الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127199
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127199 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

باللَّه سبحانه وتعالى ذي القدرة المطلقة اللامحدودة، متعسِّر وممتنع، فيجب توسيط وسائط تُعدُّ أرباباً وآلهة صغيرة تكون وسيلة وواسطة.

أمَّا الجواب:

أولاً: إن طبيعة الاقتداء تقتضي أن يكون هناك فارق بين المقتدي والمقتدى، فإذا كان المقتدى مساوياً للمقتدي، فإن الإقتداء يكون ممتنعا؛ إذ لا توجد مزيَّة للمقتدى حتى يُقتدى به، فالسعي والحركة والانبعاث الذي يحصل للمقتدي إنما هو من أجل تحصيل أمور وكمالات هو فاقد لها، لكنَّها متوفِّرة وحاصلة في المقتدى، إذن يجب أن يكون المقتدى غير مساوٍ للمقتدي.

ثانياً: كما أن الحاصل لا يسعى الإنسان إلى تحصيله، كما أن الممتنع أيضاً لا يسعى الانسان إلى تحصيله، فإن من الواجب أن يكون المقتدى له مرتبة بين هذين الأمرين. وفي نفس الوقت يجب أن يكون هذا الاقتداء ملازماً للإنسان في كل مسيرته؛ بمعنى أن المقتدى يجب أن يكون متفوِّقاً دائماً على المقتدي، وإلاّ لو فقد هذا التفوق، لتوقف الاقتداء في فترة من فترات حياة الإنسان؛ وذلك فيما إذا نال كل كمالات المقتدى، وحينئذٍ لا يكون هناك سعي ولا يكون هناك هدف يحرك هذا الانسان، فيجب أن يكون هناك باعث ومحرك دائمي للإنسان وللإنسانية قاطبة، وفي نفس الوقت لا تكون كل درجات كمالات المقتدى ممتنعة، كي يمكن السعي والتحصيل.

وهذا هو معنى الحالة الوسطية بين الأمرين؛ أي لا كمالاته كلها ممتنعة ولا كل كمالاته بكل درجاتها حاصلة، فيسعى الانسان لتحصيل تلك الكمالات فقد يصل بجهده إلى تحصيل بعضها وقد لا يستطيع (ألا إنكم لا تستطيعون على ذلك فأعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد).

فتحصيل كل كمالات المقتدى أمر مستحيل؛ غير ممكن. أمَّا تحصيل بعض

٢٦١

درجات كمالاته، فهو أمر مرجو ممكن الحصول عليه، فلماذا لا يصح الاقتداء؟ ولماذا لا يمكن السعي نحوها؟!

وقد يقال: ما الحاجة إلى الإمام من أجل الإقتداء به إذا لم يكن من الممكن الحصول على كل كمالاته؟ فليقتدى مباشرة بالكمال المطلق اللامحدود وهو الذات المقدسة؟

وجوابه: أن الإمام هو الآية العظمى، وفي الحديث (ما للَّه أية أكبر مني) وآيته في الصفات الخلقية، فالسعي إلى اللَّه غير متناه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن رحمة اللَّه بعباده أن جعل لهم إماماً يقتدون به يماثلهم في البشرية ومتخلِّقاً بأخلاق اللَّه عزَّ وجل، وهذا هو لطف اللَّه بعباده؛ لأن المقتدى أيضا هو في حالة سير وحركة من أجل تحصيل الكمال اللامتناهي، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

ونعود إلى محل الكلام، فإن هذه الحالة الوسطية هي التي تدفع الإنسان - دائماً - نحو الحركة والعمل كما هو الحال في الخوف والرجاء؛ فلا هو حصر في حالة الخوف فقط؛ لأنه يأس من رحمة اللَّه، واليأس عدم اعتقاد برحمته تعالى، فهو كفر، والرجاء المطلق كفر أيضاً؛ لأنه عدم اعتقاد بعقاب اللَّه.

فالإمام ليست صفاته كلها قابلة للمنال، ولو كانت كذلك، لَمَا كان الانسان متحرِّكاً نحوها بحركة مستمرة دائمة لا تقف عند حد، ولا هي حاصلة للإنسان حتى لا يكون هناك دافع نحو السير والسعي الحثيث. وسوف نشير في بحث الفقه العقلي للإمامة إلى أن الوسيلة الصحيحة للتوحيد هي الإمامة.

ثالثاً: ذكرنا أن كمالات الإنسان تشمل جنبتيه البدنية المادية و الروحية المعنوية، وكمالات الجنبة الأخيرة على قسمين؛ القسم الأول: ما له ارتباط بالبدن كالشجاعة، فهي كمال روحي، إلاّ أن له ارتباطاً بالبدن. والقسم الآخر: كمالات روحية لا ارتباط لها بالبدن، بل ترتبط بعوالم الغيب و الآخرة والعوالم المجردة.

٢٦٢

وكمالات هذا الجانب أشرف من الجوانب الأخرى، والاقتداء المؤدي للكمال لا بد أن يشمل جميع جوانب النفس الإنسانية، ومن هنا نحتاج في المقتدى أن تكون له جوانب غيبية وكمالات مرتبطة بعالم الغيب.

رابعاً: إن دراسة طبيعة حركة الانسان ترشدنا إلى أن جوارحه تنطلق في حركتها من الجوانح، والأخيرة تتحرك طبقاً للإذعان والإيمان والاعتقاد الذي يلتزم به الانسان، فهذه الهيكلية في صدور تصرفات الانسان هي الأساس، وهذا يعني أن أساس تحرك الانسان هو معارفه الاعتقادية. والاعتقاد يشمل جميع الجوانب الغيبية وغيرها، فلا يمكن أن نتمسك بقسم معين من المعارف ونثبته ونغض الطرف عن القسم الآخر؛ لأن العقائد شأن مجموعي تبتني عليه عمل الجوانح التي هي المحرك للجوارح، فإذا اختل الأساس، اختل ما عليه من البناء.

خامساً: نحن نسائل المستشكِل الذي لا ينفي الغيبيات في المقتدى، بل يحصرها في إثبات المعجزة للرسالة والنبوة والإمامة، نقول: لماذا في هذا الجانب نُثبت الأمر الغيبي؟

والجواب: أن هذا هو الكاشف عن اتصال هذا الشخص بالغيب، وأنه مبعوث وسفير من قبل اللَّه سبحانه وتعالى، فالمعجزة هي المثبِتة للاتصال والسفارة الإلهية، وأن هذا الاتصال غير موجود في بقية أفراد البشر. ونحن نقول: إن هذا الاتصال الغيبي هو المقام الغيبي نفسه؛ بمعنى أن هذا الاتصال يكشف أن لهذا الشخص درجة وجودية معينة، وهذه الخصوصية مَنّ اللَّه تعالى بها عليه، وهي التي مكنته من الإتيان بالمعجزة حتى يثبت لبني البشر أنه سفير من قبل اللَّه تعالى.

وممَّا لا شك فيه أن تصحيح محل النزاع بما ذكرنا سوف يهيّء لنا الأرضية والذهنية المطلوبة للتعامل مع الأدلة العقلية والنصوص الشرعية، حيث إن طائفة كبيرة سوف تدخل في ضمن نطاق التحليل والاستنطاق، بخلاف ما إذا كان

٢٦٣

المطلوب هو إثبات الزعامة الدنيوية، فإنه سوف يتم إسقاط عدد كبير من الأدلة بحجة أنها تبحث عن ما هو خارج عن محل النزاع.

ولا يخفى أن الخوض في مثل هذه المباحث يحتاج إلى أهلية عقلية، وإلمام تام بالمباحث الفقهية والتفسيرية والكلامية والفلسفية والعرفانية، مضافاً إلى ما يمكن استفادته من علمي النفس والاجتماع الحديثين.

٢٦٤

المبحث الأول:

تعريف الإمامة

الجهة الأولى: التحليل اللُّغوي

إنَّا لا نهدف من بحثنا استعراض المعنى اللغوي الذي يسطره اللغويون في كتبهم، بل مرادنا هو الوصول إلى ماهية وحقيقة الإمامة، وبتعبير اصطلاحي: رفع الستار عن ما الشارحة وما الحقيقية. وإذا ما استعرضنا كلمات اللُّغويين، فما ذلك إلاَّ توطئة للوصول إلى التعريف الماهوي واستخلاص المعاني العقلية التي تنطوي عليها اللفظة.

ومن خلال ما يذكره اللغويون يمكن ذكر بعض الملاحظات التالية:

1 - أن اصطلاحات الإمام والأمة والمأموم كلها تعود إلى جذر لغوي واحد هو أمّ يؤم.

2 - أن المراد من يؤمُّه أمّ إذا قصده، والأمّ هو القصد المستقيم والتوجُّه نحو المقصود (1) ففي هذا الأصل الاشتقاقي جنبة السير والسلوك.

3 - أن المراد من الأمة هي الجماعة الذين يكون لهم مقصد واحد.

4 - أن الإمام هو كل مَن ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، وعلى هذا يكون معنى إمام بمعنى المقتدى اسم مفعول، ويكون المأموم اسم فاعل

____________________

(1) المفردات، مادة أمَّ.

٢٦٥

أي الذي يقتدي بغيره. وأمَّا إذا كانت بمعنى الهداية، فسوف يكون الإمام بمعنى الهادي، وهو اسم

فاعل، والمأموم المهتدى، فهو اسم مفعول.

فيلاحظ أن المعنى اللغوي يستطبن معنى الاقتداء والهداية.

من خلال تلك النقاط نرى أنه في جميع اشتقاقات (أمّ)، يتضمن قصد وسلوك غاية وهدف معين مع إضافات أخرى في كل اشتقاق؛ فإذا كانت الأمة، فإنها تُطلق على الجماعة البشرية التي لها مقصد واحد، فهي بالضرورة تتبع إماماً لها يقتدي به الناس ويأخذ بيدهم نحو ذلك المقصد وتلك الغاية؛ ومن هنا ورد التعبير في القران ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (1) ، ولذا لم يُطْلِق لفظ الأمة على كل المجتمع البشري، بل أطلقه بحسب الحقب الزمانية.

ويمكننا القول أن الإمامة في اللغة تساوق الهداية، والهداية كما يذكر اللغويون لها معنيان؛ أحدهما: مجرد إراءة الطريق المستقيم، والآخر: هو الإيصال إلى المطلوب، والثاني يستلزم الأول؛ وذلك لأنه لو قلنا أنها بمعنى الأخذ بيد المأموم وإيصاله إلى المطلوب والغاية المرادة، فهي لا تقتصر على مجرد الإراءة، بل تتعداها إلى الإيصال.

ونقول: إن المراد من الهداية هنا هو الثاني؛ وذلك لأن الأمة، وهي الجماعة التي لها مقصد واحد، تسير نحو هذا المقصد وتتبع الإمام من أجل الوصول إلى تلك الغاية، ووجود الإمام و السير يقتضيان أن يكون المراد من الهداية هو الإيصال، وأن الإمام لا يقتصر على مجرد إراءة الطريق الصحيح، بل يتبع ذلك بالأخذ بيد الأمة من أجل إيصالهم إلى الغاية القصوى. نعم، تلك الهداية والإيصال ليس إيصالاً جبرياً، بل إيصال اختياري.

____________________

(1) الإسراء: 71.

٢٦٦

الجهة الثانية: التحليل العقلي

إنَّا إذا قمنا بتحليل أعمق لماهية الإمامة وكيفية أخذ الإمام بيد الأمة لتحقيق الغاية القصوى، فإنه يجب أن تكون هناك طاعة ومتابعة وانقياد من قبل المأموم للإمام، مع المحافظة في نفس الوقت على الاختيار والإرادة التي للمأموم، وهذا يعني وجود نوع من السلطة والولاية من قبل الإمام على المأموم مع المحافظة على اختياره؛ وهو أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

فالإمامة متقوِّمة بطرفين: الإمام والمأموم، وفي كل طرف منهما يكون لها معنى؛ ففي الأول له التسلُّط والولاية، وفي الثاني له الاختيار؛ بمعنى أن الإمام لا يُلجأ المأموم على التصرف المعين، ولا يقوم بتسخيره أو قهره، بل يجب أن يقوم المأموم بذلك طواعية واختيارا، ونستطيع تشبيه ذلك بالانجذاب الحاصل بين المحب ومحبوبه وسيطرة الأخير على الأول لا بنحو يقهره ويسلبه، وهذا لا ينافي اختياره.

ومن هنا نستطيع القول أن الإمامة ليست علة تامة للهداية، بل هي مقتضٍ لحصولها إذا ارتفع المانع، وهو إرادة نفس المأموم واختياره؛ إذ بيده أن يتبع هداية الأمام حتى يوصله إلى الغاية، وأن يسلِّم له القيادة، وله أن لا يستجيب له، فلا تؤثِّر عليه هداية الإمام.

فالتحليل الماهوي للإمامة يقوم على حيثيات؛ حيثية الاقتداء، وحيثية الهداية الإيصالية، وحيثية السير السلوك والحركة، وحيثية الولاية والسلطة والجذب.

وإذا أردنا أن نتلمس بنحو أفضل، فما علينا إلّا التأمل في هذه الأمثلة الثلاثة والموازنة بينها: الإنسان الصغير، وهو ذلك المخلوق الذي كرَّمه اللَّه تعالى بالعقل، والإنسان المجموعي، وهو المجتمع البشري، والإنسان الكبير، وهو عالم الخلقة، فنتناول دور الهداية في هذه العوالم الثلاثة.

ـ أمَّا الإنسان الصغير، فهو ذو جنبتين؛ أحدهما: البدن، والأخرى: الروح، ولكل

٢٦٧

منهما تكامل وارتفاع وصعود، كما أن لهما تسافلاً وهبوطاً وانحداراً.

ولندقِّق النظر في تكامل الروح؛ فإن اللَّه تعالى قد كرَّم بني آدم بالقوى العقلية والعملية المختلفة التي تضمن للإنسان أفضل السبل للصعود إلى الكمالات العالية. وعلى رأس القوى العملية والإدراكية يقف العقل ليقود هذه القوى، فإذا ما رضخت له القوى الأخرى تصاعد الإنسان في الكمالات، وإذا ما انقلبت الآية ولم يأخذ العقل موقعه المناسب تجد الإنسان في هبوط وانحدار.

والقوى العقلية على نحوين: العقل النظري والعقل العملي. الأول وظيفته الإدراك، والآخر؛ وهو العقل العملي، وظيفته الإدراك والعمل والتأثير على القوى المادون التي تتبعه في الحركة، فيكون أميراً لها وتكون أسيرة له، وفي اتباعه لا تكون ملجئة، بل يبقى للقوى الأخرى الاختيار في اتباع العقل العملي، فإذا ما تسلَّطت القوى المادون على قوة العقل العملي، تكون إمام ضلال وباطل. وقد ورد في حكمة لأمير المؤمنين‏ عليه‌السلام : (كم من عقل أسير تحت هوى أمير) (1) .

أمَّا إذا أذعنت لقوة العقل العملي، فإنه يصبح إمام هدى، فالعقل العملي هاد ومرشد لقوى الإنسان المختلفة، ووجود هذه القوة أمر لا بدَّ منه وإلاَّ لسعت كل قوة إلى ما يؤدي إلى تكاملها وأدى الصراع بين قوى الإنسان إلى فنائه؛ فيحتاج إلى ما يكون هادياً وموصلاً للكمال، وهو العقل العملي. زود هذا العقل بسلطة إخضاع القوى المادون مع احتفاظ النفس الإنسانية بالاختيار؛ والاختيار حيثية نفسانية توظِّفه النفس - التي هي غير القوى العملية والإدراكية - في يد القوى الفوقانية أو القوى المادون، ولو كان العقل العملي مُلجِئاً وسالباً للاختيار، لَمَا صدرت المعصية من أحد؛ لأنه موجود في كل إنسان.

____________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، 211.

٢٦٨

والعقل العملي يعتمد في فعله على الإدراكات الصحيحة التي تتم في العقل النظري والعملي، فهو يقود لأنه يمتلك العلم الذي لا تمتلكه بقية القوى، وهذا العلم هو الذي يعطيه الصلاحية لقيادة قوى الإنسان، ولو كان هذا العلم محتمِلاً للخطأ، لَمَا أصبحت لديه اللياقة لقيادة الإنسان وقواه، وقد بيَّنا في الفصل الأول مفصَّلاً مدركات العقل العملي والنظري وعلمه الحصولي والحضوري، والمهم هو الأخير؛ لأنه أعلى وأشرف من الأول، فالهداية الإيصالية للعقل العملي، وهو إمام هدى للقوى المادون، تتم بواسطة علم شريف أشرف من العلم الحصولي، وهو العلم الحضوري.

والعقل في نفسه مبرَّأ من الغرائز الشَّهوية والزلل، وليس العقل هو الذي يسبِّب الزلل والوقوع في الخطأ، بل هو بسبب سيطرة القوى المادون، وقد قرَّروا في محلِّه: أن إدراكات العقل في نفسها لا خطأ فيها إلاّ إذا تدخَّلت القوى الأخرى فيها؛ وهي الواهمة والمخيِّلة والقوى الشهوية والغضبية.

الخلاصة:

أ - أن قوى الإنسان تهتدي إلى الكمال بواسطة العقل العملي.

ب - أن العقل العملي يقوم بدور إمام هدى، وهذه الهداية إيصالية وليست مجرد إراءة وإلاّ لاكتفى بالعقل النظري؛ وهذا يدل على الحاجة الفطرية داخل الإنسان لوجود ما يقوده إلى الكمال.

ج - أن العقل العملي استحق هذا المقام بسبب العلم الذي لديه.

د - أن العلم الحصولي لدى العقل العملي يعتمد على أساس العلم الحضوري الذي لا خطأ فيه.

هـ - أن العقل واسطة لتنزل العلوم من العوالم الغيبية العلوية إلى العوالم المادون، ولا يمكن للقوى المادون (الغضبية والشهوية...) أن تتَّصل بتلك العوالم إلاّ

٢٦٩

بالعقل العملي؛ وذلك لضعف قابليتها.

و - ورد في الأثر أن للَّه حجتين ظاهرة وباطنة؛ أمَّا الظاهرة، فهو الرسول، وأما الباطنة، فهو العقل، وهذه الموازنة تعني أن مقام النبوة كما له دوره وموقعه في الإنسان المجموعي، فإن له موضع في الإنسان الصغير، وأن اللَّه عزَّ وجل قد أودع في الإنسان رسولاً باطناً وظيفته الهداية، وهي على وزان الهداية التي يقوم بها الرسول الظاهر، وهي الإراءة ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ) (1) فهي هداية إرائية وإنذار وبيان أين يكمن الطريق الصائب والصحيح، من دون أن تقوم بوظيفة الإيصال. نعم، قد يكون النبي إماماً فتجتمع لديه ولاية تشريعية وتكوينية كما في أولي العزم. والعقل المقصود به هنا هو العقل النظري، فتكون أوامره تشريعية يشخص الصواب من الخطأ، ولا تكون له سيطرة على بقية القوى، وهذه هي مهمة الرسول الباطن.

ز - أن الرسول الباطن وحي فطري إنبائي، والإمام الباطن وحي فطري ولوي.

أمَّا كونه وحْياً، فلأن العقل قوامه بالعلم، لكن العلم الذي في الوحي النظري غير عمّال، أي علم باطني غيبي. أمَّا في العقل العملي، فهو علم عمّال ومستند للعلم الحضوري، والعلم الإنبائي الذي في العقل النظري مستند أيضاً للعلم الحضوري إلاّ أن تكامل العقل النظري يكون فيما إذا وجد العقل العملي، وعندما نقول إن العلم فيه حيثية ولوية، فلا نقصد بذلك تعبيراً أدبياً، بل إشارة إلى عمّاليته ومحركيته وقدرته.

أمَّا سبب إطلاقنا عليه بالوحي (2) ؛ فلأن حقيقة الوحي هي الارتباط بالغيب، والإنسان لوجود حيثية التجرُّد فيه هو مفطور على الارتباط بعالم التجرد بواسطة

____________________

(1) الرعد: 7.

(2) نظير قوليه تعالى: ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي ) (النحل: 68) أي فطرها على ذلك.

٢٧٠

العقل، أي بتوسط نفسه، ومن هنا كان فطرياً، لا وحياً نبوياً تشريعياً جعلياً،ومن هنا نقول: إنه عندما يقال: انقطع الوحي، فإنما يعني الوحي التشريعي، لا انقطاع الوحي بمعناه الأعم الشامل لِمَا بيَّناه، أي مطلق الارتباط بعالم الغيب.

ح - في مراتب العلم الحضوري يذكرون أن مرتبة القلب من النفس بوابة الغيب والعوالم العلوية لكلا العقلين، والعقل العملي والنظري يأتمَّان به، وهو مصدر علومهما الحضورية.

ط - أن تصرف الإمام الباطن في القوى المادون، يكون بقدرة ملكوتية؛ ونعني بها القدرة التجرُّدية التي ليس فيها تدريج وتدرُّج، بل على نحو كن فيكون. وهذه القدرة لا تحتاج إلى شرائط عالم المادة، و لا شرائط في فعله وتأثيره؛ وإنما مجرد الإذعان يحرِّك النفس تحريكاً اختيارياً، فلو أن المحرِّك لم يختر التحريك، فلا يتحرك، وليس معنى (كن فيكون) الجبر.

وبيان أخر للملكوتي: أنه اصطلاح يطلق على القدرة النابعة من العلم محضاً، في مقابل القدرة التي تتوقَّف على العلم والآلة المادية، وتسمَّى القدرة المادية، وهذا أمر متفق ومبرهَن عليه في علوم المعارف العقلية والنقلية نذكره كأصل موضوعي. فالعلم الحصولي، وهو مرتبة ضعيفة من العلم، يحتاج إلى الآلة كما في قدراتنا المعتمدة على العلم الحصولي. أمَّا إذا كانت القدرة نابعة من العلم الحضوري، فإنها لا تحتاج إلى شرائط المادة؛ لشرافة و قوة العلم المعتمدة عليه.

فإمامة الإمام الباطن وعمّاليته بتوسط قدرة ملكوتية وهداية الامام الباطن بأمر ملكوتي، ويسمَّى أمر إلهي، والإلهي إشارة إلى عالم التجرد، وقد يطلق على عالم الملكوت بعالم الأمر فتسمَّى القدرة الأمرية.

فتبيَّن أن الإمام الباطن تكون له نحو إحاطة وقيمومة على من دونه، وهذه ليست كإحاطة واجب الوجود ببقية الممكنات، بل هي كإحاطة العلة بمعلولها،

٢٧١

ويُمثَّل لها بالصور الخيالية الحاصلة لدى النفس، فإن النفس تحيط بها إحاطة قيمومية، فظاهرها وباطنها وأصل وجودها مرهون بفعل النفس.

وفي الإنسان الصغير نرى أن نسبة العقل العملي والنظري لِمَا دونه من القوى هي إحاطة قيمومية؛ والوجه في ذلك أن النفس والقوى المادون لا تستطيع أن تُصدر فعلاً من الأفعال، سواء كان فعلاً إدراكياً أم عملياً، من دون توسيط العقل في البين، فهو يحيط بأعمال وأفعال القوى المادون، وأن الكمالات العملية تفاض عليها بتوسُّط العقل وبسبب كونه واسطة في الفيض، فهو يدرك كمالات المادون ولا يكون جسراً للعبور فقط.

وبناء على كل ما مضى نقول في تعريف الإمام الباطن في الإنسان الصغير: إنه يكون هادياً وموصلاً للنفس إلى كمالاتها بأمر ملكوتي.

ي - نقطة أخيرة نضيفها؛ أن التسلسل في تنزُّل الفيوضات يكون من القلب للعقل النظري الذي هو الرسول الباطن، ومن ثُم للعقل العملي الذي هو إمام باطن، وقد ذكرنا أن العلم الذي في الثاني أشرف من الأول، لكن إذا جمع الأول بين الرسالة والإمامة، فإنه ينال الشرف العالي، وقد ورد في كلمات أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام ‏عن الذين ابتعدوا عنه (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)، وهذا قريب ممَّا ذكرنا أن كمال العقل النظري هو بالعقل العملي، فالإمامة هي ثمرة النبوة؛ وذلك لأن مجرد العلم ومجرد التمييز بين الحسن والقبيح من دون ترجيحها إلى إعمال وإثارة القوى المادون لا يكون ذا أثر، والأثر الوحيد هو في الاستفادة من العلم الذي يتوصل إليه العقل النظري لوصول الإنسان إلى الكمال وتجنُّب الوقوع في المفاسد والقبائح، ومن هنا تكون الإمامة ثمرة النبوة، والرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حاز شرف النبوة والإمامة، وكما أنه إمام للخليقة فهو إمام للأئمة كما أن القلب إمام للعقل العملي الذي هو إمام لِمَا دونه من القوى.

٢٧٢

وبهذا البيان نستطيع استيعاب ما ورد في الأثر من أن المؤمن جماعة بمفرده في صلاته؛ حيث يكون أحد تفسيراته أن كل قواه تكون مسخَّرة لقوة العقل العملي وهو مسيطر عليها.

الإنسان المجموعي:

وهو مجموع المجتمع بما فيه من أركان؛ وهي الدولة والحكومة، فإنَّا نشاهد أنها تتألَّف من فقرات متعددة؛ منها: القوة التنفيذية، ومنها: القوة التشريعية، ومنها: القوة القضائية، كما أن كلاً من تلك القوى الثلاث تتشعَّب إلى أقسام.

والقوة التشريعية وظيفتها الهداية الإرائية، والقوة التنفيذية وظيفتها الهداية الإيصالية، والقوة القضائية وظيفتها كوظيفة الوجدان في الإنسان الصغير، وهي لتعديل الأشياء لكي لا تستعصي في قبول الهداية الإرائية الإيصالية والسير نحو التكامل وعدم التخلف عن ذلك، ويمكن المطابقة في التفاصيل الأخرى بين الإنسان المجموعي والإنسان الصغير؛ فمثلاً وزارة الجيش والدفاع توازي القوى الغضبية، ووزارة الرياضة والتربية البدنية أو السياحة ونحوها ممّا يغطِّي جانب اللهو واللعب توازي القوى الشهوية، وإلى غير ذلك من التطابق، إلاّ أن أهم ركن في الإنسان المجموعي هو ما يقوم بالهداية الإرائية والهداية الإيصالية إلى الكمالات المنشودة.

الإنسان الكبير:

ونقصد به عالم الخلقة وما يحويه من عوالم ونشآت في قوس النزول وقوس الصعود، وذلك لنتعرَّف على دور الإمامة وحقيقتها في هذا العالم الكبير، وهذا الانتقال طبقاً لمَا هو المسلَّم به في المعارف أن (مَن عرف نفسه فقد عرف ربه)؛ أي أن معرفة آيات اللَّه وأفعاله جلَّ وعلا يكون عن طريق معرفة الإنسان نفسه، وهذا يقتضي موازاة الإنسان الصغير للإنسان الكبير، وأن معرفة فعل اللَّه، وهو الخلقة، تكون

٢٧٣

  بمعرفة الإنسان الصغير.

ففي الإنسان الكبير أيضاً مراحل ومراتب من النفوس الكلية (بمعنى السعة والإحاطة) إلى العقول الكلية التي تدير تلك النفوس، ونحن في بحثنا نعتمد على قاعدة عقلية مؤدَّاها أن التعريف الماهوي للإمامة له مصداق في الإنسان الصغير؛ إي في ترتب قوى النفس الإنسانية، وبمقتضى التطابق مع الإنسان الكبير - عالم الخِلقة - نستكشف الأخير.

والمهم لدينا هو استكشاف موقع الإمامة في الإنسان الكبير، وأنها مرتبة تكوينية ومقام وجودي في ضمن المراتب الوجودية المختلفة، وهذا هو محل النزاع مع الآخرين والذي أردنا إثباته، فهم قد جعلوا محور البحث في الإنسان المجموعي، ونحن ننقل ذلك إلى الإنسان الكبير أيضاً.

ولا ندَّعي أنَّا قد توصَّلنا إلى معرفة كُنه وحقيقة الإمامة في هذا الموقع، بل تمكَّـنَّا من وضع تصور إجمالي يرفع الغموض واللبس وإن بقيت جوانب مجهولة، وهذا المقدار لا يمنع من ثبوت المعرفة وتحقُّقها.

ونبدأ بحديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد المعروف والمشهور حيث قال له: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: ما ترى بها؟ قال: الألوان والأشخاص، قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اشتم به الرائحة، قلت: فلك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوَّق به الطعم. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميِّز به كل ما ورد على هذه الجوارح، قلت: أليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني، الجوارح إذا شكَّت في شي‏ء شمَّته أو رأته أو ذاقته، ردته إلى القلب، فيتيقَّن اليقين ويبطل الشك، قلت: وإنما أقام اللَّه القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: فلا بد من القلب وإلاّ بمَ تستيقن الجوارح؟

٢٧٤

قال: نعم، قلت: يا أبا مروان، إن اللَّه لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يُصحِّح لها الصحيح ويتيقَّن لها ممَّا شكَّت فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافاتهم، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك (1).

فيلاحظ في هذه الرواية أن ما ذكره عمرو بن عبيد من التسالم على خضوع القوى المادون للقلب وأن هذا الخضوع ليس اعتباريا بل تكويني حقيقي.

الجهة الثالثة: التعريف النقلي

يلاحظ أن هذه الكلمة وردت في القران في موارد عدة هي: ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (2) ، ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (3) ، ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (4)، ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (5)، ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (6) .

والعلاّمة الطباطبائي يتعرَّض لتفسير مقام الإمامة الذي أُعطي لإبراهيم وأنه مغاير لمقام النبوة والرسالة، ويأتي بشواهد عدة:

1 - أن هذا المقام أُعطي لإبراهيم على كبره و بعد تولد ذرِّيَّته إسماعيل وإسحق، وقد كان قبلها نبيَّاً بلا شك؛ وذلك لأنه لو لم يكن لديه ذرية، لَمَا كان سؤاله اللَّه تعالى ( وَمِنْ ذُرِّيَتِي ) .

____________________

(1) رجال الكشي، ج2، ص259.

(2) البقرة 2: 24.

(3) السجدة 32: 34.

(4) الأنبياء 21: 73.

(5) الإسراء 17: 71.

(6) القصص 5: 28.

٢٧٥

2 - أنه لو كان المراد من الإمامة هنا النبوة، فلا معنى لأن يقال لنبي مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبياً أو مطاعاً فيما تبلغه من نبوتك، فهذا لا يتناسب مع كونه نبيا.

3 - أن القران كلَّما تعرَّض للإمامة تعرَّض معها للهداية ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) والهداية الجديدة التي حاز مرتبتها إبراهيم يجب أن تكون مخالفة للهداية السابقة التي كان حائزاً عليها عندما كان نبياً، ولا شك أن الهداية التي في النبوة هي هداية إراءة، فالهداية هنا هي هداية إيصال.

4 - أن لفظ الهداية قُيِّد بالأمر في آية السجدة، والذي يبيِّن حقيقة الأمر هو ما ورد في قوله تعالى ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) ، وقوله ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (2) ، فهذا الأمر هو أمر ملكوتي ليس فيه تدريج، بل يحصل دفعة واحدة بمجرد إرادته، بعيداً عن شرائط المادة والآلة، وهذا الملكوت قد حاز عليه إبراهيم كما ورد في ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (3) . إراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدمة لإفاضة اليقين عليه، وأهل اليقين لا يحجبهم عن ربهم حجاب قلبي من معصية أو جهل أو شك أو ريب، بل يكون لهم شهود حضوري على الأعمال؛ أي أعمال البشر.

فالإمام هادٍ، يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، والإمامة بحسب الباطن نحو ولاية على الناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر اللَّه دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول (4) .

____________________

(1) يس 36: 83.

(2) القمر 54: 50.

(3) الأنعام 6: 75.

(4) الميزان 1: 274.

٢٧٦

ولأن محور تعريف الإمام حول فهم الملكوت، فإنَّا نستكشف رأي العلاّمة في ذلك. إن هناك آيات عدِّة تتعرَّض للملكوت؛ وهي يس(83)، الأنعام(75)، الملك(3)، المائدة(120)، القمر(50)، آل عمران(26).

ففي سورة الملك: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَي‏ءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ... ) . فالآية تشير إلى أن الذي بيده الملك هو بيده القدرة؛ وعلَّله بـ: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ ) أي كل عالم الخلقة، فالملك بيد اللَّه لأن إيجاد الخلق بيد اللَّه، فكون وجود الأشياء منه وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالى هو المِلاك في تحقق مُلْكِه الذي لا يشاركه فيه غيره، ولا يزول عنه إلى غيره ولا يقبل نقلاً ولا تفويضا. وهذا هو الذي يفسِّر الملكوت في قوله تعالى ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (1) فالملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى اللَّه سبحانه وتعالى؛ أي جنبة الإيجاد والقيومية والهيمنة والإحاطة.

فالمخلوق يكون ذا جهتين؛ فإذا لحظناه بما هو في نفسه، فإنك تلحظه من جهة المخلوقية، أمَّا إذا لحظته بما هو دال على خالقه، فتكون جنبة ملكوتية. ومن هنا كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية، فإراءة إبراهيم ملكوت السماوات والأرض هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استنادها ووجودها إليه (2) .

ـ ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ) (3) ، فالملك هنا يشمل الحقيقي والاعتباري، بل قد يقال بالأول فقط، وهو قد يعطيه مَن

____________________

(1) يس 83.

(2) الميزان 7: 170 - 172.

(3) آل عمران: 6.

٢٧٧

يشاء من عباده؛ وليس فيه معنى تعطيل نفسه عن الملك وحصر لقدرته حتى تكون يده مغلولة والعياذ باللَّه، وإنما هو إقدار في عين أنه قادر.

إذن فالإمامة هي الهداية الإيصالية الملكوتية النابعة من العلم والقدرة، والإمام هو رابطة تكوينية بين الخالق والمخلوق، فهو يشهد الإعمال ( كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ، فالمقرَّبون لهم نوع من العلم الحضوري. ويضيف العلاّمة أنه يوجد في سورة الأنبياء قيد آخر ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ) . فمتعلق الوحي جاء خال من (إن)، وقد حُرِّر في البلاغة أن إضافة العامل إلى معموله إن كانت بـ (أن والفعل)، فإنه يفيد الاستقبال، وأنه أمر تشريعي؛ مثل ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ ) . أمَّا إذا أضيف إلى ما يضاف الفعل لمعموله من دون توسُّط (أن) بين أوحينا إليهم وبين فعل الخيرات، فهذا يدل على تحقُّقه فعلاً على نحو ما ورد في آية التطهير ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) ؛ فإن الفعل لم يُسبق بأن، وهو دال على وقوع التطهير فعلاً، ففعلهم نابع من الوحي والتسديد الإلهي، وهو معنى العصمة؛ أي لا يحتاج إلى هداية غيره.

ـ وقوله تعالى ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) .

يذهب العلاّمة إلى أن المراد من الإمام هنا هو إمام الهدى؛ إذ أن الآية تدل على أن لكل زمان إمام، ولا يخلو أناس في عصر من العصور من إمام، فيكون المراد من الإمام هنا هو إمام الهدى. نعم، الروايات دالة على وجود إمامين هدى وضلال، واستظهار العلاّمة وإن خالف ظاهرها، لكن لا مخالفة حقيقية عند التدبُّر في الروايات؛ وذلك لأن الروايات المفسِّرة للقران على نحوين:

أحدهما: أنها تقوم بمعالجة ظاهر القران الكريم بحيث تُبيِّن المراد من الآية

____________________

(1) المطَـفِّفِين: 20.

٢٧٨

وترشد إلى النكات الأدبية والبلاغية في الآية، و هذه لا مجال لاستظهار غير المعنى الذي تشير إليه، بل يجب الأخذ بها، وأمثلتها كثيرة؛ منها: في تفسير آية الوضوء ( إِلَى الْمَرَافِقِ ) ، فإنه ليس المراد بيان انتهاء عملية الغسل، بل لتحديد المقدار المغسول، ويذكر الإمام شواهد على ذلك، ومنها قوله ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ) ، فليس المراد هو التخيير بين القصر والتمام، بل المراد هو الإلزام، فمثل هذه الروايات يجب الأخذ بها في تعيين الظهور.

والقسم الآخر: الروايات التي تقوم ببيان باطن القرآن، وهذه الروايات لا تنفي حجية الظاهر، بل يبقى على حجيته، فهي لا تحصر معنى الآية فيما تذكر، والشاهد على ذلك ورود روايات متعددة في تفسير الآية الواحدة، فهذه كلها غير متناقضة؛ إذ أنها تشير إلى أسرار الآيات التي لا يصل إليها غير المعصوم. وهذا بحث حرَّره الأصوليُّون.

نعود إلى الآية الكريمة؛ فعلى فرض كون المراد من الإمام هو إمام الضلال أيضاً، لا الإمام الذي اجتباه اللَّه، فإن إمام الهدى هو من البشر، وقد عرَّفته آيات أخرى من أن هدايته تكون بأمر ملكوتي، خلاف إمام الضلال الذي لم تعرِّفه الآيات بهذا السنخ، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا المعنى في فقه الآيات.

وقد ذهب البعض إلى أن المراد من الإمام هو الكتاب التشريعي كالتوراة والإنجيل والقرآن، وهذا غير صحيح؛ لأن المراد من ( كُلَّ أُنَاسٍ ) أنه يعم كل الناس من الأولين والآخرين، وليس مختصاً بفئة معينة. ويلاحظ أن القرآن إذا أراد تخصيص فئة معينة من الناس لها هدف معين، فإنه يعبِّر عنهم بالأمة، وعدم استخدامه لهذا اللفظ هنا يدل على إرادته كل الناس في مختلف الأزمنة.

ونعود إلى إمام الهدى والضلال؛ فإن إمام الهدى هو الذي تكون هدايته بأمر ملكوتي، بخلاف إمام الضلال الذي تكون هيمنته على مستوى الشيطنة، وهذه

٢٧٩

الهيمنة يوازيها في الإنسان الصغير التخيُّل والتوهم، إي العقل المقيَّد. وفي رواية في ذيل سورة القدر: (أنه ليس من يوم ولا ليلة إلاّ وجميع الجن والشياطين يزورون أئمة الضلال وتزور إمام الهدى عددهم من الملائكة).

فكما في الإنسان الصغير يظل أئمة الضلال من الواهمة والمتخيَّلة والغضبية والشهوية لا تستطيع أن ترتفع إلى مستوى التجرد العقلي كذالك الحال مع أئمة الضلال في الإنسان الكبير إبليس وأشياعه وأتباعه.

ويستعين العلاَّمة في توضيح الهداية المخبؤة في الإمام بقوله تعالى: ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى ) (1) ، فإن الآية تجعل المقارنة بين هاديَين إلى الحق (والهادي إلى الضلال خارج عن هذه المقارنة)؛ أحدهما: يهدي إلى الحق من نفسه، والآخر: يحتاج إلى هداية الغير من أجل أن تهتدي نفسه، ثُم يقوم بهداية غيره.

إن قلت: إن الذي يهدي من نفسه، ولا يحتاج إلى هداية الغير، هو اللَّه سبحانه وتعالى كما ذكرته الآية في الشقِّ الأول، والذي يحتاج إلى هداية الغير هم الأنبياء والرسل والأئمة المهتدون بهداية اللَّه سبحانه.

قلت: إن لازم ذلك أن يبعث اللَّه للناس نحو هداية نفسه مباشرة، لا الهداية التي في الرسل والأنبياء؛ لأنهم يهتدون بغيرهم. وبتعبير آخر: لازم ذلك أن ينهانا عن اتباع الرسل والأنبياء في حين لا توجد لدينا قناة لاستلام الهداية إلاّ من الرسل، فيحصل تنافي في مدلول الآية الشريفة، وهداية اللَّه لا يدَّعيها أحد من دون توسُّط الرسل والأنبياء، فبالتأكيد هذا المعنى خاطئ. والصواب أن الآية دالة على أن الهادي الذي يُتبع هو المعصوم الذي علمه لَدُني، لا من الأغيار البشرية وإن كانت

____________________

(1) يونس: 35.

٢٨٠