تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة0%

تجلي القرآن في نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 130

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف: آية الله محمد تقي مصباح اليزدي
تصنيف:

الصفحات: 130
المشاهدات: 64098
تحميل: 7081

توضيحات:

تجلي القرآن في نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 130 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64098 / تحميل: 7081
الحجم الحجم الحجم
تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

الفصل الثالث

القرآن والغزو الثقافي

٨١

٨٢

امتزاج الحق بالباطل

في ضوء المطالب التي جرى بيانها في الفصلين المتقدمَين، وفي حدود تحقيق غاية الكتاب فقد تمّ تقديم إيضاحات موجزة عن مكانة القرآن وأهميته، ودور هذا الكتاب الإلهي، من منظار نهج البلاغة في هداية البشر نحو السعادة الكمال، والآن يتبادر هذا السؤال وهو : هل يكفي الالتزام بالأمور الآنفة الذكر لغرض الاستفادة من القرآن الكريم، والتمسك بالثقل الأكبر الذي يُعد تراثاً عظيماً للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ربّما يقال لو جرى الالتزام بكافة الأمور التي تلعب دوراً في الفهم الصحيح والاستنباط الصائب من القرآن، فمن المحتم أن تُفهم أحكام القرآن ومعارفه كما هي، وتتبلور ثقافة المجتمع على أساس توجيهات القرآن الكريم ويتحصّن الناس من الخطر في ظل الحكومة الدينية وتحت ظلال القرآن؛ لأنّ التمسك بالقرآن هو ذاته الفهم الصحيح لمعارفه والعمل على أساس التعاليم القرآنية.

بالرغم من أنّ الجواب المذكور يُعتبر إلى حدّ ما صحيحاً في حدود الهدايات الفردية للقرآن، لكن تحقّق هذا الأمر إنّما يكون حينما يُنظر إلى الدور المفترض للقرآن على مستوى عامٍ، ويُدرك موقعه في مواجهة الأفكار الضالة والمتطاولين على الثقافة الدينية.

يبدو أنّ تحكيم ثقافة القرآن وقيادة المجتمع على أساس المعتقدات والقيم الدينية لن يكون مهمةً سهلةً، بدون معرفة الأفكار الضالة لأعداء القرآن، ومواجهتهم من خلال تسليط الأضواء، وفضح مؤامراتهم أمام الملأ، وهذا أمر غالباً ما يكون محط غفلة.

٨٣

بناءً على هذا ينبغي إلى جانب العمل على فهم القرآن والعمل بتوجيهاته، أن لا يُغفل عن أعداء القرآن بأي نحو كان، فلا يتحقق التمسك بالقرآن وتحكيم هذا الكتاب السماوي إلاّ بمعرفة الأفكار الضالة المعادية للقرآن ومواجهتها.

إنّ الحق والباطل متلاصقان في مقام العمل مثل تلاصقهما في مقام المعرفة، أي أنّكم إذا ما عرفتم الحق فستعرفون الباطل أيضاً، ومعرفة الباطل تعينكم لكي تعرفوا الحق أيضاً، وفي مقام العمل يتعذر تحكيم القرآن في المجتمع بدون معرفة الأعداء والأفكار المنحرفة، والتصدي لمؤامراتهم ومكائدهم الشيطانية في إضعاف الثقافة الدينية للناس.

إنّنا وفي هذا المجال نورد في البداية كلاماً لعليعليه‌السلام في نهج البلاغة، ومن ثَمّ نقوم ببيان أساليب أعداء القرآن في تضليل الرأي العام للمجتمع لنعرّف - من خلال توضيح شبهات الملحدين - الرأي العام للناس لاسيما طبقة الشباب والمثقّفين في المجتمع بالمؤامرات الشيطانية التي يحيكها الأعداء.

إنّ معرفة الأعداء والمناهضين للقرآن والثقافة الدينية من الأهمية والحساسية بحيث يقول عليعليه‌السلام : ( وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ، وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ، وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ، فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَمَوْتُ الْجَهْلِ )(١) ، فاعلموا أنّكم لا تعرفون طريق الهداية ولا تسلكونه إلاّ أن تعرفوا الذين تخلوا عن الهداية الإلهية، ولا تتمسكون بعهد الله وهو القرآن الكريم إلاّ أن تعرفوا الذين نكثوا ذلك العهد، ولا تكونون ممّن تمسكوا بحبل الله المتين والأتباع الحقيقيين للقرآن إلاّ أن تعرفوا الذين حادوا عن القرآن واعرضوا عن هذا الكتاب الإلهي، ثمّ يقولعليه‌السلام : خذوا تفسير القرآن ومعارفه عن أهل القرآن - أهل البيت - لأنّهم هم الذين يحيون العلوم والمعارف الإلهية ويميتون الجهل.

إنّ هذا الكلام الجلي لعليعليه‌السلام المرتكز على ضرورة تمييز العدو ومعروفة الأفكار

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٤٧.

٨٤

الضالة وضرورة فضح المنحرفين، يضاعف واجب علماء الدين والقائمين على نشر العلوم والمعارف الإلهية؛ لأن إزالة الأفكار المنحرفة، وشبهات الملحدين، عن أذهان الناس، لاسيما الشباب الذين لا يتمتعون بالبنية العلمية الكافية من حيث العلوم والمعارف الدينية، من المهام الأساسية للتبليغ، وتحكيم الثقافة القرآنية والدينية وبدون ذلك لا يمكن توقّع تحقيق النتيجة المنشودة والمفترضة، ولغرض توضيح هذا الأمر نتابع البحث في ثلاثة أقسام هي : الشبهات، والأساليب، ودوافع الأعداء من إثارة الشبهات.

بالرغم من أنّ القرآن أعظم نعمة مَنَّ بها الله سبحانه وتعالى بها على عباده، ورغم أنّه تكفّل المحافظة عليه من تطاول الشياطين وذوي الأطباع الشيطانية من الناس، لكن هذه ليست نهاية القصة، فالشيطان - هذا العدو المتربص ببني آدم - يوحي بالشبهات في كل عصر وبما يتناسب مع الظروف والروح السائدة، على مَن لهم القدرة من حيث الموقع الاجتماعي بالتأثير على أفكار الناس، وفي إطار أهوائهم النفسية؛ ليجرّ عامة الناس من خلالهم خلفه، ويحرفهم عن القرآن والدين، وبما أنّ القرآن أعظم وسيلة لنجاة الناس وهدايتهم وسعادتهم، فإنّ كل ما يتمناه الشيطان ويهدف له هو فصل الناس عن القرآن والدين، ومن أحابيل الشيطان في هذا الاتجاه هو تشجيع وساوس الذين بمقدورهم خلخلة إيمان واعتقاد الناس عن طريق إثارة الشبهات حول الدين والقرآن.

لقد كان عمل الشيطان والشياطنة في مقارعة القرآن الكريم قائماً منذ بداية نزول القرآن، وقد بدأت هذه الأعمال منذ الحث على ملء الآذان بالقطن، والمنع عن الاستماع لآيات الله، وتوجيه الاتهام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والافتراء عليه وهي مستمرة الآن بصور أخرى، وسوف تستمر لاحقاً أيضاً، وفي هذا المجال نغض الطرف عن إيراد تفاصيل طريقة المواجهة مع القرآن على مر التاريخ، ولغرض تجنّب الإطناب في الحديث نحاول من خلال ذكر بعض الشبهات التي تُثار الآن في وسط المجتمع؛ لإضعاف الثقافة الدينية

٨٥

للناس، لاسيما الشباب منهم وعقائدهم؛ كي نعمل على تنوير عقول القرّاء ومنهم الشباب، كي يتسنّى لهم ومن خلال الاطلاع على هذه المؤامرات الشيطانية التصدي للغزو الثقافي الذي يشنه الأعداء.

عندما يئس الشياطين في مواجهتهم للقرآن من القضاء عليه وإفنائه قرّروا حرمان الناس من التعرف على مضمونه، فكان أعداء القرآن وعلى مدى عدة قرون يروّجون في أوساط المسلمين، لاسيما الشيعة من أنّنا ينبغي أن لا نتوقع الكثير من القرآن؛ لأنّ القرآن متعذر الفهم بالنسبة إلينا، ونحن لسنا على اطلاع بباطن القرآن، وعليه لا يمكن الاستناد إلى ظاهر القرآن.

إنّ هؤلاء وبإيحائهم بفكرة عدم قدرتنا على فهم القرآن كانوا يحاولون حرمان الناس من الانتهال من القرآن، وبالنتيجة يُخرجون القرآن من صلب حياة المسلمين، وفي هذه الأثناء بالرغم من أنّ الاحترام الظاهري للقرآن في صيغة القراءة والتقبيل وتقديسه واحترامه كان شائعاً بين المسلمين، لكن هدف الأعداء ومناهضي القرآن هو حرمان الناس من مضمون القرآن والعمل بتعاليم هذا الكتاب السماوي.

واليوم يقوم أدعياء التنوّر الفكري - الذين يفتقرون للكثير من العلوم والمعارف الإسلامية - بإثارة أكثر الشبهات إضلالاً، والمؤامرات الشيطانية التي حيكت في الغرب قبل عدة قرون حول الكتب المحرّفة لسائر الباديان، وذلك تحت عنوان الأفكار الحديثة في وسط المحافل الثقافية والعلمية للمجتمع، والتأثير على الشريحة الطلابية المتعطشة للعلم والمعرفة، التي لا معرفة لها بأسس الأفكار الباطلة والأوهام الشيطانية لهؤلاء، متوهمين أنّهم يقومون بإضعاف المرتكزات العقائدية لهذه الطبقة، غافلين عن أنّ الشعب المسلم لاسيما الشباب من الطلبة والعلماء المسلمين الواعين، سيدركون بطلان أفكارهم الخاوية الشوهاء والبعيدة عن المنطق والعقل.إنّ عقائد وأفكار وعلوم الشعب المسلم وعلماء الدين تقوم على العقل والمنطق، ونابعة من علوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة

٨٦

المعصومينعليهم‌السلام ، وتنبثق من ينبوع الوحي، وحيثما واجه مسلمٌ أفكاراً منحرفة في المجالات الفكرية والعقائدية فإنّه ينبري لطرح ذلك أمام العلماء والمختصين بالعلوم والمعارف الدينية؛ ليحصل على الجواب الصحيح والمنطقي.

شبهة عدم بلوغ حقيقة الدين

لقد أثيرت شبهة عدم إمكانية بلوغ حقيقة الدين بدوافع شيطانية للغاية، ولها من الآثار المدمرة التي لا مجال الآن للتطرّق إليها جميعاً، ونكتفي هنا بتوضيح أصل الشبهة وكشف بعض زواياها الخافية ولوازمها، ونترك الحكم إليكم.

بما أنّ بحثنا يختص بالقرآن الكريم فإنّنا نتناول هذه الشبهة بالبحث فيما يخص القرآن.

فهذه الشبهة تُثار بصور شتى ومستويات مختلفة فيما يتعلق بفهم القرآن الكريم، فتارة يقال إنّ بعض آيات القرآن الكريم لها تفسيرات مختلفة، ولا يتفق المفسّرون في آرائهم في تفسيرها وتفصيلها، ونحن مهما قمنا بالتحقيق لغرض أن نحصل على رأي صائب يكون كاشفاً عن الكلام الواقعي للقرآن، فإنّنا في النهاية سنقبل بتفسير ورأي أحد المفسّرين، ومن الطبيعي أنّ سائر المفسّرين لا يرون فيه رأي القرآن، وعليه فإنّه ليس يسيراً بلوغ الكلام الحقيقي للقرآن.

من الطبيعي أنّ مثيري هذه الشبهة يحاولون من خلال الإيحاء بالفكرة المذكورة إثارة الشكوك لدى الذين لا يتمتعون بقوة فكرية، واقتدار علمي متين، وقدرة على التحليل والإجابة، والمطالعة الكافية في المعارف الدينية، إنّ هؤلاء واستناداً لتصوراتهم الخاطئة، يعتقدون أنّ القواعد الفكرية والعقائدية للمسلمين تقوم على أساس التقليد الأعمى، وهي تتحطّم من خلال نسج هذه الأوهام، ولأنّهم يعرفون جيداً عندما يسود الفكر والعقل والمنطق فإنّ القرآن ومعارف هذا الكتاب الإلهي وحدها التي تحظى بتصديق العقل السليم، والمنطق الصحيح، ويتقبلها كل إنسان توّاق للحق صادقاً من كل

٨٧

قلبه، فقد حاولوا إثارة الشبهة المذكورة بشكل أكثر عمقاً؛ ليكونوا - حسب زعمهم - قد وجّهوا ضربةً أقوى إلى الفكر الديني، غافلين عن أنّ الواعين من علماء المسلمين وبتحليلهم لأفكار هؤلاء سيدركون الآثار واللوازم الباطلة لهذا النمط من الفكر، الذي لا مآل له سوى الانحدار في ورطة التشكيك.

على أية حال، يظهر من إثارة الشبهة المذكورة بالنحو الذي جرى بيانه، أنّ مثيري الشبهة يعتقدون أنّ القرآن ذو حقائق ثابتة، ولكن بما أنّ المفسّرين لا يتفقون بآرائهم في تفسير القرآن فإنّ أيدينا تقصر عن بلوغ الكلام الواقعي للقرآن، وعليه فليس ممكناً الاستفادة من القرآن ويجب أن نلقيه جانباً.

ولكن عندما يواجهون الآيات الصريحة والواضحة في القرآن، ويعجزون عن إيجاد تشويه في ظاهرها ومعناها الجلي، ويرون أنفسهم عاجزين أمام العقل والمنطق ومحكمات القرآن، فإنّهم يتمادون أكثر فيثيرون الشبهة بنحو آخر، ولغرض بلوغ غايتهم المتمثلة بتجريد القرآن والعقائد والقيم الدينية من شأنها، فإنّهم يبادرون إلى تغيير موقفهم بشكل كامل عن كلامهم السابق المتمثل بعدم إمكانية فهم القرآن والعلوم الدينية، فيقفون في النقطة المعاكسة تماماً، ففي موقفهم السابق كانوا يقبلون بالمعنى الذاتي والواقعي لكلام القرآن والمعارف الدينية، ويرونها بعيدةً عن متناول الإنسان، أمّا في موقفهم الجديد فهم يعتبرون القرآن والتعاليم الدينية خاليةً من الواقعية، معتبرين المعارف والتعاليم الدينية استنباطات ذهنية للناس عن الآيات ويقولون : ليس القرآن وحده بل كافة الكتب السماوية نزلت بنحوٍ يمكن معه تفسيرها بصور مختلفة، وتكون جميع تلك التفاسير المختلفة والاستنباطات المتباينة صحيحة وصائبة، فإذا ما طُرح سؤال فحتى لو كانت تلك التفاسير والاستنباطات تختلف فيما بينها إلى حدّ التناقض، فهم سيقولون إنّ الاختلاف في الاستنباطات لا يؤدي إلى حدوث مشكلة حتى لو كان بمستوى التضاد والتناقض؛ لأنّ الدين والقرآن بالأساس لم يبيّن الحقيقة، بل هو

٨٨

ألفاظ وقوالب فارغة ألقيت على النبي باسم الوحي الإلهي، وكل مَن يرجع إليها يتداعى أمر ما في ذهنه !! وما يتداعى هو فهم الإنسان نفسه، وبما أنّ البشر يمتلكون عقولاً متباينة ففي النتيجة تكون الأفهام متباينةً أيضاً، فالدين هو تلك الأفهام المتباينة للناس عن ألفاظ القرآن وآياته والتعاليم الدينية، وحيث إنّ القرآن والتعاليم لا تكشف عن أية حقيقة فإنّ الأفهام المتباينة عنها ليست قابلةً للتصديق والتكذيب، فالأفهام جميعها محقة ومحكومة بالصحة والصدق؛ لأنّ القرآن لا يكشف عن حقائق ثابتة يتطابق معها أحد الأفهام والتفسيرات.

لقد تمادى ناسجو الأوهام لنظرية الصُرط المستقيمة أو القراءات المتعددة للدين أيضاً أكثر من هذا؛ ولغرض أن يوجّهوا ضربةً إلى أصل الدين وأساسه - أي الوحي - فإنّهم يقولون : ليس الإنسان وحده لا يدرك حقيقةً ثابتةً عن القرآن والوحي الإلهي وإنّ كل إنسان يقدّم ويفسّر أفكاره تحت عنوان الوحي، بل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً وبسبب ما يتميز به من صفة بشرية قد طرح فهمه وإدراكه واستنباطه للناس على أنّه وحي.

وعليه؛ فإنّ فهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بدوره فهم شخصي، يتناسب مع عقليته وظروفه الخاصة الزمانية والمكانية، طرحها بصيغة ألفاظ وآيات، وبناءً على هذا لا يمكن اعتبار القرآن كلام الله ووحيه، بل ينبغي القول أنّ القرآن الكلام النبي.

لابدّ أنّكم ستسألون : ما الذي يجب صنعه مع آيات من قبيل :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) أو :( تَنزِيلٌ مِن رَبّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (٢) ؟ يقول أنصار هذه النظرية في الإجابة : هذه المضامين استنباط وفهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً وتكشف عن أحاسيسه.

من البديهي أنّ مثل هذه النظرية لا مصير لها سوى الوقوع في ورطة التشكيك ،

____________________

(١) النجم : ٣ و٤.

(٢) الحاقة : ٤٣ - ٤٦.

٨٩

وإنكار الحقيقة وتجاهل العقل والمنطق والتلاعب بالألفاظ، فسيقول الموحون بهذه الفكرة في مواجهة أجلى المعاني وأوضح المفاهيم : إنّ هذا إحساسكم وفهمكم ولا ينم عن أية حقيقة سوى أفكاركم، وعليه فإنّه جيد ومحترم بالنسبة إليكم، لكنّه لا وزن ولا شأن له بالنسبة للآخرين !

على أية حال يبدو أنّ إشاعة مثل هذه الرؤية إزاء الدين والقرآن تُعد من أكثر الأساليب والمصائد الشيطانية تطوراً، التي حيكت لحد الآن؛ لإغواء وخداع بني آدم.

التلقين والتكرار سلاح مهم لدى الشياطين

إنّ أحد أساليب الشياطين لإغواء البشر هو إصرارهم وتأكيدهم على الوسوسة لبني آدم، والتسلل إلى أفكارهم وعقولهم؛ ولهذا السبب يذكّرهم القرآن بصفة الوسواس الخناس، ويرشد الناس للاستعاذة بالله من شر شياطين الإنس والجن؛ لأنّ الشياطين تعمل بوسوستها ودس الأوهام في قلب الإنسان، لأن تُخضع قلب الإنسان لسيطرتها، وتسيّر أفكاره في منعطفات السقوط والضلال.

إنّ الشياطين وذوي الأطباع الشيطانية من الناس يعلمون بأنّ عليهم الثرثرة والكتابة والتكرار من أجل؛ دس الأوهام الشيطانية في عقول عباد الله، ليجعلوا العقول تأنس أوهامهم الباطلة، ليتسللوا بالتدريج في أذهان الناس وعقولهم، وهم بأنفسهم يقولون : ينبغي التكلّم والكتابة والتكرار إلى الحد الذي يصاب الناس معه بالشك والتردّد.

إنّهم واستلهاماً من إبليس يعملون بالدرجة الأُولى على إغواء وتضليل الطبقة المثقفة والطلابية؛ لأنه - وحسب تصورهم - يستطيعون بيسر إضلال عامة الناس بخداعهم لهذه الطبقة، غافلين عن أنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل مشاعل زاهرةً لهداية المسلمين لاسيما الشيعة، وبلطف من الله واستلهاماً من علوم ومعارف هؤلاء سيطلع

٩٠

المسلمون على الأحابيل الشيطانية للأعداء؛ ويغدون أشدّ نباتاً وصلابةً يوماً بعد يوم في اتّباعهم للقرآن.

الاستناد إلى المتشابهات، أسلوب آخر في مواجهة القرآن

لقد تقدمت الإشارة إلى أنّ أحد شؤون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين (عليهم السلام) هو، تفسير وبيان الوحي الإلهي، فيما أنّ القرآن ذو محكمات ومتشابهات، وكما تقدمت الإشارة آنفاً أنّ له ظاهراً وباطناً، فليس متيسراً الوصول إلى عمق معارفه إلاّ للنبي والأئمة المعصومين والعارفين بالعلوم الإلهية وتفسيرها وبيانها، لا يقوى عليه سوى المتعلّمين في مدرسة أهل البيت.

بناءً على هذا وطبقاً لحكم العقل ومنهج العقلاء القائم على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فلا سبيل لفهم القرآن ومعارف الدين، سوى الرجوع إلى مَن جاء بهذا الكتاب الإلهي والأئمة المعصومينعليهم‌السلام والدارسين في مدرستهم، لكن ليس الأمر أنّ جميع الناس يقتفون المنهج العقلائي، أو أنّهم يرون أنفسهم ملتزمين بالعقل والمنطق والمبادئ المنطقية في الفهم والتفهيم والتفهّم، فهنالك أناس يعملون فقط من أجل إضلال الناس، ولا هدف لهم سوى إثارة الشبهة والفتنة في المجتمع، وقد عني القرآن بهذا الأمر أيضاً :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الأَلْبَابِ ) (١) لقد قسّمت هذه الآية القرآن الكريم إلى قسمين : محكمات ومتشابهات، ووصفت المحكمات ب- ( أُمُّ الْكِتَابِ ) فبعض القرآن آيات محكمات تمثّل الأم والأصل للقسم الثاني أي المتشابهات.

____________________

(١) آل عمران : ٧.

٩١

إنّ محكمات القرآن عبارة عن الآيات الواضحة معانيها، ومعارفها لا تقبل الشك، وهذه الآيات تمثّل أصول وأُمّهات معارف القرآن، فمعيار وملاك صحة وعدم صحة المعارف الدينية هي المحكمات وأُمّهات القرآن، وفي المقابل هنالك آيات ليس ممكناً فهمها دون الاستعانة بالمحكمات، وليس للجميع إدراك عمق معانيها، ويعبّر عن هذه الطائفة من آيات القرآن بالمتشابهات.

لقد نهى القرآن الناس عن اتّباع المتشابهات بدون الاستعانة بالمحكمات وبتفسير وبيان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، فالقرآن الكريم يعتبر اتّباع المتشابهات دليلاً على انحراف القلب، ويصرّح بأنّ الذين يجعلون متشابهات القرآن ملاكاً لفكرهم وفهمهم وعقائدهم، إنّما يسعون وراء الفتنة وتأويل القرآن وتحريفه، وبتصريح القرآن لا يعلم تأويل وتفسير الآيات المتشابهة إلاّ الله والراسخون في العلم والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، والراسخون في العلم هم الذين تقبّلوا العبودية لله بكل كيانهم قائلين : آمنا بالقرآن محكماته ومتشابهاته كلّ من عند ربنا.

الحكمة من وجود المتشابهات في القرآن

هنا ربّما يتبادر هذا السؤال وهو، لماذا لم ينزل القرآن بنحو تكون جميع آياته بيّنةً ومحكمةً بعيدة عن أي إبهام وإجمال؛ لتكون يسيرة الفهم والفائدة للجميع على حد سواء ؟

للإجابة على هذا السؤال نورد في البداية مقدمةً موجزة : إنّ عقلنا نحن العاديين من الناس تابع للعوامل الطبيعية، فعندما يولد الناس العاديون يتعرفون على الحسيات في البداية عن طريق الحواس، وفي البداية يتبلور فهمهم وإدراكهم في حدود المحسوسات والماديات، لكن القوى الفكرية للإنسان تنمو تدريجياً، وتحصل شيئاً فشيئاً على القدرة على التجريد، وبالنتيجة تحصل لديه القابلية على إدراك الأمور ما فوق المادية، فكلما

٩٢

تمتع عقل الإنسان بالمزيد من النمو وقوة التجريد، وخرج عن أجواء المادة والماديات، فهو يدرك أفضل بنفس هذا المستوى حقائق ما وراء الطبيعة، وبما أنّ جميع الناس ليسوا سواء من حيث النمو العقلي، فهم لا يكونون سواء أيضاً في إدراك الأمور غير المحسوسة، فليسوا قلّةً الناس الذين تمضي عشرات السنين من أعمارهم، لكن فهمهم وإدراكهم يبقى بمستوى فهم وإدراك الأطفال في السابعة أو الثامنة من العمر، وربّما يمضي عمرهم وهم ما يزالون يتصورون لله والمجردات زماناً ومكاناً؛ لأنّ فهمهم وقابليتهم وقدرتهم على التعقّل، وقابليتهم العقلية بقيت في حدود الماديات، في حين أنّ أساس الدين هو الإيمان بالغيب، أي الإيمان بالحقائق المجردة وغير المادية، يقول القرآن:( ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) (١) .

بناءً على هذا؛ إنّ أساس الإيمان هو أن يؤمن الإنسان بحقائق غير محسوسة ويعتقد بها، ولكن ما هي حقيقة وكنه تلك الحقائق ؟ إنّه أمر ليس ممكناً إدراكه إلاّ بالإلهامات الإلهية التي تنزل على قلوب الأنبياء والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، ونحن البسطاء من الناس لا سبيل أمامنا لإدراك نفحة من أمور ما وراء الطبيعة وحقيقتها إلاّ بترصين قوانا العقلية والعبور التدريجي من المحسوسات إلى المجردات وأمور ما وراء الطبيعة.

من ناحية أخرى أنّ الألفاظ التي تُستخدم في دائرة المجردات غالباً ما وضعت من أجل المعاني المحسوسة :( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٢) أو :( هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (٣) فمفردات فوق، على، عالي وعلو إنّما تعني جميعها العلو في مقابل الأسفل والداني، من البديهي أنّ الإنسان لا يدرك في البداية من هذه المفردات معنىً أوسع من المعنى الحسي، فالإنسان مثلاً يضع رأسه ملاكاً للعلو، وكل ما يقع بمستوى الرأس ويرتفع نحو السماء يعتبره عالياً، ويجعل من قدمه ملاكاً للداني وكل ما هو أدنى منه يعتبره

____________________

(١) البقرة : ٢ و ٣.

(٢) الشورى : ١١.

(٣) الشورى : ٤.

٩٣

دانياً، ولهذا السبب يقول إنّ السماء عالية والأرض، واطئة وبدخوله إلى الحياة الاجتماعية يخرج تدريجياً عن هذه المعاني الحسية فيدرك المعنى غير الحسي والانتزاعي لها، أي عندما يقال إنّ فلاناً مقامه عالياً أو ارتفع، لا يدرك الإنسان من هذه المفردة ذلك المعنى الحسي لِما هو أعلى من الرأس، ولا يتداعى لديه من الهبوط ذلك المعنى الحسي للكلمة.

من الطبيعي أنّ المعنى المراد في مثل هذه الاستخدامات قد جُرّد من اللوازم المادية والمحسوسة، فعندما يقال إنّ الذي يخلق الكون بأجمعه بإرادة واحدة منه له مقام عالٍ جداً، فإنّ العلوّ الذي يُنسب إلى الباري تعالى أكثر مدى إلى ما لا نهاية من ذلك العلو الذي يُنسب إلى رئيس إزاء مَن هم تحت يديه، والفارق بينهما كالمسافة بين الصفر وبين ما لا نهاية، وكالمسافة بين الحقيقة والمجاز؛ لأنّ كل علو وشأن اعتباري إنّما هو عارية وزائل ما خلا العلو الحقيقي الذي هو جديرٌ بالله خالق الكون وله وحده فهو الذي :( إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

وعلى هذا الأساس حين يقول القرآن :( هو العليُّ العظيمُ ) (٢) فليس المراد هو العلو المادي والمحسوس لله، ولا المراد من عظمته العِظم والكبر المادي والمحسوس، وأمّا ما هي حقيقة علو وعظمة الله ؟ فهي مسألة لا تبلغها عقول البشر، وطبعاً في الكثير من الحالات لا يوجد لفظ آخر غير الألفاظ التي تُستخدم للمعاني الحسيّة، ولا مناص من استخدام تلك الألفاظ للتعبير عن المعاني المجرّدة كقوله مثلاً :( هو العليُّ العظيم ) ، فالعلو هو اللفظ الذي يُستخدم للإشارة إلى علو السقف بالنسبة إلى الأرضية، والعظيم هو اللفظ الذي يُستخدم للإشارة إلى جبل دماوند، ولكن حينما تُستخدم هذه الألفاظ بشأن الله فهي تُجرّد من معانيها الحسيّة، ومن الطبيعي أنّ الأمر ليس بذلك النحو بحيث يودّي تجريدها إلى التوصّل إلى حقيقتها.

____________________

(١) يس : ٨٢.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

٩٤

يقال إنّ الألفاظ والمعاني التي يحصل التوصّل إلى حقيقتها عن الطريق المذكور، تتّصف بنوع من التشابه الباعث على الإبهام والمغالطة، فمَن لم يتمكّن حتى الآن من تجريد المعاني المذكورة من الشوائب والمتعلّقات الحسية، عندما يوصف الله ب- ( العليّ ) يتوهّم أنّ الله فوق السموات، في حين أنّ الله ليس بجسمٍ حتى يُتصوّر له مكان :( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) (١) لكنّه لا يفهم أكثر من ذلك، ومن الطبيعي أنّه غير مكلّف بأكثر ممّا يفهم؛ لأنّه لا طاقة له على ما هو أكثر من ذلك.

وأمّا مَن تجاوز هذه المرحلة، وغدت لديه مقدرة أكثر على الفهم، وأضحى يدرك المعاني الاعتبارية، عندما يقال( إنّ اللهَ عليٌ عظيمٌ ) يظنّ أنّ علو الله يشبه علو ورفعة مرتبة الرئيس بالنسبة إلى مَن هم تحت إمرته، ولكن أين هذا المعنى من علو الله ؟!

إنّ مَن أمضى عمره في اكتساب العلم والحكمة وإدراك المعاني المجرّدة يفهم من العلو معنىً أبعد من المعاني المذكورة، ويقول إنّ لله علواً وجودياً على ما سواه.

إنّ لكل المخلوقات وجوداً، ولله وجوداً أيضاً، ولكن لا يمكن مقارنة وجود الله تبارك وتعالى مع الموجودات الأخرى من حيث علو المرتبة الوجودية، ولكن ما هي حقيقة هذا العلو ورفعة المرتبة الوجودية ؟ إنّه أمر يستطيع كل شخص الاقتراب منه على قدر فهمه، وإن كان إدراك كنهه لا يتيسّر لأحد.

والآن في ضوء التوضيح المذكور، نقول : إنّ الله عندما يريد أن يتحدث لنا نحن بني الإنسان، عن أمور تفوق فهمنا العادي، فهو يستخدم ألفاظاً يمكننا عند التأمّل فيها إدراكها على قدر فهمنا، وإن كانت هذه المعاني تفوق فهمنا، ففي مثل هذه الحالات لابدّ من استخدام ألفاظ متشابهة.

على هذا الأساس فإنّ الآيات التي تتحدث عمّا وراء الطبيعة وتفوق فهم الناس العاديين، لابدّ أن تنطوي لا إرادياً على مرتبة من التشابه، ولابدّ من الاستعانة بالمحكمات للاقتراب من حقيقتها، مثلاً عندما يقول القرآن :( هو العليُّ العظيمُ ) (٢) ولا

____________________

(١) البقرة : ١١٥.

(٢) الشورى : ٤.

٩٥

ندرك حقيقة وكنه علو المرتبة الوجودية وحقيقة عظمة الله، لابدّ عند ذاك من تفسيرها عبر الاستعانة بمحكمات القرآن مثل قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (١) ؛ لكي لا نقع في سوء الفهم وخطأ التفسير.تقول الآية الأُولى إنّ الله عليُّ عظيم، فيما تصرّح الآية الثانية أنّ الله لا مثيل له ولا نظير، أي مهما تصورتم من العلو والعظمة لله تعالى فإنّكم لم تدركوا علوّه وعظمته؛ لأنّ الله فوق كل ذلك.

وهكذا الحال بالنسبة إلى صفات الله أيضاً، فحينما يقال إنّ الله عالم، الله قادر، فمن البديهي أنّ حقيقة علم الله تعالى تفوق وتختلف عن ذلك المعنى، الذي يتبلور في الذهن عن الإنسان من خلال إدراكه للصور الذهنية، وأمّا حقيقة علم أو قدرة الله، وبشكل عام حقيقة أوصاف الله، فهو موضوع ليس ممكناً فهمه إلاّ لله الذي تعتبر ذاته عين العلم وعين الحياة والقدرة.

لقد استخدم الله تعالى - من أجل إرشاد الناس إلى ذاته والى صفاته الإلهية - ذات الألفاظ التي يدرك الناس منها ابتداءً تلك المعاني الحسية؛ لكي ينتفع الناس من تلك المعارف السامية ولو قليلاً.

بناءً على هذا، فإنّ وجود الآيات المتشابهة في القرآن من الحكم الإلهية، التي لولاها لانغلق كلياً أمام الإنسان سبيل إدراك المعاني والمعارف المجرّدة وغير المحسوسة، بيد أنّ استخدام المتشابهات وتفسيرها وتبيينها - كما أشرنا سابقاً - يجب أن يأتي من خلال الاستعانة بالمحكمات، لكن الأمر ليس بالشكل الذي ينتهجه كل مَن يبتغي فهم القرآن ومعارفه، المسار المنطقي والعقلاني والطبيعي المشار إليه آنفاً لغرض فهم المعارف الإلهية، ففي الآية موضوع البحث يشير تعالى إلى وجود آيات متشابهات ومحكمات في القرآن، ويقول وأمّا الذين( فِي قُلُوبِهِم زَيغٌ ) (٢) المصابون بداء روحي وقلبي وانحراف فكري، أو بعبارة أخرى( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) (٣) يجعلون الآيات

____________________

(١) الشورى : ٧.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) البقرة : ١٠.

٩٦

المتشابهات ملاكاً لفكرهم وعملهم، ويحملون الآيات المتشابهات من القرآن الكريم على معاني حسيّة بدون الالتفات إلى الآيات المحكمات، ويوفّرون بذلك دواعي ضلالهم وضلال غيرهم.

مزج الحق والباطل، سلاح آخر بيد المنحرفين

من الطبيعي أنّ مَن يريدون مجابهة الدين والقرآن والمعارف والقيم الدينية في أوساط المجتمع الإسلامي، لا يتّبعون أبداً أسلوب المجابهة المباشرة لتحقيق أغراضهم؛ لأنّهم يعلمون جيداً بأنّهم في مثل هذه الحالة سيواجهون معارضةً عامّة من قِبل أبناء الشعب المسلم، وسيفشلون في الخطوة الأُولى، إنّهم يستخدمون الأساليب النفسية الأساسية والمناسبة من أجل تحقيق أهدافهم الشيطانية.

إنّ أحد أساليبهم مزج الحق والباطل، فهم يمزجون الحق والباطل، وينشرون مزيجاً من كلام الحق والباطل ببيان جميل؛ لكي يتلقّى المخاطبون - الذين لا يملكون أحياناً الوعي والخُبرة اللازمة للتمييز بين كلام الحق من الباطل - كلامهم بالقبول، لكي يلقون بالنتيجة في ذهن السامع الغافل الكلام الباطل المزيّن بثوب الحق، والمخفي تحت نقاب من البيان الأدبي الجميل.

قال الإمام عليعليه‌السلام : ( فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى )(١) .

من الطبيعي أنّ المنحرفين ومَن يعبّر عنهم القرآن بأنّ قلوبهم ونفوسهم في ضيق وغير مستعدّين للخضوع لله، يجعلون الآيات المتشابهة والروايات المشكوك في

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٥٠.

٩٧

سندها أو المتشابهة الدلالة، على رأس عملهم ونشاطهم الإعلامي المضاد للإسلام، ويتهرّبون من الاستماع إلى الكلام الحق والمعارف الإلهية، المنقولة بأسناد معتبرة عن لسان أهل البيت والأئمة المعصومينعليهم‌السلام .

إنّ هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أحياناً مسلمين، إنّما يصطفّون عن علمٍ أو عن جهل إلى جانب المعاندين للإسلام؛ وذلك لأنّهم يهدفون أيضاً إلى أن ينسبوا إلى الإسلام زوراً نقاط ضعف زائفةً، ويحاولون من خلال تضخيمها تقليل رغبة الناس الذين لديهم نزوع إلى الحق ممّن لم يعتنقوا الإسلام بعد، والكلام في هذا الكتاب غير موجّه إلى الملحدين والأعداء من غير المسلمين، وإنّما هو موجّه إلى مَن يعتبرون أنفسهم مسلمين.

ومن الممكن طبعاً أن يختلق هؤلاء تبريرات لأنفسهم؛ من أجل عدم الإصغاء إلى صوت الحق، والتمرّد على الانقياد للعقل والمنطق، من قبيل ما أشرنا إليه في مجال القراءات وأنواع الفهم المختلف للدين، ويصرّون على موقفهم دون الالتفات إلى النتائج التي تتمخّض عن كلامهم، وسنترك في هذا الفصل الحكم للقرّاء الكرام حول تلك التبريرات ومآل الفكرة الآنفة الذكر.ولكنّنا ندعوهم - انطلاقاً من الحرص على مصلحتهم وما فيه خيرهم - إلى إعادة النظر في معتقداتهم وأفكارهم وإيمانهم، مثلما يدعو القرآن المؤمنين إلى حثّ بعضهم على التفكير والتعقّل والصلاح والهداية، وتذكير بعضهم الآخر بالحق.

القراءات المختلفة، حربة لمجابهة القرآن

سطّرنا في الفصول السابقة من هذا الكتاب نبذةً موجزة عن عظمة وخصائص أكبر النعم التي تفضل بها الله على عباده، أَلا وهو القرآن الكريم، ومرّ علينا أيضاً أنّ الله تبارك وتعالى قد أنزل القرآن الكريم بواسطة أشرف الملائكة وهو جبرئيل الأمين ،

٩٨

على أعز خلقه، وهو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لكي يكون بين يدي الإنسان، ولكي يضمن الإنسان سعادته الدنيوية والأخروية، من خلال التعرّف والالتزام بتعاليم وإرشادات هذا الكتاب السماوي في حياته الفردية والاجتماعية.

لقد ركّزت بعض كلمات الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة على ضرورة التمسّك بالقرآن الكريم؛ لاجتناب الفتنة والضلال، ومعالجة المآسي والمشاكل الفردية والاجتماعية، وقيل أيضاً إنّ تفسير وبيان القرآن بما يعنيه من بيان أحكام القرآن الكريم، وشرح تفاصيل المسائل والواجبات الدينية من صلاحية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام فقط، وجرى أيضاً توضيح هذا المعنى وهو أنّ تفسير القرآن خارج إطار الأحكام والواجبات الدينية، وشرح معارفه للآخرين يدخل فقط ضمن صلاحية المتخصصين وعلماء الدين والعارفين بعلوم القرآن وأهل البيت، وقلنا إنّ العلماء الذين أمضوا أعمارهم في فهم معارف الدين وعلوم أهل البيت، هم وحدهم القادرون على التمييز بين متشابهات ومحكمات القرآن، ويمكنهم من خلال الاستعانة بالمحكمات وروايات أهل البيتعليهم‌السلام ، تفسير متشابهات القرآن وبيان معارفه للناس؛ لكي يتسنّى لهؤلاء الناس اتخاذ ذلك قاعدةً لحركتهم الفكرية، وجعله مثالاً عملياً لتكاملهم الفردي والاجتماعي، وتلبية الدعوة الإلهية :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ‏ِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (١) وتوفير الأرضية لفلاحهم.

وفي المقابل أشرنا إلى أنّه كان هناك منذ القدم مَن يحاولون إبعاد الناس عن القرآن بالهواجس والوساوس الشيطانية، ولكي يحقّق هؤلاء الأشخاص أهدافهم فهم يحاولون وبأساليب تخيّلية الإيحاء بأنّ القرآن متعذّر فهمه، وبالنتيجة ينبغي أن لا نرجو من القرآن أن يوجّهنا ويرشدنا في الحياة، وقلنا إنّ هذه الشبهة الشيطانية كانت مثارةً على مدى التاريخ بصور شتّى، وقد بلغت اليوم ذروتها بشكلها المتكامل، وغدت

____________________

(١) الأنفال : ٢٤.

٩٩

تُطرح بأنماط جديدة، حتى بات معارضو القرآن والثقافة الدينية اليوم يطرحون خيالاتهم أحياناً على شكل نظرية، مفادها أنّ ( لغة الدين لغة خاصّة)؛ لكي يخدعوا بهذه الطريقة من ليس لديهم وعياً كافياً بالعلوم والمعارف الدينية، وعندما يُسألون عن مرادهم من القول بأنّ ( لغة الدين لغة خاصة )، يقولون عند الإجابة عن هذا السؤال بأنّ التعاليم الدينية والقرآن عبارة عن ألفاظ وقوالب، يشكّل محتواها أفهام وذهنيات الناس أنفسهم، ومن الطبيعي أنّ هؤلاء الأشخاص ينتقون عادةً عبارات أدبية، وينشدون الأشعار الحماسية، ويطرحون من خلال ذلك نظريتهم بنحو لا يفهم المرء هدفهم ومقصودهم بسهولة، لأنّه سيدرك حينذاك خواء كلامهم.

يبدو أنّ التفكير المذكور الذي يُطرح تارةً تحت عنوان ( الصُرط المستقيمة )، ويُطرح تارةً أخرى تحت عنوان ( الأفهام، والقراءات، والتفاسير المختلفة للدين )، وقد يُطرح ثالثةً في قالب نظريات ( لغة الدين ) أو ( الدين الأقلّي والأكثري )، لا يستهدف إلاّ مجابهة المعتقدات الدينية والفكر التوحيدي، ولا يخفى على المطّلعين، بأنّ المتديّنين وخاصّة المفكرين المسلمين النابهين أوعى من أن لا يدركوا بُعد كلام هؤلاء عن العقل والمنطق، أو أن يجهلوا الأهداف الخفية لمَن يروّجون لهذه الشبهات الواهية.

دافع وهدف المعارضين للثقافة الدينية من وجهة نظر القرآن

وفي ضوء ما سبق عرضه من الموضوعات يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال وهو، ما الهدف الذي يسعى إليه المعارضون، من وراء اتّباع هذه الأساليب الشيطانية في مجابهة القرآن والثقافة الدينية للشعب ؟ ولغرض الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أوّلاً تسليط الضوء على رأي القرآن، ثمّ نأتي بعد ذلك على شرح كلام الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة حول هذا الموضوع.

يُفهم من القرآن بأنّه منذ أَوائل نزوله انبرى الشيطان وسخّر كل طاقاته محاولاً

١٠٠