الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127252
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127252 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

منقولاً (1) .

وإنما أسهبنا في استعراض كلمات اللُّغويين؛ لأن عمدة ما يستدل به على عدم وجود ولاية أو سلطة في مادة الشورى هو أصل وضعها اللغوي، فإذا ادُّعي مثل ذلك في ظهور اللفظة، فيجب أن يكون بمؤنة زائدة على مجرد ورود اللفظ في الكلام.

وكل ما تفيده الكلمة أنها شبيهة ما يسمَّى بـ (بنك المعلومات أو بنك الخبرات).

ويمكن أن نضيف بعض الشواهد المؤيِّدة لِمَا ذكره اللُّغويون:

1 - إن البشرية تعتمد على نظام المستشارين في إدارة أيِّ عمل، وقلَّما يوجد مدير أو مسؤول خالٍ عن المستشارين، وفي نفس الوقت لا يكون لهم أيُّة سلطة على المستشير، بل وظيفتهم مجرد إبداء الرأي والنصح.

2 - إن الفقهاء - من الفريقين - يذكرون أن أحد أنواع الاستخارة هي: الاستشارة، وهذا يدل على أن فهمهم لمادة الشورى هو بمعنى انتقاء الرأي الصائب، لا وجود سلطة للمستشار على المستشير.

3 - سوف نشير فيما بعد إلى التحليل الماهوي لمادة الشورى، حيث نذكر أنه لا ملازمة بين إبداء الرأي ووجوب الأخذ به، وإنما الملزِم هو حقَّانية الرأي واستصوابه.

4 - إن الآية الشريفة في مقام بيان صفات خاصة يتحلَّى بها المؤمنون، ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم نبذهم لآراء الآخرين، فهي تشير إلى ما يجب أن يتحلّى به المسلم في شؤونه الخاصة من تحرِّيه للصواب والحكمة التي هي ضالَّته أينما وجدها أخذها، وليس الأمر محصوراً بالشؤون العامة التي تهمُّ جميع المسلمين.

____________________

(1) لجنة المجمع اللُّغوي، المعجم الوسيط، القاهرة، ص499.

١٤١

5 - إن القران اعتنى بمسألة الولاية ومَن تكون لهم الولاية على الآخرين؛ ولذا في أيِّ موضع أرادها، أشار إليها صراحة ( وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ... فالولاية من الأمور المهمة، سواء كانت فردية أم جماعية، فلو كان الشارع قد أرادها في الشورى، لصرَّح بها بمادتها بنحو لا يعتريه شك.

6 - قد ورد في القران الكريم في قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا... )

فالحديث في الآية حول خصام الزوج والزوجة حول الطفل، والفقهاء متَّفِقون على أن الولاية للأب، وأن الحضانة هي للأم، ومع ذلك ورد التعبير بالتشاور، فمع اختصاص الولاية نَدَبَ إلى التشاور بين الزوجين في أمر الرضاع، وهذا لا يعني كون المشورة ملزِمة للولي، وهو الأب، بل هي معرفة أراء الأخير من أجل اتخاذ الرأي النافع لمصلحة الطفل.

7 - ما ورد في قصة بلقيس - ملكة سبأ - عندما جاءتها رسالة النبي سليمان‏ عليه‌السلام ، فإنها استشارت قومها مع أن الحكم بيدها، فأشاروا إليها: ( نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ) .

فواضح أنهم عرفوا موقعهم في الدولة، وأن الأمر بيد الملكة، وأن وظيفتهم بيان ما يرونه من الرأي، وأن التصميم على الحرب أو السلم بيد الملكة. وهي لم تأخذ برأيهم في المواجهة، بل اختارت طريق السلم والدبلوماسية.

والغرض ليس الاستدلال بفعل بلقيس، بل الإشارة إلى أن مسألة الشورى والاستشارة أمر عقلائي منذ القديم، وأسلوب في الإدارة متَّبع منذ الأزمنة الغابرة. والشارع قد أكدَّ على ذلك الأمر المهم وحثّ عليه.

8 - في سورة الحجرات (49 / 6): ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ.... ) .

١٤٢

حيث إنها واضحة الدلالة في أن الرسول لو أُلزم بالأخذ بنتيجة أرائهم دائماً، لوقع المسلمون في العنت والشقة.

والآية واقعة في سلسلة من الآيات التي ترشد الأمة الإسلامية إلى كيفية التعامل مع الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيفية الخضوع والمتابعة والتوقير وعدم رفع الصوت فوق صوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويظهر من الآية أن الرسول كان يداري قومه في بعض الشي‏ء لأجل تطييب خاطرهم وتحبيب قلوبهم؛ لأجل تمهيد الطاعة له صلى‌الله‌عليه‌وآله .

9 - ما ورد في أول سورة الحجرات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي لا تتقدَّموا على رسول اللَّه في البتِّ في الأمور فضلاً عن تنفيذها، فإنها ليست من وظيفتهم، بل هي وظيفة القيادة في حسم الأمر واتخاذ القرار النهائي؛ فهم تابعون حتَّى مع طلب المشورة منهم.

بل إن ملاحظة ما تقدِّم هذه الآية من قضية إخبار الوليد بن عقبة حول بني المصطلق، وتريث الرسول الأكرم في الأخذ بقوله، وعدم تريث المسلمين، بل تصميهم على العمل بقوله، [يثبت ذلك]. فالآية تنهاهم عن مثل هذا العزم المتقدِّم على عزم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

10 - إن الحكمة من المشاورة - بناءً على هذا - هو ربط القيادة بالقاعدة، وتحفيز المواطنين على المشاركة في الشأن العام.

تلك عشرة كاملة تدعم وتثبت الأصل اللُّغوي لاصطلاح الشورى؛ وهو مداولة الآراء وكونها جسراً للتفاهم والتحاور وإيصال المرادات؛ حتّى يصل القائد والمستشير إلى نتيجة أقرب إلى الصواب، ويقلُّ احتمال الخطأ فيها.

وبناء على هذا التحقيق في المعنى اللُّغوي نصل إلى أن التعبير السائد بولاية الشورى غير صحيح؛ وذلك لأن الولاية تدل على القوة العملية والتنفيذية وجهة

١٤٣

الحسم واتخاذ القرار. والشورى تدل على أصل بداية المداولة الفكرية، فيوجد تدافع وتنافي بين اللفظين؛ فهذا تعبير ركيك وأعجمي، والأعجب صدوره من أدباء عرب يدَّعون العلم بموازين البلاغة واللغة.

الوجه الثاني:

أمَّا ما استُدل به في آية: ( وأمْرَهُم... ) ؛ من أن الإضافة دالة على أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين، فجوابه يكون بعد بيان المقدمة التالية:

إن علماء أصول الفقه وأصول القانون يتَّفقون على أن القضية لا تتكفَّل إثبات موضوعها؛ بمعنى أن القضية تدل على ثبوت المحمول والحكم للموضوع، ويكون الموضوع مفروض الوجود والتحقق. أمَّا تحديد الموضوع وتعيين موارده ومصاديقه، فهو قضية أخرى لا تتصدَّى لها نفس القضية.

وبناء عليه، فإذا نظرنا إلى الآية الكريمة التي تشير إلى ( وأمْرَهُم... ) فإن غاية ما تدل عليه أن الأمر والشأن مضاف إلى المسلمين، ولكي يترتَّب عليه المحمول - كما يدَّعيه المدَّعى - يجب توفُّر أمران:

أحدهما: أن يكون الأمر ممَّا يهم جماعة المسلمين.

والثاني: أن تكون صلاحية النظر في هذا الأمر إليهم؛ أي مضاف إليهم مختص بهم. وهذا شرط مهم حتّى يمكن تطبيق الآية والحكم بشورائية الأمر. فيجب أن نُحرز أنَّ هذا الأمر المجموعي مفوَّض ومُوكَل إلى الجماعة. وممَّا لا شك فيه أن تعيين الإمام وثبوت النص وعدم إقحام الأمة في اختيار قيادتها - سيَّما في عصر النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام - ‏أمر مسلَّم؛ لا يختلف في الأول - أي في عصر النبي - أحد من المسلمين، ولا في الثاني - أي في عصر الأئمة - أحد من الشيعة، فإنه يدل على أن هذا الشأن - وهو اتخاذ القائد والزعيم - ليس من الأمور التي تعود صلاحيتها بيد الشورى.

وعلى كل حال... فنفس الآية، ومجرد

١٤٤

تعبير ( أمْرَهُم ) ، لا يثبت المراد.

الوجه الثالث:

ملاحظة ذيل الآية ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) .

فإن العزم يغاير الشور، وهما ليسا بمعنى واحد، فالأول متأخر عن الثاني زماناً؛ إذ أنه حاصل - في سياق الآية الكريمة - بعد الاستشارة، وهو بحسب بياننا لمراحل التفكير يمثِّل الفعل الثالث في أفعال النفس للإنسان الصغير أو الكبير، وهو عنوان للقوة الإجرائية والتنفيذية، وهي تسند العزم له وحده صلى‌الله‌عليه‌وآله دون بقية المسلمين؛ فاتخاذ القرار بيده.

مضافاً إلى أن الشورى جعلت فيها للمجموع، أمَّا هنا، فإنه مسند إليه وحده. فهذه مقابلة بين الفعلين مادة وإسنادا.

وثالثاً: أن الأمر بالتوكُّل هو للنبيّ‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والخطاب له وحده.

ورابعاً: أن مادة التوكُّل يؤتى بها لأجل استمداد القوة ورباطة الجأش، فهو يدل على أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو خالف رأيهم، فعليه أن يعزم عليه ويتوكل على اللَّه، وخصوصاً إذا ما قارنَّا هذه الآية مع ما ورد في سورة الشعراء: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) ؛ ففيها ندب للرسول الأكرم أن يربِّي المسلمين ويجذبهم بلطيف المعاملة وحسن السيرة وخفض الجناح، وليس هذا معناه أن يكون لهم سلطة عليه، بل يبقى الأمر بيده، وعليهم المتابعة والانقياد. فإدارة شؤون الأمة والحاكمية ليست أمراً فردياً يقوم به شخص واحد ولو كان رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو واجب مجموعي يتقاسمه الحاكم والمحكوم كل حسب دوره؛ ولذا حرص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على

١٤٥

تربية المؤمنين وحثِّهم على القيام بهذه المهمة، وتكون الشورى وقيامه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله باستشارتهم لإشعارهم أن الأمر يهمُّهم وإن كان عليهم الطاعة المطلقة لقيادته، ويكون له الرأي النهائي والعزم طبقاً للرأي الصائب في نفسه وإن كان مخالفاً لهواهم وأكثريتهم.

فإذا كانت سيرة المعصوم عليه‌السلام مع أمَّـته هي سيرة اللين والمداراة والاستشارة، فكيف بغير المعصوم الفاقد للعلم اللدني؛ فهو ألزم باتباع طريقته وعدم الاستبداد بالرأي وأن كان اختيار الرأي النهائي راجعاً إليه وبيده زمام الأمور.

الوجه الرابع:

وهو جواب عمَّا قيل: إنه لو لم تكن نتيجة الشورى ملزمة، لكان الأمر بها مع الآية الكريمة عبثاً. وهذا يقودنا إلى البحث عن الحِكَم والمصالح المترتبة على الشورى، وهي كثيرة:

منها: تطييب القلوب وتآلفها.

ومنها: اختبار القيادة للقاعدة وتمحيصهم لمعرفة المؤمن الذي يشير من واقع الإحساس بالمسؤولية من غيره الذي يتَّبع هواه.

ومنها: إشراكهم في الأمر وأن للأمة دور في إدارة دفة الحكم، وأنّ القرار الصادر وإنْ كان بيد القائد إلاّ أنّ لهم دور في صنعه، ممَّا يجعلهم يتعاملون معه - في تنفيذه ونشره والدفاع عنه بين الناس - بشكل أكبر وحماس أكثر؛ حيث يكون عملهم على بصيرة وقناعة.

ومنها: أن الاستشارة تكون نوعاً من تربية القائد للأمة على كيفية التعامل مع الحوادث المختلفة، وأن المحور في كل الاستشارات هو الرأي الصائب والحقَّاني.

ومنها: أن في الاستشارة حداً من الاستبداد البشري والدكتاتورية المطلقة التي

١٤٦

تجعل الإنسان يستبد برأيه مع أنه حقيقة الفقر والاحتياج وأن الاستبداد المطلق هو من الصفات الإلهية. أمَّا بني البشر، فهم الفقر المطلق والحاجة المطلقة، ولا يكون معصوماً عن الخطأ إلاّ مَن عصمه اللَّه عزَّ وجل. فالنبي والإمام مع أن لهم هذه الخصوصية إلاّ أنهم أرادوا تعليم وتربية أمتهم على عدم الاستبداد بالرأي، وأنّ بالمشاورة يمكن الوصول إلى أرجح الآراء ومعالجة المشكل من كافة جوانبه؛ فيقلّ فيه احتمال الخطأ.

ومنها: أن الاستشارة تؤدي إلى إفشال ما يقوم به المعارضون والمنافقون؛ حيث إنهم يستغلُّون الغموض الذي يكون في القرارات والأحكام للتلبيس على الأمة، فالاستشارة تؤدي إلى رفع ذلك الغموض بحيث يكون ملابسات الحكم وخلفيَّاته واضحة معروفة.

فمن خلال هذه الحِكَم وغيرها التي تظهر بالتأمل، يتَّضح أن لا لغْوية في البَين، وهي حكم ومصالح مهمة في نفسها يهتم بها الشارع ومن أجلها يكون تشريع الاستشارة والحثِّ عليها. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في البحث العقلي.

فاتضح من خلال هذه الوجوه الأربعة أن المستدِل إذا استدل بالآية الكريمة على لزوم رأي الأكثرية من اصطلاح (الشورى وشاورهم)، فهو غير دال على ما ذكر.

أمَّا إذا استدل على مراده من خلال بيان أن الولاية هي للمجموع، فإنه لم يقم الدليل عليه، ونفس الآيتين لا تثبتان موضوع نفسهما كما تقدم بيانه، بل يجب أن يقيم دليلاً آخر على أن هذا الأمر والشأن هو لمجموع الأمة؛ وحينئذ يكون لهم الولاية. والمستدل يستفيد من هذه المغالطة في الاستدلال بالآية الكريمة.

ا لوجه الخامس:

لو أغمضنا العين عن حقيقة معنى الشورى، وسلَّمنا أنها بمعنى الإرادة والولاية

١٤٧

للشورى، فإن مقتضى استعراض الآراء ومداولتها هو تمحيص الصواب من الخطأ، والحق من الوهم، والسداد من الخطل، وحينئذٍ، فاللازم أن تكون الولاية للصواب والصائب وإن كان مخالفاً لرأي الأكثر وأهوائهم وميولهم الشخصية؛ فإنه كثير ما يُصحِّح الصواب ويُتَبين السداد ويَلتفت الأكثر إلى صواب القلَّة، لكن تمنعهم ذواتهم من الاستجابة إلى ذلك. فلازم ولاية الشورى ليس هو نافذية رأي الكثرة، وكون المدار على الأكثرية، بل هو نافذية الرأي الصائب والسديد ومحوريته، وإلا لكان استخدام عنوان ومادة الشورى في الأدلة خاطئاً، وكان الصحيح التعبير بأن الأمة أو المؤمنون أملك بأمرهم أو أولى به ونحو ذلك ممَّا يعطي محض معنى السلطة والقدرة والصلاحية الذي لا ربط له بالفحص والتنقيب الفكري.

الوجه السادس:

فقد استُشهد بالعديد من الوقائع والحوادث التي تمسَّك بها الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله برأي الأكثرية المشاوَرة ولم يخرج عنها.

وفي مقام الجواب نشير - من باب المقدمة - إلى حقيقة تأريخية يجب أن يُلتفت إليها عند تحقيق الحال في الحوادث التأريخية؛ بيان ذلك:

أن المدقِّق في سيرة النبي الأكرم وما جرى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، يلاحظ أن الملتفِّين حول الرسول الأكرم لم يكونوا على نسقٍ واحد من الجهة الإيمانية، بل كانوا على درجات مختلفة وأهواء متعددة، وإن كان وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد منع البعض من إظهار ما يكنّه، لكنَّه بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى متَّسعاً لإظهار حقيقة أمره واتباعه لأهوائه، فظهر خطَّان مختلفان تمام الاختلاف، وكان من تقدير اللَّه عزَّ وجل أن يتولَّى قيادة الأمة طيلة سنوات متمادية، بل قرون طويلة، الخط المناوئ لعلي عليه‌السلام وأهل بيت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٤٨

ومن الساعة الأولى عمل هذا الخط الحاكم على توطيد سلطانه وملكه على حساب خط آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله المتمثِّل بعلي‏ عليه‌السلام وشيعته والمُعَنْوَن بـ: خط الإمامة. وكان من الركائز التي استند عليها الخط الحاكم هو أن زعامة الأمة ليست نصية، بل هي شوروية؛ ولذا حَشّد الكُتّاب والُمحدِّثين والمؤرِّخين وكل الأجهزة الأخرى، لبيان هذه النظرية وتجذيرها في المجتمع الإسلامي، ومن هنا فإنا نقول: إن التاريخ ‏المكتوب ما هو إلاّ صورة لِمَا أراده الحُكّام؛ وعليه لا يمكننا في مقام التحقيق والتمحيص القبول بكل ما هو مكتوب، بل يجب الرجوع إلى المصادر الخاصة واستنطاق الآيات الكريمة لمعرفة الحق من الباطل في تلك الحوادث التاريخية. ويرى أحد الباحثين طرح منهجية جديدة في دراسة التاريخ؛ وهي أن مراجعة القرآن الكريم - الذي يعتبر كتاب تاريخ وسيرة لحياة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله - والتأمّل في الترتيب التاريخي لنزول الآيات الكريمة وملاحظة سياقها يعطينا صورة كاملة للسيرة النبوية، كما يجب مقارنة الروايات المختلفة ودفع ما بينها من تعارض حتّى نستنتج رواية تاريخية مقبولة عقلاً ونقلاً. بعد ذلك نقول:

أولاً: كان أهم ما استند عليه المستدِل هو غزوة أحد، وما قام به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الاستشارة والنزول عند رغبة القوم وإنْ كان مخالفاً لِمَا يراه، وخصوصاً أن آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) قد نزلت في هذه الواقعة؛ فلذا يجب التفصيل في بيان هذه الواقعة؛ فنقول:

إنّه لمَّا سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بخروج قريش قال للمسلمين: (إني قد رأيت - واللَّه - خيراً؛ رأيت بقراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأوَّلتها المدينة).

ثُم إنه استشار قومه في قتال المشركين، وكان رأي عبداللَّه بن أُبي بن سلول مع رأي النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو البقاء في المدينة. وقال له: يارسول اللَّه، أقم بالمدينة لا تخرج

١٤٩

إليهم، فواللَّه ما خرجنا منها إلى عدوٍ لنا قط إلاّ أصاب منا، ولا دخلها علينا أحد إلاّ أصبنا منه، فدعهم يارسول اللَّه، فإن أقاموا بشرٍّ، فحبس، وإن دخلوا، قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا، رجعوا خائبين كما جاءوا. وقال رجل ممَّن أكرمه اللَّه بالشهادة يوم أُحد، وغيره ممَّن كان قد فاته يوم بدر: يارسول اللَّه، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنّا وضعفنا.

فلم يزل الناس برسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله - الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم - حتّى دخل بيته ولبس لامته، ثُم خرج عليهم، وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم، قالوا: يارسول اللَّه، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد (صلى اللَّه عليك)، فقال الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل). فخرج النبي في ألفٍ من أصحابه حتَّى إذا مشوا مسافة، رجع عنه عبداللَّه بن أُبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني (1) .

هذا هو التقرير الرسمي لِمَا جرى في حادثة الاستشارة في غزوة أُحد. وتشير مصادر أخرى - كما في الكامل في التاريخ لإبن كثير في (3 / 23) - بما يلي:

وأبى كثير من الناس إلاّ الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول اللَّه ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم، كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر. وعامة مَن أشار إليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة.

ويدل ما ذكره ابن كثير على أنّ كبار الصحابة كانوا يرون رأيه، والشباب المتحمِّس هو الذي أصر على الخروج.

إذن فالآية وردت في هذه الغزوة، وقد طبَّقها الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث استشار قومه،

____________________

(1) راجع: ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص63، و ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص12، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص14.

١٥٠

ونزل عند رغبتهم بالخروج مع كراهته لذلك.

هذا هو ما ادعُي في المقام.

وفي مقام التحقيق في هذه الحادثة التاريخية المهمة التي نزلت فيها آيات عديدة، يجب الرجوع إلى عرض هذه الحادثة على ما ورد من نصوص قرآنية ومقارنتها؛ ليحصل الغرض النهائي، وهو الوصول للحقائق الناصعة.

وعدم الأخذ بالأمر على عواهنه من دون غربلة وتحقيق، ومن خلال تشعُّبنا واستخدامنا لهذا المنهج؛ أعني العرض على القرآن الكريم ومقارنة الروايات المختلفة، نستنتج:

1 - أن رأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن البقاء في المدينة، بل الخروج منها.

2 - أن الصواب من الناحية الحربية والقتالية هو الخروج لحرب المشركين خارج المدينة.

3 - أن سبب هزيمة المسلمين في أُحد؛ لم يكن الخروج من المدينة - كما يظهر من بعض الكتّاب - بل هو تخلُّف المسلمين عن التوصيات العسكرية لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

4 - أن البقاء في المدينة كان رأي عبداللَّه بن أُبي‏ بن سلول، وهو رأس المنافقين والذي أثنى ثلث جيش المسلمين عن القتال مع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وافقه على ذلك أكابر الصحابة؛ وهم الذين كانوا على رأس عقد البيعة لأبي ‏بكر، وهم السبعة أصحاب الصحيفة، أثنين من الأنصار وخمسة من المهاجرين.

5 - أن القرآن امتدح القتال خارج المدينة وذمَّ البقاء داخلها.

6 - أن اللَّه عزَّ وجل قد وعد المسلمين بالنصر المؤزَّر قبل غزوة أُحد إذا همْ خرجوا للحرب.

أما القرائن التي يستفاد منها هذه المُدَّعَيات:

١٥١

القرينة الأولى: ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل قوله تعالى: ( إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَل ) (1) .

حيث يذكر أنها نزلت في عبداللَّه بن أُبي بن سلول، وأن أصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج والقعود عن نصرة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله . عن الصادق عليه‌السلام قال: (وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لمَّا رجعت من بدر إلى مكَّة، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر، قال أبو سفيان: يامعشر قريش، لا تدعوا النساء تبكي قتلاكم؛ فإن البكاء والدمعة إذا خرجت، أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد، ويشمت بنا محمد وأصحابه. فلمّا غزا رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أُحد، أذِن لنسائهم بعد ذلك بالبكاء، ولمّا أرادوا أن يغزوا رسولَ اللَّه في أُحد، ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها، وجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في 3000 فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنّهم ويحثنّهم على حرب الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخرج أبو سفيان هند بن عتبة، وخرجت معهم عمرة بنت علقمة. فلمّا بلغ رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك، جمع أصحابه، وأخبرهم أن اللَّه عزَّ وجل قد أخبره أن قريشاً قد تجمَّعت تريد المدينة، وحثَّ أصحابه على الجهاد والخروج، فقال عبداللَّه بن أُبي ‏بن سلول: يارسول اللَّه لا نخرج من المدينة حتّى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح، فما أرادنا قوم قط، فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا، وما خرجنا على عدوٍ لنا قط إلاّ كان لهم الظفر علينا. وقال سعد بن معاذ وغيره من الأُوس: يارسول اللَّه ما طمع فينا أُحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يطمعون بنا وأنت فينا، لا حتّى نخرج إليهم، فنقاتلهم؛ فمَن قُتل منا كان شهيداً، ومَن نجا كان في هدى. وقبل رسول اللَّه قوله).

____________________

(1) آل عمران: 121.

١٥٢

فيلاحظ من هذا النص:

ـ أن رأي بعض الأكابر كان هو الخروج كما يظهر من سعد بن معاذ، وهو من الأنصار.

ـ أن دعوى الأنصار كانت مستندة إلى دلائل على أن الخروج أفضل؛ منها:

أ - أن بقاءنا يُطمع فينا أعدائنا، ويضعف شوكة المسلمين من الجهة السياسية والعسكرية.

ب - أن ذلك سوف يحرمنا من الأراضي التي حول المدينة؛ حيث سوف يمنعونا من الاستفادة منها، مضافاً إلى طمع كثير من القبائل في هذه الأراضي.

جـ - أن عدَّتنا في بدر كانت أقل من ذلك وكان النصر حليفنا، فكيف في هذه المعركة التي تضاعف فيها عدد المسلمين وقويت شوكتهم؟!

هذا مضافاً إلى أن بعض كتب السير قد عبَّرت عن أصحاب الرأي بالخروج أنهم من ذوي البصائر والرأي، وعن أصحاب الرأي في المكث والبقاء في المدينة بالمتخاذلين، فكيف يكون الصواب هو المكث؟ وكيف يكون ذلك هو رأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

القرينة الثانية: وهي العمدة في الباب؛ حيث نستنطق الآيات الواردة في هذا الباب، وهي في سورة آل عمران (160 - 121).

وهذه الآيات الكريمة تتحدَّث عن الواقعة بنحو مفصَّل، وسوف نورد أهم النقاط الواردة حسب ترتيبها:

1 - ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) حيث أن اللَّه عزَّ وجل يذكّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما خرج يهيِّئ أماكن القتال ومواضع الرماة والفرسان في غزوة أحد، فهذا مدح لِمَا فعله النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الخروج للقتال وتحريضه للمؤمنين على ذلك، وفي ذيلها يشير الباري عزَّ وجل إلى أنه سميع

١٥٣

لأقوالكم، وعليم بنيَّات ما ذكره المسلمون في المدينة من البقاء والخروج عليهم، ويعلم المخلص من المتخاذل.

2 - ( إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وقد ورد في تفسيرها أن المقصود بهذه الطائفة إمَّا عبداللَّه بن أُبي بن سلول وأصحابه وقومه، وإمَّا بنو سلمة من الخزرج وبنو الحارث من الأوس؛ أرادا الرجوع إلى المدينة مع ابن سلول إلاّ أن اللَّه عزَّوجل أثنى ذلك عن قلوبهما.

وعلى كل حال... فالآية تذم المتخاذل والمتراجع إلى المدينة، فكيف يُدّعى أن البقاء في المدينة هو الصائب؟!

3 - ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏ء ( 123 ) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةٍ مُنزَلِينَ.. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) ، ففي هذه الآيات تذكير للرسول بما جرى يوم بدر حينما خرج لمحاربة الكفار - وكانوا قلَّة - ومع ذلك انتصروا ودحروا الكفار؛ وذلك بالإمداد الغيبي، وبالملائكة الذين كانوا يقاتلون ويدخلون في قلوب الكفار الرعب.

فهذه الآيات وإن كانت نازلة بعد غزوة أحد إلا أنها تعكس الموقف الذي جرى قبل الغزوة، وتخاذل بعض المسلمين، وتذكير الرسول لهؤلاء أن الخروج للقتال هو الأفضل؛ حيث إن الإمداد الإلهي حاصل بلا شك كما حصل في غزوة بدر، فما كان البعض يُصرُّ عليه من ضرورة البقاء في المدينة؛ لأنه أحفظ للأنفس وأمنع، لا داعي له؛ إذ أن المدد الإلهي متيقن، واللَّه يَعِدُ رسوله بالنصر في حال الخروج لمقاتلة الكفار.

ثُم تتعرَّض الآيات (138 - 129) إلى مواضيع أجنبية عن البحث، ويعود إلى محل الكلام في الآية 139.

١٥٤

4 - ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) .

وفي هذه الآية بيان للأمر لمّا تراجع المسلمون عن مواقعهم العسكرية التي أبانها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم، فسيطر الكفَّار على ساحة المعركة، فحثَّهم على الصبر وعدم الضعف عن الجهاد؛ إذ مع هذه الخسارة المؤقتة، أنتم الأعلون، وإن كنتم قد أُصبتم، فقد أصاب الكفَّار في بدر أكثر ممَّا أُصبتم به ألان، ويذكر سنَّة من سنن اللَّه في الكون؛ وهي أنّ الأيام يصرّفها بين الناس، فتارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء.

5 - ثُم يبيِّن الحِكَم والمصالح التي تظهر من تلك المداولة والفوز والخسارة؛ فإنها امتحان للمسلمين ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ء ( 141 ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) فالحكمة واضحة والابتلاء ظاهر؛ فليس جميع المسلمين في مرتبة واحدة من الإيمان والاعتقاد، فيجب تمحيصهم وابتلاءهم بشتَّى صنوف الاختبار. وإذا ما انتصر الظالمون يوماً، فهذا مؤقَّت؛ ولا يدل على حب اللَّه لهم، بل هو امتحان وابتلاء للمؤمنين، ودخول الجنة ليس بالإيمان اللفظي، بل بالعمل والجهاد والصبر.

فما حصل من تضعضع في صفوف المسلمين، يجابهه القرآن ويرفعه ويذكِّرهم ( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) . وقد ورد أن المؤمنين عندما أخبرهم اللَّه تعالى بمنزلة شهداء بدر، قالوا: اللَّهُم أرنا قتالاً نستشهد فيه. وقد نقلت كتب السير بعض مواقف هؤلاء الثابتين والمشتاقين إلى لقاء اللَّه.

5 - ( وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .

وهذا هو الامتحان الأهم؛ فبعد أن سيطر الكفَّار على ساحة المعركة، لأسباب سوف تشير إليها الآيات القادمة، ولم يبق مع الرسول الأكرم إلاّ الخُلَّص؛ مثل أمير

١٥٥

المؤمنين وأبو دجانة سمَّاك بن خرشة، وأُشيع بأن الرسول قد قُتل، وهنا أنقلب عدد من المسلمين ورجعوا.

وكان من المنقلبين بعض الصحابة كما تشير إليه رواية الطبري (1) ، قال: انتهى أنس بن النضر - عمُّ أنس بن مالك - إلى عمر بن الخطَّاب وطلحة بن عبيد اللَّه في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل محمد رسول اللَّه، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، فموتوا على ما مات عليه رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثُم استقبل القوم، فقاتل حتّى قُتل.

وفشا في الناس أن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قُتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبداللَّه بن أُبي؛ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان. يا قوم، إن محمداً قد قُتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم، فيقتلوكم) (2) .

ومنهم: عثمان بن عفَّان، وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان، وهما رجلان من الأنصار؛ فقد فرُّوا حتّى بلغوا الجلَعب، جبلاً بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً (3) ومَن أراد المزيد فليراجع: (الصحيح من سيرة الرسول الأعظم/ ج2 / ص 240 - 250).

فالآية الكريمة تصف فرقتان من المسلمين:

أحدهما: المنقلبة.

والأخرى: الثابتة مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد وصف اللَّه عزَّ وجل الأولى أنها لا تضر اللَّه شيئاً، بل الضرر على أنفسهم. أمَّا الثانية، فمنهم الشاكرون الذين سيجزيهم اللَّه.

وفي الآيات التالية يؤكِّد على ذلك، ويكرِّر الباري تعالى ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) . ويستمر القرآن في وصف الفئة التي ثبتت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قول الحق، وأنه لا يصيبهم

____________________

(1) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص12.

(2) المصدر، ج2، ص201.

(3) المصدر، ج2، ص21.

١٥٦

الضعف والحزن والوهن، ولا يقعدوا عن الجهاد.

6 - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَان ) .

فهو نهي للمسلمين عن اتباع الكفار الذين استغلوا ما أُشيع عن موت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا للمسلمين: ارجعوا إلى إخوانكم، وارجعوا إلى دينهم، فاللَّه هو الناصر، وهو المؤيِّد والمعز.

وقد سيطرة المشركين على المعركة إلا أن اللَّه قد ألقى في قلوبهم الذعر والخوف، فعادوا إلى مكة.

7 - ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم ) ؛ فهذا يدل على وعد سابق من اللَّه لرسوله بالنصر، وبالفعل، فقد تحقَّق هذا النصر في بداية المعركة، وقُتل عدد كبير من المشركين ( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ) أي ملتم إلى الغنيمة وتركتم مواقعكم وخالفتم أوامر الرسول، وكان الرسول الأكرم قد نبَّـهَّهُم وأمرهم عند بداية المعركة، فقال للرماة: (لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا،

فلا تغيثونا) (1) ؛ يجب عليكم الثبات في مواقعكم، لكنهم شغلوا أنفسهم بجمع الغنائم، ( وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) ؛ وهم الثابتون: عبداللَّه بن جبير ومَن ثبت معه من الرماة الذين بقوا في مواقعهم حتّى قتلوا. ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) تفضُّلا، ( وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .

فالآيات واضحة في بيان سبب الهزيمة، ولا مجال حينئذٍ للاجتهاد بأنّ سبب الهزيمة هو الخروج من المدينة.

____________________

(1) تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص14.

١٥٧

8 - ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى مَا فَاتَكُمْ ) .

والآية تستمر في بيان حال المسلمين بعد سماعهم لشائعة موت الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا هم قد همّوا بالفرار والرسول يناديهم؛ يقول: (إليّ عباد اللَّه، ارجعوا أنا رسول اللَّه، إليّ أين تفرُّون عن اللَّه وعن رسوله، مَن يكرُّ فله الجنة). ثُم تبيَّن صفة هؤلاء الذين ( يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ) ، وهو الاعتقاد بأن اللَّه لا قدرة له، وأن يد اللَّه مغلولة، ولابد من الاستعانة باللَّات والْعُزَّى وهبل؛ فهذا هو اعتقاد الجاهلية.

( قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ ) وهو مالك كل شي‏ء.

فيتَّضح أن اللَّه قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:

1 - عصيان الرماة لأوامر الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركهم لمواقعهم.

2 - الفرار عندما أُشيع موت الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

3 - ظن البعض باللَّه ظنَّ الجاهلية؛ ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلا علوَّاً كبيراً.

9 - ثُم يتعرَّض الحق تعالى لِمَا يقولون ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي‏ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرَّروا قولهم: أن لو كنا في المدينة، لكنّا أمنع وأحصن. متناسين تقدير اللَّه وقضاءه الذي لا رادَّ له حتّى لو كان في أمنع الحصون؛ فهذا ذمٌّ لهم على تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ

١٥٨

وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

فتبين خطأ هذا التفكير وأن سبب الهزيمة ليس هو الخروج من المدينة، بل العصيان. والموت والأجل أمر محتوم وقضاء اللَّه.

وبعد هذا التوبيخ تبيِّن الآيات أن مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الإلهي، ثُم في هذا السياق ترد آية ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) ؛ في سياق بيان صفات النبي التي تحلَّى بها من حسن الخلق ولين الجانب.

10 - تعود الآيات للتذكير بين واقعة أُحد وواقعة بدر.

( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ) حيث نسب البعض إلى النبي هذه الخيانة في المغنم ( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

( أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَ ) وذلك في غزوة بدر؛ حيث إنكم قد أصبتم الكفار بعض ما أصابوكم ألان ( قُلْتُمْ أَنَّى هذا ) أي مِن أين أصابنا هذا؟ وظننتم باللَّه ظنَّ الجاهلية ( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ) أي بسبب فعلكم وعصيانكم ( إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ‏ء166 وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ... )

ثُم تبيِّن الآيات صفات المؤمنين؛ من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف، ثُم يذكر صفة أخرى لها صلة بما تقدَّم ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

١٥٩

فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة أخرى بأمر اللَّه لرسوله بالخروج في أثر القوم، وأن لا يخرج معه إلا مَن به جراحة، فنادى منادٍ: يامعشر المهاجرين والأنصار، مَن كانت به جراحة فليخرج به، ومَن لم يكن به جراحة فليقم، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حمراء الأسد - وقريش قد نزلت

الروحاء - قال عكرمة بن أبي‏ جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير على المدينة؛ قد قتلنا سراتهم وكبشهم؛ يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة، فسألوه الخبر، فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الأسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا إلى مكَّة، وسمِّيت بغزوة بدر الصغرى.

وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة(174 - 121) خير شاهد على ما جرى ودار في هذه الغزوة التي تدل على حنكة الرسول الأكرم في استخبار نيَّات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون إليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل، وأن المنافقين أرادوا الإيقاع بالمسلمين من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل اللَّه.

وأخيراً نشير إلى رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: (أمَا إن اللَّه ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها اللَّه رحمة لأمتي، مَن استشارهم لم يعدم رشداً، ومَن تركها لم يُعدم غيَّا) (1) .

ثانياً: غزوة الخندق؛ فقد استُدل بها على الشورى وإلزاميَّـتها في موطنين؛ الأول:

____________________

(1) الشورى بين النظرية والتطبيق، ص 27 - 30.

١٦٠