المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر15%

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 392

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93969 / تحميل: 9667
الحجم الحجم الحجم
المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والحمد لله ربّ العالمين، وصّلّى الله عَلى سَادة الخلق، ومصَابيح الحقّ، وكلمات الله التامات محمَّدٍ وآله الهداة الميامين.

وبعد فالبحث في المقام يقع في ناحيتين :

الأولى : في تحقيق مقدار تنجيز العلم الإجمالي، ورفعه لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ المنقَّحة كبروياً في مباحث البراءة.

الثانية : في شمول أدلّة الأصول للأطراف بعضاً أو كلاًّ، ثبوتاً أو إثباتاً.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ المبحوث عنه هنا هو أنّ المقدار الذي ثبت من تنجيز العلم الإجمالي وتبديله ل-( لا بيان ) ب-( البيان ) هل يوجب خروج أطرافه أو شيءٍ منها عن دائرة أدلّة الأصول - إمّا للقصور ثبوتاً، أو للقصور في مقتضيات مقام الإثبات - أوْ لا ؟

٢٦١

٢٦٢

الناحية الأولى

ولتوضيح الحقّ فيها لا بدّ من بيان المختار في حقيقة العلم الإجمالي، ثمّ نذكر سائر المسالك المعروفة في تصويره مع دفعها، وبعده نبحث عن مقدار تنجيز العلم الإجمالي وإيصاله للواقع على جميع تلك المباني.

الرأي المختار في حقيقة العلم الإجمالي

مقدّمة :

ولتحقيق الحقّ وتشخيص متعلّق العلم الإجمالي نقدِّم أمرين لهما دخل في حلّ المشكلة :

الأوّل : أنّ الحمل على قسمين : الحمل الأوّلي الذاتي، والحمل الشائع الصناعي، كما هو واضح.والشيء قد يصدق حمل مفهومٍ عليه بالحمل الأولي، ولا يجوز حمله عليه بالحمل الشائع الصناعي، ولذا اشترط بعض المحقّقين(١) في التناقض وحدة الحمل، فمفهوم النوع - مثلاً - نوع بالحمل الأولي، وليس نوعاً

____________________

(١) وهو صدر المتألّهين محمّد بن إبراهيم ملا صدرا الشيرازي في الأسفار ١ : ٢٩٢ - ٢٩٤.

٢٦٣

بالحمل الشائع.وكذلك الجنس.

ومثلهما مفهوم الجزئي فإنّه جزئيّ بالحمل الأوّلي، وكلّي بالحمل الشائع.بل كلّ الصور العقلية - كصورة الإنسان - فإنّها بالحمل الأولي إنسان، وبالحمل الشائع من الكيفيات العَرَضية القائمة في النفس أو بها، على ما حقّق في مباحث الوجود الذهني.

فتحصَّل : أنّ الشيء قد لا يصحّ حمل نفسه عليه بالحمل الشائع ؛ وإن كان هو نفسه بالحمل الأوّلي ضرورة.

الثاني : المعروف أنّ انتزاع الكلّي من الجزئيات إنّما هو بتجريدها عن الخصوصيات التي لا يبقى بعدها إلاّ صرف الطبيعة المسمّاة بالكلّي.

كما أنّ المعروف لأجل هذا - كما صرح به في تقريرات بحث المحقّق العراقي(١) - أنّ نسبة الكلّي إلى فرده نسبة الجزء التحليلي إلى الكلّ، وعلى ذلك بنى أنّ مطابق الصورة العلمية الإجمالية إنّما هو الواقع ؛ ولكن بنحوٍ مجمل، وليس المعلوم الإجمالي أمراً كلّياً، لشهادة الوجدان بأنّ المعلوم إنّما هو سنخ عنوانٍ إجماليٍّ ينطبق على الواقع بتمامه، لا بجزءٍ تحليليٍّ منه، كما في الكلّي.

ووجه الالتزام : بأنّ الكلّي لا ينطبق على الفرد بتمامه، باعتبار أنّه إنّما يكون كلّياً جامعاً بين فردين إذا ألغيت في رتبته خصوصية كلٍّ من الفردين، وإلاّ لم يكن كلّياً، وعليه فلا ينطبق على فرده بما أنّه متخصّص بما يمتاز به على الفرد الآخر.

ولكنّ التحقيق : أنّ الالتزام بذلك بلا ملزم، بل قد يكون الكلّي منطبقاً على فرده بتمامه، كما في موارد التشكيك الخاصّي في الماهيات، بناءً على إمكانه ،

____________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٣٥.

٢٦٤

كما هو التحقيق، بأن تكون الماهية متفاوتةً بنفسها في الأفراد، بحيث إنّ ما به الاشتراك بينهما بعينه جهة الامتياز بينهما، كالأربعة والستّة، فإنّهما مشتركتان في العددية وممتازتان فيها، ومفهوم العدد ينطبق عليهما بتمامهما ؛ لأنّ المفروض أنّه جهة امتياز كلٍّ منهما، فهو كما يصدق على ما به يشترك العددان كذلك بصدق على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر.

وكذلك مفهوم الجزئي والمتشخّص فإنّه كلّي لقابليته للصدق على كثيرين، ولا يعقل فيه دعوى أنّه لا ينطبق على فرده بتمامه، إذ أنّه إذا ألغي من فرده خصوصيته الموجبة لجزئيته يخرج عن كونه مطابقاً له.

وإن شئت قلت : إنّ أيّ متخصّصٍ يفرض ينطبق عليه مفهوم الجزئي، فإن كان منطبقاً عليه بتمامه فهو المطلوب، وإن انطبق عليه مع قطع النظر عن خصوصيته التي بها يمتاز على جزئيٍّ آخر، نقلنا الكلام إلى هذه الخصوصية، فإنّها أيضاً مصداق لمفهوم الجزئي، فإن كان منطبقاً عليها بتمامها فهو، وإلاّ ننقل الكلام إلى خصوصياتها، وهكذا، حتى ينتهي الأمر إلى انطباق الكلّي على فرده بتمامه ؛ لبطلان التسلسل في الخصوصيات.

فقد ثبت بهذا البرهان مع براهين التشكيك الخاصّي إمكان انطباق الكلّي على فرده بتمامه، فافهم واغتنم.

حدود المعلوم بالإجمال :

إذا تقرّر هذان الأمران نقول : إنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع بين الأطراف، ولكن بتقريبٍ لا يرد عليه المحاذير التي سوف نشير إلى توجّهها على القول بتعلّقه بالجامع.

وتحقيقه : أنّ العلم الإجمالي عبارة عن التصديق بجزئيٍّ متخصّصٍ

٢٦٥

بخصوصيةٍ واقعيةٍ بنحوٍ يكون خارجاً عن حدِّ الجامعية إلى مرتبة الفردية، ويكون في عين الحال قابلاً للصدق على أكثر من واحدٍ بحسب الخارج ؛ لأنّه جزئيّ بالحمل الأوّلي، فإنّ العالم بالإجمال يتصوّر مفهوم الإنسان الجزئي المتعيّن بنحوٍ لا ينطبق على غيره ويصدّق بوجوده، فما تعلّق به التصديق العلمي هو هذا المفهوم الجامع بين الأطراف مع كونه جزئياً بالحمل الأوّلي.ونحن إذا حلّلنا ما في نفس العالم بالإجمال نرى أموراً :

أحدها : العلم التصوّري، أي حضور صورةٍ جزئيةٍ بالحمل الأوّلي، بمعنى تصوّر مفهوم الإنسان الجزئي.

ثانيها : التصديق بأنّ ذاك المعلوم التصوّري له وجود، فالمصدّق به ليس وجود هذا الإنسان أو ذاك بعينه، بل وجود جزئي متعيّن من الإنسان.

ثالثها : احتمال أن يكون مطابق الصورة المذكورة زيداً أو عَمرواً.

وعلى هذا لا ترد سائر الإشكالات الموردة على الالتزام بأنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع أو الواقع على سبيل الإجمال، إذ لم نلتزم بأنّ المعلوم جامع ملغي عنه الخصوصيّات، وكذلك لم ندّع أنّه نفس الواقع والخصوصيّة بالحمل الشايع أي واقع ما يأبى الصدق على كثيرين على سبيل الإجمال.وسوف نذكر الإشكالات على المسلَكَين مفصّلاً، إلاّ أنّنا نشير إليها هنا لبيان عدم ورودها على التقريب المذكور.

أمّا الإشكالات على كون الجامع هو المعلوم الإجمالي فهي :

أوّلاً : ما يظهر من نهاية الأفكار(١) ، من أنّ الصورة الإجمالية ليست نسبتها إلى الخصوصية الواقعية نسبة الجزء إلى الكلّ، بل تنطبق عليها بتمامها، فلا يمكن

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٧.

٢٦٦

الالتزام بأنّ العلم الإجمالي عبارة عن العلم التفصيلي بالجامع، إذ يكون المعلوم منطبقاً على الواقع حينئذٍ بجزئه، بل هو عبارة عن صورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع.

وثانياً : أنّ الجامع يعلم باستحالة وجوده بلا خصوصية، فلابدّ أن ينتهي العلم الإجمالي إلى العلم بالخصوصية الواقعية على سبيل الإجمال، كما سيأتي بيانه مفصّلاً إن شاء الله، فراجع.

وهذان الإشكالان لا يردانِ على تقريب القول بالجامع بتعلّق العلم الإجمالي بمفهومٍ جزئيٍّ بالحمل الأولي، وكلّيٍّ بالحمل الشائع.

أمّا الأوّل فلما عرفت في المقدّمة الثانية من أنّ عنوان الجزئي الذي هو المعلوم الإجمالي وإن كان جامعاً وكلّياً إلاّ أنّه منطبق على فرده بتمامه، وليس كسائر الكلّيات التي لا تنطبق على المشخّصات.فالجامع المزبور يحكي عن الواقع الجزئي بما أنّه جزئي، بخلاف سائر الكلّيات التي تحكي عن ذات المتشخّص لا بما أنّه متشخّص، فانطباق المعلوم على الواقع بتمامه وحكايته عنه لا يتوقّف على الالتزام بكون العلم الإجمالي مبايناً للعلم التفصيلي ومتقوّماً بصورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع، بل يتمّ مع الالتزام برجوعه إلى العلم التفصيلي، وكونه صورةً تفصيليةً للجامع، ولكن للجامع المحتوي على نكتةٍ توجب انطباقه على فرده بتمامه، كما بيّناه.

وأمّا الثاني فلأنّ المعلوم الإجمالي سنخ كلّي لا يعقل أن يكون متشخّصاً بأمرٍ زائدٍ على ما ينطبق عليه حتى يُدَّعى تعلّق العلم بذلك الأمر الزائد أيضاً، فإنّ مفهوم الإنسان يحتاج في تشخّصه إلى أكثر من الحصّة التي ينطبق عليها ؛ لأنّه لا ينطبق على المشخّصات.وأما مفهوم الإنسان الجزئي فهو لا يحتاج في تشخّصه إلى أكثر ممّا ينطبق عليه ؛ لأنّه ينطبق على نفس المتشخّص بما أنّه كذلك ،

٢٦٧

فلا علم لنا بأكثر من هذا الكلّي، وليس ذلك إلاّ لأنّه جامع بين الجزئية بالحمل الأولي والكلّية بالحمل الشائع.

وأمّا الإشكالات على كون العلم الإجمالي متعلّقاً بالخصوصية الواقعية على نحوٍ مجمل فهي :

أوّلاً : أنّه خلاف الوجدان القاضي بأنّ كلّ خصوصيةٍ من خصوصيات الأطراف مشكوكة وليست بمعلومة، وإلاّ لزم اجتماع الشكّ والعلم، وهو محال.

وثانياً : أنّه لو فرض وجود كِلاَ الإنسانين فأيّهما يكون هو المعلوم مع استواء نسبة العلم إلى كلٍّ منهما ؟

وثالثاً : ما سنحقّقه من استحالة الإجمال في الصورة العلمية، بل هي : إمّا تفصيلية شخصية، أو كلّية.

وكلّ هذا لا يرد على ما عرفت، من كون المعلوم الإجمالي هو خصوصية واقعية بالحمل الأوّلي، لا بالحمل الشائع.

أمّا الأول فلأنّه إنّما يرد إذا قلنا : إنّ واقع الخصوصية والأمر الخارجي معلوم بالصورة الإجمالية، وأمّا إذا كان المعلوم عنوان الإنسان الخاصّ لا واقعه فلم يجتمع اليقين والشكّ على متعلّقٍ واحد ؛ لأنّ الشكّ متعلّق بوجود الإنسان الجزئي بالحمل الشائع، والعلم متعلّق بوجود الإنسان المتخصّص بالحمل الأولي.

وأمّا الثاني فلأنّنا لم نلتزم بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع الحقيقي حتى يُسأل عمّا هو متعلّقه في الفرض المذكور، بل بالجامع.

وأمّا الثالث فلأنّ الصورة تفصيلية ولا إجمال فيها، بمعنى أنّها صورة لجامعٍ معيّنٍ لا لفردٍ مجملٍ حتى تكون مجملة، وإذن فالمعلوم الإجمالي كلّيّ بالحمل الأولي ولا يرد عليه إشكالات تعلّق العلم الإجمالي بالكلّي، وجزئي بالحمل الآخر ولا يرد عليه إشكالات تعلّقه بالجزئي.

٢٦٨

المباني المطروحة في حقيقة العلم الإجمالي

وبعد هذا لا بأس بالإشارة إلى المباني التي قيلت في العلم الإجمالي، وهي ثلاثة :

تعلّق العلم بالفرد الواقعي :

الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق العراقي(١) من مغايرة الصور العلمية الإجمالية مع الصور العلمية التفصيلية سنخاً، فليس العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه صورة تفصيلية - كما يدّعيه من يلتزم بأنّ معلومه هو الجامع -، بل هو بالإضافة إليه كالمجمل إلى المفصَّل، بمعنى أنّه عبارة عن صورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع، على نحوٍ لو كُشِفَ الغطاء لكان المعلوم بالإجمال عين المعلوم بالتفصيل ومنطبقاً عليه بتمامه، لا بجزءٍ منه، فالفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي في إجمالية الصورة العلمية وتفصيليّتها، لا أنّ العلم الإجمالي صورة تفصيلية للجامع والعلم التفصيلي صورة تفصيلية للفرد، بل الأوّل صورة إجمالية للفرد، والثاني صورة تفصيلية له.

ولا يظهر منه البرهنة على هذا المبنى ؛ وإن أمكن استفادته من بعض كلمات التقريرات - نهاية الأفكار(٢) - إذ يظهر منها التزامه بأنّ الصورة العلمية الإجمالية منطبقة على الواقع بتمامه، وهو لا يتمّ إلاّ على المبنى المزبور.

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٣٠٩.

٢٦٩

كما يمكن الاستدلال له أيضاً : بأنّ لدى العالِم علماً بأكثر من الجامع ؛ لأنّ الجامع لا يوجد إلاّ متخصِّصاً، فالانتهاء إلى خصوصيةٍ تكون متعلَّقاً للعلم الإجمالي لا بدّ منه.

وقد عرفت في ما سبق أنّ هذين الوجهين إنّما يبطلان القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع المُلغى عنه خصوصيات الأطراف، والممتنع انطباقه عليها بخصوصياتها، ولا يعيِّنان كون الصورة العلمية إجماليةً وحاكيةً عن الواقع ؛ لإمكان الالتزام بتفصيلية الصورة، وكون المعلوم بها هو الجامع، ولكن بالنحو الذي أوضحناه، فلا يرد شيء من الإشكالين.

وإذن، فلا برهان على ما أفيد، بل البرهان على خلافه.

وتحقيق ذلك : أنّ الوجود الذهني كالوجود الخارجي في أنّه ملازم للتشخّص والتعيّن، بل عينهما بوجه، فالتشخّص والتعيّن مساوق لتحقيقة الوجود السارية في عالم الذهن والخارج، فكما يمتنع أن يكون الموجود الخارجي مردّداً أو غير متعيّن الهوية كذلك الوجود الذهني، والصور الذهنية يستحيل فيها عدم التعيّن من سائر الجهات.

والعلم : عبارة عن حضور الشيء لدى النفس، وقيام الصورة بها على نحوٍ يقترن بالتصديق.

وعلى هذا فالصورة الذهنية القائمة في نفس العالم بالإجمال والتي هي محطّ التصديق باعتبار فنائها في معنونها وجود الذهني، حاله حال سائر الوجودات في أنّه لا بدّ من كونه وجوداً لأمرٍ متعيَّنٍ بخصوصياته ؛ لاستحالة وجود الأمر المردّد، وحينئذٍ نقول : إنّها إمّا أن تكون وجوداً لطبيعيّ الوجوب الملغى عنه خصوصيات الأطراف، وإمّا أن تكون وجوداً للوجوب المتخصّص بخصوصية طرفٍ بعينه، كخصوصيّة التعلّق بالظهر، وإمّا أن تكون وجوداً للوجوب

٢٧٠

المتخصّص بخصوصيّةٍ مردّدة.

ومردّ الأوّل إلى كون المعلوم هو الطبيعيّ الجامع القائم في النفس بتوسّط الصورة، فمُعَنوَنُ الصورة هو الجامع بين الوجوبين الخارجيّين، لا أحدهما المعيّن إذا المعنون مطابق لعنوانه.

فإذا كانت الصورة الحاكية المأخوذة بنحو المرآتية وجوداً للطبيعي خالياً عنه الخصوصيات فلا يعقل أن تحكي إلاّ عن وجود الطبيعي في الخارج خالياً عن خصوصيات الأطراف.

ومرجع الثاني إلى العلم التفصيلي بالخصوصية، إذ فرضه فرض كون خصوصية وجوب الظهر قد اقترن وجودها الذهني بالتصديق من قِبَل النفس بما أنّه آلة للخارج، ولا نعني بالعلم التفصيلي غير هذا فهو خُلْفُ دعوى إجمال الصورة.

والثالث أمر غير معقول، إذ كما يمتنع أن يوجد الوجوب في الخارج متخصّصاً بالخصوصية المردّدة بين الظهر والجمعة كذلك يمتنع أن تكون صورته الذهنية وجوداً لِمَا لا تعيّن له.

ودعوى : أنّ كلاًّ من طرفي العلم الإجمالي يُنتزع منه عنوانِ ( أحدهما )، فكلّ منهما هو أحد الطرفين، والمعلوم إحدى الإحْدَيَتَين مدفوعة : بأنّ المعلوم إن كان الأحد المعيَّن من الأحَدَيْن بخصوصيته فالصورة تفصيلية، وإن كان جامع الأحَدَيْن الملغى عنه خصوصية كلٍّ منهما فالمعلوم الإجمالي هو الجامع، وإن كان هو الأحد المردّد بحسب الخصوصية فهو ممتنع الوجود ذهناً وخارجاً، فلا نتعقّل الصورة الإجمالية أصلاً.

ثمّ إنّه قد أورد على المسلك المزبور وجهان :

الأوّل : استلزامه لاجتماع اليقين والشكّ، إذ يكون الواقع منكشفاً بالصورة

٢٧١

العلمية بحسب الفرض، ومشكوكاً بالضرورة.

الثاني : أنّ المعلوم الإجمالي قد لا يكون له واقع أصلاً، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين وكان كلاهما نجساً، فأيّهما المعلوم مع استواء نسبة العلم إلى كلٍّ منهما ؟

ويرد على الاعتراض الأوّل : أنّ المحال هو تقوّم العلم والشكّ بموضوعٍ واحدٍ وصورةٍ واحدةٍ في أفقهما، فإنّ المتضادَّين يمتنع اجتماعهما على شيءٍ واحدٍ في موطن وجودهما وتضادّهما.

والحاصل : أنّ العلم والشكّ متقوّمان بالصورة، لا بالواقع، فالممتنع اجتماعهما على صورةٍ واحدة، ففي موارد العلم التفصيلي بزيدٍ - مثلاً - يمتنع الشكّ فيه ؛ لأنّ أيّ صورةٍ تفصيليةٍ لزيدٍ تُفرض يقوم الشكّ بها فهي متعلّق للتصديق العلمي من قبل النفس أيضاً، فيلزم اجتماعهما، وأمّا في المقام فالشكّ متقوّم بالصورة التفصيلية والعلم بالصورة الإجمالية، فموضوعهما الحقيقي متعدّد وإن كان المضاف إليه خارجاً متّحداً.

وإن شئت قلت : إنّ الانكشاف لشيءٍ على هذا المبنى عبارة عن حضور صورته الإجمالية أو التفصيلية لدى النفس مقروناً بالتصديق.وفي المقام عند العلم بنجاسة الإناء الأبيض إجمالاً لدينا شيئان : أحدهما نجاسة الإناء الأبيض الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي، والآخر كونها هي المطابقة للصورة العلمية الإجمالية.

والأوّل معلوم لحضوره للنفس.والثاني هو المشكوك، فإنّ المطابقة أمر غير نفس المطابق، ويمكن انكشاف أحدهما دون الآخر.

وأمّا الاعتراض الثاني : فهو وإن كان لا يرد عليه النقض بدعوى وروده على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع أيضاً، إذ المراد بذلك تعلّقه بالوجود الواقعي

٢٧٢

بما أنّه مضاف إلى الجامع لا إلى الفرد، فيُسأل حينئذٍ في الفرض المزبور أنّه متعلّق بأيٍّ من الوجودَين بما أنّه مضاف إلى الجامع ؟

ووجه عدم الورود : أنّ المعلوم الإجمالي عند القائل بالتعلّق بالجامع هو الجامع بين الوجود الخارجي وغيره، لا الوجود الخارجي ولو مضافاً إلى الطبيعي ؛ الذي هو عبارة أخرى عن الحصّة من الطبيعيّ الموجودة في ضمنه، إذ الصورة العلمية قد ألغي عنها جميع خصوصيات الأطراف، فلا يمكن الالتزام بأنّ المعلوم بها هو وجود أحد الطرفين المعيّن بما أنّه وجود للطبيعي، إذ بعد تجريد الصورة لا وَجْه لتعيّن واحدٍ معيّنٍ من الطرفين لأن يكون وجوده هو المنكشف ولو بما أنّه وجود للطبيعي.

ولكن يرد على الاعتراض المزبور : أنّه لا يكون إشكالاً على المبنى المزبور، ولا على ما فرَّعه عليه صاحبه من القول بالعلّية، على ما سيأتي بيانه.

وذلك لأنّ المهمّ في هذا المسلك إثبات كون الصورة العلمية الإجمالية مباينةً سنخاً للصورة العلمية التفصيلية، وأنّ نسبتها إلى معلومها ليس كنسبة تلك إلى معلومها، فالصورة القائمة في موارد العلم الإجمالي صورةٍ إجمالية لوجوبٍ شخصي، لا صورةً تفصيليةً للجامع بين وجوبين.

وما أُفيد من الإشكال لا يكون هادماً لدعوى إجمالية الصورة العلمية في المقام، ولا مثبتاً لرجوعها إلى الصورة العلمية التفصيلية، بل يثبت أنّ هذه الصورة الإجمالية قد لا يكون لها مطابق في الخارج لاستواء نسبة الطرفين اليها.وهذا لا يضرّ بالمسلك المزبور أصلاً، إذ المدّعى فيه ليس هو وجود المعلوم بالعرض للعلم الإجمالي دائماً، كيف وقد يكون جهلاً مركّباً ؟ بل المدّعى فيه إجمالية الصورة وحكائيّتها عن شيءٍ جزئي لا عن الجامع، وهذا المحكيّ عنه قد لا يكون أصلاً لكون العلم جهلاً مركّباً، وقد لا يتعيّن أحد الطرفين لكونه محكيّاً عنه ؛ لاستواء نسبتهما.

٢٧٣

والحاصل : المقصود إثبات أنّ القائم بالنفس المقرون للتصديق فرد مجمل من الإنسان - مثلاً - نسبته إلى كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي نسبة المجمل إلى المفصَّل، لا الكلّي إلى فرده، لا أنّ للعلم الإجمالي ولهذا الفرد المجمل مطابقاً في الخارج دائماً، أو أنّ العلم الإجمالي متقوّم بالواقع الخارجي ليُشكَل بأنّه في هذا الفرض متقوّم بأيٍّ من الطرفين الخارجيَّين.

وأمّا تفريع العلّية على هذا المسلك فلا يضرّ به الإشكال المزبور أيضاً، وإن كان قد يُقرَّب إضراره ببيان : أنّ دعوى العلّية مبتنية على أن يكون هناك واقع معيّن منكشف بالعلم الإجمالي، ويكون العلم الإجمالي علّةً تامةً لتنجيزه حتى يكون احتمال التكليف في كلّ طرفٍ احتمالاً للتكليف المُنجَّز بالحكم التنجيزي من العقل.وأمّا إذا فرض أنّه ليس هناك طرف معيّن لأن يكون هو المنكشف لأجل نجاسة كِلاَ الإناءين - مثلاً - واستواء نسبتهما إلى العلم - كما هو مقتضى النقض المزبور - فلا يتنجّز شيء من الطرفين بخصوصه ؛ لأنه بلا مرجّح.ولا يتنجّز كلاهما بنفس العلم ابتداءً، إذ ليس هو علماً بهما معاً، فلا محالة إنّما يتنجّز الجامع فقط وينهدم أساس العلّية ؛ لأنّه كان مبنياً على التنجّز الواقع بنفس العلم ابتداءً.

ولكن يندفع هذا التقريب : بأنّ مَن يعلم إجمالاً بنجاسة أحد إناءين ويحتمل نجاسة الآخر وإن كان يحتمل أن لا يكون هناك طرف منهما متعيّن للمنكشفية بعلمه ؛ لاحتماله نجاستهما معاً، واستواء نسبتهما إلى علمه الموجب لعدم تعيّن أحد الطرفين للمعلومية، ولأن يتلقّى التنجيز من العلم الإجمالي ابتداءً إلاّ أنّه مع ذلك يحتمل وجود مطابقٍ معيّنٍ لعلمه، إذ يحتمل وحدة النجس في البين المساوقة لوجود معلومٍ إجماليٍّ معيّنٍ له في الخارج يكون متنجّزاً بالعلم، وإذن فهو يحتمل التكليف المعلوم الخارج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ في

٢٧٤

كلّ طرف ؛ لأنّه يحتمل أن يكون لعلمه معلوم معيّن في الخارج منجّز به.

والحاصل : أنّ العالم بالإجمال يقول : إنّه على فرض نجاسة الواحد منهما فقط يكون لي معلوم إجمالي معيّن في الخارج، أحتَمِل انطباقه على كلّ طرف، وهذا كافٍ للتنجيز.

لا يقال : إنّه على هذا يحتمل وجود معلومٍ إجماليٍّ معيّنٍ له في الخارج، كما يحتمل أن لا يكون له معلوم كذلك، وأن يكون الطرفان متساويَي النسبة إلى علمه، ومن المعلوم أنّ مجرّد احتمال المعلومية لا ينجّز، بل المنجّز العلم بتمامية البيان والوصول.

لأنّه يقال : إنّ هذا الإشكال يهدم القول بالعلّية - كما سنوضّحه - ولا ربط له بالنقض المزبور الذي أفيدَ في مقام الاعتراض على هذا المسلك، إذ في غير مورد النقض لا تكون معلومية النجس الواقعي محرزة.وانتظر لذلك مزيد إيضاح.

فتحقّق أنّ الاعتراض بالنقض المزبور لا يضرّ بما أفاده المحقّق العراقي، لا مبنىً ولا بناءً.

كما اتّضح أنّ توجيه هذا المسلك غير تام، لا بتقريب أنّ المعلوم الإجمالي ينطبق على الواقع بتمامه بشهادة الوجدان، وهو يتوقّف على أن يكون العلم الإجمالي صورةً إجماليةّ حاكيةً عن الواقع، كما قد يظهر منالنهاية (١) .ولا بتقريب أنّ الجامع لا يوجد بلا خصوصية، فلنا علم بأكثر من الجامع ؛ لأنّ الجامع الذي حقّقنا كونه هو المعلوم الإجمالي سنخُ جامعٍ ينطبق على الواقع بتمامه، ولا يحتاج في تشخّصه إلى أكثر ممّا ينطبق عليه، فإنّ مفهوم الإنسان الجزئي المتخصّص الذي هو المعلوم عند العلم الإجمالي بوجود أحد إنسانين

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩.

٢٧٥

لا يتخصّص في وجوده بخصوصيةٍ زائدةٍ ليدّعى العلم بتلك الخصوصية، كما تحصَّل أنّ الإجمال في الصورة العلمية غير معقول.

تعلّق العلم بالجامع :

الثاني من المسالك في العلم الإجمالي : أنّه متعلّق بالجامع، كما ذهب إليه المحقّق النائيني(١) والمحقّق الأصفهاني(٢) (قدس‌سرهما).

وملخّص برهانه على ما أفاده الأخير : أنّ العلم الإجمالي : إمّا أن لا يكون له طرف، أو يكون متعلّقه الفرد المردّد، أو الواقع، أو الجامع.

والأوّل باطل ؛ لأنّ العلم من الأمور ذات الإضافة.

وكذا الثاني ؛ لأنّ الفرد المردّد لا ثبوت له.

وكذا الثالث ؛ لأنّ مقتضاه كون ذاك الواقع معلوماً، وهو خلف.

فيتعيّن الرابع.

والتحقيق هو هذا أيضاً، ولكن لا بمعنى كون المعلوم الإجمالي هو الجامع الملغى عنه التعيّنات والتخصيصات بكلا الحملين، بل المعلوم سنخ جامعٍ يكون متخصّصاً بالحمل الأولي، بمعنى أنّ المعلوم وجود نجسٍ متخصّص في البين، لا جامع النجس بلا خصوصية، ولا واقع المتخصّص.

والذي أوجب عدول المحقّق العراقيقدس‌سره عن الالتزام بتفصيلية الصورة العلمية الإجمالية وكون المعلوم بها هو الجامع، إلى إجماليّتها وكون المعلوم بها الواقع، وضوح بطلان كون المعلوم هو الجامع الملغى عنه الخصوصيات بكلّ

____________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٩.

(٢) نهاية الدراية ٤ : ٢٣٦ - ٢٣٧.

٢٧٦

وجهٍ، على حدِّ ما يؤخذ متعلَّقاً للتكليف، فالتزم لأجل ذلك بالمغايرة السنخية بين الصورة العلمية الإجمالية، والصورة العلمية التفصيلية، وصرّح في المقالات(١) : بأنّ العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه ليس علماً تفصيلياً.

إلاّ أنّك عرفت مرجعيته إلى العلم التفصيلي بالجامع، ولكن الجامع الذي يكون معلوم الوجوب في مورد العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة ليس على حدّ الجامع الذي يكون متعلَّقاً للتكليف عند من يرى أنّ الوجوب الشرعي تعلّق بالجامع بين الظهر والجمعة على نحو التخيير، فإنّ هذا الجامع المأخوذ في متعلّق التكليف ليس متخصّصاً أصلاً، وليس متعيّناً بالحمل الأوّلي، بخلاف الجامع المدّعى في المقام فإنّ العالم بالإجمال يعلم بتخصّصه، وإن كان واقع خصوصيته غير منكشفٍ لديه، فمعلومه هو الإلزام بالجامع المتخصّص، إلاّ أنّ هذا لا يخرجه عن كونه جامعاً.

فحينئذٍ : إن أريد بالعدول عن مبنى تعلّق العلم الإجمالي بالجامع أنّه ليس متعلّقاً بما هو من سنخ الجامع المأخوذ في متعلّق التكليف، فيرد عليه : أنّه وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه ليس معنى ذلك إنكار كون العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه علماً تفصيلياً، كما صرّح به في المقالات، ولا كون الصورة العلمية بالإضافة إلى الواقع كالمجمل إلى المفصَّل، لا الكلّي إلى الفرد، كما صرّح به بعض الأجلّة من مقرِّري بحثه(٢) ، بل الصورة العلمية صورة تفصيلية لجامعٍ وهو مفهوم الإنسان المتخصّص مثلاً، ويكون الواقع فرداً لهذا الجامع.

وإن أريد بالعدول المزبور أنّ العلم الإجمالي ليس علماً تفصيلياً بالجامع

____________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٢٣٠.

(٢) هو الشيخ البروجردي في نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩.

٢٧٧

حتّى الجامع الذي ذكرناه، فهو الذي عرفت أنّه بلا دليل، بل البرهان على خلافه ؛ لاستحالة الإجمال في الصورة العلمية.

ملاحظات على مبنى الجامع :

وما أورد أو يمكن أن يورد على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع وجوه :

الأوّل من تلك الوجوه : أنّ البرهان القائم على مساوقة التشخّص والتخصّص للوجود، يوجب القطع بأنّه قد وجدت في الخارج خصوصية مشخِّصة لهذا الجامع.

وهذه الخصوصية إن كانت كليةً أيضاً فهي أيضاً يُعلم بوجود مخصِّصٍ لها، فننقل الكلام إلى هذه الخصوصية الثانية، وهكذا حتى يلتزم بتعلّق العلم بخصوصيةٍ شخصيةٍ مجملةٍ لا تكون كليّة، فثبت أنّ المعلوم يزيد على الجامع.

الثاني : ما أُورد من أنّه في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن الالتزام بأنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع، أي الإلزام بالجامع بين الفعل والترك ؛ لأنّ الإلزام بالجامع بين النقيضين غير معقول فكيف يكون معلوماً ؟ فلا بدّ من الالتزام بمعلومية شيءٍ أزيد من الجامع.

الثالث : أنّه في موارد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين أو طهارته، أو حجّية إحدى الأمارتين لا يمكن الالتزام بأنّ المعلوم هو نجاسة الجامع، أو طهارته، أو حجِّيته ؛ لأنّ الأحكام المزبورة يستحيل تعلّقها بالجامع المأخوذ بنحو صرف الوجود، إذ يستحيل حينئذٍ سريانها من الجامع إلى طرفٍ معيَّنٍ بالخصوص ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجِّح بعد استواء نسبة الفردين إلى الجامع، ولا إلى الفردين معاً ؛ لأنّ الجامع مأخوذ بنحو صرف الوجود، لا مطلق الوجود حتّى

٢٧٨

يسري إلى كلا فردَيه.وإذن فحجّية الجامع بين الخبرَين غير معقولةٍ فكيف تكون هي المعلوم الإجمالي ؟

وهذه الإشكالات إنّما ترد إذا كان الجامع في المقام على حدّ الجامع الذي يتعلّق به التكليف، وإلاّ على ما بيّناه من أنّه سنخُ جامعٍ متخصّصٍ مفهوماً وعنواناً فلا ترد.

أمّا الأوّل : فلوضوح أنّ الجامع المعلوم هو نحو جامع لا يحتاج إلى أكثر ممّا ينطبق عليه حتّى يُدّعى العلم بالزائد، كما فصّلناه سابقاً فراجع.

وأمّا الثالث : فسوف نبيّن في مبحث التعادل إمكان جعل الحجّية للجامع، إلاّ أنّنا نقول الآن - مع غض النظر عن ذلك - إنّ هذا الإشكال والإشكال الثاني واضحا الاندفاع ؛ وذلك لأنّ المعلوم وجوبه أجمالاً في موارد دوران الأمر بين المحذورين - مثلاً - ليس هو الجامع بين النقيضين على جامعيته، بل الجامع المتخصّص وإن كان واقع تخصّصه مجهولاً.

فإن قلت : إنّ الجامع المتخصّص لا يخرج عن كونه جامعاً بين النقيضين، فإذا كان المعلوم هو الإلزام بالجامع المتخصّص لا بواقع المتخصص لزم المحذور من تعلّق الإلزام بالجامع بين النقيضين ؛ لأنّ عنوان الجامع المتخصّص جامع بين الفعل والترك.

قلت: إنّ الجامع المتخصّص وإن كان كلّياً بحسب الحقيقة - ولذا نقول بكون المعلوم الإجمالي هو الجامع - إلاّ أنّه إنّما يكون محطّاً للتصديق العلمي بالوجوب والإلزام بما أنّه فانٍ في أحد أفراده ومرآة لبعض مصاديقه، لا بما هو حتى يلزم تعلّق التصديق العلمي بأمرٍ محال، وهو الإلزام بالجامع بين النقيضين، بل التصديق العلمي بالوجوب ينصبّ على الجامع، وهو عنوان المتخصّص بما أنّه فانٍ في غير نفسه، فلا يعقل أن يكون الإلزام المصدّق به هو الإلزام بنفس هذا العنوان الكلّي ،

٢٧٩

فهو نظير حكمنا على النسبة بأنّها معنىً حرفي، وعلى المعدوم المطلق بأنّه لا يُخبَر عنه، فإنّ النسبة ليست نسبةً ولا معنىً حرفياً، بل هي معنىً اسميّ وُضِعَت له لفظة ( النسبة )، فعند حكمنا عليه بالحرفية لا يكون هذا الحكم كاذباً، بتوهّم أنّه مسلّط على مفهوم النسبة لا على واقعها ؛ لأنّ الحاضر في الذهن مفهومها، وهو ليس حرفياً، بل هو حكم صادق ؛ لأنّه مسلّط على هذا المفهوم باعتبار فنائه في واقعه وأفراده، فكما أنّ التصديق بحرفيّة مفهوم النسبة الفاني لا يقتضي التصديق بحرفيّة نفس هذا المفهوم كذلك التصديق بالإلزام لا يكون تعلّقه بعنوان المتخصّص الملحوظ فانياً في صرف وجوده ؛ موجباً للتصديق بكون الإلزام ثابتاً لنفس عنوان المتخصّص الجامع بين النقيضين.

فاتّضح بما ذكرناه أنّ الصورة العلمية الإجمالية صورة تفصيلية للجامع، ونسبتها إلى الواقع نسبة الكلّي إلى الجزئي، وأنّها محطّ للتصديق العلمي باعتبار فنائها في أحد أفرادها.فالمقدار المعلوم من متعلّق الإلزام في موارد العلم الإجمالي هو الجامع بين الطرفين، أي عنوان الفعل المتخصّص بما أنّه فانٍ وحاكٍ عن صرف وجوده، أي بما أنّه متخصّص، لا بما أنّه كلّي.

تعلّق العلم بالفرد المردّد :

الثالث من المباني : تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد، لا بمعنى أنّ الثابت واقعاً فرد مردّد حتى يقال : إنّه لا مَهيّة له ولا هوية، بل بمعنى أنّ المقدار المنكشف هو هذا، فإنّ الانكشاف لم يتعلّق بأكثر من خصوصيةٍ مردّدةٍ يمكن أن نعبِّر عنها بأنّها إمّا هذا وإمّا ذاك، فمفاد قولنا : ( إمّا هذا وإمّا ذاك ) هو المعلوم الإجمالي.

ويرد عليه : أنّ المحذور في دعوى انكشاف الفرد المردّد ليس هو أنّ

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

المخالفين لأنّه منصب الهيّ وكمال نفسانيّ ودرجة وهيبة

وما قيل من أنّ الولاية بمنزلة الحليلة للأئمّة واغتصبها المغتصبون منهم فتزوّجها فالنواصب أبناء هذه البغيّة ونزّلوا أخبار خبث مولد النواصب هذا التنزيل وقالوا : إنّ الزوج الشرعي للولاية هم الأئمّةعليهم‌السلام وقد عقد الله هذا الزواج في السماء

وهذا حديث باطل ومردود وهو أدنى من كلام المبرسمين أصحاب الماليخوليا ، والأولى أن ندعوه هذيان القلم ، وأكثر من هذا لا يستحقّ من عناية العلماء لردّه ولا يتّسق مع سابقة العلماء وشئوناتهم العلميّة ورتب أهل الفضل كما قال الحكماء :

از سخن پُر در من هم چون صدف هر گوش را

قفل گوهر ساز ياقوت زمر پوش را

در جواب هر سؤالى حاجت گفتار نيست

چشم بينا عذر مى خواهد لب خاموش را

لا تجعلنّ كلّ قول مثل جوهرة

تقرط الأُذن فيها كي تحلّيها

أبعد عن العين بالأقفال جوهرة

فإنّ حقّ يتيم الدرّ تخفيها

ولا تجيبنّ يوماً كلّ مسألة

إطباق كلّ شفاه عذرها فيها

ومن الأشعار التي أنشدها الإمام الرضاعليه‌السلام في حضرة المأمون ونسبه إلى بعض فتيان آل عبد المطّلب كما ورد في العيون هذان البيتان :

وإذا ابتليت بجاهل متكلّف

يجد المحال من الأُمور صوابا

أوليته منّي السكوت وربّما

كان السكوت عن الجواب جوابا(١)

وجملة القول : إنّ هذه الفقرة من الزيارة مساوقة لفقرة الصحيفة السجاديّة

_________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ : ١٥٧ وفيه بدل « ابتليت » « بليت » وبدل « متكلّف » « متحكّم » ( هامش الأصل ) وفي المجلّد الأوّل منه ص ١٨٧ أربعة أبيات بدل البيتين ( المترجم )

٣٠١

وفيها يشير الإمام السجّاد إلى عيد الأضحى والجمعة وصلاة العيدين والخطبة ويقول : « اللهمّ هذا المقام لخلفائك وأصفياءك ومواضع اُمناءك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها »(١) وهذا الابتزاز والإزالة والدفع كلّ ذلك ناشئ عن الصدر السالف والقرن الأوّل من عدول الصحابة ، ولا تتنافى عدالتهم مع ظلم أهل البيت وإيذاء فاطمةعليها‌السلام وإحراق بيتها والخلاف مع عليّعليه‌السلام وبغض الحسنينعليهما‌السلام ، كما مرّ عليك جانب من ذلك وعسى أن نشير فيما يأتي إلى جملة اُخرى منه

بل لا يتنافى ذلك عندهم مع تغيير جميع الفروع والاُصول والأحكام وهدم أساس الشريعة المقدّسة ـ على الصادع بها ألف سلام ـ كما يظهر ذلك من الأخبار المبثوثة في مطاوي كتبهم المعتمدة واُصولهم الصحيحة

نقل السيّد المحقّق الأمين شارح الصحيفة المقدّسة من الجمع بين الصحيحين في مسند أبي الدرداء في الحديث الأوّل من أخبار البخاري : قالت اُمّ الدرداء : دخل عليّ أبو الدرداء وهو مغضب ، فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف من أمر محمّد شيئاً إلّا أنّهم يصلّون جميعاً(٢)

وفي الحديث الأوّل من صحيح البخاري من مسند أنس بن مالك نقل عن الزهري قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرض شيئاً ممّا أدركت إلّا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيّعت(٣)

وفي حديث آخر إنّه قال : ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

_________________

(١) الصحيفة السجاديّة ، دعاء ٤٩ ( هامش الأصل ) الكاملة : ٢٨١ نشر جامعة المدرّسين ( المترجم )

(٢) صحيح البخاري ١ : ١٦٦ باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، ط دار مطابع الشعب بمصر ( هامش الأصل )

(٣) نفسه ، باب تضييع الصلاة عن وقتها ، ص ١٤١ ( هامش الأصل )

٣٠٢

قيل : فالصلاة ؟ قال : أليس صنعتم ما صنعتم فيها(١)

وهذه شهادة صريحة من أبي الدرداء وأنس بن مالك ـ وهما من أكابر الصحابة عند أهل السنّة والجماعة ـ بأنّ أحكام الشريعة بأجمعها غيّرت ، وبدّلت أحكام الشرع الشريف عامّة ، حتّى الصلاة وهي أظهر الواجبات وأعرف الفرايض ، وجميع ما مرّ جرى على أيدي الصحابة والتابعين الذين رووا في حقّهم « خير القرون قرني ثمّ القرن الذي يليه »(٢)

وإذا كان حال القرن الأوّل والثاني بهذه المثابة فما بالك بالقرون اللاحقة والأعصار التابعة التي تتبدّل في كلّ يوم أحوالها ، وتتنزّل شئونها باعترافهم

وطبقاً للحديث سابق الذكر يمكن أن نقول :

õ خُذ جملة البلوى ودع تفصيلها õ

_________________

(١) نفسه

(٢) عمران بن حصين ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : خيركم قرني ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم قال عمران : فما أدري قال النبيّ بعد قوله مرّتين أو ثالثاً ، ثمّ يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن

وفي خبر آخر : خير الناس قرني ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ يجيء من بعدهم قوم تسبق شهادتهم إيمانهم ، وإيمانهم شهادتهم [ صحيح البخاري ، ٨ : ١١٣ باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها ، ط دار ومطابع الشعب بمصر ] ( هامش الأصل )

٣٠٣

وَلَعَنَ اللهُ الْمُمَهِّدِينَ لَهُمْ بِالتَّمْكِينِ مِنْ قِتالِكُمْ

الشرح : التمهيد مأخوذ من المهاد بمعنى البساط والفراش أو من العهد بمعنى سرير الطفل ، وكلاهما عائد إلى أصل واحد ونصّ في أساس البلاغة على أنّ التمهيد معناه التوطئة وتسهيل الأمر والإصلاح ، والمراد في أمثال هذه الوقائع وتمهيد العذر من المعاني المجازيّة ، ومعناه بسطه وتهيئة قبوله

والباء في « بالتمكين » للسببيّة على الظاهر والتمكين بمعنى الإقدار ، والظاهر أنّ اشتقاق المكان منه بحسب اللفظ ، وأمّا بحسب المعنى فاشتقاقه من الكون

القتال : بمعنى القتل والذبح والحرب

والمقصود من الممهّدين هم الأوائل الذين سهّلوا السبيل ووطّئوا الاُمور ، وهيّئوا أسباب الظلم ، لأنّه لولاهم وما ارتكبوه من السلوك الوحشي الخشن مع أهل البيت لما جرأ الأواخر على ظلمهم بتلك القسوة المعهودة

وهذا أصحّ الوجوه في تفسير الفقرة المعروفة « المقتول في يوم الجمعة أو الاثنين »(١)

_________________

(١) كما في البحار ٤٤ : ١٩٩ و ٢٠١

وعن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : يوم الاثنين يوم نحس قبض الله عزّ وجلّ نبيّه ، وما اُصيب آل محمّد إلّا يوم الاثنين [ الكافي ، باب صوم عرفة وعاشوراء ؛ بحار الأنوار ٤٥ : ٩٤ ] وتأتي هذه الرواية بتفصيلها ذيل « اللهمّ إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو اُميّة »

مروج الذهب : وسُمعت في جنازته ( الإمام أبي الحسن الهاديعليه‌السلام ) سوداء وهي تقول : ماذا لقينا من يوم الاثنين [ بحار الأنوار ٥٠ : ٢٠٧ ]

ولنعم ما قيل : « ما قُتل الحسين إلّا في يوم السقيفة » فلعنة الله على من أسّس أساس الظلم والجور على أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين [ بحار الأنوار ٤٥ : ٣٣٨ ]

٣٠٤

لأنّ يوم السقيفة حدث في يوم الاثنين ، وقد أجاد الشاعر المفلّق الحاج هاشم الكعبي حيث قال :

تا الله ما سيف شمر نال منك ولا

يدا سنان وإن جلّ الذي ارتكبوا

لولا الذي أغضبوا ربّ العُلى وأبوا

نصّ الولا ولحقّ المصطفى غصبوا

أصابك النفر الماضي بما ابتدعوا

وما المسبّب لو لم ينجح السبب

ولا تزال خيول الحقد كامنة

حتّى إذا أبصروها فرصة وثبوا

فادرك الكلّ ما قد كان يطلبه

والقصد يدرك لمّا يمكن الطلب

كفُّ بها اُمّك الزهراء قد ضربوا

هي التي اُختك الحورا بها سلبوا

وإن نار وغىً صاليت جمرتها

كانت لها كفّ ذاك البغي تحتطب

وليبك يومك من يبكيك يوم غدوا

بالصنوا قوداً وبنت المصطفى ضربوا

والله ما كربلا لو لا السقيفة والإحياء

تدري(١) ولا لا النار ما الحطب

وورد في كثير من الأخبار لعن قاتلي سيّد الشهداء ومقاتليه ، ولعلّنا نشير إلى جانب منه فيما يأتي ونكتفي هنا بذكر حديث واحد ليقوم بأداء حقّ هذا العنوان ،

_________________

ولنعم ما نقله عليّ بن عيسى عن بعض الأصحاب عن القاضي أبي بكر بن أبي قريعة في ضمن أبياتٍ له :

وأريتكم أنّ الحسين

اُصيب في يوم السقيفه

ولأيّ حالٍ اُلحدت

بالليل فاطمة الشريفه

ولما حمت شيخيكم

عن وطي حجرتها المنيفه

أوّه لبنت محمّد

ماتت بغصّتها أسيفه

فوالله لا أنسى زينب بنت عليّعليهما‌السلام وهي تندب وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب : وا محمّداه ! صلّى عليك مليك السماء وهذا حسين محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهبا بأبي من فساط مقطّع العُرى . [ بحار الأنوار ٤٥ : ٥٩ ]

(١) جاء في الكتاب « تعلم » ولا يستقيم بها الوزن فاستبدلنا بها « تدري » لأنّي أحفظها هكذا

٣٠٥

ولئلّا تخلو هذه المقولة من هذه الأخبار من رأس

وفي تفسير الإمام الحسن العسكري :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ) (١) نزلت في اليهود ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نزلت هذه الآية في هؤلاء اليهود الذين نقضوا عهد الله وكذّبوا رسل الله وقتلوا أولياء الله : أفلا اُنبّئكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الاُمّة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : قومٌ من اُمّتي ينتحلون بأنّهم أهل ملّتي ، يقتلون أفاضل ذرّيّتي وأطائب اُرومتي ، ويبدّلون شريعتي وسنّتي ، ويقتلون ولدي الحسن والحسين كما قتل أسلاف هؤلاء اليهود زكريّا ويحيى

ألا وإنّ الله يلعنهم كما لعنهم ، ويبعث على بقايا ذراريهم يوم القيامة هادياً مهديّاً من ولد الحسين المظلوم يحرقهم بسيوف أوليائه إلى نار جهنّم

ألا ولعن الله قتلة الحسين ومحبّيهم وناصريهم والساكتين عن لعنهم من غير تقيّة تسكتهم

ألا وصلّى الله على الباكين على الحسين بن عليّعليهما‌السلام رحمة وشفقة ، واللاعنين لأعدائهم والممتلئين عليهم غيظاً وحنقاً

ألا وإنّ الراضين بقتل الحسينعليه‌السلام شركاء قتله

ألا وإنّ قتلته وأعوانهم وأشياعهم ، والمتقدّمين بهم برآء من دين الله

ألا إنّ الله ليأمر الملائكة المقرّبين أن يتلقّوا دموعهم المصبوبة لقتل الحسينعليه‌السلام إلى الخزّان في الجنان فيمزجونها بماء الحيوان فيزيد في عذوبتها وطيبها ألف ضعفها ، وإنّ الملائكة ليتلقّون دموع الفرحين الضاحكين لقتل الحسينعليه‌السلام ويلقونها في ألهاوية ويمزجونها بحميمها وصديدها وغسّاقها وغسلينها فتزيد في شدّة حرارتها وعظيم عذابها ألف ضعفها ، يشدّد بها على

_________________

(١) البقرة : ٨٤

٣٠٦

المنقولين إليها من أعداء آل محمّد عذابهم(١)

اللهمّ اجر دموعنا في مصاب الحسين ، ووفّقنا للعن قتلته من الأوّلين والآخرين ، اللهمّ العنهم لعناً وبيلاً ، وعذّبهم عذاباً أليماً لا تعذّب به أحداً من خلقك ، وصلّ على محمّد وآله الطاهرين من اليوم إلى يوم الدين

_________________

(١) تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام : ٣٦٧ ط اُولى ١٤٠٩ مهر ـ قم المقدّسة ( المترجم ) تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام : ١٤٨ ، بحار الأنوار ٤٤ : ٣٠٤ رقم ١٧ ( هامش الأصل )

٣٠٧

بَرِئْتُ إِلَىٰ اللهِ وَإِلَيْكُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْياعِهِمْ وَأَتْباعِهِمْ وَأَوْلِيائِهِمْ(١)

برء : من باب سمع أي فارق ، والتبرّي بمعنى المفارقة ، وهذا المعنى مأخوذ من كتب الأدب من قبيل منتهى الإرب وتاج المصادر ، وترجمة القزويني على القاموس ، ولم تبيّن الكتب العربيّة حقيقة معنى البرائة ، وبرأ من مرضه أي تنق وعوفي ، وبرأ من دينه أي سقط عنه طلبه ، وكلا المعنيين مأخوذ من المعنى المتقدّم

وفي تفسير مجمع البيان ومفاتيح الغيب لابن الخطيب الرازي فسّر البرائة بانقطاع العصمة ، وهذا تفسير باللازم

وبعض المنتسبين إلى العلم فسّروا البرائة بالامتناع ، وبعد التتبّع والفحص الكامل لم نجد وجهاً لهذا التفسير

وسبب تعدّيته بـ « إلى » كان لإشرابه معنى توجّه أو تعطّف ، لأنّ المتبرّء من واحد متقرّب إلى الآخر ، إذ المتبرّء حين يدبر عنه يقبل على غيره فيثير حنقه بمحبّة غيره ورعاية قربه ، ولعلّ هذا المعنى هو الذي صحّح دخول « إلى » على هذا الطرف

والضمير في « منهم » راجع إلى جميع الطوائف المذكورة المراد من هذه الصفات أولئك الذين لهم المدخليّة التامّة في ذلك الأمر حيث استندت إليهم الأفعال ممّا جرى على الحسينعليه‌السلام بنحو من الأنحاء لينفى عنهم عنوان الأشياع والأتباع وينطبق عليهم عنوان مستقلّ آخر

تبع تباعاً وتِباعاً : اقتفى أثر فلان ، وتبع وزان فرس بمعنى تابع ، ويطلق على

_________________

(١) الصحيح من أشياعهم وأتباعهم وغفلةً من المؤلّف أو الناسخ حدث التقديم والتأخير ( هامش الأصل )

٣٠٨

المفرد والجمع مثل :( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ) (١) وجمع أتباع ، وتباعة ، وإن كان يطلق على المشي الظاهر ولكنّه من جهة التوسّع في الإطلاق يتناول المعنوي أيضاً وفي هذا السياق يوجد حديث مبنى على ذوق أهل المعرفة وليس هذا المقام موضع بيانه

الشيعة : عبارة عن الأنصار والأتباع ، صرّح بذلك في المصباح وغيره ، واشتقاقه من المشايعة ومعناها المتابعة والنصرة ، وهو مأخوذ من التشييع والمشايعة بمعنى المصاحبة للتعظيم ، كما يستعمل في معنى مشايعة الموتى وتشييعهم ، وكلا الحقيقتين مأخوذ من الشيوع بمعنى الظهور لأنّ في لفظ : مشيّع ومشايع يتبادر الميّت والضيف إلى الذهن وبه يتعالى اسمه ويشيع شرفه

ومجمل القول : جمع الشيعة شيعٍ ، وجمع الشيع أشياع ، وقد ارتكب الفيروزآبادي في القاموس خطأً حين اعتبر الأشياع والشيع كلاهما جمع التشيّع ، لأنّ قياس العربيّة لا يسمع بجمع « فعله » على « أفعال » وصرّح بما قلناه الفيّومي في المصباح

الولي : مأخوذ من ولي ومعناه الحقيقي القرب ، ويستعمل في القرابة النسبيّة والقرب الروحاني وهو المحبّة ، ويستعمل أيضاً في قرب الإحاطة وهو الرئاسة

واعلم أنّ رعاية الصحّة تتمّ في أمرين :

الأمر الأوّل : التنقية وهي دفع الفضلات والأخلاط الفاسدة

والأمر الثاني : التقوية وهي حفظ البنية وبقاء المزاج الذي هو الصورة الخامسة الحاصلة من تفاعل الكيفيّات الأربع ، المتداعية بالانفكاك والانفصال

كما أنّ حصول الكمال الإنساني والترقّي النفساني في السلوك الأخلاقي بأمرين :

_________________

(١) إبراهيم : ٢١

٣٠٩

أحدهما : دفع الرذائل من قبيل الحسد واللؤم والقساوة وحبّ الجاه

وثانيهما : كسب الفضائل من جنس العفو والسماح ورقّة القلب والإعراض عن الخلق

ومثله الإيمان وهو مصحّح جميع الأعمال وميزان كلّ كمال مركّب كذلك من جزئين :

الأوّل : البرائة من أعداء الله

والثاني : محبّة الله وأوليائه

وهذا المعنى مضافاً إلى ما جاء في سرده وتوضيحه من الكتاب والسنّة فإنّه وارد في خصوص جماعة معيّنة من طريق أهل بيت النبيّ ؛ أهل العصمة والطهارة أرواحنا لهم الفداء ، وذلك معترف به ومشهود به من جميع القلوب الصافية والنفوس الزاكية

حيث ما من عاقل نبيه يستولي عليه الوهم بالقدرة على الجمع بين محبّة إنسان ومحبّة عدوّه ، كما قال الشاعر في الحكمة الشعريّة :

تحبّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني

صديقك إنّ الرأي منك لعازبُ

وللعقلاء أصحاب البصائر والقلوب الواعية تكفي هذه الآية المباركة التي يقول الحقّ تعالى فيها :( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَـٰئِكَ حِزْبُ اللَّـهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) وفي هذه الآية المباركة وردت وجوه من تأكيد المنع عن موادّة أعداء الله

_________________

(١) المجادلة : ٢٢

٣١٠

وفي الحديث المنقول عن العيون بطرق عدّة أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام كتب إلى المأمون في حديث طويل : حبّ أولياء الله واجب وكذلك بغض أعداء الله والبرائة منهم ومن أئمّتهم ولعلّنا نشير في أثناء البحث إلى جانب منه في مقام آخر(١)

_________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ : ١٢٢ رقم ٣٥ ما كتبه الرضاعليه‌السلام إلى المأمون في محض الإسلام وشرايع الدين ( هامش الأصل ) وفي نسختي ص ١٢٤ ( المترجم )

٣١١

يَا أَبا عبد الله إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْ إِلىٰ يَوْمِ الْقِيامَةِ

الشرح : السلم : بمعنى المسالمة والصلح والموادعة لأنّه جاء بمعنى المسالمة والصلح كما في القاموس وغيره ، والظاهر عدم الاشتراك بل من باب استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل ، فإمّا أن يكون محمولاً على المبالغة أو بتقدير ذو ( اي ذو سلم ) كما صرّح بذلك الأُدباء ، وهذا المعنى وإن لم يكن قياسيّاً بل متوقّفاً على مقتضى الحال الخاصّة التي يعرفها الأديب بالممارسة ، كما صرّح بذلك الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري ، وإن كانت الأمثلة التي استشهد بها لا تخلو من نقاش ، ولكنّ الميزان في هذا الموضع ثابت ومحقّق

ومثله الحديث في كلمة « حرب » والأظهر في رأي هذا العبد لله أنّها المعنى المصدري نفسه

ويجب أن نقول ذلك من أجل إظهار كمال المطاوعة والتوغّل في العبوديّة والمتابعة أنّا وصلنا في هذا المقام إلى درجة أصبحنا حقيقة السلم مع من سالمكم ومصداقاً واقعيّاً للحرب لمن حاربكم

اليوم : بحسب أصل اللغة من أوّل طلوع الشمس إلى غروبها ـ كما هو المشهور بين اللغويّين ـ ويطابق اصطلاح حكماء الفرس وعلماء الهيئة والحساب أو أنّه من أوّل طلوع الفجر حتّى غروب الشمس كما صرّح بذلك ابن هشام في « شرح الكعبيّة » والظاهر أنّ المعنى الثاني لليوم هو تحديد الزمن الشرعي من اليوم وليس المعنى اللغوي ، وهذا القليل البضاعة أشار تلويحاً في « منظومة ميزان الفلك » إلى هذا المعنى :

واليوم من طلوع جرم الشمس

إلى غروبها بزعم الفُرْس

كذاك في النجوم والحساب

وذاك في السنّة والكتاب

يؤخذ من طلوع فجر صادق

إلى ذهاب حمرة المشارق

٣١٢

وتفصيل هذه الجملة أنّ غاية النهار زوال الحمرة(١) كما هو المعروف من مذهب الإماميّة ، أو غروب القرص كما هو مذهب أهل السنّة ، وقال بهذا شرذمة من علماء الشيعة نظراً إلى الأخبار المحمولة على التقيّة أو أنّهم جعلوا الأخبار في القول السابقة حاكمة على الأخبار التي قال بها الشيعة لا الأقلّيّة منهم فمالوا إليها وقالوا بها ، والإفاضة بها خارجة عن منهج هذا الشرح

وأحياناً يطلق اليوم على مطلق الزمان كما صرّح به ابن هشام في شرح الكعبيّة وحكى القول به عن سيبويه واستشهد بما أثر عن القوم من قولهم : أنا اليوم أفعل كذا ، ويريدون الوقت الحاضر ، ومن هذا القبيل قولهم : تلك أيّام الهرج ، كما قال بعض شرّاح القاموس(٢)

وأكثر اللغويّين والاُدباء نصّوا على هذا المعنى واستعماله في يوم القيامة أظهر ، لأنّه مبنى على هذا المعنى غير ملحوظٍ به طلوعاً أو غروباً ، ولابدّ من أخذهما في المعنى عند الوقوف على ظواهر العبارات

وفي الحقيقة إنّنا وإن أمكننا القول عن حقيقة اليوم بأنّه مدّة ظهور الشمس في نصف الفلك المرئي ، وأخذ الطلوع والغروب في معناه للدلالة على مصاديق أفراده في الخارج ، وبناءاً على هذا يكون يوم القيامة من مصاديق المعنى الأوّل ، والله أعلم بالصواب

القيامة : مصدر قيام ظاهراً ، يقال : قام قياماً وقيامة كما نقل بعض العلماء المتبحّرين اللغويّين ، وإن لم يذكر في كثير من الكتب

_________________

(١) يجب تحديدها بالمشرقيّة وبها يعرف دخول الليل ، أمّا الحمرة المغربيّة التي تمتدّ بعد اختطاط الظلام فلا عبرة بها ( المترجم )

(٢) قال الزبيدي : وقد يراد باليوم الوقت ، ومنه الحديث : تلك أيّام الهرج أي وقته ، ولا يختصّ بالنهار دون الليل [ تاج العروس ٩ : ١١٥ ]

٣١٣

وإطلاق يوم القيامة على يوم الحشر إمّا بسبب قيام البشريّة كافّة من مضاجعها للعرض على الله تعالى ، وإمّا بسبب قيام الخلق كافّة في ساحة العدل الربّاني جلّت عظمة الله ، كما في قوله تعالى عزّ من قائل :( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١)

وزعم بعضهم أنّ الكلمة مولّدة من السريانيّة بمعنى « قيماً » أي يوم الحشر ، وهذا غاية في البعد ، والأصحّ الأوّل

والظاهر أنّ التعبير عن يوم الجمعة بيوم القيامة نظراً لهذا المعنى ، لقيام الخطيب فيها بالخطبة أو لقيام الناس فيه كافّة بالصلوات ، أو لقيام أمر النبيّ فيه ، أو لتذكاره بأمر يوم القيامة ، والله أعلم

فائدة

في الأخبار الكثيرة المرويّة عن الفريقين أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة وأمير المؤمنينعليهما‌السلام : حربك حربي وسلمك سلمي(٢) وكذلك قال لأهل العباعليهم‌السلام : « أنا سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم » أو قريباً من هذا اللفظ ، كما أوصل الترمذي في الجامع السند إلى زيد بن أرقم : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام : أنا سلم لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم(٣)

يتبيّن من هذا الحديث على اُصول أهل السنّة والجماعة كفر معاوية وأصحاب الجمل وأصحاب واقعة كربلاء جميعاً ، لأنّ من حارب رسول الله باتفاق الاُمّة ونصّ الكتاب والسنّة كافر ، فإذا كان محارب هذه الجماعة محارباً لرسول الله فهو كافر البتّة

_________________

(١) المطفّفين : ٦

(٢) بحار الأنوار ٤٢ : ٢٦١ وتجد ذلك أيضاً في الأجزاء التالية ٢٦ ـ ٢٧ ـ ٣٢ ـ ٣٣ ـ ٣٧ ـ ٣٨ ـ ٣٩ ـ ٤٠ ـ ٦٥ ( المترجم )

(٣) اُنظر : سنن ابن ماجة القزويني ١ : ٥٢ ( المترجم ) صحيح الترمذي ، ج ٥ باب ٦١ فضل فاطمة رقم ٣٨٧٠ ( هامش الأصل )

٣١٤

وَلَعَنَ اللهُ آلَ زِيادٍ

الشرح : يمكن أن يكون الواو في مطلع الجملة للعطف ، وتكون هذه الجملة الدعائيّة معطوفة على ما سبقها من اللعائن ، وعلى هذا الوجه تكون الجملة المتضمّنة للبرائة والاستسلام والمتابعة معترضة بين العاطف والمعطوف عليه ، والنكتة المتصوّرة في وجه إقحام هذه الجملة بينهما أنّ الزائر وهو يمارس لعن الأعداء يتذكّر أعمالهم الشنيعة وآثارهم الفظيعة ، فتقلّبهم الأيّام الخوالي فيهيج وجده الكامن وشوقه الساكن فيفقد السيطرة على نفسه وهو يستعرض جرائم القوم ومنكراتهم فيظهر البرائة منهم دونما اختيار منه ، وتدركه النفرة منهم ومن أتباعهم وأشياعهم ، من هنا يخاطب الإمام المظلوم لفرط حبّه وخلوص إرادته فيحمله ذلك على عرض مسالمته الكاملة ومتابعته الشاملة مع صفاء الباطن وخلوص النيّة بين يدي ساحة الإمام المقدّسة وسدّته الرفيعة

وينعتق من هذا الكلام الذي اندفع فجئة على لسانه مرّة اُخرى ويعدل عنه إلى الحديث الأوّل من لعن الأعداء ويعطف عليهم أولئك الذين هم أعيان الظالمين المسبّبين لهذا الخطب الفادح والرزء الجليل ، والذين لهم أثر يذكر في جريان هذه الخطوب وإعانة على حدوثها فيأخذ بلعنهم واحداً واحداً ، ويعطفهم على الأوائل لكي يشفي غيظه ويريح حنقه ويبرأ من لواعج صدره من ذكرهم بالتفصيل ، كما يمكن أن تكون الواو استئنافيّة

وعلى كلّ حال فإنّ النكتة تعود إلى ما ذكرناه تفصيلاً

وسوف نذكر معنى الآل بعد هذا الحديث إن شاء الله(١)

_________________

(١) ذيل « صلّی الله عليه وآله » ( هامش الأصل )

٣١٥

وزياد المنصوص عليه باللعن هو والد عبيد الله لعنهما الله المعروف بزياد بن أبيه وزياد بن اُمّه وزياد بن عبيد وزياد بن سميّة ، واشتهر بعد استلحق معاوية إيّاه بابن أبي سفيان ، وعبيد وسميّة كلاهما من موالي كسرىٰ فأهداهما كسرى إلى أبي الخير بن عمر الكندي أحد أقيال اليمن ، وأشار إلى ذلك أبو بكر بن دريد في مقصورته المعروفة ، فقال :

فخامرت نفس أبي الخير جوىٰ

حتّى حواه الحتف فيمن قد حوىٰ

وشرح حاله في الشروح الدريديّة وغيرها ، وفي شرح الدريديّة(١) : وكان من حديثه مسيره إلى كسرى يستجيشه على قومه فأعطاه جيشاً من الأساورة فلمّا صاروا بكاظمة ونظروا إلى وحشة بلاد العرب ، فقالوا : أين نمضي مع هذا ، فعمدوا إلى سمّ فدفعوه إلى طبّاخه ووعدوه بالإحسان إليه(٢) إن ألقى السمّ في طعام الملك ، ففعل ذلك ، فما استقرّ الطعام في جوفه حتّى اشتدّ وجعه ، فلمّا علم الأساورة ذلك دخلوا عليه فقالوا له : إنّك قد بلغت إلى هذه الحالة فاكتب لنا إلى الملك كسرى إنّك قد أذنت لنا في الرجوع ، فكتب لهم بذلك

ثمّ إنّ أبا الجبر خفّ ما به فخرج إلى الطائف البليدة التي بالقرب من مكّة وكان بها الحارث بن كلدة طبيب العرب الثقفي ، فعالجه فأبرأه فأعطاه سميّة ـ بضمّ العين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء المثنّاة من تحتها وفي آخره هاء ـ وعبيداً ـ بضمّ العين المهملة تصغير عبد ـ وكان كسرى قد أعطاهما أبا الجبر في جملة ما أعطاه(٣) وهذا يوافق ما نقله ابن عبد ربّه وابن خلّكان

_________________

(١) فيها : إنّه أبو الجبر ولم يذكر سميّة ولا عبيداً [ الخطيب التبريزي ، شرح مقصورة ابن دريد ، ص ٥٩ ] ( المترجم )

(٢) إلى هنا أخذناه من هامش الخطيب : ٥٩

(٣) ابن خلّكان ، وفيات الأعيان ٦ : ٣٥٦

٣١٦

ويقول ابن الأثير في الكامل وابن خلدون في العبر : أنّ سميّة جارية لدهقان من أهل زنده رود ، أهداها للحارث بن كلدة لمّا عالجه ، والطريق الأوّل أتقن وأمتن

وخلاصة القول : إنّ سميّة ولدت نافعاً على فراش الحارث ولكنّه نفاه ، ثمّ ولدت أبابكرة الصحابي المعروف على فراشه ، فنفاه أيضاً ولم يعترف به ، وأعطى سميّة لعبيد ، وهؤلاء الثلاثة : زياد ونافع وأبوبكرة أولاد سميّة ومعهم شبل بن معبد الذين شهدوا على المغيرة لعنه الله بالزنا عند عمر بن الخطّاب ، وتلكّأ زياد بشهادته بتلويح من عمر ، فدرأ عن المغيرة الحدّ وأقامه على الشهود ، وهي من أشدّ المطاعن على عمر ، كما هو مذكور بالتفصيل في الأسفار الكلاميّة

وقال في العقد الفريد : كان الزانيات من النساء في الجاهليّة ينصبن على بيوتهنّ رايات ليعرفن بذلك ويقصدهنّ الشباب ، وكان بغاة النفع من الناس يرسلون جواريهم في هذا السبيل كرهاً ليجمعن لهم الحطام الفاني والعرض الزائل وينالوا بذلك الحياة الدنيا ، وقد أشار الله تعالى في محكم كتابه المجيد بقوله :( وَلَا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ
) (١) يريد في الجاهليّة( فَإِنَّ اللَّـهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) يريد في الإسلام

وفي مروج الذهب : وكانت سميّة من ذوات الرايات بالطائف تؤدّي الضريبة إلى الحارث بن كلدة وكانت تنزل بالموضع الذي نزل فيه البغايا بالطائف خارجاً عن الحضر في محلّة يقال لها : حارّة البغايا .

وجاء أبو سفيان يوماً إلى أبي مريم السلولي وهو خمّار في الطائف في الجاهليّة ، فقال : أبغني بغيّاً ، فأتيته وقلت له : لم أجد إلّا جارية الحارث بن كلدة سميّة فقال : ائتني بها على ذفرها وقذرها ( يظهر من قول أبي سفيان هذا أنّه

_________________

(١) النور : ٣٣

٣١٧

وطأها قبل هذا اليوم ) ( الى أن قال ) والله لقد أخذ بدرعها وأغلقت الباب عليهما وقعدت دهشاناً ، فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت : مه يا أبا سفيان ، فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم لو لا استرخاء من ثديها وذفر من فيها(١)

وولدت سميّة زياداً عام أوّل من الهجرة على فراش عبيد الله ، فكان يعرف بزياد بن عُبيد وابن اُمّه وابن أبيه وابن سميّة ، ولمّا بلغ أشدّه استكتبه أبو موسى الأشعري فأرسله عمر في حاجة فأحسن القيام بها فقدم على عمر وهو في المسجد ، فخطب بين يديه خطبة أعجب بها الحاضرون ، فقال عمرو بن العاص : لو كان قرشيّاً لساق العرب بعصاه ،

فقال أبو سفيان : اُقسم بالله أنّي أعرف الذي وضعه في رحم اُمّه

فقيل له : من يا تُرى ؟

فقال : أنا هو !

ولمّا استخلف أمير المؤمنين ، كان زياد معروفاً بالنزاهة ولم يظهر منه خلاف وكان إدرايّاً سياسيّاً حازماً ذا فطنة وكياسة ، من ثمّ عهد إليه أمير المؤمنين بإدارة حدود فارس(٢) ، وأراد معاوية خديعته فما تأتّىٰ ذلك له ، وكتب إليه يوماً يتهدّده ، فقال عقيب ذلك : « أتعجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق يخوّفني بقصده إيّاي » ، وأثنى على أمير المؤمنينعليه‌السلام ثناءاً بليغاً فأرسل إليه أمير المؤمنين رسالة يحذّره من مكر معاوية ويأمره بالثبات على عهده إلى أن استشهد أمير المؤمنين وانقضت أيّامه عند ذلك فتح معاوية أحابيله عليه ، واستعان عليه بخبث فطرته

_________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١٥ و ١٦ بتصرّف من المؤلّف ( المترجم ) و ٣ : ٦ ط دار الهجرة ( هامش الأصل )

(٢) لم يعهد إليه الإمام بذلك إنّما كان بفعل ابن عبّاس لأنّه والي البصرة يومئذٍ وفارس من توابعها ( المترجم )

٣١٨

ودنائة مولده وأوكل أمر جذبه نحوه إلى المغيرة بن شعبة وهو يومئذٍ رأس النفاق ومعدن النصب فانطلّت الحيلة على زياد واستلحقه معاوية وصيّره أخاه واعترف زياد حبّاً في الدنيا وميلاً إلى جاهها بخباثة مولده ورضي باُخوّة معاوية وأبوة أبي سفيان وعند ذلك أقسم أبوبكرة أن لا يكلّمه لأنّه زنىّ سميّة وقدح في نسبه(١)

ولمّا استقرّ رأيهما على ذلك أرسلت إليه جويريّة بنت أبي سفيان عن أمر أخيها معاوية ، فأتاها فأذنت له وكشفت عن شعرها بين يديه وقالت : أنت أخي ، أخبرني بذلك أبو مريم ثمّ أخرجه معاوية إلى المسجد وجمع الناس ، فقام أبو مريم السلولي ، فقال : أشهد أنّ أبا سفيان قدم علينا بالطائف وأنا خمّار في الجاهليّة ، فقال : أبغني بغيّاً ، فأتيته وقلت له : لم أجد إلّا جارية الحارث بن كلدة سميّة ، فقال : إأتني بها على ذفرها(٢) وقذرها

فقال له زياد : مهلاً يا أبا مريم ، إنّما بعثت شاهداً ولم تبعث شائماً ، فقال أبو مريم : لو كنتم كفيتموني لكان أحبّ إليّ وإنّما شهدت بما عاينت ورأيت ، والله لقد أخذ بكُمِّ درعها وأغلقت الباب عليهما وقعدت دهشاناً ، فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت : مه ، يا أبا سفيان ، فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم ، لولا استرخاء من ثديها وذفر من فيها(٣)

وفي رواية الكامل : فخرجت من عنده وإنّ اسكتيها لتقطر منيّاً(٤)

_________________

(١) كان صرم أبي بكرة له قبل هذا التاريخ أي عندما تلجلج في الشهادة وكان أحد الشهود على المغيرة فأقسم أبوبكرة لا يكلّمه مادام حيّاً ( المترجم )

(٢) الذفر : الرائحة الخبيثة

(٣) المسعودي ٣ : ١٦ ط دار الكتب العلميّة لبنان ـ ١٤١١ ( المترجم )

(٤) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٠١ ( المترجم )

٣١٩

ولولا أنّ ذلك في فضائح أعداء أهل البيت لما ذكرت هذه الجملة ، ولكنّها في فضائهم وأنا مترجمها أيضاً

ويقال : إنّ المتنبّي قال في حقّها :

أقم المسالح حول شفر سميّة

إنّ المنيّ بحلقتيها خضرم

وخلاصة الحديث : إنّ معاوية بهذه الشهادة صيّر زياداً أخاه ، وقام يونس بن عبيد فقال : يا معاوية ، قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر وقضيت أنت أنّ الولد للعاهر وأنّ الحجر للفراش مخالفة لكتاب الله تعالى وانصرافاً عن سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان(١)

والحقّ أنّ هذا العار لا يمحوه الماء وهو طعن لا تجد له جواباً بأيّ كتاب ، وكان الفضل بن روزبهان التزم بالجواب على مطاعن معاوية في ردّه على نهج الحقّ وحين يبلغ الحديث إلى هذا الحدّ يقول : لم يكن معاوية بالخليفة الشرعي فلا يلزمنا الجواب عن كلّ مطاعنه وهذه الحكاية مذكورة في جميع كتب أهل السنّة والجماعة ، ولم يردّها أحد منهم ، وذكرها الشعراء في تلك الفترة وطعنوا بها على معاوية وزياد منهم عبدالرحمن بن الحكم أخو مروان لعنه الله :

ألا أبلغ معاوية بن حربٍ

مغلغلة من الرجل اليماني(٢)

أتغضب أن يقال أبوك عفّ

وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد أنّها حملت زياداً

وصخر من سميّة غير دان

_________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٧ ( المترجم ) والكامل لابن الأثير ٣ : ٤٤٢ ط بيروت ( هامش الأصل )

(٢) كذا في مروج الذهب وفي شرح النهج والوفيات فقد ضاقت بما تأتي اليدان وهو أثبت على هذه الرواية وقيل أنّها ليزيد بن المفرغ فيصحّ ما ذكرناه في المتن ( منهرحمه‌الله )

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392