الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية13%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 136935 / تحميل: 8148
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

له قال ذكرت له ولده فجعل يستدمع و يقول أكلهم إلى الله فقال عبد الملك بئس وزير الدين أنت ثم وثب و انطلق إلى أبيه فقال للآذن استأذن لي عليه فقال إنه قد وضع رأسه الساعة للقائلة فقال استأذن لي عليه فقال أ ما ترحمونه ليس له من الليل و النهار إلا هذه الساعة قال استأذن لي عليه لا أم لك فسمع عمر كلامهما فقال ائذن لعبد الملك فدخل فقال على ما ذا عزمت قال أرد السهلة قال فلا تؤخر ذلك قم الآن قال فجعل عمر يرفع يديه و يقول الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني قال نعم يا بني أصلي الظهر ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رءوس الناس قال و من لك أن تعيش إلى الظهر ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر إن عشت إليها فقام عمر فصعد المنبر فخطب الناس و رد السهلة قال و كتب عمر بن الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بني مروان برد المظالم كتابا أغلظ له فيه من جملته أنك أزريت على كل من كان قبلك من الخلفاء و عبتهم و سرت بغير سيرتهم بغضا لهم و شنآنا لمن بعدهم من أولادهم و قطعت ما أمر الله به أن يوصل و عمدت إلى أموال قريش و مواريثهم فأدخلتها بيت المال جورا و عدوانا فاتق الله يا ابن عبد العزيز و راقبه فإنك خصصت أهل بيتك بالظلم و الجور و و الذي خص محمد ص بما خصه به لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه التي زعمت أنها عليك بلاء فأقصر عن بعض ما صنعت و اعلم أنك بعين جبار عزيز و في قبضته و لن يتركك على ما أنت عليه قالوا فكتب عمر جوابه أما بعد فقد قرأت كتابك و سوف أجيبك بنحو منه أما أول أمرك يا ابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون كانت تطوف في أسواق حمص و تدخل حوانيتها ثم الله أعلم بها اشتراها ذبيان بن ذبيان من في‏ء المسلمين فأهداها

١٠١

لأبيك فحملت بك فبئس الحامل و بئس المحمول ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا و تزعم أني من الظالمين لأني حرمتك و أهل بيتك في‏ء الله الذي هو حق القرابة و المساكين و الأرامل و إن أظلم مني و أترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك و لم يكن له في ذاك نية إلا حب الوالد ولده فويل لك و ويل لأبيك ما أكثر خصماءكما يوم القيامة و إن أظلم مني و أترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف على خمسي العرب يسفك الدم الحرام و يأخذ المال الحرام و إن أظلم مني و أترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر و أذن له في المعازف و الخمر و الشرب و اللهو و إن أظلم مني و أترك لعهد الله من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز فينشد الأشعار على منبر رسول الله ص و من جعل للعالية البربرية سهما في الخمس فرويدا يا ابن نباتة و لو التقت حلقتا البطان و رد الفي‏ء إلى أهله لتفرغت لك و لأهل بيتك فوضعتكم على المحجة البيضاء فطالما تركتم الحق و أخذتم في بنيات الطريق و من وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أعمله بيع رقبتك و قسم ثمنك بين الأرامل و اليتامى و المساكين فإن لكل فيك حقا و السلام علينا و لا ينال سلام الله الظالمين و روى الأوزاعي قال لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان من قبله يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد فقال يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة فقال مالي إن يتسع لكم و أما هذا المال فحقكم فيه كحق رجل بأقصى برك الغماد و لا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه و الله إني لأرى أن الأمور

١٠٢

لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله و روى الأوزاعي أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز يوما و قد بلغه عن بني أمية كلام أغضبه إن لله في بني أمية يوما أو قال ذبحا و ايم الله لئن كان ذلك الذبح أو قال ذلك اليوم على يدي لأعذرن الله فيهم قال فلما بلغهم ذلك كفوا و كانوا يعلمون صرامته و إنه إذا وقع في أمر مضى فيه و روى إسماعيل بن أبي حكيم قال قال عمر بن عبد العزيز يوما لحاجبه لا تدخلن علي اليوم إلا مروانيا فلما اجتمعوا قال يا بني مروان إنكم قد أعطيتم حظا و شرفا و أموالا إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم فسكتوا فقال أ لا تجيبوني فقال رجل منهم فما بالك قال إني أريد أن أنتزعها منكم فأردها إلى بيت مال المسلمين فقال رجل منهم و الله لا يكون ذلك حتى يحال بين رءوسنا و أجسادنا و الله لا نكفر أسلافنا و لا نفقر أولادنا فقال عمر و الله لو لا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم قوموا عني و روى مالك بن أنس قال ذكر عمر بن عبد العزيز من كان قبله من المروانية فعابهم و عنده هشام بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين إنا و الله نكره أن تعيب آباءنا و تضع شرفنا فقال عمر و أي عيب أعيب مما عابه القرآن و روى نوفل بن الفرات قال شكا بنو مروان إلى عاتكة بنت مروان بن الحكم عمر فقالوا إنه يعيب أسلافنا و يأخذ أموالنا فذكرت ذلك له و كانت عظيمة عند بني مروان فقال لها يا عمة إن رسول الله ص قبض و ترك

١٠٣

الناس على نهر مورود فولي ذلك النهر بعده رجلان لم يستخصا أنفسهما و أهلهما منه بشي‏ء ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه و ايم الله لئن أبقاني الله لأسكرن تلك السواقي حتى أعيد النهر إلى مجراه الأول قالت فلا يسبون إذا عندك قال و من يسبهم إنما يرفع الرجل مظلمته فأردها عليه و روى عبد الله بن محمد التيمي قال كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم على أبواب قصورهم و كانت جليلة الموضع عندهم فلما ولي عمر قال لا يلي إنزالها أحد غيري فأدخلوها على دابتها إلى باب قبته فأنزلها ثم طبق لها وسادتين إحداهما على الأخرى ثم أنشأ يمازحها و لم يكن من شأنه و لا من شأنها المزاح فقال أ ما رأيت الحرس الذين على الباب فقالت بلى و ربما رأيتهم عند من هو خير منك فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح و سألها أن تذكر حاجتها فقالت إن قرابتك يشكونك و يزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك قال ما منعتهم شيئا هو لهم و لا أخذت منهم حقا يستحقونه قالت إني أخاف أن يهيجوا عليك يوما عصيبا و قال كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره ثم دعا بدينار و مجمرة و جلد فألقى الدينار في النار و جعل ينفخ حتى احمر ثم تناوله بشي‏ء فأخرجه فوضعه على الجلد فنش و فتر فقال يا عمة أ ما تأوين لابن أخيك من مثل هذا فقامت فخرجت إلى بني مروان فقالت تزوجون في آل عمر بن الخطاب فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم اصبروا له و روى وهيب بن الورد قال اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز فقالوا لولد له قل لأبيك يأذن لنا فإن لم يأذن فأبلغ إليه عنا و سأله فلم يأذن لهم و قال

١٠٤

فليقولوا فقالوا قل له إن من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا و يعرف لنا مواضعنا و إن أباك قد حرمنا ما في يديه فدخل إلى أبيه فأبلغه عنهم فقال اخرج فقل لهم إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم و روى سعيد بن عمار عن أسماء بنت عبيد قال دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطوننا عطايا منعتناها و لي عيال و ضيعة فأذن لي أخرج إلى ضيعتي و ما يصلح عيالي فقال عمر إن أحبكم إلينا من كفانا مئونته فخرج عنبسة فلما صار إلى الباب ناداه أبا خالد أبا خالد فرجع فقال أكثر ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك و إن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك و روى عمر بن علي بن مقدم قال قال ابن صغير لسليمان بن عبد الملك لمزاحم إن لي حاجة إلى أمير المؤمنين عمر قال فاستأذنت له فأدخله فقال يا أمير المؤمنين لم أخذت قطيعتي قال معاذ الله إن آخذ قطيعة ثبتت في الإسلام قال فهذا كتابي بها و أخرج كتابا من كمه فقرأه عمر و قال لمن كانت هذه الأرض قال كانت للمسلمين قال فالمسلمون أولى بها قال فاردد علي كتابي قال إنك لو لم تأتني به لم أسألكه فأما إذ جئتني به فلست أدعك تطلب به ما ليس لك بحق فبكى ابن سليمان فقال مزاحم يا أمير المؤمنين ابن سليمان تصنع به هذا قال و ذلك لأن سليمان عهد إلى عمر و قدمه على إخوته فقال عمر ويحك يا مزاحم إني لأجد له من اللوط ما أجد لولدي و لكنها نفسي أجادل عنها و روى الأوزاعي قال قال هشام بن عبد الملك و سعيد بن خالد بن عمر بن عثمان

١٠٥

بن عفان لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك و خل بين من سبقك و بين ما ولوه عليهم كان أو لهم فإنك مستكف أن تدخل في خير ذلك و شره قال أنشدكما الله الذي إليه تعودان لو أن رجلا هلك و ترك بنين أصاغر و أكابر فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم فأكلوا أموالهم ثم بلغ الأصاغر الحلم فجاءوكما بهم و بما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين قالا كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها قال فإني وجدت كثيرا ممن كان قبلي من الولاة غر الناس بسلطانه و قوته و آثر بأموالهم أتباعه و أهله و رهطه و خاصته فلما وليت أتوني بذلك فلم يسعني إلا الرد على الضعيف من القوي و على الدني‏ء من الشريف فقالا يوفق الله أمير المؤمنين : وَ لاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ و لِلَّهِ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي اَلصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلاَدِكَ وَ لَكِنِ اَلْحَذَرَ كُلَّ اَلْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ فَإِنَّ اَلْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَ اِتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ اَلظَّنِّ وَ إِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَ اِرْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ وَ اِجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اَللَّهِ شَيْ‏ءٌ اَلنَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اِجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَ تَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ اَلْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَ قَدْ لَزِمَ ذَلِكَ اَلْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ اَلْمُسْلِمِينَ لِمَا اِسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ اَلْغَدْرِ فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَ لاَ تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ وَ لاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِئُ عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ وَ قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ اَلْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ

١٠٦

وَ حَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ وَ يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ فَلاَ إِدْغَالَ وَ لاَ مُدَالَسَةَ وَ لاَ خِدَاعَ فِيهِ وَ لاَ تَعْقِدْهُ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ اَلْعِلَلَ وَ لاَ تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ اَلْقَوْلِ قَوْلٍ بَعْدَ اَلتَّأْكِيدِ وَ اَلتَّوْثِقَةِ وَ لاَ يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اَللَّهِ إِلَى طَلَبِ اِنْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو اِنْفِرَاجَهُ وَ فَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ وَ أَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اَللَّهِ طِلْبَةٌ لاَ تَسْتَقِيلُ تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَ لاَ آخِرَتَكَ أمره أن يقبل السلم و الصلح إذا دعي إليه لما فيه من دعة الجنود و الراحة من الهم و الأمن للبلاد و لكن ينبغي أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو و كيده فإنه ربما قارب بالصلح ليتغفل أي يطلب غفلتك فخذ بالحزم و اتهم حسن ظنك لا تثق و لا تسكن إلى حسن ظنك بالعدو و كن كالطائر الحذر ثم أمره بالوفاء بالعهود قال و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت أي و لو ذهبت نفسك فلا تغدر و قال الراوندي الناس مبتدأ و أشد مبتدأ ثان و من تعظيم الوفاء خبره و هذا المبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدإ الأول و محل الجملة نصب لأنها خبر ليس و محل ليس مع اسمه و خبره رفع لأنه خبر فإنه و شي‏ء اسم ليس و من فرائض الله حال و لو تأخر لكان صفة لشي‏ء و الصواب أن شي‏ء اسم ليس و جاز ذلك و إن كان نكرة لاعتماده على النفي و لأن الجار و المجرور قبله في موضع الحال كالصفة فتخصص بذلك و قرب من المعرفة و الناس مبتدأ و أشد خبره و هذه الجملة المركبة من مبتدإ

١٠٧

و خبر في موضع رفع لأنها صفة شي‏ء و أما خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء فمحذوف و تقديره في الوجود كما حذف الخبر في قولنا لا إله إلا الله أي في الوجود و ليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان و من تعظيم الوفاء خبره لأن حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدإ تعلق بمحذوف و هاهنا هو متعلق بأشد نفسه فكيف يكون خبرا عنه و أيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء خبرا عن الناس كما زعم الراوندي لأن ذلك كلام غير مفيد أ لا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدإ الذي هو الناس لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا بل يكون كلاما مضطربا و يمكن أيضا أن يكون من فرائض الله في موضع رفع لأنه خبر المبتدإ و قد قدم عليه و يكون موضع الناس و ما بعده رفع لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء كما قلناه أولا و ليس يمتنع أيضا أن يكون من فرائض الله منصوب الموضع لأنه حال و يكون موضع الناس أشد رفعا لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء ثم قال له ع و قد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود و صار ذلك لهم شريعة و بينهم سنة فالإسلام أولى باللزوم و الوفاء و استوبلوا وجدوه وبيلا أي ثقيلا استوبلت البلد أي استوخمته و استثقلته و لم يوافق مزاجك و لا تخيسن بعهدك أي لا تغدرن خاس فلان بذمته أي غدر و نكث قوله و لا تختلن عدوك أي لا تمكرن به ختلته أي خدعته و قوله أفضاه بين عباده جعله مشتركا بينهم لا يختص به فريق دون فريق

١٠٨

قال و يستفيضون إلى جواره أي ينتشرون في طلب حاجاتهم و مآربهم ساكنين إلى جواره فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر كقوله تعالى( فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى‏ فِرْعَوْنَ ) أي مرسلا قال فلا إدغال أي لا إفساد و الدغل الفساد و لا مدالسة أي لا خديعة يقال فلان لا يوالس و لا يدالس أي لا يخادع و لا يخون و أصل الدلس الظلمة و التدليس في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات و العلل و طلب المخارج و نهاه إذا عقد العقد بينه و بين العدو أن ينقضه معولا على تأويل خفي أو فحوى قول أو يقول إنما عنيت كذا و لم أعن ظاهر اللفظة فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال متداول في الاصطلاح و العرف لا على ما في الباطن و روي انفساحه بالحاء المهملة أي سعته

فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو

قد جاء في الحذر من كيد العدو و النهي عن التفريط في الرأي السكون إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة و كذا في النهي عن الغدر و النهي عن طلب تأويلات العهود و فسخها بغير الحق فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر أشرف فيه على العطب و نجا بعد لأي فكتب إليه أبوه أتاني يا بني من خبر تفريطك ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد لأني لم أرج قط ألا تموت و قد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم و التيقظ و روى ابن الكلبي أن قيس بن زهير لما قتل حذيفة بن بدر و من معه بجفر الهباءة

١٠٩

خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط و قال لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم فقال يا معاشر النمر أنا قيس بن زهير غريب حريب طريد شريد موتور فانظروا لي امرأة قد أدبها الغني و أذلها الفقر فزوجوه بامرأة منهم فقال لهم إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي أنا فخور غيور أنف و لست أفخر حتى أبتلى و لا أغار حتى أرى و لا آنف حتى أظلم فرضوا أخلاقه فأقام فيهم حتى ولد له ثم أراد أن يتحول عنهم فقال يا معشر النمر إن لكم حقا علي في مصاهرتي فيكم و مقامي بين أظهركم و إني موصيكم بخصال آمركم بها و أنهاكم عن خصال عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة و تنال الفرصة و تسويد من لا تعابون بتسويده و الوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس و إعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة و منع ما تريدون منعه قبل الإنعام و إجارة الجار على الدهر و تنفيس البيوت عن منازل الأيامى و خلط الضيف بالعيال و أنهاكم عن الغدر فإنه عار الدهر و عن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي و عن البغي فإن به صرع زهير أبي و عن السرف في الدماء فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار و لا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق و أنكحوا الأيامى الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور و اعلموا أني أصبحت ظالما و مظلوما ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا و ظلمتهم بقتلي من لا ذنب له ثم رحل عنهم إلى غمار فتنصر بها و عف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات : إِيَّاكَ وَ اَلدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَ لاَ أَعْظَمَ

١١٠

لِتَبِعَةٍ وَ لاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ اِنْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ اَلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ اَلْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ اَلدِّمَاءِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ وَ لاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ اَلْعَمْدِ لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ اَلْبَدَنِ وَ إِنِ اُبْتُلِيتَ بِخَطَإٍ وَ أَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ سَيْفُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ فَإِنَّ فِي اَلْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ اَلْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا النهي عن الإسراف في الدماء و تلك وصية مبنية على شريعة الجاهلية مع حميتها و تهالكها على القتل و القتال و وصية أمير المؤمنين ع مبنية على الشريعة الإسلامية و النهي عن القتل و العدوان الذي لا يسيغه الدين و قد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء قال إنه ليس شي‏ء أدعى إلى حلول النقم و زوال النعم و انتقال الدول من سفك الدم الحرام و إنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك فليس الأمر كما ظننت بل تضعفه بل تعدمه بالكلية ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود و قال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة المقتول و المراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود ثم قال إن قتلت خطأ أو شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية و قد اختلف

١١١

الفقهاء في هذه المسألة فقال أبو حنيفة و أصحابه القتل على خمسة أوجه عمد و شبه عمد و خطأ و ما أجري مجرى الخطإ و قتل بسبب فالعمد ما تعمد به ضرب الإنسان بسلاح أو ما يجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب و ليطة القصب و المروءة المحددة و النار و موجب ذلك المأثم و القود إلا أن يعفو الأولياء و لا كفارة فيه و شبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح و لا أجري مجرى السلاح كالحجر العظيم و الخشبة العظيمة و موجب ذلك المأثم و الكفارة و لا قود فيه و فيه الدية مغلظة على العاقلة و الخطأ على وجهين خطأ في القصد و هو أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي و خطأ في الفعل و هو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا و موجب النوعين جميعا الكفارة و الدية على العاقلة و لا مأثم فيه و ما أجري مجرى الخطإ مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله فحكمه حكم الخطإ و أما القتل بسبب فحافر البئر و واضع الحجر في غير ملكه و موجبه إذا تلف فيه إنسان الدية على العاقلة و لا كفارة فيه فهذا قول أبي حنيفة و من تابعه و قد خالفه صاحباه أبو يوسف و محمد في شبه العمد و قالا إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد قال و شبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا كالعصا الصغيرة و السوط و بهذا القول قال الشافعي و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أن المؤدب من الولاة إذا تلف تحت

١١٢

يده إنسان في التأديب فعليه الدية و قال لي قوم من فقهاء الإمامية أن مذهبنا أن لا دية عليه و هو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين ع : وَ إِيَّاكَ وَ اَلْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ وَ اَلثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَ حُبَّ اَلْإِطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ اَلشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ اَلْمُحْسِنِينَ وَ إِيَّاكَ وَ اَلْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ اَلتَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ اَلْمَنَّ يُبْطِلُ اَلْإِحْسَانَ وَ اَلتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ اَلْحَقِّ وَ اَلْخُلْفَ يُوجِبُ اَلْمَقْتَ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَلنَّاسِ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) وَ إِيَّاكَ وَ اَلْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ اَلتَّسَاقُطَ اَلتَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اَللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ اَلْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اِسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَ أَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ أَمْرٍ مَوْقِعَهُ وَ إِيَّاكَ وَ اَلاِسْتِئْثَارَ بِمَا اَلنَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ وَ اَلتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَ عَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ اَلْأُمُورِ وَ يُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ اِمْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَ سَوْرَةَ حَدِّكَ وَ سَطْوَةَ يَدِكَ وَ غَرْبَ لِسَانِكَ وَ اِحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ اَلْبَادِرَةِ وَ تَأْخِيرِ اَلسَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ اَلاِخْتِيَارَ وَ لَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ اَلْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ

١١٣

وَ اَلْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا ص أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا وَ تَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اِتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا وَ اِسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ اَلْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ لِكَيْلاَ تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها منها قوله ع إياك و ما يعجبك من نفسك و الثقة بما يعجبك منها

قد ورد في الخبر ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه و في الخبر أيضا لا وحشة أشد من العجب و في الخبر الناس لآدم و آدم من تراب فما لابن آدم و الفخر و العجب و في الخبر الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة و في الخبر و قد رأى أبا دجانة يتبختر إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين و منها قوله و حب الإطراء ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم فجعل يصدقه و يطريه و يستحسن قوله فقال المأمون يا محمد أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة لي عليك و تطريني بما لست أحب أن أطري به و تستخذي لي في المقام الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي و محتجا علي و لو شئت أن أقسر الأمور بفضل بيان و طول لسان و أغتصب الحجة بقوة الخلافة و أبهة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا و عدلت و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا

١١٤

لكني لا أرضى إلا بغلبة الحجة و دفع الشبهة و إن أنقص الملوك عقلا و أسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير و أثنى رجل على رجل فقال الحمد لله الذي سترني عنك و كان بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان ليسألك الله عن حسن ظنك و منها قوله و إياك و المن قال الله تعالى( يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى‏ ) و كان يقال المن محبة للنفس مفسدة للصنع و منها نهيه إياه عن التزيد في فعله قال ع إنه يذهب بنور الحق و ذلك لأنه محض الكذب مثل أن يسدي ثلاثة أجزاء من الجميل فيدعي في المجالس و المحافل أنه أسدى عشرة و إذا خالط الحق الكذب أذهب نوره و منها نهيه إياه عن خلف الوعد قد مدح الله نبيا من الأنبياء و هو إسماعيل بن إبراهيم ع بصدق الوعد و كان يقال وعد الكريم نقد و تعجيل و وعد اللئيم مطل و تعطيل و كتب بعض الكتاب و حق لمن أزهر بقول أن يثمر بفعل و قال أبو مقاتل الضرير قلت لأعرابي قد أكثر الناس في المواعيد فما قولك فيها فقال بئس الشي‏ء الوعد مشغلة للقلب الفارغ متعبة للبدن الخافض خيره غائب و شره حاضر و في الحديث المرفوع عدة المؤمن كأخذ باليد فأما أمير المؤمنين ع فقال إنه يوجب المقت و استشهد عليه بالآية و المقت البغض و منها نهيه عن العجلة و كان يقال أصاب متثبت أو كاد و أخطأ عجل أو كاد و في المثل رب عجلة تهب ريثا و ذمها الله تعالى فقال( خُلِقَ اَلْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ) .

١١٥

و منها نهيه عن التساقط في الشي‏ء الممكن عند حضوره و هذا عبارة عن النهي عن الحرص و الجشع قال الشنفري:

و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

و منها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت كان يقال من لاج الله فقد جعله خصما و من كان الله خصمه فهو مخصوم قال الغزي:

دعها سماوية تجري على قدر

لا تفسدنها برأي منك معكوس

و منها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت أي وضحت و انكشفت و يروى و استوضحت فعل ما لم يسم فاعله و الوهن فيها إهمالها و ترك انتهاز الفرصة فيها قال الشاعر:

فإذا أمكنت فبادر إليها

حذرا من تعذر الإمكان

و منها نهيه عن الاستئثار و هذا هو الخلق النبوي غنم رسول الله ص غنائم خيبر و كانت مل‏ء الأرض نعما فلما ركب راحلته و سار تبعه الناس يطلبون الغنائم و قسمها و هو ساكت لا يكلمهم و قد أكثروا عليه إلحاحا و سؤالا فمر بشجرة فخطفت رداءه فالتفت فقال ردوا علي ردائي فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما لقسمته بينكم عن آخره ثم لا تجدونني بخيلا و لا جبانا و نزل و قسم ذلك المال عن آخره عليهم كله لم يأخذ لنفسه منه وبرة و منها نهيه له عن التغابي و صورة ذلك أن الأمير يومئ إليه أن فلانا من خاصته يفعل كذا و يفعل كذا من الأمور المنكرة و يرتكبها سرا فيتغابى عنه و يتغافل نهاه ع عن ذلك و قال إنك مأخوذ منك لغيرك أي معاقب تقول اللهم خذ لي من فلان بحقي أي اللهم انتقم لي منه

١١٦

و منها نهيه إياه عن الغضب و عن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن غضبه قد جاء في الخبر المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان فإذا كان قد نهي أن يقضي القاضي و هو غضبان على غير صاحب الخصومة فبالأولى أن ينهى الأمير عن أن يسطو على إنسان و هو غضبان عليه و كان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه و نصبه لهذا المعنى يقف على رأس الملك يوم جلوسه فإذا غضب على إنسان و أمر به قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده و قال له إنما أنت بشر فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء : وَ مِنْ هَذَا اَلْعَهْدِ وَ هُوَ آخِرُهُ وَ أَنَا أَسْأَلُ اَللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ أَنْ يُوَفِّقَنِي وَ إِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ مِنَ اَلْإِقَامَةِ عَلَى اَلْعُذْرِ اَلْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ حُسْنِ اَلثَّنَاءِ فِي اَلْعِبَادِ وَ جَمِيلِ اَلْأَثَرِ فِي اَلْبِلاَدِ وَ تَمَامِ اَلنِّعْمَةِ وَ تَضْعِيفِ اَلْكَرَامَةِ وَ أَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَكَ بِالسَّعَادَةِ وَ اَلشَّهَادَةِ إِنَّا إِلَى اَللَّهِ رَاغِبُونَ وَ اَلسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهِ عَلَيْهِ وَ عَلَى آلِهِ اَلطَّيِّبِينَ اَلطَّاهِرِينَ وَ سَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً وَ اَلسَّلاَمُ روي كل رغيبة و الرغيبة ما يرغب فيه فأما الرغبة فمصدر رغب في كذا كأنه قال القادر على إعطاء كل سؤال أي إعطاء كل سائل ما سأله

١١٧

و معنى قوله من الإقامة على العذر أي أسأل الله أن يوفقني للإقامة على الاجتهاد و بذل الوسع في الطاعة و ذلك لأنه إذا بذل جهده فقد أعذر ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق و لم يفسر اجتهاده في رضا الخالق لأنه معلوم فقال هو حسن الثناء في العباد و جميل الأثر في البلاد فإن قلت فقوله و تمام النعمة على ما ذا تعطفه قلت هو معطوف على ما من قوله لما فيه كأنه قال أسأل الله توفيقي لذا و لتمام النعمة أي و لتمام نعمته علي و تضاعف كرامته لدي و توفيقه لهما هو توفيقه للأعمال الصالحة التي يستوجبهما بها

فصل في ذكر بعض وصايا العرب

و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب أوصوا بها أولادهم و رهطهم فيها آداب حسان و كلام فصيح و هي مناسبة لعهد أمير المؤمنين ع هذا و وصاياه المودعة فيه و إن كان كلام أمير المؤمنين ع أجل و أعلى من أن يناسبه كلام لأنه قبس من نور الكلام الإلهي و فرع من دوحة المنطق النبوي روى ابن الكلبي قال لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس و كان لأخيه الخزرج خمسة قيل له كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت و لا ولد لك إلا مالك فقال لم يهلك هالك ترك مثل مالك و إن كان الخزرج ذا عدد و ليس لمالك ولد فلعل الذي استخرج

١١٨

العذق من الجريمة و النار من الوثيمة أن يجعل لمالك نسلا و رجالا بسلا و كلنا إلى الموت يا مالك المنية و لا الدنية و العتاب قبل العقاب و التجلد لا التبلد و اعلم أن القبر خير من الفقر و من لم يعط قاعدا حرم قائما و شر الشرب الاشتفاف و شر الطعم الاقتفاف و ذهاب البصر خير من كثير من النظر و من كرم الكريم الدفع عن الحريم و من قل ذل و خير الغنى القناعة و شر الفقر الخضوع الدهر صرفان صرف رخاء و صرف بلاء و اليوم يومان يوم لك و يوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصطبر و كلاهما سينحسر و كيف بالسلامة لمن ليست له إقامة و حياك ربك و أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال يا بني قد أتت علي مائة و ستون سنة ما صافحت يميني يمين غادر و لا قنعت لنفسي بخلة فاجر و لا صبوت بابنة عم و لا كنة و لا بحت لصديق بسر و لا طرحت عن مومسة قناعا و لا بقي على دين عيسى ابن مريم و قد روي على دين شعيب من العرب غيري و غير تميم بن مر بن أسد بن خزيمة فموتوا على شريعتي و احفظوا علي وصيتي و إلهكم فاتقوا يكفكم ما أهمكم و يصلح لكم حالكم و إياكم و معصيته فيحل بكم الدمار و يوحش منكم الديار كونوا جميعا و لا تفرقوا فتكنوا شيعا و بزوا قبل أن تبزوا فموت

١١٩

في عز خير من حياة في ذل و عجز و كل ما هو كائن كائن و كل جمع إلى تباين و الدهر صرفان صرف بلاء و صرف رخاء و اليوم يومان يوم حبرة و يوم عبرة و الناس رجلان رجل لك و رجل عليك زوجوا النساء الأكفاء و إلا فانتظروا بهن القضاء و ليكن أطيب طيبهم الماء و إياكم و الورهاء فإنها أدوأ الداء و إن ولدها إلى أفن يكون لا راحة لقاطع القرابة و إذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم و آفة العدد اختلاف الكلمة و التفضل بالحسنة يقي السيئة و المكافأة بالسيئة دخول فيها و عمل السوء يزيل النعماء و قطيعة الرحم تورث الهم و انتهاك الحرمة يزيل النعمة و عقوق الوالدين يعقب النكد و يخرب البلد و يمحق العدد و الإسراف في النصيحة هو الفضيحة و الحقد منع الرفد و لزوم الخطيئة يعقب البلية و سوء الدعة يقطع أسباب المنفعة و الضغائن تدعو إلى التباين يا بني إني قد أكلت مع أقوام و شربت فذهبوا و غبرت و كأني بهم قد لحقت ثم قال:

أكلت شبابي فأفنيته

و أبليت بعد دهور دهورا

ثلاثة أهلين صاحبتهم

فبادروا و أصبحت شيخا كبيرا

قليل الطعام عسير القيام

قد ترك الدهر خطوي قصيرا

أبيت أراعي نجوم السماء

أقلب أمري بطونا ظهورا

وصى أكثم بن صيفي بنيه و رهطه فقال يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي إن بين حيزومي و صدري لكلاما لا أجد له مواقع إلا أسماعكم و لا مقار إلا قلوبكم فتلقوه بأسماع مصغية و قلوب دواعية تحمدوا مغبته الهوى

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

منقولاً (١) .

وإنما أسهبنا في استعراض كلمات اللُّغويين؛ لأن عمدة ما يستدل به على عدم وجود ولاية أو سلطة في مادة الشورى هو أصل وضعها اللغوي، فإذا ادُّعي مثل ذلك في ظهور اللفظة، فيجب أن يكون بمؤنة زائدة على مجرد ورود اللفظ في الكلام.

وكل ما تفيده الكلمة أنها شبيهة ما يسمَّى بـ (بنك المعلومات أو بنك الخبرات).

ويمكن أن نضيف بعض الشواهد المؤيِّدة لِمَا ذكره اللُّغويون:

١ - إن البشرية تعتمد على نظام المستشارين في إدارة أيِّ عمل، وقلَّما يوجد مدير أو مسؤول خالٍ عن المستشارين، وفي نفس الوقت لا يكون لهم أيُّة سلطة على المستشير، بل وظيفتهم مجرد إبداء الرأي والنصح.

٢ - إن الفقهاء - من الفريقين - يذكرون أن أحد أنواع الاستخارة هي: الاستشارة، وهذا يدل على أن فهمهم لمادة الشورى هو بمعنى انتقاء الرأي الصائب، لا وجود سلطة للمستشار على المستشير.

٣ - سوف نشير فيما بعد إلى التحليل الماهوي لمادة الشورى، حيث نذكر أنه لا ملازمة بين إبداء الرأي ووجوب الأخذ به، وإنما الملزِم هو حقَّانية الرأي واستصوابه.

٤ - إن الآية الشريفة في مقام بيان صفات خاصة يتحلَّى بها المؤمنون، ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم نبذهم لآراء الآخرين، فهي تشير إلى ما يجب أن يتحلّى به المسلم في شؤونه الخاصة من تحرِّيه للصواب والحكمة التي هي ضالَّته أينما وجدها أخذها، وليس الأمر محصوراً بالشؤون العامة التي تهمُّ جميع المسلمين.

____________________

(١) لجنة المجمع اللُّغوي، المعجم الوسيط، القاهرة، ص٤٩٩.

١٤١

٥ - إن القران اعتنى بمسألة الولاية ومَن تكون لهم الولاية على الآخرين؛ ولذا في أيِّ موضع أرادها، أشار إليها صراحة ( وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ... فالولاية من الأمور المهمة، سواء كانت فردية أم جماعية، فلو كان الشارع قد أرادها في الشورى، لصرَّح بها بمادتها بنحو لا يعتريه شك.

٦ - قد ورد في القران الكريم في قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا... )

فالحديث في الآية حول خصام الزوج والزوجة حول الطفل، والفقهاء متَّفِقون على أن الولاية للأب، وأن الحضانة هي للأم، ومع ذلك ورد التعبير بالتشاور، فمع اختصاص الولاية نَدَبَ إلى التشاور بين الزوجين في أمر الرضاع، وهذا لا يعني كون المشورة ملزِمة للولي، وهو الأب، بل هي معرفة أراء الأخير من أجل اتخاذ الرأي النافع لمصلحة الطفل.

٧ - ما ورد في قصة بلقيس - ملكة سبأ - عندما جاءتها رسالة النبي سليمان‏ عليه‌السلام ، فإنها استشارت قومها مع أن الحكم بيدها، فأشاروا إليها: ( نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ) .

فواضح أنهم عرفوا موقعهم في الدولة، وأن الأمر بيد الملكة، وأن وظيفتهم بيان ما يرونه من الرأي، وأن التصميم على الحرب أو السلم بيد الملكة. وهي لم تأخذ برأيهم في المواجهة، بل اختارت طريق السلم والدبلوماسية.

والغرض ليس الاستدلال بفعل بلقيس، بل الإشارة إلى أن مسألة الشورى والاستشارة أمر عقلائي منذ القديم، وأسلوب في الإدارة متَّبع منذ الأزمنة الغابرة. والشارع قد أكدَّ على ذلك الأمر المهم وحثّ عليه.

٨ - في سورة الحجرات (٤٩ / ٦): ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ.... ) .

١٤٢

حيث إنها واضحة الدلالة في أن الرسول لو أُلزم بالأخذ بنتيجة أرائهم دائماً، لوقع المسلمون في العنت والشقة.

والآية واقعة في سلسلة من الآيات التي ترشد الأمة الإسلامية إلى كيفية التعامل مع الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيفية الخضوع والمتابعة والتوقير وعدم رفع الصوت فوق صوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويظهر من الآية أن الرسول كان يداري قومه في بعض الشي‏ء لأجل تطييب خاطرهم وتحبيب قلوبهم؛ لأجل تمهيد الطاعة له صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٩ - ما ورد في أول سورة الحجرات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي لا تتقدَّموا على رسول اللَّه في البتِّ في الأمور فضلاً عن تنفيذها، فإنها ليست من وظيفتهم، بل هي وظيفة القيادة في حسم الأمر واتخاذ القرار النهائي؛ فهم تابعون حتَّى مع طلب المشورة منهم.

بل إن ملاحظة ما تقدِّم هذه الآية من قضية إخبار الوليد بن عقبة حول بني المصطلق، وتريث الرسول الأكرم في الأخذ بقوله، وعدم تريث المسلمين، بل تصميهم على العمل بقوله، [يثبت ذلك]. فالآية تنهاهم عن مثل هذا العزم المتقدِّم على عزم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٠ - إن الحكمة من المشاورة - بناءً على هذا - هو ربط القيادة بالقاعدة، وتحفيز المواطنين على المشاركة في الشأن العام.

تلك عشرة كاملة تدعم وتثبت الأصل اللُّغوي لاصطلاح الشورى؛ وهو مداولة الآراء وكونها جسراً للتفاهم والتحاور وإيصال المرادات؛ حتّى يصل القائد والمستشير إلى نتيجة أقرب إلى الصواب، ويقلُّ احتمال الخطأ فيها.

وبناء على هذا التحقيق في المعنى اللُّغوي نصل إلى أن التعبير السائد بولاية الشورى غير صحيح؛ وذلك لأن الولاية تدل على القوة العملية والتنفيذية وجهة

١٤٣

الحسم واتخاذ القرار. والشورى تدل على أصل بداية المداولة الفكرية، فيوجد تدافع وتنافي بين اللفظين؛ فهذا تعبير ركيك وأعجمي، والأعجب صدوره من أدباء عرب يدَّعون العلم بموازين البلاغة واللغة.

الوجه الثاني:

أمَّا ما استُدل به في آية: ( وأمْرَهُم... ) ؛ من أن الإضافة دالة على أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين، فجوابه يكون بعد بيان المقدمة التالية:

إن علماء أصول الفقه وأصول القانون يتَّفقون على أن القضية لا تتكفَّل إثبات موضوعها؛ بمعنى أن القضية تدل على ثبوت المحمول والحكم للموضوع، ويكون الموضوع مفروض الوجود والتحقق. أمَّا تحديد الموضوع وتعيين موارده ومصاديقه، فهو قضية أخرى لا تتصدَّى لها نفس القضية.

وبناء عليه، فإذا نظرنا إلى الآية الكريمة التي تشير إلى ( وأمْرَهُم... ) فإن غاية ما تدل عليه أن الأمر والشأن مضاف إلى المسلمين، ولكي يترتَّب عليه المحمول - كما يدَّعيه المدَّعى - يجب توفُّر أمران:

أحدهما: أن يكون الأمر ممَّا يهم جماعة المسلمين.

والثاني: أن تكون صلاحية النظر في هذا الأمر إليهم؛ أي مضاف إليهم مختص بهم. وهذا شرط مهم حتّى يمكن تطبيق الآية والحكم بشورائية الأمر. فيجب أن نُحرز أنَّ هذا الأمر المجموعي مفوَّض ومُوكَل إلى الجماعة. وممَّا لا شك فيه أن تعيين الإمام وثبوت النص وعدم إقحام الأمة في اختيار قيادتها - سيَّما في عصر النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام - ‏أمر مسلَّم؛ لا يختلف في الأول - أي في عصر النبي - أحد من المسلمين، ولا في الثاني - أي في عصر الأئمة - أحد من الشيعة، فإنه يدل على أن هذا الشأن - وهو اتخاذ القائد والزعيم - ليس من الأمور التي تعود صلاحيتها بيد الشورى.

وعلى كل حال... فنفس الآية، ومجرد

١٤٤

تعبير ( أمْرَهُم ) ، لا يثبت المراد.

الوجه الثالث:

ملاحظة ذيل الآية ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) .

فإن العزم يغاير الشور، وهما ليسا بمعنى واحد، فالأول متأخر عن الثاني زماناً؛ إذ أنه حاصل - في سياق الآية الكريمة - بعد الاستشارة، وهو بحسب بياننا لمراحل التفكير يمثِّل الفعل الثالث في أفعال النفس للإنسان الصغير أو الكبير، وهو عنوان للقوة الإجرائية والتنفيذية، وهي تسند العزم له وحده صلى‌الله‌عليه‌وآله دون بقية المسلمين؛ فاتخاذ القرار بيده.

مضافاً إلى أن الشورى جعلت فيها للمجموع، أمَّا هنا، فإنه مسند إليه وحده. فهذه مقابلة بين الفعلين مادة وإسنادا.

وثالثاً: أن الأمر بالتوكُّل هو للنبيّ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والخطاب له وحده.

ورابعاً: أن مادة التوكُّل يؤتى بها لأجل استمداد القوة ورباطة الجأش، فهو يدل على أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو خالف رأيهم، فعليه أن يعزم عليه ويتوكل على اللَّه، وخصوصاً إذا ما قارنَّا هذه الآية مع ما ورد في سورة الشعراء: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) ؛ ففيها ندب للرسول الأكرم أن يربِّي المسلمين ويجذبهم بلطيف المعاملة وحسن السيرة وخفض الجناح، وليس هذا معناه أن يكون لهم سلطة عليه، بل يبقى الأمر بيده، وعليهم المتابعة والانقياد. فإدارة شؤون الأمة والحاكمية ليست أمراً فردياً يقوم به شخص واحد ولو كان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو واجب مجموعي يتقاسمه الحاكم والمحكوم كل حسب دوره؛ ولذا حرص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على

١٤٥

تربية المؤمنين وحثِّهم على القيام بهذه المهمة، وتكون الشورى وقيامه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله باستشارتهم لإشعارهم أن الأمر يهمُّهم وإن كان عليهم الطاعة المطلقة لقيادته، ويكون له الرأي النهائي والعزم طبقاً للرأي الصائب في نفسه وإن كان مخالفاً لهواهم وأكثريتهم.

فإذا كانت سيرة المعصوم عليه‌السلام مع أمَّـته هي سيرة اللين والمداراة والاستشارة، فكيف بغير المعصوم الفاقد للعلم اللدني؛ فهو ألزم باتباع طريقته وعدم الاستبداد بالرأي وأن كان اختيار الرأي النهائي راجعاً إليه وبيده زمام الأمور.

الوجه الرابع:

وهو جواب عمَّا قيل: إنه لو لم تكن نتيجة الشورى ملزمة، لكان الأمر بها مع الآية الكريمة عبثاً. وهذا يقودنا إلى البحث عن الحِكَم والمصالح المترتبة على الشورى، وهي كثيرة:

منها: تطييب القلوب وتآلفها.

ومنها: اختبار القيادة للقاعدة وتمحيصهم لمعرفة المؤمن الذي يشير من واقع الإحساس بالمسؤولية من غيره الذي يتَّبع هواه.

ومنها: إشراكهم في الأمر وأن للأمة دور في إدارة دفة الحكم، وأنّ القرار الصادر وإنْ كان بيد القائد إلاّ أنّ لهم دور في صنعه، ممَّا يجعلهم يتعاملون معه - في تنفيذه ونشره والدفاع عنه بين الناس - بشكل أكبر وحماس أكثر؛ حيث يكون عملهم على بصيرة وقناعة.

ومنها: أن الاستشارة تكون نوعاً من تربية القائد للأمة على كيفية التعامل مع الحوادث المختلفة، وأن المحور في كل الاستشارات هو الرأي الصائب والحقَّاني.

ومنها: أن في الاستشارة حداً من الاستبداد البشري والدكتاتورية المطلقة التي

١٤٦

تجعل الإنسان يستبد برأيه مع أنه حقيقة الفقر والاحتياج وأن الاستبداد المطلق هو من الصفات الإلهية. أمَّا بني البشر، فهم الفقر المطلق والحاجة المطلقة، ولا يكون معصوماً عن الخطأ إلاّ مَن عصمه اللَّه عزَّ وجل. فالنبي والإمام مع أن لهم هذه الخصوصية إلاّ أنهم أرادوا تعليم وتربية أمتهم على عدم الاستبداد بالرأي، وأنّ بالمشاورة يمكن الوصول إلى أرجح الآراء ومعالجة المشكل من كافة جوانبه؛ فيقلّ فيه احتمال الخطأ.

ومنها: أن الاستشارة تؤدي إلى إفشال ما يقوم به المعارضون والمنافقون؛ حيث إنهم يستغلُّون الغموض الذي يكون في القرارات والأحكام للتلبيس على الأمة، فالاستشارة تؤدي إلى رفع ذلك الغموض بحيث يكون ملابسات الحكم وخلفيَّاته واضحة معروفة.

فمن خلال هذه الحِكَم وغيرها التي تظهر بالتأمل، يتَّضح أن لا لغْوية في البَين، وهي حكم ومصالح مهمة في نفسها يهتم بها الشارع ومن أجلها يكون تشريع الاستشارة والحثِّ عليها. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في البحث العقلي.

فاتضح من خلال هذه الوجوه الأربعة أن المستدِل إذا استدل بالآية الكريمة على لزوم رأي الأكثرية من اصطلاح (الشورى وشاورهم)، فهو غير دال على ما ذكر.

أمَّا إذا استدل على مراده من خلال بيان أن الولاية هي للمجموع، فإنه لم يقم الدليل عليه، ونفس الآيتين لا تثبتان موضوع نفسهما كما تقدم بيانه، بل يجب أن يقيم دليلاً آخر على أن هذا الأمر والشأن هو لمجموع الأمة؛ وحينئذ يكون لهم الولاية. والمستدل يستفيد من هذه المغالطة في الاستدلال بالآية الكريمة.

ا لوجه الخامس:

لو أغمضنا العين عن حقيقة معنى الشورى، وسلَّمنا أنها بمعنى الإرادة والولاية

١٤٧

للشورى، فإن مقتضى استعراض الآراء ومداولتها هو تمحيص الصواب من الخطأ، والحق من الوهم، والسداد من الخطل، وحينئذٍ، فاللازم أن تكون الولاية للصواب والصائب وإن كان مخالفاً لرأي الأكثر وأهوائهم وميولهم الشخصية؛ فإنه كثير ما يُصحِّح الصواب ويُتَبين السداد ويَلتفت الأكثر إلى صواب القلَّة، لكن تمنعهم ذواتهم من الاستجابة إلى ذلك. فلازم ولاية الشورى ليس هو نافذية رأي الكثرة، وكون المدار على الأكثرية، بل هو نافذية الرأي الصائب والسديد ومحوريته، وإلا لكان استخدام عنوان ومادة الشورى في الأدلة خاطئاً، وكان الصحيح التعبير بأن الأمة أو المؤمنون أملك بأمرهم أو أولى به ونحو ذلك ممَّا يعطي محض معنى السلطة والقدرة والصلاحية الذي لا ربط له بالفحص والتنقيب الفكري.

الوجه السادس:

فقد استُشهد بالعديد من الوقائع والحوادث التي تمسَّك بها الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله برأي الأكثرية المشاوَرة ولم يخرج عنها.

وفي مقام الجواب نشير - من باب المقدمة - إلى حقيقة تأريخية يجب أن يُلتفت إليها عند تحقيق الحال في الحوادث التأريخية؛ بيان ذلك:

أن المدقِّق في سيرة النبي الأكرم وما جرى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، يلاحظ أن الملتفِّين حول الرسول الأكرم لم يكونوا على نسقٍ واحد من الجهة الإيمانية، بل كانوا على درجات مختلفة وأهواء متعددة، وإن كان وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد منع البعض من إظهار ما يكنّه، لكنَّه بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى متَّسعاً لإظهار حقيقة أمره واتباعه لأهوائه، فظهر خطَّان مختلفان تمام الاختلاف، وكان من تقدير اللَّه عزَّ وجل أن يتولَّى قيادة الأمة طيلة سنوات متمادية، بل قرون طويلة، الخط المناوئ لعلي عليه‌السلام وأهل بيت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٤٨

ومن الساعة الأولى عمل هذا الخط الحاكم على توطيد سلطانه وملكه على حساب خط آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله المتمثِّل بعلي‏ عليه‌السلام وشيعته والمُعَنْوَن بـ: خط الإمامة. وكان من الركائز التي استند عليها الخط الحاكم هو أن زعامة الأمة ليست نصية، بل هي شوروية؛ ولذا حَشّد الكُتّاب والُمحدِّثين والمؤرِّخين وكل الأجهزة الأخرى، لبيان هذه النظرية وتجذيرها في المجتمع الإسلامي، ومن هنا فإنا نقول: إن التاريخ ‏المكتوب ما هو إلاّ صورة لِمَا أراده الحُكّام؛ وعليه لا يمكننا في مقام التحقيق والتمحيص القبول بكل ما هو مكتوب، بل يجب الرجوع إلى المصادر الخاصة واستنطاق الآيات الكريمة لمعرفة الحق من الباطل في تلك الحوادث التاريخية. ويرى أحد الباحثين طرح منهجية جديدة في دراسة التاريخ؛ وهي أن مراجعة القرآن الكريم - الذي يعتبر كتاب تاريخ وسيرة لحياة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله - والتأمّل في الترتيب التاريخي لنزول الآيات الكريمة وملاحظة سياقها يعطينا صورة كاملة للسيرة النبوية، كما يجب مقارنة الروايات المختلفة ودفع ما بينها من تعارض حتّى نستنتج رواية تاريخية مقبولة عقلاً ونقلاً. بعد ذلك نقول:

أولاً: كان أهم ما استند عليه المستدِل هو غزوة أحد، وما قام به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الاستشارة والنزول عند رغبة القوم وإنْ كان مخالفاً لِمَا يراه، وخصوصاً أن آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) قد نزلت في هذه الواقعة؛ فلذا يجب التفصيل في بيان هذه الواقعة؛ فنقول:

إنّه لمَّا سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بخروج قريش قال للمسلمين: (إني قد رأيت - واللَّه - خيراً؛ رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأوَّلتها المدينة).

ثُم إنه استشار قومه في قتال المشركين، وكان رأي عبداللَّه بن أُبي بن سلول مع رأي النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو البقاء في المدينة. وقال له: يارسول اللَّه، أقم بالمدينة لا تخرج

١٤٩

إليهم، فواللَّه ما خرجنا منها إلى عدوٍ لنا قط إلاّ أصاب منا، ولا دخلها علينا أحد إلاّ أصبنا منه، فدعهم يارسول اللَّه، فإن أقاموا بشرٍّ، فحبس، وإن دخلوا، قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا، رجعوا خائبين كما جاءوا. وقال رجل ممَّن أكرمه اللَّه بالشهادة يوم أُحد، وغيره ممَّن كان قد فاته يوم بدر: يارسول اللَّه، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنّا وضعفنا.

فلم يزل الناس برسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله - الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم - حتّى دخل بيته ولبس لامته، ثُم خرج عليهم، وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم، قالوا: يارسول اللَّه، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد (صلى اللَّه عليك)، فقال الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل). فخرج النبي في ألفٍ من أصحابه حتَّى إذا مشوا مسافة، رجع عنه عبداللَّه بن أُبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني (١) .

هذا هو التقرير الرسمي لِمَا جرى في حادثة الاستشارة في غزوة أُحد. وتشير مصادر أخرى - كما في الكامل في التاريخ لإبن كثير في (٣ / ٢٣) - بما يلي:

وأبى كثير من الناس إلاّ الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول اللَّه ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم، كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر. وعامة مَن أشار إليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة.

ويدل ما ذكره ابن كثير على أنّ كبار الصحابة كانوا يرون رأيه، والشباب المتحمِّس هو الذي أصر على الخروج.

إذن فالآية وردت في هذه الغزوة، وقد طبَّقها الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث استشار قومه،

____________________

(١) راجع: ابن هشام، السيرة النبوية، ج٢، ص٦٣، و ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج٢، ص١٢، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج٢، ص١٤.

١٥٠

ونزل عند رغبتهم بالخروج مع كراهته لذلك.

هذا هو ما ادعُي في المقام.

وفي مقام التحقيق في هذه الحادثة التاريخية المهمة التي نزلت فيها آيات عديدة، يجب الرجوع إلى عرض هذه الحادثة على ما ورد من نصوص قرآنية ومقارنتها؛ ليحصل الغرض النهائي، وهو الوصول للحقائق الناصعة.

وعدم الأخذ بالأمر على عواهنه من دون غربلة وتحقيق، ومن خلال تشعُّبنا واستخدامنا لهذا المنهج؛ أعني العرض على القرآن الكريم ومقارنة الروايات المختلفة، نستنتج:

١ - أن رأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن البقاء في المدينة، بل الخروج منها.

٢ - أن الصواب من الناحية الحربية والقتالية هو الخروج لحرب المشركين خارج المدينة.

٣ - أن سبب هزيمة المسلمين في أُحد؛ لم يكن الخروج من المدينة - كما يظهر من بعض الكتّاب - بل هو تخلُّف المسلمين عن التوصيات العسكرية لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤ - أن البقاء في المدينة كان رأي عبداللَّه بن أُبي‏ بن سلول، وهو رأس المنافقين والذي أثنى ثلث جيش المسلمين عن القتال مع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وافقه على ذلك أكابر الصحابة؛ وهم الذين كانوا على رأس عقد البيعة لأبي ‏بكر، وهم السبعة أصحاب الصحيفة، أثنين من الأنصار وخمسة من المهاجرين.

٥ - أن القرآن امتدح القتال خارج المدينة وذمَّ البقاء داخلها.

٦ - أن اللَّه عزَّ وجل قد وعد المسلمين بالنصر المؤزَّر قبل غزوة أُحد إذا همْ خرجوا للحرب.

أما القرائن التي يستفاد منها هذه المُدَّعَيات:

١٥١

القرينة الأولى: ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل قوله تعالى: ( إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَل ) (١) .

حيث يذكر أنها نزلت في عبداللَّه بن أُبي بن سلول، وأن أصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج والقعود عن نصرة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . عن الصادق عليه‌السلام قال: (وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لمَّا رجعت من بدر إلى مكَّة، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، قال أبو سفيان: يامعشر قريش، لا تدعوا النساء تبكي قتلاكم؛ فإن البكاء والدمعة إذا خرجت، أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد، ويشمت بنا محمد وأصحابه. فلمّا غزا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أُحد، أذِن لنسائهم بعد ذلك بالبكاء، ولمّا أرادوا أن يغزوا رسولَ اللَّه في أُحد، ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها، وجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في ٣٠٠٠ فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنّهم ويحثنّهم على حرب الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخرج أبو سفيان هند بن عتبة، وخرجت معهم عمرة بنت علقمة. فلمّا بلغ رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك، جمع أصحابه، وأخبرهم أن اللَّه عزَّ وجل قد أخبره أن قريشاً قد تجمَّعت تريد المدينة، وحثَّ أصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبداللَّه بن أُبي ‏بن سلول: يارسول اللَّه لا نخرج من المدينة حتّى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط، فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا على عدوٍ لنا قط إلاّ كان لهم الظفر علينا. وقال سعد بن معاذ وغيره من الأُوس: يارسول اللَّه ما طمع فينا أُحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يطمعون بنا وأنت فينا، لا حتّى نخرج إليهم، فنقاتلهم؛ فمَن قُتل منا كان شهيداً، ومَن نجا كان في هدى. وقبل رسول اللَّه قوله).

____________________

(١) آل عمران: ١٢١.

١٥٢

فيلاحظ من هذا النص:

ـ أن رأي بعض الأكابر كان هو الخروج كما يظهر من سعد بن معاذ، وهو من الأنصار.

ـ أن دعوى الأنصار كانت مستندة إلى دلائل على أن الخروج أفضل؛ منها:

أ - أن بقاءنا يُطمع فينا أعدائنا، ويضعف شوكة المسلمين من الجهة السياسية والعسكرية.

ب - أن ذلك سوف يحرمنا من الأراضي التي حول المدينة؛ حيث سوف يمنعونا من الاستفادة منها، مضافاً إلى طمع كثير من القبائل في هذه الأراضي.

جـ - أن عدَّتنا في بدر كانت أقل من ذلك وكان النصر حليفنا، فكيف في هذه المعركة التي تضاعف فيها عدد المسلمين وقويت شوكتهم؟!

هذا مضافاً إلى أن بعض كتب السير قد عبَّرت عن أصحاب الرأي بالخروج أنهم من ذوي البصائر والرأي، وعن أصحاب الرأي في المكث والبقاء في المدينة بالمتخاذلين، فكيف يكون الصواب هو المكث؟ وكيف يكون ذلك هو رأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

القرينة الثانية: وهي العمدة في الباب؛ حيث نستنطق الآيات الواردة في هذا الباب، وهي في سورة آل عمران (١٦٠ - ١٢١).

وهذه الآيات الكريمة تتحدَّث عن الواقعة بنحو مفصَّل، وسوف نورد أهم النقاط الواردة حسب ترتيبها:

١ - ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) حيث أن اللَّه عزَّ وجل يذكّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما خرج يهيِّئ أماكن القتال ومواضع الرماة والفرسان في غزوة أحد، فهذا مدح لِمَا فعله النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الخروج للقتال وتحريضه للمؤمنين على ذلك، وفي ذيلها يشير الباري عزَّ وجل إلى أنه سميع

١٥٣

لأقوالكم، وعليم بنيَّات ما ذكره المسلمون في المدينة من البقاء والخروج عليهم، ويعلم المخلص من المتخاذل.

٢ - ( إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وقد ورد في تفسيرها أن المقصود بهذه الطائفة إمَّا عبداللَّه بن أُبي بن سلول وأصحابه وقومه، وإمَّا بنو سلمة من الخزرج وبنو الحارث من الأوس؛ أرادا الرجوع إلى المدينة مع ابن سلول إلاّ أن اللَّه عزَّوجل أثنى ذلك عن قلوبهما.

وعلى كل حال... فالآية تذم المتخاذل والمتراجع إلى المدينة، فكيف يُدّعى أن البقاء في المدينة هو الصائب؟!

٣ - ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏ء ( ١٢٣ ) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةٍ مُنزَلِينَ.. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) ، ففي هذه الآيات تذكير للرسول بما جرى يوم بدر حينما خرج لمحاربة الكفار - وكانوا قلَّة - ومع ذلك انتصروا ودحروا الكفار؛ وذلك بالإمداد الغيبي، وبالملائكة الذين كانوا يقاتلون ويدخلون في قلوب الكفار الرعب.

فهذه الآيات وإن كانت نازلة بعد غزوة أحد إلا أنها تعكس الموقف الذي جرى قبل الغزوة، وتخاذل بعض المسلمين، وتذكير الرسول لهؤلاء أن الخروج للقتال هو الأفضل؛ حيث إن الإمداد الإلهي حاصل بلا شك كما حصل في غزوة بدر، فما كان البعض يُصرُّ عليه من ضرورة البقاء في المدينة؛ لأنه أحفظ للأنفس وأمنع، لا داعي له؛ إذ أن المدد الإلهي متيقن، واللَّه يَعِدُ رسوله بالنصر في حال الخروج لمقاتلة الكفار.

ثُم تتعرَّض الآيات (١٣٨ - ١٢٩) إلى مواضيع أجنبية عن البحث، ويعود إلى محل الكلام في الآية ١٣٩.

١٥٤

٤ - ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) .

وفي هذه الآية بيان للأمر لمّا تراجع المسلمون عن مواقعهم العسكرية التي أبانها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم، فسيطر الكفَّار على ساحة المعركة، فحثَّهم على الصبر وعدم الضعف عن الجهاد؛ إذ مع هذه الخسارة المؤقتة، أنتم الأعلون، وإن كنتم قد أُصبتم، فقد أصاب الكفَّار في بدر أكثر ممَّا أُصبتم به ألان، ويذكر سنَّة من سنن اللَّه في الكون؛ وهي أنّ الأيام يصرّفها بين الناس، فتارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء.

٥ - ثُم يبيِّن الحِكَم والمصالح التي تظهر من تلك المداولة والفوز والخسارة؛ فإنها امتحان للمسلمين ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ء ( ١٤١ ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) فالحكمة واضحة والابتلاء ظاهر؛ فليس جميع المسلمين في مرتبة واحدة من الإيمان والاعتقاد، فيجب تمحيصهم وابتلاءهم بشتَّى صنوف الاختبار. وإذا ما انتصر الظالمون يوماً، فهذا مؤقَّت؛ ولا يدل على حب اللَّه لهم، بل هو امتحان وابتلاء للمؤمنين، ودخول الجنة ليس بالإيمان اللفظي، بل بالعمل والجهاد والصبر.

فما حصل من تضعضع في صفوف المسلمين، يجابهه القرآن ويرفعه ويذكِّرهم ( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) . وقد ورد أن المؤمنين عندما أخبرهم اللَّه تعالى بمنزلة شهداء بدر، قالوا: اللَّهُم أرنا قتالاً نستشهد فيه. وقد نقلت كتب السير بعض مواقف هؤلاء الثابتين والمشتاقين إلى لقاء اللَّه.

٥ - ( وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .

وهذا هو الامتحان الأهم؛ فبعد أن سيطر الكفَّار على ساحة المعركة، لأسباب سوف تشير إليها الآيات القادمة، ولم يبق مع الرسول الأكرم إلاّ الخُلَّص؛ مثل أمير

١٥٥

المؤمنين وأبو دجانة سمَّاك بن خرشة، وأُشيع بأن الرسول قد قُتل، وهنا أنقلب عدد من المسلمين ورجعوا.

وكان من المنقلبين بعض الصحابة كما تشير إليه رواية الطبري (١) ، قال: انتهى أنس بن النضر - عمُّ أنس بن مالك - إلى عمر بن الخطَّاب وطلحة بن عبيد اللَّه في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل محمد رسول اللَّه، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، فموتوا على ما مات عليه رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثُم استقبل القوم، فقاتل حتّى قُتل.

وفشا في الناس أن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبداللَّه بن أُبي؛ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان. يا قوم، إن محمداً قد قُتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم، فيقتلوكم) (٢) .

ومنهم: عثمان بن عفَّان، وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان، وهما رجلان من الأنصار؛ فقد فرُّوا حتّى بلغوا الجلَعب، جبلاً بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً (٣) ومَن أراد المزيد فليراجع: (الصحيح من سيرة الرسول الأعظم/ ج٢ / ص ٢٤٠ - ٢٥٠).

فالآية الكريمة تصف فرقتان من المسلمين:

أحدهما: المنقلبة.

والأخرى: الثابتة مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد وصف اللَّه عزَّ وجل الأولى أنها لا تضر اللَّه شيئاً، بل الضرر على أنفسهم. أمَّا الثانية، فمنهم الشاكرون الذين سيجزيهم اللَّه.

وفي الآيات التالية يؤكِّد على ذلك، ويكرِّر الباري تعالى ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) . ويستمر القرآن في وصف الفئة التي ثبتت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قول الحق، وأنه لا يصيبهم

____________________

(١) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج٢، ص١٢.

(٢) المصدر، ج٢، ص٢٠١.

(٣) المصدر، ج٢، ص٢١.

١٥٦

الضعف والحزن والوهن، ولا يقعدوا عن الجهاد.

٦ - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَان ) .

فهو نهي للمسلمين عن اتباع الكفار الذين استغلوا ما أُشيع عن موت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا للمسلمين: ارجعوا إلى إخوانكم، وارجعوا إلى دينهم، فاللَّه هو الناصر، وهو المؤيِّد والمعز.

وقد سيطرة المشركين على المعركة إلا أن اللَّه قد ألقى في قلوبهم الذعر والخوف، فعادوا إلى مكة.

٧ - ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم ) ؛ فهذا يدل على وعد سابق من اللَّه لرسوله بالنصر، وبالفعل، فقد تحقَّق هذا النصر في بداية المعركة، وقُتل عدد كبير من المشركين ( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ) أي ملتم إلى الغنيمة وتركتم مواقعكم وخالفتم أوامر الرسول، وكان الرسول الأكرم قد نبَّـهَّهُم وأمرهم عند بداية المعركة، فقال للرماة: (لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا،

فلا تغيثونا) (١) ؛ يجب عليكم الثبات في مواقعكم، لكنهم شغلوا أنفسهم بجمع الغنائم، ( وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) ؛ وهم الثابتون: عبداللَّه بن جبير ومَن ثبت معه من الرماة الذين بقوا في مواقعهم حتّى قتلوا. ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) تفضُّلا، ( وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .

فالآيات واضحة في بيان سبب الهزيمة، ولا مجال حينئذٍ للاجتهاد بأنّ سبب الهزيمة هو الخروج من المدينة.

____________________

(١) تاريخ الأمم والملوك، ج٢، ص١٤.

١٥٧

٨ - ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى مَا فَاتَكُمْ ) .

والآية تستمر في بيان حال المسلمين بعد سماعهم لشائعة موت الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا هم قد همّوا بالفرار والرسول يناديهم؛ يقول: (إليّ عباد اللَّه، ارجعوا أنا رسول اللَّه، إليّ أين تفرُّون عن اللَّه وعن رسوله، مَن يكرُّ فله الجنة). ثُم تبيَّن صفة هؤلاء الذين ( يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ) ، وهو الاعتقاد بأن اللَّه لا قدرة له، وأن يد اللَّه مغلولة، ولابد من الاستعانة باللَّات والْعُزَّى وهبل؛ فهذا هو اعتقاد الجاهلية.

( قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ ) وهو مالك كل شي‏ء.

فيتَّضح أن اللَّه قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:

١ - عصيان الرماة لأوامر الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركهم لمواقعهم.

٢ - الفرار عندما أُشيع موت الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣ - ظن البعض باللَّه ظنَّ الجاهلية؛ ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلا علوَّاً كبيراً.

٩ - ثُم يتعرَّض الحق تعالى لِمَا يقولون ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي‏ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرَّروا قولهم: أن لو كنا في المدينة، لكنّا أمنع وأحصن. متناسين تقدير اللَّه وقضاءه الذي لا رادَّ له حتّى لو كان في أمنع الحصون؛ فهذا ذمٌّ لهم على تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ

١٥٨

وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

فتبين خطأ هذا التفكير وأن سبب الهزيمة ليس هو الخروج من المدينة، بل العصيان. والموت والأجل أمر محتوم وقضاء اللَّه.

وبعد هذا التوبيخ تبيِّن الآيات أن مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الإلهي، ثُم في هذا السياق ترد آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) ؛ في سياق بيان صفات النبي التي تحلَّى بها من حسن الخلق ولين الجانب.

١٠ - تعود الآيات للتذكير بين واقعة أُحد وواقعة بدر.

( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ) حيث نسب البعض إلى النبي هذه الخيانة في المغنم ( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

( أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَ ) وذلك في غزوة بدر؛ حيث إنكم قد أصبتم الكفار بعض ما أصابوكم ألان ( قُلْتُمْ أَنَّى هذا ) أي مِن أين أصابنا هذا؟ وظننتم باللَّه ظنَّ الجاهلية ( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) أي بسبب فعلكم وعصيانكم ( إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ‏ء١٦٦ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ... )

ثُم تبيِّن الآيات صفات المؤمنين؛ من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف، ثُم يذكر صفة أخرى لها صلة بما تقدَّم ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

١٥٩

فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة أخرى بأمر اللَّه لرسوله بالخروج في أثر القوم، وأن لا يخرج معه إلا مَن به جراحة، فنادى منادٍ: يامعشر المهاجرين والأنصار، مَن كانت به جراحة فليخرج به، ومَن لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد - وقريش قد نزلت

الروحاء - قال عكرمة بن أبي‏ جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير على المدينة؛ قد قتلنا سراتهم وكبشهم؛ يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة، فسألوه الخبر، فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا إلى مكَّة، وسمِّيت بغزوة بدر الصغرى.

وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة(١٧٤ - ١٢١) خير شاهد على ما جرى ودار في هذه الغزوة التي تدل على حنكة الرسول الأكرم في استخبار نيَّات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون إليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل، وأن المنافقين أرادوا الإيقاع بالمسلمين من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل اللَّه.

وأخيراً نشير إلى رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: (أمَا إن اللَّه ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها اللَّه رحمة لأمتي، مَن استشارهم لم يعدم رشداً، ومَن تركها لم يُعدم غيَّا) (١) .

ثانياً: غزوة الخندق؛ فقد استُدل بها على الشورى وإلزاميَّـتها في موطنين؛ الأول:

____________________

(١) الشورى بين النظرية والتطبيق، ص ٢٧ - ٣٠.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440