المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر0%

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 392

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 392
المشاهدات: 90857
تحميل: 8871

توضيحات:

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90857 / تحميل: 8871
الحجم الحجم الحجم
المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مشكوك الحرمة، فلا ينطبق عليه عنوان المشكوك الذي أخذ في موضوع العام.

نعم، لو قام دليل خاصّ على حلّية الشرب المقيّد ولم يكن قد أخذ في موضوعه الشكّ أخذ به في المقام بلا محذور، إلاّ أنّه ليس هناك مثل هذا الدليل الخاصّ.

فإن قلت : إنّ التقييد بترك الآخر يؤخذ في طول الشكّ، بمعنى أنّ طبيعيّ الشرب المشكوك الحرمة يقيّد بترك الآخر، فتقييد طبيعيّ الشرب بحال ترك الآخر يكون في طول فرض مشكوكيّته وتقيّده بالشكّ، فلا يعقل أن يكون التقييد المأخوذ في طول مشكوكية المائع مؤثّراً في رفع مشكوكيّته.

قلت : إنّ التقييد بترك الآخر وإن كان في طول التقيّد بالشكّ فرضاً، إلاّ أنّ هذا الشكّ المأخوذ والثابت للشرب في المرتبة السابقة على تقييده بترك الآخر إنّما يوجب كون متعلّقه بما هو - أي الطبيعي - مصداقاً لموضوع أدلة البراءة والحلّية، والمفروض أنّ الموضوع الذي يراد إثبات حلّيته ليس هو الطبيعيّ المتعلّق به الشكّ في الحرمة، بل هو بعد تقييده بحال ترك الآخر، فنحتاج في شمول دليل الحلّية إلى شكٍّ آخر يكون متعلّقاً بالمشكوك بعد تقييده بهذا القيد، ومن المعلوم أنّ المشكوك المقيّد بترك الآخر ليس محتمل الحرمة واقعاً بما أنّه مقيّد بهذا القيد.

والحاصل : أنّ كلّ شكٍّ إنّما يصحّ ثبوت الحلّية بالإضافة إلى متعلّقه، لا بالإضافة إلى متعلّقه بعد أن يقيَّد بقيدٍ يخرجه عن كونه مشكوكاً، فالشكّ في ثبوت الحرمة لطبيعيّ الشرب واقعاً يصحّح شمول دليل أصالة الحلِّ لهذا الطبيعي، لا لَه بعد تقييده بترك الآخر، إذ أنّه بما هو مقيَّد ليس بمشكوك الحرمة، فتدبّره فإنّه دقيق.

فإن قلت : إنّنا نختار كون نفس الحلّية مقيَّدةً بترك الآخر، وموضوعها

٣٢١

حينئذٍ وإن كان قهراً يتقيّد بترك الآخر - لاستحالة تعلّق الحلّية المقيّدة بترك الآخر بالشرب المطلق غير المقيّد - إلاّ أنّ هذا التقييد في الموضوع الناشئ من جهة الحكم وتقيّده، والموجب لخروج الموضوع عن المشكوكية لا ينافي مشكوكيته في مرتبة موضوعيّته التي هي المرتبة السابقة على لحوق الحلّية له.

وبعبارةٍ أخرى : أنّ الموضوع لا بدّ أن يكون مشكوكاً في نفسه مع قطع النظر عن الحلّية الثابتة له، وما تستلزمه من تقيّده بصورة ترك الآخر.

قلت : إنّ تقييد الحكم بظرف ترك الآخر ليس سبباً في مقام الواقع والجعل لتقيّد الموضوع، بحيث إنّ تقيّد الموضوع ينشأ حقيقةً من تقيّد الحكم حتى يقال : إنّ ما ينشأ من قبل الحكم لا يضرّ بموضوعية الموضوع، بل هو كاشف عن تقيّد الموضوع في المرتبة السابقة واستحالة إطلاقه في هذه المرتبة.

فإن قلت : على هذا كيف تجري أصالة البراءة أو الحلّية في الشبهات الموضوعية البدوية ؟ كما إذا احتمل خمريّة مائع مع أنّه لا يحتمل حرمة هذا المائع بخصوصه.

قلت : إنّما تجري البراءة عنه لا بما أنّه مائع خاصّ، بل بما أنّه مائع منسوب إلى طبيعته التي يحتمل أن تكون هي الخمر، وأن تكون هي الخلّ، وهذا في المقام غير ممكن ؛ لأنّ معناه إثبات الحلية لطبيعيّ الفعل، فإنّ الحكم بالحلّية إذا تعلّق بالشرب المقارن لترك الآخر لا بما أنّه شرب خاصّ بل بما أنّه مضاف إلى طبيعيِّه معناه حلّية الطبيعي.

نعم، لو كانت القضية الحينية معقولةً لأمكن الالتزام بتعلّق الحلّية بذات الشرب المقارن لترك الآخر، بحيث لا يكون ترك الآخر ولا التقيّد به دخيلاً في موضوعها، إلاّ أنّ المفروض امتناعها، كما عرفت.

وبالجملة : الحلّية الظاهرية المجعولة في كلّ طرفٍ إمّا أن يكون موضوعها

٣٢٢

الشرب المقيّد بترك الآخر، أو الشرب المطلق، ولا واسطة بين المطلق والمقيّد، وكلاهما غير صحيح.

أمّاالأوّل فلأنّ الشرب المقيّد بما أنّه مقيّد غير محتمل الحرمة حتى يشمله دليل أصالة الحلِّ.

وأمّاالثاني فلأنّ الحلّية المتعلّقة بالشرب المطلق لا يمكن أن تكون بنفسها مطلقةً أيضاً ؛ لأنّه خلاف دعوى التخيير في جريان الأصول، ولا يمكن أن تكون مقيّدةً ؛ لأنّ الحكم المقيّد بظرفٍ لا يمكن أن يتعلّق بما هو مطلق من حيث ذلك الظرف.

وممّا ذكرناه ظهر الكلام في موارد العلم الإجمالي بالوجوب أيضاً، فإنّه لا يمكن أيضاً إثبات رفع كلٍّ من الوجوبين على تقدير فعل الآخر بحديث الرفع ؛ لأنّ المرفوع : إمّا الإلزام المقيّد بترك الآخر، أو طبيعي الإلزام بسائر حصصه، وكلاهما ممتنع.

أمّاالأوّل فلأنّ الإلزام المشروط لا يحتمله المكلّف في أيٍّ من الطرفين ليرفع بحديث الرفع.

وأمّاالثاني فلأنّ الإلزام المطلق لا يمكن رفعه لا بالرفع المطلق ولا بالرفع المقيّد بترك الآخر.

أمّا الرفع المطلق فلأنّه خلاف شبهة التخيير، وأمّا الرفع المقيَّد بظرف ترك الآخر فيمتنع أن يتعلّق بالإلزام المطلق الشامل للحصّة الثابتة منه في غير ظرف الرفع، إذ أنّ هذه الحصّة غير قابلةٍ للوضع في ظرف ترك الآخر لترفع في هذا الظرف، وإذن فلا أساس لشبهة التخيير أصلاً، فافهم واغتنم.

هذا تمام الكلام في جريان الأصول النافية في أطراف العلم الإجمالي تعييناً أو تخييراً.

٣٢٣

جريان الأصول المثبتة مع العلم بالترخيص

وأمّا جريان الأصول المثبتة في تمام الأطراف مع العلم بعدم التكليف في بعضها فسوف يأتي تحقيقه في مباحث الاستصحاب في الجزء التاسع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، إذ جهة البحث فيه ليس عن مانعية المقدار المنجّز بالعلم الإجمالي بالتكليف عن جريانها، بل عن مانعية العدم والترخيص المعلوم بالإجمال عن ذلك، وسوف تعرف أنّ التحقيق جريان الأصول المثبتة غير التنزيلية في تمام الأطراف، وكذلك التنزيلية على تفصيلٍ فيها - على مقتضى مبانيهم - بين بعض الموارد وبعض.

وبهذا انتهى الكلام في أصل المسألة، وتحقّق بما لا مزيد عليه أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون علّةً لحرمة المخالفة القطعية فقط، ولا يوجب وجوب الموافقة القطعية، لا بنحو العلّية ولا بنحو الاقتضاء، لا بلا واسطةٍ ولا بواسطة إيجابه لتعارض الأصول ؛ لما عرفت من عدم إيجابه لتعارض الأصول في الأطراف.وعلى هذا ينسدّ الكلام في أكثر التنبيهات الآتية، إلاّ أنّنا سوف نتكلّم في التنبيهات جرياً على مبانيهم ؛ ليتحقّق مجال للبحث فيها.

٣٢٤

مباحث الاشتغال ٣

تنبيهات

العلم الإجمالي

جريان الأصول الطوليّة بعد تساقط العرضيّة.

فرضيّة الترتّب بين طرفي العلم الإجمالي.

تعلّق العلم الإجمالي بجزء الموضوع.

٣٢٥

٣٢٦

جريان الأصول الطوليّة بعد تساقط العرضيّة

التنبيه الأوّل : في جريان الأصول الطولية بعد تساقط الأصول العَرْضية في أطراف العلم الإجمالي.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ الأصل الطولي هل سيسقط بالمعارضة مع الأصل المعارض للحاكم، أو يجري بعد سقوط الحاكم مع معارضه ؟

وقد أفاد سيّدنا الأستاذ(١) - دامت بركاته - في المقام : أنّ الأصلين العرضيّين إمّا أن يكونا من سنخٍ واحد، أو من سنخين.

فعلى الأوّل : يجري الأصل الطولي، كما إذا علم بنجاسة ماءٍ أو ثوبٍ، فإنّ أصالة الإباحة في الماء تجري بعد تساقط أصالتي الطهارة، ولا تكون طرفاً للمعارضة مع أصالة الطهارة في الثوب، للعلم بتخصيص دليل أصالة الطهارة بأحد الطرفين، لاستحالة شموله لكلّ منهما، وهو موجب لإجماله، بخلاف دليل أصالة الإباحة، فإنّه لا يعلم بتخصيص فيها، ولا يعارضها دليل أصالة الطهارة بشموله للثوب، لأنّ المفروض إجماله، والمجمل لا يعارض غيره.

وعلى الثاني : فإمّا أن لا يكون في بعض الأطراف أصل مثبت في طول

____________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٣٥٦ - ٣٦٠.

٣٢٧

الأصل النافي، أو يكون :

ففي الصورة الأولى : كما إذا علم إجمالاً بنجاسة ماءٍ أو بولية مائعٍ يكون أصالة الطهارة في مشكوك البولية معارضاً لكلٍّ من الأصل الحاكم في الماء الذي هو استصحاب الطهارة، والأصل المحكوم الذي هو أصالة الطهارة، فالأصل الطولي في هذا الصورة لا يجري، بل يسقط بالمعارضة؛ لانّ اقتضاءه وإن كان فرع عدم فعلية الأصل الحاكم وسقوطه بالمعارضة إلاّ أنّ قانون اقتضاءه وإن كان فرع عدم فعلية الأصل الحاكم وسقوطه بالمعارضة إلاّ أنّ قانون العلّية يقتضي الاجتماع في الزمان، فاقتضاء الأصل الطولي في عرض اقتضاء الأصل الحاكم، واقتضاء الأصل المعارض له زماناً، فيكون هناك اقتضاءات ثلاثة مجتمعة في الوجود، وتسقط كلّها بالمعارضة.

وأمّا في الصورة الثانية - أي فيما إذا كان هناك أصل طولي في أحد الطرفين مثبت للتكليف-: يجري الأصل الطولي المثبت ؛ لانحلال العلم الإجمالي به، كما إذا علم إجمالاً بزيادة ركعةٍ في صلاةٍ أو نقصانها في صلاةٍ أخرى، فإنّه بعد تعارض قاعدتي الفراغ في الصلاتين يجري استصحاب عدم الزيادة في الأولى، واستصحاب عدم الإتيان بالرابعة في الأخرى.

هذا ملخَّص ما أفاده - دام ظلّه العالي - في المقام.

جهات في النظر :

وهنا جهات من الكلام خطرت في النظر القاصر :

الجهة الأولى : أنّه - بعد البناء على أنّ مجرّد طولية الأصل وترتّبه على عدم الأصل الحاكم لا يوجب عدم سقوطه بالمعارضة مع الأصل الجاري في الطرف الآخر - لم يتّضح الفرق بين أن يكون في الطرف الآخر أصل مثبت للتكليف في طول الأصل النافي، أوْ لا.

فالحكم - فيما إذا كان في أحد الطرفين أصل طولي مثبت، وفي الآخر أصل

٣٢٨

طولي نافٍ - بانحلال العلم الإجمالي بجريان هذين الأصلين بعد تساقط الأصلين العرضيّين غير واضحٍ، بل كما يكون الأصل الطولي النافي معارضاً للأصل في الطرف الآخر - فيما إذا كان الأصلان العرضيان غير متسانخين، ولم يكن هناك أصل طولي مثبت في الطرف الآخر - كذلك يعارضه فيما إذا كان هناك أصل طولي مثبتٍ في الطرف الآخر.

وتوضيح ذلك بذكر مثالٍ للمطلب، فنقول : إنّه لو علم إجمالاً بعد صلاة الصبح والظهر إمّا بأنّ الطهارة الحدثية التي كانت ثابتةً له قبل صلاة الصبح قد ارتفعت حال صلاة الصبح، وإمّا بنقصان ركعةٍ من صلاة الظهر(١) ، فإنّ كلاًّ من الطرفين في نفسه مجرىً لقاعدة الفراغ، وقاعدة الفراغ المصحِّحة لصلاة الظهر كما تعارض قاعدة الفراغ المصحِّحة للصبح كذلك تعارض استصحاب الطهارة في الصبح، وملاك هذه المعارضة هو التكاذب الحاصل بين إطلاقَي الدليلين، فإنّه كما يعلم بعدم جريان قاعدة الفراغ في كلتا الصلاتين كذلك يعلم بعدم جريان كلا الأمرين : من قاعدة الفراغ في صلاة الظهر، واستصحاب الطهارة في الصبح ؛ لأنّ جريانهما معاً مستلزم للمخالفة القطعية، وإذن فيعلم بكذب أحد الدليلين، وحينئذٍ فكلّ من دليل الاستصحاب المصحِّح للصبح ودليل قاعدة الفراغ المصحِّحة للظهر يكون مكذِّباً للآخر بدلالته الالتزامية، كما هو الحال في كلّ دليلين علم إجمالاً بكذب أحد مدلوليهما فلا محالة لا يجري استصحاب الطهارة في صلاة الصبح، كما لا تجري قاعدة الفراغ فيها ؛ لسقوطهما معاً بالمعارضة مع قاعدة الفراغ في صلاة الظهر.

____________________

(١) وإن كان المثال لا يخلو عن مسامحة، إذ فرضنا الأصلين العرضيّين من سنخٍ واحد ؛ وذلك لأجل توضيح المطلب، وإلاّ فيمكن تصوير أنّهما من سنخين، كما لا يخفى.( المؤلّف قدس‌سره ).

٣٢٩

ومجرّد أنّ هناك أصل طولي في صلاة الظهر يثبت التكليف لا يوجب عدم وقوع المعارضة بين قاعدة الفراغ في صلاة الظهر مع كلٍّ من الأصل العرضي والطولي في الطرف الآخر، بعد وجود التكاذب الموجب لوقوع التعارض بين الدليلين.

ولا يتوهّم أنّ قاعدة الفراغ في صلاة الظهر والاستصحاب في الصبح أصلان ومثبتاتهما ليست بحجّة، فكيف ينفي كلّ منهما الآخر بالالتزام الموجب للتكاذب بينهما، وذلك لأنّ دليل كل منهما دليل اجتهادي، وهو دال بالالتزام - لا محالة - على نفي ما ينافي مدلوله وإن كان نفس المجعول أصلاً.

وإن شئت قرَّبت التعارض بينهما : بأنّ الجمع بينهما مخالفة قطعية، وترجيح كلٍّ منهما بلا مرجّح، كما أنّ ترجيح كلٍّ من قاعدتي الفراغ على الأخرى بلا مرجّح.

والمتحصّل : أنّ انحلال العلم الإجمالي بالأصل الطولي المثبت في طرفٍ والأصل الطولي النافي في طرفٍ آخر غير واضح.

لا يقال : غاية ذلك الانتهاء إلى البراءة العقلية بعد سقوط الأصول النافية كلّها بالمعارضة مع الأصل العرضي في الطرف الآخر، فإنّه لو فرض في طرفٍ أصلٌ نافٍ وفي طوله أصل مثبت، وفي الطرف الآخر أصل نافٍ وفي طوله أصل نافٍ سقط هذان الأصلان النافيان بالمعارضة مع الأصل النافي في الطرف الآخر، ويجري الأصل الطولي المثبت في الطرف الآخر وينحلّ به العلم الإجمالي، ونرجع في ذلك الطرف الذي كان فيه أصلان نافيان سقطا بالمعارضة إلى البراءة العقلية.

لأنّه يقال : إنّ هذا لا يتمّ في ما ذكرناه من المثال ونحوه ؛ لوضوح أنّ قاعدة الفراغ واستصحاب الطهارة بالإضافة إلى صلاة الصبح إنْ سقطا بالمعارضة بقاعدة

٣٣٠

الفراغ في الظهر كان المرجع فيه أصالة الاشتغال ؛ للشكّ في وجود الشرط، لا البراءة العقلية.

ثمّ إنّ إشكالاً آخر هناك في انحلال العلم الإجمالي بالأصول الطولية التي يكون بعضها مثبتاً وبعضها نافياً، وهو ما أشار إليه في الفوائد(١) من أنّه يلزم من وجودها عدمها، سوف نتعرّض له مع دفعه في تنبيه الانحلال إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية : أنّ مقتضى ما أفيد في مقام تقريب جريان الأصل الطولي فيما إذا كان الأصلان متسانخين، من إجمال دليل هذين الأصلين المتسانخين، باعتبار أنّه دليل واحد، وقد علم فيه بالتخصيص إجمالاً دون دليل الأصل الطولي، أنّه إذا علم المكلّف ببولية المائع الأصفر، أو المائع الأبيض، وعلم ببولية المائع الأبيض أو نجاسة ماءٍ، بحيث تكون بولية الأبيض طرفاً لعلمين إجماليّين فبما أنّ المائعين مجرىً لأصالة الطهارة في نفسيهما، ويعلم بتخصيص دليل الأصل وخروج أحدهما منه فيكون مجملاً، وأمّا الماء فيكون مشمولاً لدليل الاستصحاب لأجل العلم بطهارته سابقاً، ولا يعارضه أصالة الطهارة في المائع الأبيض، إذ المفروض إجمال دليلها.

ولكنّا نقول : إنّ الأصلين العَرْضِيّين إن كان متسانخين بأن كان كلّ منهما أصل الطهارة - مثلاً - فتخصيص دليل أصالة الطهارة وإن كان معلوماً بالإجمال إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي - بتخصيص الدليل وخروج أحد الطرفين عنه الموجب لعدم جريان الأصل في كلٍّ من الطرفين - لا يكون سبباً لإجمال دليل الأصل بمعنى سقوط ظهوره، وإنّما يوجب إجماله الحكمي بمعنى سقوط حجّيته ؛ وذلك لأنّ

____________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٤٦.

٣٣١

المخصّص في المقام مخصّص منفصل، وهو برهان منجّزية العلم الإجمالي، فإنّ هذا البرهان هو الموجب لخروج أحد الطرفين عن عموم الدليل ؛ لاستحالة شموله لكلا الطرفين، وهذا البرهان مخصّص لبّيّ منفصل، إذ ليس من الوضوح بحيث يُعَد متّصلاً أو المتّصل حتى يوجب سقوط الظهور رأساً.

ومن المعلوم أنّ المخصّص المجمل الدائر بين المتباينين إن كان منفصلاً فلا يوجب سقوط العام عن الظهور، بل عن الحجّية، وحينئذٍ فظهور دليل أصالة الطهارة في كلٍّ من الطرفين موجود في نفسه، وكما يكون ظهوره بالإضافة إلى طرفٍ منافياً لظهوره بالإضافة إلى طرفٍ آخر كذلك ينافي ظهور دليل الأصل الآخر، فمثلاً : فيما إذا علم بنجاسة ثوبٍ أو مائعٍ يكون إطلاق دليل أصالة الطهارة للثوب منافياً لإطلاقه للمائع ولإطلاق دليل أصالة الحلّية للمائع أيضاً، والإجمال الحكمي لدليل أصالة الطهارة لا يوجب عدم وقوع أصالة الطهارة في الثوب معارضاً لإطلاق دليل أصالة الحلّية للمائع.

والحاصل : أنّ في المقام ظهوراتٍ ثلاثة :

أحدها : ظهور دليل أصالة الطهارة في الشمول للثوب.

وثانيها : ظهوره في الشمول للمائع.

وثالثها : ظهور دليل أصالة الحلّية في الشمول للمائع.

وهذه الظهورات ثابتة في نفسها، فيقع الظهور الأوّل طرفاً للمعارضة مع الظهورين الآخرين، وعلى هذا فلا فرق بين ما إذا كان الأصلان من سنخٍ واحدٍ أو من سنخين.

الجهة الثالثة : أنّه قد يتوهّم بناءً على ما أفيد - من أنّ الأصلين العَرْضِيين إذا كانا متسانخين فيجري الأصل الطولي لإجمال دليلهما دون دليله - أنّ لازم ذلك جريان الأصل العرضي الحاكم دون الطولي المحكوم في بعض الموارد ،

٣٣٢

كما إذا علم بنجاسة ماءٍ أو بولية مائعٍ فإنّ الماء في نفسه مجرىً لاستصحاب الطهارة ثمّ لأصالة الطهارة، والمائع مجرىً لأصالة الطهارة فقط، ومعنى هذا أنّ دليل أصالة الطهارة يبتلي بالإجمال ؛ لأنّه شامل في نفسه لكلٍّ من الطرفين ويعلم بتخصيصه بالإضافة إلى أحدهما، وحينئذٍ يجري الاستصحاب في الماء، ولا يعارضه دليل أصالة الطهارة بإطلاقه للمائع ؛ لأنّ المفروض إجماله.

والحاصل : بعد فرض أنّ الأصل الطولي يتمّ اقتضاؤه في ظرف معارضة الأصلين العَرْضِيّين وزمانها ففي الفرض المزبور يكون اقتضاء دليل أصالة الطهارة للشمول للماء تاماً في عرض معارضة استصحاب طهارته مع أصالة الطهارة في المائع زماناً، فكما يكون العلم الإجمالي بتخصيص دليل الأصلين العرضيّين موجباً لإجماله والرجوع إلى الأصل الطولي الثابت بدليلٍ آخر كذلك يكون العلم الإجمالي بتخصيص دليل أصالة الطهارة في المثال موجباً لإجماله وجريان الاستصحاب في الماء بلا معارض.

ولكنّ هذا التوهم مندفع : بأنّ مدلول أصالة الطهارة في الماء يكون تام الاقتضاء وفعلياً في فرض سقوط الاستصحاب، والكاذب في دليل أصالة الطهارة في المثال فرع فعلية المدلولين في نفسيهما، وعليه فالتكاذب في دليل أصالة الطهارة فرع سقوط الاستصحاب فلا يعقل أن يكون موجباً لجريان الاستصحاب.

والحاصل : أنّنا وإن كنّا ندّعي أنّ أصالة الطهارة في الماء تعارض في عرض معارضة الحاكم إلاّ أنّ هذا لا ينافي كون فرض معارضتها للأصل في الطرف الآخر هو فرض سقوط الاستصحاب وإجمال دليله، فكيف يكون إجمال دليل أصالة الطهارة في الطرفين المعلول لإجمال دليل الاستصحاب وسقوطه، سبباً في عدم إجماله وجريان الاستصحاب ؟ !

٣٣٣

وبتعبيرٍ آخر : أنّه لو كان استصحاب الطهارة في الماء جارياً لَمَا حصل إجمال وتكاذب في دليل أصالة الطهارة ؛ لأنّ التكاذب فيه فرع شموله لكلٍّ من الطرفين في نفسه، ومع جريان الاستصحاب في الماء لا يكون دليل أصالة الطهارة شاملاً في نفسه للماء حتّى يحصل فيه التكاذب والإجمال، وإذن فإجماله فرع سقوط الاستصحاب، فلا يكون منشأً لجريانه.

ولا يخفى عليك أنّا قد نقلنا جواباً في مقام دفع شبهة التخيير في جريان الأصول في أطراف العلم،حاصله : أنّ المحذور إنّما هو في الترخيص القطعي في مخالفة الواقع، لا الترخيص في المخالفة القطعية، وقد ذكرنا عند التكلّم حول شبهة التخيير الفرق بين الأمرين، وذكرنا : أنّ المحذور إمّا أن يكون في الترخيص القطعي الفعلي في مخالفة الواقع، وإمّا أن يكون في الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ولو مشروطاً.

وعلىالأوّل نقضنا بما إذا كان للعلم الإجمالي أطراف ثلاثة فإنّ إعمال الأصول فيها بنحوٍ من أنحاء التخيير لا يؤدِّي إلى الترخيص الفعلي القطعي في مخالفة الواقع، فراجع.

وأمّا علىالثاني ، بمعنى أنّ الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ولو مشروطاً بشرطٍ لا يتحقّق أصلاً، محال، بحيث يكون الترخيص في أحد طرفي العلم الإجمالي، على تقدير نزول المطر، والترخيص في الطرف الآخر على تقدير عدم نزوله - مثلاً - محالاً أيضاً، مع استحالة اجتماع الترخيصين في الفعلية، فالشبهة المزبورة - أي جريان الأصل الحاكم في ما ذكرناه من المثال، وهو ما إذا علم إجمالاً ببولية مائعٍ أو نجاسة ماءٍ - ممّا لا محيص عنها.

وبيانه : أنّ دليل أصالة الطهارة بالإضافة إلى الماء له دلالتان :

إحداهما : دلالته على ثبوت الطهارة الفعلية الظاهرية للماء، وهذه الدلالة

٣٣٤

متوقّفة على سقوط الاستصحاب ؛ لأنّها فرع الشكّ في الطهارة، وإذا جرى الاستصحاب لا يبقى شكّ في طهارته، ففعلية هذه الدلالة متوقّفة على سقوط الاستصحاب.

والأخرى : دلالته على الطهارة الظاهرية المشروطة بسقوط الاستصحاب وعدمه، المحقق لعنوان الشكّ، فإنّ الدليل المزبور له مثل هذه الدلالة أيضاً بمعنى أنّه يدلّ على طهارة كلِّ شيءٍ على تقدير تحقّق موضوعه، وهو الشكّ المساوق لعدم وجود الاستصحاب الحاكم للشكّ، ككلّ دليلٍ يتكفّل ثبوت حكمٍ على تقديرٍ، فإنّه يدلّ على فعلية الحكم عند ثبوت ذاك التقدير، وهذه الدلالة الثانية على الطهارة المشروطة ليست متوقّفةً على سقوط الاستصحاب، بل سواء جرى أوْ لا، يكون دليل أصالة الطهارة دالاً على الطهارة الظاهرية للماء على تقدير سقوط الاستصحاب فيه.كما أنّ دلالة الدليل المزبور على طهارة الطرف الآخر غير مشروطةٍ بعدم جريان الاستصحاب في الماء.

وحينئذٍ فلنا دلالتان لدليل أصالة الطهارة، وكلاهما غير مشروطٍ بسقوط الاستصحاب في الماء:

الأولى : دلالته على الطهارة الفعلية للمائع.

والثانية : دلالته على طهارة الماء المقيّد بعدم جريان الاستصحاب فيه.

فلو أخذنا بهاتين الدلالتين كان مقتضاهما ثبوت الترخيص الفعلي في طرفٍ وهو المائع، والترخيص على تقديرٍ في طرفٍ آخر وهو الماء، والمفروض أنّ الترخيص في تمام الأطراف ولو مشروطاً بشرطٍ لا يتحقّق أصلاً غير معقول، فيحصل التكاذب بين الدلالتين المزبورتين والإجمال في دليلهما، وهذا الإجمال ليس مترتّباً على سقوط الاستصحاب ليمتنع أن يكون علّةً لجريانه، بل لا مانع حينئذٍ من جريان الاستصحاب أصلاً.

٣٣٥

والحاصل : أنّه إن قيل : إنّ الترخيص المشروط في أطراف العلم محال مطلقاً، ولو فرض أنّه سنخ ترخيصٍ أخذ بنحوٍ لا يصل إلى مرتبة الفعلية أصلاً ففي المقام يحصل التكاذب في دليل أصالة الطهارة، من دون أن يتوقّف ذلك على سقوط الاستصحاب بالفعل ؛ لأنّه يدلّ على الترخيص الفعلي في المائع والترخيص المشروط بعدم الأصل الحاكم في الماء، وهاتان الدلالتان لا يمكن الأخذ بهما ؛ لأنّ نتيجتهما ثبوت الترخيص في جميع أطراف العلم ولو مشروطاً، والمفروض أنّ الترخيص المشروط كذلك غير معقولٍ أيضاً وإن قيل بأنّ المحال إنّما هو في الترخيصات الفعلية في الأطراف.

وأمّا إذا كان أحدها مشروطاً - كما في المقام - فلا استحالة، فلا محيص عن شبهة التخيير ببعض الأنحاء فيما إذا كانت أطراف العلم ثلاثة، إذ يمكن إجراء الأصول بنحو التخيير هناك، بحيث ينتج ترخيصات مشروطة في الأطراف يمتنع فعليتها جميعاً.

الجهة الرابعة : في البحث عن أصل المطلب، أي سقوط الأصل الطولي بالمعارضة مع الأصل في الطرف الآخر، أو عدم سقوطه وجريانه بعد تساقط الحاكم مع الأصل الآخر.

والتحقيق فيه تبعاً له - دام ظلّه - وللمحقّق النائينيقدس‌سره السقوط، إلاّ أنّ ما أفيد في الفوائد(١) لتقريب ذلك - من : أنّ تعارض الأصول إنّما هو باعتبار مؤدّياتها، والمؤدّى في كلٍّ من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة المشكوك، والمفروض عدم إمكان جعل الطهارة في كلٍّ من الإناءين فكلٌّ من مؤدّى الاستصحاب والقاعدة يعارض مؤدّى القاعدة في الإناء الآخر

____________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٤٨.

٣٣٦

إلى آخره - مخدوش بما أفاده المحقّق العراقيقدس‌سره (١) :

أوّلاً : من إمكان جعل طهارتين طوليّتين بحيث [ تكون ] إحداهما مترتّبةً على عدم الأخرى، والمقام من هذا القبيل، فسقوط مؤدّى الاستصحاب - الذي هو الطهارة الأولى - لا يوجب سقوط الطهارة الطولية المجعولة في القاعدة.

وما أفاده ثانياً : من أنّه لو فرض أنّ المؤدّى سنخ واحد من الطهارة إلاّ أنّه من الممكن جعل ظهورين طوليّين على هذا المجعول بحيث بانعدام حجّية أحدهما تتحقّق حجّية الآخر فالمجعول الوحداني إنّما يسقط في المرتبة الأولى، بمعنى أنّه لا يثبت بالظهور الأوّل، فالساقط بالمعارضة إنّما هو حجّية الظهور الأوّل بلحاظ مدلوله، لا ذات المدلول من حيث هو، إذ لا وجه لسقوطه إلاّ بمقدار كاشفه، ولهذا كان المشهور عدم سقوط الأصل الطولي.

وتوجيهه بأحد أمور :

الأوّل : ما قد يتوهّم من : أنّ الأصل الطولي يكون في طول الأصل في الطرف الآخر باعتبار أنّه متأخّر عمّا هو في عرضه، والمتأخّر عن أحد المتساويين في المرتبة متأخّر عن الآخر.

ويندفع بما حقِّق في محلّه من : أنّ التأخّر الرتبي لشيءٍ عن شيءٍ بملاكٍ يقتضي تأخّره عنه، لا يوجب تأخّره عمّا يساويه في المرتبة إذا لم يكن ذلك الملاك حاصلاً له بالإضافة إلى الآخر.

الثاني : ما هو المشهور في مقام تقريب عدم السقوط من : أنّ الأصل الطولي وإن لم يكن في طول الأصل في الطرف الآخر إلاّ أنّ اقتضاء الدليل له

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٢١.

٣٣٧

موقوف على سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة، ومن المعلوم أنّه في المرتبة المتأخّرة عن سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة لا يبقى معارض للأصل الطولي ؛ لأنّ المفروض أنّ الحاكم قد سقط مع الأصل في الطرف الآخر في المرتبة السابقة.

وفيه : أنّ ما يتوقّف عليه اقتضاء دليل الأصل الطولي هو سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة، لا سقوط الأصل في الطرف الآخر بالمعارضة.

والحاصل : أنّ المعارضة تقتضي سقوطين، وما هو محقّق لاقتضاء الأصل الطولي منهما هو سقوط الحاكم، لا سقوط معارضه.

وحينئذٍ : فإمّا أن يُدَّعى أنّ السقوطين لمَّا كانا في عرضٍ واحدٍ فالأصل الطولي المتأخّر عن أحدهما متأخّر عن الآخر أيضاً، فلا يعقل أن يعارض الأصل في الطرف الآخر بعد تأخّره عن سقوطه وتوقّفه على اضمحلاله، ويرجع هذا إلى الوجه الأوّل، وقد عرفت جوابه.

وإمّا أن يُدَّعى أنّ الأصل الطولي وإن كان متوقّفاً في اقتضائه على سقوط الحاكم فقط إلاّ أنّ معنى ذلك أنّه لا بدّ من فرض معارضة الأصل في الطرف الآخر للحاكم في مرتبةٍ سابقةٍ على اقتضاء الأصل الطولي، إذ لو لا فرضها كذلك لَمَا كان هناك موجب لسقوط الحاكم، ولَمَا انتهت النوبة حينئذٍ إلى الأصل الطولي، وإذا فرضنا المعارضة كذلك بين الحاكم وبين الأصل في الطرف الآخر ففي ظرف تحقّق اقتضاء الأصل الطولي يكون الأصل في الطرف الآخر مفروض المعارضة والإجمال والسقوط، فكيف يعارض الأصل المزبور ؟ !

ففيه : أنّ اقتضاء الأصل الطولي محقّق في عرض اقتضاء الأصل الحاكم والأصل في الطرف الآخر زماناً، وإن كان في طول الأوّل رتبةً، إذ ظرف المعلول خارجاً هو ظرف علّته، ففي ظرف تساقط الأصلين العَرْضيّين يكون الأصل الطولي تامّ الاقتضاء، كما أنّ كلاًّ من الأصلين العرضيّين تامّ الاقتضاء، وليس

٣٣٨

ساقطاً في زمانٍ سابق، ولا معنى للسقوط في مرتبةٍ سابقة، فقهراً تسقط الاقتضاءات الثلاثة كلّها بالمعارضة.وهذا التحقيق ممّا لا محيص عنه، وسوف يأتي له مزيد تأييد.

الثالث : ما يمكن أن يقال من : أنّ مانعية الأصل الطولي للأصل في الطرف الآخر غير معقولةٍ فيستحيل وقوعه معارضاً له، بل لا بدّ أن يكون الأصل في الطرف الآخر ممنوعاً مع قطع النظر عنه، إذ لا يتصوّر وقوع المعارضة بين أصلين إلاّ إذا كان كلّ منهما يصلح للممانعية عن الآخر في حدِّ نفسه، وفي المقام ليس كذلك ؛ لأنّه يلزم من مانعية الأصل الطولي عن الأصل في الطرف الآخر عدم مانعيته عنه، إذ مانعيته كذلك توجب رفع المانع عن جريان الحاكم ؛ لأنّ المانع عنه لم يكن إلاّ الأصل في الطرف الآخر، فلو كان ممنوعاً من جهة الأصل الطولي لجرى الأصل الحاكم لا محالة، فيسقط الأصل الطولي حينئذٍ لمحكوميّته له، وترتفع مانعيته، وإذن فيلزم من مانعيته للأصل في الطرف الآخر - بمعنى عدم جريانه بسببه - ارتفاع مانعيته، وما يلزم من وجوده عدمه محال، فلا يمكن وقوع المعارضة بين الأصل الطولي والأصل في الطرف الآخر بعد عدم صلاحيته للمانعية واستحالتها في حقّه، فلا يحصل التمانع من الجانبين الموجب للتساقط.

ويندفع هذا البيان : بأنّه بعد فرض نشوء اقتضاء الأصل الطولي المحقّق لمانعيته عن إجمال دليل الأصل الحاكم وسقوطه فلا يعقل أن يكون الممنوعية عن جريان الأصل في الطرف الآخر، الناشئ من مانعية الأصل الطولي الناشئة من اقتضائه الناشئ من إجمال دليل الحاكم وسقوطه موجباً لجريانه والأخذ بدليله.

والحاصل : أنّ سقوط الأصل في الطرف الآخر المسبّب عمّا هو معلول لسقوط الحاكم لا يعقل أن يكون موجباً لجريانه وثبوته، بل هو قريب من عدم الرطوبة الناشئة من عدم تأثير النار في مقتضاها وهو الإحراق، فإنّ هذه الحصّة

٣٣٩

من عدم الرطوبة لا يعقل أن تكون محقّقةً للإحراق ومتمِّمة لعلّته، وإذن فمانعية الأصل الطولي معقولة ؛ لأنّها وإن كانت توجب - على فرض ثبوتها - رفع المعارض للأصل الحاكم إلاّ أنّ هذا الارتفاع للمعارض لمّا كان مسبّباً عن مانعية الأصل الطولي، المسبّبة عن سقوط الحاكم فلا يجوز أن يكون مصحِّحاً لجريانه، فتدبّره فإنّه دقيق.

فتلخّص : أنّ الوجوه المزبورة لا تنهض على عدم سقوط الأصل الطولي بالمعارضة، والمتعيّن على هذا سقوطه، ووجهه وإن اتّضح بما سبق إلاّ أنّنا نقرِّب ذلك في المقام بتقريبٍ لا يخلو من تفصيل ؛ ليتّضح المطلب تمام الوضوح، وذلك بتقديم أمرين :

أحدهما : أنّ العلم الإجمالي سواء تعلّق بتكليفٍ مردّدٍ أو بتخصيصٍ مردّدٍ يكون منجِّزاً، فكما أنّ العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة منجِّز للجامع - بمعنى مصحِّحيّته للعقاب على مخالفته - وتتعارض الأصول في الأطراف بلحاظ ذلك، كذلك العلم الإجمالي بتخصيص عمومِ من العمومات بأحد فردين وخروجه منه، فإنّه يوجب قصور العموم عن الشمول لكلا الفردين، وهو يوجب تعارض عموم العامِّ لكلٍّ من الفردين مع عمومه للفرد الآخر، ويبقى العامّ مجملاً بالإضافة إلى كلٍّ منهما.

ثانيهما : أنّ العلم الإجمالي اذا كان أحد طرفيه منجِّزاً في الزمان السابق أو في الرتبة السابقة صار هذا على مبانيهم مانعاً عن تنجيز العلم الإجمالي، بمعنى أنّه إذا كان علماً بالتكليف المردّد لم يتنجّز التكليف في الطرف الآخر، وإذا كان علماً بخروج فردٍ مردّدٍ عن عامٍّ لم يصر العامّ مجملاً بالإضافة إلى الفرد الآخر ؛ لانحلال العلم الإجمال بالمنجِّز القائم في أحد طرفيه في الرتبة السابقة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّ المكلف في المقام لمّا كان يعلم بنجاسة أحد

٣٤٠