الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127484
تحميل: 7075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127484 / تحميل: 7075
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في حفر الخندق؛ حيث نزل الرسول عند رأي سلمان الفارسي، والعجيب اعتبار ذلك من الشورى بالمعنى الذي اصطلحوا عليه؛ حيث إنه رأيُ فردٍ واحد وليس أكثرية.

مضافاً إلى أنه دليل على أن الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يختار دائماً الرأي الصائب وإن قلّ قائله. ومنه يتَّضح الجواب عن سائر الموارد التي استشهد بها لمتابعة الرسول لرأي الأكثرية.

الثاني: في مداولاته مع عيينة بن حصين والحارث بن عوف؛ لاستجلابهما ومساومتهما على تمر المدينة، ورفض سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ذلك، ونزوله عند رأيهما.

والجواب: أنه بعيد عمَّا يدَّعونه من ولاية الشورى، بل أن الرسول الأكرم إنما أراد مساومة بني غطفان من أجل التخفيف عن أهل المدينة وإزالة الحصار، شأنه شأن أي قائد يريد فك الحصار عن قومه، ولكنَّه عندما رأى عزيمة وثبات الأوس والخزرج، لم يجد أيَّ داعٍ إلى مثل هذه المساومة؛ فالموضوع قد تبدَّل والأمر بعيد عن ولاية الشورى.

الوجه السابع:

أنه توجد حوادث تاريخية تُثبت أن الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله استشار أصحابه ولم يتَّبع رأي الأكثرية كما في:

ـ صلح الحديبية

حيث تَنقل كتب السير أن كثيراً من المسلمين كانوا على خلاف الصلح، بينما أصرَّ رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله على الصلح مع تعنُّت الكفار ورفضهم ذكر اسم اللَّه تعالى في بداية الصلح، وإصرارهم على كتابة اسم النبي مع أبيه دون عبارة (رسول اللَّه)، ومع ذلك كان يرى أن في الصلح خير المسلمين، مع أن الصلح لم يكن أمراً سماوياً

١٦١

بمصطلح الوحي حتّى تُمنع المعارضة، وإن كان أصل التوجُّه للعمرة أمراً إلهيَّاً. أمَّا الصلح وما تضمَّنه من بنود، فإنه من تدبير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ـ تأمير زيد بن حارثة في وقعة مؤتة.

ويدل عليها ما ذكره الرسول الأكرم عند تأمير أسامة؛ حيث خالفه عدد من المسلمين، فقال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إن طعنتم في تأميري أسامة، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل).

ففيه إشارة إلى مخالفة عدد منهم لتأمير زيد وأبنه أسامة، فهذا يُظهر أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يرى نفسه مُلزَماً بالشورى.

الوجه الثامن:

إن آية: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) مكِّية كما ينص عليه المفسِّرون. ومن المعلوم أنه لم تكن للمسلمين في مكة دولة أو شأناً عاماً بالمعنى الذي يُحتاج فيه إلى اعتماد الشورى كتنظيم يستند إليه المسلمون، فاستفادة كون الولاية للشورى مع عدم وجود مورد لها في ذلك الوقت، أمر بعيد عن الصواب، خصوصاً إذا لاحظنا أن الآية تعدِّد الصفات الفعلية للمسلمين؛ فهذا يدل على أن هذه الصفة فعلية أيضاً. مضافاً إلى أن حاكمية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك الوقت بجعل إلهي، وليست نابعة من تولية المسلمين له، وهذا أمر لم يختلف فيه أحد. فهذه الأمور تدلِّل على أن المراد من الشورى هو نفس المفاد اللُّغوي؛ وهو المداولة الفكرية، وأن من صفات المؤمن الاستفادة من خبرات الآخرين، وعدم الاستبداد برأيه ولو كان في مسألة خاصة.

إذن فما يذهب إليه البعض في الاستدلال بهذه الآية على أحد صياغات نظرية الشورى، مجانبة للحق.

١٦٢

الوجه التاسع:

مضمون ما ذكره الشهيد الصدر؛ وحاصله:

أن نظرية الشورى بالمصطلح المزعوم تعبِّر عن نظامٍ حديث في تولي السلطة السياسية في المجتمع، وهو سلطة الجماعة. وهو نظام نشأ في القرنين 19 و20 الميلاديين وكان المجتمع الغربي مَهْد هذا النظام ومازال حتّى الآن يتطوَّر بين آونة وأخرى وتتعدَّد صياغاته، ويبقى منه الإطار العام فقط؛ وهو أن الجماعة تحكم نفسها بنفسها. أما كيفية هذا الحكم؟ وكيف يتم تداول السلطة؟ وكيف يتم التشريع؟ وأسئلة كثيرة...، فقد اختُلف الجواب عنها.

وقد تصل أشكال النظم التي تطبِّق هذا المبدأ إلى ما يزيد على سبعة أشكال، تتمركز في دول العالم الجديد؛ أوروبا وأمريكا. وما تعدد هذه الأشكال إلاّ دليل على ما يعثر عليه العقل البشري من سلبيات وثغرات أثناء التطبيق.

وبناءاً عليه، فإنه عند نزول القرآن لم يأنس المجتمع المكي - بل لم يعرف - مثل هذا النظام، على العكس؛ كان النظام السائد هو النظام الفردي، حيث نجد أن القبيلة هي المجتمع الخاص، وسلطة رئيس القبيلة هي السلطة المطلقة. ومن غير المعقول أن يقوم الإسلام بتشريع نظام يخالف فيه تماماً النظام السائد آنذاك، ولا يبيِّن فيه سوى آية أو آيتين تثبتان الإطار العام، بل تثبت العنوان فقط. أمَّا المعنوَن والطريقة والكيفية، فلا نرى لها أثراً لا في القرآن ولا في السنة. فيُعلم من ذلك - بل يجزم - بأن ما ورد في الآيتين الكريمتين لم يكن طرحاً لنظام جديد؛ وإنما أرادت الآيتين أن ترشد الإنسان المؤمن إلى طريق جديدة في التوطئة ومقدمات التصميم والحزم، ويقع في حيز المداولة الفكرية واستجماع المعلومات.

وقد حاول البعض الإجابة عن هذا الأمر قائلاً:

إن الدين الإسلامي حينما يصوغ قاعدة، فإنه يؤطِّرها بعنوانها العام، تاركاً

١٦٣

التفاصيل والجزئيات؛ لكي يتم استنباطها بِما يتوافق مع زمان مسار التطبيق. والسر في هذه الطريقة أن الإسلام لو جعل التفاصيل الجزئية، فإن القاعدة سوف تكون موافقة لتلك التفاصيل ولشرائط ذلك الزمان، ولا تستطيع مواكبة كل الإعصار.

ولكن هذه الإجابة مدفوعة؛ من جهة أن هذه القاعدة التي ذكرها وإن كانت مقبولة في بعض القواعد إلاّ أن الشارع لم يكتف فيها أيضاً بذكر العنوان فقط، بل كان يجعل أسساً وضوابط خاصة تمثِّل الإطار العام للقاعدة التي يريد تطبيقها. أما أن يكتفي بذكر العنوان فقط، فهذا ممَّا لا نظير له في الفقه الإسلامي، بل لا نظير له في القانون الوضعي، لا سيما في مثل هذه المسألة الخطيرة التي هي دعامة كل المجتمع والأفراد.

وما نحن بإزائه في مسألة الشورى بالمعنى المصطلح المزعوم، من هذا القبيل، بل إن القول بأن الشارع قد جعل نظرية الشورى؛ يعني أن الشارع - مع حكمته - قد جعل المجتمع يتخبَّط في عالم من العشوائية لا تتناسب مع بدء نشأته للدولة الإسلامية التي يريد لها البقاء حتّى قيام الساعة.

فمن البعيد عن الإنصاف القول أن الشارع يترك تابعيه من دون تأهيل، ومن دون أن يُعبّد لهم طريق آخر للسلطة والقيادة؛ وذلك من خلال نظرية النص، لكن لا بالمعنى المألوف من رئاسة المجتمع القبلي الاستبدادي، بل من خلال التنصيص على الفرد الأكمل على الإطلاق والأشبه بالنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو حكم فردي يقوم على أساس إشراك الناس في مهمَّات الأمور من دون أن يكون لهم السلطة والولاية، بل الرقابة والمتابعة.

الوجه العاشر:

من الأدلة التاريخية الثابتة والتي تدلِّل على عدم دلالة الآيتين على ولاية

١٦٤

الشورى هي طريقة اختيار الخليفة الأول والثاني والثالث.

فما جرى في سقيفة بني ساعدة؛ واحتجاج أبي بكر بالقرابة من النبي الأكرم، يوضح أن هذه الجهة تعتمد على أُسس قبلية جاهلية أزالها الإسلام وحاربها إلاّ أنّهم أعادوا استخدامها، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان قد استعد له تكتّل السقيفة؛ من حشد القبائل المحيطة بالمدينة وإيجاد جوٍ من الإرهاب بحيث لا يمكن أنْ يجابههم أحد.

وهكذا طريقة انتخاب الثاني؛ فإنها كانت بتعيين الأول. أما الآن، وإثر وقْع ما جرى، فترتفع أصوات لتأول فعله بأنه قد استشار الأمة، وأنها أوكلته في الاختيار؛ بدليل البيعة التي لا تدل على الشورى المصطلحة بأيِّ نحو. كما سوف نشير فيما بعد إلى مدى دلالة البيعة، فضلاً عن البيعة التي كانت تؤخذ فرضاً ورهبةً، ولا يحق لأحد الاعتراض، فأين هي الأكثرية؟ وأين هي سلطة وولاية الشورى؟

فمن الجهل أن نعتبر المنحى القبلي البدائي الذي ساد هذه الخلافات، هو تنظير لنظام عصري؛ وهو نظام سلطة الجماعة.

الوجه الحادي عشر:

مع التنزُّل عن جميع الإشكالات والوجوه السابقة المقتضية لأجنبية دلالة الآيتين عن ولاية الشورى، فإنها سوف تقع في طرف المعارضة مع آيات كثيرة تبيِّن أن الولاية في الأصل للَّه عزوجل، ثُم للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن بعده لطائفة خاصة من الأمة؛ وهم أولوا الأمر الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، وهي آيات كثيرة تامة الدلالة. فهذا إما أن نعتبره تخصيص لـ ( أَمْرُهُمْ ) ؛ أي أن الولاية والقضاء والتشريع ليس من شؤون المسلمين التي تخضع للشورى بالمعنى المزعوم. وإمَّا أن نقول بتقديم الطائفة الأخرى على آيتي الشورى.

١٦٥

أمَّا طوائف الروايات التي استُدل بها على نظرية الشورى - وعمدتها ما ورد عن أمير المؤمنين في بعض احتجاجاته؛ حيث يستند إلى الشورى واختيار الأمة - فإننا نذكر ثلاث نقاط مهمة قبل الدخول في تفصيلاتها وأجوبتها:

1 - أن ما يظهر من كلام الإمام مؤيِّداً به الشورى، ومعتبِراً أن سلطة الجماعة هي ما أسَّسه الإسلام في الفقه السياسي، هو من باب التنزُّل والجدل مع الخصم وإلزامه بما التزم به من نظرية الشورى؛ حيث إن الإمام كان يواجه - في كل هذه الموارد - مَن يتشبث بالشورى، فهو عليه‌السلام يبيِّن أحقيَّته حتّى على مذهب الشورى.

2 - أن المستدِل يأخذ بقسم خاص وقليل من كلام الإمام عليه‌السلام بينما نجده يترك القسم الأوفر من كلامه عليه‌السلام الذي يبيِّن أحقيَّـته بموجب النص القاطع. ففي كثير من خطبه يبدأ عليه‌السلام ببيان أحقيته ووجود النص على إمامته، ثُم يتعرَّض بعد ذلك لإثبات أحقيته على فرض التنزل وغض النظر عن النص، فنلاحظ المستدل يقتطع جزءاً من كلامه ويأخذ بالذيل تاركاً الصدر.

فمع قطع النظر عن هذا التقطيع الذي يؤدي بدلالة السياق، نلاحظ أنه يجب إعمال المعارضة بين كلا الطائفتين التي تُنسب إليه الاستدلال بالشورى والتي يتمسّك بها بدلالة النص، لكن المستدل حتّى هذه المعارضة نجده يغفل عنها مع كثرتها وأن الإمام ما كان يترك أي فرصة إلاّ ويبيِّن فيها ذلك.

3 - من الثابت تاريخياً - والذي لا مجال لإنكاره - أن الإمام عليه‌السلام امتنع عن البيعة لأبي بكر حتّى وفاة الصديقة الزهراء، وأنه لم يبايع إلاّ مُكرهاً، وهذا يدل على أنه لا يقبل شورى بني ساعدة كأساس لانتخاب الخليفة، فكيف يُسند إليه القول بنظرية الشورى مع هذه المخالفة الشديدة؟!

ومن المصادر التي ذكرت عدم بيعة الإمام للأول:

ـ مسلم في صحيحه/ كتاب الجهاد/ ب 1 / 72 و 5 / 153.

ـ الاستيعاب وأسد

١٦٦

الغابة في ترجمة أبي بكر

ـ كنز العمال 3 / 140

ـ أنساب الأشراف 1 / 586

ـ تاريخ ابن عسكر 3 / 174

ـ مسند بن حنبل 1 / 55

ـ فتح الباري في شرح صحيحة البخاري 5 / 143

ـ سيرة ابن هشام 4 / 338

ـ الإمامة والسياسة 1 / 12

مضافاً إلى المصادر الخاصة التي تطبَّق على هذا الأمر:

ـ في الخطبة (2): (هم موضع سرِّه، ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائص...) ثُم يصف آخرين أعداء آل محمد...: (رزعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور، لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يُسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا؛ هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفي‏ء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى متنقله).

وهذه الخطبة كانت أثناء انصرافه من صِفِّين؛ ففيها تصريح أن الحق كان مغتصباً، وأنه ألان قد عاد إلى أهله؛ فهو تنديد بما كان قد جرى سابقاً ممَّا يسمَّى بالشورى.

ـ وفي الشقشقية: (فياللَّه وللشورى). فإذا كان هذا تعبيره عن الشورى بالمعنى المصطلح المزعوم وتقريعه لها، فكيف يكون قد أقرَّ بالشورى؟! فالشورى في نظر الإمام عليه‌السلام استصواب الرأي في الأمر المجهول الحال (ومتى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتّى صرت أُقرن إلى هذه النظائر). أمَّا إذا كان الأمر بيّن، ومعالمه واضحة لا غبار عليها، فلا حاجة إلى استصواب الرأي، وما بعد الحق إلاّ الضلال.

ـ وفي خطبته‏ عليه‌السلام : (بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم ذروة العلياء، وبنا أفجرتم عن السرار...)(خطبة 4).

فبأي مناسبة يتعرَّض عليه‌السلام لحقِّه وحقوق آله المغصوبة؟

ـ خطبة (87): (فأين تذهبون؟ وأنى تؤفكون؟ والأعلام قائمة، والآيات واضحة، والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم؟ وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم؟ وهم أزمّة الحق، وهم أعلام

١٦٧

الدين وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورود الهيم العطاش... ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأنزل فيكم الثقل الأصغر؟ (إشارة إلى حديث الثقلين) قد ركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام.

انظروا أهل بيت نبيكم، فألزموا سمتهم واتبعوا أثرهم؛ فلن يخرجوكم عن هدى ولن يعيدوكم في ردى، فإن بعدوا، فابعدوا، وإن نهضوا، فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا، لقد رأيت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أرى أحداً يشبههم منكم).

ـ خطبة(100): (ألا إن مثل أل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كمثل نجوم السماء؛ إذا هوى نجم، طلع نجم. فكأنكم قد تكاملت من اللَّه فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون).

ـ خطبة(74) حينما عزموا البيعة لعثمان: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، وواللَّه لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة).

ـ خطبة(109): (نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبُّنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة).

فهنا يُظهر الإمام وجود صنفان في المجتمع الإسلامي، وهذان تياران ليسا من جهة الدين فقط، بل تياران سياسيَّان ودينيَّان.

ـ خطبة(152) في بيان صفات اللَّه جلَّ جلاله، وصفات أئمة الدين:

(قد طلع طالع، ولمع لامع، ولاح لائح، واعتدل مائل، واستبدل اللَّه بقوم قوماً، وانتظرنا الغير انتظار المجدب، وأن الأئمة قوام اللَّه على خلقه، وعرفائه على عباده، ولا يدخل الجنة إلاّ مَن عرفهم وعرفوه). وهذا معنى: (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

ـ الخطبة (154): في فضائل أهل البيت‏ عليهم‌السلام :

(فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن؛ إنْ نطقوا صدقوا، وإن سكتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله، وليحضر عقله، وليكن من أبناء الآخرة، فإن منها قدم وإليها ينقلب).

ففيها دلالة على العصمة وهي محصورة بهم.

١٦٨

ـ الخطبة (172): (الحمد للَّه الذي لا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً. وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم واللَّه لأحرص وأبعد، وأنا أخصُّ وأقرب. وإنما طلبت حقاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين، هبّ كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني. اللَّهُم إني استعديك على قريش ومَن أعانهم؛ فإنهم قطعوا رحمي، وصغَّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي على أمرٍ هو لي، ثُم قالوا: ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه...)

فهل يوجد أصرح من هذا البيان على أحقيَّـته، ورفضه للشورى وما يسمَّى بسلطة الجماعة؟!

خطبة (178): (أيُّها الناس، إن الدنيا تغر المؤمّل لها والمخلِّد لها، ولا تَنْفَسُ مَن نافس فيها، وتغلب مَن غلب عليها. وأيم اللَّه، ما كان قوم قط في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها (...) وإني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترةٍ (والفترة في الاصطلاح المدة الفاصلة بين رسول ورسول بعده) وقد كانت أمور مضت مِلتم فيها ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين، ولإنْ رُدّ عليكم أمركم، إنكم سعداء، وما عليَّ إلا الجهد ولو أشاء أن أقول لقُلت: عفى اللَّه عمَّا سلف).

وانظر أيضاً إلى كتابه (62) لأهل مصر مع مالك الأشتر، وكتابه (28) إلى معاوية. وفيه يقول: (فإسلامنا قد سمع، وجاهليَّتنا لا ترفع، وكتاب اللَّه يجمع لنا وما شذَّ عنا، وهو قوله تعالى: ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ).

وما ورد في كتاب سليم بن قيس/ ص 182 في جواب كتاب معاوية؛ حيث طلب منه قتلة عثمان ليقتلهم، قال لمَن حمل كتاب معاوية: (إن عثمان بن عفَّان لا يعدوا أن يكون أحد رجلين؛ إما هو إمام هدى حرام الدم، وواجب النصرة لا تحلُّ معصيته، ولا يسع الأمة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم، لا تحلُّ ولايته ولا نصرته، فلا يخلو من إحدى خصلتين، والواجب في حكم اللَّه وحكم الإسلام على المسلمين، بعدما يموت إمامهم أو

١٦٩

يقتل، ضالاً أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملا، ولا يحدثوا حدثا، ولا يقدموا يداً ولا رجلا، ولا يبدؤا بشي‏ء، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة.... هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه: أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم، إن كانت الخيرة لهم، ويتابعوه ويطيعوه، وإن كانت الخيرة إلى اللَّه عزَّ وجل وإلى رسوله، فإن اللَّه قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار، ورسول اللَّه قد رضى لهم إماما، وأمرهم بطاعته واتباعه. وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان، وبايعني المهاجرون والأنصار بعدما تشاوروا بي ثلاثة أيام، وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا إمامتهم، ولى ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار؛ غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة، وإن بيعتي كانت بمشورة من العامة. فإن كان اللَّه جلّ اسمه جعل الاختيار إلى الأمة، وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم، واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار اللَّه ورسوله لهم، وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى، وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته، فقد تشاوروا فيّ واختاروني بإجماع منهم، وإن كان اللَّه عزَّ وجل الذي يختار، له الخيرة، فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي).

فهذه تدل على أن حجاجه بالشورى حجاج تنزيلي، وأن الشورى يجب أن تكون على ميزانٍ؛ والميزان هو الضوابط العقلية والشرعية، وليست سلطة الجماعة وأهواء الكثرة. وإنما تكون وظيفة الأمة في اكتشاف وجود هذه الصفات والضوابط في المختار، فليست الولاية والسلطة للشورى، بل هي استكشاف.

ففي هذه الرواية يبيِّن الإمام أن البيعة على نحوين: بيعة هدى، وبيعة ضلال. فالبيعة إذا كانت على الموازين، وكان الإمام واجداً للشرائط، تكون بيعة هدى، أمَّا إذا كانت على خلاف الضوابط، فإنما تكون بيعة ضلال. ونلاحظ أن البعض اقتطع من هذه الرواية جزءاً استدل به على الشورى تاركاً بقية الرواية التي توضح تمام موقف

١٧٠

الإمام عليه‌السلام .

وممَّا استدل به في المقام، ما ورد في شرح النهج للمعتزلي(ج41 / 7): أن طلحة والزبير قالا للإمام عليه‌السلام : أعطيناك بيعتنا على ألاّ تقضي الأمور ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كل أمر، ولا تستبد بذلك علينا. فقال‏ عليه‌السلام : (ولو وقع حكم ليس في كتاب اللَّه بيانه ولا في السنة برهانه، لشاورتكما).

وقد استُدل بها أيضاً على أن الشورى مشروعة في منطقة الفراغ التشريعي، حسبما يزعم من وجود ذلك الفراغ.

وهذا الاستدلال ممنوع.

بيان ذلك:

1 - أن لو تقيَّد الامتناع للامتناع؛ أي امتناع الجواب لامتناع الشرط، فالعبارة تقيِّد: أن مشاورتكما قد انتفت؛ لامتناع خلو الواقعة من حكم في كتاب اللَّه والسنة. والذي أوقع هذين الشخصين في هذه الملابسة هو أن الخلفاء السابقين على الإمام كانوا يستشيرون بعض الصحابة في بعض الأحكام، وفي كيفية إعمال المرجِّحات، أما الإمام، فلم يقم بهذا العمل؛ والسرُّ في ذلك أن الاعتقاد الحق هو أنه ما من شي‏ء يقرِّبكم إلى اللَّه إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شي‏ء يبعدكم عند اللَّه إلاّ وقد نهيتكم عنه. فالقاعدة أن لا تخلو واقعة من حكم للَّه، إلاّ أن هذا الحكم قد يخفى على العقول القاصرة غير المطلعة. أمّا مَن له إحاطة بأحكام اللَّه وسنة نبيه، ومَن عايش النبي في حلّه وترحاله، لا يخفى عليه حكم حتّى يحتاج فيه إلى مشاورة البعض. نعم، قد يكون للمشورة مجال في باب تطبيق الأحكام الكلية على مصاديقها، واختيار أفضل الأساليب في كيفية تطبيق الحكم الموجود، إلاّ أن هذا بعيد عن مرام القائل؛ إذ لا تكون الشورى مُنشئة للحكم حينئذ.

وممّا ذكره عليه‌السلام فيه، تعرضه لمَن كان قبله؛ حيث كثُر جهلهم بالأحكام الشرعية، وليست المسألة بالنسبة إليه عليه‌السلام من باب الاستبداد في شي‏ء.

١٧١

ـ وممَّا استُدل به أيضا، ما أشرنا إليه من محاولة توسُّط بعض القرّاء بين الإمام ومعاوية، والكتاب السادس في نهج البلاغة والجواب عنه، مضافاً إلى ما مضى، وإلى الأجوبة العامة، وأنه لم يرضَ بمَن بايعه الأنصار في سقيفة بني ساعدة: أنه اشترط لتحقق البيعة (فإن اجتمعوا وسمَّوه إماما). فإن الشرط المهم هو حصول الاجتماع المطلق، ولا أقل عدم الاعتراض، وهذا لم يحصل فيمن سبقه، أما معه عليه‌السلام ، فقد حصل ذلك الاجتماع، ومَن سكت، فإنه لم يعترض كعبداللَّه بن عمر وأبو موسى وسعد بن أبي وقَّاص. ففي هذا التعبير تعريض بمَن يشترط الأكثرية.

ـ وممّا استدل به قوله عليه‌السلام : (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحائكم، وأموركم شورى بينكم، فظهْر الأرض خير لكم من بطنها).

الظاهر أن هذا النص مقتطع من جواب الإمام عليه‌السلام المتقدِّم لكتاب معاوية، وقد قام الشريف الرضي بتقطيع بعض النصوص لمناسبتها لأبواب مختلفة.

مضافاً إلى أنه ذكر عنوانين (أمراؤكم خياركم) و(أموركم شورى بينكم)؛ فمورد الأمراء غير مورد الشورى، وهما من واديان يختلف أحدهما عن الأخر. وفي هذه العبارة أيضاً يرد البحث الذي ذكرناه في ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) ، وأن الإضافة لا تعني أن لهم الولاية والسلطة في كل شي‏ء، بل ما يضاف إليهم؛ فقد لا تكون لهم القابلية في بعض الصور للبحث في هذا الأمر، وهو خارج عن اختصاص الأمة. كما يرد فيها نفس البحث في لفظ الشورى، وقد ذكرنا أنها ندب وإرشاد إلى صياغة فكرية في كيفية الاسترشاد في الأمور المختلفة واستصوابها.

وممَّا استُدل به ما ورد في عيون أخبار الرضا عن الرضا عليه‌السلام عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن جاء يريد أن يفرِّق الجماعة، ويغصب الأمة أمرها، ويتولّى من غير مشورة، فاقتلوه؛ فإن اللَّه قد أذن بذلك)

وهذا الحديث لا يدل على مرادهم أيضاً؛ وذلك لأنه مهما كانت النظرية

١٧٢

المدَّعاة، فإن من الواجب على الأمة أن تقاوم إمام الضلال الذي يتولَّى أمورها غصباً بقوة السلاح. وفي هذا جوابٌ على أحد نظريات العامة التي أجازت تولّي السلطة بالسيف، فالغاصب مهدور الدم؛ حيث أنه قد غصب أعظم وأخطر الأمور في المجتمع الإسلامي، وهو ولاية الأمر.

وقد عنى عليه‌السلام بقوله: (من غير مشورة)، الغصب وعدم رضا الناس به، لا أنّ للشورى سلطة وولاية في هذا الأمر. و لا دلالة فيه على إرادة إعطاء الشورى سلطة وولاية؛ وذلك لأن نفي الشي‏ء لا يعني إثبات ما عداه، لاسيما إذا كان محتمِلاً لوجوه، لكنَّه ذكرها من باب الحِجاج مع القوم، والتعريض بسلطة بني العبّاس وغيرهم الذين تولّوا الأمور بالسيف والقوة والقهر.

ـ وممَّا استدل به على الشورى ما ورد عن الصادق‏ عليه‌السلام : (مَن فارق جماعة المسلمين قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) و(مَن فارق جماعة المسلمين، ونكث صفقة الإمام، جاء إلى اللَّه تعالى أجذم) أصول الكافي/ ج1 / ص405.

وما ورد في النهج/ خطبة (127): (والزموا السواد الأعظم؛ فإن يد اللَّه على الجماعة. وإيَّاكم والفُرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب).

ويتضح المقصود من هذه الروايات إذا عرفنا المقصود من الجماعة:

ففي رواية عن أبي ‏عبداللَّه عليه‌السلام : (سئل رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جماعة أمته؟ فقال جماعة أمتي أصل الحق وإن قلّوا).

وفي أخرى قيل: (يارسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما جماعة أمتك؟ قال: مَن كان على الحق وإن كانوا عشرة).

وفي رواية عن الإمام علي‏ عليه‌السلام : (الجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلا، والفُرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيرا).

١٧٣

وعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أن القليل من المؤمنين كثير) (1) .

وهذه الروايات واضحة الدلالة في كون المدار هو على الصواب والسداد للأمر بحسب الواقع، وعدم القيمة الموضوعية للكثرة بذاتها.

ـ وممَّا استدل به أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في فضائل الاستشارة والحثِّ عليها كما في كتاب الوسائل / كتاب الحج / أبواب أحكام العشرة / باب 26 - 21.

ويُلاحظ على الاستدلال:

أ - أنها واردة بعموم يشمل الأمور الفردية الشخصية التي ليس لها بُعد اجتماعي؛ حيث لا توجد سلطة للجماعة على الفرد، فيجب أن يكون معناها الوحداني العام هو الإراءة نحو: (مَن لا يستشر ندم) و(مَن استبد برأيه هلك، ومَن شاور الرجال شاركها في عقولها) و(ولا ظهير كالمشاورة) و(خاطر بنفسه من استغنى برأيه) فحينئذ الاستشارة هي إصابة الواقع والوصول إلى نتيجة صائبة، وليس فيها جهة تحكيم سلطة الجماعة أو إرادة خارج إرادة الفرد، بل هي تمد جهة التفكير الإنساني بالآراء الأخرى فتمكنه من استكشاف أصوب الآراء.

ب - أن الروايات المذكورة تورد صفاتٍ في المستشار؛ من الورع والعقل و(أن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) وأنها تارة تكون نافعة، وتارة ضارة. وإذا كانت بمعنى سلطة الجماعة، فأي معنى للضرر والنفع، فالحق أنها نمط من التفكير، وفي بعض الروايات يشترط أن يكون المستشار حراً متديناً.

فلا ارتباط بين هذه الشرائط مع الحقوق العامة، وإنما تريد الروايات بيان مَن له أهلية الاستضاءة بخبراته وتجاربه، وأن يكون رأيه الذي يدلي به خالصاً ومحضاً عن النزعات الأخرى. ولذا ورد (مَن استشار أخاه فلم ينعمه محض الرأي، سلب اللَّه عزَّوجل رأيه).

____________________

(1) بحار الأنوار، ج2، ص265، ح21، 22، 23، 26.

١٧٤

ـ وممَّا استُدل به أيضا: (إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمِّروا أحدهم)... ونحوه ممَّا ورد في مصادر غير الإمامية كسنن أبي داود 2 / 34.

وهذه الروايات لم يقل فقهاؤكم فيها بالوجوب، بل قالوا: إنها من باب الندب، فينظر إلى أرجح القوم عقلاً فيؤمِّره ويستهدي برأيه. وفي كتاب الوثائق السياسية (ص 120) في معاهدته مع أهل مصر: (وأن ليس عليكم أمير إلاّ من أنفسكم أو من أهل رسول اللَّه)‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وواضح منها أن الرسول قد خوّلهم في ذلك الظرف الزماني والجغرافي المكاني على أن يكون الأمر بيدهم في اتخاذ أمير عليهم، ومفاده يدلِّل على أن الأمر لا يكون بيدهم ابتداءً، بل بتخويل من الرسول.

ويلاحظ في هذه الطوائف أنها وردت بصيغ الاستشارة (الاستفعال) والمشورة (مفعلة) والشورى (فعلى)، وهي كلها بمعنى واحد؛ لاتحاد المادة.

وفي نهاية هذه الروايات نذكر روايات صحيحة تؤكِّد ما ذكرناه من معنى الاستشارة:

1 - صحيحة معمر بن خلّاد قال: هلك مولى لأبي ‏الحسن الرضا عليه‌السلام يقال له سعد، فقال: (أشرْ عليّ برجل له فضل وأمانة)، فقلت: أنا أشير عليك؟! فقال - شبه المغضب ـ: (إن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يستشير أصحابه ثُم يعزم على ما يريد).

2 - صحيحة الفضيل بن يسار قال: استشارني أبوعبداللَّه عليه‌السلام في أمر، فقلت: أصلحك اللَّه، مثلي يشير على مثلك؟! قال: (نعم، إذا استشرتك).

3 - في موثَّقة الحسن بن جهم قال: كنَّا عند أبي‏ الحسن الرضا عليه‌السلام ، فذكر أباه‏ عليه‌السلام فقال: (إن عقله لا تُوازن به العقول، وربَّما شاور الأسود من سودانه)، فقيل له: تشاور مثل هذا؟! فقال: (إن اللَّه تبارك وتعالى ربَّما فتح على لسانه). قال: فكانوا ربما أشاروا عليه بالشي‏ء، فيعمل به من الضيعة والبستان.

١٧٥

4 - وفي النهج أن الإمام عليه‌السلام قال لابن عبَّاس - وقد أشار عليه في شي‏ء لم يوافق رأيه -: (عليك أن تشير عليّ، فإذا خالفتك، فأطعني) (1) .

فالخلاصة التي نخرج بها من هذه الروايات الكثيرة هي أن المراد من الاستشارة والشورى والمشورة، هو المداولة الفكرية للوصول إلى نتيجة أكثر دقة وأقرب إلى الصواب، لا أن للمستشار سلطة وولاية على المستشير.

ونختم الكلام حول هذه الطائفة بالحديث حول قوله تعالى:

( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ )

فالآية تتناول قضية مهمة، وتعالج وظيفة من الوظائف التي تهم المجتمع؛ وهي وظيفة القضاء، وهي من الوظائف المشتركة بين أفراد المجتمع حاكماً ومحكوماً، فيجب أن يشترك الجميع في تطبيقها والعمل بها، ولا ينفع الالتزام من طرف واحد.

وببيان آخر: نشير إلى أن الوظائف والتكاليف، سواء الاجتماعية أو العبادية، على نحوين؛ أحدهما: ما يقوم به فرد واحد كما في الصلوات والعبادات المختلفة. والنحو الثاني: الوظائف المشتركة كما في صلاة الجمعة؛ حيث لا يكفي وجود الإمام العادل لإقامتها، بل يجب أن يتواجد أفراد المجتمع لإقامتها، ويقع على عاتق كل طرف منهم قسم من أداء هذه الوظيفة المهمة السياسية العبادية، وهكذا الجهاد؛ فهو وظيفة مشتركة بين الأفراد والقائد، وهكذا في كثير من الوظائف التي تهم الاجتماع، فلابدَّ من اجتماع واتحاد إرادات في الأطراف المختلفة لأداء هذه الوظيفة والقيام بالتكليف المراد. والقضاء الوارد في الآية الكريمة من هذا القبيل؛ فإن الرسول الأكرم هو المنصوب من قبل اللَّه قاضياً وحاكماً فيما شجر بين المسلمين،

____________________

(1) وسائل الشيعة، باب 24 من أبواي أحكام العشرة من كتاب الحج، ح1 و2 و3 و4.

١٧٦

لكن التحقق الخارجي لهذه القضية لا يكون إلاّ إذا التزم المسلمون بذلك، وهي وظيفتهم؛ إذ عليهم واجب الرجوع إلى الرسول فيما شجر بينهم، وعليهم الالتزام بما يحكم به، وهذا لا يعني أن رجوعهم إليه تنصيب منهم له‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أنه الذي أعطاه صلاحية القضاء، بل التنصيب وصلاحية القضاء هي من عند اللَّه عزَّوجل، وهذا ممَّا اتفق عليه كل المسلمين؛ فليس المراد من ( يُحَكِّمُوكَ ) هو إنشاء منصب الحكومة لك، بل يعني إقدارُك خارجاً تكويناً، ومعاونتُك على تنفيذ قضاءك وفصلك للخصومات بينهم.

ونفس المعنى الوارد في الآية الكريمة يُذكر في مسألة الشورى وألسنة بعض الروايات التي وردت بها صيغة: (ولّاني المسلمون الأمر بعده) (فإن ولّوك في عافية...) (إن تولُّوها عليَّاً). فهو لا يعني إنشاء الأمة للولاية وتنصيبهم للوالي، بل هي في صدد وجود واجب وتكليف استغراقي على كل أفراد المجتمع بالرجوع لمن نصَّبه اللَّه عليهم والياً وحاكماً؛ فالانصياع لأحكامه والانقياد لأوامره وظيفة أفراد المجتمع، فكل من الطرفين يتحمل عبئاً من المسؤولية وشطراً منها.

ومن هنا يمكننا أن نعود لآية: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) فنضيف إشكالاً مهماً إلى الإشكالات السابقة؛ وهو أن الأمر المهم المسند إلى المجموع يختلف تحديده ونمطه حسب نوعه وماهيته، فإذا كان الأمر يشمل مسألة الولاية والحاكمية، فذلك بمفرده لا يدل على سلطة الأمة في أمر الولاية، بل يبقى السؤال والإجمال أنه ما هو طبيعة الأمر المهم المسند إليهم؟ وما هي وظيفتهم اتجاهه؟ هل بنحو الفاعلية والإصدار والتنصيب أم بنحو القابلية والمتابعة والإعانة كأيدي وسواعد للوالي المنصوب من الشريعة المقدسة، أو أن الآية مهملة من هذه الجهة؟!

والمعهود في الشرايع السماوية كون دور المجتمع هو القبول والانصياع، وقد جاءهم التأنيب على التقصير في ذلك ( أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ

١٧٧

اسْتَكْبَرْتُمْ ) .

فتقاعسهم عن إقامة صرح الهداية، واستكبارهم عن متابعة الرسول، سبب توجيه هذا الذم والتوبيخ للمجتمع.

وهذا هو طبيعة كل فعل مشترك بحيث يكون صدوره من طرف على نحو الفاعلية ومن طرف آخر على نحو القبول والانصياع. ومن هنا عندما يخاطب بعض الأئمة عليهم‌السلام ‏الناس بـ: أنكم ولَّيتمونا. فهو صحيح من الجهة والحيثية التي ذكرناها؛ وهي أنكم عملتم بوظيفتكم التي أوجبها اللَّه عليكم، وهي الرجوع إلينا. والإمام علي‏ عليه‌السلام في رواية سليم بن قيس يذكر كلا الطريقين؛ إن كانت الخيرة للأمة وإن كانت الخيرة للَّه وأنه الحق، فالأمة قد عملت بوظيفتها من الائتمام وإعانة وتمكين وليّ وخليفة اللَّه.

فهذان خطان متقابلان؛ أحدهما: يسند الأمر للأمة على نحو يكون لها الولاية، وهو ما رفضناه منذ بداية البحث. والأخر: أن الأمر بيد اللَّه يجعله حيث يشاء، وعلى الأمة تطبيق ذلك خارجاً بنحو القبول والانصياع لأوامر مَن نصَّبه اللَّه، وتمكينه من نفوذ قدرته التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وعلى ضوء ذلك، إذا فسرنا ( أَمْرُهُمْ ) بهذا النحو، يكون كيفية تقبُّل هذا الأمر، وكيفية القيام بهذه الوظيفة المهمة، تكون بالتداول والتشاور، كما يجب عليهم - وذلك يكون برضاهم - الانصياع والمتابعة للقائد المنصوب.

وقد ورد عن الصادق‏ عليه‌السلام : (أن الأئمة أهل العدل الذين أمر اللَّه بولايتهم وتوليتهم وقبولها، والعمل لهم فرض من اللَّه) (1) .

وبهذا يتضح تمام المراد من آيات وروايات الشورى.

____________________

(1) دعائم الإسلام، ج2، ص527، والإرشاد، ص185.

١٧٨

وقد ذُكرت بعض الإشكالات:

1 - أنه لو كان المراد من الشورى هو المداولة الفكرية فقط - من دون لزوم اتباعهم -، فإن عقد الاستشارة في الأمور المهمة سوف يؤدِّي إلى؛ أوّلاً: عدم تفاعل المستشارين في إبداء الرأي. وثانياً: سوف يخلق مشكلة اجتماعية؛ حيث تتعدد الآراء ولن يكون هناك حسم لهذا الأمر المهم، بخلاف ما إذا قلنا بولاية الشورى والأكثرية؛ فسوف تكون ضابطة وميزان الأكثرية هي لحسم مثل هذه المشاكل الاجتماعية الهامَّة.

والجواب عن هذا الإشكال يكون بملاحظة التطور الحاصل في حضارات المجتمع البشري منذ بداية تَكوّن أول اجتماع من الأسرة إلى القبيلة إلى القرية إلى البداوة إلى التحضُّر والتمدُّن، وقد تعددت وسائل الاتصال بين أفراد الإنسان خلال فترات التطور هذه، حتّى أصبح مجتمع القرن العشرين والواحد والعشرين الميلادي قد طوى حضارة التكنولوجيا والتصنيع وحضارة الذرة، فانتهى به المطاف حاليَّاً إلى حضارة المعلومات؛ من الارتباط والاتصالات، والهدف من جعل الارتباط والاتصال هو محور حضارة هذا العصر؛ هو سرعة انتقال المعلومات والأفكار بين أفراد الإنسان، وهذا يدل على أن أحد أبرز وسائل السيطرة هي الهيمنة على المعلومات واستقصاء البحث. والقرآن الكريم قبل ما يزيد على الإلف عام ندب إلى هذا الأمر المهم؛ وأن يكون القائد مهيمناً على أفكار الناس، جامعاً لمعلوماتهم، مستمعاً لآرائهم، فهذا منهج مهم في حدِّ ذاته لا يمكن الاستهانة به.

أما بالنسبة للنقطة الثانية، فقد عولجت من جهتين؛ الأولى: أن أحد ثمار الشورى هو كون الجميع على مستوى من الوعي الثقافي والمعلوماتي بحيث ‏يستطيع المشاركة فيما يهم المجتمع، وهذا أمر يقفز بالمجتمع على طريق الرقي، وبعد استقصاء الآراء المختلفة سوف يتَّضح لدى المستشير ولدى الأطراف الرأي المتين

١٧٩

من ‏الهزيل.

ومن جهة أخرى تعمل الاستشارة على توحُّد الإرادة في مجتمع المستشارين، فقد عالجته نظرية الولاية بحصر الإرادة والعزم بالشخص المنصوب خليفة للَّه تعالى ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) فإرادته هي التي تكون لها السيطرة على جميع الإرادات، وتخضع لها كل الإرادات، وكذلك الحال في نائبه العام، وهو الفقيه، وإن كانت ولايته على نطاق محدود بدائرة التطبيق للأحكام الشرعية في مجال القوى الثلاث.

2 - وقد يُشكل: أنه إذا كان المراد ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) هو الأمر المهم الذي يمسُّ المجموع، فهذا يعني أنه من الأمور الخطرة، فكيف ينسجم هذا مع كون الاستشارة في نفسها مستحبة؟!

والجواب عنه: أن الشورى تكون في كلِّ موردٍ بحسبه؛ فإن كانت في الأمور التي طبيعتها خطيرة، وطبيعة الغرض الشرعي فيها بالغ الأهمية عند الشرع، فإن الشورى والفحص عن الصواب وواقع الحال تكون واجبة، ولا يمكن للقائد غير المعصوم، النائب من قبله، أن يستبد برأيه كما لاحظنا في فتوى الفقهاء في باب الجهاد؛ فمع أن الإفتاء بالجهاد هو بيد الفقيه، إلاّ أنه ملزم بالرجوع إلى أهل الخبرة العسكرية في ذلك. وإذا لم يكن الأمر المجموعي بهذا الوقع والخطورة، تكون الاستشارة ندبية، وتكون فوائدها هو ما ذكرناه سابقاً.

3 - وقد استدل محمد رشيد رضا بذيل آية الشورى على سلطة الجماعة وولاية الشورى؛ وذلك بقوله تعالى: ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ؛ حيث إن متعلق العزم غير مذكور، فهو مطلق، لكن لمَّا كانت الآية في صدد بيان ما يميِّز رأي الجماعة، فيكون المراد منه هو رأي الجماعة؛ أي فإذا عزمت على ما يرون وما يريدون، فتوكَّل على اللَّه.

١٨٠