الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية4%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135085 / تحميل: 7936
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمامة الإلهية

١

٢

الإمامة الإلهية

بحوث سماحة الأستاذ

آية الله الشيخ محمّد السّند

الجزء الأوّل

تأليف

السيد محمد علي بحر العلوم

٣

٤

مقدِّمة بقَلم الأستاذ الشيخ محمد سند

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ربِّ العالمين، وصلَّى اللَّه على سيِّد الخلق محمد المبعوث للرسالة، وعلى آله الأئمَّة الهُداة. وبعد، فإن البحوث العقائدية والمعرفة الدينية بمكان من الأهمية؛ حيث إنّها الرَّاسِمة لطريق الإنسان والمجتمع في هذه النشأة - في مختلف شؤونها وجهاتها - والنشآت اللاّحقة، فمِن ثَمَّ احتلت موقعاً في الصدارة وأولوها عناية خاصة، فالإيمان والهداية قد شدّد على صدارتهما القرآن والسنّة في قائمة أعمال الإنسان؛ فقد قال تعالى:

( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (١) .

والواجب الاعتقادي المعرفي، هو: فعل تقوم به النفس وجوانحها في الدرجة الأولى. فالإدراك والإذعان، أو المعرفة والإيمان، أو التعقُّل والإخبات، أو الاهتداء والتسليم، فعلان تقوم بهما طويَّة القوى للنفس، ومن ثَمَّ يستعقبها أفعال أخرى لواجبات أخرى، وهذا يوازي التعبير المقرَّر في العلوم الإنسانية الأكاديمية: أن رؤية الإنسان اتجاه الكون تتفرَّع عليها كل الأمور الأخرى؛ من الحقوق والآداب والقوانين والأعمال.

ولا يخفى أن الأصول الاعتقادية الخمسة؛ من التوحيد والعدل والنبوَّة والإمامة والمعاد، مآلها هو التوحيد في المقامات الخمسة، فالأوَّل: هو التوحيد في الذات الأزلية

____________________

(١) فاطر: ١٠.

٥

الإلهية، والثاني: هو التوحيد في الصفات، مطلق الصفات، والثالث: هو التوحيد في التشريع والشريعة؛ وهو التوحيد في الأفعال من نمط، والرابع: هو التوحيد في الطاعة والولاية، والخامس: هو التوحيد في الغاية؛ وهو الإخلاص والخلوص. فاللَّه تعالى أحديُّ الذات؛ واحد لا شريك له في الذات ولا في الصفات، ولا شريك له في الحكم، وله الولاية وحقُّ الطاعة بالذات، وهو غاية الغايات، فليس وراءه غاية. وهذا ما تكفَّلت الإشارة إليه مقدِّمات هذا الكتاب.

كما لا يخفى أن العلوم المتكفِّلة للبحث في المعرفة الدينية قد اختلفت مناهجها؛ من الاعتماد عمدة على العقل النظري أو العقل العملي أو الواردات والإدراكات القلبية الذوقية، ومن الاعتماد على الكتاب العزيز والسنَّة المطهَّرة، أو المزيج بينها على أنحاء عديدة. وليست المعرفة بحسب الطاقة البشرية المجرَّدة كالمعرفة الحاصلة من مناهل الوحي الإلهي؛ فالمعرفة الأوَّلية الفطرية وإنْ كانت رأس المال، ولكن العقل والقلب لغتان يُقرأ بهما كتاب الوحي، وهما المخاطَبان للسانه، ومِن ثَمَّ كان البحث عن المنهجية المنطقية أمراً لابدَّ منه، ومقدَّماً على البحث المعرفي الاعتقادي، لاسيّما وأن كُلاًّ من هذه المصادر للمعرفة، كُلاًّ منها على حدة، قد تشعَّبت فيه المباني وكثُرت في أطرافه التساؤلات الجادة أو الملتبِسة، فكان اللازم متابعة البحث في ذلك وبتسلسل، وهذا ما اشتمل عليه الفصل الأوَّل من هذا الكتاب.

وقد أخذ عنانُ الحديث في الأوساط المختلفة في الآونة الأخيرة حول عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية بالتساؤل عن الخلفية القانونية للحكومة وإقامتها في عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر، وكون مشروعيَّتها ممتدة من إمامته (عجَّل اللَّه تعالى فرجه الشريف) أو أن الصلاحية مستمَدَّة من الأمَّة والانتخاب وما يطلق عليه بالشورى، وتسليط الضوء على المذهب الرسمي لعلماء الإمامية في ذلك، مع قراءة قانونية للإمامة في سيرة الأئمَّة

٦

الاثنى عشر عليهم‌السلام وأدوارهم في التاريخ، وبالتالي البحث عن الإمامة الإلهية عند الشيعة وبُعدِها القانوني والتشريعي في النظام السياسي والاجتماعي، وهذا ما عالجه الفصل الثاني من هذا الكتاب.

كما أن معترك الكلام في الأندية المتنوِّعة حول الإمامة الإلهية للعترة المطهَّرة، تركِّز حول المقام الغيبي في حقيقة الإمامة، أو أنها مقام اعتباري قانوني صرف للعترة النبوية؛ بلحاظ تفرُّقهم على صفات كمالية كما ينسبق ذلك إلى الذهن من تعريف المتكلِّمين، فهل هي حقيقة تكوينية وصفة خارجية وسفارة إلهية كما هو الحال في النبوَّة، وإنْ اختلفت عنها سنخاً، ويكون المقام القانوني أحد شؤون تلك الحقيقة؟ من الواضح أجنبية هذه الجهة من البحث عن أدوات الاعتبار والعلوم الاعتبارية القانونية، وتطلُّبها أدوات البحث العقلي والعياني والنقلي المعارفي، كما يستدعي البحث ثلاثة أصعدة: صعيد التصوُّر اللُّغوي والعقلي والنقلي؛ وهو ما يوازي (ما) الشارحة في الأسلوب المنطقي، وصعيد التصديق العقلي والفقه العقلي للإمامة؛ وهو ما يوازي (ما) الحقيقية و(هل) البسيطة عند المناطقة، وصعيد التصديق النقلي والفقه الشرعي للإمامة؛ وهو ما يوازي (هل) المركَّبة في المنهج الاستدلالي المنطقي؛ أي كان الناقصة، ولا محالة يستلزم (كان) التامَّة أيضاً. بمقتضى الفقه النقلي يقع التدبُّر في النصوص القرآنية والنبوية - المرويَّة عند الفريقين - بالدرجة الأولى، ومن ثَمَّ عطف النصوص المأثورة عن المعصومين‏ عليهم‌السلام عليها. وفي خضم هذا البحث، تقع قراءة عقلية تفسيرية لحالات وشؤون الأئمّة (صلوات اللَّه عليهم) المأثورة في الحديث والتاريخ، ومجموع كل ذلك، هو البحث في الإمامة الإلهية وبعدها التكويني، عقلاً ونقلاً، وهذا ما اهتمَّ به الفصل الثالث من الكتاب.

ويستتبع ذلك شرح عدّة من العناوين المتفرِّعة عن البحوث السابقة، كالتولِّي والتبرِّي ونحوهما، والتي هي بمثابة وظائف للمأموم نحو الإمام، مع لمحة فهرسية لمناهج

٧

الاستدلال في الإمامة، وهذا ما عنيتْ به خاتمة الكتاب.

وقد جاء هذا الكتاب حصيلة بحث استغرق العامين الدراسيين ١٤١٧ / ١٤١٨ هـ. ق للحوزة العلمية في قم المقدَّسة الذي عقدناه مع ثُلَّة من الأفاضل، وقرَّره بنضد منسَّق المعاني، في عبارة جزلة، الفاضل المجدّ، السيِّد محمَّد علي بحر العلوم، دام نشاطه العلمي والديني، عسى أن يقع محلّ فائدة لدى روّاد البحث والمعرفة.

قم/عشُّ آل محمّد عليهم‌السلام /بجوار كريمة أهل البيت عليهم‌السلام

محمد سند                  

الخامس من شوّال/ ١٤٢١هـ. ق   

٨

المدخل:

بسم الله الرحمن الرحيم

إن البحث حول الإمامة ليس بالبحث الهيّن؛ وذلك لغور معناها وتعدُّد جهاتها، كيف لا، وأدنى معرفتها أنها عِدل النبوَّة إلاّ أنّها ليست بنبوَّة، ويصعب أكثر إذا أراد الباحث التعرُّض إلى كل الشبهات والإشكالات التي طُرحت منذ عشرات السنين وما زالت تُطرح وتُتداول في الأوساط المختلفة، شأن بقيَّة الأصول الاعتقادية. وقد اتخذنا في هذا البحث طريقةً وأسلوباً مختلفاً عمَّا سبق وتناوله السلف الصالح جزاهم اللَّه خير الجزاء.

ونتعرَّض في هذا المدخل لعدد من النقاط المهمَّة التي لابدَّ من العلم بها قبل الولوج في صلب البحث:

النقطة الأولى:

إن البحث حول الإمامة قد يكون أشقَّ من البحث حول التوحيد؛ وذلك لأن التوحيد يعني إثبات الإلوهية ونفي الشرك في مقام الذات، وهذا يرتضيه كثير من الناس حتّى غير المسلمين. أمَّا الإمامة، فإنها تمثِّل جانباً آخر من الإيمان باللَّه؛ وهو جانب الانصياع والطاعة لمَن أمر اللَّه بطاعتهم، ويُعتبر ممارسة اعتقادية وعملية للإيمان، لذا كان من المهمِّ الاهتمام به وإعطاؤه الأولوية في البحث؛ لإثبات أن الحقَّ تعالى أبقى هذا الاتصال بين الأرض والسماء.

٩

النقطة الثانية:

من المسلَّمات التي لا يختلف فيها اثنان، أن ابن آدم يتكوَّن من بدن وروح، ومنذ بداية نشأة الإنسان على هذه الأرض تتنازعه هاتان الجنبتان، فنرى أفراداً يتغلَّب عندهم الجانب البدني، فتسيطر عليهم المادَّة، ويتخيَّل الفرد أن كمالاته تتحقَّق في اتباع كمالات وشهوات بدنه، وفي الجانب المقابل نرى أفراداً يتغلَّب الجانب الروحي لديهم، فيوغلون في الرياضات الروحية، ويُميتون حاجة أبدانهم ليرتقوا بأرواحهم في سُلّم السعادات، وهم أصحاب النزعات الباطنية.

وباستعراض سريع لتاريخ البشرية، يتَّضح لنا أن الأغلب والأكثر هم اتباع القسم الأوَّل الذي سيطر الجانب المادي والبدني عليهم، فعانت البشرية من مشاكل كثيرة؛ وذلك لأن تغلُّب هذا الجانب سوف يواجه صعوبات في إيجاد وإثبات الاتصال بين السماء والأرض؛ حيث يفقد المقاييس والضوابط التي في الجانب الروحي، ويحكِّم ضوابط ومقاييس الجانب البدني عليها، ممَّا يولد مشكلات عدَّة.

والإسلام والديانات، بشكل عام، تسعى إلى إيجاد التوازن بين هذين الجانبين في الإنسان، وعدم طغيان أحدهما على الأخر، فالدهريُّون منذ زمن الرسالة المحمدية إلى المدارس العصرية في زماننا هذا، يحملون نفس الهاجس؛ وهو سيطرة الجانب البدني وعدم الاعتراف بالضوابط والمقاييس الروحية.

ومن خلال الآيات القرآنية نستطيع أن نتلمَّس بعض المظاهر لسيطرة هذا الجانب:

*( قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْ‏ءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ) (١)

____________________

(١) يس ٣٦: ١٥.

١٠

فيرى المنكرون أنَّ مَن أُرسلوا إليهم ليسوا إلاّ بشراً، والبشر قدرته محدودة، فلا يكون رسولاً من عند اللَّه، وهذا مع إيمانهم باللَّه والتوحيد.

*( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ* قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) (١) .

وهذا مثال آخر لقوم آخرين ينكرون الرسالة ولا يتصوَّرون وجود قوَّة غير بشرية، بل كلّها داخل قدرة البشر وقواه المختلفة، الإدراكية والعمّالة.

* وتتدخَّل لإنكار الرسالة دوافع الحسد والجاه ( وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (٢) ويرى كلُّ فرد منهم أنْ يكون له اتصال مع اللَّه بنفسه، وأن يكون هو رسول من عند اللَّه، لا غيره. بل ( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (٣) .

* وعندما يطلب المنكرون إثبات اتصال الرسول باللَّه، يطلبون الرؤية ( قَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (٤) فهم يؤمنون باللَّه وبالتوحيد، لكن ميزان الارتباط هو أمر مادي؛ وهو رؤية اللَّه البصرية.

* والقرآن في قبال كل هذه الإنكارات يركِّز على أن الرسول بشر، وهو رجل منهم، ولا يمكن أن يرسل غير البشر، ويتميَّز الرسول عن غيره بعدم سيطرة النزعة البدنية والمادية عليه، بل هو في الجانب الروحي متَّصل باللَّه ومرتبط بالوحي، ووزَّان

____________________

(١) الأنبياء ٢١: ٣، ٤.

(٢) الزخرف ٤٣: ٣١.

(٣) المدثر ٧٤: ٥٢.

(٤) البقرة ٢: ٧٤.

١١

الروح ليس كوزَّان البدن، وحدود الروح ليست حدود البدن، وهذا الجانب هو الذي يميِّز الرسول والإمام والوليَّ الصالح.

* وفي العصور المتأخرة يتغيَّر بيان هذه الإنكارات من بني الإنسان، فليجأون إلى صياغات أخرى.

منها: أن وجود اتصال دائم بين البشرية وبين الجانب الربوبي يؤدِّي إلى الضمور وعدم الانطلاق في الحياة، والكسل والاعتماد على المِنح الغيبية.

ومنها : أن قوَّة الفكر البشري كافية في إرشاد الإنسان نحو الكمال.

أو القول بأن الركون إلى وجود مثل هذا الاتصال - ولو على شكل إمامة - إفراط في النزعة الباطنية.

أو القول أن معنى النبوَّة الخاتمة هو اكتمال القوى العقلية لدى بني البشر، فلا تحتاج البشرية في مسيرتها إلى تسديد سماوي.

أو دعوى تساوي أفراد البشر في الكمالات الروحية.

والجامع بين هذه الدعوات والأساليب السابقة هو سيطرة الجانب المادي على نفوس أصحابها، فحرموا من نعمة إحساس واستطعام حلاوة الروح.

النقطة الثالثة:

من الأمور التي يعيبها أهل الفكر من المتأخرين على أهل التدُّين، هو: أن الأخيرين يُضفون على عقائدهم هالة من القدسية، تكون سوراً أمام التفكير فيها، وعائقاً يمنع عن البحث حول مدى صحَّـتها.

وفي الواقع هذا غير تام؛ إن القدسيَّة، مع الاعتراف بها، لا تمنع من البحث والتشكيك الذي يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، أو إلى مزيد من اليقين.

١٢

بيان ذلك: إن القدسية تعني إضفاء احترام وخضوع خاص لحقيقة معينة أو لقضية ما، وبتحليل أدق: هي خضوع القوى العملية للإنسان للقوى النظرية، باعتبار أنَّ هذا هو الأمر الطبيعي لقوى الإنسان؛ حيث إنَّ القوى العملية ليس لها قوّة الإدراك، فلابدَّ أن تجد طريقها في الهداية بتوسُّط القوى النظرية. فالقدسية فعل من أفعال القوى العملية، وهو احترام وخضوع لإدراك يتمُّ بواسطة قوَّة العقل النظري، وهي الحالة الطبيعية لِمَا يجب أن يكون عليه تفكير الإنسان.

ومن جهة أخرى، فإنَّ التشكيك على نحوين: أحدهما ممدوح، والآخر مذموم. أمَّا الممدوح، فهو التشكيك لاستكشاف المجهولات وبيان الحقائق، وهو الذي يدفع الإنسان للبحث والتنقيب، وهذا يزول بمجرد بروز الحقيقة، وقيام الأدلَّة والبراهين الساطعة. أمَّا المذموم، فهو التشكيك الذي يؤدِّي إلى زعزعة الحقيقة الحاصلة في النفس، من دون أن يدفع نحو الفحص، بل تبقى حالة الشك والاضطراب والتحيُّر، وعدم القدرة على الإذعان بالبرهان السليم، مستولية على هذا الفرد، وهذه حالة مرضية مستعصية يفقد بها الإنسان قدرته على التعايش؛ حيث تكون الإدراكات الصحيحة غير قادرة على توليد الإذعان بها لديه، فالشك ليس إلاّ جسر يُعبر عن طريقه إلى الحقيقة، سواء جهة النفي أم الإثبات. أمَّا بقاء حالة الشك، فهذا مرفوض ومذموم.

النقطة الرابعة:

من الدعائم الفكرية التي يقوم عليها المذهب الوهابي، والتي بنوا عليها نتائج كثيرة لها أهمية اجتماعية وسياسية، هي أن القرآن الكريم في آيات كثيرة يركِّز على

١٣

عقيدة مهمَّة؛ وهي التوحيد ونفي الشرك، ولا يتعرَّض لأصل وجود اللَّه، والسرُّ في ذلك، أن العرب في ذلك الوقت كانوا يؤمنون بأصل وجود اللَّه، لكنَّهم كانوا يجعلون له شركاء في الوجود والعبادة من أصنامهم؛ لذا واجه القرآن ذلك، وركَّز على إنه واحد لا شريك له. وبنوا على هذه العقيدة أن الإنسان يجب أن يرتبط باللَّه مباشرة؛ من دون أيَّة حاجة إلى وسيط، والخضوع غير جائز إلاّ له، وأن اللَّه لا يجعل أيَّة واسطة، أو وسيلة، بينه وبين العبد.

وقد سبقهم المفسِّرون بعض الشي‏ء في أصل دعواهم؛ بمعنى أن الدارس للقران الكريم يتَّضح له ذلك بنحو جلي، وأن هناك آيات كثيرة تركِّز على هذا الجانب.

لكنَّنا نقول لهم: حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء؛ وذلك لأنّ هذا الاستقراء ناقص، إذ إنّ الآيات التي تركِّز على ذلك الجانب واردة في العهد المكي. أمَّا الآيات الواردة في العهد المدني، وهو عصر تكوين الدولة الإسلامية، فلا تركيز لها على هذا الجانب، بل ركَّزت على جانب آخر مهم؛ وهو التوحيد ونفي الشرك في الطاعة.

وبعبارة أخرى؛ بعد بناء المجتمع الإسلامي وصيرورة مَن في المدينة موحِّداً في العبادة، لا يشرك باللَّه أحداً في الوجود الإلهي، وبطلان أصنام الجاهلية، وجّه القرآن المسلمين إلى مفهوم آخر يعتبر استكمالاً للتوحيد في العبادة؛ وذلك أن العبادة الرسمية وحدها لا تكفي، بل يجب أن تقترن بالطاعة، وهذه الطاعة تكون لِمَن نصَّبه اللَّه؛ فطاعته تكون طاعة للَّه ومعصيته تكون معصية للَّه، بل إن طاعة مَن لم ينصِّبه اللَّه هي شرك؛ فليس لأحدٍ حقَّ الطاعة إلاّ من خلال أمر اللَّه جلَّ وعلا.

إذن، الآيات المكِّية ركَّزت على التوحيد ونفي الشرك في الوجود الإلهي والعبادة، والآيات المدنية ركَّزت على التوحيد ونفي الشركة في الطاعة، والوهابية

١٤

رأوا القسم الأول، وعميت أعينهم عن القسم الثاني.

ومن الشواهد على ما ذكرتْه الآيات المدنية:

*( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِدُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ) (١) ...

فإن الندَّ هو المماثل. ويكاد يجمع المفسرون على أن المراد ليس اتخاذ إله آخر مع اللَّه؛ فهم موحِّدون في العبادة الاصطلاحية الرسمية، بل يقصد بالأنداد هنا: الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس وأطاعوهم من غير أنْ يأذن اللَّه في إطاعتهم، كما يشهد ذيل الآية: ( إِذْ تَبَرَّأَ ) و ( اتَّبَعُوا ) .

وفي الكافي والعيَّاشي عن الباقر عليه‌السلام في قوله: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِدُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً... ) قال: هم واللَّه - يا جابر - أئمَّة الظلم وأشياعهم.

*( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) .

والآية بعد أن تقرِّر وحدانية الإلوهية وعبادة اللَّه وحده لا شريك له، تؤكِّد على وحدانية الربوبية، وهي ربوبية الطاعة؛ إذ إنّ الربَّ هو السيِّد المربِّي الذي يطاع فيما يأمر وينهى، أي المشرِّع والمطاع من دون إرشاد اللَّه إليه، فالطاعة لا يجوز أن تكون لأيِّ فرد، بل هي مختصَّة لمَن يرشد إليه اللَّه سبحانه.

* ( قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٢)

____________________

(١) سورة البقرة: ١٦٥.

(٢) آل عمران:٣١.

١٥

فمحبة اللَّه والإيمان به تعني وجوب اتباع الرسول الذي أرسله اللَّه إليكم، فمَن يحبُّ اللَّه يجب أن يتَّبع الرسول، وبعكس النقيض: مَن لا يتَّبع الرسول لا يحبُّ اللَّه.

* وممَّا تكفَّلت الآيات المدنية بيانه هو إرشاد المسلمين إلى خطأ اليهود والنصارى الذين وقعوا في خطأ جسيم؛ وهو اتباع رؤساء دينهم فيما يغشونهم، وجعلوه كأنه أية منزلة من عند اللَّه؛ قال تعالى: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ ) (١) فمن الواضح أنهم لم يكونوا يعبدونهم ولم يتَّخذوهم آلهة، وكل الذي فعلوه أنهم أطاعوهم طاعة عمياء.

*( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ... إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (٢) فرتَّب الكفر الاصطلاحي على عدم خضوع الطاعة.

* ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) فنفى الإيمان مع عدم تسليم الطاعة قلباً وعملاً.

ونكتفي بهذا المقدار من الشواهد، مع وجود شواهد أخرى عديدة، تؤكِّد على أن الآيات المدنية وردت في أكثر من موطن لتحذِّر المسلمين من مغبَّة الوقوع في انحرافات اليهود والنصارى باتباع مَن لم يأمر الحقُّ باتباعه، فالتوحيد في الطاعة من الأمور المهمَّة التي ركَّز عليها القرآن، وطاعة الأئمَّة تدخل في هذا النطاق.

____________________

(١) التوبة ٩: ٣١.

(٢) البقرة ٢: ٣٤.

(٣) النساء ٤: ٦٥.

١٦

النقطة الخامسة:

إن البعض يتصوَّر أن البحث حول الإمامة يؤدِّي إلى تفكيك المجتمع الإسلامي، وبتعبير آخر: أن هذا البحث هو في خط مقابل لبحوث الوحدة الإسلامية، وهذا الاعتقاد خاطئ؛ وذلك لأننا عندما ننظر إلى الوحدة الإسلامية، يجب أن نحلِّل هذا المصطلح طبقاً للمعايير الفقهية التي أسَّسها الفقة الإمامي، لا أن نعبِّر تعبيراً عصرياً، فننظر إليه بمنظار ما يسمَّى بـ: الثقافة الإسلامية، ونحيطه بطائفة الشعارات التي لا تمسُّ الشريعة بصلة.

فمن وجهة نظر فقهية - وبقراءة سريعة لِمَا حبَّرته يراع الفقهاء السابقون (رضوان اللَّه عليهم) - نرى أنهم ينصُّون على أن مَن تشهَّد الشهادتين فقد دخل في الإسلام؛ وتصبح له حرمة يجب الحفاظ عليها ومراعاتها، ولا يجوز أن تُهتك. وهذه الحرمة تشمل جميع جوانب الحياة اليومية؛ من اجتماعية واقتصادية وسياسية وجنائية، فلا يجوز تحميله - لمجرَّد عدم دخوله في المذهب الحق - عبئاً اقتصادياً غير ما فرضه اللَّه على المسلمين كافَّة، ولا يجوز معاقبته على جناية ارتكبها بعقوبة أكثر ممَّا فرضه اللَّه على الجميع. وهكذا فإنَّا نرى أن الفقهاء قد عملوا وأفتوا عملاً بما تستلزمه وحدة المسلمين وبقاؤهم كالبنيان المرصوص.

أمَّا الآية الكريمة ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) (١) فإنها تخاطب المسلمين بشكلٍ عام؛ وهم مَن تشهَّد بالشهادتين، وتوجِّه لهم خطابان: أحدهما وجوب الاعتصام، والآخر عدم التفرقة، وهذا قد يكون أمراً

____________________

(١) آل عمران:١٠٣.

١٧

جديداً غير الاعتصام، وقد يكون تأكيداً له. فالآية تدلُّ على نكتة مهمَّة يجب على المسلمين التنبُّه إليها؛ وهي أن مجرَّد الشهادتين واشتراك الجميع في أداء العبادات الضرورية، التي يعترف بها الجميع، غير عاصمة - هذه كلِّها - للمجتمع الإسلامي، وأن هذه الثوابت غير كافية في احتفاظ المجتمع لبنائه الواحد، وأنها معرَّضة للفشل؛ لذلك تعرض الآية إلى وجوب أن يتمسَّك المسلمون بأمر آخر يكون عاصماً للمسلمين من الضلال والغواية، وهو التمسُّك بحبل اللَّه. وفي هذا من الاستعارة التمثيلية ما لا يخفى؛ فإن الحبل الذي يستخدم للنجاة طرف منه يكون بيد المنجي، والآخر يكون بيد المعرّض للهلاك، وإضافة الحبل إلى اللَّه دليل على وجوب دوام الاتصال بين السماء والأرض إلى يوم القيامة، وأن الباري تعالى هو الذي يجعل هذا الحبل.

وهذا الحبل هو القرآن الكريم والسنَّة المتمثِّلة بآل البيت‏ عليهم‌السلام ‏كما ورد في كثير من الروايات؛ كحديث الثقلين. فإمَّا أن يقال إنهما حبلان - كما في بعض الروايات، وإمَّا حبل واحد؛ وهو القرآن الكريم، ويكون الحافظ والمبيّن للقران هم أهل البيت‏ عليهم‌السلام .

وأخيراً؛ سوف نشير إلى كيفية دلالة الروايات الكثيرة، المتَّفق عليها بين الفريقين، على عدم قبول الأعمال، وبطلان العبادة، بدون ولاية الأئمة، و على أن الولاية هي أساس لقبول الأعمال. وهذا هو نفس مفاد الآية (١) ؛ إنه من دون تمسُّك بالحبل، فلا عصمة من الضلال، وكذا هو مقتضى آية كفر إبليس بإبائه الطاعة لآدم، ومقتضى آية إكمال الدين وإتمام النعمة بما أنزل ذلك اليوم من فريضة الولاية.

____________________

(١) الوسائل ١: باب ٢٩/ أبواب مقدمة العبادات.

١٨

الفصل الأوَّل:

منهج المعرفة الدينية

١٩

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440