الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137302 / تحميل: 8160
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وهذا مردود؛ حيث إنه من الواضح أن فاعل العزم هو الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والظهور العرفي (١) شاهد على أن المراد هو تصميم نفس فاعل العزم؛ أي بعد أن نظرتَ أنت إلى هذه الأقوال المختلفة والآراء المتضادة، فاختر منها ما شئت، واستصوب منها ما تراه مناسباً واعزم.

ويؤيد ذلك ما ورد في الأمر بالتوكل على اللَّه وعدم خشية الآخرين؛ أي أن مورد العزم قد يكون على خلاف ما عليه أراء الأكثرية؛ فتوكَّلْ على اللَّه فيما عزمت مهما كان ذلك، وإن كان على خلاف ما يرونه. وواضح أن الآيات الكريمة وردت في غزوة أُحد حيث ظهر فرار بعض المسلمين وتخلَّف البعض الأخر عن ميدان الحرب، وطمعهم في الغنائم، وسوء ظنِّهم باللَّه بعد ذلك، وتصديقهم موت رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا كله يدلُّ على أن الرأي هو ما اختاره الرسول الأكرم وما عزم عليه، بغض النظر أنه وافق الأكثرية أم لا.

مضافاً إلى أن الرسول الأكرم هو القسطاس المستقيم ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) ، والجادة الواضحة، والذي يجب أن يتبعه الآخرون. وقد أمره اللَّه عزَّوجل ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يُتصوَّر بمَن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام أنه ملزَم بأن يتَّبع رأي الأكثرية والأغلبية وإن كان رأيها على خطأ.

____________________

(١) بقرينة ما قدمناه مفصَّلا؛ مثل: العفو عنهم والاستغفار لهم الدال على خطئهم مثل قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) فهذه شهادة من الله تعالى بخطأهم في كثير من الموارد، وكذا لينه لهم المذكور في الآية الدال على مقام المربي لمَن تحت يده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغيرها من القرائن فراجع، مع أن المعنى على إدعاء صاحب تفسير المنار مؤدَّاه لزوم طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله لِمَا يريدوه، وهو باطل. وكلٌّ لِمَا ذكرناه من أن الشورى، معنى ومادة، عنوان للفعل الفكري للنفس، وهم يجعلونه عنواناً للفعل العملي للنفس كالإرادة والسلطة والقدرة، فيتناقض عندهم الكلام.

١٨١

الخلاصة:

إن لفظ الشورى مشتق من تشاور واشتور، والإشارة والمشورة هي إراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأرى رأيه، وشرت العسل أشوره جنيته، وأشار بيده إشارة أي لوح بشي‏ء يفهم من النطق.

فمادة الشورى تعطي معنى الاستفادة من الخبرات والعقول الأخرى؛ لكي يكون العزم على بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن أعقل الناس مَن جمع عقول الناس إلى عقله، وأعلم الناس مَن جمع علوم الناس على علمه، فهي توصية بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الأذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللُّغويون: إنها استخراج الرأي بالمفواضة في الكلام ليظهر الحق.

إن استبداد الإنسان برأيه يؤدِّي به إلى الجهالة، سواء كان الأمر بيده وحده أم لا، كما هو الحال في سلطة الإنسان على أمواله إذا أراد أن يقدم على بيع أو عقد معاملي، بخلاف ما إذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط: سلطة المشير على المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير، وإنما يعني اعتماد الوالي على منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة، وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الإشارة والمشورة والاستشارة والشورى؛ أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع، بل الفصل والنقض والإبرام والترجيح بين وجهات النظر يكون للولي على الشي‏ء بعد اطلاعه على الآراء المختلفة، كما هو دارج قديماً وحديثاً في

١٨٢

الزعامات الوضعية البشرية؛ حيث تعتمد على لجان وخبرات (مستشارين) (١) في كل حقل ومجال، مع عدم إفادة ذلك - لدى المدرسة العقلية البشرية - ولايةً لأفرادِ تلك اللجان يشاركون فيها ذلك الزعيم.

ولذلك عدَّ الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الاستخارة، بل أفضلها، والاستخارة هي طلب الخير، لا تولية المشيرين مع المستشير، فلا يُتوهَّم أن فتح باب الاستشارة والشورى في الرأي، إن لم يكن بمعنى التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، فهو لغو؛ إذ أي فائدة أبلغ وأتم من استكشاف الوالي واقع الأشياء وحقائق الأمور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم إلى علمه؟ فإن ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك على الصعيد الفردي كولاية الفرد على أمواله أم على الصعيد الاجتماعي كولاية الشخص على المجتمع.

من هنا فإن مجيء مادة المشورة في ‏قوله تعالى، يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البتُّ فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الأخرى. أمَّا مَن يكون له الرأي النهائي، فليست الآية في ‏صدده؛ لاختلاف ذلك التعبير مع ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى ) حيث إن اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة، وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالى: ( وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الأصعدة المختلفة.

وممَّا يعزِّز ما تقدم، قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) فإنه تعالى ندب إلى التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل، مع أن

____________________

(١) كالمستشارين العسكريين والماليين والسياسيين والاجتماعيين وغيرهم.

١٨٣

ولاية الرضاعة ذات الأجرة بيد الزوج فقط، وإن كانت الحضانة في غير ذلك من حق الزوجة.

وكذا قوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) ففيه ندبة من اللَّه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشورة المسلمين في سياق الرأفة والرحمة بهم واللين معهم والعفو عنهم والاستغفار لهم، لا لتحكيم ولايتهم عليه‏(صلَّى الله عليه وآله ) (والعياذ باللَّه)؛ إذ ذيل الآية صرّح بأن العزم على الفعل مخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل إن الأمر بالتوكُّل فيه إشعار بنفوذ عزمه وحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن خالف آراءهم؛ ولذلك ذكر أكثر المفسِّرين وجوهاً في أمره بالمشاورة:

الأوَّل: أن ذلك لتطييب أنفسهم والتألُّف لهم والرفع من قدرهم.

الثاني: أن يُقتدى به في المشاورة، كي لا تُعد نقيصة، وليتميَّز الناصح من الغاش كتشاوره صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل واقعة بدر - الكبرى والصغرى - وغيرها من‏ الوقائع.

الثالث: لتشجيعهم وتحفيزهم على الأدوار المختلفة، والتسابق إلى الخيرات والأعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكي يتعرَّفوا على حكمة قرارات الرسول وأفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد على كون الشورى ملزمة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ بدعوى أن رأيه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه على الخروج، ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج إلى جبل أُحد. وقدمنا مفصَّلاً خطأ هذا الاعتقاد.

وممَّا يستأنس لكون معنى الشورى بمعنى المشورة والاستشارة، لا تحكيم السلطة الجماعية، أن الآية مكية ولم يكن ثمَّة كيان سياسي للمسلمين، بل إن ظاهر

١٨٤

الآية - حين نزولها - ترغيب المؤمنين في الاتصاف بتلك الصفات، فيكف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله المطلقة؟ ولذلك ترى أن كثيراً من مفسِّري العامة فسروا الآية بمعنى الاستشارة واستخراج الرأي، لا تحكيم السلطة الجماعية.

مناقشة الاستدلال على نظرية التلفيق بين النص والشورى

قام بعض المفكِّرين بمحاولة الجمع بين أدلة التعيين والنصب - ككثير من الآيات القرآنية الدالة على أن الإمامة عهد وجعل إلهي، وأن المنصوب هو علي‏ عليه‌السلام وذرِّيته - وبين ما يُزعم من مفاد آية الشورى ودلالتها على أن السلطة للأمة، بأنَّ مورد الأدلة الأولى هو مع وجود المعصوم‏ عليه‌السلام وتقلُّده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده عليه‌السلام كما في زمن الغيبة. وهذا الرأي مردود؛ لأنه إن جُعل المدار لسلطة الأمة والشورى، وعدم تَقلُّد المعصوم الزعامة بالفعل، فذلك يعني شرعية سلطة الأمة في الفترة التي كان فيها علي‏ عليه‌السلام مُبعداً عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن‏ عليه‌السلام إلى عصر الغيبة؛ حيث إنهم عليهم‌السلام ‏لم يكونوا متقلِّدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص و جعل المدار على وجودهم عليهم‌السلام ‏وإن لم يتقلَّدوا زمام الأمور و

الحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الأرض (اللَّهُم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحججه، إمَّا ظاهر مشهور أو خائفاً مغمور، لكي لا تبطل حجج اللَّه وبيِّناته) (١) .

____________________

(١) رواه الصدوق في الإكمال بأسانيد مستفيضة عن كميل عن عليٍّ عليه‌السلام ، وأسانيد أخرى في الخصال والأمالي، والحديث موجود في النهج وتحف العقول وكتاب الغارات،بل هذا المضمون روي في أحاديث متواترة في أكثر كتبنا الروائية.

١٨٥

ولا فرق بين حضور الإمام وغيبته بعد كون عدم تقلُّده زمام الأمور بالفعل غير مؤثِّر في كونه إماماً بالفعل - بما للإمامة من عهد إلهيٍّ معهود ذا شؤون عظيمة بالغة - كما في الحديث النبوي المروي عن الفريقين: (الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا) فقعودهما عليهما‌السلام ‏بسبب جور الأمة لا يفقدهما الجعل الإلهي والخلافة الإلهية على الأمة.

وهل من الإمكان إبداء الاحتمال أنه(عج) في غيبته يفقد هذا المنصب والجعل الإلهي؟! إذ هذا لا ينسجم مع مبدأ النص والتعيين. ومن هنا كان تمسُّك الفقهاء في نيابتهم في عصر الغيبة الكبرى بنصبه لهم نوَّاباً في قوله المروي مسنداً في غيبة الشيخ الطوسي: (وأمَّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللَّه) فقوله‏ عليه‌السلام : (فإنهم حجتي عليكم) استنابة منه‏ عليه‌السلام للفقهاء.

وهل يُتعقَّل أن يكون للَّه حجتان بالأصل في عرض واحد بالفعل؛ بأن يكون الحجة(عج) في غيبته حجة بالأصل، ومُنْتَخَب الأمة حجة أخرى بالأصل، ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه؟! ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية - على ضوء مبدأ النص والتعيين - على القول أن ولاية الفقيه مستمدة، في الغيبة، منه‏(عليه السلام وعجَّل اللَّه فرجه الشريف)، لا أنها للفقيه بالأصالة مع خلعه‏ عليه‌السلام عن ذلك المنصب.

هذا؛ ولا يغفل عن أن سبب عدم تقلُّده(عج) زمام الأمور والحكم وعدم الظهور، هو المذكور في قوله‏ عليه‌السلام : (لو كنتم على اجتماع من أمركم؛ لعُجِّل لكم الفرج) ولذلك قال السيد المرتضى والخواجة وغيرهما أن سبب غيبته منَّا نحن.

نعم، إذا أمكن أن تخلو الأرض من الحجة المعصوم، وأن يتْرُك اللَّه البشر وحالهم مع قوانين دينه على ‏أوراق، وتكون - والعياذ باللَّه تعالى - يد اللَّه مغلولة، أمكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الأدلة.

ومن الطريف أن الدعوى المزبورة تُذعن في طيَّاتها بشروط المرشَّح بالانتخاب؛

١٨٦

من الفقاهة والكفاءة والأمانة والعدالة والضبط وسلامة الحواس إلى غير ذلك من الشروط التي لا تتوفَّر بنحو الإطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه إلاّ في المعصوم عليه‌السلام ، وكأن ذلك أوْبٌ إلى النص مرة أخرى؛ إذ الاشتراط في جذوره تعيين.

نعم، نصبه(عج) للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامة قد استُفيد من قوله: (فارجعوا) الإيكال للأمة في اختيار أحد مصاديق النائب العام ‏الجامع للشرائط، ولا يعني ذلك أن النصب بالأصالة من الأمة بالذات، بل منه(عج) بالأصالة ومن الأمة بتبع إيكال وتولية المعصوم لها، كما هو الحال في القضاء والإفتاء عند التساوي في الأوصاف.

ولا يُتوهَّم أن تولية الأمة ذلك يلزمه إمكان توليتها السلطة على نفسها بالأصالة من اللَّه تعالى في اختيار خليفة اللَّه في أرضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق؛ حيث إنه لابدَّ من العصمة في قمة الهرم الإداري للمجتمع دون بقيَّة درجات ذلك الهرم، إذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.

كما لا يُتوهَّم أنه حيث لابدَّ للناس من أمير برّ أو فاجر تدار به رحى إدارة النظام الاجتماعي البشري، وهذه اللَّابدَّية والضرورة العقلية التي نبَّه عليها علي‏ عليه‌السلام في النهج تقتضي تنصيب الأمير على الناس بالذات بالأصالة؛ من دون حديث النيابة عن المعصوم.

ووجه اندفاع التوهُّم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم. أمَّا شرائط كونه أمير برّ لا فاجر، فهو كون إمارته من تشريع اللَّه تعالى وإذنه؛ إذ الولاية للَّه تعالى الحق، والإمارة تجري على يد الفرد البشري المخوَّل منه تعالى في ذلك؛ ولذلك ترى أن عدة من الفقهاء(قدس سرُّهم‏ا) استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن إذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار أنهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة

١٨٧

في كلماتهم.

وبذلك ننتهي إلى أن الآية هي في صدد الإشادة بصفة ممدوحة مهمة في المؤمنين؛ وهي عدم الاستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الأفق. وأما أين هي منطقة السلطة الجماعية؟ وأين هي منطقة السلطة الفردية؟ ومَن هو منهم؟ فذلك يتم استكشافه من مبدأ السلطات، وهو اللَّه تعالى، ومن ثُمَّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه المعصومين، بالوقوف على حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالاً في النائب العام والقاضي والمفتي.

والمهم التركيز على‏ هذه الجهة في الآية: أن مادة الشورى هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول، وفرق بين استطلاع رأي الآخرين وبين جمع إرادة الآخرين؛ فالأول هو موازنة بين الأفكار والآراء من المستطلِع والمستشير، والثاني سلطة جماعية، فلا يمكن إغفال التباين الماهوي بين الفكر والإرادة، وأن الشركة في الأول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.

فالتوصية في الآية هي في اعتماد التلاقح الفكري في إعداد الفكرة. أما مرحلة البتّ والعزم والإرادة، فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد إضافة الأمر إلى ضمير الجماعة، لا يعني كونها في المقام الثاني، بعد كون مادة المشورة صريحة في المقام الأول، بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخصُّ وتتعلق بمجموعهم، هذا لو جمدْنا على استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (أمرهم)، ولم نستظهر معنى الشأن من الأمر - كما استظهره كثير من المفسِّرين - أي بمعنى: شأنهم وعادتهم ودأبهم على عدم الاستبداد بالرأي في الولاية والأمر بالمعروف، واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.

ونكتة الإضافة إلى ضمير الجماعة هي وحدة سَوق الأفعال في الآيات كما في:

١٨٨

( وَأَقِيمُوا الْصَّلاَةَ ) ( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ ) . وأمَّا لفظة (بينهم)، فهي ظرف لغوٍ متعلق بمادة الشورى؛ لكونها مداولة بين الآراء ومفاوضة لا تقلُّ عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيٌّ وفيما بينهم.

بعد هذا الاستعراض المطوَّل للطائفة الأولى من أدلة نظرية الشورى بالمعنى المصطلح؛ وهي ما ورد من الآيات والروايات من مادة الشورى والاستشارة، توصَّلنا إلى نتيجة: أن مفاد الشورى هو بيان منهج عقلائي؛ وهو جمع الخبرات والتجارب والاستضاءة بمعلومات الآخرين، وأن لا يكون إقدام على مهام الأمور إلاّ بعد المداولة الفكرية، وهي بعيدة عن تشريع سلطة للجماعة، بل تبقى السلطة لذلك الفرد الذي يقوم بغربلة هذه الآراء واختيار الأصح منها والأوفق مع ما عليه قواعد الدين. وهذا المنهج أصبح ألان منهجاً حضارياً مُتَّبعاً، بعيداً عن الدكتاتورية المطلقة والاستبداد بالرأي الواحد.

ثانياً: عنوان الولاية والأمر بالمعروف

وقد ورد ذلك في آيتين:

أ - قوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١) .

إن الظاهر من الآية الكريمة إسناد الولاية إلى الكل، فالمولى هو الكل، والمولى عليه كذلك؛ فهي ولاية الكل على الكل، وهذا يعني أن أمر الأمة بيدهم، وهذه الولاية تعمُّ ولاية النصرة (٢) وولاية الأخوة والمودة. والأمر بالمعروف معنى عام شامل

____________________

(١) التوبة ٧١: ٩.

(٢) المنار، ج١٠، ص٥٤٢ و١٠٥.

١٨٩

(ويذهب محمد رشيد رضا إلى أن الولاية معنى عام يشمل كلَّ معنى يحتمله، ولا يختص بأمر دون آخر) ويدخل في هذا السياق جميع الآيات الواردة فيها معنى الولاية كما في الأنفال ٨ / ٧٣.

ب - ( وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

فهو أمر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر بالمعروف وتدير فيهم دفَّة الأمور؛ حيث إن الأمر بالمعروف عام يشمل كل ما فيه صلاح الأمة الإسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الأولى مُثبِت لنحو من الولاية من الآمر والناهي على الطرف الآخر، فكيف في درجاته القصوى المستلزمة للضرب أو المنع الخارجي بالقوة؟

وبتقريب آخر: أن الأمر بالمعروف له صورتان:

أحدهما: صِرف الأمر والنهي الإنشائي والقولي.

  والأخر: أن يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر.

فإن كان الأمر الأول، فلا خصوصية فيه حتّى تختص به طائفة معينة، بل هو عام شامل لجميع المسلمين، فلابدَّ أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية، وحينئذ يُتعقَّل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الأمر، بل إن محمد رشيد رضا (٢)يرى أن هذه الآية في دلالتها على كون الشورى أصل الحكم في الإسلام أقوى من دلالة آيتي الشورى.

وفي كل ما ذُكر نظر؛ بيان ذلك:

١ - مادة (أولياء) و(ولي) ورد استعمالها في القران في موارد كثيرة جداً (٣)

____________________

(١) آل عمران ٣: ١٠٤.

(٢) المنار، ج٤، ٤٥.

(٣) راجع: معجم ألفاظ القرآن الكريم، ج٢، ٨٤٠.

١٩٠

واختلفت معانيها تبعاً لموارد استخدامها، ويمكن من خلال نظرة عامة إلى تلك الموارد القول: إنّ أكثر مواردها التي بصيغة الجمع كان معناها النصرة والمحبة. والمراد من هذه الآية هو ذلك بقرينة نفس الآيات المحيطة بهذه الآية، فإنها قد وردت ضمن آيات يقارِن فيها الحقُ تعالى بين فئتين من الناس؛ هم المنافقون والمؤمنون، ومورد هذه المقارنة في غزوة تبوك (١) حيث تخلَّفوا عنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله واستهزؤوا به، فذكر ابتداءً وصف المنافقين؛ بأنّ بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويستمر في ذكر صفاتهم وبُعدهم عن الحق تعالى والعذاب في الآخرة. وفي قبال هذه الفئة يقف المؤمنون، وهم كالبنيان المرصوص في توادِّهم وتناصرهم وتحابِّهم، ويذكر صفاتهم التي هي على طرف النقيض من المنافقين، فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعندما يقال: المؤمن ولي المؤمن. معناه: أنه ينصر أولياء اللَّه وينصر دينه، واللَّه وليه بمعنى: أولى بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه.

وبقية الصفات المذكورة من عباداتهم؛ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة اللَّه ورسوله، والنتيجة الأخروية، وهي رحمة اللَّه تعالى والوعد بالجنة، وهذه كلها في قبال صفات المنافقين.

فالمنافقون يأمرون بالمنكر، والمؤمنون يأمرون بالمعروف.

والمنافقون ينهون عن المعروف، والمؤمنون ينهون عن المنكر.

والمنافقون يقبضون أيديهم، والمؤمنون يؤتون الزكاة.

والمنافقون نسوا اللَّه فنسيهم، والمؤمنون يطيعون اللَّه ورسوله وسيرحمهم اللَّه.

والمنافقون وعدهم نار جهنم، والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها

____________________

(١) البيان في تفسير القرآن، ج٥، ٢٥٧.

١٩١

الأنهار.

فالمنافقون كتلة واحدة لهم نفس الوصف والجزاء، والمؤمنون ينصر بعضهم بعصاً ولهم نفس الوصف والجزاء.

فالآية الكريمة غير ناظرة إلى الولاية بمعنى الحكم وإدارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.

وممَّا يدل على ما ذكرناه أيضاً أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أعمال فردية، وليست متفرِّعة عن ولاية البعض على البعض. مضافاً إلى أن ذيل الآية: ويطيعون اللَّه ورسوله، فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة على مجموع الأمة، فكيف يلتئم مع الحثِّ على طاعة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وانصياعهم ومتابعتهم؟

٢ - أمَّا الآية الثانية، فإن غاية ما تدل عليه أن الأمة يجب عليها تشكيل مثْل هذه الجماعة لتدير دفة الدولة، ولكن هذا لا يفيد أن السلطة من الأمة، بل السلطة تكون من قبل اللَّه تعالى، وأن التولية الفعلية العملية هي بيد الأمة، وهذه وظيفتهم من حيث أن الحكم وظيفة يقوم بها الحاكم والمحكوم، فالحاكم تكون سلطته من قبل اللَّه تعالى، وعلى المحكوم الرجوع وتمكين الحاكم من ذلك.

وبتعبير آخر: أن الآية تبيِّن الدور الذي يجب أن تقوم به الأمة في مجال الحكومة، وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة، لا أن التشريع والقدرة هو بيد الأمة، فالآية لا تتعرض لهذا المقام، بل تذكر ما هو تكليف الأمة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.

٣ - أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل مَن تشاء وتسلِّطه على نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذة بزمام الأمور أنها داعية إلى الخير كل الخير؛ لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف؛ لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر؛ لذلك أيضاً، بما فيه المنكر الاعتقادي أو الاقتصادي أو المالي أو

١٩٢

الاجتماعي في كل المجالات والشؤون؟ ومن الظاهر أن الداعي إلى كل سبل الخير والآمر بكل معروف، دقَّ أو جلَّ وعظُم، وتوقُّفه، خبر بماهية المنكر، وحائز على العصمة العملية، كي لا يتوانى عن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، لا تأخذ في اللَّه لومة لائم، ولا يعدل به هوى عن ذلك؛ فتنحصر وظيفتهم - أي الأمة - في التكوين والرجوع الخارجي إلى تلك الجماعة غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

٤ - أن الآيات الحاصرة للولاية في فئة خاصة تكون مفسِّرة وحاكمة في الدلالة، ومبينة للفئة الخاصة التي يجب على الأمة الرجوع إليها وتمكينها خارجاً.

٥ - أن في الآية احتمالاً آخر؛ وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف، بل العلم قيد واجب فيه؛ وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف؛ نظير: وجوب الحج الكفائي - غير المشروط - على كل المسلمين في كل سنة؛ أن يقيموا هذه الشعيرة لئلا يخلو البيت، وهو مغاير للوجوب الاستغراقي العيني المشورط بالاستطاعة.

ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة، فالجاهل لا يتأتى منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب، وبضميمة أن التعلُّم لجميع الأحكام، أو غالباً غير ما يبتلى به نفس المكلف، واجب كفائي، فهذا يعني أن الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلُّم المزبور، فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به؛ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن المحتمل أن تكون الآية الكريمة بصدد الإشارة إلى ضرورة حصول ذلك التوجه لدى فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة؛ نظير: الوجوب الكفائي، لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة؛ لئلاّ يخلو بيت اللَّه الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلاّ يعطّل.

وبتعبير آخر: أننا تارة ننظر إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى إقامة

١٩٣

العدل والحدود وحفظ النظام الذي هو وظيفة الدولة، وتارة ننظر إليه بنحو شامل وعام لجميع الأفراد، والآية ناظرة إلى الثاني؛ والدليل على ذلك هو ما سبق الآية من قوله تعالى: ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) وهذه كلها ناظرة إلى تكاليف اجتماعية يقوم بها أفراد المجتمع، ويتوجَّب على المجتمع إقامتها والعمل على إيجادها خارجاً، وأن الآية ليست في صدد بيان واجبات الدولة اتجاه المجتمع.

وقد ورد في تفسير هذه الآية قوله‏ عليه‌السلام : (إنما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العالم). فوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الاحتمال وجوب كفائي؛ وهو واجب على الأمة بنحو الكفاية.

ثالثاً: آيات البيعة

١ - ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (١) .

٢ - ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٢) .

تقريب الاستدلال:

ينطلق المُستدِل من المعنى اللغوي للبيعة؛ فالبيعة: الصفقة على إيجاب البيع، وبايعته من البيع، والمبايعة: عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع

____________________

(١) الفتح ٤٨: ١٠.

(٢) الممتحنة ٦٠:١٢.

١٩٤

ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه (١) .

فالبيع تمليك من جهة البايع للمشتري، ونقل الولاية على هذه العين للمشتري، ولا يصح البيع إلاّ ممَّن له الولاية والصلاحية للتصرُّف في المبيع. والبيعة هي إنشاء ولاية من المبايِع للمبايَع على نفسه، وإسناد هذه المبايعة للأمة يدل على أن الولاية هي للأمة، وهي تنقلها إلى الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو للمعصوم في نظرية النص.

وقد استدل من الروايات:

ـ عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال: (ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة) (٢) . وقال العلامة المجلسي: نكث الصفقة نقض البيعة، وإنما سُمِّيت البيعة صفقة؛ لأن المتبايعَين يضع أحدهما يده في يد الأخر عندها. ويؤيِّد ما مضى السبر التأريخي؛ حيث نرى الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الأولى والثانية، وبيعة الإمام علي وأبنيه الحسن والحسين عليهم‌السلام ، ومبايعة الإمام الرضا عليه‌السلام ، وما ورد في مبايعة الإمام المهدي(عجل اللَّه تعالى فرجه) (٣) .

وتقريب الاستدلال بالروايات:

١ - نفس المعنى اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وإنشاء ولاية، فالطاعة وإنشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته/ الفصل الثالث/ فصل ٢٩: أن

____________________

(١) لسان العرب، ج٨، ص٢٦؛ مادة: بيع.

(٢) بحار الأنوار، ج٢، ب٣٢، ح٢٦.

(٣) سيرة ابن هشام، ج٢، ص٦٦ - ٧٣، والكامل لابن الأثير، ج٢، ص٢٥٢، والإرشاد، ص١١٦ - ١٧٠ ـ١٨٦، والاحتجاج، ج١، ص٣٤، ونهج البلاغة، الخطب، ص١٣٧ - ٢٢٩، وفي الغيبة للنعماني، ص١٧٥ - ١٧٦ في أمر الحجة عليه‌السلام : (فوالله، لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام؛ يبايع الناس بأمر جديد، وكتاب جديد، وسلطان جديد من السماء).

١٩٥

البيعة هي العهد على الطاعة؛ كأنما المبايع يعاهد أميره على أن يُسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهداً، جعلوا أيديهم في يده تأكيد للعهد، فأشبه فعل البايع والمشتري، فسُمِّي بيعة؛ مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي.

٢ - ما ورد من التعبير أنه عهد اللَّه، وهذا ينسجم مع قوله تعالى: ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، ومنه يعلم أن الإمامة والحاكمية تنوجد وتتولَّد من البيعة.

٣ - أن السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الإسلام مقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم، وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الإسلام.

٤ - من تكرُّر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل على أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة، فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف؛ أحدهما: النص، والأخر: البيعة، فإذا ما وجدا معاً، فإنه يكون من باب التأكيد والثبوت، كما في تولية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث لم يقل أحد أن تولِّيه كان بالبيعة، بل بنص اللَّه عزَّوجلَّ الذي أوجب حاكمية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته. أما كون البعية له هي المنشئة لتولِّيه وإمرته، فهي بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومَن ادعى ذلك من المتأخرين، فهو عن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.

وفي هذا الاستدلال تأمل من جهات:

١ - إننا ننطلق من نفس مدلول البيع؛ فإن المحققين والفقهاء (١) نصُّوا على أن البيع ليس من الأسباب الأولية لحصول الملكية، فهو ليس والابتكار

____________________

(١) يراجع: الشيخ الأنصاري، المكاسب، أول كتاب البيع، كما نصَّ على ذلك السنهوري في الوسيط.

١٩٦

والإرث، بل هو يكون فرعاً عن ملكية سابقة، ففي الرتبة السابقة يجب أن يكون للبايع (المبايع) صلاحية وسلطان معين على مورد المبايعة، ثم ينقله إلى آخر. فنفس دليل البيعة لا يدل على وجود تلك الملكية السابقة والسيادة السابقة للأمة؛ إي إذا فرض كون سيادة موجودة، فحينئذ تكون المبايعة نقل لتلك السيادة من الأمة إلى الحاكم (١)؛ ويؤيِّد ذلك أن نفس المعاني التي ذكرها اللُّغويُّون بعيدة عن إنشاء الإمرة والحاكمية، بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام ببذل الطاعة. وفي مسند أحمد بن حنبل؛ قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شي‏ء بايعتم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية؟ قال: بايعته على الموت. فلم تكن المبايعة على الترشيح أو التولية.

٢ - لو لاحظنا ما ذُكر في الآيتين الكريمتين من مورد البيعة، وأن المسلمين عندما بايعوا على ماذا بايعوا؟ وأن المؤمنات عندما بايعن على ماذا بايعن؟ هل بايعوا على أمور لهم صلاحية تركها والالتزام بها، فاختاروا الثاني؟ أم أن المبايعة كانت على الحاكمية؟

إننا نلاحظ أنه في الآيتين - وفي غيرها - لم يرد ذكر للحاكمية على الإطلاق، بل وردت المبايعة على المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الإسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها، فما الذي أفادته البيعة؟! إذن... البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام؛ فهي أولاً: لم يكن موردها الحاكمية، فإن حاكمية الرسول هي من اللَّه، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل أو إنشاء ولاية على الإطلاق، وهذا يعني أن للبيعة معنى آخر ليس هو نفس المعنى المأخوذ في البيع.

____________________

(١) ويمكن التنظير بالدليل التعليقي التقديري، فإنه يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه، ولا يتعرَّض لحالات الموضوع، فإذا ورد دليل يتعرَّض لنفي الموضوع للحكم المزبور في مورد معين، فإنه لا يعارض ذلك الدليل؛ لأنه لا يتعرَّض للموضوع، بل للمحمول فقط.

١٩٧

٣ - النقض بالنذر والعهد واليمين؛ فإن مورد هذه الأمور قد يكون المباحات وقد يكون الواجبات أيضاً، فالصلاة الواجبة والثابت وجوبها قبل النذر يجعلها المكلف مورداً للنذر، وحينئذٍ يكون الوجوب آكد، ويكون وجوبان؛ أحدهما: سابق على النذر، والآخر: لاحق عليه، ويفسِّر الفقهاء ذلك بأنه إنشاء عهد للَّه عزَّوجل. ومورد البيعة قد لا يكون أمراً بيد المكلف اختياره، بل يكون من الواجبات ويكون النذر بها تعهُّداً زائداً، والبيعة كذلك؛ فالمبايع يُنشئ التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايَع مع أن أصل الحاكمية ثابت في‏ رتبة سابقة، وليس سبب الحاكمية هو المبايعة، بل قد تكون في بعض صورها أداء لأمر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام .

إذن، فالبيعة تكون نوعُ توثيقٍ وزيادة تعهُّدٍ وتغليظ للتكليف والثبات على مَن نُصَّ على ولايته، وغاية ما يفرق بينها وبين النذر وأخويه، أن الأخير في الأمور العبادية، والأول في الأمور الاجتماعية والسياسية. ويشير لذلك عدة من الروايات؛ منها: موثَّقة مسعدة بن صدقة، عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أنه قال له: (إن الإيمان قد يجوز بالقلب دون اللسان؟) فقال له: (إن كان ذلك كما تقول، فقد حرم علينا قتال المشركين، وذلك أنَّا لا ندري بزعمك لعل ضميره الإيمان، فهذا القول نقض لامتحان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن كان يجيئه يريد الإسلام، وأخذه إياه بالبيعة عليه وشروطه وشدة التأكيد) قال مسعدة: ومن قال بهذا فقد كفر البتة مِن حيث لا يعلم) (البحار/ ج٦٨ / ص٢٤١) نقلاً عن قرب الإسناد للحميري( ومفاده: أن الإيمان لو كان في القلب دون اللسان لتوجَّه النقض - والعياذ باللَّه - على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قتاله للمشركين؛ إذ قد يكون آمن وتحقَّق الإيمان في قلبه دون لسانه. ونقض آخر: أنه لم يطالب‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن أتاه يريد الإسلام بالتشهد بالشهادتين وأخذ البيعة بعد تشهده التي هي زيادة استيثاق وتأكيد للالتزام بالتشهد.

١٩٨

٤ - إن ما ذُكر من موارد المبايعة في الآيتين، أمور يجب على المبايع الالتزام بها عند إنشائه للشهادتين ودخوله في الإسلام، ولا تحتاج إلى البيعة لأجل إيجابها عليه، ففي بيعة الشجرة كان الجهاد مفروضاً على المسلمين قبلها، وكان واجباً عليهم الإطاعة ممَّا يدل على أن البيعة لم تُنشأ أصل الالتزام، بل هو تغليظ وتعهُّد ظاهري.

٥ - من المسلمات والبديهيات الدينية أن منشأ السلطة هو الله عزَّوجل ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) ، وهذا لا يتلائم مع ما استدل به المدعي من أنّ ماهية البيعة هي نقل سلطة الفرد للمبايَع، وهذا يعني وجود سلطنة للفرد على مورد البيعة في رتبة سابقة، وهذا ينافي تلك المسلمة البديهية وأن السلطنة للَّه عزَّوجلَّ وقد استخلف الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أيَّام حياته.

٦ - إن القائل بالبيعة لا يقول بها بنحو مطلق، بل يجعلها مقيَّدة بقيود أوجبها الشارع والعقل، فلا تجوز بيعة الظالمين، وكذلك يجب توافر الشروط التي أوجبها الشارع في الوالي وتدور حول محورين، هما: الكفاءة والأمانة، وهاتان الصفتان لا تكونان بنحوٍ واحد عند كل الأفراد، بل تختلف بنحوٍ متفاوت، فإذا انطبقت على أحدهما دون الآخر، فإن العقل سوف يعيِّن مَن هو أكفأ وأكثر أمانة. وإذا ثبت توفر الصفتين بنحو تام الكمال إلى حد العصمة بأدلة أخرى ونصوص تامة السند والدلالة - طبقاً لنظرية النص - فإنها سوف تكون هي المعينة. وعلى كل حال... فإنّ التعيين، إما أن يكون للعقل أو الشرع.

فيعود الأمر إلى أن الشارع هو الذي يعطي الصلاحية لا الفرد، ويكون دور الفرد هو الكاشفية فقط.

٧ - إن الروايات طافحة بعبائر أمثال: (الأمر للَّه يضعه حيث يشاء)، وهذا يعني أن البيعة ليست تولية، وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عامر بن

١٩٩

صعصعة حيث دعاهم إلى اللَّه وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك اللَّه على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الأمر للَّه يضعه حيث يشاء).

٨ - إن البيعة نوع من العقود والعهود، وهذا يعني أنها تصنَّف في باب المعاملات، فيجب أن نعود قليلاً إلى الأدلة الواردة في باب المعاملات. فإن الفقهاء يصنِّفون الأدلة هناك إلى قسمين: أدلة صحة، وأدلة لزوم. ويعنون بأدلة الصحة: هي الأدلة التي تتعرَّض إلى ماهية المعاملة وحقيقتها وأنها صحيحة أم لا، والثانية تتعرَّض إلى المعاملة الصحيحة وأنها لازمة ولا يجوز فسخها.

وبتعبير آخر؛ الفرق بينهما موضوعاً ومحمولاً:

أما موضوعاً، فموضوع أدلة الصحة هي الماهية المعاملية، بفرض وجودها عند متعارف العقلاء، وموضوع أدلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشرع.

أما محمولاً، ففي أدلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة، وإثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع. أما أدلة اللزوم، فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها. والتفريق بين هذين الصنفين من الأدلة مهم جداً؛ حيث لا يمكن التمسَّك بـ (المؤمنون عند شروطهم) إذا شك في صحة ماهية معاملية، فهي ليست من أدلة الصحة، بل من أدلة اللزوم التي يؤخذ في موضوعها ماهية معاملية أولية صحيحة ويتعرض لوصف يطرأ عليها، وهو وصف اللزوم.

وبناء عليه يطرح التساؤل: أين يمكن تصنيف أدلة البيعة أفي أدلة الصحة أم في أدلة اللزوم؟ بمقتضى التعاريف اللغوية وأنها بمعنى العهد، فإنها تصنَّف في الثانية، وهذا يعني أن هذه الأدلة لا تتعرَّض لمورد البيعة وأن المبايعة لهذا الوالي صحيحة أم لا، بل يجب أن يثبت في مرتبة سابقة، ومن خلال أدلة أخرى، أنّ التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة، ثم تكون البيعة نوع توثيق وتوكيد لذلك الأمر الثابت

٢٠٠

سابقاً، فعنوان البيعة كعنوان العقد والشروط، تعرض على ماهيات أولية مفروغ من صحتها.

والخلاصة أن البيعة إنشاء الالتزام بمفادٍ ثابتة صحته في رتبة سابقة.

نقض ودفع:

وهنا قد يورَد نقض أو تساؤل أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يهاجر إلاّ بعد أن أخذ البيعة من أهل المدينة، وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يرضَ أن يستلم السلطة إلاّ بعد البيعة، وهذان التصرُّفان يدلان على وجود خصوصية في البيعة.

والجواب عن ذلك: أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أخذ البيعة قام بالدعوة إلى نفسه وبيان حقيقة رسالته، فحصل انجذاب أفراد المجتمع إليه، ومِن ثَمَّ أخذ منهم البيعة، وهكذا يقال في أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ فبعد إيمان العامة بالإمام علي، وأنه الشخصية التي تنقذهم من التفكُّك والانهيار الذي صادف الدولة الإسلامية، حصلت المبايعة.

فالغرض من المبايعة هو التغليظ والتوكيد وحصول الاطمئنان للرسول الأكرم؛ حيث أنه ينتقل إلى مرحلة المواجهة مع المجتمع المكِّي، فيجب أن يطمئن إلى التزام جماعته وتعهُّدهم بذلك الالتزام، وهكذا يقال في ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وولاية الحسن‏ عليه‌السلام ، وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين‏ عليه‌السلام بتوسط نائبه مسلم بن عقيل، وهكذا يمكن تصوير أخذ البيعة للحجة المنتظر(عجَّل اللَّه تعالى فرجه)، فالبيعة في كل هذا، ضرب من التوثيق والتغليظ في المتابعة.

ـ وأمَّا ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الأكرم فى الحديبية، فسببه أن المسلمين لم يريدوا إيقاع الصلح مع المشركين، خلافاً لرأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يرى فيه انتصاراً للمسلمين وإذلالاً للكافرين حيث اعترفوا

٢٠١

للمسلمين بكيان ودولة، فيكون أكبر انتصار سياسي للمسليمن، لكن غالبية مَن كان مع الرسول لم يتفطَّن لذلك، وازدادت الشُّـقَّة بينهم، وبعد تمامية الصلح وقبل رجوعه للمدينة، أراد الرسول أن يجدِّد المسلمون التزامهم وتعهُّدهم بمناصرته التي هي في الأساس واجبة عليهم بحكم وجوب الطاعة.

وما ذُكر من الروايات الأخرى تؤكِّد كلَّها هذا المطلب.

ـ وأمَّا خُطب الإمام عليه‌السلام ، ففي بعضها يقيم الإمام الحجة على مبنى الخصم؛ وهو اعتبار البيعة شرط في تولِّي الحاكم وإن كانت على خلاف ماهية البيعة وخلاف ما يعتقد به عليه‌السلام .

ـ وأما قوله للذين تخلَّفوا عن بيعته: (أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه مَن كان قبلي، وإن الخيار للناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا، فلا خيار لهم، وهذه بيعة عامة؛ مَن رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله). فبالإضافة إلى ذلك الجواب، فإن هذا المقطع من خطبته مقتطع من صدره المذكور في كتاب سليم؛ حيث يبتدأها: (إن كانت الإمامة خيرة من اللَّه ورسوله، فليس لهم أن يختاروا، وإن كانت الخيرة للناس، فقد بايعني الناس بالشورى...)

رابعاً: الآيات المثبِتة للوظائف الاجتماعية العامة

الاستدلال بآيات كثيرة وردت في الكتاب العزيز يخاطب الحق تعالى الناس عموماً بوجوب الجهاد وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء وإقامة الحدود ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1) . وقوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا

____________________

(1) آل عمران 3: 200.

٢٠٢

نَكَالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) .

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ ) (2) فاجلدوا ولا تأخذكم، اقطعوا الخطاب فيها للمجموع.

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (3) . وغيرها من الآيات التي تخاطب الناس بما هو من وظائف الدولة.

وتقريب الاستدلال بها: أن هذه الآيات تحدِّد وظيفة الأنبياء والرسل بالتبليغ، أما نفس الحكومة وإدارة أمور المجتمع والوظائف العامة، فهي للناس يجب عليهم القيام بها.

والجواب عنها:

1 - قد ذكرنا سابقاً وظائف الدولة كجهاز لا يمكن أن يقوم به فرد واحد، بل لابد أن يقوم به الجماعة والناس كافَّة، وبتعبير آخر: إن الدولة والحكم جهد مشترك بين الناس والحاكم، ولا يستطيع الحاكم أن يقوم به بمفرده. ومن دون تفاعل الناس مع جهاز الدولة وطاعتهم له لا يمكن لهذا الجهاز أن يقوم بمهمته.

2 - لو سلمنا بدلالة الآيات على المدعى، فنتساءل كيف يمكن للناس أن يقوموا بتلك المهام؟ فهل يؤدُّونها بنحو المجموع؟! هذا غير ممكن، بل لابد أن يكون هناك جهاز يتولَّى هذه المهمة، فمع قيام هذا الجهاز نتساءل: هل يسقط عن الواجب الأمة وبقية الناس؟ الجواب: بالطبع لا، فالواجب يبقى مع وجود هذا الجهاز.

وبتعبير آخر: أن وجوب هذه الأمور على الناس لا يعني عدم وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه المهام، فإنه يبقى على الناس الطاعة والالتزام بما يقرِّره هذا

____________________

(1) المائدة 5: 38.

(2) التوبة 9: 3.

(3) الحديد 57: 25.

٢٠٣

الجهاز. فهذه الآيات على فرض تمامية دلالتها لا تنافي وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه الأمور.

3 - إن أي فعل له جهات ثلاث؛ أحدها: ماهية الفعل وكيفية أدائه وشرائطه. والثانية: الذي يقوم بالفعل، والثالث: الذي يقع عليه الفعل (القابل).

والأدلة التي تذكر في بيان أداء وظيفة أو فعل ما، تكون في صدد بيان إحدى هذه الجهات، ولا يمكن الاستفادة منها في بيان الجهة الأخرى، فقوله عليه‌السلام : (نهى النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر)، لبيان الجهة الأولى، ولا يمكن الاستفادة منها لمعرفة شرائط المتعاقدين، وما ذكر من الآيات في صدد بيان الجهة الأولى؛ وهي: ما هي الأمور التي يجب تنفيذها في المجتمع الإسلامي؟ أما مَن هو الذي يقوم بهذا

العمل؟ فإن الآيات غير متعرِّضة له؛ فهذه وظائف خاصة واجبة على عامة المجتمع بنحو الوجوب الكفائي، وهو لا ينافي كونه واجباً عينياً على الزعيم والمدير والرئيس وهو نظير تجهيز الميت إذ أنه واجب كفائي على عامة المسلمين‏ ولا ينافيه كونه واجباً عينياً على الولي أو الوصي، وهذا النحو من الوجوب مشترك بين نظرية النص والشورى.

4 - ورد في ذيل آية سورة الحديد: ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ، فالآية الكريمة فيها دلالة واضحة أن الأمر في الواقع بيد الرسل والمبلِّغين عن اللَّه، وأن وظيفة الناس هي المناصرة والطاعة؛ وليميِّز اللَّه الخبيث من الطيب.

5 - إن المستدل استدل بظاهر هذه الآيات وأن هذه الأوامر عامة للناس، لكن غفل عن آيات أخرى كان المخاطب فيها الرسول(‏صلَّى الله عليه وآله وحده) ( جَاهِدِ الْكُفَّارَ ) ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بالعَدْلِ ) .

وهذا يعني أنه لا يمكن الإغفال عن هذه الآيات ووضعها بجانب تلك الآيات

٢٠٤

حتى يظهر لنا ما هو الواجب على الأمة وما هو الواجب على المرسلين، ولا يمكن النظر إليها بنحو منفصلٍ عن بقية الآيات التي تُثبت الولاية ووظائف‏ الولاة، وأدلة الولاية لا تكون معارضة لهذه الآيات، بل تكون قرينة على تعيين مفادها.

خامساً: آيات الاستخلاف

( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَا يَشَاءُ... ) (1) ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الارْضِ... )( 2 ) ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ) (3) ( إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ ) (4) ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ... ) (5) .

وتقريب الاستدلال بها بأن بني البشر قد وُلُّوا عمارة الأرض من قبل اللَّه جلَّ وعلا، ومن بين الأمور التي تقتضيها الخلافة هو تولي أحدهم وتأميره وإعطاء الولاية له.

وهذا الفهم للآية يقابله فهم آخر - طبقاً لنظرية النص -: أن هذه الآيات هي إذن عام بالاستفادة من خيرات الأرض وإعمارها في قبال بقية الكائنات التي ليست لها هذه القابلية ولم يفوض لهم تكويناً ذلك. أمَّا الولاية الخاصة والتأمير، فهو أمر آخر لا

____________________

(1) الأنعام 6: 133.

(2) الأنعام 6: 165.

(3) النحل 27: 62.

(4) الأحزاب 33: 72.

(5) فاطر 35: 39.

٢٠٥

يستفاد من هذه الخلافة العامة.

وههنا ملاحظات حول هذه الطائفة من الآيات:

1 - إن غاية تقريب هذه الطائفة لا يفوق ما ذكر من الآيات والوجوه السابقة من تكليف الأمة بالوظائف العامة، فيرد عليها ما أوردناه هناك، والوظيفة التي تظهرها هذه الآيات هي أن وظيفتهم إعمار الأرض والاستفادة من مواردها الطبيعية في قبال الإفساد والإهمال.

2 - يصرِّح كثير من المفسِّرين أن هناك نوعين من الاستخلاف؛ أحدهما: عام يشمل جميع البشر، والأخر: خاص، وهو الذي يتعرَّض فيه للولاية، وهو خاص بمَن يصطفيه اللَّه تعالى (البقرة:30 - 35)، وخصَّ مَن اصطفاه بخصوصيات منع منها الآخرين كالعلم اللَّدُني وإسجاد الملائكة له. وكذلك راجع: سورة ص/ آية 26، والنور، آية 25.

والآيات المذكورة في هذا الوجه هي في الاستخلاف العام، وهو غير ناظر للولاية.

3 - إن آيات الخلافة العامة مدلولها هو تفويض إعمار الأرض للبشر تكويناً، أمَّا تشريعاً، فإنه لم يفرضها لمطلق البشر، بل لمَن توفَّرت فيه شرائط من قبيل التوحيد والعمل بأحكام اللَّه وطاعته، وأن اللَّه لا يريد صرف ومجرد الإعمار البشري المادي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ... ) (1) . وهذا وجه التعبير بالفيء على ما استولى عليه الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أموال يهود خيبر ونواحيها، وكل مال للكفار لم

____________________

(1) التوبة 129: 38 - 39.

٢٠٦

يوجف عليه بخيل ولا ركاب؛ بمعنى المال الراجع، فلم يعتبر للكفار صلاحية التملُّك، واعتبر لخليفة اللَّه نبيِّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية الأموال العامة في الأرض.

سادساً: آية الأمانة

قوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (1) .

يوجد للآية تقريبان:

الأول: أن يكون المراد من الأمانة هنا هو خصوص الحكم بين الناس بقرينة التفريع ( وَإِذَا حَكَمْتُم ) بمعنى أن الحكم بين الناس أمانة، وأن مَن يملُك تدبير هذا الحكم هو الناس حيث إنهم المخاطبون بذلك، فإذا وُلِّي بعضهم على بعض يجب أن يحكموا بين الناس بالعدل.

الثاني: أن الأمانة هي الحكم بين الناس بالأصالة، وعند وجود المعصوم، فإن الولاية تكون له بموجب النص، وعند عدمه، فإنها تعود للأمة.

وقوله تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (2) .

وقد فُسِّرت الأمانة تارة بالتكاليف، وأخرى بالأحكام، وعلى كليهما تنفع في المقام؛ إذ تفيد شمولها للتكاليف الولائية وأنشطة الدولة التي هي نوع من التكاليف الكفائية في المجتمع المدني، فالأمانة بيد الأمة إما بالأصالة مطلقة؛ أي في عرض النص، أو أنها في طول النص.

والجواب عن هذا كلِّه:

____________________

(1) النساء 4: 58.

(2) الأحزاب 73: 72.

٢٠٧

أننا لو لاحظنا آية سورة النساء، لوجدنا أنها ابتدأت بضمير المخاطب ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ ) وفي ذيلها: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) وقد تغيَّر الأسلوب إلى الخطاب بالصفة، وهذا يقرّب ما ورد من الروايات أن المخاطب في الأولى هم ولاة الأمر، فالإمامة هي أمانة الحكم إلا أن المخاطب بها هم ولاة الأمر.

وفي الثانية خطاب إلى عامة الناس لطاعة أولي الأمر، وقد ورد في ذيلها رواية عن الباقر عليه‌السلام : (أن إحدى الآيتين لنا والأخرى لكم) وقد ذهب بعض الكتّاب إلى شرح الرواية بالقول: أن الآية الأولى هي للناس والثانية للأئمة. وهذا عجيب؛ إذ أن الخطاب في الثانية بـ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، وهو خطاب عام، والآية الأولى وإن كان الخطاب فيها عاماً إلا أنه لا يُعقل توجيهه لكل الناس؛ لأنه ليس وظيفتهم حكم كل الناس، وواضح أن المخاطب فيها هم الحكّام.

وعلى فرض التنزُّل وأن المخاطب في الآية الأولى هم عامة الناس، فهي أصرح على نظرية النص؛ حيث يكونون مطالبين بأن يولّوا عملياً ويمكِّنوا مَن هو أهل لذلك، وهم الواجب طاعتهم.

أمَّا بقية الآيات، فهي بصدد بيان الأمانة العامة ومطلق التكاليف، الفردية منها والاجتماعية، وليست في صدد التعرُّض إلى ولاية الأمر بالخصوص.

وبعبارة أخرى: أن ذيل الآية؛ من لزوم طاعة أولي الأمر المقرونة طاعتهم بطاعة اللَّه وطاعة رسوله ممَّا يدلل على أنها متفرِّعة منهما لا من تنصيب الناس، شاهدٌ على أن الأمانة والحكم بين الناس ليس من صلاحية الناس وتنصيبهم؛ لأن اللازم على الناس المتابعة والانقياد، ومَن بيده النصب لا يكون تابعاً منقاداً، فالأمانة عهد اللَّه الذي لا يناله الظالمين كما في سورة البقرة، لا العهد من الناس.

٢٠٨

سابعاً: آيات تدل على نفي مسؤولية الرسول عن الأمة

( مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (1) ، ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) (2) ، ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) (3)، ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ) (4) ، ( فَإِن أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلَنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاَغُ ) (5) ، وغيرها من الآيات: ق/ 45، النحل/ 125، الغاشية/ 21، يونس/ 99.

وتقريب الاستدلال: أن هذه الآيات تحصر مهمة الرسول في التبليغ وهداية الناس ونفي مسؤوليته عن تولي زمام الأمة، وأنه ليس مسؤولاً عنهم إذا اختاروا طريقاً آخر، فهي تدل على أنه ليس من مهام الرسول الولاية في الأصل.

والجواب عن هذا الاستدلال: أنه يجب ملاحظة شأن نزول هذه الآيات، وملاحظة ما يحيط بها من آيات تكون قرينة على بيان معناها؛ حيث إن الآيات بصدد الإشارة إلى مطلب مهم بعيد عمَّا يستشهدون بها عليه، وهو أن الإيمان - الذي هو مدار النجاة في الآخرة - لا يمكن للرسول أن يلجيء أو يُقسِر عليه ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ، وكان الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألم لِمَا يرى من صدود المنافقين، وهو الذي أُرسل رحمة للعالمين وما يتحلَّى به من رأفة وشفقة عليهم ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) .

____________________

(1) النساء 4: 80.

(2) الأنعام 6: 66.

(3) الأنعام 6: 107.

(4) الفرقان 25: 43.

(5) الشورى 42: 48.

٢٠٩

مضافاً إلى أن الرسول كان رحمة للناس، وكان يظهر شفقته وحزنه حتى على المنافقين، وأن الحفاظة والوكالة المنفية هي في مورد الإيمان والدين، لا في مورد إدارة المجتمع ونحوه، كما أن هذا التفسير لا ينسجم مع الآيات الصريحة بأن على الرسول إقامة العدل، سواء في مجال الاقتصاد والأموال أم في الحقوق والمنازعات - السياسية أو الفردية - والحكم بين الناس، والقضاء شعبة ركنية من شعب الدولة، ولا ينسجم مع الآيات التي تأمر النبي بالجهاد ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ؛ فإنها صريحة في وجوب إقامة الحكم الإسلامي وحمل الناس على العيش في ضمن قوانين الدولة الإسلامية والتسليم الخارجي لهم، أما من جهة القلب والإيمان الباطني، فإن هذا أمر غير قابل للإكراه فيه. وفي هذا المجال نرى تلك الآيات التي تنفي مسؤولية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم، أمَّا الجانب الأول، فإن الآيات صريحة في وجوب إقامة الحكم على الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل كلمة اللَّه هي العليا.

ثامناً: آية المائدة

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) .

استدل البعض بهذه الآية الشريفة على أن الحكم عن طريق الشورى، وأنه يكون في طول النص؛ حيث أن الآية ذكرت أنه أنزل التوراة ليحصل بها الحكم، وهو غير الهداية، بل يشمل التشريع والقضاء، وهو للنبي أولاً، ثُم يأتي دور الربانيين، وهي صيغة مبالغة، ورباني المنسوب إلى الرب، وهم المطيعون للَّه عزَّوجل طاعة خالصة غير مشوبة بمعصية غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وهم أوصياء كل نبي، ثُم يأتي ثالثاً دور الأحبار، وهم العلماء الذين عليهم مسؤولية استلام سدة

٢١٠

الحكم، وأن هذه السنة الإلهية في تولِّي الحكم جارية في جميع الأديان.

وهذا الحكم العام يستفاد من مجموعة من القرائن:

أ - قوله تعالى: ( فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) ، فالمخاطب بها المسلمون، وهذا يدل على جريان هذه السنة الإلهية فيهم أيضاً.

ب - أن القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص، بل هو كتاب اعتبار وتشريع، فكل ما يذكره إنما يأتي به اللَّه عزَّوجل من أجل العبرة، والتشريعات تكون ثابتة ما لم يُنص على خلاف ذلك. فهذه السنة العامة التي ذكرها القران في بني إسرائيل غير مختصة بهم؛ بدليل عدم ذكر القران لهذا الاختصاص، بل إن ذكرها للدلالة على إرادتها من المخاطبين.

جـ - الآيات الواردة بعد ذلك في بيان حكم أهل الإنجيل؛ إذ يعيد الحق سبحانه نفس المفاد حيث تنص على وجوب الحكم بما جاء في الإنجيل ( وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ومِن ثَمَّ تستمر الآيات في بيان وجوب أن يحكم الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أنزل اللَّه.

والخلاصة: أن الآيات تبيِّن سنة إلهية جارية في جميع العهود والأزمان، وأنه إذا أنزل كتاباً سماوياً، فمراده من ذلك هو أن يكون دستوراً إلهياً على الأمة أن يتخذوه في تصرفاتهم على كافّة الأصعدة الفردية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والولائية. وتُظهر الآية تسلسل ترتب الحاكمية، فهي للنبين ثُم لوصيه، ثُم للأمة والأحبار، أي العلماء الذين هم جزء من الأمة، مع اشتراط توفُّر العلم والكفاءة والأمانة، وهي أمور لا ريب فيها.

وفي هذا الاستدلال تأمل:

1 - أن الآية لا تنافى نظرية النص، بل تدل عليها؛ وذلك لأن إيكال سدة الحكم للأحبار هل هو بالأصالة عرضاً مع الربانيِّين أم بالنيابة عنهم؟ والآية تصلح

٢١١

للانطباق على كلا المعنين.

2 - أن الترتيب في الذكر الوارد في الآية ليس اعتباطياً، بل هو للدلالة على نيابة المتأخر عن المتقدِّم بمقتضى ولاية المتقدِّم ذكراً على المتأخر؛ لأن المتأخر من رعية المتقدم، فتكون ولاية المتأخر متفرِّعة عن المتقدم، وحيث إن العلماء مستقى علمهم من المعصومين، فتوليهم للحكم يكون بالنيابة عن المعصوم، والدليل على تسنُّمهم سدة الفتيا هو آية النفر (1) فإسناد سدة الفتيا للفقهاء هو من عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله غايته أنه في طول المعصوم عن الرسول؛ حيث أن أصل العلوم كلها هي للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي يُطْلِع المعصوم عليها، وإن كان تشريع فتياهم، أي الفقهاء، هو من قبل اللَّه عزَّوجل، لكنها عن المعصوم‏ عليه‌السلام عن الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إن قلت: ظاهر الآية أن ولاية الأحبار ليست نيابة؛ وذلك لأن اللَّه عزَّوجل أسند الحكم إليهم، فالتخويل هو من قبل اللَّه.

قلت: إن لهذا نظائر كما في طاعة اللَّه وطاعة الرسول، وولاية اللَّه ولاية الرسول، فإن المزاوجة بين الولايتين لا يدل على أنهما في عرض واحد، بل إنها جعلت للمعصوم بتخويل من اللَّه عزَّوجل استخلافا. ومن نظائرها ما ذُكر في موارد الخمس والزكاة وأصنافها، فإن الولاية على الأموال هي للرسول والمعصوم، لا للأصناف، فالفقراء ليست لهم الولاية على أموال الزكاة.

إن قلت: هل تُتصور - بناء على نظرية النص - ولاية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المعصومين بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلت: إن ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله باقية على مَن بعده حتى بعد وفاته؛ وذلك لأن الرسول الأكرم هو الطريق لوصول العلوم إليهم عليهم‌السلام . ‏ويذكر مضافاً إلى نفوذ

____________________

(1) راجع في تفصيل ذلك كتابنا: دعوى السفارة في عصر الغيبة.

٢١٢

أحكامه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل المجالات على مَن بعده إلى يوم القيامة - كمثال على ذلك - ما جرى بين الحسين‏ عليه‌السلام وابن عباس عندما سأله الأخير عن خروجه مع علمه بما فعلوه بأبيه وأخيه، فأجابه عليه‌السلام : أنه قد رأى النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام وأخبره بالخروج إلى العراق؛ حيث أن رؤيا المعصومين صادقة، فهذه تمثِّل استمرار ولايته عليهم وبقاء تلك الطولية بينهم.

3 - قوله تعالى: ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) ، فإن هذه العبارة في الآية ليست متعلقة بالأحبار، بل متعلقة بالنبيين والربانيين؛ وذلك:

ـ أن مادة الحفظ واردة في القرآن غالباً بمعنى الإيكال العهدي الخاص الشبيه بالتكويني من اللَّه عزَّوجل إلى الملائكة المسمون (بالحفظة)، ولفظة ( اسْتُحْفِظُوا ) لم ترد إلاّ في هذا المورد، وهذا يدل على أن المراد منها هو العهد الخاص، ويقابل الاستحفاظ لفظ (التحميل) حيث ورد وصفاً لعلماء بني إسرائيل في سورة الجمعة ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ) ، فالتعبير بالحمل هو بمعنى التكليف، وهو غير الاستحفاظ، والثاني ورد في علمائهم، لا الأول.

ـ ورد عن الصادق عليه‌السلام في ذيل الآية: (الربَّانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذي يربّون الناس بعلمهم، والأحبار هم العلماء دون الربانيين). قال: (ثُم أخبر عنهم فقال: ( بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ) ولم يقل بما حملوا منه). تفسير الصافي 2 / 38.

وهذا أيضاً يدل على أن المراد من الاستحفاظ هو عهد خاص من اللَّه عزَّوجل.

ـ وقد يتساءل عن السر في تأخير ( بِمَا اسْتُحْفِظُواْ ) وإيرادها بعد الأحبار، وكان الأنسب ذكرها بعد الربانيين. والجواب عن ذلك:

أ - مثل هذا التعبير وارد في مواضع أخرى في القران مثلاً في سورة النساء (72 -

٢١٣

73): ( وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) . فجملة ( كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ) متعلقة بالآية السابقة عندما يقول المنافقون عند هزيمة المسلمين: الحمد للَّه الذي لم نكن معهم، فوجود الفاصل لا ينفي الارتباط بين الجملتين.

ب - أن هذا التعليل يبيِّن أنَّ المحورية والمركزية في الحكم للنبي والربانيين؛ وذلك لأن لهم العهد الخاص من قبل اللَّه عزَّوجل، ويكون موضع الأحبار هو النيابة عنهم، وبمنزلة الأيدي والأعوان، ولا يكونون مستقلين بالحكم والأمر، بل يصدر الأمر عنهم. نعم، يكون لهم نوع من الاستقلالية في ما لم يُنط بهم كما في ولاية الإمام‏ عليه‌السلام لمالك الأشتر، فقد زوَّده بالخطوط العامة للحكم، وعليه التصرف ضمن تلك الحدود ولا يرجع في كل صغيرة للإمام، وهذا مقام لا يعطى لكل أحد، بل لمَن يمتلك الكفاءة العلمية والأمانة؛ ولذا عبَّر عنهم بالأحبار، فعدم الاستقلال بالولاية يرجع إلى عدم توفُّر التعليل فيهم؛ حيث إنه منحصر بالنبيِّين والربانيين.

4 - وأخيراً يرد على المستدِل بهذه الآية الكريمة للجمع بين الشورى والنص وأنه مع انتفاء النص تصل النوبة للشورى، أن ذلك يتنافى مع ما هو مقرَّر في العقيدة الشيعية من أن الأرض لا تخلو من حجة ظاهرة أو باطنة، وأن الولاية مع وجود المنصوص عليه تكون فعلية، وليست اقتضائية ولا تقديرية، وهذا يعني أن موضوع النص لا ينفى أصلاً حتى يمكن أن نفرض الشورى عند انتفاء النص، ولا يمكن اعتبار عدم تسلُّم الإمام لسدة الحكم لجور الأمة وضلالها انتفاء للنص؛ فهو كما في تصريح الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا).

وكذلك غيبة المعصوم لا تعني انتفاء النص؛ لأنه موجود ومؤثِّر بتسديده للأمة

٢١٤

وهدايته لها من ستار الغيب كما يظهر من الروايات الكثيرة في هذا المجال.

منها: قوله‏ عليه‌السلام (إني لازلت راعٍ لكم، ولست بغافل عما يدور حولكم). فضرورة المذهب السائدة أن الفقهاء هم نوَّاب الإمام وشرعيَّتهم من شرعية الإمام - مع اختلافهم في مساحة تلك النيابة سعة وضيقاً - لا أن لهم ذلك بالأصالة. وهذه النيابة للفقهاء بالنصب العام، لا الخاص لجماعة وأشخاص بخصوصهم. نعم، أوكل أمر تعيين هذا المصداق النائب للأمة، فهو نوع من التخويل، سواء كان هذا الانتخاب بنحو مفرد أم لمجموعة واجدة لشرائط النيابة، وهذا نظير صلاحية القاضي فإنها استنابة عنه عليه‌السلام إلاّ أنه جعل تعين المصداق بيد المتخاصمين.

وهذا المعنى ليس إيكالاً للأمة باختيار القائد؛ بمعنى أن الأمة تختار مَن ينوب عنها، بل هو تفويض للأمة في تعيين المصداق من بين هؤلاء العلماء. فما يذكره بعض المتأخرين من أن للفقهاء الولاية بالأصالة في عصر الغيبة، مخالف لضرورة من ضروريات المذهب.

تاسعاً: سيرة الأئمة عليهم‌السلام

وقد ذكرت وجوه أخرى للدلالة على الشورى، بعضها قد مضى في تضاعيف الاستدلال بالآيات السابقة:

1 - الاستدلال بالسيرة: أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام جرت سيرتم وعملهم على عدم استلام سدة الحكم إلاّ بعد حصول البيعة ورجوع الناس إليهم، وأن الإمام نُقل عنه أنه يكون وزيراً ومرشداً أفضل من أن يكون أميراً، وأن حكومة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هي حكومة معنوية أقرب منها أن تكون حكومة سياسية. ولذا قيل: أن الموروث من الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بذاك الحجم الذي يمكن أن يؤسَّس به دستور لدولة، سواء في الجانب القضائي أو التشريعي أو التنفيذي.

٢١٥

ـ أن الأئمة عليهم‌السلام كانوا يبتعدون عن السلطة ولا يسعون لإقامة الحكم، بل على العكس كانوا يدفعون مَن يأتي ليبايعهم. فالإمام علي‏ عليه‌السلام عندما أتاه الناس لمبايعته، صدهم وامتنع أول الأمر، وهذا يعني أن الأمر بيد الأمة؛ فإنْ انتخبتهم، فقد أصابت طريق الرشاد والصلاح. كما أن أبا مسلم الخراساني قد عرض الحكم على الإمام الصادق‏ عليه‌السلام وقد رفض ذلك، والإمام الرضا قد عرض عليه المأمون الحكم وقد رفض، فهذا يعني أنهم لم يكن يرون أنفسهم منصوبين من قبل اللَّه.

2 - أن السياسة وتدبير الأمور ليست جزءاً من الدين والشريعة، بل هي أمور عامة ترجع إلى تقدير الناس وحسن رويتهم؛ فالحكومة تستمد مشروعيتها من الأمة والمجتمع.

3 - أن المعصومين مبشِّرون ومبلِّغون وهُداة، والنص على إمامتهم يعني وجوب الرجوع إليهم في معرفة أحكام الدين أصولاً وفروعاً، وإن الحكومة ليست تكليفاً إلهياً، وليس من مراتبه ومقاماته الحكومة؛ وأوضح مثال على ذلك أنبياء بني إسرائيل إذ لم يكونوا يديرون شؤون الناس.

4 - أن الكتاب الكريم لم يحتوي إلاّ على جزء قليل من أحكام الدولة.

5 - أن مفهوم النبوة والإمامة يعتمد على العلم الخاص، وليس فيه دلالة أو إيماء إلى الحكم والولاية.

والجواب عن هذه الوجوه:

أولاً: قد ذكرنا سابقاً الجواب عن السيرة ونكرره هنا:

ـ إن الآيات التي تأمر النبي بإقامة القسط والعدل والقضاء والجهاد والنشاط العسكري والدفاع عن المجتمع الإسلامي كثيرة، وهذه ‏خطابات ‏لا تصلح إلاّ للحاكم والوالي. وأمَّا البيعة، فقد ذكرنا نكتها وأنه لا يكفي مجرد التكليف من دون حصول

٢١٦

الوثوق والاطمئنان، وقد ذكرنا أن البيعة ليست تفويضاً أو توكيلا، بل هي إظهار الالتزام وأخذ العهد والتغليظ.

ـ وهكذا في سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، فإنه في كثير من كلماته يشير إلى أحقِّيته بالخلافة والحكومة، وأن مماطلته في استلام الخلافة بعد مقتل عثمان لحكمة تتضح لمَن له أقل تتبُّع للتأريخ؛ حيث أنه أراد قطع العذر لمَن يشق عصا المسلمين والطاعة عليه، وحتى لا يكون هناك مجالاً لمَن أراد أن ينكث البيعة.

ـ وقد يشكل بما روي عن الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ من أنه في ليلة العاشر من المحرم قال لأصحابه: (وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا).

وجوابه: أن الإمام الحسين واجب النصرة؛ لأنه مظلوم، فضلاً عن كونه إماماً مفترض الطاعة، فنصرته لم تجب بالبيعة فقط، بل بدونها نصرته واجبة. وقد ذكروا وجوها لهذه المقالة؛ منها: أنه أراد امتحان أصحابه ليعلم الثابت منهم عن غيره.

ومنها: أنه يكون إذن خاص منه‏ عليه‌السلام حيث علم أن سوف يستشهد.

ومنها: أن أصحابه ليسوا كلهم على درجة واحدة من الثبات، فلذا تنقل بعض الروايات أنه قد ذهب بعض منهم - ولكن يسير جداً - فهؤلاء لم يلزمهم بالبقاء.

ومنها: أن الاستشهاد معه‏ عليه‌السلام مرتبة لا ينالها إلاّ مَن أُتي نصيباً وافراً من المعرفة الحقيقية بمقامهم‏ عليهم‌السلام ؛ ‏ولذا كان هذا التحليل هو لذوي النفوس الضعيفة التي ليس من مقامها الاستشهاد معه‏ عليه‌السلام . وهؤلاء كانوا يظنون أن بقاءهم معه‏ عليه‌السلام مرتبط ببيعتهم له، فعاملهم الإمام عليه‌السلام على اعتقادهم.

ـ أما بالنسبة للإمام الصادق‏ عليه‌السلام ، فلقد عرض عليه أبو مسلم ‏الخراساني ‏البيعة، ولكن الإمام رفض ذلك، وسرُّه واضح؛ لأن أبا مسلم لم يرد تحكيم وتولية الإمام، وإنما أراد التستر والاستفادة من شخصية الإمام عليه‌السلام ؛ لأنه يعلم أن التغيير غير ممكن إلاّ إذا كانت

٢١٧

هناك شخصية ذات نفوذ وسلطة في قلوب الناس، والإمام عليه‌السلام كان له إحاطة بالأوضاع الاجتماعية وعلى دراية بخبايا أبي‏ مسلم. ولذلك ما أن أعرض عنه الإمام، حتى بادر ودعى إلى بني العباس.

ـ أمَّا بالنسبة للرضا عليه‌السلام ، فأولاً عندما امتنع عن قبول الولاية حقَّق هدفاً مهماً؛ وهو اتضاح أن ولاية المأمون لا أساس شرعي لها. وثانياً عندما قبل الولاية تحت الإجبار والإكراه مع شرط عدم التدخل في أمور السلطة، فإنه يتجنب إمضاء مشروعية أفعال السلطة الحاكمة؛ حيث يتَّضح أن المأمون لا شرعية لسلطته حتى يوليه ولاية العهد. وبهذا يكون قد خلص من الهدف الذي توخاه المأمون من استغلال مكانة الإمام الدينية في دعم شرعية سلطته.

ـ أما ما استشكله البعض من انصراف الأئمة عليهم‌السلام ‏عن الجانب السياسي، وعدم سعيهم لإقامة الدولة والحكم، فجوابه يتضح من خلال النقاط التالية:

أ - أن الأئمة عليهم‌السلام ‏انصرفوا إلى إعمال تعتبر أهم مِلاكاً من إقامة الحكم عند التزاحم؛ وهي بيان أحكام الدين ومعارفه، أي تدبير الجهة العقلية والمعرفية عند الناس، وهي مقدمة على تدبير الأبدان. واضح أن نشر الدين وبيان الأحكام تعمُّ منفعته جميع المسلمين في الأزمنة كافة، بينما تدبير الحكم وإقامة الدولة يفيد الأجيال المعاصرة لتلك الحقبة فقط، فإذا دار الأمر بين النفع والفائدة الأطول زماناً مع آخر ذي فائدة اقصر زمانا، فالتقديم للأول.

ب - أن المجتمع الإسلامي قد توسَّع بشكل كبير في القرنين الأول والثاني، وانفتح على حضارات مختلفة، واختلط بأمم متعددة، ممَّا أثار جملة كبيرة من الأسئلة والاستفسارات والشبهات التي احتاجت إلى أجوبة شافية دامغة لكل ما يمسُّ الدين الحنيف، وقد عجزت الأذهان العادية التي تنهل من العلوم الكسبية عن الإجابة عليها واحتاجت إلى مَن يكون له علم لدني يجيب عنها، خصوصاً أن

٢١٨

الحركة المسيحية واليهودية لم تألوا جهداً في ضرب الإسلام فكرياً وعقائديا بعد أن عجزت عن الإطاحة به عسكرياً، فقامت ببث التشكيك في معارف القران والجبر والتفويض وتجسيم اللَّه عزَّوجل ومعاجز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله و...

جـ - أن إقامة الحكم ورئاسة الأمة وظيفة مشتركة بين القائد والأمة، فإذا لم تتمثَّل الأمة للواجب المُلقى على عاقتها؛ من رجوعها إلى الإمام المعصوم، فإنه لا يجب على الإمام إجبارهم على ذلك. وقد تخاذلت الأمة عن القيام بواجبها، فاتجه الإمام إلى الوظيفة الأخرى.

ـ أن الأئمة لم يغفلوا الجانب السياسي البتة، وكانوا لا يفوّتون الفرصة من حين لآخر لإثبات أحقِّيتهم بالخلافة؛ فالإمام الكاظم عليه‌السلام عندما حجَّ هارون الرشيد وزار المدينة وجعل الأخير يسلِّم على الرسول: السلام عليك يابن العم. قال‏ عليه‌السلام في السلام: (السلام عليك ياجداه)؛ للإشارة إلى أن المشروعية إذا كانت بالأقربية، فإنَّا أقرب إليه منكم. وغيره من مئات الوقائع التي رصدها التاريخ لهم‏ عليهم‌السلام ‏مع سلاطين بني أمية وبني العبَّاس.

ـ أن الأئمة عليهم‌السلام ‏كانوا يمارسون نوعاً من الحكومة الخفية، ويأمرون وينهون شيعتهم؛ ومن هذه المواقف:

أ - نهي الكاظم عليه‌السلام لصفوان عن إيجار جماله - والتي كانت له أكبر مؤسسات النقل في العالم الإسلامي آنذاك - للدولة الحاكمة آنذاك.

ب - جباية الأموال في ذلك الزمان من الأمور المختصة بالدولة، ومع ذلك فإنهم عليهم‌السلام ‏كانت تجبى إليهم الأخماس والزكوات، واتفاق الفقهاء على أنه مع حضور الإمام لا تبرأ ذمة شخص إلاّ بتسليمها للإمام عليه‌السلام ؛ لِمَا كان علي بن يقطين يدفع زكاته للإمام الكاظم عليه‌السلام مع كونه وزيراً للسلطان العباسي، حتى أن جواسيس بني العباس خاطبوا هارون يوماً بما مضمونه: هل للمسلمين خليفتان تجبى لكل

٢١٩

منهما الأموال، وأن الثاني هو موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وأن معه من شيعته عشرات آلاف السيوف تنصره، ممَّا ينذر الخليفة العباسي بتنامي نفوذ الكاظم عليه‌السلام في المجتمع الإسلامي.

ب - نصب الوكلاء في المناطق المختلفة، وهؤلاء يرجع إليهم الناس في كلٍّ مِن معرفة الأحكام وفي خصوماتهم القضائية وفي كل توابع ولواحق القضاء؛ من إنفاذ الأوقاف والوصايا وتقسيم المواريث وإدارة أموال القصّر وأخذ القصاص أو الديَّات وغيرها.

وكان النصب على نحو نصب خاص ونصب عام، ونجد أن فقهاء الشيعة يجعلون المناصب ثلاثة: الإفتاء - القضاء - المرجعية؛ حيث يرون لكل منها شروطاً تختلف عن الأخر، وقد تتداخل بعضها. وهذا التفصيل استفيد من روايات الأئمة عليهم‌السلام ‏فعن تقرير يرفعه أحد عيون الجاسوسية للدولة العباسية - يرويه لنا الكشي في كتابه الرجالي - يصف الشيعة في الكوفة أنهم على ثمان طوائف؛ أحدها: زرارية بن أعين، والأخرى: مسلمية اتباع محمد بن مسلم، وهشامية: أتباع هشام بن الحكم، وبصيرية: أتباع أبي بصير، وهذا يذكر في الحقيقة تعداد الجماعات الشيعية التي ترجع إلى فقهاء الرواة عن الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ‏كما نجد أن الأئمة قد أجازوا إقامة الحدود بما يتناسب مع هذه الحكومة الخفية كالأب على ابنه والزوج على زوجته والسيد على عبده.

جـ - الممانعة من الجهاد الابتدائي مع السلطة الأموية والعباسية كما في رواية زين العابدين‏ عليه‌السلام في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة، قائلا: تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته، واللَّه تعلى يقول: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ... هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) فأجابه‏ عليه‌السلام : (أكمل الآية، فقال: ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440