الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137118 / تحميل: 8158
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

سابقاً، فعنوان البيعة كعنوان العقد والشروط، تعرض على ماهيات أولية مفروغ من صحتها.

والخلاصة أن البيعة إنشاء الالتزام بمفادٍ ثابتة صحته في رتبة سابقة.

نقض ودفع:

وهنا قد يورَد نقض أو تساؤل أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يهاجر إلاّ بعد أن أخذ البيعة من أهل المدينة، وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يرضَ أن يستلم السلطة إلاّ بعد البيعة، وهذان التصرُّفان يدلان على وجود خصوصية في البيعة.

والجواب عن ذلك: أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أخذ البيعة قام بالدعوة إلى نفسه وبيان حقيقة رسالته، فحصل انجذاب أفراد المجتمع إليه، ومِن ثَمَّ أخذ منهم البيعة، وهكذا يقال في أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ فبعد إيمان العامة بالإمام علي، وأنه الشخصية التي تنقذهم من التفكُّك والانهيار الذي صادف الدولة الإسلامية، حصلت المبايعة.

فالغرض من المبايعة هو التغليظ والتوكيد وحصول الاطمئنان للرسول الأكرم؛ حيث أنه ينتقل إلى مرحلة المواجهة مع المجتمع المكِّي، فيجب أن يطمئن إلى التزام جماعته وتعهُّدهم بذلك الالتزام، وهكذا يقال في ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وولاية الحسن‏ عليه‌السلام ، وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين‏ عليه‌السلام بتوسط نائبه مسلم بن عقيل، وهكذا يمكن تصوير أخذ البيعة للحجة المنتظر(عجَّل اللَّه تعالى فرجه)، فالبيعة في كل هذا، ضرب من التوثيق والتغليظ في المتابعة.

ـ وأمَّا ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الأكرم فى الحديبية، فسببه أن المسلمين لم يريدوا إيقاع الصلح مع المشركين، خلافاً لرأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يرى فيه انتصاراً للمسلمين وإذلالاً للكافرين حيث اعترفوا

٢٠١

للمسلمين بكيان ودولة، فيكون أكبر انتصار سياسي للمسليمن، لكن غالبية مَن كان مع الرسول لم يتفطَّن لذلك، وازدادت الشُّـقَّة بينهم، وبعد تمامية الصلح وقبل رجوعه للمدينة، أراد الرسول أن يجدِّد المسلمون التزامهم وتعهُّدهم بمناصرته التي هي في الأساس واجبة عليهم بحكم وجوب الطاعة.

وما ذُكر من الروايات الأخرى تؤكِّد كلَّها هذا المطلب.

ـ وأمَّا خُطب الإمام عليه‌السلام ، ففي بعضها يقيم الإمام الحجة على مبنى الخصم؛ وهو اعتبار البيعة شرط في تولِّي الحاكم وإن كانت على خلاف ماهية البيعة وخلاف ما يعتقد به عليه‌السلام .

ـ وأما قوله للذين تخلَّفوا عن بيعته: (أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه مَن كان قبلي، وإن الخيار للناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا، فلا خيار لهم، وهذه بيعة عامة؛ مَن رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله). فبالإضافة إلى ذلك الجواب، فإن هذا المقطع من خطبته مقتطع من صدره المذكور في كتاب سليم؛ حيث يبتدأها: (إن كانت الإمامة خيرة من اللَّه ورسوله، فليس لهم أن يختاروا، وإن كانت الخيرة للناس، فقد بايعني الناس بالشورى...)

رابعاً: الآيات المثبِتة للوظائف الاجتماعية العامة

الاستدلال بآيات كثيرة وردت في الكتاب العزيز يخاطب الحق تعالى الناس عموماً بوجوب الجهاد وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء وإقامة الحدود ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) . وقوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا

____________________

(١) آل عمران ٣: ٢٠٠.

٢٠٢

نَكَالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١) .

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ ) (٢) فاجلدوا ولا تأخذكم، اقطعوا الخطاب فيها للمجموع.

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (٣) . وغيرها من الآيات التي تخاطب الناس بما هو من وظائف الدولة.

وتقريب الاستدلال بها: أن هذه الآيات تحدِّد وظيفة الأنبياء والرسل بالتبليغ، أما نفس الحكومة وإدارة أمور المجتمع والوظائف العامة، فهي للناس يجب عليهم القيام بها.

والجواب عنها:

١ - قد ذكرنا سابقاً وظائف الدولة كجهاز لا يمكن أن يقوم به فرد واحد، بل لابد أن يقوم به الجماعة والناس كافَّة، وبتعبير آخر: إن الدولة والحكم جهد مشترك بين الناس والحاكم، ولا يستطيع الحاكم أن يقوم به بمفرده. ومن دون تفاعل الناس مع جهاز الدولة وطاعتهم له لا يمكن لهذا الجهاز أن يقوم بمهمته.

٢ - لو سلمنا بدلالة الآيات على المدعى، فنتساءل كيف يمكن للناس أن يقوموا بتلك المهام؟ فهل يؤدُّونها بنحو المجموع؟! هذا غير ممكن، بل لابد أن يكون هناك جهاز يتولَّى هذه المهمة، فمع قيام هذا الجهاز نتساءل: هل يسقط عن الواجب الأمة وبقية الناس؟ الجواب: بالطبع لا، فالواجب يبقى مع وجود هذا الجهاز.

وبتعبير آخر: أن وجوب هذه الأمور على الناس لا يعني عدم وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه المهام، فإنه يبقى على الناس الطاعة والالتزام بما يقرِّره هذا

____________________

(١) المائدة ٥: ٣٨.

(٢) التوبة ٩: ٣.

(٣) الحديد ٥٧: ٢٥.

٢٠٣

الجهاز. فهذه الآيات على فرض تمامية دلالتها لا تنافي وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه الأمور.

٣ - إن أي فعل له جهات ثلاث؛ أحدها: ماهية الفعل وكيفية أدائه وشرائطه. والثانية: الذي يقوم بالفعل، والثالث: الذي يقع عليه الفعل (القابل).

والأدلة التي تذكر في بيان أداء وظيفة أو فعل ما، تكون في صدد بيان إحدى هذه الجهات، ولا يمكن الاستفادة منها في بيان الجهة الأخرى، فقوله عليه‌السلام : (نهى النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر)، لبيان الجهة الأولى، ولا يمكن الاستفادة منها لمعرفة شرائط المتعاقدين، وما ذكر من الآيات في صدد بيان الجهة الأولى؛ وهي: ما هي الأمور التي يجب تنفيذها في المجتمع الإسلامي؟ أما مَن هو الذي يقوم بهذا

العمل؟ فإن الآيات غير متعرِّضة له؛ فهذه وظائف خاصة واجبة على عامة المجتمع بنحو الوجوب الكفائي، وهو لا ينافي كونه واجباً عينياً على الزعيم والمدير والرئيس وهو نظير تجهيز الميت إذ أنه واجب كفائي على عامة المسلمين‏ ولا ينافيه كونه واجباً عينياً على الولي أو الوصي، وهذا النحو من الوجوب مشترك بين نظرية النص والشورى.

٤ - ورد في ذيل آية سورة الحديد: ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ، فالآية الكريمة فيها دلالة واضحة أن الأمر في الواقع بيد الرسل والمبلِّغين عن اللَّه، وأن وظيفة الناس هي المناصرة والطاعة؛ وليميِّز اللَّه الخبيث من الطيب.

٥ - إن المستدل استدل بظاهر هذه الآيات وأن هذه الأوامر عامة للناس، لكن غفل عن آيات أخرى كان المخاطب فيها الرسول(‏صلَّى الله عليه وآله وحده) ( جَاهِدِ الْكُفَّارَ ) ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بالعَدْلِ ) .

وهذا يعني أنه لا يمكن الإغفال عن هذه الآيات ووضعها بجانب تلك الآيات

٢٠٤

حتى يظهر لنا ما هو الواجب على الأمة وما هو الواجب على المرسلين، ولا يمكن النظر إليها بنحو منفصلٍ عن بقية الآيات التي تُثبت الولاية ووظائف‏ الولاة، وأدلة الولاية لا تكون معارضة لهذه الآيات، بل تكون قرينة على تعيين مفادها.

خامساً: آيات الاستخلاف

( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَا يَشَاءُ... ) (١) ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الارْضِ... )( ٢ ) ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ) (٣) ( إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ ) (٤) ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ... ) (٥) .

وتقريب الاستدلال بها بأن بني البشر قد وُلُّوا عمارة الأرض من قبل اللَّه جلَّ وعلا، ومن بين الأمور التي تقتضيها الخلافة هو تولي أحدهم وتأميره وإعطاء الولاية له.

وهذا الفهم للآية يقابله فهم آخر - طبقاً لنظرية النص -: أن هذه الآيات هي إذن عام بالاستفادة من خيرات الأرض وإعمارها في قبال بقية الكائنات التي ليست لها هذه القابلية ولم يفوض لهم تكويناً ذلك. أمَّا الولاية الخاصة والتأمير، فهو أمر آخر لا

____________________

(١) الأنعام ٦: ١٣٣.

(٢) الأنعام ٦: ١٦٥.

(٣) النحل ٢٧: ٦٢.

(٤) الأحزاب ٣٣: ٧٢.

(٥) فاطر ٣٥: ٣٩.

٢٠٥

يستفاد من هذه الخلافة العامة.

وههنا ملاحظات حول هذه الطائفة من الآيات:

١ - إن غاية تقريب هذه الطائفة لا يفوق ما ذكر من الآيات والوجوه السابقة من تكليف الأمة بالوظائف العامة، فيرد عليها ما أوردناه هناك، والوظيفة التي تظهرها هذه الآيات هي أن وظيفتهم إعمار الأرض والاستفادة من مواردها الطبيعية في قبال الإفساد والإهمال.

٢ - يصرِّح كثير من المفسِّرين أن هناك نوعين من الاستخلاف؛ أحدهما: عام يشمل جميع البشر، والأخر: خاص، وهو الذي يتعرَّض فيه للولاية، وهو خاص بمَن يصطفيه اللَّه تعالى (البقرة:٣٠ - ٣٥)، وخصَّ مَن اصطفاه بخصوصيات منع منها الآخرين كالعلم اللَّدُني وإسجاد الملائكة له. وكذلك راجع: سورة ص/ آية ٢٦، والنور، آية ٢٥.

والآيات المذكورة في هذا الوجه هي في الاستخلاف العام، وهو غير ناظر للولاية.

٣ - إن آيات الخلافة العامة مدلولها هو تفويض إعمار الأرض للبشر تكويناً، أمَّا تشريعاً، فإنه لم يفرضها لمطلق البشر، بل لمَن توفَّرت فيه شرائط من قبيل التوحيد والعمل بأحكام اللَّه وطاعته، وأن اللَّه لا يريد صرف ومجرد الإعمار البشري المادي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ... ) (١) . وهذا وجه التعبير بالفيء على ما استولى عليه الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أموال يهود خيبر ونواحيها، وكل مال للكفار لم

____________________

(١) التوبة ١٢٩: ٣٨ - ٣٩.

٢٠٦

يوجف عليه بخيل ولا ركاب؛ بمعنى المال الراجع، فلم يعتبر للكفار صلاحية التملُّك، واعتبر لخليفة اللَّه نبيِّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية الأموال العامة في الأرض.

سادساً: آية الأمانة

قوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (١) .

يوجد للآية تقريبان:

الأول: أن يكون المراد من الأمانة هنا هو خصوص الحكم بين الناس بقرينة التفريع ( وَإِذَا حَكَمْتُم ) بمعنى أن الحكم بين الناس أمانة، وأن مَن يملُك تدبير هذا الحكم هو الناس حيث إنهم المخاطبون بذلك، فإذا وُلِّي بعضهم على بعض يجب أن يحكموا بين الناس بالعدل.

الثاني: أن الأمانة هي الحكم بين الناس بالأصالة، وعند وجود المعصوم، فإن الولاية تكون له بموجب النص، وعند عدمه، فإنها تعود للأمة.

وقوله تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (٢) .

وقد فُسِّرت الأمانة تارة بالتكاليف، وأخرى بالأحكام، وعلى كليهما تنفع في المقام؛ إذ تفيد شمولها للتكاليف الولائية وأنشطة الدولة التي هي نوع من التكاليف الكفائية في المجتمع المدني، فالأمانة بيد الأمة إما بالأصالة مطلقة؛ أي في عرض النص، أو أنها في طول النص.

والجواب عن هذا كلِّه:

____________________

(١) النساء ٤: ٥٨.

(٢) الأحزاب ٧٣: ٧٢.

٢٠٧

أننا لو لاحظنا آية سورة النساء، لوجدنا أنها ابتدأت بضمير المخاطب ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ ) وفي ذيلها: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) وقد تغيَّر الأسلوب إلى الخطاب بالصفة، وهذا يقرّب ما ورد من الروايات أن المخاطب في الأولى هم ولاة الأمر، فالإمامة هي أمانة الحكم إلا أن المخاطب بها هم ولاة الأمر.

وفي الثانية خطاب إلى عامة الناس لطاعة أولي الأمر، وقد ورد في ذيلها رواية عن الباقر عليه‌السلام : (أن إحدى الآيتين لنا والأخرى لكم) وقد ذهب بعض الكتّاب إلى شرح الرواية بالقول: أن الآية الأولى هي للناس والثانية للأئمة. وهذا عجيب؛ إذ أن الخطاب في الثانية بـ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، وهو خطاب عام، والآية الأولى وإن كان الخطاب فيها عاماً إلا أنه لا يُعقل توجيهه لكل الناس؛ لأنه ليس وظيفتهم حكم كل الناس، وواضح أن المخاطب فيها هم الحكّام.

وعلى فرض التنزُّل وأن المخاطب في الآية الأولى هم عامة الناس، فهي أصرح على نظرية النص؛ حيث يكونون مطالبين بأن يولّوا عملياً ويمكِّنوا مَن هو أهل لذلك، وهم الواجب طاعتهم.

أمَّا بقية الآيات، فهي بصدد بيان الأمانة العامة ومطلق التكاليف، الفردية منها والاجتماعية، وليست في صدد التعرُّض إلى ولاية الأمر بالخصوص.

وبعبارة أخرى: أن ذيل الآية؛ من لزوم طاعة أولي الأمر المقرونة طاعتهم بطاعة اللَّه وطاعة رسوله ممَّا يدلل على أنها متفرِّعة منهما لا من تنصيب الناس، شاهدٌ على أن الأمانة والحكم بين الناس ليس من صلاحية الناس وتنصيبهم؛ لأن اللازم على الناس المتابعة والانقياد، ومَن بيده النصب لا يكون تابعاً منقاداً، فالأمانة عهد اللَّه الذي لا يناله الظالمين كما في سورة البقرة، لا العهد من الناس.

٢٠٨

سابعاً: آيات تدل على نفي مسؤولية الرسول عن الأمة

( مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (١) ، ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) (٢) ، ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) (٣)، ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ) (٤) ، ( فَإِن أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلَنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاَغُ ) (٥) ، وغيرها من الآيات: ق/ ٤٥، النحل/ ١٢٥، الغاشية/ ٢١، يونس/ ٩٩.

وتقريب الاستدلال: أن هذه الآيات تحصر مهمة الرسول في التبليغ وهداية الناس ونفي مسؤوليته عن تولي زمام الأمة، وأنه ليس مسؤولاً عنهم إذا اختاروا طريقاً آخر، فهي تدل على أنه ليس من مهام الرسول الولاية في الأصل.

والجواب عن هذا الاستدلال: أنه يجب ملاحظة شأن نزول هذه الآيات، وملاحظة ما يحيط بها من آيات تكون قرينة على بيان معناها؛ حيث إن الآيات بصدد الإشارة إلى مطلب مهم بعيد عمَّا يستشهدون بها عليه، وهو أن الإيمان - الذي هو مدار النجاة في الآخرة - لا يمكن للرسول أن يلجيء أو يُقسِر عليه ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ، وكان الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألم لِمَا يرى من صدود المنافقين، وهو الذي أُرسل رحمة للعالمين وما يتحلَّى به من رأفة وشفقة عليهم ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) .

____________________

(١) النساء ٤: ٨٠.

(٢) الأنعام ٦: ٦٦.

(٣) الأنعام ٦: ١٠٧.

(٤) الفرقان ٢٥: ٤٣.

(٥) الشورى ٤٢: ٤٨.

٢٠٩

مضافاً إلى أن الرسول كان رحمة للناس، وكان يظهر شفقته وحزنه حتى على المنافقين، وأن الحفاظة والوكالة المنفية هي في مورد الإيمان والدين، لا في مورد إدارة المجتمع ونحوه، كما أن هذا التفسير لا ينسجم مع الآيات الصريحة بأن على الرسول إقامة العدل، سواء في مجال الاقتصاد والأموال أم في الحقوق والمنازعات - السياسية أو الفردية - والحكم بين الناس، والقضاء شعبة ركنية من شعب الدولة، ولا ينسجم مع الآيات التي تأمر النبي بالجهاد ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ؛ فإنها صريحة في وجوب إقامة الحكم الإسلامي وحمل الناس على العيش في ضمن قوانين الدولة الإسلامية والتسليم الخارجي لهم، أما من جهة القلب والإيمان الباطني، فإن هذا أمر غير قابل للإكراه فيه. وفي هذا المجال نرى تلك الآيات التي تنفي مسؤولية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم، أمَّا الجانب الأول، فإن الآيات صريحة في وجوب إقامة الحكم على الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل كلمة اللَّه هي العليا.

ثامناً: آية المائدة

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) .

استدل البعض بهذه الآية الشريفة على أن الحكم عن طريق الشورى، وأنه يكون في طول النص؛ حيث أن الآية ذكرت أنه أنزل التوراة ليحصل بها الحكم، وهو غير الهداية، بل يشمل التشريع والقضاء، وهو للنبي أولاً، ثُم يأتي دور الربانيين، وهي صيغة مبالغة، ورباني المنسوب إلى الرب، وهم المطيعون للَّه عزَّوجل طاعة خالصة غير مشوبة بمعصية غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وهم أوصياء كل نبي، ثُم يأتي ثالثاً دور الأحبار، وهم العلماء الذين عليهم مسؤولية استلام سدة

٢١٠

الحكم، وأن هذه السنة الإلهية في تولِّي الحكم جارية في جميع الأديان.

وهذا الحكم العام يستفاد من مجموعة من القرائن:

أ - قوله تعالى: ( فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) ، فالمخاطب بها المسلمون، وهذا يدل على جريان هذه السنة الإلهية فيهم أيضاً.

ب - أن القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص، بل هو كتاب اعتبار وتشريع، فكل ما يذكره إنما يأتي به اللَّه عزَّوجل من أجل العبرة، والتشريعات تكون ثابتة ما لم يُنص على خلاف ذلك. فهذه السنة العامة التي ذكرها القران في بني إسرائيل غير مختصة بهم؛ بدليل عدم ذكر القران لهذا الاختصاص، بل إن ذكرها للدلالة على إرادتها من المخاطبين.

جـ - الآيات الواردة بعد ذلك في بيان حكم أهل الإنجيل؛ إذ يعيد الحق سبحانه نفس المفاد حيث تنص على وجوب الحكم بما جاء في الإنجيل ( وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ومِن ثَمَّ تستمر الآيات في بيان وجوب أن يحكم الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أنزل اللَّه.

والخلاصة: أن الآيات تبيِّن سنة إلهية جارية في جميع العهود والأزمان، وأنه إذا أنزل كتاباً سماوياً، فمراده من ذلك هو أن يكون دستوراً إلهياً على الأمة أن يتخذوه في تصرفاتهم على كافّة الأصعدة الفردية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والولائية. وتُظهر الآية تسلسل ترتب الحاكمية، فهي للنبين ثُم لوصيه، ثُم للأمة والأحبار، أي العلماء الذين هم جزء من الأمة، مع اشتراط توفُّر العلم والكفاءة والأمانة، وهي أمور لا ريب فيها.

وفي هذا الاستدلال تأمل:

١ - أن الآية لا تنافى نظرية النص، بل تدل عليها؛ وذلك لأن إيكال سدة الحكم للأحبار هل هو بالأصالة عرضاً مع الربانيِّين أم بالنيابة عنهم؟ والآية تصلح

٢١١

للانطباق على كلا المعنين.

٢ - أن الترتيب في الذكر الوارد في الآية ليس اعتباطياً، بل هو للدلالة على نيابة المتأخر عن المتقدِّم بمقتضى ولاية المتقدِّم ذكراً على المتأخر؛ لأن المتأخر من رعية المتقدم، فتكون ولاية المتأخر متفرِّعة عن المتقدم، وحيث إن العلماء مستقى علمهم من المعصومين، فتوليهم للحكم يكون بالنيابة عن المعصوم، والدليل على تسنُّمهم سدة الفتيا هو آية النفر (١) فإسناد سدة الفتيا للفقهاء هو من عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله غايته أنه في طول المعصوم عن الرسول؛ حيث أن أصل العلوم كلها هي للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي يُطْلِع المعصوم عليها، وإن كان تشريع فتياهم، أي الفقهاء، هو من قبل اللَّه عزَّوجل، لكنها عن المعصوم‏ عليه‌السلام عن الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إن قلت: ظاهر الآية أن ولاية الأحبار ليست نيابة؛ وذلك لأن اللَّه عزَّوجل أسند الحكم إليهم، فالتخويل هو من قبل اللَّه.

قلت: إن لهذا نظائر كما في طاعة اللَّه وطاعة الرسول، وولاية اللَّه ولاية الرسول، فإن المزاوجة بين الولايتين لا يدل على أنهما في عرض واحد، بل إنها جعلت للمعصوم بتخويل من اللَّه عزَّوجل استخلافا. ومن نظائرها ما ذُكر في موارد الخمس والزكاة وأصنافها، فإن الولاية على الأموال هي للرسول والمعصوم، لا للأصناف، فالفقراء ليست لهم الولاية على أموال الزكاة.

إن قلت: هل تُتصور - بناء على نظرية النص - ولاية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المعصومين بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلت: إن ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله باقية على مَن بعده حتى بعد وفاته؛ وذلك لأن الرسول الأكرم هو الطريق لوصول العلوم إليهم عليهم‌السلام . ‏ويذكر مضافاً إلى نفوذ

____________________

(١) راجع في تفصيل ذلك كتابنا: دعوى السفارة في عصر الغيبة.

٢١٢

أحكامه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل المجالات على مَن بعده إلى يوم القيامة - كمثال على ذلك - ما جرى بين الحسين‏ عليه‌السلام وابن عباس عندما سأله الأخير عن خروجه مع علمه بما فعلوه بأبيه وأخيه، فأجابه عليه‌السلام : أنه قد رأى النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام وأخبره بالخروج إلى العراق؛ حيث أن رؤيا المعصومين صادقة، فهذه تمثِّل استمرار ولايته عليهم وبقاء تلك الطولية بينهم.

٣ - قوله تعالى: ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) ، فإن هذه العبارة في الآية ليست متعلقة بالأحبار، بل متعلقة بالنبيين والربانيين؛ وذلك:

ـ أن مادة الحفظ واردة في القرآن غالباً بمعنى الإيكال العهدي الخاص الشبيه بالتكويني من اللَّه عزَّوجل إلى الملائكة المسمون (بالحفظة)، ولفظة ( اسْتُحْفِظُوا ) لم ترد إلاّ في هذا المورد، وهذا يدل على أن المراد منها هو العهد الخاص، ويقابل الاستحفاظ لفظ (التحميل) حيث ورد وصفاً لعلماء بني إسرائيل في سورة الجمعة ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ) ، فالتعبير بالحمل هو بمعنى التكليف، وهو غير الاستحفاظ، والثاني ورد في علمائهم، لا الأول.

ـ ورد عن الصادق عليه‌السلام في ذيل الآية: (الربَّانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذي يربّون الناس بعلمهم، والأحبار هم العلماء دون الربانيين). قال: (ثُم أخبر عنهم فقال: ( بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ) ولم يقل بما حملوا منه). تفسير الصافي ٢ / ٣٨.

وهذا أيضاً يدل على أن المراد من الاستحفاظ هو عهد خاص من اللَّه عزَّوجل.

ـ وقد يتساءل عن السر في تأخير ( بِمَا اسْتُحْفِظُواْ ) وإيرادها بعد الأحبار، وكان الأنسب ذكرها بعد الربانيين. والجواب عن ذلك:

أ - مثل هذا التعبير وارد في مواضع أخرى في القران مثلاً في سورة النساء (٧٢ -

٢١٣

٧٣): ( وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) . فجملة ( كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ) متعلقة بالآية السابقة عندما يقول المنافقون عند هزيمة المسلمين: الحمد للَّه الذي لم نكن معهم، فوجود الفاصل لا ينفي الارتباط بين الجملتين.

ب - أن هذا التعليل يبيِّن أنَّ المحورية والمركزية في الحكم للنبي والربانيين؛ وذلك لأن لهم العهد الخاص من قبل اللَّه عزَّوجل، ويكون موضع الأحبار هو النيابة عنهم، وبمنزلة الأيدي والأعوان، ولا يكونون مستقلين بالحكم والأمر، بل يصدر الأمر عنهم. نعم، يكون لهم نوع من الاستقلالية في ما لم يُنط بهم كما في ولاية الإمام‏ عليه‌السلام لمالك الأشتر، فقد زوَّده بالخطوط العامة للحكم، وعليه التصرف ضمن تلك الحدود ولا يرجع في كل صغيرة للإمام، وهذا مقام لا يعطى لكل أحد، بل لمَن يمتلك الكفاءة العلمية والأمانة؛ ولذا عبَّر عنهم بالأحبار، فعدم الاستقلال بالولاية يرجع إلى عدم توفُّر التعليل فيهم؛ حيث إنه منحصر بالنبيِّين والربانيين.

٤ - وأخيراً يرد على المستدِل بهذه الآية الكريمة للجمع بين الشورى والنص وأنه مع انتفاء النص تصل النوبة للشورى، أن ذلك يتنافى مع ما هو مقرَّر في العقيدة الشيعية من أن الأرض لا تخلو من حجة ظاهرة أو باطنة، وأن الولاية مع وجود المنصوص عليه تكون فعلية، وليست اقتضائية ولا تقديرية، وهذا يعني أن موضوع النص لا ينفى أصلاً حتى يمكن أن نفرض الشورى عند انتفاء النص، ولا يمكن اعتبار عدم تسلُّم الإمام لسدة الحكم لجور الأمة وضلالها انتفاء للنص؛ فهو كما في تصريح الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا).

وكذلك غيبة المعصوم لا تعني انتفاء النص؛ لأنه موجود ومؤثِّر بتسديده للأمة

٢١٤

وهدايته لها من ستار الغيب كما يظهر من الروايات الكثيرة في هذا المجال.

منها: قوله‏ عليه‌السلام (إني لازلت راعٍ لكم، ولست بغافل عما يدور حولكم). فضرورة المذهب السائدة أن الفقهاء هم نوَّاب الإمام وشرعيَّتهم من شرعية الإمام - مع اختلافهم في مساحة تلك النيابة سعة وضيقاً - لا أن لهم ذلك بالأصالة. وهذه النيابة للفقهاء بالنصب العام، لا الخاص لجماعة وأشخاص بخصوصهم. نعم، أوكل أمر تعيين هذا المصداق النائب للأمة، فهو نوع من التخويل، سواء كان هذا الانتخاب بنحو مفرد أم لمجموعة واجدة لشرائط النيابة، وهذا نظير صلاحية القاضي فإنها استنابة عنه عليه‌السلام إلاّ أنه جعل تعين المصداق بيد المتخاصمين.

وهذا المعنى ليس إيكالاً للأمة باختيار القائد؛ بمعنى أن الأمة تختار مَن ينوب عنها، بل هو تفويض للأمة في تعيين المصداق من بين هؤلاء العلماء. فما يذكره بعض المتأخرين من أن للفقهاء الولاية بالأصالة في عصر الغيبة، مخالف لضرورة من ضروريات المذهب.

تاسعاً: سيرة الأئمة عليهم‌السلام

وقد ذكرت وجوه أخرى للدلالة على الشورى، بعضها قد مضى في تضاعيف الاستدلال بالآيات السابقة:

١ - الاستدلال بالسيرة: أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام جرت سيرتم وعملهم على عدم استلام سدة الحكم إلاّ بعد حصول البيعة ورجوع الناس إليهم، وأن الإمام نُقل عنه أنه يكون وزيراً ومرشداً أفضل من أن يكون أميراً، وأن حكومة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هي حكومة معنوية أقرب منها أن تكون حكومة سياسية. ولذا قيل: أن الموروث من الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بذاك الحجم الذي يمكن أن يؤسَّس به دستور لدولة، سواء في الجانب القضائي أو التشريعي أو التنفيذي.

٢١٥

ـ أن الأئمة عليهم‌السلام كانوا يبتعدون عن السلطة ولا يسعون لإقامة الحكم، بل على العكس كانوا يدفعون مَن يأتي ليبايعهم. فالإمام علي‏ عليه‌السلام عندما أتاه الناس لمبايعته، صدهم وامتنع أول الأمر، وهذا يعني أن الأمر بيد الأمة؛ فإنْ انتخبتهم، فقد أصابت طريق الرشاد والصلاح. كما أن أبا مسلم الخراساني قد عرض الحكم على الإمام الصادق‏ عليه‌السلام وقد رفض ذلك، والإمام الرضا قد عرض عليه المأمون الحكم وقد رفض، فهذا يعني أنهم لم يكن يرون أنفسهم منصوبين من قبل اللَّه.

٢ - أن السياسة وتدبير الأمور ليست جزءاً من الدين والشريعة، بل هي أمور عامة ترجع إلى تقدير الناس وحسن رويتهم؛ فالحكومة تستمد مشروعيتها من الأمة والمجتمع.

٣ - أن المعصومين مبشِّرون ومبلِّغون وهُداة، والنص على إمامتهم يعني وجوب الرجوع إليهم في معرفة أحكام الدين أصولاً وفروعاً، وإن الحكومة ليست تكليفاً إلهياً، وليس من مراتبه ومقاماته الحكومة؛ وأوضح مثال على ذلك أنبياء بني إسرائيل إذ لم يكونوا يديرون شؤون الناس.

٤ - أن الكتاب الكريم لم يحتوي إلاّ على جزء قليل من أحكام الدولة.

٥ - أن مفهوم النبوة والإمامة يعتمد على العلم الخاص، وليس فيه دلالة أو إيماء إلى الحكم والولاية.

والجواب عن هذه الوجوه:

أولاً: قد ذكرنا سابقاً الجواب عن السيرة ونكرره هنا:

ـ إن الآيات التي تأمر النبي بإقامة القسط والعدل والقضاء والجهاد والنشاط العسكري والدفاع عن المجتمع الإسلامي كثيرة، وهذه ‏خطابات ‏لا تصلح إلاّ للحاكم والوالي. وأمَّا البيعة، فقد ذكرنا نكتها وأنه لا يكفي مجرد التكليف من دون حصول

٢١٦

الوثوق والاطمئنان، وقد ذكرنا أن البيعة ليست تفويضاً أو توكيلا، بل هي إظهار الالتزام وأخذ العهد والتغليظ.

ـ وهكذا في سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، فإنه في كثير من كلماته يشير إلى أحقِّيته بالخلافة والحكومة، وأن مماطلته في استلام الخلافة بعد مقتل عثمان لحكمة تتضح لمَن له أقل تتبُّع للتأريخ؛ حيث أنه أراد قطع العذر لمَن يشق عصا المسلمين والطاعة عليه، وحتى لا يكون هناك مجالاً لمَن أراد أن ينكث البيعة.

ـ وقد يشكل بما روي عن الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ من أنه في ليلة العاشر من المحرم قال لأصحابه: (وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا).

وجوابه: أن الإمام الحسين واجب النصرة؛ لأنه مظلوم، فضلاً عن كونه إماماً مفترض الطاعة، فنصرته لم تجب بالبيعة فقط، بل بدونها نصرته واجبة. وقد ذكروا وجوها لهذه المقالة؛ منها: أنه أراد امتحان أصحابه ليعلم الثابت منهم عن غيره.

ومنها: أنه يكون إذن خاص منه‏ عليه‌السلام حيث علم أن سوف يستشهد.

ومنها: أن أصحابه ليسوا كلهم على درجة واحدة من الثبات، فلذا تنقل بعض الروايات أنه قد ذهب بعض منهم - ولكن يسير جداً - فهؤلاء لم يلزمهم بالبقاء.

ومنها: أن الاستشهاد معه‏ عليه‌السلام مرتبة لا ينالها إلاّ مَن أُتي نصيباً وافراً من المعرفة الحقيقية بمقامهم‏ عليهم‌السلام ؛ ‏ولذا كان هذا التحليل هو لذوي النفوس الضعيفة التي ليس من مقامها الاستشهاد معه‏ عليه‌السلام . وهؤلاء كانوا يظنون أن بقاءهم معه‏ عليه‌السلام مرتبط ببيعتهم له، فعاملهم الإمام عليه‌السلام على اعتقادهم.

ـ أما بالنسبة للإمام الصادق‏ عليه‌السلام ، فلقد عرض عليه أبو مسلم ‏الخراساني ‏البيعة، ولكن الإمام رفض ذلك، وسرُّه واضح؛ لأن أبا مسلم لم يرد تحكيم وتولية الإمام، وإنما أراد التستر والاستفادة من شخصية الإمام عليه‌السلام ؛ لأنه يعلم أن التغيير غير ممكن إلاّ إذا كانت

٢١٧

هناك شخصية ذات نفوذ وسلطة في قلوب الناس، والإمام عليه‌السلام كان له إحاطة بالأوضاع الاجتماعية وعلى دراية بخبايا أبي‏ مسلم. ولذلك ما أن أعرض عنه الإمام، حتى بادر ودعى إلى بني العباس.

ـ أمَّا بالنسبة للرضا عليه‌السلام ، فأولاً عندما امتنع عن قبول الولاية حقَّق هدفاً مهماً؛ وهو اتضاح أن ولاية المأمون لا أساس شرعي لها. وثانياً عندما قبل الولاية تحت الإجبار والإكراه مع شرط عدم التدخل في أمور السلطة، فإنه يتجنب إمضاء مشروعية أفعال السلطة الحاكمة؛ حيث يتَّضح أن المأمون لا شرعية لسلطته حتى يوليه ولاية العهد. وبهذا يكون قد خلص من الهدف الذي توخاه المأمون من استغلال مكانة الإمام الدينية في دعم شرعية سلطته.

ـ أما ما استشكله البعض من انصراف الأئمة عليهم‌السلام ‏عن الجانب السياسي، وعدم سعيهم لإقامة الدولة والحكم، فجوابه يتضح من خلال النقاط التالية:

أ - أن الأئمة عليهم‌السلام ‏انصرفوا إلى إعمال تعتبر أهم مِلاكاً من إقامة الحكم عند التزاحم؛ وهي بيان أحكام الدين ومعارفه، أي تدبير الجهة العقلية والمعرفية عند الناس، وهي مقدمة على تدبير الأبدان. واضح أن نشر الدين وبيان الأحكام تعمُّ منفعته جميع المسلمين في الأزمنة كافة، بينما تدبير الحكم وإقامة الدولة يفيد الأجيال المعاصرة لتلك الحقبة فقط، فإذا دار الأمر بين النفع والفائدة الأطول زماناً مع آخر ذي فائدة اقصر زمانا، فالتقديم للأول.

ب - أن المجتمع الإسلامي قد توسَّع بشكل كبير في القرنين الأول والثاني، وانفتح على حضارات مختلفة، واختلط بأمم متعددة، ممَّا أثار جملة كبيرة من الأسئلة والاستفسارات والشبهات التي احتاجت إلى أجوبة شافية دامغة لكل ما يمسُّ الدين الحنيف، وقد عجزت الأذهان العادية التي تنهل من العلوم الكسبية عن الإجابة عليها واحتاجت إلى مَن يكون له علم لدني يجيب عنها، خصوصاً أن

٢١٨

الحركة المسيحية واليهودية لم تألوا جهداً في ضرب الإسلام فكرياً وعقائديا بعد أن عجزت عن الإطاحة به عسكرياً، فقامت ببث التشكيك في معارف القران والجبر والتفويض وتجسيم اللَّه عزَّوجل ومعاجز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله و...

جـ - أن إقامة الحكم ورئاسة الأمة وظيفة مشتركة بين القائد والأمة، فإذا لم تتمثَّل الأمة للواجب المُلقى على عاقتها؛ من رجوعها إلى الإمام المعصوم، فإنه لا يجب على الإمام إجبارهم على ذلك. وقد تخاذلت الأمة عن القيام بواجبها، فاتجه الإمام إلى الوظيفة الأخرى.

ـ أن الأئمة لم يغفلوا الجانب السياسي البتة، وكانوا لا يفوّتون الفرصة من حين لآخر لإثبات أحقِّيتهم بالخلافة؛ فالإمام الكاظم عليه‌السلام عندما حجَّ هارون الرشيد وزار المدينة وجعل الأخير يسلِّم على الرسول: السلام عليك يابن العم. قال‏ عليه‌السلام في السلام: (السلام عليك ياجداه)؛ للإشارة إلى أن المشروعية إذا كانت بالأقربية، فإنَّا أقرب إليه منكم. وغيره من مئات الوقائع التي رصدها التاريخ لهم‏ عليهم‌السلام ‏مع سلاطين بني أمية وبني العبَّاس.

ـ أن الأئمة عليهم‌السلام ‏كانوا يمارسون نوعاً من الحكومة الخفية، ويأمرون وينهون شيعتهم؛ ومن هذه المواقف:

أ - نهي الكاظم عليه‌السلام لصفوان عن إيجار جماله - والتي كانت له أكبر مؤسسات النقل في العالم الإسلامي آنذاك - للدولة الحاكمة آنذاك.

ب - جباية الأموال في ذلك الزمان من الأمور المختصة بالدولة، ومع ذلك فإنهم عليهم‌السلام ‏كانت تجبى إليهم الأخماس والزكوات، واتفاق الفقهاء على أنه مع حضور الإمام لا تبرأ ذمة شخص إلاّ بتسليمها للإمام عليه‌السلام ؛ لِمَا كان علي بن يقطين يدفع زكاته للإمام الكاظم عليه‌السلام مع كونه وزيراً للسلطان العباسي، حتى أن جواسيس بني العباس خاطبوا هارون يوماً بما مضمونه: هل للمسلمين خليفتان تجبى لكل

٢١٩

منهما الأموال، وأن الثاني هو موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وأن معه من شيعته عشرات آلاف السيوف تنصره، ممَّا ينذر الخليفة العباسي بتنامي نفوذ الكاظم عليه‌السلام في المجتمع الإسلامي.

ب - نصب الوكلاء في المناطق المختلفة، وهؤلاء يرجع إليهم الناس في كلٍّ مِن معرفة الأحكام وفي خصوماتهم القضائية وفي كل توابع ولواحق القضاء؛ من إنفاذ الأوقاف والوصايا وتقسيم المواريث وإدارة أموال القصّر وأخذ القصاص أو الديَّات وغيرها.

وكان النصب على نحو نصب خاص ونصب عام، ونجد أن فقهاء الشيعة يجعلون المناصب ثلاثة: الإفتاء - القضاء - المرجعية؛ حيث يرون لكل منها شروطاً تختلف عن الأخر، وقد تتداخل بعضها. وهذا التفصيل استفيد من روايات الأئمة عليهم‌السلام ‏فعن تقرير يرفعه أحد عيون الجاسوسية للدولة العباسية - يرويه لنا الكشي في كتابه الرجالي - يصف الشيعة في الكوفة أنهم على ثمان طوائف؛ أحدها: زرارية بن أعين، والأخرى: مسلمية اتباع محمد بن مسلم، وهشامية: أتباع هشام بن الحكم، وبصيرية: أتباع أبي بصير، وهذا يذكر في الحقيقة تعداد الجماعات الشيعية التي ترجع إلى فقهاء الرواة عن الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ‏كما نجد أن الأئمة قد أجازوا إقامة الحدود بما يتناسب مع هذه الحكومة الخفية كالأب على ابنه والزوج على زوجته والسيد على عبده.

جـ - الممانعة من الجهاد الابتدائي مع السلطة الأموية والعباسية كما في رواية زين العابدين‏ عليه‌السلام في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة، قائلا: تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته، واللَّه تعلى يقول: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ... هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) فأجابه‏ عليه‌السلام : (أكمل الآية، فقال: ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ

٢٢٠

بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فقال‏ عليه‌السلام : إذا وجدتَ مَن هذه أوصافهم من المجاهدين، فحينها لا ندع الجهاد والقتال)، وهو عليه‌السلام يشير إلى أن الفتوحات التي تقوم الدولة بها حينذاك هدفها لم يكن نشر الإسلام، بل جني الغنائم وتحصيل الجاه والأموال والجواري...

د - ما ورد في رواية ابن حمزة عن أبي ‏جعفر عليه‌السلام قال: سمعته يقول: (مَن أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، وما حرَّمناه ذلك فهو له حرام). وهذه ممارسات ولائية حكومية في تحليل ما يؤخذ من السلطة الجائرة التي كانت تقوم بجباية الأموال من خراج وزكاة ومقاسمة.

هـ - الإشراف على تولِّي المناصب في الدولة القائمة من قبل بعض الشيعة حتّى يسهل إدارة أمور الشيعة؛ كما في الإمام الصادق‏ عليه‌السلام مع داود الزربي، والكاظم عليه‌السلام مع علي بن يقطين، والصادق‏ عليه‌السلام مع النجاشي في تولِّيه للأهواز، والإمام الرضا مع محمد بن إسماعيل بن بزيع.

و - الإذن لأصحابهم في التصدِّي للفتيا.

ز - تقنينهم لبعض التشريعات الولائية التي هي مقتضيات منصب الحاكمية، وليست تشريعات ثابتة. فكما في إحياء الموات والأمور الخاصة بها، والتفويض الخاص بالأراضي هو نوع من الممارسة الولائية، وليس تشريعاً ثابتاً؛ بدليل ما في بعض الروايات المشيرة إلى أنه عند ظهور الحجة عليه‌السلام سوف يتغيَّر هذا النظام في الأراضي.

حـ - إعفاؤهم شيعتهم من إعطاء الخمس في بعض الموارد وفي بعض السنين كما في رواية علي بن مهزيار عن الجواد عليه‌السلام . وما ورد عن الباقر عليه‌السلام في تقنين نظام التضمين وعدم ضمان الأجير.

ط - حثُّ الشيعة على التمسُّك بالأحكام الخاصة بالمذهب من التولِّي والتبرِّي،

٢٢١

وعدم ‏الولاء للسلطة الحاكمة وعدم مشروعيَّـتها، من قبيل التقية، ومتعة الحج والنساء، وإقامة الإحكام الفقهية الخاصة في الإعمال اليومية، وحثّ الإمام الباقر عليه‌السلام والصادق‏ عليه‌السلام لأصحابه على إقامة الجمعة فيما بينهم.

وبنظرة استقرائية لأحد المجاميع الروائية القديمة، أو لكتاب الوسائل مثلاً، يجد الناظر مشجَّرة كاملة في الأبواب الفقهية المروية لممارسات الأئمة عليهم‌السلام ‏في المجال التنفيذي الولائي والقضائي، فضلاً عن التشريعي، فرسم صورة كاملة عن أنشطة الحكومة الشرعية في كل المجالات التي تقوم بدورها في الخفاء عن الظهور أمام السلطة الظاهرية آنذاك.

ثانياً: الدين والسياسة

أمَّا ما ذُكر من أن السياسة ليست من الدين، وأن الحكومة من الأمور الخارجة عن التكليف الإلهي، وأن الكتاب غير حاوٍ لأحكام السياسة، فيجاب‏ عنه:

أ - أن القران عالج جوانب عدة من كيفية إقامة النظام في المجتمع؛ فوضع نظام الأحوال الشخصية، وقواعد القضاء (وهذه القواعد تتفرَّع منها آلاف القضايا الفرعية)، وكذا الحدود الجنائية والتعزيرات، والجهاد وأحكامه (والذي هو نظام علاقة المسلمين بالكفار وبأهل الكتاب في الحرب والسلم)، والخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة في دائرة اقتصاد الكل والجزء (الدولة والمدينة والريف)، ونظام المنابع المالية العامة، وقد أُعدت دراسات حديثة لاستخراج نظام القانون الدولي بين الدول من القران.

فهل يعقل أن يقال: إن مَن اهتم ببيان هذه الموارد أغفل عن ذكر نصوص تتعلق بالحاكم وشروطه وتعيينه؟

ب - يُنقض على المستشكِل بأن حكومة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك الفترة الحرجة

٢٢٢

وصلت وحقَّقت الكثير من الأهداف والانجازات، فهذا يعني أن هذا النظام - مع وجود الشخصية المؤهلة - قادر على تأدية وظائف ‏الحكومة وتنفيذها بأحسن حال، كيف وقد انتشلت المجتمع البدوي القبلي المتخلِّف إلى درجة أعظم نظام دولة يناهض القوتين العظميين حينذاك الكسروية والقيصرية؟!

جـ - أن القول بكون مشروعية الحكومة مستمدة من الأمة يناقض فصل الدين عن السياسة؛ لأن المشروعية تعني الأمر الذي شرَّعه الشارع واعتبره وصحّحه، والذي لا حرج في التعامل والأخذ به، فإذا كانت الحكومة المنبثقة من الأمة مشروعة؛ أي اعتبرها الشارع، فكيف لا تتعرَّض ‏الشريعة للحكم السياسي؟ وكيف تكون تلك الحكومة تستمد كل صلاحيتها من الأمة دون الشارع؟ وبعبارة أخرى: ما المعنى المحصَّل للمشروعية في كلامه إن لم ترجع إلى عدم التأثيم والعذر عند مالك يوم الدين، وأي معنى للحديث عن المشروعية حينئذ؟

ثُم إن مقتضى أن اللَّه سبحانه وتعالى مالك للمخلوقين ولأفعالهم، أن مبدأ وأصل الولاية هو للَّه تعالى، وأن كل الولايات تتشعَّب من ولايته ( الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) و ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) . وهذا أصل غاية الأمر؛ حيث جعل للإنسان الاختيار، لا القسر، فكانت الولاية الربانية عليه من نمط تكويني غير قاسر، ونمط تشريعي اعتباري قانوني، فمنطق التوحيد ومنطق الشرعية الإلهية يبنى على أن أصل الولاية للَّه، وأن كل شعبة لابد وأن تنتهي إلى ذلك الأصل.

نعم، المنطق الوضعي غير المتقيِّد بالملة والنهج السماوي وأن للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الإنسان وسلطة الفرد على نفسه، فيجعل من العقد الفردي والاجتماعي مصدر السلطات والولايات كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في (الوسيط)، فبين المنهجين بعد المشرقين.

د - أن أحدث النظريات في القانون الوضعي تشير إلى أن تعيين القائد الذي

٢٢٣

تنتخبه الأمة ليس اعتباطياً، بل يجب أن تتوفَّر في القائد المواصفات والأهلية اللازمة التي وضعها الدستور من الكفاءة والأمانة وغيرها. وحينئذ فإذا رُشَّح مَن له هذه الصفات وانتخبته الأمة، يكون الانتخاب صحيحاً. فحقيقة الانتخاب هي استكشاف مَن ترى الأمة أن توفُّر هذه الصفات فيه بنحوٍ أكمل وأفضل، فمنشأ ولايته هو توفر تلك الشروط فيه، لا اختيار الأمة، وإنما هو استكشاف فقط، وهذا يقترب من نظرية النص التي تدعَّي أن السماء هي التي تتكفّل ببيان هذه الصفات وتحديدها ويكون بيد الأمة تشخيصهم في الخارج.

وقد أثار هذا الباحثين من فقهاء القانون الوضعي فذهبوا إلى أن العقد ليس هو مبدأ نشوء السلطنة، سواء على الأفعال أو الأعيان، بل المنشأ هو السلطة التكوينية على الأولى، والحيازة أو العمارة للثانية. وأمَّا فقهاء الشرع من الفريقين، فقد نصُّوا على لزوم إمضاء الشارع لهذا الاعتبار البشري للسلطة؛ إذ أن للَّه ما في السموات والأرض، فلا يملك الفرد البشري في الاعتبار من الأفعال والأعيان إلاّ ما حدَّده الشرع له؛ لأن الشارع الأقدس مبدأ السلطات والولايات، لا أن الإنسان فاعل ومالك لِمَا يشاء ومطلق العنان، إلاّ ما ينقله هو باختياره عن نفسه بالعقد الفردي أو العقد الاجتماعي (الانتخاب) أو العقد السياسي (البيعة) إلى الغير. فبين المنهج التوحيدي والمنهج الوضعي بون بعيد. وبذلك يتضح أن أساس الحكومة في المجتمع مختلف بين المنهجين؛ فعند المنهج التوحيدي هو متشعب من ولاية اللَّه تعالى على المخلوقات البشرية، وعند المنهج الوضعي هو مستمد من سلطة الفرد والأفراد على أنفسهم، بل إن الدراسات القانونية في الفقه الوضعي تكاد تصل - كما ذكرنا آنفا - إلى هذه النتيجة؛ وهي: أن الأساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري؛ وذلك لأن العقد الاجتماعي (الانتخاب) الناشئ من سلطة الفرد على نفسه لا يبرر حكومة الأغلبية

٢٢٤

على الأقلية ولو بتفاوت يسير. وكذلك لزوم توفر شرائط في الشخص المنتخب بالعقد الاجتماعي، وليس هو من وضع سلطة الأفراد على أنفسهم، بل كلا الأمرين وغيرها من النتائج - التي لا تتلائم مع فلسفة السلطة الفردية والعقد - هي من قضاء العقل كمادة قانونية مرعيّة عند الكل. فمثلا: لزوم كون الرئيس المنتخب ذو خبرة وكفاءة عالية (العلم بمعناه الوسيع) وذو أمانة فائقة (العدالة وإذا ترقَّت أصبحت عصمة) أمر لابدَّ منه، وليس للفرد والأفراد تخطي هذا القانون تحت ذريعة السلطة الفردية المطلقة العنان، وهذا ما يقال من غلبة النزعة للمذهب العقلي في القانون الوضعي الحديث على المذهب الفردي.

ومن ذلك يتضح أن العقد الاجتماعي والسياسي، سواء الانتخاب أم البيعة، ليس إلاّ عبارة عن عملية توثيق وإحكام وعهد مغلّظ للعمل بالقانون، سواء على المنهج التوحيدي الديني أم الوضعي أخيراً، فضابطة الصحة للحاكم ليس هو العقد السياسي، بل هو توفُّر شرائط القانون الإلهي فيه أو الوضعي الإلهي، حيث إنه يُشعّب الولاية من المالك المطلق ‏الخالق طبق موازين ‏الكمال والعصمة والاصطفاء، فهو يُعيِّن المصداق الذي تتوفَّر فيه الشرائط ويكسبه ولاية الحكم، وتكون البيعة والعقد السياسي معه من قبل الناس ما هو إلاّ زيادة تعهُّد وإلزام بالعمل نظير النذر والقسم المتعلق بأداء صلاة الظهر أو صيام رمضان تغليظاً للوجوب.

وأما المنهج الوضعي، فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الأمة، لكن يظل هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلُّف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظل التخيير غير صائب في حالة توفُّر الصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الاختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الربَّاني الإلهي بجعل الانتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) .

٢٢٥

فالعقد السياسي وثيقة إلزام والتزام وسبب لزيادة التعهُّد، لا أنه عملية مولِّدة لصحة الشي‏ء الذي تمَّ التعاقد عليه، بل الصحة والسلامة آتية من الشارع أو القانون، والعقد هذا مفاده من أوليات الأبحاث القانونية؛ فالعقد السياسي والبيعة لا يؤمِّنان صحة الانتخاب وسلامة المنتخَب والمبايع، وإنما الذي يؤمِّنه، تعيين الشرع في المنهج التوحيدي والقانون في المنهج الوضعي. فالعقد لا يؤمِّن الصحة والسلامة، وهذا ما نجده عند فقهاء القانون من تمييزهم أدلة الصحة عن أدلة اللزوم.

ثُم كيف يتلائم قول القائل بأن الحكمة الإلهية في المعصوم‏ عليه‌السلام هي تجسيده للقانون الإلهي على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والفردية وغيرها، مع قوله بعدم نصب الشارع له حاكماً ووالياً على الأمة؟! وهل يكون ناطقاً حيَّاً بالقانون إلاّ بجعل الزعامة له على الأمة؟

هـ - أن من الضروري معرفة الفرق الجوهري بين القانون الوضعي والقانون الإلهي، ففي القانون الوضعي يكون المحور هو الفرد والإنسان بما هو هو، وفي القانون الإلهي يكون المحور اللَّه جلَّ وعلا أو الفرد بما هو عبد للَّه، وهذا المائز مهم جداً في فهم عملية التقنين وما يمكن أن يوضع ويقنن؛ إذ يضفي آثاره على بنوده والأهداف المتوخاة.

ففي القانون الإلهي يكون الالتفات إلى القوى الناطقية والإلهية في الإنسان، وفي الوضعي يكون الالتفات إلى القوى النازلة والحيوانية له؛ ولذا تكون نظرية النص أكثر انسجاماً مع القانون الإلهي. ونظرية الشورى تنسجم مع القانون الوضعي؛ حيث تجعل السلطة للفرد.

وفي القانون الوضعي تختلف الرؤية الكونية، وفي القانون الإلهي تراعى الكمالات التي تُوصل إلى الحق تعالى؛ وهي غير محدودة. ومن هنا يمكننا القول أن

٢٢٦

هناك مائزين جوهريين بين نطريتي النص والشورى:

ـ أن نظرية الشورى تكاد تشترك مع القانون الوضعي من زاوية فصل الدين عن السياسة؛ حيث إن الدين لا يقع منهاجاً وتقنيناً للنظام السياسي الحاكم، لأن النظام المتكامل هو الذي يتكفَّل بنصب الحاكم وبيان خصائصه وشروطه وامتيازاته، بخلاف نظرية النص التي تتكفَّل هذه الجهة وتطرح نظاماً سياسياً تاماً يعتمد على أساس الوراثة الملكوتية والتنصيب والتأهيل السماوي.

ـ أن أصحاب نظرية الشورى يجدون فراغاً كبيراً في التشريع؛ إذ أنهم يعتمدون على ظاهر الكتاب وما ورد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله . أما أصحاب نظرية النص، فالتشريع لديهم مستمر عشرات السنين على يد الأئمة المعصومين الذين أثروا الفكر الإسلامي بالتشريعات المناسبة، وأكملوا مسيرة الرسول الأكرم، واستخرجوا كنوز القران الكريم التي لا تفتح للأذهان العادية؛ ولذا يكون اندماج الدين في السياسة واضح وجلي.

و - ما ذُكر من خلو الكتاب الكريم من النصوص المتعلقة بالسياسة العامة، باطل، لكن قد يقال بأن السياسة ليست هي معرفة تلك الأمور الكلية، بل هي فن من الفنون قائم على الفصل بين الجزئيات المختلفة التي تحتاج إلى كياسة وخبرة وتجربة، والسائس يكون مؤهّلاً إذا حصلت لديه تلك الممارسة، ولذا صنف الحكماء السياسة في باب الحكمة العملية.

والجواب عن هذا:

ـ أن السياسة كما لها جانب عملي، فإنّ لها جانب نظري أيضاً، وتحكمه أصول كلية، وهذه الأصول الكلية موجودة في الدين (وقد أوضحنا ذلك مفصَّلاً في بحث الاعتبار والحسن والقبح). ثُم إن الدين لا يختص بالأمور النظرية العقائدية فقط، بل يرتبط بالجانب العملي، وفروع الدين تمثِّل هذا الجانب.

٢٢٧

ـ أن السياسة علم يدرس في الجامعات الأكاديمية ويحتوي على كليات مسطورة في الكتب. نعم، الجانب التطبيقي منها يعتمد على الخبرة والكياسة، وفي نظرية النص يكون المعصوم هو صاحب الخبرة؛ حيث إنه لا حاجة له مع علمه اللَّدُني إلى اكتساب خبرة من الأجيال البشرية لِمَا قد يُصوِّره البعض في غيبة الحجة عليه‌السلام ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ) ، والعلم نور يقذفه اللَّه في قلب مَن يشاء، وما التجارب والممارسات إلاّ مُعدَّات لذلك الفيض الإلهي. هذا بجانب علمه المحيط بالموضوعات بتسديد من البارئ وترفره على كمال الصفات في قواه النفسية الأخرى.

ثالثاً:

إن الأنبياء لم يكونوا هداة ومبلغين فقط، بل يديرون دفَّة الحكم، والآية المذكورة في سورة المائدة (44) أوضح دليل على ذلك، غاية الأمر أن الأنبياء - في أداء هذه الوظيفة بالذات - يحتاجون إلى مؤازرة الناس وإقْدَارهم وبدون رجوع الناس إليهم لا تتم هذه الوظيفة.

رابعاً:

ما ذكر من أن الحاكمية خارجة عن معنى الإمامة والنبوة، باطل بالنّص والعقل

وجوابه يتَّضح من قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ، ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) ، ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) ، ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) ، ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ) ، ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ ) ، ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) ، ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم ) فكل المنابع المالية العامة والضرائب المالية هي بيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام، مضافاً إلى آيات

٢٢٨

الولاية العامة الكثيرة ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) وغيرها.

خامساً: النص والعقل

إن ‏القول بالحاكمية التعينية يلازم ويسوق ‏إلى الحَجْر على عقل الإنسان وفكره وتقييد لسلطة العقلاء، فحتى في المعصوم يحتاج إلى انتخاب الناس، وإلا فالولاية عليهم من دون الانتخاب هو حكم بقصورهم ‏العقلي. وبتعبير آخر: إن النص يحمل في طيَّاته التناقض؛ وذلك لأن جعل الولاية يقتضي التعين، والقيمومة موردها القصور والحجر، وكونهم قُصر يعني عدم جواز توليتهم وتنصيبهم مع أنها وظيفتهم، فالتولية يلزم منها عدمها. ومع افتراض أن الناس عقلاء فلا معنى لجعل الولاية عليهم، فالعصمة التي في الأئمة هي عصمة التبليغ والهداية، لا الولاية الحاكمية، والجانب السياسي في حياة الإنسان أمر دنيوي لا يرجع فيه إلى السماء، والحاكم ليس إلاّ وكيل عن الجماعة في إدارة شؤونها.

وجوابه: أن كون الانسان عاقلا لا يعني أن له الولاية المطلقة على نفسه وعلى كل جزء من بدنه، بل إن الولاية المطلقة هي للَّه عزَّوجل وتتَّصل به ولاية الرسول والإمام، أي المعصوم. فبمجرد كونه عاقلاً لا يعني عدم ثبوت ولاية عليه من أحد، بل إن هذا العقل ينقصه الكثير الكثير لكي يحيط خبراً بكافة الأمور غير المتناهية، سواء كانت داخل ذاته أم في العالم المحيط به، فولاية اللَّه ورسوله وخليفته هي ولاية الحكيم المطلق على العاقل بعقل محدود في حدود نسبية يسيرة.

فلو قلنا إن الولاية تابعة لمدى عقلائيته، لازمه أن تعطى الولاية للآخرين في الأمور التي لا يحيط بها عقله. فتبين أن صرف ثبوت الولاية لأحد على أحد لا يعني أن الأخر محجور عليه، بل للفرد العاقل ولاية في حدود عُقلائيته. والمعصوم عقله محيط بجميع ‏الأمور، فولايته ‏أقوى من ولاية الإنسان على نفسه ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) . مضافاً إلى أن المستشكِل يرى أن الفرد عندما ينتخب أخر

٢٢٩

ويعطيه ‏الولاية على نفسه فهذا لا يجعله متنافياً مع عقلائيته، والبعض ذهب - ‏فراراً من هذا الإشكال - إلى أن ‏الحكم‏ والانتخاب هو وكالة وليس ولاية، لكن الصحيح أنه لا يمكن تصوير الوكالة في الحكم بالمعنى المصطلح الجاري عليه في باب المعاملات؛ وذلك لأن الحاكم يقوم بإلزام المجتمع بنوع خاص من القوانين والتصرفات، ولا يمكن تصوير أن الوكيل يُلزم الموكِّل بما لا يريده فضلاً عن لزوم هذه الوكالة؛ إذ مقتضى أن الوكالة جائزة هو أن الأمة يمكن أن ترجع في اختيارها حتى من دون سبب، وهذا لا يقول به أحد في هذا المقام.

مضافاً إلى العديد من الشواهد التي لا تنسجم مع الوكالة الاصطلاحية كالتعبير عنها بالنيابة والتولية، والقَسَم الدستوري الذي يؤدِّيه الحاكم، وعدم إمكان الحاكم الثاني إبطال أعمال الحاكم الأول، وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تبطل كون الحاكم وكيلاً عن الفرد.

وعلى كل تقدير يبقى المجال أمام الولاية، فإذا كان القول بأنّ نقل ولاية الفرد على نفسه بنفسه لا تنافي عقلانيته، فكذلك جعل الوالي من قبل اللَّه لا ينافي عقلائيته.

سادساً: النص والاستبداد

إن البعض ذكر أن نظرية النص تؤدي إلى الاستبداد، والاستبداد من المعاني المذمومة في القران والسنة؛ إذ قد وردت كثير من الآيات التي تذم ظاهرة الفرعونية التي تجعل ذات الفرد هي المحور، ولذا قال البعض - فراراً من هذا الإشكال -: إن المعصوم ملزَم بالشورى والاستشارة، وملزم أيضاً بنتيجة الشورى.

والجواب عنها:

أ - إن الاستبداد ينشأ تارة من أصل النظرية وتارة ينشأ من تطبيق النظرية، ولأجل إبطال النظرية يجب إثبات الأول.

ب - إن المشرِّع في نظرية النص وضع وسائل تمنع حصول الاستبداد؛ وذلك عن

٢٣٠

طريق ضمانات إجرائية:

منها: أن المنصوص عليه هو المعصوم من الزلل والخطأ ولا ينساق وراء الذات والشهوات، وسوف يأتي في الحديث في غير المعصوم.

ومنها: لزوم التقيُّد بالأحكام الإلهية بعيداً عن الهوى والأحاسيس، وهذه قاعدة فوقانية تشبه المواد الدستورية والتي يبطل كل تصرُّف مخالف لها.

ومنها: رقابة الأمة تحت إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق. ورقابتها بالنسبة إلى حكومة نائب المعصوم ظاهرة. وأما بالنسبة إلى حكومة المعصوم، فأجنحة الدولة وأفراد جهاز الدولة ليسوا بمعصومين، فتكون الأمة مُعينة للمعصوم على مراقبة جهاز الدولة كما هو الحال في سيرة علي عليه‌السلام .

ومنها: لزوم اتصافه بالمواصفات المؤهلة له كالعدالة والأمانة والكفاءة هذا في غير المعصوم الذي ينوب عنه، وإلاّ فهي في المعصوم بالنحو الكامل المتصاعد إلى العصمة العملية والعصمة العلمية. وقد قال الإمام عليه‌السلام : (لا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفَّظوا مني بما يتحفَّظ به عند أهل البادرة).

ومنها: أن الحاكم في نظرية النص له في الجانب التشريعي - مضافاً إلى الجانب التكويني الخاص - حيثيَّـتان حقوقية بما هو رسول أو إمام أو نائب إمام، والأخرى حقيقية، ومن هذه الحيثية يعتبر كسائر أفراد المجتمع، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ وهذا لِمَا مرَّ في النائب عن المعصوم، وأمَّا فيه، فإنه كذلك سوى ما خُصّ به من امتيازات في التشريع الإلهي ممَّا شُرِّف وفُضِّـل به على سائر الناس. فكل تصرف ينبع من شخصيته الحقوقية يكون نافذاً، وكل تصرف ينبع من الأخرى لا يكون نافذاً، هذا في النائب غير المعصوم، وإلاّ ففيه لا مجال لاحتمال التصرف الاقتراحي. وبتعبير آخر: إن ولاية شخصٍ ما، ينوب عن المعصوم، هي لعقيدته وفقاهته وعدالته

٢٣١

أنيب في الولاية، لا لخصوصية شخصه، وفي نظرية النصِ الحاكمُ (المعصوم أو نائبه) ينظر إلى الحكم كمسؤولية وأمانة وخدمة ووظيفة.

ومنها: المساواة أمام القانون، فالجميع يقفون أمام القانون على حدٍ سواء، والجميع تطبَّق العدالة عليهم، وهو لا يعني أن يتساوى الجميع في العطاء - مثلاً -، بل يُعطى كلٌّ على حسب ما هو مقدَّر له في الشرع، فالتفاضل والتمايز حاصل، لكنَّه تمايز وتفاضل رضى عليه الشرع، وهو بلحاظ عالم الآخرة لا عالم الدنيا.

ومنها: المحورية في نظرية النص ليس للفردي بما هو هو، بل بما هو عبد اللَّه، بينما في القانون الوضعي تكون المحورية للفرد بما هو هو. وقد ذكرنا سابقاً ما يترتَّب على هذه التفرقة، وأهمُّها أنها في التقنين تُؤمِّن ما يسد رغباته وحاجاته الشخصية وغرائزه الدانية من ملكية وحرية... وهذه كلها تعتبر من درجات الإنسان السفلى. بينما في التقنين الإلهي يكون الانطلاق من الجهة العقلية والتألهية، أي قوى الإنسان العليا، وهي المحور في التقنين، فمصلحة المجموع قبل المصلحة الشخصية والحرية ليس في إشباع الإنسان لرغباته وشهواته، بل الحرية الحقيقية هي في سيره اللامحدود نحو الكمال المطلق ونيل الكمالات اللامحدودة. والاستبداد يأتي من حرص الإنسان على نفسه وخصوصيته، وهذا إنما يرد في النظريات الأخرى، لا نظرية النص التي تجعل اللَّه هو الأصل والمقصد والغاية.

فهذه الأمور والضمانات الإجرائية المانعة من الاستبداد، وهي كالقواعد الدستورية التي يبطل كل تصرف يخالفها.

أمَّا الاستبداد، فإن نشأته تعود إلى عوامل:

أ - جهل وقلة وعي بالقانون.

ب - وجود طبقة من العلماء والمفكِّرين يروِّجون لمحورية ذاتهم / الصلاحيات المعطاة لأصحاب المناصب/ محورية الفرد.

٢٣٢

جـ - التفكُّك والاختلاف في صفوف الأمة.

د - إشاعة الرعب والرهبة من الولاة.

هـ - جعل منابع الثروة بيد طبقة معينة ممَّا ينشأ استبداد طبقي.

وهذه العوامل تجد أرضية خصبة في عالمنا اليوم في الأنظمة الغربية المدَّعية للديمقراطية ولانتخاب الأمة وسيادتها؛ حيث تجد الفارق الطبقي شديد و واسع ‏الهوَّة، والمال دُولة بين الأغنياء، وفرعنة للطبقة الثرية تحت عنوان سيادة الأمة وتحكيم آرائها (ولاية الشورى)، وهذا ما أطلعنا عليه التاريخ قديماً، فإن أكثر من جاء تحت هذا الغطاء إلى سدة الحكم، كان في الحقيقة بالتغلُّب والفتك، بينما تقاوم نظرية النص نشأة مثل هذه العوامل بعد كون مركز القوى السياسية والمالية والقضائية والعسكرية والأمنية هي بيد مَن عُصم علماً وعملاً كما بيَّناه مفصَّلاً، وكما أطلعنا التاريخ على حكومة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأمير عليه‌السلام وبرهة من حكم الحسنين عليهما‌السلام .

المبحث الرابع:

الأدلة العقلية على الشورى

وله تقريبات ثلاثة:

التقريب الأول: ينطلق من أن الانسان مدني بطبعه، ويُعلم من ضرورة العقل أنه لابد في كل اجتماع مدني من نظام وإدارة تقيم هذا الاجتماع، وهو المشار إليه في قوله عليه‌السلام : (لابد للناس من أمير بر أو فاجر). كما أن الواجبات الكفائية المُلْقاة على عاتق المسلمين لا يمكن تعطيلها في زمان ما، فهذه الحكومة التي تدير شؤون هذا الاجتماع لا تخلو إمَّا أن تكون منصوبة من قبل اللَّه عزَّوجل، أو تنصبها الأمة، أو تنال الحكم بالقهر والغلبة، وهذا الثالث باطل بالتأكيد؛ لأنه ظلم واستئثار، فينحصر الأمر بين الأولين، والفرض أن النصب من قبل اللَّه منتفٍ إمَّا مطلقاً أو على الأقل في عصر الغيبة؛ فيتعيَّن انتخاب الأمة.

٢٣٣

التقريب الثاني: أن السيرة العقلائية والبناء العقلائي جاريان على أن الناس ينتخبون حُكَّامهم بأنفسهم، ولا يوجد ردع عن هذا البناء العقلائي، وهي سيرة عقلائية جارية حتى زماننا هذا، وهي ليست سيرة فحسب، بل تقنين مركوز في عالم الاعتبار لدى العقلاء.

التقريب الثالث: وحاصله أنه قد ثبت أن الناس مسلَّطون على أموالهم، والسلطنة على المال فرع من السلطنة على فعل النفس، فهذا كافٍ في إثبات سلطنة الناس على أنفسهم. وقد يقال استدلالاً على هذه المقدمة: إن الإنسان مسلَّط على نفسه بحكم العقل العملي، حيث إن الإنسان مسلَّط على نفسه تكوينا، فهو مالك لتصرفاته وحركاته وسكناته بيده، ومع وجود تلك الملكة التكوينية لا حاجة للاعتبار، ومن هنا قالوا في الإجارة: إن عمل الأجير لا يملكه المؤجِّر قبل عقد الإيجار. وهذه المقدمة قد يستدل عليها بنحو آخر بالقول: إن اللَّه تعالى ذكر أن الرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو يثبت ولاية الإنسان على نفسه في مرتبة سابقة، غايتها أن الشارع جعل الرسول أولى منه بذلك، وهذا خاص بالرسول أو المعصوم، ومقتضى تسلُّط كل فرد على نفسه أنه لا يجوز لأحد أن يقهرهم، وعندما تقام الحكومة لابد من حصول تنسيق بين حريات الأفراد المقتضي للحد من إطلاقها، وهذا التحديد لحرية الفرد يخالف تلك السلطنة المطلقة التي للفرد على نفسه، فلابد أن يحصل ذلك بإذنه أو بتوكيل منه.

ويرد على هذه التقريبات:

أمَّا الأول ، فمع التسليم بالمقدمات، لكنَّا نختار من شقوقه نصب اللَّه عزَّوجل، بل نفس لابُدِّية الحكم نستخدمها لقلب الاستدلال لصالح نظرية النص؛ حيث إن تعيين الحاكم والقائد من الأمور التي يتحقَّق بها لطف اللَّه، حيث إنه يدخل في الهداية، وهو ألطف بالبشر وأكثر عناية بهم، وهذا وإن كان ينطبق على المعصوم

٢٣٤

إلا أنه بنفسه يمكن ذكره في الغيبة، أي ترتُّب المقدمات بعينها بعد فرض وجود المعصوم حيَّاً، وإن كان في ستار الغيبة فنستكشف من اللابدية المزبورة، نصب الفقيه العادل نائباً من قبل المعصوم، إذ الولي في الأصل هو المعصوم فلا معنى لولاية الفقيه العادل بالأصالة، بل بالنيابة عن إمام الأصل، فيقال: إن اللَّه لا يترك مجتمعه هكذا بدون إرشاد وبدون تعيين، بل يذكر لهم الشروط والطريقة الفضلى في تعيين القائد. وهذا يستلزم استكشاف نصب المعصوم للنائب الفقيه العادل، وينسجم مع نظرية النيابة عن المعصوم، وخصوصاً أن المعصوم حي ومازال يمارس دوره في هداية الأمة وحفظها، سواء عبر نوَّابه بالنيابة العامة، أو عبر دائرة الأبدال والأوتاد والسيَّاح المغمورين بين الناس كما تشير إليه الروايات الكثيرة الواردة من طرق الخاصة والعامة، لكنَّهم نشطون في مجريات الأمور المتغيِّرة في العالم البشرى أجمع، فضلاً عن العالم الإسلامي، ولكَ أن تمثِّل لذلك بالتنظيم السياسي السري الذي يقوم بدور فعّال في مجريات الأمور من دون ظهور بارز على منصة السياسة في العلن، وقد أشار إلى ما يقرب من ذلك كل من الشيخ المفيد والطوسي والسيد المرتضى في كتبهم المتعلقة بغيبته (عج).

وما يقال من أن الأمة الإسلامية قد وصلت إلى مرحلة الرشد العقلي التي به تستغني عن الهداية الإلهية المباشرة من خلال المعصوم أو نائبه، مردودٌ بأن الكمالات الإلهية والهداية الربانية لا حدود لها، وأن الحامل لهذه الكمالات لابد أن يكون شخصاً لا محدود، فينحصر بالعترة الطاهرة، وبعدهم تصل النوبة لهؤلاء الذين يهتدون بهداية العترة، حينئذٍ فإن هذا التقريب لا يتأتَّى إلاّ في نيابة الفقيه عن المعصوم، مع أن ما يشاهد حالياً في الأمة من تحكيم الأهواء والأمراض الفكرية والاجتماعية الفتَّاكة خير شاهد على ضرورة المعصوم.

٢٣٥

أمَّا التقريب الثاني ، فيردُّه أن هذا البناء العقلائي ليس بممضى، بل ورد الردع عنه في آيات وروايات - تقدَّم ذكرها - تشير إلى أن الحكم للَّه فقط، وأنه يضعه حيث يشاء. ويجب التنبه إلى أن السيرة العقلائية ليست هي حكم العقل؛ فالسيرة تعني تواضع ووضع العقلاء الاعتباري وإنشاؤهم الفرضي لأجل تنظيم مجريات أمورهم وحياتهم، وبعضه يقع موضع إمضاء الشارع وبعضاً لا يقع كذلك، وما نحن فيه من هذا القسيم.

وقد يقال بإمضاء البناء العقلائي من جهة ما ورد في نهج البلاغة (الكتاب 51) حيث يصف عمَّال الخراج: (من عبداللَّه علي إلى أصحاب الخراج، أمَّا بعد... فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم؛ فإنّكم خزّان ‏الرعية، ووكلاء الأمة) فالتعبير بوكلاء الأمة يعني أن الأمة قد أوكلت الإمام، وهو بدوره أوكل هؤلاء.

والجواب:

أ - في التقنين الاقتصادي الإسلامي يعتبر الخراج ضريبة توضع على الأراضي، وهي ملك المسلمين، وليست ملكاً للإمام ولا الحاكم، فمَن يكون على أموالهم، له نوع من التوكيل، وهذا غير ما نحن فيه، وهذا التقنين غير وارد في الفي‏ء والأنفال حيث إنها ملك لولاية المعصوم نظير ما يقال حالياً: ملك الدولة لا الأمة.

ب - إن الإمام قال: (وكلاء الأمة، وسفراء الأئمة). فهؤلاء لهم لِحَاظان؛ فمِن حيث كون المال للمسلمين، فهو بمنزلة الوكيل، ومن ناحية الولاية على التصرف والتدبير، فهو بيد الحاكم، وهو سفير له.

جـ - الإيكال له معنى آخر غير الاصطلاحي؛ وهو يحصل بأن يوكل الإنسان أمراً إلى آخر مع أنه ليس تحت يده كما في التوكُّل على اللَّه وإيكال الأمر إليه، وإنما يعني جعل همِّ وتدبير ذلك الشي‏ء بيد الآخر.

وما قيل من دلالة قوله تعالى: ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ

٢٣٦

أَحْسَنَهُ ) (1) على مشروعية الانتخاب ومدح وتحسين غريزة الانتخاب، وهو دليل على إمضاء السيرة العقلائية، مردودٌ بأن الآية في صدد بيان ممدوحية متابعة القول الحسن، فالمحورية ليس لانتخاب الفرد وإعمال سلطته وولايته وإرادته، وإنما انتخاب قوته الفكرية وانتقاءه أصوب وأحسن الآراء كما تقدم في الاستشارة والشورى، وهذا هو مضمون الآية، ثُم ليس أن ما انتخبه هو الحسن، بل المحورية للحسن في نفسه وأنه يجب على الفرد اتباع ما هو حسن، لا أن ما ينتخبه يصبح حسناً.

أمّا التقريب الثالث: وهذا التقريب تارة يُستدل به على الشورى في قبال النص، وتارة في طول النص، وعلى كل حال، فانطلاقة هذا التقريب هو من أن الناس مسلَّطون على أنفسهم، لكن الرواية لم تذكر ما هو مورد السلطنة هل هو التصرفات الفردية الخاصة، أم التسلط على ‏النفس في الأمور العامة التي تمس منافع الآخرين؛ من الأموال العامة كالمباحات، وإقامة أركان الدين في المجتمع، وبث الهداية بتوسط جهاز الدولة، والرقابة والإشراف على مسير الأمة في كل المجالات لتأخذ طريق الكمال؟ والرواية غير ناظرة للأمر الثاني‏، بل تتعرض فقط للأمر الأول، وحتى هذه السلطنة ليست مطلقة له، بل هي محدودة بما أجاز له اللَّه. والدليل على ذلك - مضافاً إلى ما تقدم ذكره من أن الولاية في الأساس هي للَّه، وكل الولايات بما فيها الولاية الفرد على نفسه متشعِّبة من الولاية الأولى - أن اللَّه عزَّوجل حرَّم بعض التصرفات التي يكون فيها ربا، وأحل البيع وهو نوع تصرف، وغيرها من القيود التي جعلها اللَّه على تلك التصرفات، فهذا أدل دليل على أن هذا النوع من السلطنة على تصرفه غير مطلقة، بل هي للَّه عزَّوجل، وقد أحل له التصرف في نطاق وحدود معينة. ومن هنا نقول:

____________________

(1) الزمر 39: 17.

٢٣٧

إن اللَّه عزَّوجل يمكن أن يجعل الولاية في الأمور العامة لِمَن يشاء، وأن يمنعه من التصرف فيها كيف يشاء.

وقد يصوَّر البعض هذا التقريب بحكم العقل العملي بحسن تصرف الإنسان بما يتولاّه، أو أن الواقعية التكوينية تدل على أنه مسلَّط على نفسه وعلى عمله تكويناً، فضلاً عن الأغيار.

ويجاب عن هذا التصوير: أن حكم العقل العملي بتحسين أو تقبيح التصرف يعود ويدور مدار الكمال الواقعي، وهو مدى أحقية هذا الفرد بالتصرف، و في مثل هذا المورد الخفية جهاته مع كثرتها تُعلم هذه الأحقية من كتاب اللَّه.

أمَّا لو أريد الاستدلال بالتقريب على الشورى في طول النص، فجوابه أنه مع وجود النص فهو تقييد وتخصيص للرواية وللقاعدة العقلية، فيجب أن يُعلم أن هذا التخصيص هو استثناء طارئ أو استثناء دائم. مضافاً إلى أنه في عصر الغيبة لا نعدم وجود الإمام، فالولاية له وليست منقطعة أو متوقفة كما هو ضروري مذهب الإمامية ومقتضى الأدلة كتاباً وسنة. مع أن لازم هذه الدعوى؛ من كون منتخب الأمة له الولاية بالأصالة من قبل الأمة لا من قبل المعصوم لعدم بسط يده في الخارج، هو أنه في فترة الخمس والعشرين عاماً التي لم يتسلَّم الأمير عليه‌السلام ‏مقاليد السلطة فيها وكذا بقية الأئمة عليهم‌السلام ، ‏تكون الولاية للأمة ولمنتخَبها، لا للإمام المعصوم عليه‌السلام ، وهو كما ترى يناقض أوَّليَّات المذهب والأدلة القطعية.

إشكالان ودفعهما:

من الأدلة على الشورى - وهي في كنهها إشكالات على نيابة الفقيه عن الإمام - وأن النيابة إنما تكون

للمجموع؛ أي أن النائب عن المعصوم لابد أن تكون المجموع لا الفرد (الفقيه)، فالشورى إن لم تكن صياغة بديلة عن النص في الغيبة

٢٣٨

وفي طول النص، فلا محالة هي المتعيِّنة لنيابة المعصوم، وأنها تستمد الولاية منه نيابة، لا بالأصالة من الأمة.

وبعبارة أخرى: إن الأدلة المتقدمة وإن لم تتم لإثبات الشورى إلاّ أن هناك نمطين آخرين لإثباتها غير ما تقدم:

الأول: عدم تمامية أدلة النيابة للفقيه.

الثاني: أن أدلة النيابة توكل الأمر إلى الأمة.

ـ الإشكال الثاني الذي اعترض به على نظرية نيابة الفقيه هو عدم إمكان حصر السلطات بيد الفقيه لأنه ليس بمعصوم، وقد يقرَّب الإشكال بنحو آخر؛ وهو أن يقال: إن الشيعة في تجويزهم للفقيه بتولِّي السلطات مع أنه غير معصوم، يكونون قد تراجعوا عمَّا دافعوا عنه في زمن ظهور الأئمة من وجوب تولّي المعصوم سدة الحكم، وعليه فإذا جاز للفقيه تولّي الحكم، فالعصمة ليست شرطاً وبطلت ضرورة خلافة الأئمة، و إذا كانت العصمة شرطاً فكيف يجوز للفقيه تولّي السلطة؟

والجواب عن كل ذلك: أن هذا الإشكال يرد لو قلنا بالولاية المطلقة للفقيه نيابة عن الإمام وأن ما للإمام له، أما على ما يقوله مشهور علماء الإمامية من أنّ تولّي الحكم ليس يعني تولّيه لكل الصلاحيات الثابتة للمعصوم، بل الفقيه في تولّيه للسلطة في زمن الغيبة حاله حال الولاة النوّاب في زمن ظهور الإمام عليه‌السلام ؛ من كون صلاحيّاته النيابية هي في تطبيق الأحكام الشرعية في مجال الولاية التنفيذية كما له منصب القضاء ومنصب الإفتاء واستنباط الأحكام.

ثُم إن اختيار مصداق وفرد الفقيه الذي يتولّى سُدّة الحكم أوكله المعصوم للأمة، فهم الذين يختارون مَن تجتمع فيه الشرائط، لكن منشأ ولايته تكون بإنابة المعصوم له بالنيابة العامة، والأمة بعد ذلك تظل في رقابتها للفقيه وحيازته وواجديَّته للشرائط العلمية والعملية.

٢٣٩

وبعبارة أخرى: حيث أن الأئمة عليهم‌السلام ‏لم ينصبوا نائباً خاصاً كما في عصر الحضور والغيبة الصغرى، كان جعلها نيابة عامة يفيد تخيير الأمة في اختيار أحد المصاديق ممَّن ينطبق عليه شرائط النيابة العامة عن المعصومين‏ عليهم‌السلام .

وأمَّا ما ذُكر من التقريب الآخر، فهذا نابع من جهل بمقام الإمامة وما يرادفها، فإن الإمامة لا تساوي تسلم سُدَّة الحكم، وبالتالي فلو كانت تعني الإمامة التسلُّم الفعلي لسدة الحكم، لكان عدم تسلُّم الأئمة عليهم‌السلام السابقين لسدة الحكم يعني عدم فعلية إمامتهم وعدم فعلية ولايتهم، مع أنَّا ذكرنا أن الحكم ليس منحصراً في الحكومة الظاهرية؛ فإن ممارسة الحكومة الخفية والنفوذ على الأتباع في الأبعاد المختلفة، هي نوع من المباشرة للولاية، وكذا الحال في الإمام الثاني عشر (عج)، فإن مباشرته للأمور ليست منحصرة في العلن، فراجع، بل إن هناك شؤون ومقامات أخرى للإمامة - وهذه الشؤون والمقامات ليس للفقيه منها حظ -:

منها: السلطة والولاية المعنوية والتكوينية، وهذه لها شُعب لا مجال لبسطها في المقام.

ومنها: وجوب المودّة بنص القرآن ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .

ومنها: الإقرار والاعتقاد بهم، وهو ركن في تحقق الإيمان قال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) (1) فأوجب معرفة الإمام، وهو عنوان غير عنوان الطاعة الواجبة، وحذّر صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن مَن لم تتحقَّق لديه تلك المعرفة، فسيموت على الكفر الجاهلي الذي ما دخل الإسلام.

____________________

(1) وللحديث مصادر كثيرة بأسانيد مستفيضة إن لم تكن متواترة، راجع: الكافي، ج2، 18 باب دعائم الإسلام بعدة طرق، ورواه من العامة أحمد في مسنده، ج4، ص96، وذكره التفتازاني في شرح عقائد النسفي، وعدة غيرهما.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440