له سنوات طويلة من الخُبرة في الطب، وأنّ تفضيله على الذي نال لتوه ترخيصاً بالطب منهج عقلائي، والعمل خلافاً لهذا المنهج عرضة للذم من قبل العقلاء.

إنّ فهم ومعرفة دقائق معارف القرآن لا يكون إلاّ في حدود قدرات المختصين والعارفين بعلوم أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين أفنوا عمرهم في فهم القرآن والمعارف الدينية، وفي ضوء مراتب فهم القرآن وتفسير هذا الكتاب السماوي

٧٨

فمن الطبيعي أنّ الأمور والموضوعات المذكورة، كلما حظيت باهتمام ودقة أكثر كلما تضاءل احتمال الخطأ في تفسير آيات الله، ونقترب أكثر من الفهم الصحيح لهذا الكتاب السماوي.

وجوب معرفة القرائن الكلامية

التذكير السادس الذي نلفت إليه عناية القرّاء، هو وجوب معرفة القرائن الكلامية وشأن نزول الآيات، فبالرغم من أنّ القرآن الكريم قد نزل لكافة العصور والأجيال، وأنّ مخاطبيه هم أهل كافة الأعصار، لكن القرائن وشأن النزول والظروف الزمانية والمكانية التي نزلت فيها الآيات الكريمة كانت من الوضوح بالنسبة لأوائل المخاطبين والمعاصرين لنزول القرآن، لم يكن ليبقى أي مجال للشك والاختلاف في معناه وتفسيره، بالإضافة إلى أنّه لو كانت هنالك آية غامضة فلم يكن من الصعب وصول الناس إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا اليوم حيث الابتعاد عن عصر النزول وإمكانية اختفاء القرائن وشأن النزول، تتضاعف ضرورة ووجوب توخّي الدقة في الفهم الصحيح للقرآن.

من ناحية أخرى أنّ معرفة المعاني الحقيقة واللغوية للألفاظ المستخدمة في القرآن الكريم من الأمور التي بدونها لا يتيسر الفهم الصائب، والتفسير الصحيح للقرآن، فربّما تؤدي الغفلة عن التطور المعنائي، الذي قد يطرأ في اللغة مع مرور الزمن إلى حدوث الخطأ وسوء الفهم، فعلى سبيل المثال من الواضح للجميع معنى ومفهوم كلمة ( التقية )، فالمراد من هذه الكلمة في الثقافة العامة هو أن يخفي المرء معتقده ودينه، ويوحي بما يجعل مخاطبه لا يعرف بمعتقده ودينه الحقيقي، بينما المعنى اللغوي للتقية هو الورع وقد استخدمت بهذا المعنى في القرآن ونهج البلاغة، ورغم عدم وجود مفردة تقية في القرآن ولكن قد وردت مفردة ( تقاة ) المرادفة للتقية والتقوى في الآية :( اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) (١) .

____________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

٧٩

وجود الصور الكلامية في القرآن الكريم

بالرغم من أنّ القرآن الكريم - كما يصرّح هو بنفسه - قد نزل بلغة بيّنة وجليّة، وبإمكان كل إنسان أن ينتهل من هذا الكتاب السماوي في حدود فهمه وقابليته، لكن من الضروري الانتباه إلى هذا الأمر وهو أنّ القرآن يتمتع بأفصح وأبلغ الصور الكلامية والبيانية، ومن الطبيعي أنّ الالتفات إلى الأمور الآنفة الذكر، من الشروط الرئيسية للاستفادة الصحيحة والسليمة من القرآن الكريم.

قد تقوم آية ما في القرآن الكريم ببيان حكم بشكل إجمالي وعام، وفي آية أخرى يجري توضيح حدود ذلك الحكم، أو أن يتم بيان حكم في آية بصورة مطلقة ويستفاد قيده وشرطه من آية أخرى، كما أنّ بيان الموضوع عن طريق المثال واستخدام الكناية والاستعارة والمجاز وما شابه ذلك من الطرق المستخدمة في القرآن؛ ونظراً لأن الناس هم المخاطبون في القرآن وأنّ الطرق المذكورة تعد من محاسن الكلام الإنساني والعقلائي في بيان الغاية، فإنّ القرآن يستعين بهذه الطرق بأروع شكل ممكن في بيان أحكامه ومعارفه.بناءً على هذا؛ إنّ الطرق المستخدمة في القرآن هي ذاتها الطرق التي يستخدمها العقلاء في بيان كلامهم، مع فارق أنّ نوع وكيفية استخدام الفنون البيانية المستخدمة في القرآن، لا يمكن مقارنتها من حيث المرتبة والروعة والسلامة مع استخدام المحاسن المذكورة في كلام الإنسان، والسبب في ذلك هو؛ أنّ القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، الذي نزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأفصح وأبلغ بيان، وعلّم البشر أصول الفصاحة والبلاغة، وقد دعا هذا الكتاب الناس بأروع وأفصح وأبلغ كلامٍ إلى التوحيد والهداية والتكامل والسعادة.

إنّ خلاصة ونتيجة موضوعات القسم الأخير من هذا الفصل تتمثل في عبارة واحدة هي : أنّ معرفة جوانب ومحاسن الكلام المستخدم في القرآن إلى جانب الأمور المتقدمة من الشروط الضرورية لفهمه، وممّا لا شك فيه أنّ إهمالها سيؤدي إلى سوء الفهم والتفسير الخاطئ.

٨٠