الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127481
تحميل: 7075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127481 / تحميل: 7075
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومنها: عرض أعمال العباد عليهم، قال تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، فإن عرض أعمال كل الأمة المخاطبة في هذه الآية لا يكون على الأمة المخاطبة، وإنما على عدَّة خاصة من المؤمنين الذين يتلون مقام رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وغيرها من المقامات والمناصب الأخرى.

ـ ومن الإشكالات: عدم وجود نص على نصب الفقيه نائباً عن المعصوم، وعندئذ نعود إلى مقتضى القاعدة عند عدم النص؛ وهو كونه بيد المجموع، والأصل عدم تسلُّط أحد على أحد.

وبتقريب آخر: إنه مع الإيمان بوجود الإمام عليه‌السلام في سماء الغيب إلاّ أنه مع عدم تمامية النص على فقيه معين يعني عدم وجود النائب الخاص.

والجواب: أن النص ثابت وجلي في نصب الفقيه كما تقدمت الإشارة إليه من الآية والروايات والدليل العقلي وقد حُرِّر في محلِّه، وقد نشير إليه بنحو أوفى مؤخَّرا.

مضافاً إلى أنه عند عدم النص على النائب كيف يصل الأمر إلى ولاية الشورى والحال أن المعصوم الحيّ هو الوليّ بالفعل؟ بل تصل النوبة طبقاً لقاعدة الحسبة، وهي إمّا يُستكشف منها نيابة الفقيه العادل كما قدمناه، وإمَّا يستكشف مجرد مأذونيه التصدي وتجعل القدر المتيقن هو الفقيه، وهذا واضح من الفقهاء الذين لم تتم لديهم أدلة النيابة العامة للفقيه طبقا ًلقاعدة الحسبة؛ فقد أسدوا جواز التصدِّي والتصرف للفقيه لكن من باب مجرد المأذونية، لا المنصب والتولية في الجهاد ونحوه. وبين التخرجين فروق مذكورة في تلك الأبواب.

وعليه فيمكننا القول إن المذهب الرسمي لفقهاء الإمامية لا ينتهي إلى قاعدة الشورى، بل لا يمكن ملائمة تلك القاعدة مع القول بالإمامة.

٢٤١

فلنستعرض ألان النظرية المختارة، والهدف منها هو: القراءة العقائدية للطرح الموجود في الفقه السياسي؛ أي أن الأطروحة هل تتلاءم مع الأسس التي أُسست في علم الكلام أم لا؟

والوجه الأخر الذي نريد الإشارة إليه هو أن أدلة النص على نيابة الفقهاء تامة، وهي تُوكِل تعيين المصداق الواجد للشرائط بيد الأمة وأنها تظل على مراقبته له. وهذه الطريقة لها نظائر في الفقه الإمامي:

* - في تولّي سُدَّة القضاء؛ فقد تسالم الفقهاء على أن للمتخاصمين وللمتنازعين أن يعيِّنوا مَن يشاؤون من القضاة الجامعي للشرائط فيختارون مَن شاؤوا ويرجعون إليه.

* - ما ورد في المرجعية وسُدَّة الفتيا؛ إذ مَن اجتمعت فيه الشرائط يصح للناس الرجوع إليه فيختار الناس مَن يشاؤون ممَّن اجتمعت فيه الشرائط، وجواز فتياه لا يكون بسبب رجوع الناس إليه، بل بالنصب العام من الإمام عليه‌السلام ‏لمَن اجتمعت فيه شرائط الفتيا.

٢٤٢

المبحث الخامس:

أدلة نصب الفقهاء

ـ أمَّا ما ورد من النصب للفقهاء بنحو عام، فيمكن الاستدلال به بما يأتي:

1 - في سورة المائدة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (1) .

سبب النزول: يكاد يجمع المفسِّرون من العامة والخاصة على أن سبب النزول هو اختلاف بني النضير وبني قريظة، فقالت بنو قريظة إنه إذا قَتل منهم واحد شخصاً من بني النضير، قتلوا القاتل، وإذا كان القاتل من بني النضير والمقتول من بني قريظة، أعطوا الدية.

وكان اليهود إذا كان الزاني من الأشراف، لم يقيموا عليه الحد، وإذا كان من غيرهم، أقاموا عليه الحد. فنزلت هذه الآيات الشريفة لبيان ماذا يجب على علماء بني إسرائيل وربَّانيهم من الحكم.

ـ إن الآية تدل على أن العلماء مخوَّلون طولياً في طول الربَّانيين ( وهم أوصياء الأنبياء؛ بقرينة ذكرهم بعدهم وقبل الأحبار وغيرها من القرائن التي تقدَّمت الإشارة إليها ) لتولِّي سُدَّة القضاء والفتيا، والتي أُجملت في سدة الحكم. وهذه النيابة ثابتة بإذن المعصوم.

ـ إن هذا التفويض ليس مختصَّاً بعلماء بني إسرائيل؛ وذلك بقرينة كونه خطاباً

____________________

(1) المائدة 5: 44.

٢٤٣

للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بداية آية 41، وإنما ذكر التوراة لأنها هي التشريع الإلهي الذي يقضي به الأنبياء والربَّانيُّون والعلماء في ذلك الموقف فكذلك القرآن فيه التشريع الإلهي الذي يحكم به هؤلاء وإنّ هؤلاء هم الذين يصلحون للحكم.

ـ إن الحكم المذكور أعم من القضاء، بل يشمل الفتيا، والحكم إنما يقام لأجل أن يُعمل به ويُنفَّذ.

2 - رواية عمر بن حنظلة:

جرى الكلام في مدى وثاقة عمر بن حنظلة حيث لم يُنص على توثيقه في كتب الرجال المعروفة؛ ولذا يعتبر البعض رواياته من المقبولات، ولكنَّنا نذهب إلى وثاقته، بل نعدّ هذه الرواية من الصحيح الأعلائي تبعاً لِمَا ذهب إليه عدَّة من الفقهاء منهم الشهيد الثاني، والدليل على ذلك:

أ - ما رواه في الكافي عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي ‏عبداللَّه عليه‌السلام : إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبوعبداللَّه‏ عليه‌السلام : (إذاً لا يكذب علينا).

وهذه الرواية واردة في مسألة حسَّاسة كانت محل خلاف بين كبار فقهاء الشيعة في الكوفة، فعندما يكون لابن حنظلة رأي يرويه عن الصادق عليه‌السلام ، فهذا يدل على مكانة علمية له ومرجعيَّته لثُلَّة من الشيعة كما لا يخفى على مَن أحاط خبراً بمسألة الوقت التي ثارت بين جماعة زرارة وجماعة أبي بصير وجماعة محمد بن مسلم وروايات يزيد بن خليفة متينة.

ب - نفس الرواية التي هي مورد الاستشهاد نلاحظ فيها التشقيقات الواردة، وجواب الإمام عن كل منها يدل على فقاهة وعلمية للسائل، وأن الإمام جاراه في تشقيقاته ولم يمانع.

جـ - يُروى عن محمد بن مسلم بسند صحيح (1) أن مشكلة حصلت لدى آل المختار فحمّلوها ابن حنظلة ليسأل الإمام عنها، وإذا عُلم أن ديدن الشيعة هو تحميل

____________________

(1) الوسائل: كتاب الإيمان، ب11، ح10.

٢٤٤

المسائل للكبار المعروفين بالفضل، لاسيما من البيوتات المعروفة، وأن نفس محمد بن مسلم - مع منزلته ومكانته - هو الذي يروي الرواية ولم يذكر مغمزاً في ابن حنظلة ممّا يُدلِّل على أرفعية منزلة ابن حنظلة على ابن مسلم؛ إذ العادة في الأقران عدم التصريح بوقوع مراجعة لقرينه من وجهاء الشيعة في مسألة علمية مهمة.

د - رواية أصحاب الإجماع عنه.

هـ - أن 21 راويا مسلّم بوثاقتهم يروون عنه.

د - أن أخيه علي بن حنظلة نصّ على توثيقه، وهو دون أخيه وجاهة وعلمية (1) .

أمَّا فقه الرواية

فالبعض كالسيد الخوئي(‏قُدِّس سرُّه) ‏أصرّ على أن مورد الرواية هو في قاضي التحكيم، والمشهور هو دلالتها على قاضي التنصيب؛ والدليل على ذلك: أن القاضي الذي ينصبه الإمام حيث إنه يحتاج في إنفاذ حكمه وبسط يده إلى مؤازرة الناس، وعبّر عليه‌السلام بـ: (فليرضوا به حكَما)، إلاّ أنه قد جعله حاكماً في الرتبة السابقة معلِّلاً الأمر في (فليرضوا...) وألان تصل النوبة للناس حتى يرضوا به حكَماً.

ويؤيد ذلك أنه في معتبرة أبي خديجة - حيث وردت بنفس اللسان - يعترف السيد الخوئي أنها في قاضي التنصيب، ولا يُعلم وجه التفرقة بينهما.

وبعبارة أخرى: أنه في المعتبرة ذكر بعد (فليرضوا...) (فإني قد جعلته...) وليست الفاء للتفريع، بل هي تعليل لوجه الأمر بالرضا؛ ولو كان قاضي تحكيم لَمَا كان للتعليل وجه.

ويؤيده أنه ورد في المعتبرة: (فالراد عليه كالراد علينا)، ولو كان قاضي التحكيم لَمَا كان هناك وجه لاعتبار الراد عليه كالراد علينا، بل الوجه هو لأنه قاضٍ منصوب من قبل الإمام فالراد عليه هو راد على مقام الطاعة والولاية.

ومادة الحكم - كما ذكرنا - ليست خاصة بالفقهاء، بل الترافع سابقاً كان يجري لدى

____________________

(1) وللمزيد من التعرّف على حاله راجع: كتاب هويَّات فقهية - بحث حكم الحاكم في المِلاك.

٢٤٥

السلطات والقاضي على حد سواء، مضافاً إلى أن القاضي كان يمارس جميع الأمور الحسبية والفتيا بالجهاد (وهو أمر تنفيذي كما في الفتيا الملعونة لابن شريح بقتل سيد الشهداء عليه‌السلام ) وكذا إقامة الحدود والقصاص (وهو جانب تنفيذي يتعلق بأمن الدولة والمجتمع) وغيرها من المجالات التي يجدها المتصفِّح لعصر صدور الرواية، والتفكيك بين القضاء والفتيا وبين الممارسة السلطوية غير تام.

3 - التوقيع الشريف الصادر عن الناحية المقدَّسة.

فقد اعتبره البعض ضعيفاً لوروده في الاحتجاج مرسلاً، لكن الشيخ الطوسي أورده في الغيبة بسند عالٍ؛ حيث يورده عن الكليني، وكان يتشدَّد في التوقيعات أكثر من تشدُّده في الرواية العادية، والسرُّ في ذلك أنه صادر عن الإمام الحي الفعلي، فهو يعيِّن التكليف الفعلي للسائل، مضافاً إلى ظروف التقيَّة، ووجود النائب الخاص الذي يستطيع تكذيبه، وأنّ إجابة الناحية المقدسة للسائل يعتبر نحو تشريفٍ له، فلو لم يكن التوقيع موثَّقاً لَمَا رواه الكليني.

نعم، قد أُشكل أنه لم يورد الكليني هذا التوقيع في الكافي، وجوابه: أن الكافي خالي من التوقيعات تماماً مع أنه معاصر للنوَّاب الخاصِّين؛ ويُعزى سبب ذلك إلى أن الكليني أراد أن ينشر كتابه ومع ظروف التقية واختفاء الإمام نقل التوقيع يُعلم منه وجود الإمام ونحوه.

ثُم إن الكليني يروى عنه الطوسي كثيراً من الروايات وهي غير موجودة في الكافي، فهذا يعني أنه لم يودع كل ما يرويه في الكافي، مضافاً إلى ضياع بعض مؤلَّفات الكليني وعدم وصولها إلينا.

أمَّا فقه الرواية:

فإن التوقيع يحمل أجوبة عن أسئلة متعددة لا ارتباط بينها، ومحل الاستشهاد الفقرة: (وأمَّا الحوادث الواقعة).

٢٤٦

أ - يصرف المحقق الأصفهاني في حاشية المكاسب ظهور هذه الفقرة عن محل الاستشهاد، ويذكر أن لها ارتباطاً بما ذُكر سابقاً في التوقيع ويتعرّض فيه لوقت الظهور، وأن الوقَّاتين كاذبون أو المقصود بالحوادث أي الأمور المرتبطة بعلامات الظهور لا ارتباط لها بجعل الفقهاء في سُدَّة الحكم والقضاء والفتيا.

ويجاب عنه: بأنّ الفاصل بين الفقرتين فقرات ترتبط بمواضيع أخرى، فلا يعقل أن تعود الحوادث لعلامات الظهور.

ب - واحتُمل أن يكون المراد من الحوادث هي الشبهات الواقعة من قبيل حكمها الكلي، فيرجع فيها إلى رواة الحديث والفقهاء. أو يقال يراد منها - بالإضافة إلى ما سبق -: الشبهات الحكمية من حيث حكمها الجزئي؛ أي من جهة فصل الخصومة، وهو القضاء، وجعل سُدَّة القضاء للفقيه. لكن الجمع بينهما غير ممكن؛ لأن الشبهة الحكمية من حيث حكمها الجزئي تتبع موازين القضاء، ومن حيث حكمها الكلي تتبع موازين الفتيا.

وقد استدل البعض للتعميم بقوله: (هم حجتي عليكم)، وهذا لا يناسب مقام الفتيا؛ إذ لا موقعية لكلام المعصوم، فالفتيا إخبار عن المعصوم، وهو مخبر محض عن الرسول عن اللَّه، فيكون المقصود الولاية في القضاء أو الولاية في تدبير الشؤون، وهذا أيضاً غير تام؛ لأن في فتيا الفقيه ونقله - في مقام الفتيا - عن المعصوم موضوعية، وليس طريقاً محضاً؛ إذ فتيا الفقيه هي دراية للحديث، لا رواية للحديث. وأمَّا كون فهم الفقيه فتيا مستندة إلى ما فهمه من قول المعصوم، فله موضوعية أيضاً؛ لحجية قول المعصوم، لا من باب أنه راوٍ بحت للحكم كبقية الرواة، بل إنهم ‏ عليهم‌السلام ‏يبلّغون عن اللَّه بقنوات ربانية مسدَّدة لا يداخلها الوهم والخيال ولا وساوس الشيطان ولا الهوى ولا الجهل، فمستسقى علمهم لَدُني؛ معصوم من الزلل والخطأ، ينقلونه بالحق والصواب، ويؤدُّونه إلى الخلق بالحق والصواب. فعلمهم ليس مرهون بدرجة

٢٤٧

التتبع والفحص وقوة التدبر والاستظهار نظير أفراد الفقهاء والمجتهدين، فلا يصح التنظير لحكمهم وإخبارهم عن اللَّه ورسوله وتقدمه على حكم وإخبار غيرهم برواية الأعدل والأضبط عند المعارضة برواية الأقل عدالة وضبطاً؛ فإن هذا التنظير مرتكِز على نظرة بقية المذاهب، لا نظرة الإمامية والنصوص القرآنية والنبوية في حقِّهم.

جـ - إن (ال) في الحوادث ليست عهدية أو إشارة إلى حوادث معينة، بل هي مطلقة تشمل كل الحوادث، ويدلِّل على ذلك أن هذا التعبير متَّخذ كالاصطلاح في الأوساط العلمية من العامة والخاصة آنذاك، بل منذ القرن الثاني يدل على مجريات الأمور الحادثة وسُدَّة الحكم. فراجع كلمات العامة عن متقدِّميهم.

ـ إنه قد ورد في التوقيع: (أنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللَّه) فهذا تصريح بالطولية وأن حُجِّـيَّـتهم منبثقة عن حجية المعصوم، وهي وإن لم تكن عينها، بل بينهما فوارق، لكن إطلاق المتعلَّق للحجية يفيد الشمول لكل من‏ الحكم والقضاء والفتيا. وبعبارة أخرى: أن متعلق حجيته (عج) سارية في ‏الموارد الثلاثة، ومع إطلاق النيابة المدلول عليها بالطولية في التعبير المزبور تشمل الموارد المزبورة مع التحفُّظ على عدم الإطلاق بنحو التطابق كما ذكرنا سابقاً لموضوعية العصمة كما لا يخفى.

وههنا إشكال معروف له صياغتان:

إحداهما: أنه كيف يُتصوَّر في عهد الغيبة الصغرى ومع وجود النوَّاب الخاصِّين، جعل النيابة العامة والولاية للفقهاء؟

والأخرى: أن رواية ابن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة إذا استفيد منها النصب العام، فهو نصب من قبل الإمام الصادق‏ عليه‌السلام ‏فكيف يبقى ذلك التنصيب إلى زمن الحجة عليه‌السلام ‏والمعروف أنه بموت المنوب عنه تبطل النيابة؟

وجواب هذا الإشكال يُعلم من التأمل في حالة النيابة العامة وفلسفتها؛ حيث إن الأئمة عليهم‌السلام ‏وأتباعهم كانوا يعيشون ظرفاً خاصاً، فمع أنهم أرادوا المحافظة على المذهب وتعاليمه، أرادوا ألاّ يظهروا بمظهر المخالف؛ حتى لا ينالوا عقاب السلطة

٢٤٨

الحاكمة آنذاك. فمع هذه الظروف كان هناك وكلاء خاصُّون للأئمة، لكنَّهم كانوا محطَّ نظر لا يستطيع الشيعة الرجوع إليهم دائما، فجُعل النصب العام والنيابة العامة حتى يكون للأئمة عليهم‌السلام ‏أذرع مختلفة، فيسهل الأمر على الشيعة في الرجوع إليهم.

مضافاً إلى أن الحكم الولائي التنفيذي لا يلزم أن يكون مؤقَّتاً، بل يمكن أن يكون دائماً؛ فإذا وُجدت القرائن على ذلك - كصيغة الحكم هنا - ووردت على نحو القضية الحقيقية، دلَّت على عمومه وديمومته. نعم، إذا وُجدت قرائن تدل على توقيته، فإنه يبطل بوفاة الإمام مباشرة، وعندئذٍ لا يسمّى تنصيباً، بل يكون نحواً من الوكالة والمأذونية. أمَّا الديمومة، فإنها تُتَصوَّر في التنصيب.

هذا كله مضافاً إلى ما تقدم في المناقشات السابقة من الإشارة إلى الوجه العقلي للنيابة، ووجه قاعدة الحسبة في استكشاف النيابة للفقيه العادل وغيرها من الوجوه المحرَّرة في موضعها من علم الفقه.

الخلاصة:

1 - إن للفقيه الولاية بحسب بسط يده، وهذه نظرية مشهورة بين علماء الإمامية، فلاحظ ما ذكروه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما صرَّح بذلك المفيد في أوائل المقالات وغيره من الفقهاء، فهم يقومون بالرقابة التنفيذية على شؤون الحاكمين إذا أُتيح لهم المجال، وهذه الرقابة لا تكون في مورد النزاع والتخاصم فقط، بل في المجال التنفيذي، نعم، ذلك لا يعني عدم استعانته بالخبرات الكفوءة، بل لابد منه كلٌّ حسب مجاله وخبرته واستشارتهم أو إيكال بعض الأمور في تلك المجالات لهم مع رقابته، وبعبارة أخرى: شكل الجهاز والنظام هو بحسب آليَّته بحسب الظروف مع مراعاة الموازين العامة.

2 - في حالات عدم بسط اليد لا تكون الولاية لغيره؛ لأن بسط اليد من قبيل قيد الواجب، وهو فرض إمكان تنفيذ الوظيفة. نعم، في الأمور التي لا يستطيع مباشرتها يوكلها للمتخصِّص الكفؤ.

٢٤٩

3 - التعبير الوارد (فارجعوا... فليرضوا... واجعلوا) خطاب عام لكل المكلَّفين بوجوب السعي إلى تعيين المصداق من بين الفقهاء كما مرَّ بيانه.

4 - إن الاستشارة لازمة وإنْ كانت غير ملزِمة له، وأفضليَّـتها من باب أن الاستعانة بالعقل الجماعي أسد وأفضل ممَّا يتوصل إليه العقل الفرد، وهو ما يسمّى حديثاً بالاستعانة ببنك المعلومات.

5 - ذكر بعض أصحاب التلفيق بين نظرية النص والشورى في كيفية الحكم في عصر الغيبة من أن النصوص عمومها مجموعي، وبالتالي يصل إلى شورى الفقهاء. وإن إرادة العموم الاستغراقي يلزم الترجيح بلا مرجِّح؛ إذ ترجع كل فئة إلى واحد، فترجيح أحدهما على الأخر يكون بلا مرجِّح.

والجواب عن هذا:

أ - أن ظاهر لسان الدليل: (فاجعلوا رجلاً...) هو الاستغراق لا المجموع، وديدن الفقهاء على استظهار الاستغراق منها، وتكون النتيجة أن يتصدَّى الكل للفتيا، ولو في عرض واحد، ويمارس الكل الجانب التنفيذي وإن كان في منطقة محدودة وإلاّ لزم في القضاء أن لا ينفذ إلاّ الحكم الصادر من المجموع، وهو كما ترى.

ب - أن استظهار الاستغراق لا ينافي إمكان أخذ شورى الفقهاء، إذ قد يرى الفرد والأمة الصلاحية في فَقِيهين أو أكثر، وقد أثير نظيره في بحث القضاء في أحكام اتخاذ قاضِيَين أو أكثر، ويذكرون هناك كيف يكون الحل عند الاختلاف.

وللمسألة تفريعات وتشقيقات تُستعرض في مواضعها.

٢٥٠

الفصل الثالث:

المقام الغيبي في الإمامة

٢٥١

٢٥٢

مقدِّمة:

المقام الغيبي في الإمامة

كما ذكرنا في بداية الكتاب أن الحديث حول الإمامة له جوانب متعددة وجهات مختلفة، وقد تناول علماؤنا المتقدمون والمتأخرون (رضوان اللَّه تعالى عليهم) البحث حول إثبات النص وإفحام الخصم وإقامة الأدلة المتنوِّعة على إثبات إمامة أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام وخلافته عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمثال: الإرشاد والغدير وعبقات الأنوار والمراجعات... وغيرها كثير، وكانت نتيجة هذه الجهود المتواصلة أن أصبح البحث حول صحة وتواتر حديث من أحاديث الولاية من السهولة واليسر ممَّا لا ينكره إلاّ مكابر أو معاند.

والبحث الذي نريد أن نتناوله هنا هو حقيقة الإمامة وماهيَّتها وكنهها، وهو ليس أمراً مبتكراً في بابه، فقد تناوله الأعلام لكن بنحو مضغوط ومبعثر في ذيل تفسير بعض الآيات القرآنية، وفي شرح بعض الأحاديث الشريفة، ونسعى إلى طرح ذلك من خلال نهج واضح وأسلوب يرفع الستار عن كثير من الحقائق التي خفيت في كتب الأقدمين ويعتبرها بعض أهل العصر من العجائب والغرائب، وقبل الشروع في ذلك نقدِّم ذكر بعض الأمور التي لها مدخليَّة في البحث:

أولاً: تحرير محل النزاع

يعتبر مصطلح الإمامة من الموضوعات التي كانت مثار بحث وجدل بين المتكلِّمين والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم منذ بدأ عصر الرسالة، وعندما

٢٥٣

يحرِّرون محل النزاع يقال: إن الإمامة ترادف الزعامة الدنيوية، وأن البحث حول الإمامة هو البحث حول مَن يجب أن يتولّى إدارة أمور المسلمين ومَن يكون له الأمر والنهي، وبالتعبير الحديث حصر محل النزاع في ما يصطلح عليه اليوم بـ: الفقه السياسي.

وتوسَّع بعض المتكلمين من الإمامية، بل أكثرهم، في محل النزاع، وأضافوا إليه الزعامة الدينية؛ بمعنى أنه بالإضافة إلى دور الإمام في إدارة شئون المجتمع، فهو يقوم ببيان الدين والذب عنه ونشر الأحكام الشرعية، فيُعد قوله وتقريره مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي.

ونحن لا ننكر هذين الموردين - وإن كان العامة قد أنكروهما وأصبح مورداً للنزاع - لكن نقول: إن الأمر لا ينحصر بهما، بل أن الإمامة تحمل في طيَّاتها معنى أوسع وأكبر ممَّا ذكره هؤلاء جميعا. ويمكننا القول أن علماءنا (رضوان اللَّه تعالى عليهم) ألجأتهم ظروف التخاصم والتقية إلى ذكر ذلك كمحل للنزاع ولا يحصرون اعتقادهم بالإمامة في هذا النطاق.

فالإمامة في حقيقتها هي محور الاتصال بين الأرض والسماء؛ حيث إن الاتصال الغيبي بين الخالق ومخلوقه لم ولن ينقطع منذ بدء الخليقة حتى قيام الساعة، فدائماً يوجد مَن يمثِّل تلك الصلة الروحية والمعنوية، ومِن هنا اعتبروا الإمامة امتداداً للنبوة والرسالة، فهي من تلك الجهة تؤدِّي نفس وظيفة النبوة في عالم الدنيا.

فإن الأدلة قائمة على ضرورة وجود حجة للَّه عزَّ وجل في كل زمان، وأن الاتصال لا ينقطع بوفاة النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو المقام الإلهي الذي يثبته الإمامية الاثني عشر، وهو من الأمور التي انفردوا بها عن بقية المذاهب حتى الإسماعيلية والزيدية، وهنا يكمن النزاع والخلاف مع المذاهب الأخرى، وتلك الحقيقة هي

٢٥٤

التي نريد إماطة اللثام عنها.

ومن الشواهد التي تؤيِّد ما ذكرناه: أن الأئمة في دعواهم للإمامة لم يكونوا ليقْصروا حديثهم على زعامة المسلمين، بل كانوا يركِّزون على مقامات أكبر من ذلك ويذكرون في كلماتهم اتصالهم بالغيب، وتحديث الملَك لهم، وأن علومهم من نور، وإطلاعهم على أعمال العباد، وأن ما لديهم هو علم لدني.

والجدير بالذكر أن مثل هذه الدعاوى لم تصدر عن غيرهم ممَّن عاصرهم أو مَن أتى بعدهم، بل غاية ما ادعوه هو تصدِّيهم للزعامة الدنيوية، ومن هنا نرى بعض المنحرفين يرمون الأئمة بدعوى الإلوهية والنبوة، وذلك لأن الأئمة كانوا يركزون على مسألة الاتصال بالغيب وهي أعم من النبوة والإمامة.

بل في موقف عمر بن الخطاب مع سلمان المحمدي ما يدلِّل على أعمق من ذلك؛ فقد روى الشيخ الطبرسي (1) أن سلمان قال لعمر: أشهدُ أني قد قرأت في بعض كتب اللَّه المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم. فقال لي: قل ما شئت! أليس قد أزالها اللَّه عن أهل هذا البيت الذين قد اتخذتموه أرباباً من دون اللَّه ؟(2) .

وفي ذيل قوله تعالى: ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنَا ) (3) يذكر البحراني في البرهان، وكذلك الطباطبائي في الميزان، أن نافع كان على خط الخليفة الثاني جالساً في المسجد الحرام في موسم الحج، إذ رأى أن الناس قد تجمعوا حول شخص، وهو الإمام الباقر عليه‌السلام ، فسأل هشام بن عبد الملك: مَن هذا الجالس الذي اجتمعت عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة.

____________________

(1) الاحتجاج، 210.

(2) كتاب سليم بن قيس، 90.

(3) الزخرف، 45.

٢٥٥

فهم كانوا يعرفون أن عقيدة الإمامية هي بأن هؤلاء هم الرابط بين السماء والأرض، فالتهمة بالربوبية ليست تهمة جديدة، بل لها جذورها من العصر الأول؛ والسبب في ذلك أن دعوى الربوبية - في أذهانهم - تختلف عن دعوى الإلوهية، فالربوبية تعني اتحاد الوسائط بين الأرض والسماء، وذلك لأن الإنسان بنفسه يذعن بعدم إمكانيته الاتصال بالغيب، وفي نفس الوقت يشهد عقله بأن الاتصال بالغيب لابد منه.

فحكم الفطرة يوجب أن تكون هناك واسطة، ولكن يجب في هذه الوسائط أمران:

أحدهما: أن تكون مجعولة من قبل الخالق الواحد الأحد، لا أن يختلقها بنو الإنسان كما كانوا يفعلون في الأصنام.

والثاني: أن لا تصل هذه الوسائط إلى رتبة الإلوهية، فهي مخلوقة للَّه، وهي ذليلة للَّه تعالى ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) (1) وخاضعة له سبحانه في السر والعلانية، وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المطلب.

ثانياً: الإمامة وراثة نسَبية أم روحيّة؟

يُنسب إلى الشيعة القول بأن الإمامة وراثية، وبالتالي فهم يقولون إن الزعامة تنتقل بالوراثة كما تنتقل الرئاسة بين الملوك وأبنائهم. وهذا لا أساس له من الصحة؛ إذ بناء على ما ذكرنا من أن الإمامة مقام إلهي واتصال بالغيب، فإنها تكون بعيدة عن التوريث النسَبي، بل هي مقام تكويني ووراثة روحية بمعنى وجود استعداد في روح أخرى للكمالات التي أفيضت على روح سابقة، وعندما يقال: أن الإمامة وراثة فإن ما ذكرنا هو المقصود منه، قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

____________________

(1) مريم 19: 93.

٢٥٦

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) (1) .

ثالثاً: الإمامة نصّ أم شورى؟

ممَّا ذكرنا في الأمر الأول يتَّضح أن مثل هذا المقام لا يكون بيد الانسان، بل للَّه عزَّ وجل يجعله حيث يشاء. أمَّا إذا اقتصرنا في محل النزاع على الزعامة الدنيوية، فواضح أن ما يطرحه العامة من جعله بيد الناس واختيارهم، يكون أوهم إلى العقول وأميل إلى النفوس، وكأنه أشبه بلغة العصر، لنفرة الإنسان من تسلُّط فئة معينة على إرادته وتقييدها في إدارة شئون مجتمعه، فطرح محل النزاع بتلك الصورة يخدم العامة. أمَّا على ما ذكرناه من حقيقة الإمامة، فيتضح السبب في إيكال ذلك الأمر إلى اللَّه عزَّ وجل، وما إن يجعل الحق تعالى إماما، فلا معنى للِّجوء إلى طرق أخرى لتعيين مَن له الزعامة الدنيوية، بل يكون هو المتعيَّن، وبتعبير آخر: أن مَن تثبت فيه الكمالات الروحانية العالية ومَن يتَّصل بالغيب لا يمكن أن يلجأ الناس إلى غيره لإدارة شئونهم، وبهذا ترى أن مركز الزعامة الدنيوية متفرِّع على ذلك المقام وتابع، كما رأينا في حياة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنه بعد ثبوت نبوته وإيمان الناس به، لم ينازع أحد في حاكميته.

والخلاصة: أنه يمكننا القول أن مقام الزعامة الدنيوية هو أدنى مراتب الإمامة ومقاماتها.

رابعاً: الاعتبار والتكوين

إن وظيفة النص في تعيين الإمام لا تنحصر في الجعل والاعتبار والإنشاء كما يقوم أي حاكم في تعيين حاكم آخر، بل إن النص سوف يكون كاشفاً عن الإرادة التكوينية والجعل الإلهي.

ومن هنا يتَّضح أن نصب الرسول - أو الإمام السابق - للإمام اللاحق، لا يقوم به مَن

____________________

(1) آل عمران:34.

٢٥٧

تلقاء نفسه، بل هو بإيحاء من اللَّه عزَّوجل؛ فهو جعل اعتباري كاشف عن الجعل التكويني.

خامساً: الإمامة من أصول الدين

من الأمور المهمة التي تترتب على تغيير محل النزاع هو أن مسألة الإمامة تدخل في ضمن المسائل الاعتقادية الأصلية في الدين؛ لأنها تكون بمنزلة النبوة وإن اختلفت عنها، وتكون هذه المسألة ما بها النجاة يوم القيامة، بخلاف المسائل الاعتقادية غير الأصلية؛ وهي التي لا تكون النجاة يوم القيامة مرهونة بها.

بيان ذلك: أنا ذكرنا أن الركن الأساسي في مقام الإمامة هو مقام السفارة الإلهية، ومَن يكون سفيراً من قبل الغيب ومَن هو حجة اللَّه على خلقه، فالأمر الرئيسي هنا هو في الاعتقاد والتسليم بهذه السفارة والسفير، وهذا أمر اعتقادي وليس مسألة عملية فرعية. نعم، هذا المقام تلحقه شؤون عملية وفرعية، لكن الأمر الأساس هو الأمر الاعتقادي، كما هو الحال في بحث النبوة.

وللأسف الشديد نجد البعض يعبّر بأن مسألة الإمامة خارجة عن الأصول وداخلة في الفروع، وهذا بلا شك غفلة عن حقيقة الحال، وله لوازم فاسدة؛ من نحو عدم وجود فائدة عملية لهذا البحث في زماننا الحاضر، وذلك لأن الإمام غائب فينتفي موضوع الزعامة ولو انتفاء مؤقتا، كما أنه لا فائدة من البحث عمَّن كان يجب أن يخلف النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا حدث تاريخي قد مضى. أمَّا على ما ذكرنا، فإن البحث تبقى له أهميته القصوى؛ إذ قضية الاعتقاد لا ترتبط بحضوره وعدم حضوره، ولا بحياته وعدم حياته.

ومثل هذا في الوهن أن يقال: إن أهمية بحث الإمامة تنحصر في أن الإمام هل هو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي أم لا؟ فهذا وإن كان صحيحاً إلا أن فائدة البحث لا تنحصر به، بل البحث في أمر اعتقادي جوانحي كما يُبحث حول النبوة مع

٢٥٨

عدم وجود نبي على قيد الحياة، إلاّ أن البحث له أهمية وخطورة من حيث وجوب الاعتقاد على كل مسلم.

فليس البحث حول مَن يكون رئيساً وزعيماً فقط، وليس البحث عن ميزان استنباط الأحكام الفرعية وهل السنة تشمل النبي والأئمة أم يقتصر فيها على النبي؟ فهذه كلها أمور فرعية تبتني على ذلك الأصل الاعتقادي، وهو أن الإمامة استمرار لمسيرة النبوة فالاعتقاد بها على نحو الاعتقاد بالنبوة.

سادساً: مقامات الأئمّة عليهم السلام

إن البحث قد يتعمَّق إلى البحث حول مقامات الأئمة (سلام اللَّه عليهم)، وليعلم أن مقام الإمامة مِن أهم هذه المقامات كما أن مقام الزعامة أدناها وأقلها، فتوجد مقامات أخرى تتجاوز الإمامة ككونهم كلمات اللَّه (1) وأسماء اللَّه الحسنى، وغيرها من المقامات العالية التي تعدُّ مِن أسرار معارف أهل البيت، وفي كل هذه المقامات لا يخرجون عن زيِّ العبودية، بل إن خضوعهم وتذللهم التام وفنائهم في المعبود هو الذي جعلهم ينالون هذه المقامات.

وبعض هذه المقامات يشاركهم فيها غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وفي بعضها يتفرَّدون ويشاركون بها الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك الزهراء عليها‌السلام ‏تشاركهم في بعض هذه المقامات كمقام حجة اللَّه، كما ورد في الخبر المتواتر معنى (وفاطمة حجة اللَّه علينا) أو كون مصحفها مصدر من مصادر علومهم.

سابعاً: الوظيفة الشرعيّة

إذا تمَّ مقام الإمامة، فسوف يتوجَّه إلى المكلَّفين عدد من الوظائف الشرعية، بدءاً من الاعتقاد والمعرفة والتسليم إلى التولِّي والتبرِّي القلبي والعملي، ووظائف

____________________

(1) قال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران، 45.

٢٥٩

أخرى سوف نأتي على ذكرها في الخاتمة.

ولا يخفى أن هذه المقامات الأخرى لا يتوقف عليها الإيمان، فكثير من علمائنا في علم الرجال يشيرون إلى أن الاعتقاد بأدنى مراتبه، وهو إجمال الزعامة الدينية والدنيوية - كما هو حال كثير من الناس والرواة - كافٍ في اعتبارهم من الإمامية.

ثامناً: تحليل الاقتداء

وقد يطرح هاهنا إشكال؛ حاصله:

إن إثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة، وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم البشرية، يتنافى مع جعلهم قدوة للبشرية، ولا يتلاءم مع أمر اللَّه عزَّ وجل باتباعهم واتخاذهم أسوة.

بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والإتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلى مرتبة المقتدى، وأن يجعل همَّه الأول هو الوصول إليه والسير على هداه، وهذا يعني أن يكون المقتدى بمرتبةٍ ومقامٍ يمكن الوصول إليه. أمّا إذا كان مقامه ممَّا لا يمكن الوصول إليه، بل هو ممتنع المنال، فكيف يُجعل قدوة ونؤمَر باتخاذه أسوة؟! فعليه يجب حصر الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لإثبات الرسالة والإمامة فقط.

وقد يطرح الإشكال بنحو آخر: بأن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الإقتداء في أحكام الدين، سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته. وبتعبير آخر: أنه لو قلنا أن مِلاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن التأثيرات الوضعية والدنيوية، فسوف يفقد المكلَّف الدافع المحرِّك للسعي وتحصيل تلك المِلاكات.

وفي الواقع ليس هذا الإشكال بصياغتيه شيئاً جديداً مبتكرا، بل هو إشكال يعود في جذوره إلى ما قبل الإسلام؛ حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال

٢٦٠