الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137378 / تحميل: 8169
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فقال‏ عليه‌السلام : إذا وجدتَ مَن هذه أوصافهم من المجاهدين، فحينها لا ندع الجهاد والقتال)، وهو عليه‌السلام يشير إلى أن الفتوحات التي تقوم الدولة بها حينذاك هدفها لم يكن نشر الإسلام، بل جني الغنائم وتحصيل الجاه والأموال والجواري...

د - ما ورد في رواية ابن حمزة عن أبي ‏جعفر عليه‌السلام قال: سمعته يقول: (مَن أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال، وما حرَّمناه ذلك فهو له حرام). وهذه ممارسات ولائية حكومية في تحليل ما يؤخذ من السلطة الجائرة التي كانت تقوم بجباية الأموال من خراج وزكاة ومقاسمة.

هـ - الإشراف على تولِّي المناصب في الدولة القائمة من قبل بعض الشيعة حتّى يسهل إدارة أمور الشيعة؛ كما في الإمام الصادق‏ عليه‌السلام مع داود الزربي، والكاظم عليه‌السلام مع علي بن يقطين، والصادق‏ عليه‌السلام مع النجاشي في تولِّيه للأهواز، والإمام الرضا مع محمد بن إسماعيل بن بزيع.

و - الإذن لأصحابهم في التصدِّي للفتيا.

ز - تقنينهم لبعض التشريعات الولائية التي هي مقتضيات منصب الحاكمية، وليست تشريعات ثابتة. فكما في إحياء الموات والأمور الخاصة بها، والتفويض الخاص بالأراضي هو نوع من الممارسة الولائية، وليس تشريعاً ثابتاً؛ بدليل ما في بعض الروايات المشيرة إلى أنه عند ظهور الحجة عليه‌السلام سوف يتغيَّر هذا النظام في الأراضي.

حـ - إعفاؤهم شيعتهم من إعطاء الخمس في بعض الموارد وفي بعض السنين كما في رواية علي بن مهزيار عن الجواد عليه‌السلام . وما ورد عن الباقر عليه‌السلام في تقنين نظام التضمين وعدم ضمان الأجير.

ط - حثُّ الشيعة على التمسُّك بالأحكام الخاصة بالمذهب من التولِّي والتبرِّي،

٢٢١

وعدم ‏الولاء للسلطة الحاكمة وعدم مشروعيَّـتها، من قبيل التقية، ومتعة الحج والنساء، وإقامة الإحكام الفقهية الخاصة في الإعمال اليومية، وحثّ الإمام الباقر عليه‌السلام والصادق‏ عليه‌السلام لأصحابه على إقامة الجمعة فيما بينهم.

وبنظرة استقرائية لأحد المجاميع الروائية القديمة، أو لكتاب الوسائل مثلاً، يجد الناظر مشجَّرة كاملة في الأبواب الفقهية المروية لممارسات الأئمة عليهم‌السلام ‏في المجال التنفيذي الولائي والقضائي، فضلاً عن التشريعي، فرسم صورة كاملة عن أنشطة الحكومة الشرعية في كل المجالات التي تقوم بدورها في الخفاء عن الظهور أمام السلطة الظاهرية آنذاك.

ثانياً: الدين والسياسة

أمَّا ما ذُكر من أن السياسة ليست من الدين، وأن الحكومة من الأمور الخارجة عن التكليف الإلهي، وأن الكتاب غير حاوٍ لأحكام السياسة، فيجاب‏ عنه:

أ - أن القران عالج جوانب عدة من كيفية إقامة النظام في المجتمع؛ فوضع نظام الأحوال الشخصية، وقواعد القضاء (وهذه القواعد تتفرَّع منها آلاف القضايا الفرعية)، وكذا الحدود الجنائية والتعزيرات، والجهاد وأحكامه (والذي هو نظام علاقة المسلمين بالكفار وبأهل الكتاب في الحرب والسلم)، والخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة في دائرة اقتصاد الكل والجزء (الدولة والمدينة والريف)، ونظام المنابع المالية العامة، وقد أُعدت دراسات حديثة لاستخراج نظام القانون الدولي بين الدول من القران.

فهل يعقل أن يقال: إن مَن اهتم ببيان هذه الموارد أغفل عن ذكر نصوص تتعلق بالحاكم وشروطه وتعيينه؟

ب - يُنقض على المستشكِل بأن حكومة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك الفترة الحرجة

٢٢٢

وصلت وحقَّقت الكثير من الأهداف والانجازات، فهذا يعني أن هذا النظام - مع وجود الشخصية المؤهلة - قادر على تأدية وظائف ‏الحكومة وتنفيذها بأحسن حال، كيف وقد انتشلت المجتمع البدوي القبلي المتخلِّف إلى درجة أعظم نظام دولة يناهض القوتين العظميين حينذاك الكسروية والقيصرية؟!

جـ - أن القول بكون مشروعية الحكومة مستمدة من الأمة يناقض فصل الدين عن السياسة؛ لأن المشروعية تعني الأمر الذي شرَّعه الشارع واعتبره وصحّحه، والذي لا حرج في التعامل والأخذ به، فإذا كانت الحكومة المنبثقة من الأمة مشروعة؛ أي اعتبرها الشارع، فكيف لا تتعرَّض ‏الشريعة للحكم السياسي؟ وكيف تكون تلك الحكومة تستمد كل صلاحيتها من الأمة دون الشارع؟ وبعبارة أخرى: ما المعنى المحصَّل للمشروعية في كلامه إن لم ترجع إلى عدم التأثيم والعذر عند مالك يوم الدين، وأي معنى للحديث عن المشروعية حينئذ؟

ثُم إن مقتضى أن اللَّه سبحانه وتعالى مالك للمخلوقين ولأفعالهم، أن مبدأ وأصل الولاية هو للَّه تعالى، وأن كل الولايات تتشعَّب من ولايته ( الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) و ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) . وهذا أصل غاية الأمر؛ حيث جعل للإنسان الاختيار، لا القسر، فكانت الولاية الربانية عليه من نمط تكويني غير قاسر، ونمط تشريعي اعتباري قانوني، فمنطق التوحيد ومنطق الشرعية الإلهية يبنى على أن أصل الولاية للَّه، وأن كل شعبة لابد وأن تنتهي إلى ذلك الأصل.

نعم، المنطق الوضعي غير المتقيِّد بالملة والنهج السماوي وأن للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الإنسان وسلطة الفرد على نفسه، فيجعل من العقد الفردي والاجتماعي مصدر السلطات والولايات كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في (الوسيط)، فبين المنهجين بعد المشرقين.

د - أن أحدث النظريات في القانون الوضعي تشير إلى أن تعيين القائد الذي

٢٢٣

تنتخبه الأمة ليس اعتباطياً، بل يجب أن تتوفَّر في القائد المواصفات والأهلية اللازمة التي وضعها الدستور من الكفاءة والأمانة وغيرها. وحينئذ فإذا رُشَّح مَن له هذه الصفات وانتخبته الأمة، يكون الانتخاب صحيحاً. فحقيقة الانتخاب هي استكشاف مَن ترى الأمة أن توفُّر هذه الصفات فيه بنحوٍ أكمل وأفضل، فمنشأ ولايته هو توفر تلك الشروط فيه، لا اختيار الأمة، وإنما هو استكشاف فقط، وهذا يقترب من نظرية النص التي تدعَّي أن السماء هي التي تتكفّل ببيان هذه الصفات وتحديدها ويكون بيد الأمة تشخيصهم في الخارج.

وقد أثار هذا الباحثين من فقهاء القانون الوضعي فذهبوا إلى أن العقد ليس هو مبدأ نشوء السلطنة، سواء على الأفعال أو الأعيان، بل المنشأ هو السلطة التكوينية على الأولى، والحيازة أو العمارة للثانية. وأمَّا فقهاء الشرع من الفريقين، فقد نصُّوا على لزوم إمضاء الشارع لهذا الاعتبار البشري للسلطة؛ إذ أن للَّه ما في السموات والأرض، فلا يملك الفرد البشري في الاعتبار من الأفعال والأعيان إلاّ ما حدَّده الشرع له؛ لأن الشارع الأقدس مبدأ السلطات والولايات، لا أن الإنسان فاعل ومالك لِمَا يشاء ومطلق العنان، إلاّ ما ينقله هو باختياره عن نفسه بالعقد الفردي أو العقد الاجتماعي (الانتخاب) أو العقد السياسي (البيعة) إلى الغير. فبين المنهج التوحيدي والمنهج الوضعي بون بعيد. وبذلك يتضح أن أساس الحكومة في المجتمع مختلف بين المنهجين؛ فعند المنهج التوحيدي هو متشعب من ولاية اللَّه تعالى على المخلوقات البشرية، وعند المنهج الوضعي هو مستمد من سلطة الفرد والأفراد على أنفسهم، بل إن الدراسات القانونية في الفقه الوضعي تكاد تصل - كما ذكرنا آنفا - إلى هذه النتيجة؛ وهي: أن الأساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري؛ وذلك لأن العقد الاجتماعي (الانتخاب) الناشئ من سلطة الفرد على نفسه لا يبرر حكومة الأغلبية

٢٢٤

على الأقلية ولو بتفاوت يسير. وكذلك لزوم توفر شرائط في الشخص المنتخب بالعقد الاجتماعي، وليس هو من وضع سلطة الأفراد على أنفسهم، بل كلا الأمرين وغيرها من النتائج - التي لا تتلائم مع فلسفة السلطة الفردية والعقد - هي من قضاء العقل كمادة قانونية مرعيّة عند الكل. فمثلا: لزوم كون الرئيس المنتخب ذو خبرة وكفاءة عالية (العلم بمعناه الوسيع) وذو أمانة فائقة (العدالة وإذا ترقَّت أصبحت عصمة) أمر لابدَّ منه، وليس للفرد والأفراد تخطي هذا القانون تحت ذريعة السلطة الفردية المطلقة العنان، وهذا ما يقال من غلبة النزعة للمذهب العقلي في القانون الوضعي الحديث على المذهب الفردي.

ومن ذلك يتضح أن العقد الاجتماعي والسياسي، سواء الانتخاب أم البيعة، ليس إلاّ عبارة عن عملية توثيق وإحكام وعهد مغلّظ للعمل بالقانون، سواء على المنهج التوحيدي الديني أم الوضعي أخيراً، فضابطة الصحة للحاكم ليس هو العقد السياسي، بل هو توفُّر شرائط القانون الإلهي فيه أو الوضعي الإلهي، حيث إنه يُشعّب الولاية من المالك المطلق ‏الخالق طبق موازين ‏الكمال والعصمة والاصطفاء، فهو يُعيِّن المصداق الذي تتوفَّر فيه الشرائط ويكسبه ولاية الحكم، وتكون البيعة والعقد السياسي معه من قبل الناس ما هو إلاّ زيادة تعهُّد وإلزام بالعمل نظير النذر والقسم المتعلق بأداء صلاة الظهر أو صيام رمضان تغليظاً للوجوب.

وأما المنهج الوضعي، فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الأمة، لكن يظل هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلُّف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظل التخيير غير صائب في حالة توفُّر الصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الاختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الربَّاني الإلهي بجعل الانتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) .

٢٢٥

فالعقد السياسي وثيقة إلزام والتزام وسبب لزيادة التعهُّد، لا أنه عملية مولِّدة لصحة الشي‏ء الذي تمَّ التعاقد عليه، بل الصحة والسلامة آتية من الشارع أو القانون، والعقد هذا مفاده من أوليات الأبحاث القانونية؛ فالعقد السياسي والبيعة لا يؤمِّنان صحة الانتخاب وسلامة المنتخَب والمبايع، وإنما الذي يؤمِّنه، تعيين الشرع في المنهج التوحيدي والقانون في المنهج الوضعي. فالعقد لا يؤمِّن الصحة والسلامة، وهذا ما نجده عند فقهاء القانون من تمييزهم أدلة الصحة عن أدلة اللزوم.

ثُم كيف يتلائم قول القائل بأن الحكمة الإلهية في المعصوم‏ عليه‌السلام هي تجسيده للقانون الإلهي على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والفردية وغيرها، مع قوله بعدم نصب الشارع له حاكماً ووالياً على الأمة؟! وهل يكون ناطقاً حيَّاً بالقانون إلاّ بجعل الزعامة له على الأمة؟

هـ - أن من الضروري معرفة الفرق الجوهري بين القانون الوضعي والقانون الإلهي، ففي القانون الوضعي يكون المحور هو الفرد والإنسان بما هو هو، وفي القانون الإلهي يكون المحور اللَّه جلَّ وعلا أو الفرد بما هو عبد للَّه، وهذا المائز مهم جداً في فهم عملية التقنين وما يمكن أن يوضع ويقنن؛ إذ يضفي آثاره على بنوده والأهداف المتوخاة.

ففي القانون الإلهي يكون الالتفات إلى القوى الناطقية والإلهية في الإنسان، وفي الوضعي يكون الالتفات إلى القوى النازلة والحيوانية له؛ ولذا تكون نظرية النص أكثر انسجاماً مع القانون الإلهي. ونظرية الشورى تنسجم مع القانون الوضعي؛ حيث تجعل السلطة للفرد.

وفي القانون الوضعي تختلف الرؤية الكونية، وفي القانون الإلهي تراعى الكمالات التي تُوصل إلى الحق تعالى؛ وهي غير محدودة. ومن هنا يمكننا القول أن

٢٢٦

هناك مائزين جوهريين بين نطريتي النص والشورى:

ـ أن نظرية الشورى تكاد تشترك مع القانون الوضعي من زاوية فصل الدين عن السياسة؛ حيث إن الدين لا يقع منهاجاً وتقنيناً للنظام السياسي الحاكم، لأن النظام المتكامل هو الذي يتكفَّل بنصب الحاكم وبيان خصائصه وشروطه وامتيازاته، بخلاف نظرية النص التي تتكفَّل هذه الجهة وتطرح نظاماً سياسياً تاماً يعتمد على أساس الوراثة الملكوتية والتنصيب والتأهيل السماوي.

ـ أن أصحاب نظرية الشورى يجدون فراغاً كبيراً في التشريع؛ إذ أنهم يعتمدون على ظاهر الكتاب وما ورد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله . أما أصحاب نظرية النص، فالتشريع لديهم مستمر عشرات السنين على يد الأئمة المعصومين الذين أثروا الفكر الإسلامي بالتشريعات المناسبة، وأكملوا مسيرة الرسول الأكرم، واستخرجوا كنوز القران الكريم التي لا تفتح للأذهان العادية؛ ولذا يكون اندماج الدين في السياسة واضح وجلي.

و - ما ذُكر من خلو الكتاب الكريم من النصوص المتعلقة بالسياسة العامة، باطل، لكن قد يقال بأن السياسة ليست هي معرفة تلك الأمور الكلية، بل هي فن من الفنون قائم على الفصل بين الجزئيات المختلفة التي تحتاج إلى كياسة وخبرة وتجربة، والسائس يكون مؤهّلاً إذا حصلت لديه تلك الممارسة، ولذا صنف الحكماء السياسة في باب الحكمة العملية.

والجواب عن هذا:

ـ أن السياسة كما لها جانب عملي، فإنّ لها جانب نظري أيضاً، وتحكمه أصول كلية، وهذه الأصول الكلية موجودة في الدين (وقد أوضحنا ذلك مفصَّلاً في بحث الاعتبار والحسن والقبح). ثُم إن الدين لا يختص بالأمور النظرية العقائدية فقط، بل يرتبط بالجانب العملي، وفروع الدين تمثِّل هذا الجانب.

٢٢٧

ـ أن السياسة علم يدرس في الجامعات الأكاديمية ويحتوي على كليات مسطورة في الكتب. نعم، الجانب التطبيقي منها يعتمد على الخبرة والكياسة، وفي نظرية النص يكون المعصوم هو صاحب الخبرة؛ حيث إنه لا حاجة له مع علمه اللَّدُني إلى اكتساب خبرة من الأجيال البشرية لِمَا قد يُصوِّره البعض في غيبة الحجة عليه‌السلام ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ) ، والعلم نور يقذفه اللَّه في قلب مَن يشاء، وما التجارب والممارسات إلاّ مُعدَّات لذلك الفيض الإلهي. هذا بجانب علمه المحيط بالموضوعات بتسديد من البارئ وترفره على كمال الصفات في قواه النفسية الأخرى.

ثالثاً:

إن الأنبياء لم يكونوا هداة ومبلغين فقط، بل يديرون دفَّة الحكم، والآية المذكورة في سورة المائدة (٤٤) أوضح دليل على ذلك، غاية الأمر أن الأنبياء - في أداء هذه الوظيفة بالذات - يحتاجون إلى مؤازرة الناس وإقْدَارهم وبدون رجوع الناس إليهم لا تتم هذه الوظيفة.

رابعاً:

ما ذكر من أن الحاكمية خارجة عن معنى الإمامة والنبوة، باطل بالنّص والعقل

وجوابه يتَّضح من قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) ، ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) ، ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ) ، ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) ، ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ) ، ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ ) ، ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) ، ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم ) فكل المنابع المالية العامة والضرائب المالية هي بيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام، مضافاً إلى آيات

٢٢٨

الولاية العامة الكثيرة ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) وغيرها.

خامساً: النص والعقل

إن ‏القول بالحاكمية التعينية يلازم ويسوق ‏إلى الحَجْر على عقل الإنسان وفكره وتقييد لسلطة العقلاء، فحتى في المعصوم يحتاج إلى انتخاب الناس، وإلا فالولاية عليهم من دون الانتخاب هو حكم بقصورهم ‏العقلي. وبتعبير آخر: إن النص يحمل في طيَّاته التناقض؛ وذلك لأن جعل الولاية يقتضي التعين، والقيمومة موردها القصور والحجر، وكونهم قُصر يعني عدم جواز توليتهم وتنصيبهم مع أنها وظيفتهم، فالتولية يلزم منها عدمها. ومع افتراض أن الناس عقلاء فلا معنى لجعل الولاية عليهم، فالعصمة التي في الأئمة هي عصمة التبليغ والهداية، لا الولاية الحاكمية، والجانب السياسي في حياة الإنسان أمر دنيوي لا يرجع فيه إلى السماء، والحاكم ليس إلاّ وكيل عن الجماعة في إدارة شؤونها.

وجوابه: أن كون الانسان عاقلا لا يعني أن له الولاية المطلقة على نفسه وعلى كل جزء من بدنه، بل إن الولاية المطلقة هي للَّه عزَّوجل وتتَّصل به ولاية الرسول والإمام، أي المعصوم. فبمجرد كونه عاقلاً لا يعني عدم ثبوت ولاية عليه من أحد، بل إن هذا العقل ينقصه الكثير الكثير لكي يحيط خبراً بكافة الأمور غير المتناهية، سواء كانت داخل ذاته أم في العالم المحيط به، فولاية اللَّه ورسوله وخليفته هي ولاية الحكيم المطلق على العاقل بعقل محدود في حدود نسبية يسيرة.

فلو قلنا إن الولاية تابعة لمدى عقلائيته، لازمه أن تعطى الولاية للآخرين في الأمور التي لا يحيط بها عقله. فتبين أن صرف ثبوت الولاية لأحد على أحد لا يعني أن الأخر محجور عليه، بل للفرد العاقل ولاية في حدود عُقلائيته. والمعصوم عقله محيط بجميع ‏الأمور، فولايته ‏أقوى من ولاية الإنسان على نفسه ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) . مضافاً إلى أن المستشكِل يرى أن الفرد عندما ينتخب أخر

٢٢٩

ويعطيه ‏الولاية على نفسه فهذا لا يجعله متنافياً مع عقلائيته، والبعض ذهب - ‏فراراً من هذا الإشكال - إلى أن ‏الحكم‏ والانتخاب هو وكالة وليس ولاية، لكن الصحيح أنه لا يمكن تصوير الوكالة في الحكم بالمعنى المصطلح الجاري عليه في باب المعاملات؛ وذلك لأن الحاكم يقوم بإلزام المجتمع بنوع خاص من القوانين والتصرفات، ولا يمكن تصوير أن الوكيل يُلزم الموكِّل بما لا يريده فضلاً عن لزوم هذه الوكالة؛ إذ مقتضى أن الوكالة جائزة هو أن الأمة يمكن أن ترجع في اختيارها حتى من دون سبب، وهذا لا يقول به أحد في هذا المقام.

مضافاً إلى العديد من الشواهد التي لا تنسجم مع الوكالة الاصطلاحية كالتعبير عنها بالنيابة والتولية، والقَسَم الدستوري الذي يؤدِّيه الحاكم، وعدم إمكان الحاكم الثاني إبطال أعمال الحاكم الأول، وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تبطل كون الحاكم وكيلاً عن الفرد.

وعلى كل تقدير يبقى المجال أمام الولاية، فإذا كان القول بأنّ نقل ولاية الفرد على نفسه بنفسه لا تنافي عقلانيته، فكذلك جعل الوالي من قبل اللَّه لا ينافي عقلائيته.

سادساً: النص والاستبداد

إن البعض ذكر أن نظرية النص تؤدي إلى الاستبداد، والاستبداد من المعاني المذمومة في القران والسنة؛ إذ قد وردت كثير من الآيات التي تذم ظاهرة الفرعونية التي تجعل ذات الفرد هي المحور، ولذا قال البعض - فراراً من هذا الإشكال -: إن المعصوم ملزَم بالشورى والاستشارة، وملزم أيضاً بنتيجة الشورى.

والجواب عنها:

أ - إن الاستبداد ينشأ تارة من أصل النظرية وتارة ينشأ من تطبيق النظرية، ولأجل إبطال النظرية يجب إثبات الأول.

ب - إن المشرِّع في نظرية النص وضع وسائل تمنع حصول الاستبداد؛ وذلك عن

٢٣٠

طريق ضمانات إجرائية:

منها: أن المنصوص عليه هو المعصوم من الزلل والخطأ ولا ينساق وراء الذات والشهوات، وسوف يأتي في الحديث في غير المعصوم.

ومنها: لزوم التقيُّد بالأحكام الإلهية بعيداً عن الهوى والأحاسيس، وهذه قاعدة فوقانية تشبه المواد الدستورية والتي يبطل كل تصرُّف مخالف لها.

ومنها: رقابة الأمة تحت إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق. ورقابتها بالنسبة إلى حكومة نائب المعصوم ظاهرة. وأما بالنسبة إلى حكومة المعصوم، فأجنحة الدولة وأفراد جهاز الدولة ليسوا بمعصومين، فتكون الأمة مُعينة للمعصوم على مراقبة جهاز الدولة كما هو الحال في سيرة علي عليه‌السلام .

ومنها: لزوم اتصافه بالمواصفات المؤهلة له كالعدالة والأمانة والكفاءة هذا في غير المعصوم الذي ينوب عنه، وإلاّ فهي في المعصوم بالنحو الكامل المتصاعد إلى العصمة العملية والعصمة العلمية. وقد قال الإمام عليه‌السلام : (لا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفَّظوا مني بما يتحفَّظ به عند أهل البادرة).

ومنها: أن الحاكم في نظرية النص له في الجانب التشريعي - مضافاً إلى الجانب التكويني الخاص - حيثيَّـتان حقوقية بما هو رسول أو إمام أو نائب إمام، والأخرى حقيقية، ومن هذه الحيثية يعتبر كسائر أفراد المجتمع، له ما لهم وعليه ما عليهم؛ وهذا لِمَا مرَّ في النائب عن المعصوم، وأمَّا فيه، فإنه كذلك سوى ما خُصّ به من امتيازات في التشريع الإلهي ممَّا شُرِّف وفُضِّـل به على سائر الناس. فكل تصرف ينبع من شخصيته الحقوقية يكون نافذاً، وكل تصرف ينبع من الأخرى لا يكون نافذاً، هذا في النائب غير المعصوم، وإلاّ ففيه لا مجال لاحتمال التصرف الاقتراحي. وبتعبير آخر: إن ولاية شخصٍ ما، ينوب عن المعصوم، هي لعقيدته وفقاهته وعدالته

٢٣١

أنيب في الولاية، لا لخصوصية شخصه، وفي نظرية النصِ الحاكمُ (المعصوم أو نائبه) ينظر إلى الحكم كمسؤولية وأمانة وخدمة ووظيفة.

ومنها: المساواة أمام القانون، فالجميع يقفون أمام القانون على حدٍ سواء، والجميع تطبَّق العدالة عليهم، وهو لا يعني أن يتساوى الجميع في العطاء - مثلاً -، بل يُعطى كلٌّ على حسب ما هو مقدَّر له في الشرع، فالتفاضل والتمايز حاصل، لكنَّه تمايز وتفاضل رضى عليه الشرع، وهو بلحاظ عالم الآخرة لا عالم الدنيا.

ومنها: المحورية في نظرية النص ليس للفردي بما هو هو، بل بما هو عبد اللَّه، بينما في القانون الوضعي تكون المحورية للفرد بما هو هو. وقد ذكرنا سابقاً ما يترتَّب على هذه التفرقة، وأهمُّها أنها في التقنين تُؤمِّن ما يسد رغباته وحاجاته الشخصية وغرائزه الدانية من ملكية وحرية... وهذه كلها تعتبر من درجات الإنسان السفلى. بينما في التقنين الإلهي يكون الانطلاق من الجهة العقلية والتألهية، أي قوى الإنسان العليا، وهي المحور في التقنين، فمصلحة المجموع قبل المصلحة الشخصية والحرية ليس في إشباع الإنسان لرغباته وشهواته، بل الحرية الحقيقية هي في سيره اللامحدود نحو الكمال المطلق ونيل الكمالات اللامحدودة. والاستبداد يأتي من حرص الإنسان على نفسه وخصوصيته، وهذا إنما يرد في النظريات الأخرى، لا نظرية النص التي تجعل اللَّه هو الأصل والمقصد والغاية.

فهذه الأمور والضمانات الإجرائية المانعة من الاستبداد، وهي كالقواعد الدستورية التي يبطل كل تصرف يخالفها.

أمَّا الاستبداد، فإن نشأته تعود إلى عوامل:

أ - جهل وقلة وعي بالقانون.

ب - وجود طبقة من العلماء والمفكِّرين يروِّجون لمحورية ذاتهم / الصلاحيات المعطاة لأصحاب المناصب/ محورية الفرد.

٢٣٢

جـ - التفكُّك والاختلاف في صفوف الأمة.

د - إشاعة الرعب والرهبة من الولاة.

هـ - جعل منابع الثروة بيد طبقة معينة ممَّا ينشأ استبداد طبقي.

وهذه العوامل تجد أرضية خصبة في عالمنا اليوم في الأنظمة الغربية المدَّعية للديمقراطية ولانتخاب الأمة وسيادتها؛ حيث تجد الفارق الطبقي شديد و واسع ‏الهوَّة، والمال دُولة بين الأغنياء، وفرعنة للطبقة الثرية تحت عنوان سيادة الأمة وتحكيم آرائها (ولاية الشورى)، وهذا ما أطلعنا عليه التاريخ قديماً، فإن أكثر من جاء تحت هذا الغطاء إلى سدة الحكم، كان في الحقيقة بالتغلُّب والفتك، بينما تقاوم نظرية النص نشأة مثل هذه العوامل بعد كون مركز القوى السياسية والمالية والقضائية والعسكرية والأمنية هي بيد مَن عُصم علماً وعملاً كما بيَّناه مفصَّلاً، وكما أطلعنا التاريخ على حكومة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأمير عليه‌السلام وبرهة من حكم الحسنين عليهما‌السلام .

المبحث الرابع:

الأدلة العقلية على الشورى

وله تقريبات ثلاثة:

التقريب الأول: ينطلق من أن الانسان مدني بطبعه، ويُعلم من ضرورة العقل أنه لابد في كل اجتماع مدني من نظام وإدارة تقيم هذا الاجتماع، وهو المشار إليه في قوله عليه‌السلام : (لابد للناس من أمير بر أو فاجر). كما أن الواجبات الكفائية المُلْقاة على عاتق المسلمين لا يمكن تعطيلها في زمان ما، فهذه الحكومة التي تدير شؤون هذا الاجتماع لا تخلو إمَّا أن تكون منصوبة من قبل اللَّه عزَّوجل، أو تنصبها الأمة، أو تنال الحكم بالقهر والغلبة، وهذا الثالث باطل بالتأكيد؛ لأنه ظلم واستئثار، فينحصر الأمر بين الأولين، والفرض أن النصب من قبل اللَّه منتفٍ إمَّا مطلقاً أو على الأقل في عصر الغيبة؛ فيتعيَّن انتخاب الأمة.

٢٣٣

التقريب الثاني: أن السيرة العقلائية والبناء العقلائي جاريان على أن الناس ينتخبون حُكَّامهم بأنفسهم، ولا يوجد ردع عن هذا البناء العقلائي، وهي سيرة عقلائية جارية حتى زماننا هذا، وهي ليست سيرة فحسب، بل تقنين مركوز في عالم الاعتبار لدى العقلاء.

التقريب الثالث: وحاصله أنه قد ثبت أن الناس مسلَّطون على أموالهم، والسلطنة على المال فرع من السلطنة على فعل النفس، فهذا كافٍ في إثبات سلطنة الناس على أنفسهم. وقد يقال استدلالاً على هذه المقدمة: إن الإنسان مسلَّط على نفسه بحكم العقل العملي، حيث إن الإنسان مسلَّط على نفسه تكوينا، فهو مالك لتصرفاته وحركاته وسكناته بيده، ومع وجود تلك الملكة التكوينية لا حاجة للاعتبار، ومن هنا قالوا في الإجارة: إن عمل الأجير لا يملكه المؤجِّر قبل عقد الإيجار. وهذه المقدمة قد يستدل عليها بنحو آخر بالقول: إن اللَّه تعالى ذكر أن الرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو يثبت ولاية الإنسان على نفسه في مرتبة سابقة، غايتها أن الشارع جعل الرسول أولى منه بذلك، وهذا خاص بالرسول أو المعصوم، ومقتضى تسلُّط كل فرد على نفسه أنه لا يجوز لأحد أن يقهرهم، وعندما تقام الحكومة لابد من حصول تنسيق بين حريات الأفراد المقتضي للحد من إطلاقها، وهذا التحديد لحرية الفرد يخالف تلك السلطنة المطلقة التي للفرد على نفسه، فلابد أن يحصل ذلك بإذنه أو بتوكيل منه.

ويرد على هذه التقريبات:

أمَّا الأول ، فمع التسليم بالمقدمات، لكنَّا نختار من شقوقه نصب اللَّه عزَّوجل، بل نفس لابُدِّية الحكم نستخدمها لقلب الاستدلال لصالح نظرية النص؛ حيث إن تعيين الحاكم والقائد من الأمور التي يتحقَّق بها لطف اللَّه، حيث إنه يدخل في الهداية، وهو ألطف بالبشر وأكثر عناية بهم، وهذا وإن كان ينطبق على المعصوم

٢٣٤

إلا أنه بنفسه يمكن ذكره في الغيبة، أي ترتُّب المقدمات بعينها بعد فرض وجود المعصوم حيَّاً، وإن كان في ستار الغيبة فنستكشف من اللابدية المزبورة، نصب الفقيه العادل نائباً من قبل المعصوم، إذ الولي في الأصل هو المعصوم فلا معنى لولاية الفقيه العادل بالأصالة، بل بالنيابة عن إمام الأصل، فيقال: إن اللَّه لا يترك مجتمعه هكذا بدون إرشاد وبدون تعيين، بل يذكر لهم الشروط والطريقة الفضلى في تعيين القائد. وهذا يستلزم استكشاف نصب المعصوم للنائب الفقيه العادل، وينسجم مع نظرية النيابة عن المعصوم، وخصوصاً أن المعصوم حي ومازال يمارس دوره في هداية الأمة وحفظها، سواء عبر نوَّابه بالنيابة العامة، أو عبر دائرة الأبدال والأوتاد والسيَّاح المغمورين بين الناس كما تشير إليه الروايات الكثيرة الواردة من طرق الخاصة والعامة، لكنَّهم نشطون في مجريات الأمور المتغيِّرة في العالم البشرى أجمع، فضلاً عن العالم الإسلامي، ولكَ أن تمثِّل لذلك بالتنظيم السياسي السري الذي يقوم بدور فعّال في مجريات الأمور من دون ظهور بارز على منصة السياسة في العلن، وقد أشار إلى ما يقرب من ذلك كل من الشيخ المفيد والطوسي والسيد المرتضى في كتبهم المتعلقة بغيبته (عج).

وما يقال من أن الأمة الإسلامية قد وصلت إلى مرحلة الرشد العقلي التي به تستغني عن الهداية الإلهية المباشرة من خلال المعصوم أو نائبه، مردودٌ بأن الكمالات الإلهية والهداية الربانية لا حدود لها، وأن الحامل لهذه الكمالات لابد أن يكون شخصاً لا محدود، فينحصر بالعترة الطاهرة، وبعدهم تصل النوبة لهؤلاء الذين يهتدون بهداية العترة، حينئذٍ فإن هذا التقريب لا يتأتَّى إلاّ في نيابة الفقيه عن المعصوم، مع أن ما يشاهد حالياً في الأمة من تحكيم الأهواء والأمراض الفكرية والاجتماعية الفتَّاكة خير شاهد على ضرورة المعصوم.

٢٣٥

أمَّا التقريب الثاني ، فيردُّه أن هذا البناء العقلائي ليس بممضى، بل ورد الردع عنه في آيات وروايات - تقدَّم ذكرها - تشير إلى أن الحكم للَّه فقط، وأنه يضعه حيث يشاء. ويجب التنبه إلى أن السيرة العقلائية ليست هي حكم العقل؛ فالسيرة تعني تواضع ووضع العقلاء الاعتباري وإنشاؤهم الفرضي لأجل تنظيم مجريات أمورهم وحياتهم، وبعضه يقع موضع إمضاء الشارع وبعضاً لا يقع كذلك، وما نحن فيه من هذا القسيم.

وقد يقال بإمضاء البناء العقلائي من جهة ما ورد في نهج البلاغة (الكتاب ٥١) حيث يصف عمَّال الخراج: (من عبداللَّه علي إلى أصحاب الخراج، أمَّا بعد... فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم؛ فإنّكم خزّان ‏الرعية، ووكلاء الأمة) فالتعبير بوكلاء الأمة يعني أن الأمة قد أوكلت الإمام، وهو بدوره أوكل هؤلاء.

والجواب:

أ - في التقنين الاقتصادي الإسلامي يعتبر الخراج ضريبة توضع على الأراضي، وهي ملك المسلمين، وليست ملكاً للإمام ولا الحاكم، فمَن يكون على أموالهم، له نوع من التوكيل، وهذا غير ما نحن فيه، وهذا التقنين غير وارد في الفي‏ء والأنفال حيث إنها ملك لولاية المعصوم نظير ما يقال حالياً: ملك الدولة لا الأمة.

ب - إن الإمام قال: (وكلاء الأمة، وسفراء الأئمة). فهؤلاء لهم لِحَاظان؛ فمِن حيث كون المال للمسلمين، فهو بمنزلة الوكيل، ومن ناحية الولاية على التصرف والتدبير، فهو بيد الحاكم، وهو سفير له.

جـ - الإيكال له معنى آخر غير الاصطلاحي؛ وهو يحصل بأن يوكل الإنسان أمراً إلى آخر مع أنه ليس تحت يده كما في التوكُّل على اللَّه وإيكال الأمر إليه، وإنما يعني جعل همِّ وتدبير ذلك الشي‏ء بيد الآخر.

وما قيل من دلالة قوله تعالى: ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ

٢٣٦

أَحْسَنَهُ ) (١) على مشروعية الانتخاب ومدح وتحسين غريزة الانتخاب، وهو دليل على إمضاء السيرة العقلائية، مردودٌ بأن الآية في صدد بيان ممدوحية متابعة القول الحسن، فالمحورية ليس لانتخاب الفرد وإعمال سلطته وولايته وإرادته، وإنما انتخاب قوته الفكرية وانتقاءه أصوب وأحسن الآراء كما تقدم في الاستشارة والشورى، وهذا هو مضمون الآية، ثُم ليس أن ما انتخبه هو الحسن، بل المحورية للحسن في نفسه وأنه يجب على الفرد اتباع ما هو حسن، لا أن ما ينتخبه يصبح حسناً.

أمّا التقريب الثالث: وهذا التقريب تارة يُستدل به على الشورى في قبال النص، وتارة في طول النص، وعلى كل حال، فانطلاقة هذا التقريب هو من أن الناس مسلَّطون على أنفسهم، لكن الرواية لم تذكر ما هو مورد السلطنة هل هو التصرفات الفردية الخاصة، أم التسلط على ‏النفس في الأمور العامة التي تمس منافع الآخرين؛ من الأموال العامة كالمباحات، وإقامة أركان الدين في المجتمع، وبث الهداية بتوسط جهاز الدولة، والرقابة والإشراف على مسير الأمة في كل المجالات لتأخذ طريق الكمال؟ والرواية غير ناظرة للأمر الثاني‏، بل تتعرض فقط للأمر الأول، وحتى هذه السلطنة ليست مطلقة له، بل هي محدودة بما أجاز له اللَّه. والدليل على ذلك - مضافاً إلى ما تقدم ذكره من أن الولاية في الأساس هي للَّه، وكل الولايات بما فيها الولاية الفرد على نفسه متشعِّبة من الولاية الأولى - أن اللَّه عزَّوجل حرَّم بعض التصرفات التي يكون فيها ربا، وأحل البيع وهو نوع تصرف، وغيرها من القيود التي جعلها اللَّه على تلك التصرفات، فهذا أدل دليل على أن هذا النوع من السلطنة على تصرفه غير مطلقة، بل هي للَّه عزَّوجل، وقد أحل له التصرف في نطاق وحدود معينة. ومن هنا نقول:

____________________

(١) الزمر ٣٩: ١٧.

٢٣٧

إن اللَّه عزَّوجل يمكن أن يجعل الولاية في الأمور العامة لِمَن يشاء، وأن يمنعه من التصرف فيها كيف يشاء.

وقد يصوَّر البعض هذا التقريب بحكم العقل العملي بحسن تصرف الإنسان بما يتولاّه، أو أن الواقعية التكوينية تدل على أنه مسلَّط على نفسه وعلى عمله تكويناً، فضلاً عن الأغيار.

ويجاب عن هذا التصوير: أن حكم العقل العملي بتحسين أو تقبيح التصرف يعود ويدور مدار الكمال الواقعي، وهو مدى أحقية هذا الفرد بالتصرف، و في مثل هذا المورد الخفية جهاته مع كثرتها تُعلم هذه الأحقية من كتاب اللَّه.

أمَّا لو أريد الاستدلال بالتقريب على الشورى في طول النص، فجوابه أنه مع وجود النص فهو تقييد وتخصيص للرواية وللقاعدة العقلية، فيجب أن يُعلم أن هذا التخصيص هو استثناء طارئ أو استثناء دائم. مضافاً إلى أنه في عصر الغيبة لا نعدم وجود الإمام، فالولاية له وليست منقطعة أو متوقفة كما هو ضروري مذهب الإمامية ومقتضى الأدلة كتاباً وسنة. مع أن لازم هذه الدعوى؛ من كون منتخب الأمة له الولاية بالأصالة من قبل الأمة لا من قبل المعصوم لعدم بسط يده في الخارج، هو أنه في فترة الخمس والعشرين عاماً التي لم يتسلَّم الأمير عليه‌السلام ‏مقاليد السلطة فيها وكذا بقية الأئمة عليهم‌السلام ، ‏تكون الولاية للأمة ولمنتخَبها، لا للإمام المعصوم عليه‌السلام ، وهو كما ترى يناقض أوَّليَّات المذهب والأدلة القطعية.

إشكالان ودفعهما:

من الأدلة على الشورى - وهي في كنهها إشكالات على نيابة الفقيه عن الإمام - وأن النيابة إنما تكون

للمجموع؛ أي أن النائب عن المعصوم لابد أن تكون المجموع لا الفرد (الفقيه)، فالشورى إن لم تكن صياغة بديلة عن النص في الغيبة

٢٣٨

وفي طول النص، فلا محالة هي المتعيِّنة لنيابة المعصوم، وأنها تستمد الولاية منه نيابة، لا بالأصالة من الأمة.

وبعبارة أخرى: إن الأدلة المتقدمة وإن لم تتم لإثبات الشورى إلاّ أن هناك نمطين آخرين لإثباتها غير ما تقدم:

الأول: عدم تمامية أدلة النيابة للفقيه.

الثاني: أن أدلة النيابة توكل الأمر إلى الأمة.

ـ الإشكال الثاني الذي اعترض به على نظرية نيابة الفقيه هو عدم إمكان حصر السلطات بيد الفقيه لأنه ليس بمعصوم، وقد يقرَّب الإشكال بنحو آخر؛ وهو أن يقال: إن الشيعة في تجويزهم للفقيه بتولِّي السلطات مع أنه غير معصوم، يكونون قد تراجعوا عمَّا دافعوا عنه في زمن ظهور الأئمة من وجوب تولّي المعصوم سدة الحكم، وعليه فإذا جاز للفقيه تولّي الحكم، فالعصمة ليست شرطاً وبطلت ضرورة خلافة الأئمة، و إذا كانت العصمة شرطاً فكيف يجوز للفقيه تولّي السلطة؟

والجواب عن كل ذلك: أن هذا الإشكال يرد لو قلنا بالولاية المطلقة للفقيه نيابة عن الإمام وأن ما للإمام له، أما على ما يقوله مشهور علماء الإمامية من أنّ تولّي الحكم ليس يعني تولّيه لكل الصلاحيات الثابتة للمعصوم، بل الفقيه في تولّيه للسلطة في زمن الغيبة حاله حال الولاة النوّاب في زمن ظهور الإمام عليه‌السلام ؛ من كون صلاحيّاته النيابية هي في تطبيق الأحكام الشرعية في مجال الولاية التنفيذية كما له منصب القضاء ومنصب الإفتاء واستنباط الأحكام.

ثُم إن اختيار مصداق وفرد الفقيه الذي يتولّى سُدّة الحكم أوكله المعصوم للأمة، فهم الذين يختارون مَن تجتمع فيه الشرائط، لكن منشأ ولايته تكون بإنابة المعصوم له بالنيابة العامة، والأمة بعد ذلك تظل في رقابتها للفقيه وحيازته وواجديَّته للشرائط العلمية والعملية.

٢٣٩

وبعبارة أخرى: حيث أن الأئمة عليهم‌السلام ‏لم ينصبوا نائباً خاصاً كما في عصر الحضور والغيبة الصغرى، كان جعلها نيابة عامة يفيد تخيير الأمة في اختيار أحد المصاديق ممَّن ينطبق عليه شرائط النيابة العامة عن المعصومين‏ عليهم‌السلام .

وأمَّا ما ذُكر من التقريب الآخر، فهذا نابع من جهل بمقام الإمامة وما يرادفها، فإن الإمامة لا تساوي تسلم سُدَّة الحكم، وبالتالي فلو كانت تعني الإمامة التسلُّم الفعلي لسدة الحكم، لكان عدم تسلُّم الأئمة عليهم‌السلام السابقين لسدة الحكم يعني عدم فعلية إمامتهم وعدم فعلية ولايتهم، مع أنَّا ذكرنا أن الحكم ليس منحصراً في الحكومة الظاهرية؛ فإن ممارسة الحكومة الخفية والنفوذ على الأتباع في الأبعاد المختلفة، هي نوع من المباشرة للولاية، وكذا الحال في الإمام الثاني عشر (عج)، فإن مباشرته للأمور ليست منحصرة في العلن، فراجع، بل إن هناك شؤون ومقامات أخرى للإمامة - وهذه الشؤون والمقامات ليس للفقيه منها حظ -:

منها: السلطة والولاية المعنوية والتكوينية، وهذه لها شُعب لا مجال لبسطها في المقام.

ومنها: وجوب المودّة بنص القرآن ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .

ومنها: الإقرار والاعتقاد بهم، وهو ركن في تحقق الإيمان قال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) (١) فأوجب معرفة الإمام، وهو عنوان غير عنوان الطاعة الواجبة، وحذّر صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن مَن لم تتحقَّق لديه تلك المعرفة، فسيموت على الكفر الجاهلي الذي ما دخل الإسلام.

____________________

(١) وللحديث مصادر كثيرة بأسانيد مستفيضة إن لم تكن متواترة، راجع: الكافي، ج٢، ١٨ باب دعائم الإسلام بعدة طرق، ورواه من العامة أحمد في مسنده، ج٤، ص٩٦، وذكره التفتازاني في شرح عقائد النسفي، وعدة غيرهما.

٢٤٠

ومنها: عرض أعمال العباد عليهم، قال تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، فإن عرض أعمال كل الأمة المخاطبة في هذه الآية لا يكون على الأمة المخاطبة، وإنما على عدَّة خاصة من المؤمنين الذين يتلون مقام رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وغيرها من المقامات والمناصب الأخرى.

ـ ومن الإشكالات: عدم وجود نص على نصب الفقيه نائباً عن المعصوم، وعندئذ نعود إلى مقتضى القاعدة عند عدم النص؛ وهو كونه بيد المجموع، والأصل عدم تسلُّط أحد على أحد.

وبتقريب آخر: إنه مع الإيمان بوجود الإمام عليه‌السلام في سماء الغيب إلاّ أنه مع عدم تمامية النص على فقيه معين يعني عدم وجود النائب الخاص.

والجواب: أن النص ثابت وجلي في نصب الفقيه كما تقدمت الإشارة إليه من الآية والروايات والدليل العقلي وقد حُرِّر في محلِّه، وقد نشير إليه بنحو أوفى مؤخَّرا.

مضافاً إلى أنه عند عدم النص على النائب كيف يصل الأمر إلى ولاية الشورى والحال أن المعصوم الحيّ هو الوليّ بالفعل؟ بل تصل النوبة طبقاً لقاعدة الحسبة، وهي إمّا يُستكشف منها نيابة الفقيه العادل كما قدمناه، وإمَّا يستكشف مجرد مأذونيه التصدي وتجعل القدر المتيقن هو الفقيه، وهذا واضح من الفقهاء الذين لم تتم لديهم أدلة النيابة العامة للفقيه طبقا ًلقاعدة الحسبة؛ فقد أسدوا جواز التصدِّي والتصرف للفقيه لكن من باب مجرد المأذونية، لا المنصب والتولية في الجهاد ونحوه. وبين التخرجين فروق مذكورة في تلك الأبواب.

وعليه فيمكننا القول إن المذهب الرسمي لفقهاء الإمامية لا ينتهي إلى قاعدة الشورى، بل لا يمكن ملائمة تلك القاعدة مع القول بالإمامة.

٢٤١

فلنستعرض ألان النظرية المختارة، والهدف منها هو: القراءة العقائدية للطرح الموجود في الفقه السياسي؛ أي أن الأطروحة هل تتلاءم مع الأسس التي أُسست في علم الكلام أم لا؟

والوجه الأخر الذي نريد الإشارة إليه هو أن أدلة النص على نيابة الفقهاء تامة، وهي تُوكِل تعيين المصداق الواجد للشرائط بيد الأمة وأنها تظل على مراقبته له. وهذه الطريقة لها نظائر في الفقه الإمامي:

* - في تولّي سُدَّة القضاء؛ فقد تسالم الفقهاء على أن للمتخاصمين وللمتنازعين أن يعيِّنوا مَن يشاؤون من القضاة الجامعي للشرائط فيختارون مَن شاؤوا ويرجعون إليه.

* - ما ورد في المرجعية وسُدَّة الفتيا؛ إذ مَن اجتمعت فيه الشرائط يصح للناس الرجوع إليه فيختار الناس مَن يشاؤون ممَّن اجتمعت فيه الشرائط، وجواز فتياه لا يكون بسبب رجوع الناس إليه، بل بالنصب العام من الإمام عليه‌السلام ‏لمَن اجتمعت فيه شرائط الفتيا.

٢٤٢

المبحث الخامس:

أدلة نصب الفقهاء

ـ أمَّا ما ورد من النصب للفقهاء بنحو عام، فيمكن الاستدلال به بما يأتي:

1 - في سورة المائدة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (1) .

سبب النزول: يكاد يجمع المفسِّرون من العامة والخاصة على أن سبب النزول هو اختلاف بني النضير وبني قريظة، فقالت بنو قريظة إنه إذا قَتل منهم واحد شخصاً من بني النضير، قتلوا القاتل، وإذا كان القاتل من بني النضير والمقتول من بني قريظة، أعطوا الدية.

وكان اليهود إذا كان الزاني من الأشراف، لم يقيموا عليه الحد، وإذا كان من غيرهم، أقاموا عليه الحد. فنزلت هذه الآيات الشريفة لبيان ماذا يجب على علماء بني إسرائيل وربَّانيهم من الحكم.

ـ إن الآية تدل على أن العلماء مخوَّلون طولياً في طول الربَّانيين ( وهم أوصياء الأنبياء؛ بقرينة ذكرهم بعدهم وقبل الأحبار وغيرها من القرائن التي تقدَّمت الإشارة إليها ) لتولِّي سُدَّة القضاء والفتيا، والتي أُجملت في سدة الحكم. وهذه النيابة ثابتة بإذن المعصوم.

ـ إن هذا التفويض ليس مختصَّاً بعلماء بني إسرائيل؛ وذلك بقرينة كونه خطاباً

____________________

(1) المائدة 5: 44.

٢٤٣

للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بداية آية 41، وإنما ذكر التوراة لأنها هي التشريع الإلهي الذي يقضي به الأنبياء والربَّانيُّون والعلماء في ذلك الموقف فكذلك القرآن فيه التشريع الإلهي الذي يحكم به هؤلاء وإنّ هؤلاء هم الذين يصلحون للحكم.

ـ إن الحكم المذكور أعم من القضاء، بل يشمل الفتيا، والحكم إنما يقام لأجل أن يُعمل به ويُنفَّذ.

2 - رواية عمر بن حنظلة:

جرى الكلام في مدى وثاقة عمر بن حنظلة حيث لم يُنص على توثيقه في كتب الرجال المعروفة؛ ولذا يعتبر البعض رواياته من المقبولات، ولكنَّنا نذهب إلى وثاقته، بل نعدّ هذه الرواية من الصحيح الأعلائي تبعاً لِمَا ذهب إليه عدَّة من الفقهاء منهم الشهيد الثاني، والدليل على ذلك:

أ - ما رواه في الكافي عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي ‏عبداللَّه عليه‌السلام : إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبوعبداللَّه‏ عليه‌السلام : (إذاً لا يكذب علينا).

وهذه الرواية واردة في مسألة حسَّاسة كانت محل خلاف بين كبار فقهاء الشيعة في الكوفة، فعندما يكون لابن حنظلة رأي يرويه عن الصادق عليه‌السلام ، فهذا يدل على مكانة علمية له ومرجعيَّته لثُلَّة من الشيعة كما لا يخفى على مَن أحاط خبراً بمسألة الوقت التي ثارت بين جماعة زرارة وجماعة أبي بصير وجماعة محمد بن مسلم وروايات يزيد بن خليفة متينة.

ب - نفس الرواية التي هي مورد الاستشهاد نلاحظ فيها التشقيقات الواردة، وجواب الإمام عن كل منها يدل على فقاهة وعلمية للسائل، وأن الإمام جاراه في تشقيقاته ولم يمانع.

جـ - يُروى عن محمد بن مسلم بسند صحيح (1) أن مشكلة حصلت لدى آل المختار فحمّلوها ابن حنظلة ليسأل الإمام عنها، وإذا عُلم أن ديدن الشيعة هو تحميل

____________________

(1) الوسائل: كتاب الإيمان، ب11، ح10.

٢٤٤

المسائل للكبار المعروفين بالفضل، لاسيما من البيوتات المعروفة، وأن نفس محمد بن مسلم - مع منزلته ومكانته - هو الذي يروي الرواية ولم يذكر مغمزاً في ابن حنظلة ممّا يُدلِّل على أرفعية منزلة ابن حنظلة على ابن مسلم؛ إذ العادة في الأقران عدم التصريح بوقوع مراجعة لقرينه من وجهاء الشيعة في مسألة علمية مهمة.

د - رواية أصحاب الإجماع عنه.

هـ - أن 21 راويا مسلّم بوثاقتهم يروون عنه.

د - أن أخيه علي بن حنظلة نصّ على توثيقه، وهو دون أخيه وجاهة وعلمية (1) .

أمَّا فقه الرواية

فالبعض كالسيد الخوئي(‏قُدِّس سرُّه) ‏أصرّ على أن مورد الرواية هو في قاضي التحكيم، والمشهور هو دلالتها على قاضي التنصيب؛ والدليل على ذلك: أن القاضي الذي ينصبه الإمام حيث إنه يحتاج في إنفاذ حكمه وبسط يده إلى مؤازرة الناس، وعبّر عليه‌السلام بـ: (فليرضوا به حكَما)، إلاّ أنه قد جعله حاكماً في الرتبة السابقة معلِّلاً الأمر في (فليرضوا...) وألان تصل النوبة للناس حتى يرضوا به حكَماً.

ويؤيد ذلك أنه في معتبرة أبي خديجة - حيث وردت بنفس اللسان - يعترف السيد الخوئي أنها في قاضي التنصيب، ولا يُعلم وجه التفرقة بينهما.

وبعبارة أخرى: أنه في المعتبرة ذكر بعد (فليرضوا...) (فإني قد جعلته...) وليست الفاء للتفريع، بل هي تعليل لوجه الأمر بالرضا؛ ولو كان قاضي تحكيم لَمَا كان للتعليل وجه.

ويؤيده أنه ورد في المعتبرة: (فالراد عليه كالراد علينا)، ولو كان قاضي التحكيم لَمَا كان هناك وجه لاعتبار الراد عليه كالراد علينا، بل الوجه هو لأنه قاضٍ منصوب من قبل الإمام فالراد عليه هو راد على مقام الطاعة والولاية.

ومادة الحكم - كما ذكرنا - ليست خاصة بالفقهاء، بل الترافع سابقاً كان يجري لدى

____________________

(1) وللمزيد من التعرّف على حاله راجع: كتاب هويَّات فقهية - بحث حكم الحاكم في المِلاك.

٢٤٥

السلطات والقاضي على حد سواء، مضافاً إلى أن القاضي كان يمارس جميع الأمور الحسبية والفتيا بالجهاد (وهو أمر تنفيذي كما في الفتيا الملعونة لابن شريح بقتل سيد الشهداء عليه‌السلام ) وكذا إقامة الحدود والقصاص (وهو جانب تنفيذي يتعلق بأمن الدولة والمجتمع) وغيرها من المجالات التي يجدها المتصفِّح لعصر صدور الرواية، والتفكيك بين القضاء والفتيا وبين الممارسة السلطوية غير تام.

3 - التوقيع الشريف الصادر عن الناحية المقدَّسة.

فقد اعتبره البعض ضعيفاً لوروده في الاحتجاج مرسلاً، لكن الشيخ الطوسي أورده في الغيبة بسند عالٍ؛ حيث يورده عن الكليني، وكان يتشدَّد في التوقيعات أكثر من تشدُّده في الرواية العادية، والسرُّ في ذلك أنه صادر عن الإمام الحي الفعلي، فهو يعيِّن التكليف الفعلي للسائل، مضافاً إلى ظروف التقيَّة، ووجود النائب الخاص الذي يستطيع تكذيبه، وأنّ إجابة الناحية المقدسة للسائل يعتبر نحو تشريفٍ له، فلو لم يكن التوقيع موثَّقاً لَمَا رواه الكليني.

نعم، قد أُشكل أنه لم يورد الكليني هذا التوقيع في الكافي، وجوابه: أن الكافي خالي من التوقيعات تماماً مع أنه معاصر للنوَّاب الخاصِّين؛ ويُعزى سبب ذلك إلى أن الكليني أراد أن ينشر كتابه ومع ظروف التقية واختفاء الإمام نقل التوقيع يُعلم منه وجود الإمام ونحوه.

ثُم إن الكليني يروى عنه الطوسي كثيراً من الروايات وهي غير موجودة في الكافي، فهذا يعني أنه لم يودع كل ما يرويه في الكافي، مضافاً إلى ضياع بعض مؤلَّفات الكليني وعدم وصولها إلينا.

أمَّا فقه الرواية:

فإن التوقيع يحمل أجوبة عن أسئلة متعددة لا ارتباط بينها، ومحل الاستشهاد الفقرة: (وأمَّا الحوادث الواقعة).

٢٤٦

أ - يصرف المحقق الأصفهاني في حاشية المكاسب ظهور هذه الفقرة عن محل الاستشهاد، ويذكر أن لها ارتباطاً بما ذُكر سابقاً في التوقيع ويتعرّض فيه لوقت الظهور، وأن الوقَّاتين كاذبون أو المقصود بالحوادث أي الأمور المرتبطة بعلامات الظهور لا ارتباط لها بجعل الفقهاء في سُدَّة الحكم والقضاء والفتيا.

ويجاب عنه: بأنّ الفاصل بين الفقرتين فقرات ترتبط بمواضيع أخرى، فلا يعقل أن تعود الحوادث لعلامات الظهور.

ب - واحتُمل أن يكون المراد من الحوادث هي الشبهات الواقعة من قبيل حكمها الكلي، فيرجع فيها إلى رواة الحديث والفقهاء. أو يقال يراد منها - بالإضافة إلى ما سبق -: الشبهات الحكمية من حيث حكمها الجزئي؛ أي من جهة فصل الخصومة، وهو القضاء، وجعل سُدَّة القضاء للفقيه. لكن الجمع بينهما غير ممكن؛ لأن الشبهة الحكمية من حيث حكمها الجزئي تتبع موازين القضاء، ومن حيث حكمها الكلي تتبع موازين الفتيا.

وقد استدل البعض للتعميم بقوله: (هم حجتي عليكم)، وهذا لا يناسب مقام الفتيا؛ إذ لا موقعية لكلام المعصوم، فالفتيا إخبار عن المعصوم، وهو مخبر محض عن الرسول عن اللَّه، فيكون المقصود الولاية في القضاء أو الولاية في تدبير الشؤون، وهذا أيضاً غير تام؛ لأن في فتيا الفقيه ونقله - في مقام الفتيا - عن المعصوم موضوعية، وليس طريقاً محضاً؛ إذ فتيا الفقيه هي دراية للحديث، لا رواية للحديث. وأمَّا كون فهم الفقيه فتيا مستندة إلى ما فهمه من قول المعصوم، فله موضوعية أيضاً؛ لحجية قول المعصوم، لا من باب أنه راوٍ بحت للحكم كبقية الرواة، بل إنهم ‏ عليهم‌السلام ‏يبلّغون عن اللَّه بقنوات ربانية مسدَّدة لا يداخلها الوهم والخيال ولا وساوس الشيطان ولا الهوى ولا الجهل، فمستسقى علمهم لَدُني؛ معصوم من الزلل والخطأ، ينقلونه بالحق والصواب، ويؤدُّونه إلى الخلق بالحق والصواب. فعلمهم ليس مرهون بدرجة

٢٤٧

التتبع والفحص وقوة التدبر والاستظهار نظير أفراد الفقهاء والمجتهدين، فلا يصح التنظير لحكمهم وإخبارهم عن اللَّه ورسوله وتقدمه على حكم وإخبار غيرهم برواية الأعدل والأضبط عند المعارضة برواية الأقل عدالة وضبطاً؛ فإن هذا التنظير مرتكِز على نظرة بقية المذاهب، لا نظرة الإمامية والنصوص القرآنية والنبوية في حقِّهم.

جـ - إن (ال) في الحوادث ليست عهدية أو إشارة إلى حوادث معينة، بل هي مطلقة تشمل كل الحوادث، ويدلِّل على ذلك أن هذا التعبير متَّخذ كالاصطلاح في الأوساط العلمية من العامة والخاصة آنذاك، بل منذ القرن الثاني يدل على مجريات الأمور الحادثة وسُدَّة الحكم. فراجع كلمات العامة عن متقدِّميهم.

ـ إنه قد ورد في التوقيع: (أنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللَّه) فهذا تصريح بالطولية وأن حُجِّـيَّـتهم منبثقة عن حجية المعصوم، وهي وإن لم تكن عينها، بل بينهما فوارق، لكن إطلاق المتعلَّق للحجية يفيد الشمول لكل من‏ الحكم والقضاء والفتيا. وبعبارة أخرى: أن متعلق حجيته (عج) سارية في ‏الموارد الثلاثة، ومع إطلاق النيابة المدلول عليها بالطولية في التعبير المزبور تشمل الموارد المزبورة مع التحفُّظ على عدم الإطلاق بنحو التطابق كما ذكرنا سابقاً لموضوعية العصمة كما لا يخفى.

وههنا إشكال معروف له صياغتان:

إحداهما: أنه كيف يُتصوَّر في عهد الغيبة الصغرى ومع وجود النوَّاب الخاصِّين، جعل النيابة العامة والولاية للفقهاء؟

والأخرى: أن رواية ابن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة إذا استفيد منها النصب العام، فهو نصب من قبل الإمام الصادق‏ عليه‌السلام ‏فكيف يبقى ذلك التنصيب إلى زمن الحجة عليه‌السلام ‏والمعروف أنه بموت المنوب عنه تبطل النيابة؟

وجواب هذا الإشكال يُعلم من التأمل في حالة النيابة العامة وفلسفتها؛ حيث إن الأئمة عليهم‌السلام ‏وأتباعهم كانوا يعيشون ظرفاً خاصاً، فمع أنهم أرادوا المحافظة على المذهب وتعاليمه، أرادوا ألاّ يظهروا بمظهر المخالف؛ حتى لا ينالوا عقاب السلطة

٢٤٨

الحاكمة آنذاك. فمع هذه الظروف كان هناك وكلاء خاصُّون للأئمة، لكنَّهم كانوا محطَّ نظر لا يستطيع الشيعة الرجوع إليهم دائما، فجُعل النصب العام والنيابة العامة حتى يكون للأئمة عليهم‌السلام ‏أذرع مختلفة، فيسهل الأمر على الشيعة في الرجوع إليهم.

مضافاً إلى أن الحكم الولائي التنفيذي لا يلزم أن يكون مؤقَّتاً، بل يمكن أن يكون دائماً؛ فإذا وُجدت القرائن على ذلك - كصيغة الحكم هنا - ووردت على نحو القضية الحقيقية، دلَّت على عمومه وديمومته. نعم، إذا وُجدت قرائن تدل على توقيته، فإنه يبطل بوفاة الإمام مباشرة، وعندئذٍ لا يسمّى تنصيباً، بل يكون نحواً من الوكالة والمأذونية. أمَّا الديمومة، فإنها تُتَصوَّر في التنصيب.

هذا كله مضافاً إلى ما تقدم في المناقشات السابقة من الإشارة إلى الوجه العقلي للنيابة، ووجه قاعدة الحسبة في استكشاف النيابة للفقيه العادل وغيرها من الوجوه المحرَّرة في موضعها من علم الفقه.

الخلاصة:

1 - إن للفقيه الولاية بحسب بسط يده، وهذه نظرية مشهورة بين علماء الإمامية، فلاحظ ما ذكروه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما صرَّح بذلك المفيد في أوائل المقالات وغيره من الفقهاء، فهم يقومون بالرقابة التنفيذية على شؤون الحاكمين إذا أُتيح لهم المجال، وهذه الرقابة لا تكون في مورد النزاع والتخاصم فقط، بل في المجال التنفيذي، نعم، ذلك لا يعني عدم استعانته بالخبرات الكفوءة، بل لابد منه كلٌّ حسب مجاله وخبرته واستشارتهم أو إيكال بعض الأمور في تلك المجالات لهم مع رقابته، وبعبارة أخرى: شكل الجهاز والنظام هو بحسب آليَّته بحسب الظروف مع مراعاة الموازين العامة.

2 - في حالات عدم بسط اليد لا تكون الولاية لغيره؛ لأن بسط اليد من قبيل قيد الواجب، وهو فرض إمكان تنفيذ الوظيفة. نعم، في الأمور التي لا يستطيع مباشرتها يوكلها للمتخصِّص الكفؤ.

٢٤٩

3 - التعبير الوارد (فارجعوا... فليرضوا... واجعلوا) خطاب عام لكل المكلَّفين بوجوب السعي إلى تعيين المصداق من بين الفقهاء كما مرَّ بيانه.

4 - إن الاستشارة لازمة وإنْ كانت غير ملزِمة له، وأفضليَّـتها من باب أن الاستعانة بالعقل الجماعي أسد وأفضل ممَّا يتوصل إليه العقل الفرد، وهو ما يسمّى حديثاً بالاستعانة ببنك المعلومات.

5 - ذكر بعض أصحاب التلفيق بين نظرية النص والشورى في كيفية الحكم في عصر الغيبة من أن النصوص عمومها مجموعي، وبالتالي يصل إلى شورى الفقهاء. وإن إرادة العموم الاستغراقي يلزم الترجيح بلا مرجِّح؛ إذ ترجع كل فئة إلى واحد، فترجيح أحدهما على الأخر يكون بلا مرجِّح.

والجواب عن هذا:

أ - أن ظاهر لسان الدليل: (فاجعلوا رجلاً...) هو الاستغراق لا المجموع، وديدن الفقهاء على استظهار الاستغراق منها، وتكون النتيجة أن يتصدَّى الكل للفتيا، ولو في عرض واحد، ويمارس الكل الجانب التنفيذي وإن كان في منطقة محدودة وإلاّ لزم في القضاء أن لا ينفذ إلاّ الحكم الصادر من المجموع، وهو كما ترى.

ب - أن استظهار الاستغراق لا ينافي إمكان أخذ شورى الفقهاء، إذ قد يرى الفرد والأمة الصلاحية في فَقِيهين أو أكثر، وقد أثير نظيره في بحث القضاء في أحكام اتخاذ قاضِيَين أو أكثر، ويذكرون هناك كيف يكون الحل عند الاختلاف.

وللمسألة تفريعات وتشقيقات تُستعرض في مواضعها.

٢٥٠

الفصل الثالث:

المقام الغيبي في الإمامة

٢٥١

٢٥٢

مقدِّمة:

المقام الغيبي في الإمامة

كما ذكرنا في بداية الكتاب أن الحديث حول الإمامة له جوانب متعددة وجهات مختلفة، وقد تناول علماؤنا المتقدمون والمتأخرون (رضوان اللَّه تعالى عليهم) البحث حول إثبات النص وإفحام الخصم وإقامة الأدلة المتنوِّعة على إثبات إمامة أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام وخلافته عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمثال: الإرشاد والغدير وعبقات الأنوار والمراجعات... وغيرها كثير، وكانت نتيجة هذه الجهود المتواصلة أن أصبح البحث حول صحة وتواتر حديث من أحاديث الولاية من السهولة واليسر ممَّا لا ينكره إلاّ مكابر أو معاند.

والبحث الذي نريد أن نتناوله هنا هو حقيقة الإمامة وماهيَّتها وكنهها، وهو ليس أمراً مبتكراً في بابه، فقد تناوله الأعلام لكن بنحو مضغوط ومبعثر في ذيل تفسير بعض الآيات القرآنية، وفي شرح بعض الأحاديث الشريفة، ونسعى إلى طرح ذلك من خلال نهج واضح وأسلوب يرفع الستار عن كثير من الحقائق التي خفيت في كتب الأقدمين ويعتبرها بعض أهل العصر من العجائب والغرائب، وقبل الشروع في ذلك نقدِّم ذكر بعض الأمور التي لها مدخليَّة في البحث:

أولاً: تحرير محل النزاع

يعتبر مصطلح الإمامة من الموضوعات التي كانت مثار بحث وجدل بين المتكلِّمين والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم منذ بدأ عصر الرسالة، وعندما

٢٥٣

يحرِّرون محل النزاع يقال: إن الإمامة ترادف الزعامة الدنيوية، وأن البحث حول الإمامة هو البحث حول مَن يجب أن يتولّى إدارة أمور المسلمين ومَن يكون له الأمر والنهي، وبالتعبير الحديث حصر محل النزاع في ما يصطلح عليه اليوم بـ: الفقه السياسي.

وتوسَّع بعض المتكلمين من الإمامية، بل أكثرهم، في محل النزاع، وأضافوا إليه الزعامة الدينية؛ بمعنى أنه بالإضافة إلى دور الإمام في إدارة شئون المجتمع، فهو يقوم ببيان الدين والذب عنه ونشر الأحكام الشرعية، فيُعد قوله وتقريره مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي.

ونحن لا ننكر هذين الموردين - وإن كان العامة قد أنكروهما وأصبح مورداً للنزاع - لكن نقول: إن الأمر لا ينحصر بهما، بل أن الإمامة تحمل في طيَّاتها معنى أوسع وأكبر ممَّا ذكره هؤلاء جميعا. ويمكننا القول أن علماءنا (رضوان اللَّه تعالى عليهم) ألجأتهم ظروف التخاصم والتقية إلى ذكر ذلك كمحل للنزاع ولا يحصرون اعتقادهم بالإمامة في هذا النطاق.

فالإمامة في حقيقتها هي محور الاتصال بين الأرض والسماء؛ حيث إن الاتصال الغيبي بين الخالق ومخلوقه لم ولن ينقطع منذ بدء الخليقة حتى قيام الساعة، فدائماً يوجد مَن يمثِّل تلك الصلة الروحية والمعنوية، ومِن هنا اعتبروا الإمامة امتداداً للنبوة والرسالة، فهي من تلك الجهة تؤدِّي نفس وظيفة النبوة في عالم الدنيا.

فإن الأدلة قائمة على ضرورة وجود حجة للَّه عزَّ وجل في كل زمان، وأن الاتصال لا ينقطع بوفاة النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو المقام الإلهي الذي يثبته الإمامية الاثني عشر، وهو من الأمور التي انفردوا بها عن بقية المذاهب حتى الإسماعيلية والزيدية، وهنا يكمن النزاع والخلاف مع المذاهب الأخرى، وتلك الحقيقة هي

٢٥٤

التي نريد إماطة اللثام عنها.

ومن الشواهد التي تؤيِّد ما ذكرناه: أن الأئمة في دعواهم للإمامة لم يكونوا ليقْصروا حديثهم على زعامة المسلمين، بل كانوا يركِّزون على مقامات أكبر من ذلك ويذكرون في كلماتهم اتصالهم بالغيب، وتحديث الملَك لهم، وأن علومهم من نور، وإطلاعهم على أعمال العباد، وأن ما لديهم هو علم لدني.

والجدير بالذكر أن مثل هذه الدعاوى لم تصدر عن غيرهم ممَّن عاصرهم أو مَن أتى بعدهم، بل غاية ما ادعوه هو تصدِّيهم للزعامة الدنيوية، ومن هنا نرى بعض المنحرفين يرمون الأئمة بدعوى الإلوهية والنبوة، وذلك لأن الأئمة كانوا يركزون على مسألة الاتصال بالغيب وهي أعم من النبوة والإمامة.

بل في موقف عمر بن الخطاب مع سلمان المحمدي ما يدلِّل على أعمق من ذلك؛ فقد روى الشيخ الطبرسي (1) أن سلمان قال لعمر: أشهدُ أني قد قرأت في بعض كتب اللَّه المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم. فقال لي: قل ما شئت! أليس قد أزالها اللَّه عن أهل هذا البيت الذين قد اتخذتموه أرباباً من دون اللَّه ؟(2) .

وفي ذيل قوله تعالى: ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنَا ) (3) يذكر البحراني في البرهان، وكذلك الطباطبائي في الميزان، أن نافع كان على خط الخليفة الثاني جالساً في المسجد الحرام في موسم الحج، إذ رأى أن الناس قد تجمعوا حول شخص، وهو الإمام الباقر عليه‌السلام ، فسأل هشام بن عبد الملك: مَن هذا الجالس الذي اجتمعت عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة.

____________________

(1) الاحتجاج، 210.

(2) كتاب سليم بن قيس، 90.

(3) الزخرف، 45.

٢٥٥

فهم كانوا يعرفون أن عقيدة الإمامية هي بأن هؤلاء هم الرابط بين السماء والأرض، فالتهمة بالربوبية ليست تهمة جديدة، بل لها جذورها من العصر الأول؛ والسبب في ذلك أن دعوى الربوبية - في أذهانهم - تختلف عن دعوى الإلوهية، فالربوبية تعني اتحاد الوسائط بين الأرض والسماء، وذلك لأن الإنسان بنفسه يذعن بعدم إمكانيته الاتصال بالغيب، وفي نفس الوقت يشهد عقله بأن الاتصال بالغيب لابد منه.

فحكم الفطرة يوجب أن تكون هناك واسطة، ولكن يجب في هذه الوسائط أمران:

أحدهما: أن تكون مجعولة من قبل الخالق الواحد الأحد، لا أن يختلقها بنو الإنسان كما كانوا يفعلون في الأصنام.

والثاني: أن لا تصل هذه الوسائط إلى رتبة الإلوهية، فهي مخلوقة للَّه، وهي ذليلة للَّه تعالى ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) (1) وخاضعة له سبحانه في السر والعلانية، وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المطلب.

ثانياً: الإمامة وراثة نسَبية أم روحيّة؟

يُنسب إلى الشيعة القول بأن الإمامة وراثية، وبالتالي فهم يقولون إن الزعامة تنتقل بالوراثة كما تنتقل الرئاسة بين الملوك وأبنائهم. وهذا لا أساس له من الصحة؛ إذ بناء على ما ذكرنا من أن الإمامة مقام إلهي واتصال بالغيب، فإنها تكون بعيدة عن التوريث النسَبي، بل هي مقام تكويني ووراثة روحية بمعنى وجود استعداد في روح أخرى للكمالات التي أفيضت على روح سابقة، وعندما يقال: أن الإمامة وراثة فإن ما ذكرنا هو المقصود منه، قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

____________________

(1) مريم 19: 93.

٢٥٦

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) (1) .

ثالثاً: الإمامة نصّ أم شورى؟

ممَّا ذكرنا في الأمر الأول يتَّضح أن مثل هذا المقام لا يكون بيد الانسان، بل للَّه عزَّ وجل يجعله حيث يشاء. أمَّا إذا اقتصرنا في محل النزاع على الزعامة الدنيوية، فواضح أن ما يطرحه العامة من جعله بيد الناس واختيارهم، يكون أوهم إلى العقول وأميل إلى النفوس، وكأنه أشبه بلغة العصر، لنفرة الإنسان من تسلُّط فئة معينة على إرادته وتقييدها في إدارة شئون مجتمعه، فطرح محل النزاع بتلك الصورة يخدم العامة. أمَّا على ما ذكرناه من حقيقة الإمامة، فيتضح السبب في إيكال ذلك الأمر إلى اللَّه عزَّ وجل، وما إن يجعل الحق تعالى إماما، فلا معنى للِّجوء إلى طرق أخرى لتعيين مَن له الزعامة الدنيوية، بل يكون هو المتعيَّن، وبتعبير آخر: أن مَن تثبت فيه الكمالات الروحانية العالية ومَن يتَّصل بالغيب لا يمكن أن يلجأ الناس إلى غيره لإدارة شئونهم، وبهذا ترى أن مركز الزعامة الدنيوية متفرِّع على ذلك المقام وتابع، كما رأينا في حياة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنه بعد ثبوت نبوته وإيمان الناس به، لم ينازع أحد في حاكميته.

والخلاصة: أنه يمكننا القول أن مقام الزعامة الدنيوية هو أدنى مراتب الإمامة ومقاماتها.

رابعاً: الاعتبار والتكوين

إن وظيفة النص في تعيين الإمام لا تنحصر في الجعل والاعتبار والإنشاء كما يقوم أي حاكم في تعيين حاكم آخر، بل إن النص سوف يكون كاشفاً عن الإرادة التكوينية والجعل الإلهي.

ومن هنا يتَّضح أن نصب الرسول - أو الإمام السابق - للإمام اللاحق، لا يقوم به مَن

____________________

(1) آل عمران:34.

٢٥٧

تلقاء نفسه، بل هو بإيحاء من اللَّه عزَّوجل؛ فهو جعل اعتباري كاشف عن الجعل التكويني.

خامساً: الإمامة من أصول الدين

من الأمور المهمة التي تترتب على تغيير محل النزاع هو أن مسألة الإمامة تدخل في ضمن المسائل الاعتقادية الأصلية في الدين؛ لأنها تكون بمنزلة النبوة وإن اختلفت عنها، وتكون هذه المسألة ما بها النجاة يوم القيامة، بخلاف المسائل الاعتقادية غير الأصلية؛ وهي التي لا تكون النجاة يوم القيامة مرهونة بها.

بيان ذلك: أنا ذكرنا أن الركن الأساسي في مقام الإمامة هو مقام السفارة الإلهية، ومَن يكون سفيراً من قبل الغيب ومَن هو حجة اللَّه على خلقه، فالأمر الرئيسي هنا هو في الاعتقاد والتسليم بهذه السفارة والسفير، وهذا أمر اعتقادي وليس مسألة عملية فرعية. نعم، هذا المقام تلحقه شؤون عملية وفرعية، لكن الأمر الأساس هو الأمر الاعتقادي، كما هو الحال في بحث النبوة.

وللأسف الشديد نجد البعض يعبّر بأن مسألة الإمامة خارجة عن الأصول وداخلة في الفروع، وهذا بلا شك غفلة عن حقيقة الحال، وله لوازم فاسدة؛ من نحو عدم وجود فائدة عملية لهذا البحث في زماننا الحاضر، وذلك لأن الإمام غائب فينتفي موضوع الزعامة ولو انتفاء مؤقتا، كما أنه لا فائدة من البحث عمَّن كان يجب أن يخلف النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا حدث تاريخي قد مضى. أمَّا على ما ذكرنا، فإن البحث تبقى له أهميته القصوى؛ إذ قضية الاعتقاد لا ترتبط بحضوره وعدم حضوره، ولا بحياته وعدم حياته.

ومثل هذا في الوهن أن يقال: إن أهمية بحث الإمامة تنحصر في أن الإمام هل هو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي أم لا؟ فهذا وإن كان صحيحاً إلا أن فائدة البحث لا تنحصر به، بل البحث في أمر اعتقادي جوانحي كما يُبحث حول النبوة مع

٢٥٨

عدم وجود نبي على قيد الحياة، إلاّ أن البحث له أهمية وخطورة من حيث وجوب الاعتقاد على كل مسلم.

فليس البحث حول مَن يكون رئيساً وزعيماً فقط، وليس البحث عن ميزان استنباط الأحكام الفرعية وهل السنة تشمل النبي والأئمة أم يقتصر فيها على النبي؟ فهذه كلها أمور فرعية تبتني على ذلك الأصل الاعتقادي، وهو أن الإمامة استمرار لمسيرة النبوة فالاعتقاد بها على نحو الاعتقاد بالنبوة.

سادساً: مقامات الأئمّة عليهم السلام

إن البحث قد يتعمَّق إلى البحث حول مقامات الأئمة (سلام اللَّه عليهم)، وليعلم أن مقام الإمامة مِن أهم هذه المقامات كما أن مقام الزعامة أدناها وأقلها، فتوجد مقامات أخرى تتجاوز الإمامة ككونهم كلمات اللَّه (1) وأسماء اللَّه الحسنى، وغيرها من المقامات العالية التي تعدُّ مِن أسرار معارف أهل البيت، وفي كل هذه المقامات لا يخرجون عن زيِّ العبودية، بل إن خضوعهم وتذللهم التام وفنائهم في المعبود هو الذي جعلهم ينالون هذه المقامات.

وبعض هذه المقامات يشاركهم فيها غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وفي بعضها يتفرَّدون ويشاركون بها الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك الزهراء عليها‌السلام ‏تشاركهم في بعض هذه المقامات كمقام حجة اللَّه، كما ورد في الخبر المتواتر معنى (وفاطمة حجة اللَّه علينا) أو كون مصحفها مصدر من مصادر علومهم.

سابعاً: الوظيفة الشرعيّة

إذا تمَّ مقام الإمامة، فسوف يتوجَّه إلى المكلَّفين عدد من الوظائف الشرعية، بدءاً من الاعتقاد والمعرفة والتسليم إلى التولِّي والتبرِّي القلبي والعملي، ووظائف

____________________

(1) قال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران، 45.

٢٥٩

أخرى سوف نأتي على ذكرها في الخاتمة.

ولا يخفى أن هذه المقامات الأخرى لا يتوقف عليها الإيمان، فكثير من علمائنا في علم الرجال يشيرون إلى أن الاعتقاد بأدنى مراتبه، وهو إجمال الزعامة الدينية والدنيوية - كما هو حال كثير من الناس والرواة - كافٍ في اعتبارهم من الإمامية.

ثامناً: تحليل الاقتداء

وقد يطرح هاهنا إشكال؛ حاصله:

إن إثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة، وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم البشرية، يتنافى مع جعلهم قدوة للبشرية، ولا يتلاءم مع أمر اللَّه عزَّ وجل باتباعهم واتخاذهم أسوة.

بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والإتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلى مرتبة المقتدى، وأن يجعل همَّه الأول هو الوصول إليه والسير على هداه، وهذا يعني أن يكون المقتدى بمرتبةٍ ومقامٍ يمكن الوصول إليه. أمّا إذا كان مقامه ممَّا لا يمكن الوصول إليه، بل هو ممتنع المنال، فكيف يُجعل قدوة ونؤمَر باتخاذه أسوة؟! فعليه يجب حصر الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لإثبات الرسالة والإمامة فقط.

وقد يطرح الإشكال بنحو آخر: بأن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الإقتداء في أحكام الدين، سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته. وبتعبير آخر: أنه لو قلنا أن مِلاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن التأثيرات الوضعية والدنيوية، فسوف يفقد المكلَّف الدافع المحرِّك للسعي وتحصيل تلك المِلاكات.

وفي الواقع ليس هذا الإشكال بصياغتيه شيئاً جديداً مبتكرا، بل هو إشكال يعود في جذوره إلى ما قبل الإسلام؛ حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440