الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية13%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137393 / تحميل: 8170
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الانتفاع بجلود ما ذكرناه : أما مع الذكاة فقط ، أو مع الدبغ أيضا على الخلاف.

قالرحمه‌الله : ولو اتخذ موحلة للصيد ، فنشب بحيث لا يمكنه التخلص ، لم يملكه بذلك ، لانها ليست آلة معتادة ، وفيه تردد.

أقول : ينشأ : من النظر الى أن الموحلة ليست آلة في العادة ، فلا يحصل بها ملك الصيد ، بل يفيد الاولوية ، فان تخطاها أحد وأخذ الصيد ملكه وان كان مسيئا وهو ظاهر كلام الشيخ في المبسوط.

والالتفات الى ان اتخاذ الموحلة للصيد يجري مجرى الحيازة يملك بها الصيد اذ هو مباح والمباح يملك بالحيازة ، ولان ذلك يسمى آلة لغة.

قالرحمه‌الله : ولو أغلق عليه بابا ولا مخرج له ، أو في مضيق لا يتعذر قبضه ملكه ، وفيه أيضا اشكال ، ولعل الاشبه أنه لا يملك هنا الا مع القبض باليد أو الآلة.

أقول : ينشأ : من النظر الى أن ذلك ليس آلة معتادة للاصطياد ، ولان الملك حكم شرعي فيقف على موضع الدلالة ، وحيث لا دلالة فلا حكم.

والالتفات الى أن ذلك حيازة فيقع به الملك. وانما كان عدم الملك أشبه ، لدلالة الاصل عليه.

قالرحمه‌الله : ولو أطلق الصيد من يده لم يخرج عن ملكه ، فان نوى اطلاقه وقطع نيته عن ملكه ، هل يملكه غيره باصطياده؟ الاشبه لا ، لانه لا يخرج عن ملكه بنية الاخراج ، وقيل : يخرج ، كما لو وقع منه شي‌ء حقير فأهمله ، فانه يكون كالمبيح له ، ولعل بين الحالين فرقا.

أقول : أشار بالفرق الى أن الاهمال هنا انما أفاد الاباحة على تقدير تسليمها ، وهو غير المتنازع فيه ، اذ النزاع انما وقع في افادة الملك وهو غير الاباحة.

قالرحمه‌الله في كتاب الاطعمة والاشربة : الاول ـ في حيوان البحر ، ولا يؤكل منه الا ما كان سمكا له فلس ، سواء بقي عليه كالشبوط والبياح ، أو لم يبق كالكنعت.

أقول : الكنعت ضرب من السمك ، ويقال أيضا : كنعد بالدال غير المعجمة ،

١٠١

نقل ذلك المتأخر في كتابه.

قالرحمه‌الله : ما ليس له قانصة ولا حوصلة ولا صيصية فهو حرام.

أقول : المراد بالصيصية هنا الجارحة من كف الطائر ، فانها بمنزلة الابهام من بني آدم ، وكل ما يحصن به صيصة بغير همز ، لانها مشتقة من الصياص ، وهي الحصون ، وقد يراد بها القرون أيضا ، ذكر ذلك جميعه المتأخر.

قالرحمه‌الله : المحرمات من الذبيحة خمسة : الطحال ، والقضيب ، والفرث ، والدم ، والانثيان ، وفي المثانة والمرارة والمشيمة تردد ، أشبهة التحريم لما فيها من الاستخباث.

أقول : منشؤه : النظر الى قضاء الاصالة بالإباحة ، وهو خيرة شيخنا المفيد وسلار.

والالتفات الى أن هذه الاشياء مستخبثة عرفا ، فتكون محرمة شرعا. أما المقدمة الاولى ، فظاهرة لكونها وجدانية.

وأما الكبرى ، فلقولهعليه‌السلام « كل ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن »(١) ولا شك أن استخباث هذه الاشياء حسن عند المسلمين ، فيكون حسنا عند الله تعالى ، عملا بظاهر الخبر ، وهو المراد بالتحريم هنا ، وهو اختيار الشيخ وأتباعه.

والمثانة بالثاء المنقطة بثلاث نقط موضع البول ومخففة ، ذكر ذلك الجوهري(٢) والمتأخر.

والمشيمة الغرس وأصلها مفعلة فسكنت الياء والجمع مشائم على مثال معايش ، ذكر ذلك الجوهري في صحاحه(٣) . وعنى بالغرس بكسر الغين ما

__________________

(١) عوالى اللئالى ١ / ٣٨١.

(٢) صحاح اللغة ٦ / ٢٢٠٠.

(٣) صحاح اللغة ٥ / ١٩٦٣.

١٠٢

يخرج مع الولد كأنه مخاط ويقال : جليدة يكون على وجه الفصيل ساعة يولد فان تركت قتلته. قال الراجز :

يتركن في كل مناخ أبس

كل جنين مشعر في غرس(١)

قالرحمه‌الله : أما الفرج والنخاع والعلباء والغدد وذات الاشاجع ـ الى آخره.

أقول : قد مر تفسير النخاع ، وفيه لغتان : ضم النون وكسرها ، ومن العرب من يفتحها أيضا.

والعلباء بكسر العين عصبتان عريضتان صفراوان ممدودان من الرقبة على الظهر الى عجب الذنب.

والاشاجع أصول الاصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف ، الواحد أشجع ، قال لبيد :

وأنه يدخل فيها إصبعه

يدخلها حتى تواري أشجعه

قال الجوهري : وناس يزعمون أنه اشجع مثال اصبع ، ولم يعرفه أبو الغوث(٢) .

قالرحمه‌الله : القسم الخامس في المائعات ، والمحرم منها خمسة : الخمر وكل مسكر كالنبيذ والبتع والفضيخ ، والنقيع والمزر.

أقول : البتع بكسر الباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة وسكون التاء المنقطة من فوقها بنقطتين شراب يتخذ من العسل.

والنقيع : شراب يتخذ من الزبيب. والمزر : شراب من الذرة. وأما الفضيخ ، فهو شراب يتخذ من تمر وسر ، ويقال : هو أسرع ادراكا.

__________________

(١) صحاح اللغة ٢ / ٩٥٢.

(٢) صحاح اللغة ٣ / ١٢٣٦.

١٠٣

قالرحمه‌الله : ودواخن الاعيان النجسة عندنا طاهرة ، وكذا كل ما أحالته النار فصيرته رمادا أو دخانا على تردد.

أقول : ينشأ : من النظر الى أن ايجاب الاصحاب الاستصباح بالدهن النجس تحت السماء دون الظلال يؤذن بنجاسة دخان الاعيان النجسة ورمادها ، وهو أصح وجهي الشافعي.

والالتفات الى أن الاصحاب رووا جواز السجود على جص أو قد عليه بالنجاسات ، وذلك يدل على أن دواخن الاعيان النجسة ورمادها ظاهران ، والا لزم السجود على النجس ، وهو باطل اجماعا ، وهذا الدليل عول عليه الشيخ في المبسوط(١) والمتأخر.

واحتج في الخلاف(٢) بأصالتي الطهارة وبراءة الذمة ، وبأن الحكم بالنجاسة وشغل الذمة يحتاج الى دليل ، ولقائل أن يمنع جواز السجود على الجص ، فيسقط حينئذ الاستدلال به.

ونمنع دلالة ايجاب الاستصباح بالنجس تحت السماء فحسب على النجاسة ولم لا يقال ان ذلك تعبد شرعي تعبدنا به؟ كما هو مذهب ابن ادريس والمصنف أو نمنع وجوب الاستصباح به تحت السماء دون السقف ، بل هو جائز ، أي : الاستصباح به تحت الظلال على كراهية ، كما هو مذهب الشيخ في المبسوط(٣) ، وبالجملة فتردد المصنف هنا ضعيف بالمرة.

قالرحمه‌الله : لا يجوز أن يأكل الانسان من مال غيره الا باذنه ، وقد رخص مع عدم الاذن في التناول من بيوت من تضمنته الآية اذا لم يعلم منه الكراهية ،

__________________

(١) المبسوط ٦ / ٢٨٣.

(٢) الخلاف ٢ / ٥٤٤ مسألة ٢٠.

(٣) المبسوط ٦ / ٢٨٣.

١٠٤

ولا يحمل منه ، وكذا ما يمر به الانسان من النخل ، وكذا الزرع والشجر على تردد.

أقول : ينشأ من النظر الى أن جواز ذلك في النخل ثبت على خلاف مقتضى الدليل ، للاجماع والنص ، فيبقى الباقي من الزرع والشجر على أصالة التحريم ، وهو اختيار الشيخ في الحائريات.

والالتفات الى الروايتين المرويتين عن أبي عبد اللهعليه‌السلام (١) دالتان على جواز الاكل من جميع ذلك ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط(٢) والخلاف(٣) وكتابي الاخبار ، واختاره المتأخر ، الا أن المتأخر جوز التناول ما لم ينه المالك ، والشيخ أطلق القول بالجواز وخص الجواز في النهاية(٤) بالفواكه.

واعلم أنه قد روى علي بن يقطين عن أبي الحسنعليه‌السلام ما يضاد ذلك ظاهرا قال : سألته عن الرجل يمر بالثمرة من النخل والكرم والشجر والمباطخ وغير ذلك من الثمر ، أيحل أن يتناول ويأكل بغير اذن صاحبه؟ وكيف حاله ان نهاه صاحب الثمرة؟ وكم الحد الذي يسعه أن يتناول منه؟ قال : لا يحل له أن يأخذ منه شيئا(٥) . وحمل الشيخ ذلك على النهي عن الاخذ دون الاكل.

قالرحمه‌الله في أحكام المضطر : ولو وجد ميتة وطعام الغير ـ الى قوله : فان كان صاحب الطعام ضعيفا لا يمنع أكل الطعام وضمنه ولم تحل الميتة ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن الضرورة المبيحة لاكل الميتة منفية هنا ، فلا

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٨٣.

(٢) المبسوط ٦ / ٢٨٨.

(٣) الخلاف ٢ / ٥٤٦.

(٤) النهاية ص ٤١٧.

(٥) تهذيب الاحكام ٧ / ٩٢ ، ح ٣٥.

١٠٥

يسوغ له أكلها ، وانما قلنا انها منفية لانه قادر على أكل طعام مستطاب حلالا ، بأن يقومه على نفسه ويؤدي ثمن مثله فيجب عليه ، وهو الذي قواه الشيخ في المبسوط(١) .

والالتفات الى عموم النهي عن التصرف في مال الغير ، ترك العمل به في ما اذا لم يجد الاطعام الغير فقط ، للاجماع عليه ، ولتحقق الاضطرار إليه ، وحصول الضرر العظيم مع تركه ، فيبقى معمولا به فيما عداه ، وهو الاقوى.

__________________

(١) المبسوط ٦ / ٢٨٧.

١٠٦

فصل

( فى ذكر الترددات المذكورة فى كتاب الغصب )

قالرحمه‌الله : ولو استخدم الحر لزمته الاجرة. ولو حبس صانعا لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به ، لان منافعه في قبضته. ولو استأجره لعمل ، فاعتقله ولم يستعمله فيه تردد ، والاقرب أن الاجرة لا تستقر لمثل ما قلناه.

أقول : منشؤه : النظر الى أصالة براءة الذمة من الاجرة ، ولان المنافع انما تضمن بالغصب ولا غصب هنا.

والالتفات الى أن عقد الاجارة اقتضى وجوب الاجرة للاجير على المستأجر كما اقتضى وجوب العمل للمستأجر عليه من أول زمان الامكان ، فاذا لم يستعمله في ذلك الزمان استقرت عليه الاجرة لتفريطه.

قالرحمه‌الله : ويضمن الخمر بالقيمة عند المستحل لا بالمثل ، ولو كان المتلف ذميا على ذمي ، وفي هذا تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن الخمر من ذوات الامثال ، ونعني بالمثلي ما يتساوى أجزاؤه قيمة فيضمن بالمثل. أما المقدمة الاولى ، فظاهرة مع معرفة تفسير المثلي.

١٠٧

وأما المقدمة الثانية ، فاجماعية ولقوله تعالى «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ »(١) ولان المقتضي للضمان بالمثل موجود والمعارض مفقود ، فيجب القول بضمان المثل.

أما المقتضي للضمان بالمثل ، فهو تلف العين المغصوبة التي من ذوات الامثال ولا شك في وجوده هنا.

وأما المعارض ، فهو عدم ملكية الخمر المانع من أدائها بدلا ، وذلك انما يتأتى في حق المسلم ، أما الذمي فلا ، وهو مذهب أبي حنيفة.

والالتفات الى أنه قول مشهور لعلمائنا ، فيجب تلقيه بالقبول ، اذ الكثرة أمارة الرجحان ، خصوصا وقد استدل الشيخ في الخلاف(٢) عليه باجماع الفرقة وأخبارهم.

فرع :

قال الطحاوي : لو أسلم المتلف وكان ذميا قبل أن يؤخذ منه مثل الخمر سقط عن ذمته. وهذا انما يتأتى على القول الاول. أما على قول الشيخ فلا ، بل تجب القيمة سواء أسلم المتلف أولا. ولما كان هذا الدليل ضعيفا ، لا جرم كان القول الاول أقوى.

قالرحمه‌الله : لو غصب شاة فمات ولدها جوعا ، ففي الضمان تردد. وكذا لو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتفق تلفها. وكذا التردد لو غصب دابة فتبعها الولد.

أقول : منشأ التردد في هذه المسائل الثلاث من النظر الى أصالة براءة الذمة وهي دليل قطعي ، فيتمسك بها الى حين ظهور الدليل الناقل عنها ، وهو غير موجود هنا.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٤.

(٢) الخلاف ١ / ٦٧٩ ، مسألة ٢٨ من كتاب الغصب.

١٠٨

ومن الالتفات الى أن سبب الاتلاف في هذه الصور صدر منه ، فيلزم الضمان ولعله الاقوى.

قالرحمه‌الله : أما لو فتح رأس الظرف ، فقلبته الريح أو ذاب بالشمس ، ففي الضمان تردد ، ولعل الاشبه أنه لا يضمن ، لان الريح والشمس كالمباشر ، فيبطل حكم السبب.

أقول : منشؤه : النظر الى أصالة البراءة ، ولان الريح والشمس مستقلان بالاتلاف هنا ، فينتفي الضمان عنه ، بدليل أن المباشر للتلف أولى بالضمان من ذي السبب ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط(١) .

والالتفات الى أن المباشر هنا ضعيف ، فيبطل حكمه ، والاول أقوى.

فائدة :

قال الشيخ في المبسوط : أصل هذا الباب وما في معناه كل من فعل فعلا بيده كان الضمان عليه ، كما لو باشر القتل وان كان بسبب ، فان كان مباحا كمن حفر بئرا فوقع فيها انسان في ظلمة كان عليه الضمان ، وان حصل منه سبب وحدث بعده فعل سقط حكم السبب ، ثم ينظر في المباشر ، فما يتعلق به الضمان ضمن ، كالحافر والدافع والممسك والذابح ، وان كان مما لا يضمن فعله سقط حكمه ، كالطائر بعد وقوفه عندهم ، وقد قلنا ما عندنا فيه(٢) .

قالرحمه‌الله : وان لم يكن مثليا ضمن قيمته يوم غصبه ، وهو اختيار الاكثر. وقال في الخلاف : يضمن أعلى القيم من حين الغصب الى حين التلف ، وهو حسن. ولا عبرة بزيادة القيمة ولا بنقصانها بعد ذلك على تردد.

__________________

(١) المبسوط ٣ / ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) المبسوط ٣ / ٩٠.

١٠٩

أقول : منشؤه : النظر الى أصالة براءة الذمة ، ترك العمل بها في صورة الزامه بالقيمة يوم غصبه ، أو أعلى القيم من حين يوم الغصب الى حين التلف ، فيبقى معمولا بها فيما عداها ، وهو خيرة الشيخرحمه‌الله في المبسوط(١) .

والالتفات الى أن الغاصب مأمور برد المغصوب في كل زمان يأتي عليه وهو في يده ، واذا ثبت أنه مأمور بذلك في كل أوان وجب عليه أعلى القيم من حين الغصب الى حين الرد ، ولان الغصب عقوبة وايجاب أعلى القيم مناسب لتلك العقوبة.

قالرحمه‌الله : وكل جناية [ ديتها ] مقدرة في الحر ، فهي مقدرة في المملوك بحساب قيمته ، وما ليست مقدرة في الحر ففيها الحكومة. ولو قيل : يلزم الغاصب أكثر الامرين من المقدر والارش ، كان حسنا.

أقول : القول الاول للشيخرحمه‌الله في المبسوط(٢) والخلاف(٣) ، واحتج عليه في الخلاف باجماع الفرقة وأخبارهم ، وأتبعه المتأخر ، ويؤيده الاصالة.

والقول الثاني للمصنفرحمه‌الله ، وربما كان أشبه لما فيه من تغليظ العقوبة على الغاصب.

قالرحمه‌الله : ولو استغرقت قيمته ، قال الشيخرحمه‌الله : كان المالك مخيرا بين تسليمه وأخذ القيمة وبين امساكه ولا شي‌ء له ، تسوية بين الغاصب في الجناية وغيره ، وفيه التردد.

أقول : ايجاب القيمة مع تسليمه إليه للاجماع ، فيبقى معمولا بها فيما عداها

__________________

(١) المبسوط ٣ / ٦٠.

(٢) المبسوط ٣ / ٦٢.

(٣) الخلاف ١ / ٦٧٢.

١١٠

وهو اختيار الشيخ في المبسوط(١) والخلاف(٢) ، محتجا باجماع الفرقة وأخبارهم.

والالتفات الى أن تغليظ العقوبة يقتضي الزامه بأرش الجناية مع رد المملوك الى سيده.

قالرحمه‌الله : ولو غصب شيئين ينقص قيمة كل واحد منهما اذا انفرد عن صاحبه كالخفين ـ الى قوله : أما لو أخذ فردا من خفين يساويان عشرة ، فتلف في يده وبقي الاخر في يد المالك ناقصا عن قيمته بسبب الانفراد ، رد قيمة التالف ان لو كان منضما الى صاحبه ، وفي ضمان ما نقص من قيمة الاخر تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن أصالة براءة الذمة تنفي وجوب ذلك ، ولان سبب الضمان في هذه الصورة انما هو تلف المغصوب أو الغصب ، وهو مفقود هنا اذ المغصوب انما هو التالف دون غيره ، بخلاف ما لو غصبها معا ، وهو قوي.

والالتفات الى أن التفرقة جناية منه ، فيلزم ما نقص بها ، وهو ظاهر كلام الشيخ والمتأخر.

قالرحمه‌الله : ولو أغلا الزيت فنقص ضمن النقصان ، ولو أغلا عصيرا فنقص وزنه ، قال الشيخ : لا يلزمه ضمان النقيصة ، لانها نقيصة الرطوبة التي لا قيمة لها بخلاف الاولى ، وفي الفرق تردد.

أقول : اعلم أن الشيخرحمه‌الله فرق في المبسوط(٣) بين المسألة الاولى وهذه بأن النار لا يفقد أجزاء الزيت ، فاذا ذهب بعض العين كان كالمتلف للزيت عينه وذاته ، فلهذا كان عليه ما نقص ، وليس كذلك العصير لان فيه ماء ، فالنار يأكل منه الماء وبعض الاجزاء ، ألا تراه يثخن ويزيد حلاوته ، فكأن الذي ذهب منه لا قيمة له ، فلهذا لم يضمن نقصان الكيل.

__________________

(١) المبسوط ٣ / ٦٤.

(٢) الخلاف ١ / ٦٧٣.

(٣) المبسوط ٣ / ٨١.

١١١

والمصنفرحمه‌الله منع الفرق بين الصورتين ، اذ هما متساويتان ، فيخصص احداهما بحكم ليس للاخرى ترجيح من غير مرجع. قوله « ألا تراه يثخن ويزيد حلاوته » قلنا : وكذلك الزيت يثخن.

قالرحمه‌الله : ولو أولدها المشتري كان حرا وعزم قيمة الولد ويرجع بها على البائع ، وقيل في هذه : له مطالبة أيهما شاء ، لكن لو طالب المشتري رجع على البائع ، ولو طالب البائع لم يرجع على المشتري ، وفيه احتمال آخر.

أقول : القائل هو الشيخرحمه‌الله في المبسوط قال : أما المشتري فلانه وجب بفعله ، وأما البائع الغاصب فلانه سبب يد المشتري(١) . والمتأخر قصر الرجوع على المشتري فقط لانه مباشر ، وهو ضعيف بغرور البائع اياه ، فيكون السبب أقوى ، ويجي‌ء على قول هذا القول الزام الغاصب البائع فقط.

وأما الاحتمال الذي أشار المصنفرحمه‌الله إليه فهو ما ذكر الشيخرحمه‌الله والمتأخر ، من أنه اذا رجع المالك على البائع الغاصب ، فكل موضع قلنا لو رجع على المشتري رجع به المشتري على الغاصب ، كما يغرمه فيما لم يحصل له في مقابلته يقع كالولد ، فالغاصب هنا لا يرجع بشي‌ء ، وكل موضع قلنا لو رجع على المشتري لم يرجع على الغاصب ، كما يغرمه في ما حصل له في مقابلته نفع فالغاصب هنا يرجع على المشتري لاستقرار الضمان عليه.

قالرحمه‌الله : اذا غصب مملوكة فوطأها ـ الى قوله : ولو سقط ميتا قال الشيخرحمه‌الله : لم يضمنه ، لعدم العلم بحياته ، وفيه اشكال ينشأ من تضمين الاجنبي ، وفرق الشيخ بين وقوعه بالجناية وبين وقوعه بغير الجناية.

أقول : اعلم أن الشيخرحمه‌الله ذكر ذلك في المبسوط(٢) ، محتجا بوجهين :

__________________

(١) المبسوط ٣ / ٦٨.

(٢) المبسوط ٣ / ٦٦.

١١٢

الاول : أن الموجب لضمان قيمة الولد هنا انما هو الحيلولة بين مولى الامة وبين التصرف فيه ، والحيلولة انما يتحقق أن لو وضعته حيا ، أما ميتا فلا ، لانا نعلم حياته قبل هذا.

الثاني : أصالة البراءة تنفي وجوب أداء القيمة مطلقا ، ترك العمل بها في صورة وضعه حيا ، للاجماع على ذلك ، فيبقى معمولا بها فيما عداه.

والمصنف استشكل ذلك ، ومنشأ اشكاله أن القول بتضمين الاجنبي القاؤها الجنين ميتا مع ضربه بطنها ، يقتضي وجوب الضمان مطلقا ، لان السبب المقتضي للضمان هناك انما هو القاء جنين بظن حياته ، وهذا المعنى بعينه موجود في صورة ما اذا وضعته ميتا من غير ضربه ، فيجب القول بضمان قيمته أن لو سقط حيا عملا بالمقتضي.

والشيخرحمه‌الله فرق بين هذه الصورة والاولى ، بأنها لما ألقته عقيب الضرب كان الظاهر أنه سقط بحياته ، وليس كذلك اذا وضعته ميتا من غير ضرب ، لان الاصل الموت حتى يعلم غيره ، ولعله الاقرب.

قالرحمه‌الله : ولو كان الغاصب والامة عالمين بالتحريم ـ الى قوله : ولو مات ولدها في يد الغاصب ضمنه ، ولو وضعته ميتا قيل : لا يضمن ، لانا لا نعلم حياته قبل ذلك ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه : ما ذكر في الاشكال السابق على هذا بلا فصل.

١١٣

فصل

( فى ذكر الترددات المذكورة فى كتاب الشفعة )

قالرحمه‌الله : وفي ثبوت الشفعة في النهر والطريق والحمام وما تضر قسمته تردد ، أشبهه أنها لا تثبت.

أقول : منشؤه : النظر الى أن ثبوت الشفعة على خلاف مقتضى الدليل ، لما فيها من منع المالك من التصرف في ملكه ، فلا يحكم بثبوتها الا لدليل أقوى ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف ، محتجا بما رواه أبو هريرة وجابر أن النبيعليه‌السلام أنه قال : الشفعة في كل ما لم يقسم ، فاذا وقعت الحدود وصرفت الحدود فلا شفعة.

قال : فوجه الدلالة أنه ذكر الشفعة بالالف واللام وهما للجنس ، فكان تقدير الكلام : جنس الشفعة فيما لم يقسم. يعني ما يصح قسمته شرعا وما لا يصح قسمته لا يدخل تحته ، وبأن اثبات الشفعة حكم شرعي ، فيفتقر الى الدليل الشرعي ، وبقولهعليه‌السلام « انما الشفعة فيما لم يقسم » ولفظة « انما » تفيد معنى « لا » فكأنه قال : لا شفعة فيما لم يقسم.

فاذا ثبت هذا فان تقدير الدلالة أن قوله « فيما لم يقسم » يفيد ما يقسم الا أنه لم

١١٤

يفعل فيه القسمة ، لانه لا يقال فيما لم يقسم ، وانما يقال فيما لا يقسم : ما لم ، وانما يقال فيه القسمة ، فلما قال « فيما لم يقسم » دل على ما قلناه(١) .

وأقول : انما كان كذلك ، لان لفظة « لم » يفيد نفي الماضي ، فلهذا يصح دخولها على ما يصح قسمته ، وفي معناها « لما » وأما لفظة « لا » فانها يفيد نفي الابد ، فلهذا صح دخولها على ما لا يصح قسمته شرعا ، وفي معناها « الا » وهو اختياره في المبسوط(٢) وفي موضع من النهاية(٣) ومذهب الشافعي ومالك وربيعة ، وبه قال عثمان بن عفان.

والالتفات الى أن الشفعة انما شرعت لازالة الضرر عن الشفيع الحاصل بالشركة ، وهذا المعنى متحقق في سائر المبيعات المشتركة ، فيجب القول بثبوت الشفعة فيها عملا بالمقتضي ، وهو اختيار المتأخر ، ونقله عن السيد المرتضى وغيره من المشيخة ، واختاره الشيخ في الموضع الثاني من النهاية.

قالرحمه‌الله : وفي دخول الدولاب والناعورة في الشفعة اذا بيع مع الارض تردد ، اذ ليس من عادته أن ينقل.

أقول : ينشأ من النظر الى أن الدولاب والناعورة مما يمكن نقله ، فلا يثبت فيه الشفعة ، للدليل الدال على انتفاء الشفعة عن المبيعات المنقولة.

والالتفات الى أن ذلك لا ينقل عادة ، وان كان ممكنا ، فيثبت فيه الشفعة للدليل الدال على ثبوت الشفعة في هذا النوع من المبيعات.

واعلم أن هذا التردد انما يتمشى على قول من لا يثبت الشفعة في المنقولات ، أما على القول بعموم الشفعة في المبيعات فلا.

__________________

(١) الخلاف ١ / ٦٩٠ مسألة ١٦.

(٢) المبسوط ٣ / ١١٩.

(٣) النهاية ص ٤٢٤.

١١٥

قالرحمه‌الله : فروع على القول بثبوت الشفعة مع كثرة الشفعاء وهي عشرة : الاول ـ لو كان الشفعاء أربعة ، فباع أحدهم وعفى الاخر ، فللآخرين أخذ المبيع. ولو اقتصر في الاخذ على حقهما لم يكن لهما ، لان الشفعة لازالة الضرر ، وبأخذ البعض يتأكد.

أقول : هذا التعليل غير واضح ، بل الحق أن يقال : انما منعا من ذلك لما فيه من الاضرار بالمشتري ، وهو ظاهر كلام الشيخ في المبسوط(١) ، اذ الاضرار لا يتحقق هنا على تقدير تجويز أخذ حقهما فقط الا بالمشتري ، أما بهما فلا ، ولو أمكن تحققه لا يندفع(٢) باختيارهما.

والظاهر أن مراد المصنف بالضرر هنا ضرر الشفعاء ، ولا جرم أن يأخذ بعض المشفوع يتأكد ضررهما ، باعتبار ثبوت حق للمشتري بسبب الحصة المتخلفة ، فيمنعان من ذلك ، اذ هو سفه ، كما لو اتفقا على قسمة اللؤلؤة والجوهرة ، فان الحاكم يمنعهما لازالة الضرر عنهما.

قالرحمه‌الله : لو قال الحاضر : لا آخذ حتى يحضر الغائب لم تبطل شفعته لان التأخير لغرض لا يتضمن الترك ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن حق الشفعة يجب المطالبة به على الفور ، فيسقط بكل ما يعد تقصيرا وتوانيا ، ولا شك أن تأخير الاخذ مع التمكن منه توان فيسقط به.

والالتفات الى أن التأخير هنا لعذر ، فلا يبطل به الشفعة ، وهذا الذي قواه الشيخ في المبسوط(٣) .

__________________

(١) المبسوط ٣ / ١١٤.

(٢) فى « م » : لا يدفع.

(٣) المبسوط ٣ / ١١٥.

١١٦

واعلم أن هذا التردد انما يتأتى على قول من يقول : ان حق الشفعة على الفور ، وهو الشيخرحمه‌الله وأتباعه. أما على قول من لا يقول بذلك ـ وهو السيد المرتضى قدس الله روحه وأتبعه المتأخر ـ فلا اشكال في عدم البطلان.

قالرحمه‌الله : اذا كانت الارض مشغولة بزرع يجب تبقيته ، فالشفيع بالخيار بين الاخذ بالشفعة في الحال وبين الصبر حتى يحصد ، لان له في ذلك غرضا ، وهو الانتفاع بالمال ، وتعذر الانتفاع بالارض المشغولة ، وفي جواز التأخير مع بقاء الشفعة تردد.

أقول : منشؤه : ما ذكر في التردد السابق عليه بلا فصل.

قالرحمه‌الله : الشفعة تورث كالمال ، فلو ترك زوجة وولدا ، فللزوجة الثمن وللولد الباقي. ولو عفا أحد الوراث عن نصيبه لم يسقط ، وكان لمن لم يعف أن يأخذ الجميع ، وفيه تردد ضعيف.

أقول : منشؤه : النظر الى أن الوراث يقومون مقام ورثهم. ولو عفا المورث عن بعض ، سقطت الشفعة كلها اجماعا ، فتسقط الشفعة كلها هنا بعفو أحد الوراث عن نصيبه تحقيقا للمشابهة.

والالتفات الى أنها شفعة لعدة من الشركاء ، فلا تسقط بعفو البعض ، كما لو وجب لهم بالبيع. وأما المورث فالمستحق واحد ، فاذا عفا عن نصف حقه سقط كله ، بخلاف هذه الصورة ، فان الشريك هنا انما عفا عن كل حقه ، فلهذا لم يسقط حق شريكه ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط(١) ، ولهذا كان التردد ضعيفا.

قالرحمه‌الله : إذا تبايعا شقصا ، فضمن الشفيع الدرك عن البائع ، أو عن المشتري ، أو شرط المتبايعان الخيار للشفيع ، لم تسقط بذلك الشفعة ، وكذا لو كان وكيلا لاحدهما ، وفيه تردد لما فيه من أمارة الرضا بالبيع.

__________________

(١) المبسوط ٣ / ١١٣.

١١٧

أقول : منشؤه : النظر الى عدم التنافي بين ثبوت الشفعة هنا وصحة هذه الاحكام وهو اختيار الشيخ في الخلاف(١) ، محتجا على الجواز بعدم المانع منه ، وعلى عدم السقوط بعدم الدليل الدال عليه ، وهو مذهب الشافعي ، واختاره المتأخر في الوكالة خاصة.

والالتفات الى أن ذلك دلالة على الرضا بالبيع ، فتسقط الشفعة كما لو رضي بالبيع ولان البيع انما يتم به ، كما اذا باع بعض حقه لم يجب الشفعة على المشتري وبه قال أهل العراق.

قالرحمه‌الله : اذا باع الشقص بعوض معين لا مثل له كالعبد ـ الى قوله : ولو كانت قيمة الشقص والحال هذه أقل من قيمة العبد ، هل يرجع الشفيع بالتفاوت؟ فيه تردد ، الاشبه لا ، لانه الثمن الذي اقتضاه العقد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن الشفيع انما يجب عليه أداء ما استقر ثمنا وليس إلا قيمة الشقص ، فلو كانت قيمة العبد أكثر من قيمة الشقص رجع بالتفاوت ، لانا بينا أنه أدى أكثر مما وجب عليه أداؤه ، فيكون الزائد باقيا على ملكه ، فيجوز له ارتجاعه ، عملا بقولهعليه‌السلام « الناس مسلطون على أموالهم »(٢) .

والالتفات الى أن الشفيع انما يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد ، وانما استقر على أن العبد هو الثمن ، فاذا تعذر دفعه لتعذر المثلية ، وجب دفع قيمته ، ونمنع أن الواجب الاخذ بما استقر ثمنا ، بل الواجب الاخذ بما انعقد عليه العقد ثمنا ، وهو اختيار المتأخر ، وحكى الشيخ في المبسوط(٣) الوجهين ولم يرجح.

قالرحمه‌الله : لو كانت دارا لحاضر وغائب ـ الى قوله : ويرجع بالاجرة

__________________

(١) الخلاف ١ / ٦٩٣.

(٢) عوالى اللئالى ١ / ٢٢٢ و ٤٥٧ و ٢ / ١٣٨ و ٣ / ٢٠٨.

(٣) المبسوط ٣ / ١٣٢.

١١٨

ان شاء على البائع ، لانه سبب الاتلاف ، أو على الشفيع لانه المباشر للاتلاف ، فان رجع على مدعي الوكالة ، لم يرجع الوكيل على الشفيع لانه غره ، وفيه قول آخر هذا أشبه.

أقول : أشار بالقول الاخر الى ما ذكره في المبسوط(١) ، من أنه اذا رجع على الشفيع لم يرجع الشفيع على الوكيل ، لان الشي‌ء تلف في يده فاستقر الضمان عليه ، وان رجع على الوكيل رجع الوكيل على الشفيع ، لان الضمان قد استقر عليه.

ثم حكى القول الذي اختاره المصنفرحمه‌الله ، وقوى الاول فقط ، والثاني أشبه عند المصنف ، لان المباشرة ضعيف بالغرور ، فكان السبب أقوى.

قالرحمه‌الله : ولو ترك عن الشفعة قبل البيع ، لم تبطل مع البيع ، لانه اسقاط ما لم يثبت ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن حق الشفعة انما يثبت بعد عقد البيع ، فاذا عفا قبل البيع كان عفوه باطلا ، فيكون له المطالبة بالشفعة مع وقوع البيع وانما قلنا ان عفوه باطل ، لانه لم يصادف مستحقا ، وهو اختيار المتأخر.

والالتفات الى أن الشفعة مشروعة لمصلحة الشريك ودفع الضرر عنه ، فاذا لم يرده دل على عدم التضرر ، فلا تثبت الشفعة لانتفاء السبب.

قال المصنف في النكت ، وليس ذلك من باب الاسقاط ، فيتوقف على الاستحقاق ، كالابراء من الدين ، وهو ظاهر كلام الشيخ في النهاية(٢) ، وقد استدل كثير ممن ذهب الى ذلك بما روي عن النبيعليه‌السلام أنه قال : لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه ، فاذا باع ولم يأذن به فهو أحق(٣) . وجه الاستدلال أنه علق

__________________

(١) المبسوط ٣ / ١٤٥.

(٢) النهاية ص ٤٢٥.

(٣) عوالى اللئالى ٣ / ٤٧٩ ، برقم : ١٤.

١١٩

الاستحقاق على عدم الاستيذان ، فلا يثبت معه.

قالرحمه‌الله : وكذا لو شهد على البيع ، أو بارك للمشتري أو للبائع ، أو أذن للمشتري في الابتياع ، فيه تردد ، لان ذلك ليس بأبلغ من الاسقاط قبل البيع.

أقول : البحث في هذه المسائل كالبحث في السابقة وقد سلف.

قالرحمه‌الله : ولو بان الثمن مستحقا بطلت الشفعة ـ الى قوله : وكذا لو تلف الثمن المعين قبل قبضه لتحقق البطلان ، على تردد في هذا.

أقول : ينشأ من النظر الى أن الشفعة تابعة لصحة البيع ، والبيع هنا بطل لتلف عوضه ، فتبطل الشفعة تحقيقا للتبعية ، ولان البائع لا يملك مطالبة المشتري بالثمن لانه معين تلف قبل القبض ، فلا يجوز المطالبة ببدله ، لعدم تناول العقد له.

فاذا تعذر تسليم الثمن بطلت شفعة الشفيع ، لانه انما يأخذ الشفعة بالثمن الذي يلزم المشتري ، والمشتري ما لزمه الثمن ولا بدل الثمن ، فوجب أن تبطل الشفعة ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط.

والالتفات الى أن الثمن مضمون على المشتري ، فاذا تلف لزمه بدله ويصح البيع وتثبت الشفعة حينئذ لكونها تابعة له.

قالرحمه‌الله : قال في الخلاف : اذا ادعى أنه باع نصيبه من أجنبي وأنكر الاجنبي ، قضى بالشفعة للشريك بظاهر الاقرار ، وفيه تردد ، من حيث وقوف الشفعة على ثبوت الابتياع ، والاول أشبه.

أقول : هذه المسألة ذكرها الشيخرحمه‌الله في الخلاف(١) والمبسوط ، وحكم فيهما بثبوت الشفعة ، وهو مذهب جمهور الشافعية ، وهو تفريع المزني.

واحتج على ذلك في الكتابين بأن البائع أقر بحقين : أحدهما للمشتري والثاني للشفيع ، فاذا رد أحدهما ثبت حق الاخر ، كما لو أقر بدار لرجلين ،

__________________

(١) الخلاف ١ / ٦٩٥ مسألة ٣٤.

١٢٠

ففقهاء المذاهب مختلفون في تحديد شرعية سلطة الحاكم.

وقد ظهر متأخراً طرح ثالث للشورى؛ وهو أن الشورى تكون كاشفة ومبيِّنة عمَّن له حق الولاية في علم اللَّه عزَّ وجل، والشورى تكون كاشفاً إثباتياً عن الأجدر والأكثر تأهُّلاً لنيل منصب الولاية، وأن الولاية ثابتة له من اللَّه عزَّ وجل. ويظهر هذا الطرح في كتابات بعض المتأخرين من أتباع المذاهب غير الإمامية.

النظرية الثانية:

أن الولاية تثبت بالنص لشخص الولي، إلاّ أن فعلية ولايته منوطة بالبيعة والشورى، وعند فقد النص يكون الأمر شورى. وبالتعبير الحديث يقال: إن السلطة التنفيذية بيد الأمة، غايتها يكونون مقيَّدين بالمنصوص عليه، وفي حالة عدمه، يختارون مَن تنطبق عليه المواصفات والشرائط. أما السلطة التشريعية، فهي بيد الأمة. فالولاية للمختار بالأصالة، لا بالنيابة عمّن اختار المنصوص عليه.

النظرية الثالثة:

في حالة وجود النص فهو المتَّبع ولا دور للشورى، وفي حالة عدمه أو غيبة المنصوص عليه، فالأمر يعود للأمة لاختبار الحاكم، لكن ذلك مشروط بنظارة أهل الخبرة الشرعية؛ وهم الفقهاء.

وفي عصر الغيبة يكون الأمر للأمة شورى، تمارس السلطة التنفيذية والتشريعية، غايته يكون ذلك تحت نظارة وإشراف الفقيه.

ولهذه النظرية صياغات:

١ - أن دور الفقيه يكون كدور المحكمة الدستورية في التعبير الحديث؛ وهو فصل النزاعات والاختلافات الحاصلة بين السلطات، وإمضاء التشريعات التي

١٢١

تصدرها الهيئة التمثيلية للأمة، وهذا هو ما ذكره الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزية المِلَّة.

٢ - أن الفقيه يكون له دور المشاهد والرقيب على سير عمل السلطات الثلاث، فإذا ما انحرفت عن مسارها الصحيح، تدخَّل لتقييم اعوجاجها، وهذا ما يذكره الشهيد الصدر في عهد الغيبة.

٣ - أن الفقيه هو المحور في الحكم، غايته قد تعوزه الخبرة العملية في تحصيل الموضوعات فيستعين بأهل الخبرة في كافَّة المجالات التي يحتاجها في تسيير شؤون الدولة؛ من سياسة واقتصاد وقانون وثقافة... وهذا نظير ما طرحه السيد الخوئي في الجهاد من كونه بيد الفقيه غايته يجب أن يستعين بأهل الخبرة من السياسين والعسكريين في إعلان الجهاد.

وهذا التفسير الأخير يباين النظرية المزبورة، وقد يتطابق مع النظرية الخامسة الآتية.

النظرية الرابعة:

أن ولاية الأمر هي بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه المنصوص عليه، ولا يعود الاختيار للأمة. غايتها أن كليهما ملزمان في تسيير أمور الأمة بالشورى، ويكون رأي الشورى ملزِماً لهما ولا يجوز لهما مخالفته.

وطبقاً للتعبير الحديث: السلطة التنفيذية بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه، والسلطة التشريعية - في كلا الفرضين - بيد الأمة.

١٢٢

النظرية الخامسة:

أن ولاية الأمر تكون بالنص ولا مناص منه؛ حيث إن الولاية للَّه عزَّ وجلَّ يجعلها لمَن يشاء من خلقه، فهي تابعة للمنصوص عليه أو مَن ينيبه، غايته يكون ملزَماً في طريقة تسيير شؤون دولته وأمَّته بالاستشارة، لكنَّه غير ملزَم بنتيجة المشورة فيستطيع مخالفتها.

وتكون فائدة الاستشارة بالنسبة للمعصوم ما سوف نبيِّنه فيما بعد، أمَّا بالنسبة لغير المعصوم، فهي نوع من الاستعانة الفكرية.

وهذه النظرية هي التي يتبناها فقهاء الإمامية، وهي مؤدَّى نظرية النص، غايته فيها نوع من الاستعانة بالشورى في إدارة شؤون الأمة.

وهناك طرح أخير يُتَدَاول بين علماء الإمامية - ولْيَكن نظرية سادسة - حاصله: أن الولاية هي بالنص دائماً، غايته في عصر الغيبة جَعل المعصومُ نيابةَ عامة ضمن مَن تتوفَّر فيهم شرائط خاصة، ويعود للأمة تعيين ذلك المصداق فيمَن تتوفَّر فيهم الشرائط.

وشرعية سلطة ذلك الولي المختار من قبل الأمة هي بكون الولاية له من المعصوم، لا من الأمة، غاية الأمر أن الاستنابة من المعصوم هي لمَن تتوفَّر فيه شرائط؛ أحدها: رجوع الأمة إليه، المستفاد من: (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) (اجعلوا بينكم ممَّن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا) (فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً).

وهذا الطرح الأخير يكاد يتطابق مع النظرية الخامسة، مع إناطة دور للأمة في الاختيار والرجوع إلى الفقيه.

وقد خالف الإنصاف مَن نسب النظريات الأخرى إلى الإمامية، بل هي رأي عدَّةٍ من المتأخرين، لا المتسالم بينهم المنسوب إلى الضرورة عندهم، ومِن ثَمَّ لم يكن

١٢٣

من الإنصاف أيضاً التعبير والاقتصار على تلك النظريات مع كونها خلاف ظاهر المشهور بين الإمامية، فإن تصريحاتهم تنادي بالخلاف، مع إطباقهم في كل الطبقات على حصر مشروعية الحكم - بكل شعبه، وفي كل الأدوار الزمانية - بالنص. وقد بحث الفقهاء جانباً من هذا الموضوع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وكتاب القضاء، وكتاب الجهاد، ومسألة التولِّي عن السلطان الجائر في المكاسب المحرَّمة.

ولابدَّ أن نشير إلى أن النظريات الأربع عندما تسند دور الشورى في تشريع القوانين، فإن ذلك يكون في الموارد التي سكت عنها الشارع ولم يكن له فيها حكم خاص، وبتعبير أخر: أن الشورى تكون لسد منطقة الفراغ في التشريع، بخلاف النظريتين الخامسة والسادسة؛ حيث لا يكون لمجلس الشورى - مثلاً - أيُّ دور تشريعي، بل هو أشبه بالمجلس الاستشاري، فتحتاج قوانينه إلى إمضاء الفقيه.

١٢٤

المبحث الثالث:

الأدلَّة النقلية التي أُقيمت على النظريَّات المختلفة.

وتشترك النظريات الأربع في إناطة جانب من الحكم - التنفيذي والتشريعي - أصالة بالأمة؛ ومن هنا سوف نجعل ذلك هو المحور في البحث، فهل يوجد للأمة مثل هذا الدور أم لا؟

والمستدِل بهذه الأدلة تارةً يستدِل على أن الولاية لمجموع الأمة، وتارة للنخبة؛ وهم أهل الحل والعقد، وقد يستدل بها على أن الولاية ثابتة للأمة في عصر الغيبة فقط؛ دون عصر النص.

أولاً:

الأدلة المتضمِّنة للفظ الشورى.

١ - الآيات: وقد ورد لفظ الشورى في موضعين من القرآن الكريم:

أ - قوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (١) .

ب - ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (٢) .

فالآية الأولى وردت بصيغة الأمر، والآية الثانية وردت في سياق بيان صفات

____________________

(١) آل عمران ٢: ١٥٩ / مدنية.

(٢) الشورى ٤٢: ٣٨ / مكِّية.

١٢٥

المؤمنين، وبعض هذه الصفات إلزامي وبعضها ندبي.

وصيغة الأمر في الآية الأولى تجلي الخطاب؛ إذ هو أمر في وجوب المشاورة في كافَّة الشؤون حتى بالنسبة للرسول، ويكون الهدف من ذلك تعليم الأمة وتثقيفها على هذا النوع من الأسلوب؛ وهو المشورة.

أمَّا الآية الثانية، فورد فيه لفظان:

الأول: (أمرهم)، والمراد به الشأن أو الشي‏ء المهم، وعند إضافته إلى المسلمين يكون المجموع دالَّاً على أن الأمر والشي‏ء المهم هو الذي يرتبط بالمجموع، وهل يوجد ما هو أهم من تعيين الولي الذي يقوم بإدارة شؤون المجتمع؟!

الثاني: (الشورى)، فتعني تداول الآراء بين المجموع. وكلمة (بينهم) تؤكِّد دخالة المجموع في إبداء الرأي، واستقلالية هذا الرأي عن العناصر الخارجة عنهم.

والآية الكريمة تعدِّد مجموعة من صفات المؤمنين؛ أكثرها إلزامي كإقامة الصلاة والإنفاق الواجب والاجتناب عن الكبائر، وهذا الوصف طبيعي من حيث تعلُّقه بالوظائف العامة، والأمور التي تعني المجتمع لا تقبل الندبية؛ حيث أن بعض الأمور إنْ شُرِّعت، وجبت، ولا يمكن أن تكون مشروعة وغير واجبة، وبهذا يُستدل على إلزامية الشورى الواردة في هذه الآية.

ويلاحظ أن هذه الآية مكِّية؛ وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعنى المتعارف.

٢- الاستدلال بسيرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث التزم بالشورى في عدِّة مواضع:

١ - واقعة بدر: حينما نزل الرسول في موقع، قال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يارسول اللَّه، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). فقال: يارسول اللَّه، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتّى نأتي أوَّل

١٢٦

ماء من القوم، فننزله، ثُمَّ نغور ما وراءه من القُلُب، ثُمَّ نبني عليه حوضاً، فنملؤه ماءً، ثُمَّ نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال له الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لقد أشرت بالرأي) (١).

٢ - غزوة أحد: حيث تشير كثير من كتب السير على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان رأيه البقاء في المدينة، ورأي عامة المسلمين هو الخروج، وقد اختار ما رآه عامة المسلمين في الخروج من المدينة، حيث دخل صلى‌الله‌عليه‌وآله بيته وخرج لابساً لامته وصلَّى بهم الجمعة، ثُم خرج، فندم الناس وقالوا: يارسول اللَّه، استكرهنا ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد صلى اللَّه عليك، فقال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل) (٢) .

٣ - غزوة الأحزاب/ الخندق:

فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، وقصته معروفة مشهورة.

وموقف آخر حينما أراد الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عقد الصلح مع غطفان، فأرسل إلى عيينة بن حصين والحارث بن عوف؛ وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمَن معهما عنه وعن أصحابه، فلمَّا أراد أن يوقِّع معهما الشهادة والصلح، بعث إلى سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما، فقالا: يارسول اللَّه، أمراً تحبُّه فنصنعه، أم شيئاً أمرك به اللَّه لابدَّ لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: (بل شي‏ء أصنعه لكم، واللَّه ما أصنعُ ذلك إلاّ لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما)، فقال له سعد بن معاذ: يارسول اللَّه، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللَّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللَّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلاّ قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا اللَّه بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك

____________________

(١) ابن هشام، السيرة النبوية، ج١، ص٦٢٠.

(٢) المصدر، ج٣، ص ٦٣.

١٢٧

وبه، نعطيهم أموالنا، واللَّه مالنا بهذا من حاجة، واللَّه لا نعطيهم إلاَّ السيف حتّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم، قال رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فأنت وذلك)، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثُم قال: يجهزوا علينا (١) .

فهذه المواقف هي نبذ يسيرة من سيرة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تعامله مع قومه، وأنه كان ينزل عند رأي مَن يستشيرهم، ولو لم يكن ينزل عند رأيهم؛ لكان الأمر بالمشورة لغواً وعبثاً.

وعليه نعود إلى الآيتين الكريمتين، فإن الأمر الوارد الاستشارة فيه، إمَّا أن نعمِّمه إلى رأس الهرم السياسي، وهو الخليفة والزعيم، أو لا أقل يستفاد منها الإلزام في الوظائف التي تهمُّ المجتمع كالقوة التنفيذية والتشريعية.

٣ - الاستدلال بالعديد من الروايات الدالَّة على وجوب الشورى.

ونحن نقسِّمها إلى أصناف:

الصنف الأوَّل: روايات الشورى.

ـ قول علي‏ عليه‌السلام في ‏النهج / قسم الكتب / الكتاب ٦: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ؛ وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً، كان ذلك للَّه رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة، ردُّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى، قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين، وولّاه اللَّه ما تولَّى، وإن طلحة والزبير بايعاني، ثُم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردِّهما، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحق وظهر أمر اللَّه وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون).

وقد ذكر صدرها ابن

____________________

(١) ابن هشام، السيرة النبوية، ج٢، ص٢٢٣.

١٢٨

مزاحم في وقعة صِفِّين: (أمَّا بعد، فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني....).

ـ النبوي: (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهْر الأرض خير لكم من بطنها) (١) .

ـ النبوي: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة). البخاري/ كتاب المغازي/ باب: كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كسرى.

ـ قوله عليه‌السلام عندما أُريد البيعة له: (دعوني والتمسوا غيري.... واعلموا إن أجبتكم، ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني، فأنا كأحدكم، ولعلِّي أسمعكم وأطوعكم لمَن ولّيتموه أمركم، وأنا لكن وزير خير لكم من أمير) (٢) .

ـ تاريخ اليعقوبي( ج٢/ ص٩) في أحداث غزوة مؤتة، قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أمير الجيوش زيد بن حارثة، فإن قُتل، فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل، فعبد اللَّه بن رواحة، فإن قُتل، فليرتضي المسلمون من أحبوا).

ـ وفي الطبري(ج٦ / ص٣٠٦٦) عن ابن الحنفية قال: كنت مع أبي حين قُتل عثمان، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل، ولا بدَّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: (لا تفعلوا؛ فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا) فقالوا: لا واللَّه، ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك. قال: (ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين).

ـ وفي الكامل ( ج٣ / ص١٩٣): (أيُّها الناس، عن ملأ وأذن إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلاّ مَن أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم،

____________________

(١) تحف العقول، ص٣٦، وسنن الترمذي، ج٣، ٣٦١، باب الفتن/ ٦٤.

(٢) النهج، خ ٩٢، و الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج٦، ص٣٠٧٦، وابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج٣، ص١٩٣.

١٢٩

ألا وإنه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح ما لكم، وليس لي أن أخذ درهماً دونكم).

ـ كشف المحَجة لابن طاووس (ص١٨٠) قوله عليه‌السلام : (وقد كان رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إليَّ عهداً؛ فقال: ياابن أبي‏ طالب، لك ولاء أمتي، فإن ولُّوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا، فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك، فدعهم وما هم فيه).

ـ النبوي في شرح ابن أبي الحديد(ج١١ / ص١١): (إنْ تولُّوها عليَّاً، تجدوه هادياً مهديا).

ـ كتاب سليم بن قيس (ص١١٨) عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (ما ولَّت أمة - قط - أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلاَّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا).

ـ كتاب سليم بن قيس (ص١٨٢) عنه ‏ عليه‌السلام : (والواجب في حكم اللَّه وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل.... أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدِّموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدؤوا بشي‏ء، بل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً عارفاً بالقضاء والسنة يجمع أمرهم).

ـ مقاتل الطالبيين (ص٣٦) عن الحسن المجتبى عليه‌السلام في خطاب لمعاوية: (إن علياً لمَّا مضى لسبيله.... ولَّآني المسلمون الأمر بعده، فدع التمادي بالباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي؛ فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك).

ـ بحار الأنوار (ج٦٥ / ص٤٤/ ب ١٩) كيفية المصالحة من تاريخ الإمام الحسن‏ عليه‌السلام : صالحه على أن يسلِّم له ولاية أمر المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الخلفاء الصالحين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين).

ـ إرشاد المفيد (ص١٨٥) و الكامل في التأريخ لإبن الأثير(ج٤ / ص٢٠) كتاب وجهاء الكوفة لسيد الشهداء عليه‌السلام : (أمَّا بعد، فالحمد للَّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة، فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها)

١٣٠

فأجابهم عليه‌السلام : (إني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملائكم وذوى الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فإني أقدم إليكم وشيكاً).

ـ الدعائم (ج٢ / ص٥٧٢/ كتاب آداب القضاء) عن الصادق‏ عليه‌السلام : (ولاية أهل العدل الذين أمر اللَّه بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم، فرض من اللَّه).

ـ قوله‏ عليه‌السلام لطلحة والزبير: (ولو وقع حكم ليس في كتاب اللَّه بيانه، ولا في السنة برهانه، لشاورتكما) (١) .

ـ سنن أبي داود (ج ٢ / كتاب الجهاد/ باب القوم يسافرون يؤمِّرون أحدهم) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمَّر أحدهم). وفي مسند أحمد بن حنبل(ج٢/ص١٧٧): (لا يحلُّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمَّروا عليهم أحدهم).

ـ في كتاب الوثائق السياسية (ص ١٢٠ / الوثيقة ٣٣) معاهدته مع أهل ومضمون المعاهدة هو أنه: (ليس عليكم أمير إلاّ من أنفسكم أو عن أهل رسول اللَّه، والسلام).

ـ في خطبة الإمام علي‏ عليه‌السلام (رقم ٧٣): (ولعمري لأن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامة الناس، فما إلى ذلك بسبيل، ولكن أهلها يحكمون على مَن غاب عنها، ثُم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار).

وفي الخطبة(١٢٧): (والزموا السواد الأعظم؛ فإنّ يد اللَّه مع الجماعة، وإيَّاكم والفِرقة).

ـ وفي وقعة صِفِّين عندما كان القرّاء يتوسطون بين الإمام ومعاوية، قال معاوية: إن كان الأمر كما يزعمون، فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممَّن هاهنا معنا؟ فقال علي‏ عليه‌السلام : (إنما الناس تتَّبع المهاجرين والأنصار، وهم شهود المسلمين

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج٧، ص ٤١.

١٣١

على ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولستُ استحلُّ أن أدع حزب معاوية يحكم على الأمة ويركبهم ويشقَّ عصاهم).

فرجعوا إلى معاوية، فأخبروه بذلك، فقال: ليس كما يقول، فما بال مَن هاهنا من المهاجرين والأنصار، لم يدخلوا في الأمر فيؤامِّروه؟! فانصرفوا إلى علي‏ عليه‌السلام ، فقالوا له ذلك واخبروه، فقال عليه‌السلام : (ويحكم هذا للبدريِّين دون الصحابة، وليس في الأرض بدري إلاّ وقد بايعني، وهو معي، أو قد أقام ورضي، فلا يغرنّكم معاوية من أنفسكم ودينكم) (١) .

فهذا الجواب للإمام يدلِّل على مدى قيمة رأي النخبة في المجتمع أو أهل الحلِّ والعقد.

وأمر الإمام معروف عندما أقبل عليه الثائرون من الأمصار بعد مقتل عثمان وأرادوا مبايعته، فقال: (إنما ذلك لأهل الشورى وأهل بدر).

ولا يُتَصوَّر أنَّ أجوبة الإمام هي في مقام المحاجَّة؛ فقد ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام عن إبائه عليهم‌السلام ‏عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن جاءكم برأيه يفرّق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولَّى من غير مشورة، فاقتلوه) (٢) ، فهي ليست في مقام المحاجة، بل ذكرها ابتداءً وتأسيساً لقانون وجوب اتباع رأي الأمة، وهو الشورى وعدم جواز الخروج عن رأيهم.

الصنف الثاني: روايات الاستشارة.

وهي روايات كثيرة متظافرة من جهة المعنى، تؤكِّد على ضرورة المشاورة والاستشارة في الأمور كافّة؛ نحو قوله ‏عليه السلام: ( لن يهلك امرؤ عن

____________________

(١) وقعة صِفِّين، ص ١٨٩ - ١٩٠.

(٢) عيون أخبار الرضا، ح٢، ب٣١، ص٦٢.

١٣٢

مشورة)، (خاطر بنفسه مَن استغنى برأيه)، وذكرت الروايات فضيلة المشاورة والشروط الواجب توفرها في المستشار؛ من الإيمان والعقل، وهي مفصَّلة يمكن ملاحظتها في:

  - وسائل الشيعة/ كتاب الحج، وأبواب أحكام العِشرة/ ب ٢٦ - ٢١.

  - بحار الأنوار/ ج٧٢ / ب ٤٨ - ٤٣.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة:

أ - إن التأكيد الوارد في هذه الروايات يدلِّل على محبوبية الاستشارة ولزوم اتباع نتيجتها، ولو كانت نتيجتها غير واجبة الاِتباع؛ لكان الأمر بها والحثُّ عليها بهذا النحو لغواً وعبثاً.

ب - إنه قد ورد في بعض الروايات على نحو القضية الشرطية: (مَن لم يستشر، هلك). فقد يقول قائل: إن الوقوع في الهلكة في بعض الحالات قد يكون له وجه، لكن إذا عمَّمنا الأمر بالاستشارة للوظائف العامة التي تهمُّ صالح المجتمع، فإن الوقوع في التهلكة لا يكون جائزاً بأيِّ نحوٍ كان؛ فهي تدلّ على وجوب الاستشارة ولزوم نتيجتها.

ج - بعض الروايات توجب اتباع أراء المستشارين، وفي بعضها التحذير: (إيَّاك والخلاف، فإن مخالفة الوَرِع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) (١)؛ فهذه تدل على لزوم الأخذ بالاستشارة.

د - ورد في روايةٍ أنه قيل: يارسول اللَّه ما الحزم؟ قال: (مشاورة ذوي الرأي واَتباعهم) (٢) .

فالاستشارة لها ارتباط بالحزم؛ وهو استجماع العزم والإرادة، فالإرادة في مثل هذه الأمور التي تهم المجتمع، والتي يجب أن يؤخذ بها بالحزم، يجب أن تكون صادرة

____________________

(١) وسائل الشيعة، أبواب العشرة، ب٢٢، ح٥.

(٢) المصدر، ب٢١، ح١.

١٣٣

ومنبعثة عن الاستشارة.

هـ - إن العقل العملي يحكم بلزوم الاستشارة؛ وذلك لأن عقل الإنسان وحده غير محيط بجهات الحسن والقبح في الأفعال، فإذا أراد أن يقْدم على أمرٍ ما، يجب عليه مشاورة الآخرين والأخذ بأرآئهم حتّى يظهر له وجوه الحسن والقبح. وتزداد أهمية الاستشارة كلَّما ازدادت أهمية المورد الذي يريد الإنسان أخذ قرار فيه، فكيف إذا كان شأناً من الشؤون والمصالح العامة للمجتمع. والحِكَم والعِلل المذكورة في الروايات إنما هي إرشاد لهذا الحكم العقلي.

وقد يقال: إن الآيات والروايات الواردة في الشورى لا تدل على المطلوب؛ وذلك لأنها اكتفت بذكر العنوان فقط مع الإغفال عن ذكر تفصيلات الاستشارة وكيف تكون؟ وما هو دور أهل الحلِّ والعقد؟ وماذا يحصل عند الخلاف؟ هذا مع عظم أهمية الشورى حسب مدعى القائل، ودخالتها في تلك الأمور الهامة، فلماذا سكت الشارع عن تحديد كل هذه التفصيلات؟

والجواب: أنه ممّا لاشك فيه أن هذه القاعدة تدخل في تنظيم شؤون المجتمع، فهي تتأثر بظروف المجتمع الخاصة، فلو كان الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أتخذ عدداً معيناً للمشورة، فهو عدد يتلائم مع تعداد المسلمين في ذلك الزمان، ومع ذلك؛ فإنه سوف يتمسَّك بهذا العدد حتّى مع بلوغ عدد أفراد المجتمع الآف الأضعاف؛ فلذلك لم يشأ الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل هناك ضوابط جزئية لهذه المسألة الهامة حتّى يكون لكل مجتمع - في كل زمان - ما يرتأيه؛ طبقاً لظروفه الخاصة، وحتّى يكون الإسلام متلائماً مع التطوُّرات الحاصلة في كل مجتمع.

هذا تمام ما يمكن الاستدلال به من الطائفة الأولى؛ وهي أهم الطوائف، يبقى تقييم أدلة الشورى:

كيفية الاستفادة من الشورى في اتخاذ الآراء والقرارات؛ هل يُتَّبع الكم أم الكيف؟

فمن جهة يقال: إنه من أجل حفظ النظام واستقامة الأمر لا يمكن طرح رأي

١٣٤

الأكثرية، فيجب أن يؤخذ به على حساب الأقلِّية.

والمشكلة تنشأ من أن الأقلِّية لو كانت متضمِّنة لرأي نخبة المجتمع من المفكرين والعلماء، فكيف يمكن غمض النظر عن هذا الأمر وترجيح رأي الأكثرية؟

فذهب كثير إلى محاولة التلفيق بين هذين الرأيين:

ـ فقال البعض: إن الأمة يجب أن تقوم بانتخاب النخبة، وهؤلاء ينتخبون الولي.

ـ أن توضع حدود لانتخاب واختيار الأمة؛ أي لا تكون الأمور مطلقة على عنانها بالنسبة للأمة، بل يجب أن يتقيَّدوا بقوانين وأحكام إسلامية.

التقييم:

أوَّلاً: رأي آخر في فهم الأدلَّة.

في مقام تقييم هذه الأدلة من آيات وروايات، وقبل أن نبدأ بالإجابة على كل نقطة من النقاط السابقة، فإنا نذكر أن نفس الآيتين اللتين اِستُدِل بهما على الشورى يوجد لهما تفسير آخر؛ وهو مشهور وشائع بين المفسِّرين والمفكرين، وحاصل‏ ذلك:

أن المستفاد من الآيات والروايات هو حثُّ المكلف - الذي هو في موضع المسؤولية عن الأمة وإدارة شؤونها، بل حتّى في أموره الخاصة - على الاستشارة وتوسعة أفق التفكير ومنابعه، وعدم التعنُّت برأيه والتوحُّد به، بل يُلزم الإنسان بفحص أراء الآخرين مع تمسُّكه بأن يكون الرأي النهائي له، وألاّ يكون متحرِّكاً تبعاً لإرادة المجموع.

١٣٥

بيان ذلك:

ذكرنا سابقاً في الفصل الأول عن وجود قوتين مفكِّرتين في النفس البشرية؛ أحدهما: النظرية، والأخرى: العملية،

فالأولى تقوم بدور البحث بين المعلومات المتوفِّرة؛ لأجل تهيئة مقدِّمات استكشاف المجهول وإدراك النتيجة.

والأخرى عملية تقوم بدور الإذعان والتسليم والجزم بتلك النتيجة، وتسيير القوى السفلى وممارسة دور الأمير والتوجيه لها.

وبتعبير آخر: أن الإنسان في منهجية تفكيره يتَّبع ما هو متداول في العصر الحديث من سلطات الشورى والتشريع؛ حيث دور البحث والتنقيب، ثُم دور القضاء القانوني الذي يقوم بالإذعان والجزم بهذه النتيجة وعدمها، ثُم دور التنفيذ وتوجيه القوى العمالة.

فالإنسان في تفكيره ينطوي على تلك السلطات التي تدير شؤون المجتمع المدني؛ لذلك عُبِّر عن المجتمع بـ: الإنسان المجموعي. وكلَّما دقَّقنا النظر وتأملنا في سير عملية التفكير في الإنسان الصغير، سوف يتَّضح لنا حلاً لملابسات كثيرة في الإنسان المجموعي.

فالمدَّعى هو: أن الشور والتشاور فعل ومادة وعنوان لفعل القوى الفكرية النظرية، وليس عنواناً لفعل القوى العملية وسلطتها العمَّالة على القوى النازلة، وهي الإرادة، ثُم ترد مرحلة الجزم والتسليم والإذعان، وهي مرحلة قضائية؛ إذ تكون فيصلاً بين التسليم بتلك النتيجة وعدمها، وهو فعل مزدوج بين القوة الفكرية والعملية، فالقضاء يقوم بتحديد الكبرى، وهو عمل فكري وليس بعملي، ثُم تطبيق الكبرى على النزاعات والموارد الموجودة والمعروضة أمامه.

وعلى كل حال.... فالمشورة والتساؤل يقابله الفعل الأول من أفعال العقل، وهو البحث والتنقيب، والفعل الثاني هو إدراك النتيجة، فهو أمر غير مسألة البحث، وإن

١٣٦

اختص بها العقل النظري أيضاً، إلاّ أنه ليس عين الفعل الأول، ويبقى الفعل الثالث: وهو الجزم والتسليم والإذعان، وهو ما أطلقنا عليه بالقضائية.

إذن؛ فالمشورة والتشاور ماهية لفعل إدراك المعلومات، لا ماهية لفعل عملي، فكيف يناسب عنوان السلطة والولاية والقدرة التي هي عناوين لأفعال القوى العملية؟ فهناك جمع للآراء تارة، وتارة أخرى جمع للإرادات، والشورى عنوان للأول لا الثاني، بل ليست هي - أيضاًـ في حقيقتهاً جمع للآراء، كما ليس للجمع والاجتماع مدخلية فيها، بل هي - كما سيأتي في معناه المقرَّر في اللغة - تقليب الآراء لاستخراج الصواب، سواء كان هو رأي الواحد أم الأقل أم الأكثر، فصبغة الرأي المنتخب هو لصوابيته لا لكثرته، فهي لا تعني حسم الأمر في اتخاذ قرار في مسألة ما، بل هي مقدمة لفعل آخر يقوم به المستشير.

وإذا عدنا إلى مفسَّري العامة في القرون الأربعة الأولى، لا نلاحظ وجود نظرية معينة حول الشورى أو تفسير كلا الآيتين بمعنى ولاية الشورى، بل على العكس، تراهم يذهبون في تفسيرها إلى معنى المشورة اللغوية. ويشكك الطبري: أنه كيف يؤمَر النبيّ باتباع الشورى مع أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله غني عن المسلمين بالوحي؟ (١) ، ويذكر فوائد الشورى؛ من اقتداء الأمة به، وتأليف قلوبهم، وينقل ذلك عن قتادة وابن إسحاق والربيع والضحَّاك والحسن البصري. والسيوطي في (الدر المنثور) يورد روايات كثيرة في ذيل الآية الكريمة على حسن الاستشارة واستحبابها، وأن المشاورة من الأمور الموصِلة للحق؛ ومنها ما عن الإمام علي‏ عليه‌السلام : (يارسول اللَّه، إذا نزل بنا الأمر من بعدك، وليس فيه قران؛ وليس فيه من قولك ومن سنتك، فماذا نصنع؟ قال: اجتمعوا وليكن فيكم العابد، فتُرْشَدون إلى أصوب الآراء).

____________________

(١) الطبري، جامع البيان، ذيل سورة آل عمران، ج٤، ص١٠١.

١٣٧

فقد يستفاد منها؛ أنه في مورد منطقة الفراغ يكون التشريع بيد الشورى، إلاّ أن الأمر ليس كذلك، بل المشاورة من أجل معالجة الأمر من كافة جوانبه، وتبادل الرأي للوصول إلى ما هو الصواب في نفسه، لا من جهة نسبته للأكثرية أو شبهها.

يقول الزمخشري في ذيل ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) : إن الشورى كالفُتيا بمعنى التشاور. ويقول في ذيل ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) : يعني في أمر الحرب ونحوه ممَّا لم ينزل عليك فيه، وهي لتستظهر برأيهم.... ويذكر من فوائده: لئلاَّ يثقل على العرب استبداده صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرأي دونهم، ( فَإِذَا عَزَمْتَ ) يعني قطعت الرأي على شي‏ء بعد الشورى (١) .

فالجزم والرأي النهائي يكون للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قد يخالف أكثرية الآراء.

وما نلاحظه من استدلال العامة بالآيتين على ولاية الشورى بدأ في العصور المتأخرة بكتابات الآلوسي ورشيد رضا وابن الخازن.

إذن، خلاصة ما يذهب إليه هذا الرأي أنه يوجد منحى في فهم هاتين الآيتين غير ما استدل به أصحاب ولاية الشورى، وأن أوائل المفسِّرين لم يجعلوا هذه الآية دليلاً على ولاية الشورى.

مضافاً إلى أن مبدأ ولاية الشورى يقترب من مبدأ سيادة الأمة، وهو المصطلح الحديث في النظم السياسية المعبِّر عن حكم الأمة، وتدخل الأمة في إدارة شؤونها بنفسها، وهذا المبدأ من المبادئ الحديثة التي ظهرت في القرنين الأخيرين وما زالت تتدخَّل فيه يد القانونيين حتّى يسدُّوا الثغرات التي تظهر بين آونة وأخرى، فلا نجد مظهراً واحداً معبِّراً عن هذا المبدأ، مع أن أغلب دول العالم تتمسَّك به. وأن الديمقراطية هي الأساس الذي تستند عليه الدولة الحديثة إلاّ أن الثغرات والعيوب

____________________

(١) الزمخشري، الكشَّاف، ج١، ص٢٤٢.

١٣٨

الكثيرة التي ظهرت في هذه الممارسة للسلطة، دعتهم إلى أن يعيدوا النظر مرة وثانية وثالثة ليغيِّروا في طريقة الانتخاب وأهلية المنتخِب؛ وما ذلك إلاّ لأنهم يرون أن هذه الديمقراطية تؤدي إلى مظهر من مظاهر الدكتاتورية الحديثة؛ بسيطرة أصحاب رؤوس الأموال وظهور طبقة معينة تتداول الحكم فيما بينها.

ثانياً: الجواب عن تلك الأدلة.

بعد استعراض السير التأريخي لنظرية الشورى والرأي الآخر في فهم الآيتين الشريفتين، وهو الحق، فإنا نذكر الجواب عن الأدلة السابقة، وهي في نفسها تكون دليلاً على الفهم الآخر الذي ذكرناه وقوِّيناه.

الوجه الأول:

وهو العمدة؛ حيث إن المعنى اللغوي لمادة الشور والمشاورة معاً هو الموضوع لهذا المصطلح.

ـ فسَّر الراغب الأصفهاني الشورى بأنها من التشاور والمشاورة والمشورة؛ وهي استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض الآخر. وقولهم: شرت العسل إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه (١) .

ـ يذكر ابن منظور في لسان العرب أن الأصل اللغوي هو من شار العسل إي استخرجه من الوقية واجتناه.... ويقال: شرت الدابة إذا أجريتها لتعرف قوتها. وحمله البعض على قوله تعالى: ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) بمعنى لتعْلَم الأمين والمخلص من غيره، واستشاره أي طلب منه المشورة.

____________________

(١) المفردات، مادة (شور)، ص ٢٧٠.

١٣٩

فالمدار في الاشتقاقات يشير إلى عملية الفحص والبحث الفكرية عن حقيقة الأمر، والوصول إلى نتيجة صحيحة (١) .

ـ تاج العروس: فلان شَيِّرُك؛ أي وزيرك، يقال: فلان وزير فلان وشَـيِّره أي مشاوره. وجمعه شوراء كما في شُعراء، وأشرني عسلاً وأشرني على عسل أعني على جَنْيه وأخذه من مواضعه (٢) .

وهذه تؤكد أن المشاورة هي أحد أساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الإرادي في المسألة، وهو ما أشرنا إليه بأنه الفعل الأول للفكر.

ـ وأوضح من كل ما مضى ما يذكره ابن فارس أن شور وضعت لأصلين مفردين: الأول إبداء شي‏ء وأظهاره وعرضه. والآخر أخذ شي‏ء (٣) .

وكلا المعنين شاهدان على ما ذكرناه؛ فالأول عملية استكشاف واختبار وفحص، والثانية أخذ الرأي الصائب من تصفُّح الآراء. فتكاد كلمات اللُّغويين تشير إلى هذه الحقيقة في الشورى، ولم يرد منها ذكْرٌ وإشارة إلى جهة سلطة أو إرادة أو ولاية أو قدرة تتحلَّى بها الشورى.

ـ ومن كتب اللغة المتأخرة نرى ما ذكر في المعجم الوسيط: (شار الشي‏ء عرضه ليُبدي ما فيه من محاسن، وأشار إليه بيده، أومأ إليه معبِّراً عن معنى من المعاني كالدعوة للدخول والخروج. اشتور القوم: شاور بعضهم البعض، والمستشار: العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام؛ علمي أو فني أو سياسي أو قضائي ونحوه، هو اصطلاح محدَث) إلاّ أنها ليست مرتجلة، بل منقولة عن الأصل اللغوي؛ لمناسبة بين المنقول منه والمنقول إليه، بل قد يقال: إنه نفس المعنى القديم وليس معنى جديداً

____________________

(١) لسان العرب، ج٤، ص٣٣٥.

(٢) الزبيدي، تاج العروس، مادة(شور).

(٣) معجم مقاييس اللغة، مادة شور.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440