الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137444 / تحميل: 8178
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فالمراتب القلبية تدرك الشي‏ء بوجوده العيني وهويته العينية. أمَّا القوة العقلية، فهي تعمل أكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الإدراكين بمَن يُدرك الشي‏ء المقابل للمرآة تارة، ويدرك تارة أخرى صورته في المرآة.

والمرآة هي القوى الإدراكية الحصولية العقلية.

٦ - إن الإدراكات العقلية يتصوَّر فيها التصور والشك والترديد والجزم. أمَّا في المدركات القلبية، فهي صحيحة دوماً، على صواب أبدا، لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية؛ والسر في ذلك أنه في الإدراكات العقلية يكون المدرَك هو صورة الشي‏ء، والحاكي عن الشي‏ء، فيرد التساؤل عن مدى مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته، وأن تحصيل اليقين في الأمور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما إذا كان نفس الشي‏ء وعينه حاضرا، فإنه يكون يقينا؛ لا لبس فيه ولا ترديد. ومن هنا نجد أن الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية أشار إلى ندرة الحصول على اليقين، بل كلّها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلى ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) .

ومن هنا نعرف السر في حثِّ كثير من العلماء على تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألّا يُقتصر على تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور؛ إذ الإدراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة لها.

٧ - إن مراتب الإدراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا؛ حيث إن الوصول إلى الحقائق يتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الإنسان إلى هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلى تلك المراتب وتكون بالنسبة إليه كفصل جوهري؛ حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلى تلك المرحلة فيتصفَّح حيث ما شاء في العالم الغيبي.

١٠١

فالذي يُدرك الغيب لا يعني أنه أدرك كل الغيب، فاللَّه عزَّ وجلَّ لا تحيطه الأبصار والقلوب، بل عرفته القلوب بحقائق الإيمان.

٨ - مما ذكرنا يتَّضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، وأوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من أجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية، وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتّى تتهيأ النفس لتصفُّح أنوار الملكوت وتقوى الإدراكات القلبية، فمنهم مَن وصل إلى المراد؛ وهو المتَّبع لطريقة أهل البيت‏ عليهم‌السلام ومنهم مَن ضل الطريق وأضل غيره.

٩ - إن معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية؛ وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد، فيقال: إن كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست على نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبَّر بذلك الفلاسفة، أو حكاية المظهر عن الظاهر كما عبَّر العرفانيُّون، لكن هذه الحكاية وإن كانت غير قابلة للخطأ والصواب، بل هي صواب دائم، إلاَّ أنها ليست حكاية إحاطة؛ لأن الرقيقة لا تمثِّل كل كمالات الحقيقة.

١٠ - من الأمور التي تدلِّل على أهمية الإدراكات القلبية هو رجوع جميع الإدراكات العقلية إليها؛ بيان ذلك:

إنه قد ثبت في محلِّه رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلى البديهيات التصورية والتصديقية؛ وهي رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نرى أنها في تكونها محتاجة إلى الإدراكات القلبية؛ فعندما نقول: إنه صادق، فيعني عدم احتمال اللاّمطابقة؛ والسر في ذلك أن النفس تدرك ذاتها ووجودها، والصورة نفسها مدرَكة لديها بالعلم الحضوري، فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدى النفس فلا يحتمل اللاّنطباق، وهذا ببركة

١٠٢

العلم الحضوري.

ونفس الشي‏ء يقال في أول البديهيات التصديقية، وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، فموضوع القضية: اجتماع النقضين، ومحمولها هو: الامتناع، حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود، وحيث إن للوجود محكيَّاً، فترى أن هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلى حقيقة في وجود الإنسان هي: إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية. أمَّا اتصاله بالغيب، فهو اتصال حضوري مباشر.

الجهة الثانية:

حول ضابطة حُجِّـيَّة المعارف القلبية.

قد يتراءى لغْوية هذا البحث؛ وذلك لِمَا ذكرناه سابقاً من أن المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حُجَّة كلُّه، بل كل إدراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلى هذا البحث؛ وذلك لأن العرفاء أنفسهم يشيرون في بحث المكاشفات إلى أن المكاشفات على أقسام، وأن الإدراكات الحضورية على درجات، وأن بعض الأشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثُّلات العيانية من الشياطين أو كون قوى النفس قد اختلقتها، فلا يمكن القول بحجية كل الإدراكات القلبية. فكما ذكرنا في العلوم الحصولية؛ قد تحصل الحجب والأمراض التي تمنع عن إدراك الحقائق، فهنا كذلك تحصل حُجُب النفس التي تحجب الواقع عن إدراكه. وقد تعرَّضنا - وبنحو مفصَّل - في بحث الرؤية القلبية (١) إلى أن تصرُّف الشياطين والجن في

____________________

(١) انظر كتاب: دعوى السفارة في الغيبة الكبرى - مسألة: الرؤية القلبية.

١٠٣

قلب الكائن البشري، هو تصرف تكويني وفعل حضوري، ولكن ليس حضور الحقائق العالية.

ـ وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص، والسيد حيدر الآملي في نصِّ النصوص، على أن مِن الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني.... فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة؛ باعتبار أن الكتاب ارتباط بعالم الغيب، وأن القرآن تنزُّل من الصقع الربوبي.

نلاحظ ممَّا تقدَّم أن العرفاء ركَّزوا على نكتة أن المدرَكات قد لا تكون من الحقائق؛ فلذا يجب الاعتماد على الميزان المعصوم وإدراك معصوم.

ويتبقى جانب آخر نشير إليه؛ وهو تنزُّل المدركات القلبية إلى المدركات العقلية، حيث إن العلوم الحضورية يجب أن تنزَّل إلى القوة العقلية حتّى يستطيع أن يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثِّرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزّل يجب أن يكون مأموناً؛ والمقصود بالأمن: أن الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب أن تكون متطابقة مع حقائق الأشياء التي توصَّل إليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا، توجد أمراض تمنع من تنزّل إدراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي على القوة السفلى، فهنا أيضاً توجد أمراض وأخطار تمنع من حصول الإدراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب، فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة، وقد تكون الصورة مشوشة. وبتعبير أخر: إن مرآة العقل قد تشوبها حجب بسبب الأخلاق الرديئة أو الأعمال السيئة، فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم. ومن هنا نحتاج إلى ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاّحجة؛ حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ، لا في نفس المدرَك، ولا في تنزُّله. و من هنا تظهر الميزة

١٠٤

للفرد المعصوم؛ حيث إنه لا يدرك إلاّ ما هو حق، ولا يتنزَّل إلاّ بتنزّل من الحق. ومن هنا نرى أن القران يُوصف بأوصاف متعددة ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) فهو مدرك حق، ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) أي المعصومون من الذنوب والخطأ، ( بالحَقِّ أنْزَلناهُ وَبالحَقِّ نَزَلَ ) فالعصمة في صدوره لا تكفي، بل عصمة في التنزُّل من العوالم العلوية. فالقران الكريم سار مسيرة طولية؛ من العوالم العلوية إلى نفس النبي الأطهر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن يصل إلى رسم الخط، فيجب أن يحرز أن هذا الرسم والصوت مطابق لقوة الإدراك الحسي، وهي مطابقة لقوة المخيَّلة المطابقة لقوة العاقلة العملية المطابقة للعقل النظري المطابق للقلب ومراتبه القلبية المطابق لِمَا أُوحي له من اللَّه عزَّ وجل؛ لذلك نُفي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله الجنون ونفي عنه الشعر ونفي عنه الكهانة، فقواه العقلية تسير بالسير الفطري مطابقة المادون للأعلى وعدم تصرُّف الشيطان في قلبه. فكل ذلك الوارد في وصف القرآن والوارد في وصف الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ من أجل بيان أن هذه القناة معصومة مأمونة من الخطأ والزلل. وهذا دليل على أنه ليست كل مدركات القلب حجة، وإلاّ لَمَا احتيج إلى كل ذلك التأكيد ودفع الشبهات.

فالضابطة والميزان في كل ذلك هو الكتاب والسنة؛ حيث يعبِّران عن الوحي المعصوم، وكذلك العقل البديهي والنظري، فيمكن عرض التنزُّل على تلك البديهيات ليعلم الصحيح منها من السقيم.

وهذه النتيجة لا تعني إنكار الغيب أو إنكار للمدركات القلبية، بل هي الضابطة التي تحتاج إليها النفوس البشرية غير المعصومة، ونحن لا ننفيها بنحو مطلق، بل ننفي الحجية المطلقة لها.

١٠٥

خاتمة:

حول العلاقة بين الحجج الأربع.

لقد مضى الكلام في هذا الفصل حول الطرق والحجج الأربع؛ اثنان نقليَّان هما: الكتاب والسنة، واثنان تكوينيَّان هما: العقل والقلب. والغرض من هذه الخاتمة هو الإشارة إلى الارتباط والعلاقة بين هذه الطرق.

وقد ذكر للعلاقة بينها أمور:

ـ إن الفلسفة وهي الباحثة عن مدركات العقل، والعرفان وهو الباحث عن لغة الإدراكات الحضورية، تلميذان يؤهِّلان لفهم نكات الوحي.

ـ إن العقل والقلب يُرجع إليهما في رفع متشابهات النص، وإنه يُرجع إلى محكمات النص لتُرفع متشابهات العقل والقلب، فيُرفع متشابه كلٍّ منهما بمحكم الآخر.

ـ إن العقل والقلب شأنهما الإدراك. أمَّا الوحي، فهو نفس المدرَك.

ـ وقال البعض: إن وظيفة العقل والقلب هي التصور، وأمّا الحكم، فهو من وظيفة الوحي؛ بمعنى أن المخاطَب هو العقل والقلب، أمّا نفس الخطاب، فهو الكتاب والسنة؛ حيث إنهما مواد الوحي. فالمخاطَب ليس هو القوى النازلة، بل المخاطب هو العقل والقلب، واللغة اللسانية وظيفتها إحداث التصوّر، واللغة العقلية وظيفتها إحداث أصل الإدراك، والحكم والتصديق يكون من الشارع، فالمدرِك لهذا الحكم والتصديق والتصوير هو العقل، والمدرِك لهذه الإشعاعات النورية هو القلب. فكما أن الألفاظ موصلة للمعنى و بها يُحتج، فكذلك في لغة العقل بهما يحتجُّ على الإنسان، فالعقل والقلب هما المخاطبان ولغة الخطاب هي الوحي.

بتعبير آخر: إن العقل أيضاً يحكم ويصدِّق ويُدرك التصورات، ولكن يتبع حكم الوحي والشارع، فليس فيه إلغاء لدورهما.

١٠٦

ـ إن هناك سنناً تكوينية جعلها اللَّه عزَّ وجلَّ في طريقة التفكير البشري، فالعلم وإن كان نوراً يقذفه اللَّه في قلب الإنسان، إلاّ أن طريقة القذف تعتمد على أحد نحوين:

الأوَّل: هي الوصول إلى الاستنتاج عن طريق تهيئة المقدِّمات والمواد، وعبر مراعاة موازين ما يسمَّى بالمنطق، وذكرنا أنها مُعِدَّات تعدُّ الإنسان لكي يفاض عليه النتائج.

والآخر: هو التصفية والتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل والإيمان والمعارف، فيصلُ الإنسان إلى العلوم الحضورية، وهذا مسلك الإشراق والعرفاء....

فهاتان سنتان تكوينيتان في نيل الفكر والمعرفة الإنسانية، ويضاف إلى هاتين السنتين سنة وطريقة ثالثة وهي الوحي(الكتاب والسنة).

وهذه الطُرق ليست متقابلة، بل يجب الاستعانة بكل منها مع الأخر. فإذا استمد الإنسان بالسنُّتين التكوينيَّتين دون الوحي، فإن ذلك يعني خسران المعارف الهائلة، وكذلك لا يستفيد تمام وكمال الفائدة من الرافد الأخير إلاّ بالرافدين الأوَّليين لأنهما قناتيْ وطريقي المعارف.

ـ ووجه آخر لبيان العلاقة وهو أن الرياضة العقلية في العلوم العقلية، والرياضة القلبية في العلوم القلبية العرفانية بالغتا الأهمية من حيث كونهما مُعدَّتان للتأهُّل وخوض الوحي لفهم أسراره.

والعمدة التي تدور حولها جميع هذه الأجوبة لبيان العلاقة هو بيان التلازم بين هذه الطُرق المختلفة، بوضع كلٍّ في دوره الموظَّف له؛ بحيث لا يُلغى أحدهما الأخر، بل الوصول إلى الحالة الوسطية. وهذه الوجوه هي لبيان تلك الحالة الوسطية؛ ومنها جعل العقل والقلب الحجة الباطنة، وجعل الوحي الحجة الظاهرة.

١٠٧

وفي حديث طويل عن الصادق عليه‌السلام : (أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا تنفع شي‏ء إلا به، العقل الذي جعله اللَّه زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون.... وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله اللَّه قوامه وزينته وهدايته، عَلِم أن اللَّه هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة،وأن له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه...)الحديث (١) .

لقد بيَّن الإمام عليه‌السلام أن مصدر الأمور وأسسها هو العقل،ثُمَّ سأل سائل: هل يكتفي بالعقل؟ فقال: إنه علّم العقل بأنه لا يصل إلى الحقائق من رضى اللَّه وغيرهما.... بل يصل إليها بعلم الوحي، فلابدَّ منهما كليهما.

ولا يتوَّهم أن الشريعة والمعارف تجريد وغيب محض، بل هو غيب وشهادة؛ وذلك أنَّنا إذا حافظنا على موازين تلقِّي معارف الغيب، حينئذٍ يكون التنزُّل سليماً حتّى إلى عالم الحس والشهادة، فبيوت الغيب يجب أن تُؤتى من أبوابها، فلابدَّ من التدرُّج عبر بوَّابة العقل،ثُمَّ بوَّابة القلب، فكما أن سنة اللَّه مع عالم المخلوقات جرت بالتدرُّج، فكذلك تنزُّل هذه المعارف.

فالنتيجة أن التمسُّك بالوحي ورفض العقل والقلب، هو رفض للوحي أيضا؛ وذلك لأن المخاطَب بالكتاب والسنّة هو العقل، وجعل المخاطب غير العقل وإلغاء شرط العقل هو في الواقع إلغاء للكتاب والسنّة.

وكذلك مَن تمسّك بالعقل من دون الكتاب والسنّة، فقد ضيَّع العقل أيضا؛

____________________

(١) أصول الكافي، ج ١، ص٢٩.

١٠٨

وذلك لأن التمسُّك بالعقل والقلب هو إبقاء الإنسان في الحدود النازلة وعدم ارتقائه إلى المعاني العالية، وهو حرمان للعقل من المعارف الإلهية، وكذلك مَن ادعى أنه يفهم الكتاب والسنة من دون الالتفات إلى النكات العقلية، فقد أنزل المعارف من مستواها العالي؛ فلابد من الوسطية والتوازن.

وقد حاول العلاّمة الطباطبائي أن يذكر في كل مسألة الفحص في هذه الطرق الأربعة، ولا يقتصر على جانب دون آخر. وممَّن حاول أيضاً الجمع بين هذه الطرق، الملاّ صدرا في الحكمة المتعالية، وبغض النظر عن مدى موفقية كلٍّ منهما في النتائج التي توصَّلا إليها، إلاّ أنها محاولة جريئة وجديدة في بابه، فلم يقصر فكره على طريقة واحدة ومنهجية واحدة؛ حيث إنه استفاد من نكات مذكورة في السنّة في إيجاد براهين عقلية لأمور عجز العقل في السابق عن إثباتها كالمعاد الجسماني.

ـ أمَّا الشيخ الأنصاري، فيذكر في الرسائل:

أن التنافي بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية، لو قُدِّر وجوده، لا يخرج عن صور ثلاث:

إمَّا صورة التعارض لدليلين قطعيَّين.

وإمّا صورة تعارض نقلي قطعي وعقلي نظري.

وإمّا صورة تعارض نقلي ظنِّي وعقلي قطعي (نظري وبديهي).

أمَّا الصورة الأولى، فلا وجود لها ولم يشر أحد من الباحثين إليها قط.

أمَّا الصورة الثانية، فهي وإن كانت بدواً تعارض، إلاّ أن الإنسان إذا دقَّق ولاحظ في مواد الدليل العقلي، لوجد أنها ظنية وليست قطعية، والمشكلة تكمن أنَّنا - للوهلة الأولى - لا نلتفت إلى ذلك، بل بعد فترة من الزمن، حيث نتصوّر استحكام التعارض؛ والسرُّ في عدم التعارض هو: أن الوحي برهان وقطعي حيث ثبتت واقعيَّـته، وأنه من واجب الوجود، فلا يمكن أن يتصادم مع العقل القطعي. وقد نبَّه الملاّ صدرا إلى أن

١٠٩

قول المعصوم يمكن أن يستخدم كوسط في البرهان لعصمته عن الخطأ.

أمَّا الصورة الثالثة، فإنه لو أعيد النظر في العقل القطعي وتأكَّدتَ مِن قطعيَّـته، فإنه يكون قرينة على التصرُّف في الظاهر الظني والتأويل.

وتوجد صورة رابعة في التعارض بين الظني النقلي والظني العقلي، وفي هذه الصورة نلاحظ أن العقل الظني ليس بحجة. أمّا النقلي الظني، فقد ذكرنا في بداية بحثنا إمكان اعتباره ووقوعه كما يظهر من عبارة الشيخ في بحث الانسداد، ومال إلى ذلك كثير من علمائنا كالبهائي والشيخ الطوسي والميرزا القمي وغيرهم.

ويشير الشيخ إلى توصية هامة وهي:

أنه في بحوث المقام يجب التتبُّع وبذل الجهد للحصول على المعارف النقلية، القطعية منها والظنية المعتبرة، بناءً على اعتباره في التفاصيل النظرية في شعب المعرفة، فكما نجهد أنفسنا في البحوث العقلية البحتة أو القلبية، فإنه يجب بذل الجهد بعناية فائقة في تحصيل القطعيَّات النقلية. وممَّا يؤسف له قلَّة الجهود المبذولة في هذا المضمار بالقياس إلى حجم النقل الواصل بأيدينا وبالقياس إلى ما يُبذل من جهود في المجال الآخر، فإنه لو أثريت البحوث العقلية الاستدلالية في المعارف النقلية، لتوفّر تبويب كثير من الطوائف للأدلة النقلية، ولأمكن العثور على جمٍّ كبيرٍ من القرائن والاستفاضات المعنوية في كثير من المسائل.

١١٠

الفصل الثاني:

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

١١١

١١٢

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

المبحث الأوَّل:

لمحة تاريخية

إن الناظر للتاريخ الإسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته لنا في مسألة الخلافة والحاكمية، يرى كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهى، وبين التنظير والتطبيق لدى أكثر المذاهب الإسلامية، فكثير ممَّن رفعوا راية الشورى لم يثبتوا على مبدأ واحد وقول متَّحد منذ بداية الخلافة الإسلامية وحتّى يومنا هذا؛ لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبِّق. كما أن بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا على مقولتهم، بل نرى ذلك البعض يحاول أن يخفِّف من وطأتها ويدمجها مع الشورى، ويحاول أن يجعلها شورى عند التطبيق... وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون المِلل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشورى والنص؛ وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدُّوها من القول بالنص، بل يجعلونها من القول بالشورى، وأوضح مثال على ذلك هو: ما سارت عليه الزيدية والإسماعيلية؛ حيث حسبوا أن هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم إقامة الحكم الإسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم إلى التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الإمامية أن تخرج منه، وحافطت على وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشورى. وقد يكون من الأمور التي دفعت إلى التلفيق هو إحجام مَن نُص عليه

١١٣

عن إقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات إلى أن الأئمَّة عليهم‌السلام كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة على كل مَن شاء الرجوع إليهم. وإن المتتبِّع للروايات المتناثرة هنا وهناك، يرى أن الأئمَّة كانوا يمارسون كل أنواع السلطة وكافَّة شؤونها، وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر، وإنما قد أدبر الناس عنهم.

وأكثر مؤلفي الشيعة ممّن تعرَّضوا للمِلل والنحل ردُّوا شبه الزيدية؛ فراجع: إكمال الدين والغيبة للطوسي، وأصول الكافي للكليني، والكشِّي في رجاله.

فنرى الشهرستاني في المِلل والنحل يقول: (والاختلاف في الإمامة على وجهين؛ أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار، قال بإمامة كل مَن اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمّة؛ إمّا مطلقاً، وإمّا بشرط أن يكون قرَشيَّاً على مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً على مذهب قوم) (١) .

وقال: (الخلاف الخامس: في الإمامة. وأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كلِّ زمان...) ثُمَّ نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة: (فقبْل أن يشتغل الأنصار بالكلام مَدَدت يدي إليه، فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلاّ أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللَّه المسلمين شرَّها، فمَن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنها تَغِرَّة يجب أن يقتلا.... وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة) (٢) .

وقال: (الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة.

____________________

(١) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص٣٣.

(٢) المصدر، ص ٣٠ ـ٣١.

١١٤

فمن الناس مَن قال: قد ولَّيت علينا فظَّاً غليظاً. وارتفع الخلاف....) (١) .

وقال في الباب السادس: (الشيعة: هم الذين شايعوا عليَّاً(رضي الله عنه‏)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصَّاً ووصيَّةً؛ إمَّا جليَّاً وإمَّا خفيَّاً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل‏ عليهم‌السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامّة وإرساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولِّي والتبرِّي قولاً وفعلاً، وعقداً، إلاّ في حال التقيَّة، ويخالفهم بعض الزيدية في ‏ذلك) (٢) .

وقال في الزيدية: (أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(رضي الله عنهم) ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة(رضي اللَّه عنها)، ولم يجوِّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلاّ أنهم جوَّزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماماً واجب الطاعة.... وجوَّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة).ثُم َّذكر السليمانية من فِرق

الزيدية: (أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول: إن الإمامة شورى بين الخلق ويصحُّ أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها تصحُّ في المفضول مع وجود الأفضل، وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقَّاً باختيار الأمة حقَّاً اجتهادياً. وربَّما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي(‏رضي الله عنه‏) خطأً لا يبلغ درجة الفسق... قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج إليها لمعرفة اللَّه تعالى وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل، لكنَّها يحتاج إليها لإقامة الحدود

____________________

(١) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص٣١.

(٢) المصدر، ص١٣١.

١١٥

والقضاء....) (١) .

وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية:

(وقولهم في الإمامة كقول السليمانية... وأكثرهم - في زماننا - مقلِّدون؛ لا يرجعون إلى رأي واجتهاد. أمَّا في الأصول، فيرون رأي المعتزلة حذو القُذَّة بالقُذَّة، ويعظِّمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمَّة أهل البيت. وأمَّا في الفروع، فهم على مذهب أبي ‏حنيفة....) (٢) .

ويقول سعد بن عبداللَّه الأشعري القمي - وهو من الفقهاء، أخذ أصل كتابه في الفِرق عن النوبختي والأخير من المتكلِّمين له كتاب: الفِرق والمقالات، إلاّ أن سعداً أضاف على ما أخذه -: (واختلف أهل الإهمال في إمامة الفاضل والمفضول؛ فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول إذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته، ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلاّ للفاضل المتقدِّم. واختلف الكل في ‏الوصية؛ فقال أكثر أهل الإهمال: توفِّي رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يوصِ إلى أحد من الخلق... ) ثُمَّ عدّ البترية والسليمانية من فِرق الزيدية من أهل الإهمال (٣) .

وقال عن الجارودية من الزيدية: (.... فقالوا بتفضيل علي، ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن مَن رفع عليَّاً عن هذا المقام، فهو كافر، وأن الأمة كفرت وضلَّت في تركها بيعته، ثُمَّ جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي، ثُمَّ في الحسين بن علي، ثُمَّ هي شورى بين أولادهما؛ فمَن خرج منهم وشهر سيفه ودعا إلى نفسه، فهو مستحقٌّ للإمامة) (٤) (... وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول اللَّه لعلي بن أبي طالب، ثُمَّ الحسن بن علي، وبعد أن مضى الحسين بن علي لا تثبت إلاّ

____________________

(١) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص١٣٧ - ١٤٢.

(٢) المصدر، ص١٤٢ - ١٤٣.

(٣) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص٧٢.

(٤) المصدر، ص١٨.

١١٦

باِختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم) (١) .

وفي المقالات لأبي الحسن الأشعري المتوفَّى ٣٢٤ هـ (ص ٤٦٧ - ٤٥١) قال: (وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت، حتّى يظهر لها الإمام، وحتّى يأمرها بذلك....).

فهو يشير إلى نفس النكتة التي ألمح إليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدى الإمامية في النص، وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة؛ حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التاريخية يتَّضح لنا أمران:

١ - إن الصياغات المختلفة للشورى، والتلفيق بينها وبين النص، معدودة عند أصحاب التراجم والمؤرِّخين في منهج يقابل النص.

٢ - إن بعض الفِرق الشيعية - في الأصل - انتقلت من النصِّ إلى الشورى أو إلى التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلَّمة لزوم إقامة الحكومة الإسلامية؛ حيث عجزت أفكارهم عن إيجاد حلٍّ ضمن إطار النص، بخلاف فقهاء الإمامية الاثنى عشرية الذين استطاعوا - مع بقائهم وتمسُّكهم بالنص - إيجاد صيغ بديلة عن الشورى أو التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفِرق: الزيدية؛ الذين ذهبوا - نتيجة هذا التصادم - إلى ما ذهبوا إليه. وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه: إكمال الدين وإتمام النعمة (ص ٧٧) فصلاً في الجواب عنه.

____________________

(١) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص١٩.

١١٧

١١٨

المبحث الثاني:

النظريَّات المختلفة في إدارة شؤون الحكم ودور الشورى فيها (١)

النظرية الأولى المشهورة:

من أن للأمة صلاحية البتِّ في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم إلى كافَّة

____________________

(١) مجموع هذه النظريات وأدلَّتها ووجوهها الآتية مستخلصة من الكتب التالية:

١ - تفسير المنار، محمد رشيد رضا.

٢ - روح البيان، الآلوسي.

٣ - فقه الدولة الإسلامية، الشيخ المنتظري، ج١.

٤ - مفاهيم القرآن، دراسة موسَّعة عن صيغة الحكومة الإسلامية، الشيخ السبحاني.

٥ - بيام قرآن، ج١٠ (قرآن مجيد وحكومت اسلامى)، الشيخ مكارم الشيرازي.

٦ - طرح حكومت اسلامى، الشيخ مكارم الشيرازي.

٧ - تفسير الميزان، ج٤، ص١٢٤، العلامة الطباطبائي.

٨ - الحكومة الإسلامية في أحاديث الشيعة، للشيخ السلطاني، والمظاهري، والمصلحي، والخرازي، والأستادي.

٩ - الاجتماع السياسي الإسلامي، الشيخ شمس الدين.

١٠ - مجلَّة: حكومت إسلامي، ع ١ و ٢، مقالات الشيخ مهدي الحائري.

١١ - تنبيه الأمَّة وتنزيه الملَّة، الميرزا النائيني.

١٢ - حكومت در إسلام، السيد الروحاني.

١٣ - الإسلام يقود الحياة، ص١٧٢، الشهيد السيد الصدر.

١٤ - الفقه - الاجتهاد والتقليد، ج١، السيد الشيرازي.

وغيرها من الكتب التي صدرت أخيراً عن الحكومة الإسلامية وخصَّت الشورى بباب أو فصلٍ مستقل.

١١٩

الأجنحة، وهذه النظرية مع شهرتها إلاّ أنها لا تجد أساساً تطبيقياً في التاريخ الإسلامي من انتخاب الخلفاء الثلاثة إلى دولة بني أميّة وبني العبّاس؛ لذا نجد أن معالمها قد تكاملت مع العصور المتأخرة ويمكن التعبير عنها بالمصطلح الحديث: إن السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الأمة.

ولكن بقي في هذه النظرية نقاط لم تحسم:

منها: أن المدار في الانتخاب هل هو على الأكثرية الكمية أو على الكيفية؛ ممَّا قد يَصطلح عليه أهلُ الحلِّ والعقد؟ وعلى الفرضية الأولى: هل هي مطلق الكثرة النسبية؛ ولا يلتفت إلى الطرف المقابل ولو كان بنسبة ٤٠% فما فوق، حتّى وإن كان الطرف الأقل أكثر وعياً وأبصر بالأمر؟

ثُم هل المدار على ما يهوى المنتخِبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيَّدون في ‏انتخابهم بشرائط خاصة؟ وهل عليهم مراعاة توفُّرها بالنحو الأكمل في المنتخَب أم بأيِّ درجة كانت؟

ومنها: أن الأساس القانوني أو - بتعبير آخر - شرعية الحاكم في تولِّي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده؛ فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في إدارة شؤونها العامة؟ وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص؛ إذ لا تسري عليه كل أحكام الوكالة.

أو أن سلطة الحاكم المختار هي ولاية على الأمة؟ وهذه يُتصوَّر على نحوين:

أحدهما: أن تنقل الأمة الولاية التي لديها على نفسها إلى هذا الحاكم.

والأخر: أن يكون له الولاية من قبل أهل الحلِّ والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخَب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.

١٢٠

ففقهاء المذاهب مختلفون في تحديد شرعية سلطة الحاكم.

وقد ظهر متأخراً طرح ثالث للشورى؛ وهو أن الشورى تكون كاشفة ومبيِّنة عمَّن له حق الولاية في علم اللَّه عزَّ وجل، والشورى تكون كاشفاً إثباتياً عن الأجدر والأكثر تأهُّلاً لنيل منصب الولاية، وأن الولاية ثابتة له من اللَّه عزَّ وجل. ويظهر هذا الطرح في كتابات بعض المتأخرين من أتباع المذاهب غير الإمامية.

النظرية الثانية:

أن الولاية تثبت بالنص لشخص الولي، إلاّ أن فعلية ولايته منوطة بالبيعة والشورى، وعند فقد النص يكون الأمر شورى. وبالتعبير الحديث يقال: إن السلطة التنفيذية بيد الأمة، غايتها يكونون مقيَّدين بالمنصوص عليه، وفي حالة عدمه، يختارون مَن تنطبق عليه المواصفات والشرائط. أما السلطة التشريعية، فهي بيد الأمة. فالولاية للمختار بالأصالة، لا بالنيابة عمّن اختار المنصوص عليه.

النظرية الثالثة:

في حالة وجود النص فهو المتَّبع ولا دور للشورى، وفي حالة عدمه أو غيبة المنصوص عليه، فالأمر يعود للأمة لاختبار الحاكم، لكن ذلك مشروط بنظارة أهل الخبرة الشرعية؛ وهم الفقهاء.

وفي عصر الغيبة يكون الأمر للأمة شورى، تمارس السلطة التنفيذية والتشريعية، غايته يكون ذلك تحت نظارة وإشراف الفقيه.

ولهذه النظرية صياغات:

1 - أن دور الفقيه يكون كدور المحكمة الدستورية في التعبير الحديث؛ وهو فصل النزاعات والاختلافات الحاصلة بين السلطات، وإمضاء التشريعات التي

١٢١

تصدرها الهيئة التمثيلية للأمة، وهذا هو ما ذكره الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزية المِلَّة.

2 - أن الفقيه يكون له دور المشاهد والرقيب على سير عمل السلطات الثلاث، فإذا ما انحرفت عن مسارها الصحيح، تدخَّل لتقييم اعوجاجها، وهذا ما يذكره الشهيد الصدر في عهد الغيبة.

3 - أن الفقيه هو المحور في الحكم، غايته قد تعوزه الخبرة العملية في تحصيل الموضوعات فيستعين بأهل الخبرة في كافَّة المجالات التي يحتاجها في تسيير شؤون الدولة؛ من سياسة واقتصاد وقانون وثقافة... وهذا نظير ما طرحه السيد الخوئي في الجهاد من كونه بيد الفقيه غايته يجب أن يستعين بأهل الخبرة من السياسين والعسكريين في إعلان الجهاد.

وهذا التفسير الأخير يباين النظرية المزبورة، وقد يتطابق مع النظرية الخامسة الآتية.

النظرية الرابعة:

أن ولاية الأمر هي بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه المنصوص عليه، ولا يعود الاختيار للأمة. غايتها أن كليهما ملزمان في تسيير أمور الأمة بالشورى، ويكون رأي الشورى ملزِماً لهما ولا يجوز لهما مخالفته.

وطبقاً للتعبير الحديث: السلطة التنفيذية بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه، والسلطة التشريعية - في كلا الفرضين - بيد الأمة.

١٢٢

النظرية الخامسة:

أن ولاية الأمر تكون بالنص ولا مناص منه؛ حيث إن الولاية للَّه عزَّ وجلَّ يجعلها لمَن يشاء من خلقه، فهي تابعة للمنصوص عليه أو مَن ينيبه، غايته يكون ملزَماً في طريقة تسيير شؤون دولته وأمَّته بالاستشارة، لكنَّه غير ملزَم بنتيجة المشورة فيستطيع مخالفتها.

وتكون فائدة الاستشارة بالنسبة للمعصوم ما سوف نبيِّنه فيما بعد، أمَّا بالنسبة لغير المعصوم، فهي نوع من الاستعانة الفكرية.

وهذه النظرية هي التي يتبناها فقهاء الإمامية، وهي مؤدَّى نظرية النص، غايته فيها نوع من الاستعانة بالشورى في إدارة شؤون الأمة.

وهناك طرح أخير يُتَدَاول بين علماء الإمامية - ولْيَكن نظرية سادسة - حاصله: أن الولاية هي بالنص دائماً، غايته في عصر الغيبة جَعل المعصومُ نيابةَ عامة ضمن مَن تتوفَّر فيهم شرائط خاصة، ويعود للأمة تعيين ذلك المصداق فيمَن تتوفَّر فيهم الشرائط.

وشرعية سلطة ذلك الولي المختار من قبل الأمة هي بكون الولاية له من المعصوم، لا من الأمة، غاية الأمر أن الاستنابة من المعصوم هي لمَن تتوفَّر فيه شرائط؛ أحدها: رجوع الأمة إليه، المستفاد من: (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) (اجعلوا بينكم ممَّن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا) (فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً).

وهذا الطرح الأخير يكاد يتطابق مع النظرية الخامسة، مع إناطة دور للأمة في الاختيار والرجوع إلى الفقيه.

وقد خالف الإنصاف مَن نسب النظريات الأخرى إلى الإمامية، بل هي رأي عدَّةٍ من المتأخرين، لا المتسالم بينهم المنسوب إلى الضرورة عندهم، ومِن ثَمَّ لم يكن

١٢٣

من الإنصاف أيضاً التعبير والاقتصار على تلك النظريات مع كونها خلاف ظاهر المشهور بين الإمامية، فإن تصريحاتهم تنادي بالخلاف، مع إطباقهم في كل الطبقات على حصر مشروعية الحكم - بكل شعبه، وفي كل الأدوار الزمانية - بالنص. وقد بحث الفقهاء جانباً من هذا الموضوع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وكتاب القضاء، وكتاب الجهاد، ومسألة التولِّي عن السلطان الجائر في المكاسب المحرَّمة.

ولابدَّ أن نشير إلى أن النظريات الأربع عندما تسند دور الشورى في تشريع القوانين، فإن ذلك يكون في الموارد التي سكت عنها الشارع ولم يكن له فيها حكم خاص، وبتعبير أخر: أن الشورى تكون لسد منطقة الفراغ في التشريع، بخلاف النظريتين الخامسة والسادسة؛ حيث لا يكون لمجلس الشورى - مثلاً - أيُّ دور تشريعي، بل هو أشبه بالمجلس الاستشاري، فتحتاج قوانينه إلى إمضاء الفقيه.

١٢٤

المبحث الثالث:

الأدلَّة النقلية التي أُقيمت على النظريَّات المختلفة.

وتشترك النظريات الأربع في إناطة جانب من الحكم - التنفيذي والتشريعي - أصالة بالأمة؛ ومن هنا سوف نجعل ذلك هو المحور في البحث، فهل يوجد للأمة مثل هذا الدور أم لا؟

والمستدِل بهذه الأدلة تارةً يستدِل على أن الولاية لمجموع الأمة، وتارة للنخبة؛ وهم أهل الحل والعقد، وقد يستدل بها على أن الولاية ثابتة للأمة في عصر الغيبة فقط؛ دون عصر النص.

أولاً:

الأدلة المتضمِّنة للفظ الشورى.

1 - الآيات: وقد ورد لفظ الشورى في موضعين من القرآن الكريم:

أ - قوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (1) .

ب - ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (2) .

فالآية الأولى وردت بصيغة الأمر، والآية الثانية وردت في سياق بيان صفات

____________________

(1) آل عمران 2: 159 / مدنية.

(2) الشورى 42: 38 / مكِّية.

١٢٥

المؤمنين، وبعض هذه الصفات إلزامي وبعضها ندبي.

وصيغة الأمر في الآية الأولى تجلي الخطاب؛ إذ هو أمر في وجوب المشاورة في كافَّة الشؤون حتى بالنسبة للرسول، ويكون الهدف من ذلك تعليم الأمة وتثقيفها على هذا النوع من الأسلوب؛ وهو المشورة.

أمَّا الآية الثانية، فورد فيه لفظان:

الأول: (أمرهم)، والمراد به الشأن أو الشي‏ء المهم، وعند إضافته إلى المسلمين يكون المجموع دالَّاً على أن الأمر والشي‏ء المهم هو الذي يرتبط بالمجموع، وهل يوجد ما هو أهم من تعيين الولي الذي يقوم بإدارة شؤون المجتمع؟!

الثاني: (الشورى)، فتعني تداول الآراء بين المجموع. وكلمة (بينهم) تؤكِّد دخالة المجموع في إبداء الرأي، واستقلالية هذا الرأي عن العناصر الخارجة عنهم.

والآية الكريمة تعدِّد مجموعة من صفات المؤمنين؛ أكثرها إلزامي كإقامة الصلاة والإنفاق الواجب والاجتناب عن الكبائر، وهذا الوصف طبيعي من حيث تعلُّقه بالوظائف العامة، والأمور التي تعني المجتمع لا تقبل الندبية؛ حيث أن بعض الأمور إنْ شُرِّعت، وجبت، ولا يمكن أن تكون مشروعة وغير واجبة، وبهذا يُستدل على إلزامية الشورى الواردة في هذه الآية.

ويلاحظ أن هذه الآية مكِّية؛ وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعنى المتعارف.

2- الاستدلال بسيرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث التزم بالشورى في عدِّة مواضع:

1 - واقعة بدر: حينما نزل الرسول في موقع، قال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يارسول اللَّه، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). فقال: يارسول اللَّه، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتّى نأتي أوَّل

١٢٦

ماء من القوم، فننزله، ثُمَّ نغور ما وراءه من القُلُب، ثُمَّ نبني عليه حوضاً، فنملؤه ماءً، ثُمَّ نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال له الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لقد أشرت بالرأي) (1).

2 - غزوة أحد: حيث تشير كثير من كتب السير على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان رأيه البقاء في المدينة، ورأي عامة المسلمين هو الخروج، وقد اختار ما رآه عامة المسلمين في الخروج من المدينة، حيث دخل صلى‌الله‌عليه‌وآله بيته وخرج لابساً لامته وصلَّى بهم الجمعة، ثُم خرج، فندم الناس وقالوا: يارسول اللَّه، استكرهنا ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد صلى اللَّه عليك، فقال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل) (2) .

3 - غزوة الأحزاب/ الخندق:

فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، وقصته معروفة مشهورة.

وموقف آخر حينما أراد الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عقد الصلح مع غطفان، فأرسل إلى عيينة بن حصين والحارث بن عوف؛ وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمَن معهما عنه وعن أصحابه، فلمَّا أراد أن يوقِّع معهما الشهادة والصلح، بعث إلى سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما، فقالا: يارسول اللَّه، أمراً تحبُّه فنصنعه، أم شيئاً أمرك به اللَّه لابدَّ لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: (بل شي‏ء أصنعه لكم، واللَّه ما أصنعُ ذلك إلاّ لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما)، فقال له سعد بن معاذ: يارسول اللَّه، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللَّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللَّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلاّ قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا اللَّه بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك

____________________

(1) ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص620.

(2) المصدر، ج3، ص 63.

١٢٧

وبه، نعطيهم أموالنا، واللَّه مالنا بهذا من حاجة، واللَّه لا نعطيهم إلاَّ السيف حتّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم، قال رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فأنت وذلك)، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثُم قال: يجهزوا علينا (1) .

فهذه المواقف هي نبذ يسيرة من سيرة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تعامله مع قومه، وأنه كان ينزل عند رأي مَن يستشيرهم، ولو لم يكن ينزل عند رأيهم؛ لكان الأمر بالمشورة لغواً وعبثاً.

وعليه نعود إلى الآيتين الكريمتين، فإن الأمر الوارد الاستشارة فيه، إمَّا أن نعمِّمه إلى رأس الهرم السياسي، وهو الخليفة والزعيم، أو لا أقل يستفاد منها الإلزام في الوظائف التي تهمُّ المجتمع كالقوة التنفيذية والتشريعية.

3 - الاستدلال بالعديد من الروايات الدالَّة على وجوب الشورى.

ونحن نقسِّمها إلى أصناف:

الصنف الأوَّل: روايات الشورى.

ـ قول علي‏ عليه‌السلام في ‏النهج / قسم الكتب / الكتاب 6: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ؛ وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً، كان ذلك للَّه رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة، ردُّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى، قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين، وولّاه اللَّه ما تولَّى، وإن طلحة والزبير بايعاني، ثُم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردِّهما، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحق وظهر أمر اللَّه وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون).

وقد ذكر صدرها ابن

____________________

(1) ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص223.

١٢٨

مزاحم في وقعة صِفِّين: (أمَّا بعد، فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني....).

ـ النبوي: (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهْر الأرض خير لكم من بطنها) (1) .

ـ النبوي: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة). البخاري/ كتاب المغازي/ باب: كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كسرى.

ـ قوله عليه‌السلام عندما أُريد البيعة له: (دعوني والتمسوا غيري.... واعلموا إن أجبتكم، ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني، فأنا كأحدكم، ولعلِّي أسمعكم وأطوعكم لمَن ولّيتموه أمركم، وأنا لكن وزير خير لكم من أمير) (2) .

ـ تاريخ اليعقوبي( ج2/ ص9) في أحداث غزوة مؤتة، قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أمير الجيوش زيد بن حارثة، فإن قُتل، فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل، فعبد اللَّه بن رواحة، فإن قُتل، فليرتضي المسلمون من أحبوا).

ـ وفي الطبري(ج6 / ص3066) عن ابن الحنفية قال: كنت مع أبي حين قُتل عثمان، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل، ولا بدَّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: (لا تفعلوا؛ فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا) فقالوا: لا واللَّه، ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك. قال: (ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين).

ـ وفي الكامل ( ج3 / ص193): (أيُّها الناس، عن ملأ وأذن إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلاّ مَن أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم،

____________________

(1) تحف العقول، ص36، وسنن الترمذي، ج3، 361، باب الفتن/ 64.

(2) النهج، خ 92، و الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج6، ص3076، وابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص193.

١٢٩

ألا وإنه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح ما لكم، وليس لي أن أخذ درهماً دونكم).

ـ كشف المحَجة لابن طاووس (ص180) قوله عليه‌السلام : (وقد كان رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إليَّ عهداً؛ فقال: ياابن أبي‏ طالب، لك ولاء أمتي، فإن ولُّوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا، فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك، فدعهم وما هم فيه).

ـ النبوي في شرح ابن أبي الحديد(ج11 / ص11): (إنْ تولُّوها عليَّاً، تجدوه هادياً مهديا).

ـ كتاب سليم بن قيس (ص118) عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (ما ولَّت أمة - قط - أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلاَّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا).

ـ كتاب سليم بن قيس (ص182) عنه ‏ عليه‌السلام : (والواجب في حكم اللَّه وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل.... أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدِّموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدؤوا بشي‏ء، بل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً عارفاً بالقضاء والسنة يجمع أمرهم).

ـ مقاتل الطالبيين (ص36) عن الحسن المجتبى عليه‌السلام في خطاب لمعاوية: (إن علياً لمَّا مضى لسبيله.... ولَّآني المسلمون الأمر بعده، فدع التمادي بالباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي؛ فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك).

ـ بحار الأنوار (ج65 / ص44/ ب 19) كيفية المصالحة من تاريخ الإمام الحسن‏ عليه‌السلام : صالحه على أن يسلِّم له ولاية أمر المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الخلفاء الصالحين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين).

ـ إرشاد المفيد (ص185) و الكامل في التأريخ لإبن الأثير(ج4 / ص20) كتاب وجهاء الكوفة لسيد الشهداء عليه‌السلام : (أمَّا بعد، فالحمد للَّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة، فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها)

١٣٠

فأجابهم عليه‌السلام : (إني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملائكم وذوى الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فإني أقدم إليكم وشيكاً).

ـ الدعائم (ج2 / ص572/ كتاب آداب القضاء) عن الصادق‏ عليه‌السلام : (ولاية أهل العدل الذين أمر اللَّه بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم، فرض من اللَّه).

ـ قوله‏ عليه‌السلام لطلحة والزبير: (ولو وقع حكم ليس في كتاب اللَّه بيانه، ولا في السنة برهانه، لشاورتكما) (1) .

ـ سنن أبي داود (ج 2 / كتاب الجهاد/ باب القوم يسافرون يؤمِّرون أحدهم) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمَّر أحدهم). وفي مسند أحمد بن حنبل(ج2/ص177): (لا يحلُّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمَّروا عليهم أحدهم).

ـ في كتاب الوثائق السياسية (ص 120 / الوثيقة 33) معاهدته مع أهل ومضمون المعاهدة هو أنه: (ليس عليكم أمير إلاّ من أنفسكم أو عن أهل رسول اللَّه، والسلام).

ـ في خطبة الإمام علي‏ عليه‌السلام (رقم 73): (ولعمري لأن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامة الناس، فما إلى ذلك بسبيل، ولكن أهلها يحكمون على مَن غاب عنها، ثُم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار).

وفي الخطبة(127): (والزموا السواد الأعظم؛ فإنّ يد اللَّه مع الجماعة، وإيَّاكم والفِرقة).

ـ وفي وقعة صِفِّين عندما كان القرّاء يتوسطون بين الإمام ومعاوية، قال معاوية: إن كان الأمر كما يزعمون، فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممَّن هاهنا معنا؟ فقال علي‏ عليه‌السلام : (إنما الناس تتَّبع المهاجرين والأنصار، وهم شهود المسلمين

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج7، ص 41.

١٣١

على ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولستُ استحلُّ أن أدع حزب معاوية يحكم على الأمة ويركبهم ويشقَّ عصاهم).

فرجعوا إلى معاوية، فأخبروه بذلك، فقال: ليس كما يقول، فما بال مَن هاهنا من المهاجرين والأنصار، لم يدخلوا في الأمر فيؤامِّروه؟! فانصرفوا إلى علي‏ عليه‌السلام ، فقالوا له ذلك واخبروه، فقال عليه‌السلام : (ويحكم هذا للبدريِّين دون الصحابة، وليس في الأرض بدري إلاّ وقد بايعني، وهو معي، أو قد أقام ورضي، فلا يغرنّكم معاوية من أنفسكم ودينكم) (1) .

فهذا الجواب للإمام يدلِّل على مدى قيمة رأي النخبة في المجتمع أو أهل الحلِّ والعقد.

وأمر الإمام معروف عندما أقبل عليه الثائرون من الأمصار بعد مقتل عثمان وأرادوا مبايعته، فقال: (إنما ذلك لأهل الشورى وأهل بدر).

ولا يُتَصوَّر أنَّ أجوبة الإمام هي في مقام المحاجَّة؛ فقد ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام عن إبائه عليهم‌السلام ‏عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن جاءكم برأيه يفرّق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولَّى من غير مشورة، فاقتلوه) (2) ، فهي ليست في مقام المحاجة، بل ذكرها ابتداءً وتأسيساً لقانون وجوب اتباع رأي الأمة، وهو الشورى وعدم جواز الخروج عن رأيهم.

الصنف الثاني: روايات الاستشارة.

وهي روايات كثيرة متظافرة من جهة المعنى، تؤكِّد على ضرورة المشاورة والاستشارة في الأمور كافّة؛ نحو قوله ‏عليه السلام: ( لن يهلك امرؤ عن

____________________

(1) وقعة صِفِّين، ص 189 - 190.

(2) عيون أخبار الرضا، ح2، ب31، ص62.

١٣٢

مشورة)، (خاطر بنفسه مَن استغنى برأيه)، وذكرت الروايات فضيلة المشاورة والشروط الواجب توفرها في المستشار؛ من الإيمان والعقل، وهي مفصَّلة يمكن ملاحظتها في:

  - وسائل الشيعة/ كتاب الحج، وأبواب أحكام العِشرة/ ب 26 - 21.

  - بحار الأنوار/ ج72 / ب 48 - 43.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة:

أ - إن التأكيد الوارد في هذه الروايات يدلِّل على محبوبية الاستشارة ولزوم اتباع نتيجتها، ولو كانت نتيجتها غير واجبة الاِتباع؛ لكان الأمر بها والحثُّ عليها بهذا النحو لغواً وعبثاً.

ب - إنه قد ورد في بعض الروايات على نحو القضية الشرطية: (مَن لم يستشر، هلك). فقد يقول قائل: إن الوقوع في الهلكة في بعض الحالات قد يكون له وجه، لكن إذا عمَّمنا الأمر بالاستشارة للوظائف العامة التي تهمُّ صالح المجتمع، فإن الوقوع في التهلكة لا يكون جائزاً بأيِّ نحوٍ كان؛ فهي تدلّ على وجوب الاستشارة ولزوم نتيجتها.

ج - بعض الروايات توجب اتباع أراء المستشارين، وفي بعضها التحذير: (إيَّاك والخلاف، فإن مخالفة الوَرِع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) (1)؛ فهذه تدل على لزوم الأخذ بالاستشارة.

د - ورد في روايةٍ أنه قيل: يارسول اللَّه ما الحزم؟ قال: (مشاورة ذوي الرأي واَتباعهم) (2) .

فالاستشارة لها ارتباط بالحزم؛ وهو استجماع العزم والإرادة، فالإرادة في مثل هذه الأمور التي تهم المجتمع، والتي يجب أن يؤخذ بها بالحزم، يجب أن تكون صادرة

____________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب العشرة، ب22، ح5.

(2) المصدر، ب21، ح1.

١٣٣

ومنبعثة عن الاستشارة.

هـ - إن العقل العملي يحكم بلزوم الاستشارة؛ وذلك لأن عقل الإنسان وحده غير محيط بجهات الحسن والقبح في الأفعال، فإذا أراد أن يقْدم على أمرٍ ما، يجب عليه مشاورة الآخرين والأخذ بأرآئهم حتّى يظهر له وجوه الحسن والقبح. وتزداد أهمية الاستشارة كلَّما ازدادت أهمية المورد الذي يريد الإنسان أخذ قرار فيه، فكيف إذا كان شأناً من الشؤون والمصالح العامة للمجتمع. والحِكَم والعِلل المذكورة في الروايات إنما هي إرشاد لهذا الحكم العقلي.

وقد يقال: إن الآيات والروايات الواردة في الشورى لا تدل على المطلوب؛ وذلك لأنها اكتفت بذكر العنوان فقط مع الإغفال عن ذكر تفصيلات الاستشارة وكيف تكون؟ وما هو دور أهل الحلِّ والعقد؟ وماذا يحصل عند الخلاف؟ هذا مع عظم أهمية الشورى حسب مدعى القائل، ودخالتها في تلك الأمور الهامة، فلماذا سكت الشارع عن تحديد كل هذه التفصيلات؟

والجواب: أنه ممّا لاشك فيه أن هذه القاعدة تدخل في تنظيم شؤون المجتمع، فهي تتأثر بظروف المجتمع الخاصة، فلو كان الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أتخذ عدداً معيناً للمشورة، فهو عدد يتلائم مع تعداد المسلمين في ذلك الزمان، ومع ذلك؛ فإنه سوف يتمسَّك بهذا العدد حتّى مع بلوغ عدد أفراد المجتمع الآف الأضعاف؛ فلذلك لم يشأ الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل هناك ضوابط جزئية لهذه المسألة الهامة حتّى يكون لكل مجتمع - في كل زمان - ما يرتأيه؛ طبقاً لظروفه الخاصة، وحتّى يكون الإسلام متلائماً مع التطوُّرات الحاصلة في كل مجتمع.

هذا تمام ما يمكن الاستدلال به من الطائفة الأولى؛ وهي أهم الطوائف، يبقى تقييم أدلة الشورى:

كيفية الاستفادة من الشورى في اتخاذ الآراء والقرارات؛ هل يُتَّبع الكم أم الكيف؟

فمن جهة يقال: إنه من أجل حفظ النظام واستقامة الأمر لا يمكن طرح رأي

١٣٤

الأكثرية، فيجب أن يؤخذ به على حساب الأقلِّية.

والمشكلة تنشأ من أن الأقلِّية لو كانت متضمِّنة لرأي نخبة المجتمع من المفكرين والعلماء، فكيف يمكن غمض النظر عن هذا الأمر وترجيح رأي الأكثرية؟

فذهب كثير إلى محاولة التلفيق بين هذين الرأيين:

ـ فقال البعض: إن الأمة يجب أن تقوم بانتخاب النخبة، وهؤلاء ينتخبون الولي.

ـ أن توضع حدود لانتخاب واختيار الأمة؛ أي لا تكون الأمور مطلقة على عنانها بالنسبة للأمة، بل يجب أن يتقيَّدوا بقوانين وأحكام إسلامية.

التقييم:

أوَّلاً: رأي آخر في فهم الأدلَّة.

في مقام تقييم هذه الأدلة من آيات وروايات، وقبل أن نبدأ بالإجابة على كل نقطة من النقاط السابقة، فإنا نذكر أن نفس الآيتين اللتين اِستُدِل بهما على الشورى يوجد لهما تفسير آخر؛ وهو مشهور وشائع بين المفسِّرين والمفكرين، وحاصل‏ ذلك:

أن المستفاد من الآيات والروايات هو حثُّ المكلف - الذي هو في موضع المسؤولية عن الأمة وإدارة شؤونها، بل حتّى في أموره الخاصة - على الاستشارة وتوسعة أفق التفكير ومنابعه، وعدم التعنُّت برأيه والتوحُّد به، بل يُلزم الإنسان بفحص أراء الآخرين مع تمسُّكه بأن يكون الرأي النهائي له، وألاّ يكون متحرِّكاً تبعاً لإرادة المجموع.

١٣٥

بيان ذلك:

ذكرنا سابقاً في الفصل الأول عن وجود قوتين مفكِّرتين في النفس البشرية؛ أحدهما: النظرية، والأخرى: العملية،

فالأولى تقوم بدور البحث بين المعلومات المتوفِّرة؛ لأجل تهيئة مقدِّمات استكشاف المجهول وإدراك النتيجة.

والأخرى عملية تقوم بدور الإذعان والتسليم والجزم بتلك النتيجة، وتسيير القوى السفلى وممارسة دور الأمير والتوجيه لها.

وبتعبير آخر: أن الإنسان في منهجية تفكيره يتَّبع ما هو متداول في العصر الحديث من سلطات الشورى والتشريع؛ حيث دور البحث والتنقيب، ثُم دور القضاء القانوني الذي يقوم بالإذعان والجزم بهذه النتيجة وعدمها، ثُم دور التنفيذ وتوجيه القوى العمالة.

فالإنسان في تفكيره ينطوي على تلك السلطات التي تدير شؤون المجتمع المدني؛ لذلك عُبِّر عن المجتمع بـ: الإنسان المجموعي. وكلَّما دقَّقنا النظر وتأملنا في سير عملية التفكير في الإنسان الصغير، سوف يتَّضح لنا حلاً لملابسات كثيرة في الإنسان المجموعي.

فالمدَّعى هو: أن الشور والتشاور فعل ومادة وعنوان لفعل القوى الفكرية النظرية، وليس عنواناً لفعل القوى العملية وسلطتها العمَّالة على القوى النازلة، وهي الإرادة، ثُم ترد مرحلة الجزم والتسليم والإذعان، وهي مرحلة قضائية؛ إذ تكون فيصلاً بين التسليم بتلك النتيجة وعدمها، وهو فعل مزدوج بين القوة الفكرية والعملية، فالقضاء يقوم بتحديد الكبرى، وهو عمل فكري وليس بعملي، ثُم تطبيق الكبرى على النزاعات والموارد الموجودة والمعروضة أمامه.

وعلى كل حال.... فالمشورة والتساؤل يقابله الفعل الأول من أفعال العقل، وهو البحث والتنقيب، والفعل الثاني هو إدراك النتيجة، فهو أمر غير مسألة البحث، وإن

١٣٦

اختص بها العقل النظري أيضاً، إلاّ أنه ليس عين الفعل الأول، ويبقى الفعل الثالث: وهو الجزم والتسليم والإذعان، وهو ما أطلقنا عليه بالقضائية.

إذن؛ فالمشورة والتشاور ماهية لفعل إدراك المعلومات، لا ماهية لفعل عملي، فكيف يناسب عنوان السلطة والولاية والقدرة التي هي عناوين لأفعال القوى العملية؟ فهناك جمع للآراء تارة، وتارة أخرى جمع للإرادات، والشورى عنوان للأول لا الثاني، بل ليست هي - أيضاًـ في حقيقتهاً جمع للآراء، كما ليس للجمع والاجتماع مدخلية فيها، بل هي - كما سيأتي في معناه المقرَّر في اللغة - تقليب الآراء لاستخراج الصواب، سواء كان هو رأي الواحد أم الأقل أم الأكثر، فصبغة الرأي المنتخب هو لصوابيته لا لكثرته، فهي لا تعني حسم الأمر في اتخاذ قرار في مسألة ما، بل هي مقدمة لفعل آخر يقوم به المستشير.

وإذا عدنا إلى مفسَّري العامة في القرون الأربعة الأولى، لا نلاحظ وجود نظرية معينة حول الشورى أو تفسير كلا الآيتين بمعنى ولاية الشورى، بل على العكس، تراهم يذهبون في تفسيرها إلى معنى المشورة اللغوية. ويشكك الطبري: أنه كيف يؤمَر النبيّ باتباع الشورى مع أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله غني عن المسلمين بالوحي؟ (1) ، ويذكر فوائد الشورى؛ من اقتداء الأمة به، وتأليف قلوبهم، وينقل ذلك عن قتادة وابن إسحاق والربيع والضحَّاك والحسن البصري. والسيوطي في (الدر المنثور) يورد روايات كثيرة في ذيل الآية الكريمة على حسن الاستشارة واستحبابها، وأن المشاورة من الأمور الموصِلة للحق؛ ومنها ما عن الإمام علي‏ عليه‌السلام : (يارسول اللَّه، إذا نزل بنا الأمر من بعدك، وليس فيه قران؛ وليس فيه من قولك ومن سنتك، فماذا نصنع؟ قال: اجتمعوا وليكن فيكم العابد، فتُرْشَدون إلى أصوب الآراء).

____________________

(1) الطبري، جامع البيان، ذيل سورة آل عمران، ج4، ص101.

١٣٧

فقد يستفاد منها؛ أنه في مورد منطقة الفراغ يكون التشريع بيد الشورى، إلاّ أن الأمر ليس كذلك، بل المشاورة من أجل معالجة الأمر من كافة جوانبه، وتبادل الرأي للوصول إلى ما هو الصواب في نفسه، لا من جهة نسبته للأكثرية أو شبهها.

يقول الزمخشري في ذيل ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) : إن الشورى كالفُتيا بمعنى التشاور. ويقول في ذيل ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) : يعني في أمر الحرب ونحوه ممَّا لم ينزل عليك فيه، وهي لتستظهر برأيهم.... ويذكر من فوائده: لئلاَّ يثقل على العرب استبداده صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرأي دونهم، ( فَإِذَا عَزَمْتَ ) يعني قطعت الرأي على شي‏ء بعد الشورى (1) .

فالجزم والرأي النهائي يكون للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قد يخالف أكثرية الآراء.

وما نلاحظه من استدلال العامة بالآيتين على ولاية الشورى بدأ في العصور المتأخرة بكتابات الآلوسي ورشيد رضا وابن الخازن.

إذن، خلاصة ما يذهب إليه هذا الرأي أنه يوجد منحى في فهم هاتين الآيتين غير ما استدل به أصحاب ولاية الشورى، وأن أوائل المفسِّرين لم يجعلوا هذه الآية دليلاً على ولاية الشورى.

مضافاً إلى أن مبدأ ولاية الشورى يقترب من مبدأ سيادة الأمة، وهو المصطلح الحديث في النظم السياسية المعبِّر عن حكم الأمة، وتدخل الأمة في إدارة شؤونها بنفسها، وهذا المبدأ من المبادئ الحديثة التي ظهرت في القرنين الأخيرين وما زالت تتدخَّل فيه يد القانونيين حتّى يسدُّوا الثغرات التي تظهر بين آونة وأخرى، فلا نجد مظهراً واحداً معبِّراً عن هذا المبدأ، مع أن أغلب دول العالم تتمسَّك به. وأن الديمقراطية هي الأساس الذي تستند عليه الدولة الحديثة إلاّ أن الثغرات والعيوب

____________________

(1) الزمخشري، الكشَّاف، ج1، ص242.

١٣٨

الكثيرة التي ظهرت في هذه الممارسة للسلطة، دعتهم إلى أن يعيدوا النظر مرة وثانية وثالثة ليغيِّروا في طريقة الانتخاب وأهلية المنتخِب؛ وما ذلك إلاّ لأنهم يرون أن هذه الديمقراطية تؤدي إلى مظهر من مظاهر الدكتاتورية الحديثة؛ بسيطرة أصحاب رؤوس الأموال وظهور طبقة معينة تتداول الحكم فيما بينها.

ثانياً: الجواب عن تلك الأدلة.

بعد استعراض السير التأريخي لنظرية الشورى والرأي الآخر في فهم الآيتين الشريفتين، وهو الحق، فإنا نذكر الجواب عن الأدلة السابقة، وهي في نفسها تكون دليلاً على الفهم الآخر الذي ذكرناه وقوِّيناه.

الوجه الأول:

وهو العمدة؛ حيث إن المعنى اللغوي لمادة الشور والمشاورة معاً هو الموضوع لهذا المصطلح.

ـ فسَّر الراغب الأصفهاني الشورى بأنها من التشاور والمشاورة والمشورة؛ وهي استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض الآخر. وقولهم: شرت العسل إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه (1) .

ـ يذكر ابن منظور في لسان العرب أن الأصل اللغوي هو من شار العسل إي استخرجه من الوقية واجتناه.... ويقال: شرت الدابة إذا أجريتها لتعرف قوتها. وحمله البعض على قوله تعالى: ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) بمعنى لتعْلَم الأمين والمخلص من غيره، واستشاره أي طلب منه المشورة.

____________________

(1) المفردات، مادة (شور)، ص 270.

١٣٩

فالمدار في الاشتقاقات يشير إلى عملية الفحص والبحث الفكرية عن حقيقة الأمر، والوصول إلى نتيجة صحيحة (1) .

ـ تاج العروس: فلان شَيِّرُك؛ أي وزيرك، يقال: فلان وزير فلان وشَـيِّره أي مشاوره. وجمعه شوراء كما في شُعراء، وأشرني عسلاً وأشرني على عسل أعني على جَنْيه وأخذه من مواضعه (2) .

وهذه تؤكد أن المشاورة هي أحد أساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الإرادي في المسألة، وهو ما أشرنا إليه بأنه الفعل الأول للفكر.

ـ وأوضح من كل ما مضى ما يذكره ابن فارس أن شور وضعت لأصلين مفردين: الأول إبداء شي‏ء وأظهاره وعرضه. والآخر أخذ شي‏ء (3) .

وكلا المعنين شاهدان على ما ذكرناه؛ فالأول عملية استكشاف واختبار وفحص، والثانية أخذ الرأي الصائب من تصفُّح الآراء. فتكاد كلمات اللُّغويين تشير إلى هذه الحقيقة في الشورى، ولم يرد منها ذكْرٌ وإشارة إلى جهة سلطة أو إرادة أو ولاية أو قدرة تتحلَّى بها الشورى.

ـ ومن كتب اللغة المتأخرة نرى ما ذكر في المعجم الوسيط: (شار الشي‏ء عرضه ليُبدي ما فيه من محاسن، وأشار إليه بيده، أومأ إليه معبِّراً عن معنى من المعاني كالدعوة للدخول والخروج. اشتور القوم: شاور بعضهم البعض، والمستشار: العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام؛ علمي أو فني أو سياسي أو قضائي ونحوه، هو اصطلاح محدَث) إلاّ أنها ليست مرتجلة، بل منقولة عن الأصل اللغوي؛ لمناسبة بين المنقول منه والمنقول إليه، بل قد يقال: إنه نفس المعنى القديم وليس معنى جديداً

____________________

(1) لسان العرب، ج4، ص335.

(2) الزبيدي، تاج العروس، مادة(شور).

(3) معجم مقاييس اللغة، مادة شور.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440