الاسلام يتحدى

الاسلام يتحدى0%

الاسلام يتحدى مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 190

الاسلام يتحدى

مؤلف: وحيد الدين خان
تصنيف:

الصفحات: 190
المشاهدات: 59269
تحميل: 6973

توضيحات:

الاسلام يتحدى
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59269 / تحميل: 6973
الحجم الحجم الحجم
الاسلام يتحدى

الاسلام يتحدى

مؤلف:
العربية

متناقضة، واعترافات بجهل الحقيقة، كما يشتمل على ادلة اشبه بالسفسطة. فبطولة هؤلاء تكمن في انهم اغمضوا اعينهم عن الحقائق الظاهرة، وشادوا قناطر خيالية من الادعاء، كما تتمثل في استدلالهم بالشاذ من الامور.، وذلك من سمات القضايا الباطلة.، اما القضايا الصحيحة فانها تقوم على اسس علمية ثابتة، لا على الشواذ.

وتتجلى حقيقة الدين وسفسطة قضية المعارضين اكثر من ذلك حين نطالع صورة الحياة الانسانية في ضوء الدين، انها صورة جميلة لطيفة، تتوافق مع افكار الانسان السامية، كما يتوافق الكون المادي مع القوانين الرياضية، بعكس تلك الصورة التي يرسمها المعارضون، فهي صورة جدا قبيحة، وهي لا تتفق ابدامع الذهن الانساني، وانظر إلى ما يقوله برتراند رسل: «والانسان وليد عوامل ليست بذات اهداف، ان بدأه ونشوءه، وامانيه ومخاوفه، وحبه وعقائده، كلها جاءت نتيجة ترتيب رياضي اتفافي في نضام الذرة، والقبر ينهي حياة الانسان. ولا تستطيع اي قوة احياءه مرة اخرى. ان هذه المجهودات الطويلة. والتضحيات، والافكار الجميلة، والبطولات العبقرية، كلها سوف تدفن إلى الابد مع فناء النظام الشمسي. ان الكفاح الانساني كله سوف يدفن حتما مع الارض تحت انقاض الكون، ولو لم تكن هذه الافكار قطعية فانها اقرب ما تكون إلى الحقيقة، حتى ان اية فلسفة تحاول انكارها ستلقى فناءها تلقائيا»(١) .

ويكاد هذا الاقتباس ان يكون خلاصة الفكر المادي، فالكون في ضوء هذا الفكر المادي يكاد يفقد اهدافه، ولا يبقي غير الظلام الحالك، الظلام الذي تتلاشىفيه معايير الخير والشر، حتى ان ابادة الناس بالقنابل لا تعد ظلما، لانهم سوف يلقون حتفهم على انه حال يوما ما. اما الفكر الديني فهو فكر الضوء والامل. الموت والحياة مرتبطان فيه باهداف معينة، وكل القيم والافكار الانسانية السامية تجد لها مكانا فيه، وان كان بعض العلماء بمجرد تصديق القوانين الرياضية لافكاره يطمئن إلى انه قد توصل إلى الحقيقة، فان تصديق العقل الانساني الفكر الديني دليل قطعي على انه هو الحقيقة التي طالما بحثت عنها الفطرة الانسانية.، وعندئذ لا نجد اساسا واقعيا لانكار قيمة الفكر الديني، هذا وهو «؟المقياس» العلمي الذي يشير اليه الرياضي الامريكي البروفيسور ( ارل تشستر ريكس ) قائلا:

«انني استخدم في ابحاثي ذلك المقياس العلمي المسلم، الذي يستخدم في ترجيح احدى فكرتين مختلفتين او اكثر، عن حقيقة واحدة. وهو المقياس الذي نرجح بناء عليه الفكرة التي تفسر المسائل المتنازع فيها بطريقة اكثر بساطة وسهولة. لقد استخدم العلماء هذا المقياس

___________________

(١) Limitations of Science, p. ١٣٣.

٤١

لاختياراحدى نظريتي بطليموس وكوبرنيك: كانت الاولى تزعم ان الارض هي مركز النظام الشمسي. على حين اكدت الثانية ان النظام الشمسي هو مركز الارض. وكانت نظرية بطليموس غاية في التعقيد حتى رفضها العلماء»(١)

ولا باس من الاعتراف بان هذه الادلة لن تقنع بعض الناس. فان ابواب عقولهم المادية موصدة دون أي كلام مهما يكن علميا عن الاله او الدين. ومن المؤكد ان موقفهم هذا ليس لان استدلالنا ضعيف، وانما هو راجع إلى تعصبهم المقيت ضد الافكار الدينية، ولقد صدق عالم بريطانيا العظيم سير جيمس جينز الذي يعتبر ولا شك اعظم علماء العصر الحديث حيث قال في كتابه الشهير ( عالم الاسرار).

«ان في عقولنا الجديدة تعصبا يرجح التفسير المادي للحقائق»(٢)

وذكر (ويتكر شامبرز) في كتابه ( الشهادة) Witness حادثا كان من الممكن ان يصبح نقطة تحول في حياته. ذكر انه بينما كان ينظر إلى ابنته الصغيرة استلفتت اذناها نظره. فاخذ يفكر في انه من المستحيل ان يوجد شيء معقد ودقيق، كهذه الاذن، بمحض اتفاق، بل لابد انه وجد نتيجة ارادة مدبرة. لكن (ويتكر شامبرز) طرد هذه الوسوسة عن قلبه، حتى لا يضطر ان يؤمن منطقيا بالذات التي ارادت فدبرت، لان ذهنه لم يكن على استعداد لتقبل هذه الفكرة الاخيرة.

ويقول الاستاذ الدكتور ( تامس ديودباركس) بعد ان يذكر هذا الحادث:

«انني اعرف عددا كبيرا من اساتذتي في الجامعة. ومن رفقائي العلماء الذين تعرضوا مرارا لمثل هذه المشاعر. وهم يقومون بعمليات كيماوية وطبيعية في المعامل(٣)

لقد اجمع علماء هذا العصر على صدق نظرية النشوء والارتقاء. وقد بدات هذه النظرية تسود فعلا جميع فروع العلوم الحديثة. فكل مشكلة تحتاج «الاها» في تفسيرها توضع مكانه هذه النظرية بغير تردد.

هذا جانب من النظرية، واما الجانب الثاني وهو الجاني المظلم منها الذي يقرر (فكرة التطور العضوي) Organic Evolution الذي استنبطت منه فكرة الارتقاء. فقد بقي إلى يوم الناس هذا بلا براهين، وبلا ادلة علمية!حتى قال كثير من العلماء: «انهم لا يؤمنون بهذه النظرية.، الا لانه لا يوجد أي بديل لها سوى الايمان بالله مباشرة».

___________________

(١) The Evidence of God, p. ١٧٩.

(٢) Mysterious Universe, p. ١٨٩.

(٣) The Evidence of God, pp. ٧٣ - ٧٤.

٤٢

وكتب سير آرثر كيث يقول:

«ان نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميا. ولا سبيل إلى اثباتها بالبرهان. ونحن لا نؤمن بها الا لان الخيار الوحيد بعد ذلك هو ( الايمان بالخلق الخاص المباشر)، وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه(١) »!!

انني اقر هنا بعجزي عن اقناع اولئك الذين ينطوون على التعصب الاعمى للتفسير المادي.، بحقية الدين. ولهذا التعصب جذور عميقة. كما يقول عالم امريكي: «ان كون العقيدة الالهية معقولة. وكون انكار الاله سفسطة لا يكفي ليختار الانسان جانب العقيدة الالهية. فالناس يظنون ان الايمان بالله سوف يقضي على حريتهم، بتلك الحرية العقلية التي استعبدت عقول العلماء، واستهوت قلوبهم، فاية فكرة عن تحديد هذه الحرية مثيرة للوحشة عندهم(٢) .

وبناء على هذا يدعي جوليان هكسلي ان فكرة النبوة «هي اظهار للتفوق بطريقة شاذة لا يمكن احتمالها»، اذ ان معنى الايمان بنبي ان نؤمن بكلامه على انه كلام الاله، ثم نمتثل طوعا او كرها لكل ما يامر به.

ولكن اذا كان الانسان مخلوقا وليس خالقا، عابدا وليس معبودا فكيف يستطيع ان يقضي على الحقائق بمجرد افكار نبتت في عقله؟. اننا لا نستطيع ان نغير الحقائق، وانما نستطيع ان نعترف او نؤمن بها فحسب. واذا كنا لا نحب ان تكون عاقبتنا عاقبة النعامة، فافضل خيار لنا ان نسلم بالحقيقة قبل ان تفوت الفرصة نهائيا.

ان كفرنا بالحقيقة لن يسيء إلى قضيتها، ولكن الخسران كله سوف يكون من حظنا في الآخرة.

___________________

(١) Islamic Thought, Dec. ١٩٦١.

(٢) George H. Blount, The Evidence of God, P. ١٣٠.

٤٣

الباب الثالث : طريقة الاستدلال العلمي

ان قضية العصر الحاضر ضدالدين هي قضية طريقة الاستدلال، اعني الطريقة الجديدة التي كشفها العلم الحديث بعد التطورات في ميادينه العديدة، بحيث لم تعد تقف امامها دعوى الدين وعقائده هذه الطريقة الجديدة هي معرفة الحقيقة بالتجربة والمشاهدة على حين تتصل عقائد الدين بعالم ما وراء حواسنا، ولا يمكن اخضاعها للتجربة. ( فالدين كله مبني على قياس واستقراء )(١) . وهذا هو ما يجعله باطلا، لانه ليس له اساس علمي.

وقضية العصر الحاضر باطلة، لانها لا تقوم على اسس علمية، فالطريقة الجديدة لا تنفي وجود اشياء لم تجرب مباشرة، كما لا تنفي قياس اشياء لم نشاهدها على اشياء شاهدناها تجريبيا وهو ما يسمى «قياسا علميا»، ويعتبر كالتجربة المباشرة، فالتجربة لا تعد حقيقة علمية لمجرد انها شوهدت، كما ان القياس ليس باطلا لمجرد انه قياس. فامكان الصحة والبطلان موجود فيهما على سواء.

كان الناس في القديم يصنعون السفن الشراعية من الخشب. اعتقادا منهم ان الماء لا يحمل الامايكون اخف منه وزنا، وحين قال بعضهم : ان السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب. انكر الناس عليه مقالته واتخذوه هزوا، وجاء نحاس فالقى بنعل من حديد في دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على ان هذه القطعة الحديدة بدل ان تطفو على سطح الماء استقرت في القاع. كان هذا العمل تجربة. ولكننا جميعا نعتقد اليوم انها كانت تجربة باطلة، فلو كان النحاس قد القى بطبق من حديد لشاهد بعينيه صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية.

___________________

(١) ومثاله ان اصحاب الدين اذا ارادوا اثبات وجود الاله لا يقدرون على ذلك باستعمال التلسكوب، ولكنهم يستدلون بان نظام الكون وروحه العجيبة تدلان على انه يوجد عقل الهي وراءهما. وهذا الدليل لا يثبت وجود الاله مباشرة، وانما هو يثبت قرينة تستلزم الايمان بالله بعد الايمان بها.

٤٤

في بداية القرن العشرين كنا كذلك نملك تلسكوبا ضعيفا، فلما شاهدنا السماء بهذا المنظار وجدنا اجراما كثيرة كالنور، فاستنبطنا انها سحب من البخار والغاز، تمر بمرحلة قبل ان تصير نجوما. ولكنا حين تمكنا من صناعة منظار قوي، وشاهدنا هذه الاجرام مرة ثانية علمنا ان هذه الاجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة شوهدت كالسحب.، نتيجة البعد الهائل بينها وبين الارض.

وهكذا نجد ان التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين، وان العلم لا ينحصر في الامور التي شوهدت بالتجربة المباشرة. لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة الواسعة النطاق. ولكن الاشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون امورا سطحية، وغير مهمة نسبيا. اما النظريات التي يتوصل اليها بناء على هذه المشاهدات فهي امور لا سبيل إلى ملاحظتها. والذي يطالع العلم الحديث، يجد ان اكثر آرائه «تفسير للملاحظات»وان هذه الآراء لم تجرب مباشرة، ذلك ان بعض الملاحظات يحمل العلماء على الايمان بوجود بعض حقائق غير مشاهدة قطعية، فاي عالم من علماء عصرنا لا يستطيع ان يخطو خطوة دون الاعتماد على الفاظ مثل : (القوة) Force و(الطاقة) Energy و(الطبيعة) Nature و(قانون الطبيعة) Law of Nature ، وما إلى ذلك. ولكن هذا العالم لا يدري ما «القوة والطاقة والطبيعة وقانونها»؟ فهو قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة، لكي يبين عن علل غير معلومة. وهذا العالم لا يقدر على تفسير هذه الالفاظ، تماما كرجل الدين، لا يستطيع تفسير صفات الاله، وكلاهما يؤمن بدوره بعلل غير معلومة.

يقول الدكتور ( الكسيس كيرل) :

«ان الكون الرياضي شبكة عجيبة من القياسات والفروض، لا تشتمل على شيء غير «معادلة الرموز»، الرموز التي تحتوي على مجردات لا سبيل إلى تفسيرها»(١)

والعلم الحديث لا يدعي، ولا يستطيع ان يدعي، ان الحقيقة محصورة فيما علمناه من التجربة المباشرة، فالحقيقة ان «الماء سائل». ونستطيع مشاهدة هذه الحقيقة باعيننا المجردة. ولكن الواقع ان كل (جزيء ) من الماء يشتمل على ذرتين من الهيدروجين، وذرة من الاوكسجين وليس من الممكن ان نلاحظ هذه الحقيقة العلمية، ولو اتينا باقوى ميكروسكوب في العالم، غير انها ثبتت لدى العلماء لايمانهم بالاستدلال المنطقي.

___________________

(١) Man The Unknown, p. ١٥.

٤٥

ويقول البروفيسور ا. ي. ماندير:

«ان الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى «الحقائق المحسوسة Percieved Facts بيد ان الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في «الحقائق المحسوسة»، فهناك حقائق اخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال، ووسيلتنا في هذه السبيل هي الاستنباط، فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه «بالحقائق المستنبطة Inferred Facts والاهم هنا ان نفهم انه لا فرق بين الحقيقتين، وانما الفرق هو في التسمية،. من حيث تعرفنا على الاولى مباشرة، وعلى الثانية بالواسطة، والحقيقة دائما هي الحقيقة، سواء عرفناها بالملاحظة او بالاستنباط»(١)

ويضيف ماندير قائلا:

«ان حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل، فكيف يمكن ان نعرف شيئا عن الكثير الآخر ؟. هناك وسيلة وهي الاستنباط او التعليل، وكلاهما طريق فكري، نبتديء به بوساطة حقائق معلومة، حتى ننتهي بنظرية: ان الشيء الفلاني يوجد هنا ولم نشاهده مطلقا»(٢)

وهنا نتسأل: كيف يصح الاستنباط المنطقي لاشياء لم نشاهدها قط؟ وكيف يمكن ان نسمي هذا الاستنباط بناء على طلب العقل: حقيقة علمية؟ويجيب ماندير بنفسه عن هذا السؤال:

«ان المنهج التعليلي صحيح، لأن«الكون»نفسه عقلي».

فالكون كله مرتبط بعضه بالآخر، حقائقه متطابقة، ونظامه عجيب، ولهذا فان اية دراسة للكون لا تسفر عن ترابط حقائقه وتوازنها هي دراسة باطلة. ويقول ماندير في هذا الصدد:

«ان الوقائع المحسوسة هي اجزاء من حقائق الكون، غير ان هذه الحقائق التي ندركها بالحواس قد تكون جزئية وغير مرتبطة بالاخرى. فلو طالعناهما فذة مجردة عن اخواتها فقدت معناها مطلقا. فاما اذا درسناها في ضوء الحقائق الكثيرة مما علمناه مباشرة اوبلا مباشرة، فاننا سندرك حقيقتها».

ثم ياتي بمثال سليم يفسر ذلك فيقول:

«اننا نرى ان الطير عندما يموت يقع على الارض، ونعرف ان رفع الحجرعلى الظهر اصعب، ويتطلب جهدا، ونلاحظ ان القمر يدور في الفلك، ونعلم ان الصعود

___________________

(١) A. E. Mander, Clearer Thinking, London, p. ٤٦.

(٢) المرجع السابق، ص ٤٩.

٤٦

في الجبل اشق من النزول منه. ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لاحداها بالاخرى ظاهرا. ثم نتعرف على حقيقة استنباطيةـ هي «قانون الجاذبية»، وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق، فنعرف للمرة الاولى انها كلها مرتبطة احداها بالاخرى ارتباطا كاملا داخل النظام. وكذلك الحال لو طالعنا الوقائع المحسوسة مجردة، فلن نجد بينها اي ترتيب، فهي متفرقة، وغير مترابطة، ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فستخرج صورة منظمة للحقائق»(١)

***

ان قانون «الجاذبية»لا يمكن ملاحظته قطعا، وكل ما شاهده العلماء لا يمثل في ذاته قانون الجاذبية، وانما هي اشياء اخرى، اضطروا لاجلها منطقيا ان يؤمنوا بوجود هذا القانون.

واليوم يلقى هذا القانون قبولا علميا عظيما، وهو الذي كشف عنه نيوتن لاول مرة، ولكن. ما حقيقة هذا القانون من الناحية التجريبية؟. هاهو ذا نيوتن يتحدث في خطاب ارسله إلى ( بنتلي) فيقول:

«انه لامر غير مفهوم ان نجد مادة لاحياة فيها ولا احساس وهو تؤثر على مادة اخرى، مع انه لا توجد اية علاقة بينهما»(٢)

***

فنظرية معقدة غير مفهومة، ولا طريق إلى مشاهدتها، تعتبر اليوم، بلا جدال، حقيقة علمية!!! لماذا؟. لانها تفسر بعض ملاحظاتنا، فليس بلازم آذن ان تكون الحقيقة هي ما علمناه مباشرة بالتجربة، ومن ثم نمضي إلى القول بان العقيدة الغيبية التي تربط بعض ما نلاحظه، وتفسر لنا مضمونه العام تعتبر حقيقة علمية من نفس الدرجة!.

***

يقول البروفيسور ماندير: «القول باننا عرفنا الحقيقة يعني: اننا عرفنا معناها، وبعبارة اخرى : اننا بحثنا عن وجود شيء، وعن احواله ففسرناه واكثر عقائدنا تدخل في هذا النطاق فهي في الحقيقة «تفسيرات للملاحظة»

ويستطرد ماندير فيتكلم عن «الحقائق الملحوظة»:

___________________

(١) Clearer Thinking, p. ٥١.

(٢) Works of W. Bently, III, p. ٢٢١.

٤٧

عندما نذكر «ملاحظة» فاننا نقصد شيئا اكثر من المشاهدة الحسية المحضة فمعناها:

الملاحظة الحسية والتعرف بما يشمل جانب التفسير»(١)

نظرية التطور العضوي: هذه هي القاعدة العلمية التي على اساسها وافق العلماء على حقيقة نظرية (التطور العضوي) كما قال ماندير : «لقد ثبت صدق هذه النظرية، حتى اننا نستطيع ان نعتبرها «اقرب شيء إلى الحقيقةو(٢) ويقول سمبسن في هذا الصدد :

«ان نظرية النشوء والارتقاء حقيقة ثابتة اخيرا وكليا، وليست بقياس، او (فرض بديل ) صيغ للبحث العلمي»(٣)

ويعتقد محرر دائرة المعارف البريطانية(١٩٥٨) : ان نظرية الارتقاء في الحيوانات «حقيقة»، وان هذه النظرية قد حظيت بموافقة عامة بين العلماء والمثقفين بعد داروين.

وقال رسلل: «ظلت نظرية الارتقاء تحصل على تاييد متزايد، يوما بعد يوم، بعد داروين حتى انه لم يبق شك لدى المفكرين والعلماء في ان هذه هي الوسيلة المنطقية الوحيدة التي تستطيع ان تفسر عملية الخلق وتشرحها»(٤)

***

هذه النظرية التي اجمع العلماء على صحتها، هل لاحظها احدهم او جربها في معمله؟.

والجواب : لا ! فذلك ضرب من المستحيل، ان مزعومة الارتقاء معقدة، وهي تتعلق بماض بعيد جدا، حتى انه لا سؤال عن تجربتها وملاحظتها. وهي على ما اكده (لل) في كلمته السابقة:«وسيلة منطقية» لتفسير مظاهر الخلق، وليست بملاحظة واقعية. وارى ان هذا هو السبب الذي دفع «السير آرثر كيث»ـ الذي يعتبر محاميا متحمسا لنظرية الارتقاء ان يسلم بان هذه النظرية ليست بملاحظة او تجربة، وانما هي مجرد عقيدة. ومن كلماته:

«ان نظرية الارتقاء «عقيدة اساسية» في المذهب العقلي»(٥)

___________________

(١) CleaThinking, p. ٥٦.

(٢) Ibid, p. ١١٣.

(٣) Meaning of Evolution, p. ١٢٧.

(٤) Orgainc Evolution, p. ١٥.

(٥) Revolt against Reason, p. ١١٢.

٤٨

وعرف احد المعاجم العلمية نظرية داروين بانها «نظرية قائمة على تفسير بلا برهان»(١) .

***

فماالذي يجعل شيئا غير ملاحظ وغير قابل للتجربة «حقيقة علمية»؟يذكر (ماندير) اسباب ذلك فيقول:

١ـ هذه النظرية توافق جميع الحقائق المعلومة.

٢ـ هذه النظرية تفسير لكثير من الوقائع، لا يمكن فهمها الا من طريقها.

٣ـ ولم تظهر بعد نظرية تناسب وتوافق الحقائق بهذه الدقة(٢)

فاذا كانت هذه الادله كافيه لتصبح نظرية الارتقاء حقيقة علمية فهي كذلك موجودة في جانب الدين على وجه اتم واكمل. والقول بصدق نظرية الارتقاء وابطال الدين في نظر الذهن العلمي لا يعني مطلقا ان قضية المعارضين هي قضية الاستدلال العلمي، وانما هذه القضية تتعلق «بالنتيجة»، فلو اثبت نفس الاستدلال امرا «طبيعيا محضا» فسيقبله المعارضون، وسيرفضونه لو اثبت امرا الهيا لانه غير مرغوب فيه عندهم.

***

____________________

(١) Ibid, p. ١١١.

(٢) Clearer Thinking, p. ١١٢.

٤٩

مشكلة تعيين حقائق الأمور

وبهذا لاينبغي القول بأن الدين هو «الايمان بالغيب» وبأن العلم هو الايمان «بالملاحظة العلمية». فالدين والعلم كلاهما يعتمد على الايمان بالغيب. غير أن دائرة الدين الحقيقية هي دائرة «تعيين حقائق الأمور» نهائيا وأصليا، أما العلم فيقتصر بحثه على المظاهر الأولية والخارجية، فحين يدخل العلم ميدان تعيين حقائق الأمور تعيينا حقيقيا ونهائيا - وهو ميدان الدين الحقيقي - فانه يتبع نفس طريق الايمان بالغيب. الذي يتهم به الدين. ولابد من هذا السلوك في «الميدان الثاني»، كما قال سير آرثر ادنجتن: «ان عالمنا في العصر الحاضر يعمل على منضدتين في وقت واحد: احدهما: المنضدة العامة التي يستعملها الرجل العادي، التي يمكن لمسها ورؤيتها. وأما الأخرى: فهي«المنضدة العلمية»، واكثرها في الفضاء، وتجري فيها الكترونات لاحصر لها ولاتشاهد»، ويستطرد سير آرثر أدنجتن قائلا: «وهكذا نجد لكل شيء صورة ذات وجهين، أحدهما: (ملحوظ)، والآخر: (صورة فكرية) لاسبيل إلى مشاهدتها بأي ميكروسكوب أو تلسكوب»(١)

___________________

(١) Nature of the Physical World, pp. ٧ - ٨.

٥٠

أما الوجه الأول فيشاهده العلم، ويشاهده لمدى بعيد جدا، ولكنه لايستطيع أن يدعي انه يشاهد الوجه الآخر. وطريقة العلم الحديث أنه يقدم رأيا عن شيء بعد مشاهدة مظاهره. وأما «الميدان الثاني» فهو ميدان معرفة حقائق الأشياء وتعيينها و«العلم »في هذا الميدان هو البحث عن حقائق غير معلومة بوساطة حقائق معلومة.

وعندما يجتمع لدى عالم من العلماء قدر مناسب من «الحقائق الملحوظة» فانه يحس بضرورة وضع نظرية او فرض علمي. وبعبارة ادق: ضرورة فكرة اعتقادية ووجدانية، تقوم بتفسير الملاحظات. وربط بعضها ببعض فاذا نجحت هذه الفكرة الاعتقادية في تفسير الحقائق تفسيرا كاملا عدت حقيقة علمية رغم انها لم تلاحظ قط كما لو حظت الحقائق الاخرى التي نعرفها بالمشاهدة او بالملاحظة العلمية.

ومعنى ذلك ان العالم يؤمن بوجود شيء غائب بمجرد ظهور نتائجه وآثاره فكل حقيقة نؤمن بها تكون دائما (فرضا) في اول امرها إلى ان نكشف حقائق جديدة تدعم صدقها، فنزداد، يقينا بها، حتى نبلغ حق اليقين: واذا لم تؤيدها الملاحظات اللاحقة تخلينا عنها. ومن امثلة هذه «الحقائق»: حقيقة «الذرة» التي لا سبيل إلى انكارها، برغم انها لم تشاهد قط بالمعنى المعروف، ولكنها تعتبر اكبر حقيقة علمية كشفت في هذا العصر،. وهذا هو السبب الذي دفع احد العلماء ان يعرف (النظريات) العلمية بالالفاظ التالية:

« Theories are Mental Pictures, That Explain Known Laws »

«النظريات صور ذهنية تفسر القوانين المعلومة».

حقيقة النظريات العلمية

ان الحقائق التي تعرف في العلم باسم «الحقائق الملحوظة» ليست بحقائق شوهدت فعلا، وانما هي تفسيرات لبعض المشاهدات، لان المشاهدة الانسانية لا يمكن ان توصف بانها (كاملة)، ولذا فان جميع هذه التفسيرات تعد «اضافية»، ومن الممكن ان تتغير بتطور الملاحظة.

ويقول البروفيسور سوليفان بعد نقد وجهه الى النظريات العلمية

« هذا العرض للنظريات العلمية يثبت ان معنى «نظرية علمية صحيحة »انها «فروض عملية ناجحة) Successful Working Hypothesis ، ومن الممكن تماما ان يكون سائر النظريات العلمية باطلا، ذلك ان النظريات التي نعتبرها اليوم (حقيقة) ليست الا «قياسا

٥١

على وسائلنا المحدودة للملاحظة»، ولا تزال قضية الحقيقة في عالم العلم «قضية عملية نفعية Pragmatic Affair(١)

***

ولا يزال العلماء بعد هذا يعتبرون ان الفرض الذي يفسر ملا حظاتهم لا يقل في قيمته عن «الحقيقة الملحوظة »نفسها، فهم لا يستطيعون ان يقولوا : ان الحقائق الملحوظة هي وحدها «العلم»، وان ماسواها من النظريات الشارحة لا تدخل في نطاق (العلم)، لانها غير ملحوظة. والحق ان هذا هو ما نسميه «الايمان بالغيب»، وهو بالنسبة الى المؤمنين ليس سوى الايمان بحقائق غير ملحوظة، فهو ليس بعقيدة عمياء، وانما هو خير تفسير للحقائق التي يشاهدها العلماء.

***

وكما رفض العلماء نظرية الضوء التي قدمها نيوتن وتعرف باسم Corpuscular Theory of Light لانها لم تنجح في تفسير مظاهر حديثة للضوء، فاننا نرفض افكار الفلاسفة الملحدين، لانها فشلت في تفسير مظاهر الطبيعة.

ان مأخذ حقائق الدين هو نفس المأخذ الذي يستقي منه العلم الحديث ملاحظاته، لكي يثبت نظرية علمية. ولقد انتهينا بعد دراسة الحقائق الملحوظة إلى ان تفسير الدين للطبيعة هو عين الحق حتى ان هذا التفسير لم يتغير ولن يتغير على مر الدهور، على حين ان كل نظرية صاغها الانسان منذ قرن او اكثر اواقل قد رفضت او اصبحت موضع شك الآن،

وان صدق الدين ليتجلى بعد كل خطوة نخطوها في الملاحظة حتى ليصبح كل كشف علمي جديد تصديقا لحقائق الدين!

ولسوف نطالع افكار الدين من هذه الناحية في الابواب التالية.

***

___________________

(١) J. W.N. Sullivan, Limitations of Science, p. ١٥٨.

٥٢

الباب الرابع : الطبيعة تشهد بوجود الإله

اصدرت الكنيسة المسيحية في كيرالا جنوبي الهند كتيبا بعنوان:

« Nature and Science Speak. about God »

«الطبيعة والعلم يتحدثان عن الله». واعتقد ان هذه الكلمات هي افضل عنوان لهذا الباب.

ان اكبر دليل على وجود الاله هو مخلوقه، هذا الذي نجده امامنا، واوثق ما علمنا من حقائق الطبيعة يدعونا إلى الايمان بانه لا ريب ان لهذه الدنيا الها واحدا. ونحن لا نستطيع ان نفهم انفسنا وان نفسرها، بله الكون كله مجردين من الايمان بوجود الاله.

ان وجود الكون، والنظام العجيب الذي اشتمل عليه، واسراره الدقيقة.، لا يمكن تفسير ذلك كله الا بانه قد خلقته (قوة)، وان هذه القوة (عقل) لا حدود له، وانها ليست بقوة عمياء.

اولا نظرية التشكيك في الوجود:

هناك جماعة من المفكرين هزيلة العدد جدا «تشك»في مجرد وجود مثل هذه القوة وتعتقد هذه الجماعة انه لا وجود للانسان، ولا للكون، وان الوجود عبارة عن عدم محض ولا شيء غير ذلك.

فلو سلمنا بهذه الفكرة لا لتبس علينا امر الاله دون شك. ولكننا حين نؤمن بان الكون موجود نضطر تلقائيا ان نؤمن بالاله، او بالقوة الخالقة كما نسميها، فليس بمعقول ان نؤمن بالوجود من العدم المحض ذلك قياس باطل !!

فهذا التشكيك في وجود الكون، والذي يتخذ احيانا شكل نظرية ال«لا ادرية»(١) يمكن ان يعد نكتة فلسفية لا علاقة لها بالحقيقة. فنحن حين نفكر يكون فكرنا هذا دليلا

___________________

(١) هذا مصطلح مستعمل في اللغة الاردية ماخوذ من عبارة «لا ادري »، يشير إلى الاتجاه الذي ينكر معرفة شيء عن الكون، لان الكون لا وجود له على الحقيقة المراجع.

٥٣

قاطعا في ذاته على ان لنا وجودا(١) . وحين نصطدم في الطريق بحجارة ثم نتالم فهذا الواقع دليل في ذاته على ان هناك عالما موجودا وجودا ذاتيا خارج وجودنا. وهكذا تدرك حواسنا في كل وقت اشياء كثيرة، من الفرح والالم والتذوق.، فهذا الاحساس والشعور دليل لكل شخص على انه موجود في كون، وعلى انه يملك وجوده الذاتي، وحينئذ فلو قام احد يشكك نفسه في وجوده الذاتي ووجود الكون فسوف نعتبر ذلك حالة استثنائية مفردة، لا ترتبط بتجربة الملايين من جماهير الناس. وسوف نقول عن هذا الرجل الفذ: انه قد غاب في عالمه الذهني، حتى نسي نفسه.

بل اننا لوسلمناـ جدلاـ بانه ليس للكون في ذاته وجود خارج ذاتنا، فلست اعتبر هذا دليلا ملزما بانه لا وجود للاله.

وعلى كل حال فهذه هي الفكرة الوحيدة التي ترى وجود الاله مشكوكا فيه، بكل ما تتضمن من السفسطة والجهالة وانعدام الواقعية.، وهي فكرة لا معنى لها في ذاتها، وليست مفهومة لدى جمهور الناس، كما انها لم تحظ بقبول في دنيا العلم.

***

___________________

(١) يستخدم المؤلف هنا تلك العبارة الفلسفية الشائعة. «انا افكر، اذن فانا موجود»

٥٤

الوجود والخلق

ان الانسان العادي، والعالم العادي يؤمن على كل حال بان«له»وجودا، وبان للكون ايضا وجودا، وعلى هذا الاساس من العلم والايمان تقوم جميع الوان النشاط العلمي والحيوي. فاذا آمنا بوجود الكون فلا بد ان نؤمن باله هذا الكون منطقيا اذ لا معنى لأن نؤمن بالمخلوق ونرفض وجود خالقه ونحن لا نعلم شيئا جاء إلى الوجود من العدم دون ان يخلق، فكل شيء مهما بلغ حجمه عظم اوصغر، جل اودق، وراءه علة، فكيف بنا نؤمن بان كونا عظيما مثل كوننا جاء إلى الوجود ذاتيا، دون خالق؟؟

ذكر (جون ستيوارت ميل) في سيرة حياته: ان اباه قد علمه ان سؤال «من الذي خلقني ؟» لايكفي لاثبات وجود الاله، اذ ينجم تلقائيا سؤال: «فمن ذا الذي خلق الاله؟»، وقد اعتد (برتراند رسل) هذا الاعتراض الثاني كافيا لرفض مدلول السؤال الاول(١) .

ونحن نعرف ان هذا الاستدلال قديم جدا لدى الملحدين، ومقتضاه. اننا لو افترضنا خالقا للكون فسوف نضطر ان نتصوره ازليا!!

___________________

(١) Morton White , The Age of Analysis, pp. ٢١ - ٢٢.

٥٥

الازلي. الخالق ام المادة؟

اذا كان لا مناص من افتراض ازلية هذا الخالق، فلماذا لا نؤمن بازلية هذا الكون؟ وهذا الكلام لا معنى له، لاننا لم نعثر على صفات للكون، اية كانت، تثبت انه خالق نفسه،

ولقد كان لهذا الاستدلال حسنه ورواؤه حتى القرن التاسع عشر، ولكنا اليوم، وبعد كشف «القانون الثاني للحرارة الديناميكية) Second Law of Thermo Dynamics نجد ان هذا الأستدلال فقد كل اساس كان يقوم عليه وهذا القانون الذي نسميه «قانون الطاقة المتاحة» او «ضابط التغير) Law of Entropy يثبت انه لا يمكن ان يكون وجود الكون ازليا، فهو يصف لنا ان الحرارة تنتقل دائما من (وجود حراري ) الى (عدم حراري)، والعكس غير ممكن، وهو ان تنتقل هذه الحرارة من (وجود حراري قليل) او (وجود حراري عدم) إلى (وجود حراري اكثر). فان ضابط التغير هو التناسب بين «الطاقة المتاحة »و«الطاقة غير المتاحة».

وبناء على هذا الكشف العلمي الهام فان «عدم كفاءة عمل الكون» يزداد يوما بعد يوم، ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينذاك لا تبقى اية طاقة مفيدة (للحياة والعمل)، وسيترتب على ذلك ان تنتهي العمليات الكيماوية والطبيعية، وتنتهي تلقائياـ مع هذه النتيجة «الحياة».

***

وانطلاقا من هذه الحقيقة القائلة بان العمليات الكيماوية والطبيعية جارية، وان الحياة قائمة، يثبت لدينا قطعا ان الكون ليس بازلي، اذ لو كان الكون ازليا لكان من اللازم ان يفقد طاقته منذ زمن بعيد، بناء على هذا القانون، ولما بقي في الكون بصيص من الحياة. يذكر هذا التحقيق العلمي الحديث عالم امريكي في علم الحيوان، هو الاستاذ (ادوارد لوثر كسيل) فيقول:

«وهكذا اثبتت البحوث العلمية دون قصد ان لهذا الكون «بداية» فاثبتت تلقائيا وجود الاله، لان كل شيء ذي بداية لا يمكن ان يبتديء بذاته، ولا بد ان يحتاج إلى المحرك الاول الخالق الاله»(١) .

وقد قال نفس الكلام السير جيمس: «تؤمن العلوم الحديثة بان (عملية تغير الحرارة) Entropy سوف تستمر حتى تنتهي طاقاتها كلية، ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها، لانه لو حدث شيء مثل هذا لما كنا الآن موجودين على ظهر الارض، حتى نفكر

___________________

(١) The Evidence of God, p. ٥١.

٥٦

فيها. ان هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن.، ومن ثم لابد لها من بداية، ولا بد انه قد حدثت عملية في الكون، يمكن ان نسميها«خلقا في وقت ما حيث لا يمكن ان يكون هذا الكون ازليا»(١) .

وهناك شواهد طبيعية كثيرة تثبت ان الكون لم يكن موجودا منذ الازل، وان له عمرا محدودا، وعلى سبيل المثال، تجد «علم الفلك »يقرر ان الكون يتسع بالتسلسل الدائم، وان كل مجاميع النجوم والاجرام والاجسام الفلكية تتباعد بسرعة مدهشة، بعضها عن بعض، ويمكن ان نفسر هذه الحالة تفسيرا جيدا اذا نحن سلمنا بوقت للبدء، كانت فيه كل الاجزاء التركيبية مركزة ومجتمعة بعضها مع بعض، ثم بدات الحركة والحرارة. ويقدر العلماءان هذا الكون قد وجد نتيجة«لانفجار» فوق العادة، وقع منذ ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠،٥ سنة.

فالايمان بهذا الكشف العلمي.، وهو ان للكون عمرا محدودا يتعارض مع انكار موجده، ومثل من يؤمن بحدوث الكون مع انكاره لوجود خالقه، كمثل من يزعم ان «تاج محل»قام بنفسه من غير بنائين ومهندسين، مع تسليمه بانه بنى في القرن السابع عشر الميلادي، ولم يكن موجودا منذ الازل.

ثانيا الكشوف الفلكية

يدلنا علم الفلك على ان عدد نجوم السماء مثل عدد ذرات الرمال الموجودة على سواحل البحار في الدنيا كلها، منها ماهو اكبر بقليل من الارض، ولكن اكثرها كبير جدا، حتى يمكن ان نضع في واحد منها ملايين النجوم، في مثل حجم الارض التي نعيش عليها، ولسوف يبقى فيه مع ذلك مكان خال!!.

ان كوننا هذا فسيح جدا. ولكي نفهمه نتصور طائرة خيالية تسير بسرعة (٠٠٠،١٨٦) ميلا في الثانية الواحدة، وان هذه الطائرة الخيالية تطوف بنا حول الكون الموجود الآن. ان هذه الرحلة الخيالية سوف تستغرق (٠٠٠٠٠٠٠٠٠،١) سنة.، يضاف إلى ذلك ان هذا الكون ليس بمتجمد، وانما هو يتسع كل لحظة، حتى انه بعد (٠٠٠٠٠٠،٣٠٠،١) سنة تصير هذه المسافات الكونية ضعفين!!وهكذا لن تستطيع هذه الطائرة الخارقة في سرعتها الخياليةان تكمل دورانها حول هذا الكون ابدا، وانما سوف تظل تواصل رحلتها في نطاق هذا التوسع الدائم في الكون(٢) .

___________________

(١) The Mysterious Universe, p. ١٣٣.

(٢) هذه هي نظرية اينشتين عن الكون. ولكنها ليست الا «قياسا رياضيا»، والحقيقة ان الانسان لم يستطع حتى الآن ان يفهم سعة هذا الكون!!

٥٧

عندما تكون السماء صافية نستطيع ان نرى بالعين المجردة خمسة آلاف من النجوم.، ولكن هذا العدد يتضاعف إلى اكثر من (٠٠٠٠٠٠،٢) من النجوم حين نستعمل تلسكوبا عاديا. واقوى تلسكوب في العالم هو الذي يوجد في مرصد (ماؤنت بالومار) في الولايات المتحدة الامريكية، ويستطيع ان يشاهد بلايين من النجوم.

ان الفضاء الكوني فسيح جدا، تتحرك فيه كواكب لاحصرلها، بسرعة خارقة، بعضها يواصل رحلته وحده، ومنها ازواج تسير مثنى مثنى، ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات.، ولو انك لاحظت ضوء الشمس الذي يدخل غرفتك من الشباك. فسترى ان هناك ذرات كثيرة من الغبار تتحرك وتسير في الهواء، فلو استطعت ان تتخيل هذا في شكل اعظم لامكنك ان تحظى من الفهم بشيء عن السيارات والكواكب في الكون، مع الفرق الهائل المتمثل في ان ذرات الغبار تتحرك، ويتصادم بعضها مع بعض. ولكن الكواكب مع كثرتها يواصل كل واحد منها سفره على بعد عظيم يفصله عن الكواكب الاخرى. ومثلها مثل بواخر عديدة تمشي في اعالي البحار متباعدة، حتى ان احداها لا تعرف شيئا عن الاخرى. ان هذا الكون يتالف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم، تسمى «مجاميع النجوم »وكلها تتحرك دائما.

واقرب حركة منا هي حركة القمر التي تبعد عنا (٠٠٠٠‌٤‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌٢) ميلا. وهو يدور حول الارض، ويكمل دورته في مدة تسعة وعشرين يوما ونصغف يوم. وكذلك تبعد ارضنا هذه عن الشمس (٠٠٠٠٠٠،٩٣) ميلا، وهي تدور في محورها بسرعة الف ميل في الساعة، في دائرة (٠٠٠٠٠٠،١٩٠) ميلا، وتستكمل هذه الدائرة مرة واحدة في سنة كاملة. وكذلك توجد تسعة كواكب مع الارض.، وكلها تدور حول الشمس بسرعة فائقة. وابعد هذه الكواكب السيار «بلوتو»الذي يدور في دائرة (٠٠٠٠٠٠،٥٠٠،٧) ميلا حول الشمس. وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمرا اخرى، وتوجد غير هذه الكواكب حلقة من ثلاثين الفا من «النجيمات»، وآلاف من النجوم ذوات الاذناب، وشهب لا حصرلها، وكلها تدور، وفي وسطها ذلك السيار العملاق الذي نسميه«الشمس»، وقطرها (٠٠٠،٨٦٥) ميلا وهي اكبر من الارض (٠٠٠،٢٠٠،١) مرة!!ثم ان هذه الشمس ليست بثابتة، او واقفة في مكان ما، وانما هي بدورها، مع كل هذه السيارات والنجيمات، تدور في هذا النظام الرائع، بسرعة (٠٠٠،٦٠٠) ميلا في الساعة. وهناك آلاف من الانظمة، غير هذا النظام الشمسي، يتكون منها ذلكم النظام الذي نسميه «مجاميع النجوم».، او المجرات، وكأنها جميعا طبق عظيم تدور عليه النجوم والكواكب

٥٨

منفردة ومجتمعة، كما يدور الخذروف الذي يلعب به الاطفال. ومجرات النجوم هذه تتحرك بدورها ايضا.، والمجرة التي يقع فيها نظامنا الشمسي تدور على محورها بحيث تكمل (دورة واحدة) في (٠٠٠٠٠٠،٢٠٠) «سنة ضوئية».

ويقدر علماء الفلك ان هذا الكون يتألف من خمسمائة مليون من مجاميع النجوم، مضروبا هذا العدد في (٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠،٥٠٠)، من الملايين،. وفي كل مجموعة منها يوجد (مائة مليار) من النجوم، او اكثر او اقل، يقدرون ان اقرب مجموعة من النجوم، وهي التي نراها في الليل كخيوط بيضاء دقيقة تضم حيزا مداه مائة الف سنة ضوئية. ونحن سكان الارض نبعد عن مركز هذه المجموعة بمقدار ثلاثين الف سنة ضوئية، وهذه المجموعة جزء من مجموعة كبيرة تتالف من سبع عشرة مجموعة، وقطر هذه المجموعة الكبيرة (ذات السبع عشرة) مليونان من السنين الضوئية.

ومع هذا الدوران تجري حركة اخرى، وهي ان هذا الكون يتسع من كل جوانبه، كالبالون المتخذ من المطاط. حين ينفخ فيه الاطفال، وشمسنا هذه وهي تدور حول نفسها تدور بنا ايضا على الحاشية الخارجية للمجرة، وهي تتباعد عن هذه الحاشية الخارجية بمقدار اثني عشر ميلا، كل ثانية، كما تتبعها في هذه العملية جميع النجوم الداخلة في النظام الشمسي. وهكذا جميع السيارات تسير إلى جانب او آخر، مع دورانها الخاص طبقا لنظامها، فمنها ما يسير بسرعة ثمانية اميال في الثانية، ومنها مايسير بسرعة ثلاثة وثلاثين ميلا في الثانية، ومنها ما يسير بسرعة اربعة وثمانين ميلا في الثانية. وجميع النجوم، على هذا النحو، تبتعد في كل ثانية، بسرعة فائقة عن مكانها. هذه الحركة المدهشة تحدث طبقا لنظام وقواعد محكمة، بحيث لا يصطدم بعضها ببعض، ولا يحدث اختلاف في سرعتها.

ان حركة الارض حول الشمس منضبطة تمام الانضباط.، بحيث لا يمكن ان يحدث ادنى تغير في سرعة دورانها، حتى بعدمرور قرن من الزمان وهذا القمر الذي يتبع في حركته الأرض يدور في فلك مقرر ومنضبط، مع تفارت يسير جدا، يتكرر بعد كل ثمانية عشر عاما ونصف عام، بدقة فائقة، وتلك هي حال جميع الاجرام السماوية. ويرى علماء الفلك ان مجرات النجوم يتداخل بعضها في بعض، فتدخل مجرة تشتمل على بلايين من السيارات المتحركة، في مجرة اخرى مثلها ( وتتحرك سياراتها هي الاخرى )، ثم تخرج منها بسياراتها جميعا، دون ان يحدث أي تصادم بين سيارات المجرتين.

وان العقل، حين ينظر إلى هذا النظام العجيب، والتنظيم الدقيق الغريب، لا يلبث

٥٩

ان يحكم باستحالة ان يكون هداكله قائما بنفسه، بل ان هنالك طاقة غير عادية هي التي تقيم هذا النظام العظيم، وتهيمن عليه.

***

الانظمة المعقدة

ان هذا النظام الذي يوجد في العوالم الكبرى، نجده - في صورته الكاملة - في أصغر عالم عرفناه، فنحن نعرف - طبقا لاحدث معلوماتنا - ان الذرة أصغر عالم - وانها قد تناهت في صغرها حتى لايمكن ان نشاهدها بالمنظار الذي يكبر الاشياء ملايين المرات، فهي - بناء على هذا - ليست شيئا، بل انها «لاشيء» بالنسبة إلى أدنى ما يستطيع البصر الانساني أن يراه، ولكن هذه الذرة - مع ماوصفناها به - تحتوي بصورة رائعة على نظام الدوران العجيب، الموجود في النظام الشمسي؛ فالذرة اسم لمجموعة من الالكترونات، وهذه الالكترونات لايتصل بعضها ببعض، وانما يوجد بينها فراغ كبير الحجم (نسبيا). ولنأخذ مثلا قطعة من الحديد التي توجد فيها الذرات، متصلا بعضها ببعض اتصالا شديدا. وسنجد أن هذه الالكترونات لاتشغل اكثر من ٠٠٠٠٠٠٠٠٠،١١ من مساحة الذرة، وبقية المجال يكون خاليا. ولو أننا أخذنا صورة مكبرة لجزيئين من الالكترون والبروتون فسوف يكون الفاصل بينهما مايقرب من ثلاثمائة وخمسين ياردة. ولقد نتصور الذرة، من حيث هي في الغبار، غير مرئية، ومع هذا فان حجم دوران الالكترون داخلها يبلغ حجم كرة قدم قطرها ثماينة أقدام.

والالكترون - الذي هو الجزيء السلبي في الذرة - يدور حول البروتون - الذي هو الجزيء الايجابي فيها - وهذه الجزيئات التي لاحقيقة لها أكثر من نقط وهمية سابحة في الشعاع، تدور حول مركزها، بنفس النظام الذي تتبعه الأرض في مدارها حول الشمس، بحيث لايمكن تصور وجود الالكترون في مكان محدود لسرعة دورانه، وانما هو يتخيل فقط موجودا على طول مداره في وقت واحد. وذلك لانه يدور حول مداره بلايين المرات في الثانية الواحدة!!.

هذا النظام الذري يستحيل قيامه بنفسه، ولاطريق إلى مشاهدته، ولايمكن تفسير عمله داخل الذرة بغير العلم، اما وقد تبناه العلم فعلا، فلماذا لانأخذ منه دليلا على وجود منظم قائم على هذا التنظيم؟ انه يستحيل قيام هذا التنظيم في الذرة دون منظم قائم عليه.

***

اننا نتحير اذا رأينا النظام المعقد لأسلاك التليفون، ونتحير اذا وجدنا ان مكالمة من

٦٠