الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137438 / تحميل: 8178
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

باللَّه سبحانه وتعالى ذي القدرة المطلقة اللامحدودة، متعسِّر وممتنع، فيجب توسيط وسائط تُعدُّ أرباباً وآلهة صغيرة تكون وسيلة وواسطة.

أمَّا الجواب:

أولاً: إن طبيعة الاقتداء تقتضي أن يكون هناك فارق بين المقتدي والمقتدى، فإذا كان المقتدى مساوياً للمقتدي، فإن الإقتداء يكون ممتنعا؛ إذ لا توجد مزيَّة للمقتدى حتى يُقتدى به، فالسعي والحركة والانبعاث الذي يحصل للمقتدي إنما هو من أجل تحصيل أمور وكمالات هو فاقد لها، لكنَّها متوفِّرة وحاصلة في المقتدى، إذن يجب أن يكون المقتدى غير مساوٍ للمقتدي.

ثانياً: كما أن الحاصل لا يسعى الإنسان إلى تحصيله، كما أن الممتنع أيضاً لا يسعى الانسان إلى تحصيله، فإن من الواجب أن يكون المقتدى له مرتبة بين هذين الأمرين. وفي نفس الوقت يجب أن يكون هذا الاقتداء ملازماً للإنسان في كل مسيرته؛ بمعنى أن المقتدى يجب أن يكون متفوِّقاً دائماً على المقتدي، وإلاّ لو فقد هذا التفوق، لتوقف الاقتداء في فترة من فترات حياة الإنسان؛ وذلك فيما إذا نال كل كمالات المقتدى، وحينئذٍ لا يكون هناك سعي ولا يكون هناك هدف يحرك هذا الانسان، فيجب أن يكون هناك باعث ومحرك دائمي للإنسان وللإنسانية قاطبة، وفي نفس الوقت لا تكون كل درجات كمالات المقتدى ممتنعة، كي يمكن السعي والتحصيل.

وهذا هو معنى الحالة الوسطية بين الأمرين؛ أي لا كمالاته كلها ممتنعة ولا كل كمالاته بكل درجاتها حاصلة، فيسعى الانسان لتحصيل تلك الكمالات فقد يصل بجهده إلى تحصيل بعضها وقد لا يستطيع (ألا إنكم لا تستطيعون على ذلك فأعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد).

فتحصيل كل كمالات المقتدى أمر مستحيل؛ غير ممكن. أمَّا تحصيل بعض

٢٦١

درجات كمالاته، فهو أمر مرجو ممكن الحصول عليه، فلماذا لا يصح الاقتداء؟ ولماذا لا يمكن السعي نحوها؟!

وقد يقال: ما الحاجة إلى الإمام من أجل الإقتداء به إذا لم يكن من الممكن الحصول على كل كمالاته؟ فليقتدى مباشرة بالكمال المطلق اللامحدود وهو الذات المقدسة؟

وجوابه: أن الإمام هو الآية العظمى، وفي الحديث (ما للَّه أية أكبر مني) وآيته في الصفات الخلقية، فالسعي إلى اللَّه غير متناه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن رحمة اللَّه بعباده أن جعل لهم إماماً يقتدون به يماثلهم في البشرية ومتخلِّقاً بأخلاق اللَّه عزَّ وجل، وهذا هو لطف اللَّه بعباده؛ لأن المقتدى أيضا هو في حالة سير وحركة من أجل تحصيل الكمال اللامتناهي، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

ونعود إلى محل الكلام، فإن هذه الحالة الوسطية هي التي تدفع الإنسان - دائماً - نحو الحركة والعمل كما هو الحال في الخوف والرجاء؛ فلا هو حصر في حالة الخوف فقط؛ لأنه يأس من رحمة اللَّه، واليأس عدم اعتقاد برحمته تعالى، فهو كفر، والرجاء المطلق كفر أيضاً؛ لأنه عدم اعتقاد بعقاب اللَّه.

فالإمام ليست صفاته كلها قابلة للمنال، ولو كانت كذلك، لَمَا كان الانسان متحرِّكاً نحوها بحركة مستمرة دائمة لا تقف عند حد، ولا هي حاصلة للإنسان حتى لا يكون هناك دافع نحو السير والسعي الحثيث. وسوف نشير في بحث الفقه العقلي للإمامة إلى أن الوسيلة الصحيحة للتوحيد هي الإمامة.

ثالثاً: ذكرنا أن كمالات الإنسان تشمل جنبتيه البدنية المادية و الروحية المعنوية، وكمالات الجنبة الأخيرة على قسمين؛ القسم الأول: ما له ارتباط بالبدن كالشجاعة، فهي كمال روحي، إلاّ أن له ارتباطاً بالبدن. والقسم الآخر: كمالات روحية لا ارتباط لها بالبدن، بل ترتبط بعوالم الغيب و الآخرة والعوالم المجردة.

٢٦٢

وكمالات هذا الجانب أشرف من الجوانب الأخرى، والاقتداء المؤدي للكمال لا بد أن يشمل جميع جوانب النفس الإنسانية، ومن هنا نحتاج في المقتدى أن تكون له جوانب غيبية وكمالات مرتبطة بعالم الغيب.

رابعاً: إن دراسة طبيعة حركة الانسان ترشدنا إلى أن جوارحه تنطلق في حركتها من الجوانح، والأخيرة تتحرك طبقاً للإذعان والإيمان والاعتقاد الذي يلتزم به الانسان، فهذه الهيكلية في صدور تصرفات الانسان هي الأساس، وهذا يعني أن أساس تحرك الانسان هو معارفه الاعتقادية. والاعتقاد يشمل جميع الجوانب الغيبية وغيرها، فلا يمكن أن نتمسك بقسم معين من المعارف ونثبته ونغض الطرف عن القسم الآخر؛ لأن العقائد شأن مجموعي تبتني عليه عمل الجوانح التي هي المحرك للجوارح، فإذا اختل الأساس، اختل ما عليه من البناء.

خامساً: نحن نسائل المستشكِل الذي لا ينفي الغيبيات في المقتدى، بل يحصرها في إثبات المعجزة للرسالة والنبوة والإمامة، نقول: لماذا في هذا الجانب نُثبت الأمر الغيبي؟

والجواب: أن هذا هو الكاشف عن اتصال هذا الشخص بالغيب، وأنه مبعوث وسفير من قبل اللَّه سبحانه وتعالى، فالمعجزة هي المثبِتة للاتصال والسفارة الإلهية، وأن هذا الاتصال غير موجود في بقية أفراد البشر. ونحن نقول: إن هذا الاتصال الغيبي هو المقام الغيبي نفسه؛ بمعنى أن هذا الاتصال يكشف أن لهذا الشخص درجة وجودية معينة، وهذه الخصوصية مَنّ اللَّه تعالى بها عليه، وهي التي مكنته من الإتيان بالمعجزة حتى يثبت لبني البشر أنه سفير من قبل اللَّه تعالى.

وممَّا لا شك فيه أن تصحيح محل النزاع بما ذكرنا سوف يهيّء لنا الأرضية والذهنية المطلوبة للتعامل مع الأدلة العقلية والنصوص الشرعية، حيث إن طائفة كبيرة سوف تدخل في ضمن نطاق التحليل والاستنطاق، بخلاف ما إذا كان

٢٦٣

المطلوب هو إثبات الزعامة الدنيوية، فإنه سوف يتم إسقاط عدد كبير من الأدلة بحجة أنها تبحث عن ما هو خارج عن محل النزاع.

ولا يخفى أن الخوض في مثل هذه المباحث يحتاج إلى أهلية عقلية، وإلمام تام بالمباحث الفقهية والتفسيرية والكلامية والفلسفية والعرفانية، مضافاً إلى ما يمكن استفادته من علمي النفس والاجتماع الحديثين.

٢٦٤

المبحث الأول:

تعريف الإمامة

الجهة الأولى: التحليل اللُّغوي

إنَّا لا نهدف من بحثنا استعراض المعنى اللغوي الذي يسطره اللغويون في كتبهم، بل مرادنا هو الوصول إلى ماهية وحقيقة الإمامة، وبتعبير اصطلاحي: رفع الستار عن ما الشارحة وما الحقيقية. وإذا ما استعرضنا كلمات اللُّغويين، فما ذلك إلاَّ توطئة للوصول إلى التعريف الماهوي واستخلاص المعاني العقلية التي تنطوي عليها اللفظة.

ومن خلال ما يذكره اللغويون يمكن ذكر بعض الملاحظات التالية:

١ - أن اصطلاحات الإمام والأمة والمأموم كلها تعود إلى جذر لغوي واحد هو أمّ يؤم.

٢ - أن المراد من يؤمُّه أمّ إذا قصده، والأمّ هو القصد المستقيم والتوجُّه نحو المقصود (١) ففي هذا الأصل الاشتقاقي جنبة السير والسلوك.

٣ - أن المراد من الأمة هي الجماعة الذين يكون لهم مقصد واحد.

٤ - أن الإمام هو كل مَن ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، وعلى هذا يكون معنى إمام بمعنى المقتدى اسم مفعول، ويكون المأموم اسم فاعل

____________________

(١) المفردات، مادة أمَّ.

٢٦٥

أي الذي يقتدي بغيره. وأمَّا إذا كانت بمعنى الهداية، فسوف يكون الإمام بمعنى الهادي، وهو اسم

فاعل، والمأموم المهتدى، فهو اسم مفعول.

فيلاحظ أن المعنى اللغوي يستطبن معنى الاقتداء والهداية.

من خلال تلك النقاط نرى أنه في جميع اشتقاقات (أمّ)، يتضمن قصد وسلوك غاية وهدف معين مع إضافات أخرى في كل اشتقاق؛ فإذا كانت الأمة، فإنها تُطلق على الجماعة البشرية التي لها مقصد واحد، فهي بالضرورة تتبع إماماً لها يقتدي به الناس ويأخذ بيدهم نحو ذلك المقصد وتلك الغاية؛ ومن هنا ورد التعبير في القران ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (١) ، ولذا لم يُطْلِق لفظ الأمة على كل المجتمع البشري، بل أطلقه بحسب الحقب الزمانية.

ويمكننا القول أن الإمامة في اللغة تساوق الهداية، والهداية كما يذكر اللغويون لها معنيان؛ أحدهما: مجرد إراءة الطريق المستقيم، والآخر: هو الإيصال إلى المطلوب، والثاني يستلزم الأول؛ وذلك لأنه لو قلنا أنها بمعنى الأخذ بيد المأموم وإيصاله إلى المطلوب والغاية المرادة، فهي لا تقتصر على مجرد الإراءة، بل تتعداها إلى الإيصال.

ونقول: إن المراد من الهداية هنا هو الثاني؛ وذلك لأن الأمة، وهي الجماعة التي لها مقصد واحد، تسير نحو هذا المقصد وتتبع الإمام من أجل الوصول إلى تلك الغاية، ووجود الإمام و السير يقتضيان أن يكون المراد من الهداية هو الإيصال، وأن الإمام لا يقتصر على مجرد إراءة الطريق الصحيح، بل يتبع ذلك بالأخذ بيد الأمة من أجل إيصالهم إلى الغاية القصوى. نعم، تلك الهداية والإيصال ليس إيصالاً جبرياً، بل إيصال اختياري.

____________________

(١) الإسراء: ٧١.

٢٦٦

الجهة الثانية: التحليل العقلي

إنَّا إذا قمنا بتحليل أعمق لماهية الإمامة وكيفية أخذ الإمام بيد الأمة لتحقيق الغاية القصوى، فإنه يجب أن تكون هناك طاعة ومتابعة وانقياد من قبل المأموم للإمام، مع المحافظة في نفس الوقت على الاختيار والإرادة التي للمأموم، وهذا يعني وجود نوع من السلطة والولاية من قبل الإمام على المأموم مع المحافظة على اختياره؛ وهو أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

فالإمامة متقوِّمة بطرفين: الإمام والمأموم، وفي كل طرف منهما يكون لها معنى؛ ففي الأول له التسلُّط والولاية، وفي الثاني له الاختيار؛ بمعنى أن الإمام لا يُلجأ المأموم على التصرف المعين، ولا يقوم بتسخيره أو قهره، بل يجب أن يقوم المأموم بذلك طواعية واختيارا، ونستطيع تشبيه ذلك بالانجذاب الحاصل بين المحب ومحبوبه وسيطرة الأخير على الأول لا بنحو يقهره ويسلبه، وهذا لا ينافي اختياره.

ومن هنا نستطيع القول أن الإمامة ليست علة تامة للهداية، بل هي مقتضٍ لحصولها إذا ارتفع المانع، وهو إرادة نفس المأموم واختياره؛ إذ بيده أن يتبع هداية الأمام حتى يوصله إلى الغاية، وأن يسلِّم له القيادة، وله أن لا يستجيب له، فلا تؤثِّر عليه هداية الإمام.

فالتحليل الماهوي للإمامة يقوم على حيثيات؛ حيثية الاقتداء، وحيثية الهداية الإيصالية، وحيثية السير السلوك والحركة، وحيثية الولاية والسلطة والجذب.

وإذا أردنا أن نتلمس بنحو أفضل، فما علينا إلّا التأمل في هذه الأمثلة الثلاثة والموازنة بينها: الإنسان الصغير، وهو ذلك المخلوق الذي كرَّمه اللَّه تعالى بالعقل، والإنسان المجموعي، وهو المجتمع البشري، والإنسان الكبير، وهو عالم الخلقة، فنتناول دور الهداية في هذه العوالم الثلاثة.

ـ أمَّا الإنسان الصغير، فهو ذو جنبتين؛ أحدهما: البدن، والأخرى: الروح، ولكل

٢٦٧

منهما تكامل وارتفاع وصعود، كما أن لهما تسافلاً وهبوطاً وانحداراً.

ولندقِّق النظر في تكامل الروح؛ فإن اللَّه تعالى قد كرَّم بني آدم بالقوى العقلية والعملية المختلفة التي تضمن للإنسان أفضل السبل للصعود إلى الكمالات العالية. وعلى رأس القوى العملية والإدراكية يقف العقل ليقود هذه القوى، فإذا ما رضخت له القوى الأخرى تصاعد الإنسان في الكمالات، وإذا ما انقلبت الآية ولم يأخذ العقل موقعه المناسب تجد الإنسان في هبوط وانحدار.

والقوى العقلية على نحوين: العقل النظري والعقل العملي. الأول وظيفته الإدراك، والآخر؛ وهو العقل العملي، وظيفته الإدراك والعمل والتأثير على القوى المادون التي تتبعه في الحركة، فيكون أميراً لها وتكون أسيرة له، وفي اتباعه لا تكون ملجئة، بل يبقى للقوى الأخرى الاختيار في اتباع العقل العملي، فإذا ما تسلَّطت القوى المادون على قوة العقل العملي، تكون إمام ضلال وباطل. وقد ورد في حكمة لأمير المؤمنين‏ عليه‌السلام : (كم من عقل أسير تحت هوى أمير) (١) .

أمَّا إذا أذعنت لقوة العقل العملي، فإنه يصبح إمام هدى، فالعقل العملي هاد ومرشد لقوى الإنسان المختلفة، ووجود هذه القوة أمر لا بدَّ منه وإلاَّ لسعت كل قوة إلى ما يؤدي إلى تكاملها وأدى الصراع بين قوى الإنسان إلى فنائه؛ فيحتاج إلى ما يكون هادياً وموصلاً للكمال، وهو العقل العملي. زود هذا العقل بسلطة إخضاع القوى المادون مع احتفاظ النفس الإنسانية بالاختيار؛ والاختيار حيثية نفسانية توظِّفه النفس - التي هي غير القوى العملية والإدراكية - في يد القوى الفوقانية أو القوى المادون، ولو كان العقل العملي مُلجِئاً وسالباً للاختيار، لَمَا صدرت المعصية من أحد؛ لأنه موجود في كل إنسان.

____________________

(١) نهج البلاغة، الكلمات القصار، ٢١١.

٢٦٨

والعقل العملي يعتمد في فعله على الإدراكات الصحيحة التي تتم في العقل النظري والعملي، فهو يقود لأنه يمتلك العلم الذي لا تمتلكه بقية القوى، وهذا العلم هو الذي يعطيه الصلاحية لقيادة قوى الإنسان، ولو كان هذا العلم محتمِلاً للخطأ، لَمَا أصبحت لديه اللياقة لقيادة الإنسان وقواه، وقد بيَّنا في الفصل الأول مفصَّلاً مدركات العقل العملي والنظري وعلمه الحصولي والحضوري، والمهم هو الأخير؛ لأنه أعلى وأشرف من الأول، فالهداية الإيصالية للعقل العملي، وهو إمام هدى للقوى المادون، تتم بواسطة علم شريف أشرف من العلم الحصولي، وهو العلم الحضوري.

والعقل في نفسه مبرَّأ من الغرائز الشَّهوية والزلل، وليس العقل هو الذي يسبِّب الزلل والوقوع في الخطأ، بل هو بسبب سيطرة القوى المادون، وقد قرَّروا في محلِّه: أن إدراكات العقل في نفسها لا خطأ فيها إلاّ إذا تدخَّلت القوى الأخرى فيها؛ وهي الواهمة والمخيِّلة والقوى الشهوية والغضبية.

الخلاصة:

أ - أن قوى الإنسان تهتدي إلى الكمال بواسطة العقل العملي.

ب - أن العقل العملي يقوم بدور إمام هدى، وهذه الهداية إيصالية وليست مجرد إراءة وإلاّ لاكتفى بالعقل النظري؛ وهذا يدل على الحاجة الفطرية داخل الإنسان لوجود ما يقوده إلى الكمال.

ج - أن العقل العملي استحق هذا المقام بسبب العلم الذي لديه.

د - أن العلم الحصولي لدى العقل العملي يعتمد على أساس العلم الحضوري الذي لا خطأ فيه.

هـ - أن العقل واسطة لتنزل العلوم من العوالم الغيبية العلوية إلى العوالم المادون، ولا يمكن للقوى المادون (الغضبية والشهوية...) أن تتَّصل بتلك العوالم إلاّ

٢٦٩

بالعقل العملي؛ وذلك لضعف قابليتها.

و - ورد في الأثر أن للَّه حجتين ظاهرة وباطنة؛ أمَّا الظاهرة، فهو الرسول، وأما الباطنة، فهو العقل، وهذه الموازنة تعني أن مقام النبوة كما له دوره وموقعه في الإنسان المجموعي، فإن له موضع في الإنسان الصغير، وأن اللَّه عزَّ وجل قد أودع في الإنسان رسولاً باطناً وظيفته الهداية، وهي على وزان الهداية التي يقوم بها الرسول الظاهر، وهي الإراءة ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ) (١) فهي هداية إرائية وإنذار وبيان أين يكمن الطريق الصائب والصحيح، من دون أن تقوم بوظيفة الإيصال. نعم، قد يكون النبي إماماً فتجتمع لديه ولاية تشريعية وتكوينية كما في أولي العزم. والعقل المقصود به هنا هو العقل النظري، فتكون أوامره تشريعية يشخص الصواب من الخطأ، ولا تكون له سيطرة على بقية القوى، وهذه هي مهمة الرسول الباطن.

ز - أن الرسول الباطن وحي فطري إنبائي، والإمام الباطن وحي فطري ولوي.

أمَّا كونه وحْياً، فلأن العقل قوامه بالعلم، لكن العلم الذي في الوحي النظري غير عمّال، أي علم باطني غيبي. أمَّا في العقل العملي، فهو علم عمّال ومستند للعلم الحضوري، والعلم الإنبائي الذي في العقل النظري مستند أيضاً للعلم الحضوري إلاّ أن تكامل العقل النظري يكون فيما إذا وجد العقل العملي، وعندما نقول إن العلم فيه حيثية ولوية، فلا نقصد بذلك تعبيراً أدبياً، بل إشارة إلى عمّاليته ومحركيته وقدرته.

أمَّا سبب إطلاقنا عليه بالوحي (٢) ؛ فلأن حقيقة الوحي هي الارتباط بالغيب، والإنسان لوجود حيثية التجرُّد فيه هو مفطور على الارتباط بعالم التجرد بواسطة

____________________

(١) الرعد: ٧.

(٢) نظير قوليه تعالى: ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي ) (النحل: ٦٨) أي فطرها على ذلك.

٢٧٠

العقل، أي بتوسط نفسه، ومن هنا كان فطرياً، لا وحياً نبوياً تشريعياً جعلياً،ومن هنا نقول: إنه عندما يقال: انقطع الوحي، فإنما يعني الوحي التشريعي، لا انقطاع الوحي بمعناه الأعم الشامل لِمَا بيَّناه، أي مطلق الارتباط بعالم الغيب.

ح - في مراتب العلم الحضوري يذكرون أن مرتبة القلب من النفس بوابة الغيب والعوالم العلوية لكلا العقلين، والعقل العملي والنظري يأتمَّان به، وهو مصدر علومهما الحضورية.

ط - أن تصرف الإمام الباطن في القوى المادون، يكون بقدرة ملكوتية؛ ونعني بها القدرة التجرُّدية التي ليس فيها تدريج وتدرُّج، بل على نحو كن فيكون. وهذه القدرة لا تحتاج إلى شرائط عالم المادة، و لا شرائط في فعله وتأثيره؛ وإنما مجرد الإذعان يحرِّك النفس تحريكاً اختيارياً، فلو أن المحرِّك لم يختر التحريك، فلا يتحرك، وليس معنى (كن فيكون) الجبر.

وبيان أخر للملكوتي: أنه اصطلاح يطلق على القدرة النابعة من العلم محضاً، في مقابل القدرة التي تتوقَّف على العلم والآلة المادية، وتسمَّى القدرة المادية، وهذا أمر متفق ومبرهَن عليه في علوم المعارف العقلية والنقلية نذكره كأصل موضوعي. فالعلم الحصولي، وهو مرتبة ضعيفة من العلم، يحتاج إلى الآلة كما في قدراتنا المعتمدة على العلم الحصولي. أمَّا إذا كانت القدرة نابعة من العلم الحضوري، فإنها لا تحتاج إلى شرائط المادة؛ لشرافة و قوة العلم المعتمدة عليه.

فإمامة الإمام الباطن وعمّاليته بتوسط قدرة ملكوتية وهداية الامام الباطن بأمر ملكوتي، ويسمَّى أمر إلهي، والإلهي إشارة إلى عالم التجرد، وقد يطلق على عالم الملكوت بعالم الأمر فتسمَّى القدرة الأمرية.

فتبيَّن أن الإمام الباطن تكون له نحو إحاطة وقيمومة على من دونه، وهذه ليست كإحاطة واجب الوجود ببقية الممكنات، بل هي كإحاطة العلة بمعلولها،

٢٧١

ويُمثَّل لها بالصور الخيالية الحاصلة لدى النفس، فإن النفس تحيط بها إحاطة قيمومية، فظاهرها وباطنها وأصل وجودها مرهون بفعل النفس.

وفي الإنسان الصغير نرى أن نسبة العقل العملي والنظري لِمَا دونه من القوى هي إحاطة قيمومية؛ والوجه في ذلك أن النفس والقوى المادون لا تستطيع أن تُصدر فعلاً من الأفعال، سواء كان فعلاً إدراكياً أم عملياً، من دون توسيط العقل في البين، فهو يحيط بأعمال وأفعال القوى المادون، وأن الكمالات العملية تفاض عليها بتوسُّط العقل وبسبب كونه واسطة في الفيض، فهو يدرك كمالات المادون ولا يكون جسراً للعبور فقط.

وبناء على كل ما مضى نقول في تعريف الإمام الباطن في الإنسان الصغير: إنه يكون هادياً وموصلاً للنفس إلى كمالاتها بأمر ملكوتي.

ي - نقطة أخيرة نضيفها؛ أن التسلسل في تنزُّل الفيوضات يكون من القلب للعقل النظري الذي هو الرسول الباطن، ومن ثُم للعقل العملي الذي هو إمام باطن، وقد ذكرنا أن العلم الذي في الثاني أشرف من الأول، لكن إذا جمع الأول بين الرسالة والإمامة، فإنه ينال الشرف العالي، وقد ورد في كلمات أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام ‏عن الذين ابتعدوا عنه (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة)، وهذا قريب ممَّا ذكرنا أن كمال العقل النظري هو بالعقل العملي، فالإمامة هي ثمرة النبوة؛ وذلك لأن مجرد العلم ومجرد التمييز بين الحسن والقبيح من دون ترجيحها إلى إعمال وإثارة القوى المادون لا يكون ذا أثر، والأثر الوحيد هو في الاستفادة من العلم الذي يتوصل إليه العقل النظري لوصول الإنسان إلى الكمال وتجنُّب الوقوع في المفاسد والقبائح، ومن هنا تكون الإمامة ثمرة النبوة، والرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حاز شرف النبوة والإمامة، وكما أنه إمام للخليقة فهو إمام للأئمة كما أن القلب إمام للعقل العملي الذي هو إمام لِمَا دونه من القوى.

٢٧٢

وبهذا البيان نستطيع استيعاب ما ورد في الأثر من أن المؤمن جماعة بمفرده في صلاته؛ حيث يكون أحد تفسيراته أن كل قواه تكون مسخَّرة لقوة العقل العملي وهو مسيطر عليها.

الإنسان المجموعي:

وهو مجموع المجتمع بما فيه من أركان؛ وهي الدولة والحكومة، فإنَّا نشاهد أنها تتألَّف من فقرات متعددة؛ منها: القوة التنفيذية، ومنها: القوة التشريعية، ومنها: القوة القضائية، كما أن كلاً من تلك القوى الثلاث تتشعَّب إلى أقسام.

والقوة التشريعية وظيفتها الهداية الإرائية، والقوة التنفيذية وظيفتها الهداية الإيصالية، والقوة القضائية وظيفتها كوظيفة الوجدان في الإنسان الصغير، وهي لتعديل الأشياء لكي لا تستعصي في قبول الهداية الإرائية الإيصالية والسير نحو التكامل وعدم التخلف عن ذلك، ويمكن المطابقة في التفاصيل الأخرى بين الإنسان المجموعي والإنسان الصغير؛ فمثلاً وزارة الجيش والدفاع توازي القوى الغضبية، ووزارة الرياضة والتربية البدنية أو السياحة ونحوها ممّا يغطِّي جانب اللهو واللعب توازي القوى الشهوية، وإلى غير ذلك من التطابق، إلاّ أن أهم ركن في الإنسان المجموعي هو ما يقوم بالهداية الإرائية والهداية الإيصالية إلى الكمالات المنشودة.

الإنسان الكبير:

ونقصد به عالم الخلقة وما يحويه من عوالم ونشآت في قوس النزول وقوس الصعود، وذلك لنتعرَّف على دور الإمامة وحقيقتها في هذا العالم الكبير، وهذا الانتقال طبقاً لمَا هو المسلَّم به في المعارف أن (مَن عرف نفسه فقد عرف ربه)؛ أي أن معرفة آيات اللَّه وأفعاله جلَّ وعلا يكون عن طريق معرفة الإنسان نفسه، وهذا يقتضي موازاة الإنسان الصغير للإنسان الكبير، وأن معرفة فعل اللَّه، وهو الخلقة، تكون

٢٧٣

  بمعرفة الإنسان الصغير.

ففي الإنسان الكبير أيضاً مراحل ومراتب من النفوس الكلية (بمعنى السعة والإحاطة) إلى العقول الكلية التي تدير تلك النفوس، ونحن في بحثنا نعتمد على قاعدة عقلية مؤدَّاها أن التعريف الماهوي للإمامة له مصداق في الإنسان الصغير؛ إي في ترتب قوى النفس الإنسانية، وبمقتضى التطابق مع الإنسان الكبير - عالم الخِلقة - نستكشف الأخير.

والمهم لدينا هو استكشاف موقع الإمامة في الإنسان الكبير، وأنها مرتبة تكوينية ومقام وجودي في ضمن المراتب الوجودية المختلفة، وهذا هو محل النزاع مع الآخرين والذي أردنا إثباته، فهم قد جعلوا محور البحث في الإنسان المجموعي، ونحن ننقل ذلك إلى الإنسان الكبير أيضاً.

ولا ندَّعي أنَّا قد توصَّلنا إلى معرفة كُنه وحقيقة الإمامة في هذا الموقع، بل تمكَّـنَّا من وضع تصور إجمالي يرفع الغموض واللبس وإن بقيت جوانب مجهولة، وهذا المقدار لا يمنع من ثبوت المعرفة وتحقُّقها.

ونبدأ بحديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد المعروف والمشهور حيث قال له: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: ما ترى بها؟ قال: الألوان والأشخاص، قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اشتم به الرائحة، قلت: فلك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوَّق به الطعم. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميِّز به كل ما ورد على هذه الجوارح، قلت: أليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني، الجوارح إذا شكَّت في شي‏ء شمَّته أو رأته أو ذاقته، ردته إلى القلب، فيتيقَّن اليقين ويبطل الشك، قلت: وإنما أقام اللَّه القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: فلا بد من القلب وإلاّ بمَ تستيقن الجوارح؟

٢٧٤

قال: نعم، قلت: يا أبا مروان، إن اللَّه لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يُصحِّح لها الصحيح ويتيقَّن لها ممَّا شكَّت فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافاتهم، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك (١).

فيلاحظ في هذه الرواية أن ما ذكره عمرو بن عبيد من التسالم على خضوع القوى المادون للقلب وأن هذا الخضوع ليس اعتباريا بل تكويني حقيقي.

الجهة الثالثة: التعريف النقلي

يلاحظ أن هذه الكلمة وردت في القران في موارد عدة هي: ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) (٢) ، ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٣) ، ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (٤)، ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (٥)، ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٦) .

والعلاّمة الطباطبائي يتعرَّض لتفسير مقام الإمامة الذي أُعطي لإبراهيم وأنه مغاير لمقام النبوة والرسالة، ويأتي بشواهد عدة:

١ - أن هذا المقام أُعطي لإبراهيم على كبره و بعد تولد ذرِّيَّته إسماعيل وإسحق، وقد كان قبلها نبيَّاً بلا شك؛ وذلك لأنه لو لم يكن لديه ذرية، لَمَا كان سؤاله اللَّه تعالى ( وَمِنْ ذُرِّيَتِي ) .

____________________

(١) رجال الكشي، ج٢، ص٢٥٩.

(٢) البقرة ٢: ٢٤.

(٣) السجدة ٣٢: ٣٤.

(٤) الأنبياء ٢١: ٧٣.

(٥) الإسراء ١٧: ٧١.

(٦) القصص ٥: ٢٨.

٢٧٥

٢ - أنه لو كان المراد من الإمامة هنا النبوة، فلا معنى لأن يقال لنبي مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبياً أو مطاعاً فيما تبلغه من نبوتك، فهذا لا يتناسب مع كونه نبيا.

٣ - أن القران كلَّما تعرَّض للإمامة تعرَّض معها للهداية ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) والهداية الجديدة التي حاز مرتبتها إبراهيم يجب أن تكون مخالفة للهداية السابقة التي كان حائزاً عليها عندما كان نبياً، ولا شك أن الهداية التي في النبوة هي هداية إراءة، فالهداية هنا هي هداية إيصال.

٤ - أن لفظ الهداية قُيِّد بالأمر في آية السجدة، والذي يبيِّن حقيقة الأمر هو ما ورد في قوله تعالى ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) ، وقوله ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (٢) ، فهذا الأمر هو أمر ملكوتي ليس فيه تدريج، بل يحصل دفعة واحدة بمجرد إرادته، بعيداً عن شرائط المادة والآلة، وهذا الملكوت قد حاز عليه إبراهيم كما ورد في ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٣) . إراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدمة لإفاضة اليقين عليه، وأهل اليقين لا يحجبهم عن ربهم حجاب قلبي من معصية أو جهل أو شك أو ريب، بل يكون لهم شهود حضوري على الأعمال؛ أي أعمال البشر.

فالإمام هادٍ، يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، والإمامة بحسب الباطن نحو ولاية على الناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر اللَّه دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول (٤) .

____________________

(١) يس ٣٦: ٨٣.

(٢) القمر ٥٤: ٥٠.

(٣) الأنعام ٦: ٧٥.

(٤) الميزان ١: ٢٧٤.

٢٧٦

ولأن محور تعريف الإمام حول فهم الملكوت، فإنَّا نستكشف رأي العلاّمة في ذلك. إن هناك آيات عدِّة تتعرَّض للملكوت؛ وهي يس(٨٣)، الأنعام(٧٥)، الملك(٣)، المائدة(١٢٠)، القمر(٥٠)، آل عمران(٢٦).

ففي سورة الملك: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَي‏ءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ... ) . فالآية تشير إلى أن الذي بيده الملك هو بيده القدرة؛ وعلَّله بـ: ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ ) أي كل عالم الخلقة، فالملك بيد اللَّه لأن إيجاد الخلق بيد اللَّه، فكون وجود الأشياء منه وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالى هو المِلاك في تحقق مُلْكِه الذي لا يشاركه فيه غيره، ولا يزول عنه إلى غيره ولا يقبل نقلاً ولا تفويضا. وهذا هو الذي يفسِّر الملكوت في قوله تعالى ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (١) فالملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى اللَّه سبحانه وتعالى؛ أي جنبة الإيجاد والقيومية والهيمنة والإحاطة.

فالمخلوق يكون ذا جهتين؛ فإذا لحظناه بما هو في نفسه، فإنك تلحظه من جهة المخلوقية، أمَّا إذا لحظته بما هو دال على خالقه، فتكون جنبة ملكوتية. ومن هنا كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية، فإراءة إبراهيم ملكوت السماوات والأرض هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استنادها ووجودها إليه (٢) .

ـ ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ) (٣) ، فالملك هنا يشمل الحقيقي والاعتباري، بل قد يقال بالأول فقط، وهو قد يعطيه مَن

____________________

(١) يس ٨٣.

(٢) الميزان ٧: ١٧٠ - ١٧٢.

(٣) آل عمران: ٦.

٢٧٧

يشاء من عباده؛ وليس فيه معنى تعطيل نفسه عن الملك وحصر لقدرته حتى تكون يده مغلولة والعياذ باللَّه، وإنما هو إقدار في عين أنه قادر.

إذن فالإمامة هي الهداية الإيصالية الملكوتية النابعة من العلم والقدرة، والإمام هو رابطة تكوينية بين الخالق والمخلوق، فهو يشهد الإعمال ( كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (١) ، فالمقرَّبون لهم نوع من العلم الحضوري. ويضيف العلاّمة أنه يوجد في سورة الأنبياء قيد آخر ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ) . فمتعلق الوحي جاء خال من (إن)، وقد حُرِّر في البلاغة أن إضافة العامل إلى معموله إن كانت بـ (أن والفعل)، فإنه يفيد الاستقبال، وأنه أمر تشريعي؛ مثل ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ ) . أمَّا إذا أضيف إلى ما يضاف الفعل لمعموله من دون توسُّط (أن) بين أوحينا إليهم وبين فعل الخيرات، فهذا يدل على تحقُّقه فعلاً على نحو ما ورد في آية التطهير ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) ؛ فإن الفعل لم يُسبق بأن، وهو دال على وقوع التطهير فعلاً، ففعلهم نابع من الوحي والتسديد الإلهي، وهو معنى العصمة؛ أي لا يحتاج إلى هداية غيره.

ـ وقوله تعالى ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) .

يذهب العلاّمة إلى أن المراد من الإمام هنا هو إمام الهدى؛ إذ أن الآية تدل على أن لكل زمان إمام، ولا يخلو أناس في عصر من العصور من إمام، فيكون المراد من الإمام هنا هو إمام الهدى. نعم، الروايات دالة على وجود إمامين هدى وضلال، واستظهار العلاّمة وإن خالف ظاهرها، لكن لا مخالفة حقيقية عند التدبُّر في الروايات؛ وذلك لأن الروايات المفسِّرة للقران على نحوين:

أحدهما: أنها تقوم بمعالجة ظاهر القران الكريم بحيث تُبيِّن المراد من الآية

____________________

(١) المطَـفِّفِين: ٢٠.

٢٧٨

وترشد إلى النكات الأدبية والبلاغية في الآية، و هذه لا مجال لاستظهار غير المعنى الذي تشير إليه، بل يجب الأخذ بها، وأمثلتها كثيرة؛ منها: في تفسير آية الوضوء ( إِلَى الْمَرَافِقِ ) ، فإنه ليس المراد بيان انتهاء عملية الغسل، بل لتحديد المقدار المغسول، ويذكر الإمام شواهد على ذلك، ومنها قوله ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ) ، فليس المراد هو التخيير بين القصر والتمام، بل المراد هو الإلزام، فمثل هذه الروايات يجب الأخذ بها في تعيين الظهور.

والقسم الآخر: الروايات التي تقوم ببيان باطن القرآن، وهذه الروايات لا تنفي حجية الظاهر، بل يبقى على حجيته، فهي لا تحصر معنى الآية فيما تذكر، والشاهد على ذلك ورود روايات متعددة في تفسير الآية الواحدة، فهذه كلها غير متناقضة؛ إذ أنها تشير إلى أسرار الآيات التي لا يصل إليها غير المعصوم. وهذا بحث حرَّره الأصوليُّون.

نعود إلى الآية الكريمة؛ فعلى فرض كون المراد من الإمام هو إمام الضلال أيضاً، لا الإمام الذي اجتباه اللَّه، فإن إمام الهدى هو من البشر، وقد عرَّفته آيات أخرى من أن هدايته تكون بأمر ملكوتي، خلاف إمام الضلال الذي لم تعرِّفه الآيات بهذا السنخ، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا المعنى في فقه الآيات.

وقد ذهب البعض إلى أن المراد من الإمام هو الكتاب التشريعي كالتوراة والإنجيل والقرآن، وهذا غير صحيح؛ لأن المراد من ( كُلَّ أُنَاسٍ ) أنه يعم كل الناس من الأولين والآخرين، وليس مختصاً بفئة معينة. ويلاحظ أن القرآن إذا أراد تخصيص فئة معينة من الناس لها هدف معين، فإنه يعبِّر عنهم بالأمة، وعدم استخدامه لهذا اللفظ هنا يدل على إرادته كل الناس في مختلف الأزمنة.

ونعود إلى إمام الهدى والضلال؛ فإن إمام الهدى هو الذي تكون هدايته بأمر ملكوتي، بخلاف إمام الضلال الذي تكون هيمنته على مستوى الشيطنة، وهذه

٢٧٩

الهيمنة يوازيها في الإنسان الصغير التخيُّل والتوهم، إي العقل المقيَّد. وفي رواية في ذيل سورة القدر: (أنه ليس من يوم ولا ليلة إلاّ وجميع الجن والشياطين يزورون أئمة الضلال وتزور إمام الهدى عددهم من الملائكة).

فكما في الإنسان الصغير يظل أئمة الضلال من الواهمة والمتخيَّلة والغضبية والشهوية لا تستطيع أن ترتفع إلى مستوى التجرد العقلي كذالك الحال مع أئمة الضلال في الإنسان الكبير إبليس وأشياعه وأتباعه.

ويستعين العلاَّمة في توضيح الهداية المخبؤة في الإمام بقوله تعالى: ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى ) (١) ، فإن الآية تجعل المقارنة بين هاديَين إلى الحق (والهادي إلى الضلال خارج عن هذه المقارنة)؛ أحدهما: يهدي إلى الحق من نفسه، والآخر: يحتاج إلى هداية الغير من أجل أن تهتدي نفسه، ثُم يقوم بهداية غيره.

إن قلت: إن الذي يهدي من نفسه، ولا يحتاج إلى هداية الغير، هو اللَّه سبحانه وتعالى كما ذكرته الآية في الشقِّ الأول، والذي يحتاج إلى هداية الغير هم الأنبياء والرسل والأئمة المهتدون بهداية اللَّه سبحانه.

قلت: إن لازم ذلك أن يبعث اللَّه للناس نحو هداية نفسه مباشرة، لا الهداية التي في الرسل والأنبياء؛ لأنهم يهتدون بغيرهم. وبتعبير آخر: لازم ذلك أن ينهانا عن اتباع الرسل والأنبياء في حين لا توجد لدينا قناة لاستلام الهداية إلاّ من الرسل، فيحصل تنافي في مدلول الآية الشريفة، وهداية اللَّه لا يدَّعيها أحد من دون توسُّط الرسل والأنبياء، فبالتأكيد هذا المعنى خاطئ. والصواب أن الآية دالة على أن الهادي الذي يُتبع هو المعصوم الذي علمه لَدُني، لا من الأغيار البشرية وإن كانت

____________________

(١) يونس: ٣٥.

٢٨٠

في خط الهداية، ومَن يهدي بهداية غيره لا يكون مأموناً من الخطأ والزلل، فلا يكون هاديا.

وذلك المعصوم هو الذي يكون هادياً للحق على نحو الدوام. أمَّا الشخص الآخر الذي لا يهتدي إلى الحق إلاّ بهداية غيره، فإذا لم يوجد ذلك الغير، فهو يهدي إلى الباطل والضلال. وهداية اللَّه لهؤلاء المعصومين تكون بأحد الطرق الثلاثة ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) (1) .

وينقل العلاّمة دليلاً عقلياً على وجوب العصمة؛ وهو تفسير الإمامة بأنه يهدي ( بِأَمْرِنَا ) ، وأن الهداية إيصالية كما مرَّ ذكره سابقاً، فلابد أن مَن يكون لديه القدرة على تلك الهداية أن يكون مهتدياً بنفسه، بل تدل الآية على أن الفيوضات الكمالية العملية على النفوس وانتقال النفوس في سيرها التكاملي من موقف لآخر إنما يتم عبر الإمام؛ وذلك لأنه يهدي ( بِأَمْرِنَا ) ؛ إي بالأمر الملكوتي، وهو (كن فيكون). فالفيوضات تكون بواسطة رابطة الإمامة. أمَّا رابطة النبوة، فهي من أجل هداية الخلق في الإراءة فقط، وهي الجهة التشريعية.

فتحصَّل ممَّا تقدم:

1 - ضرورة كون الإمام معصوما.

2 - أن يكون موجوداً في كل زمان.

3 - أنه يفوق غيره في الفضائل النفسية، سواء المعاشية أم الأخروية.

4 - أن الإمامة باقية في عقب إبراهيم؛ وهذا يستفاد من نفس سؤاله للَّه تعالى في سورة البقرة، واستجابته تعالى لذلك، وما ورد في سورة الإنعام من الآية 90 - 82: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ... وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا

____________________

(1) الشورى: 51.

٢٨١

وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ... ) حيث الخطاب في الآية لذرِّية إبراهيم واصطفاء اللَّه لهم وهدايتهم، ثُم يقول عزَّ مَن قائل: ( فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) ؛ فالمراد من ( بِهَا ) الإمامة، وهذا يدل على تأبيدها واستمرارها، وأن الخطاب ما زال لإبراهيم وذرِّيته فهم الموكَلون بهداية البشرية.

ويطرح العلاّمة إشكالاَ ويجيب عنه. أمَّا الإشكال، فهو أن الآية تدل على أن مَن يكون نبياً فهو مهتديا، فهذا يدل على أن كل نبي إمام. ويجيب عنه: أنه ممّا لا شك فيه أن النبي يكون مهتديا، لكن ليست لدينا قاعدة أن كل مهتدي فهو هاد هداية إيصالية. نعم، ما دلَّت عليه آية ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ... ) هو أن على الهادي إلى الحق أن يكون مهتديا، فالتلازم من طرف واحد لا من طرفين.

ويضيف العلاّمة في آية سورة الزخرف 28: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ *إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أن اللَّه عزَّ وجل جعل الهداية باقية في عقبه.

نعم، يبقى إثبات أن المراد من الهداية في ( سَيَهْدِينِ ) ؛ حيث إنه كان نبياً ويدعو قومه، فيجب أن تكون تلك الهداية غير ما هو حاصل عنده، وما ذلك إلاّ الهداية الإيصالية والأمرية المجعولة باقية في عقبه.

ويخلص العلاّمة إلى أنه يتضح من آية البقرة سبع مسائل هي أمهات مسائل الإمامة:

1 - أن الإمامة مجعولة.

2 - أن الإمام يجب أن يكون معصوماً بعصمة إلهية.

3 - أن الأرض لا تخلو من إمام حق.

4 - أن الإمام يجب أن يكوم مؤيَّداً من عند اللَّه.

5 - أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

٢٨٢

6 - أنه يجب أن يكون عالماً بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معادهم وحياتهم.

7 - أنه يستحيل أن يوجد مَن يفوقه في فضائل النفس.

وفي كتاب (المقالات التأسيسية) يذكر العلاّمة تعريفاً أوسع للإمامة: أن الإمام هو السائق للنفوس البشرية إلى لقاء اللَّه وإلى المعاد؛ حيث يسوق أعمالهم ونفوسهم إلى اللَّه تعالى، فبه معادهم وحشرهم ونشرهم؛ حيث تشير الروايات المستفيضة إلى ورود الإمام في كافة منازل الآخرة، وقد أشار القرآن إلى ذلك ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فهذه الآية تثبت للرسول - الذي هو حي في عالم الدنيا - بأنه يشهد الأعمال، وهي من سنخ ملكوتي، والمؤمنون هم المعصومون يشهدون الأعمال بمقتضى ( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

ونضيف على ما ذكره العلاّمة: أن رابطة الإمام والرسول بما هو إمام لا تقتصر على عالم الدنيا وما بعده، بل حتى ما قبل عالم الدنيا، حيث بعثه في عالم الذرِّ إلى الآخرين وبقية العوالم السابقة على نشأة الدنيا، وأن الهداية الإرائية مفروضة أيضاً في الإمامة لتقدُّمها على الإيصالية وإن كانت هي في الإمام في طول الهداية الإرائية للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو ما يُعبَّر عنه بالحافظ والمبين للدين عند المتكلمين، وأن الإمامة في المجتمع - الإنسان المجموعي - هي الزعامة السياسية أيضاً مفروضة في حدّ الإمامة.

٢٨٣

٢٨٤

المبحث الثاني:

الأدلة العقلية على ماهية الإمامة الإلهية

وقبل الدخول في البحث، نذكر مقدمة تنفع في المقام:

من المسائل المهمة التي دار البحث عنها في الأمم السابقة هي مسألة اتصال الأرض بالسماء، وهل أن اللَّه بعد أن خلق الخلق تركهم أم استمر اتصاله بهم؟ واتخذت هذه المسألة أشكالاً متعددة؛ ففي عهد اليهود شاعت مقولة ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) بمعنى أن اللَّه عزَّ وجلَّ ترك عالم الخلق يسير كما يشاؤن، ولا يتدخَّل في سيرهم ولا يعيق إرادتهم.

وفي عهد مشركي الجزيرة العربية قالوا بضرورة توسيط آلهة صغار ليتم الاتصال مع الذات المقدَّسة اللامحدودة.

وفي العهد الإسلامي ظهرت مقولة العامة من انقطاع الاتصال بين الأرض والسماء بعد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه لا يمكن أن تتنزل مشيئة إلهية جزئية في الموارد الخاصة، وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق. إن دعوى العامة وإن لم تكن في انقطاع التشريع الإلهي، لكنَّها في انقطاع الإرادة التكوينية المرتبطة بالناموس البشري؛ فتكون هذه العقيدة قريبة المضمون من ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) .

والقران الكريم عالج كل تلك المقولات؛ فبالنسبة لعقيدة اليهود أجابهم بصراحة: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) وأن الإرادة الإلهية لم ينقطع اتصالها

٢٨٥

بالمخلوقين.

كما أن القران قد عالج مشكلة المشركين حيث خطّأهم في نقطتين:

1 - في اعتقادهم أن الرابطة مع الغيب يجب أن تكون ذاتاً مستقلة صغيرة(إله صغير).

2 - في اختراعهم لتلك الوسيلة والواسطة من عند أنفسهم دون اللَّه تعالى.

وفي نفس الوقت يؤكِّد القران الكريم على عدم انقطاع الاتصال بالغيب المطلق، وأن هناك وسيلة للاتصال بالعوالم العلوية، وهي في حقيقتها محكومة للَّه عزَّ وجل، ولا تكون معبودة، بل العبودية المطلقة للَّه عزَّ وجل.

فهذه الصيغ الثلاث تتضمن نفس المحتوى؛ وهو انقطاع الوحي عن الأرض وعدم الاتصال مع السماء. وأمَّا استمرار الاتصال، فهو عين التوحيد؛ وذلك لأن التوحيد الخالص هو توحيد الذات والصفات والأفعال، بل حتى التوحيد في التشريع حيث لا يكون للإنسان حق التشريع والتقنين، بل اللَّه وحده له هذا الحق الذي بيّنه عن طريق الأنبياء والأئمة.

وأيضاً هناك التوحيد في الولاية؛ أي نتبع اللَّه عزَّ وجل فيمَن نتولَّاه ونستهديه للوصول إلى الكمالات العالية، وهذا هو معنى الإمامة؛ فنفي الإمامة يكون شركاً ونفياً للتوحيد في الطاعة.

ويمكن لنا أن نضم إلى هذه الصيغ الثلاث صيغة رابعة نادى بها أصحاب المدرسة المادية الحديثة التي تدعي أن عالم المادة تحكمه المعادلات المادية والقوانين الخاصة بها؛ حيث إنهم يجعلون مصدر الخلقة والإيجاد هو المادة، ثُم يختلفون في تفسير هذه المادة؛ فيجعل البعض أن المقصود منها: الطاقة والقدرة، ولأجل الأقلمة مع أساس العقيدة يجعلون المادة شاعرة عالمة.

ولكنَّنا - في مقابل الصياغات المتقدمة - نقول: إن ارتباط مراتب الوجود مع

٢٨٦

الذات المقدسة موجود، ودائم غير منقطع حتى في عالم الإنسان الصغير، وهذا الارتباط اختياري لا إجباري، وقد بُرهن عليه في محله.

الدليل الأول: ضرورة الارتباط بالغيب

وخلاصته:

أنه لابد من ارتباط غيب الغيوب، وهو الذات المقدَّسة، بالعوالم النازلة وبالأخص عالم الإنسان الصغير وإراداته وهدايته الإرائية والإيصالية، وهذا التنزُّل - بلا شك - يجب أن يكون عبر قناة وجودية خَلْقية وإلاَّ لاقتضت وجود طفرة، ولابد لهذه القناة من أن تتَّصف بصفتين؛ أحدهما: الارتباط بالغيب، والأخرى: الارتباط بالعالم النازل. وتفصيل ذلك من خلال النقاط التالية:

* أننا أثبتنا فيما سبق وجوب الارتباط وعدم انقطاع الاتصال بين الأرض والسماء.

* أن الاتصال إمَّا أن يكون من خلال ارتباط الذات المقدسة بكل فرد فرد وبكل نفس بشرية، وهذا يعني أن تكون كل النفوس أنبياء ورسل وأئمة، وهذا وإن أمكن ثبوتاً وليس بممتنع على الحق تعالى، لكنَّه على خلاف نظام الخلقة؛ إذ أنه قائم على أن لا يكون الكل كذلك.

* أن الاتصال حينئذٍ يكون عبر أفراد، ولا يخلو أمرهم أن يكونوا إمَّا بشراً أو ملائكة؛ أي أننا اشترطنا أن يكون فيهم جنبة بشرية؛ وذلك لِمَا ذكرنا سابقاً من أن عدم وجود الجنبة البشرية مطلقاً يفقد خيرية الاقتداء والأسوة إذا أنه لا يحقق البعث والتحريك نحو الكمال فهو بشر يراه الناس كأنفسهم‏ن، لكنَّها نفس تعالت عن مزالق الشهوات إلى مراتب الكمال فأصبحت تهدي بأمر ملكوتي، فهو نموذج بشري توفَّرت فيه صفات الكمال. وفي هذا جواب على ما ذكره بعض العرفاء أو

٢٨٧

الصوفية من أن المرتاض في سير وسلوك وارتباط بالأرواح الكلِّية و العوالم العلوية. أمَّا في عالم الشهادة، فإنه يخطئ في تطبيق تلك الروح المرتبطة بعلي‏ عليه‌السلام فيجعل لها مصداقا من آخرين كزيد وعمرو... فهو في حقيقة أمره مرتبط ومذعن بالعوالم النورية، مثل ما قد ينسب إلى بعض عرفاء العامة فيرى أنه وصل في سيره وسلوكه إلى الحقائق العلوية، ولكنَّه أخطأ في التطبيق في هذه النشأة.

وقد ذكرنا أن هذا الارتباط غير نافع أيضاً؛ وذلك لأن الحقيقة الإنسانية هي أشرف صور المخلوقات الإلهية ومنها يبدأ السير التكاملي والاتصال بالغيب، فيجب أن لا يكون دونها كمالاً، وهذا - مع ما ذكرناه سابقاً - يقتضي أن يكون الهادي والرابط بين الأرض والسماء له جنبة بشرية.

* نعم، يبقى الجواب عن إشكال قد يطرأ على ذهن البعض؛ وهو أن الاتصال بالغيب يكفي فيه النبوة فما الحاجة للائمة، وبتعبير آخر: ما الحاجة إلى الهداية الإيصالية مع وجود الهداية الإرائية؟

وفي مقام الجواب نشير إلى أن الروايات قد استفاضت أو تواترت على أن للأئمة جنبة تشريعية للأحكام، لا بمعنى الإتيان بأصل الشريعة، بل هي هداية تشريعية متمِّمة للنبوة والرسالة. وبيان ذلك من خلال مقدمات:

ـ من المبادئ الأساسية التي تحكم التشريعات والتقنينات على مدى العصور هو مبدأ تدرج القوانين؛ وهو يعني أن القانون يبدأ من قواعد كلية وعمومات فوقانية، ثُم تتدرج إلى قوانين متوسطة حتى تصل إلى القوانين الجزئية التي تُطبَّق على الظواهر الفردية والاجتماعية، وهذا النحو هو الحاكم على التقنينات الوضعية؛ فترى الدستور، ثُم القوانين الصادرة من المجالس النيابية، ثُم القوانين الصادرة من السلطة التنفيذية. وقد أشرنا في بحوث الأصول إلى تماثل الاعتبار الشرعي مع الاعتبار الوضعي على أساس اتحاد لغة التقنين والتشريع.

٢٨٨

ـ أن تنزل القوانين العامة والقواعد الكلية إلى المصاديق يحتاج إلى مراقبة؛ وذلك لمنع حصول الاختلاط والتدافع والتصادم في التطبيق.

ـ أن السنة الجارية في عالم الخلقة هي محدودية أعمار الأنبياء والرسل، ولذا فهم يكتفون بذكر الكليات والقوانين العامة ولا يستوفون تنزيلها وتطبيقها على كل الدرجات و الموارد الجزئية؛ إذ أن محدودية أعمارهم تمنع من مراقبة كل الدرجات و الجزئيات الحاصلة بعد حياتهم الشريفة.

ـ أن سلامة الشريعة وصوابية التقنين تقتضي استمرار المراقبة في تطبيق تلك القواعد العامة والقوانين الكلية، خصوصاً في القواعد الإلهية التي ترعى المصالح والمفاسد الواقعية التي تخفى على الأذهان العادية، فلابد من استمرار بيان المتوسطات والتطبيقات، خصوصاً إذا قلنا: إن الأحكام الشرعية هي إرادات إلهية صادرة من جانب الذات المقدسة في الوقائع الجزئية والفردية والمجموعية.

ـ أن البشر العادي المنقطع عن الغيب ليس له أن يتوصَّل إلى بيان مؤدى النقطة السابقة؛ وذلك لاحتياجها إلى عصمة علمية.

والنتيجة: أنه لا بد من وجود فرد له عصمة علمية مضافاً إلى العصمة العملية والكمالات النفسانية العالية، وهذا الفرد الذي يكمل مسيرة الأنبياء التشريعية هو الإمام.

ولا يخفى على كل ذي لبٍّ ما نشاهده في حياتنا العملية من حال التشريعات الوضعية والمراقبة المستمرة على كيفية تطبيق التشريعات الدستورية وعدم مضادتها لها، ومع ذلك توجد موارد عديدة للنقض والخطأ، وبين كل فترة وأخرى تحصل الاستدراكات والملاحق لغرض تفادي الأخطاء والنقص. وفي القانون الإلهي وإن كان لا يقاس بالقانون الوضعي البشري إلاّ أنه لا بد من وجود المعصوم عصمة علمية يقوم ببيان تلك المتوسطات؛ وبذلك يؤمَن عن الوقوع في الخطأ

٢٨٩

والزلل في التطبيق أو التنزيل المسمَّى في اصطلاح الوحي بـ: التأويل. ومجرد احتواء الكتاب على تلك التشريعات العامة لا يدفع الخطأ في مجال التنزيل أو التفريع؛ فكم نرى في عملية الاجتهاد أثناء استنباط الأحكام الشرعية من أخطاء وغفلات؟! (1)

وبهذا يندفع الإشكال من أنه لا حاجة إلى افتراض العصمة العلمية بواسطة وجود كتاب يروونه عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيعتبرون لكونهم رواة عدولاً، ولا حاجة إلى العصمة حينئذ.

ووجه الاندفاع: أنه مهما بلغت درجته العلمية فإنه لا يؤمَن من الوقوع في الخطأ في بيان القوانين المتوسطة وتطبيقها على الجزئيات، فلا بد من الاتصال بالغيب.

وبناء على ما مضى يتبين ضرورة إبراز جنبة الهداية الإرائية في الأئمة مضافاً إلى الهداية الإيصالية، وعدم الاكتفاء بالأخيرة فقط كما ذهب إليه السيد العلاّمة في الميزان.

* وقد يثار إشكال آخر: أنه ما المانع من عدم وجود أئمة معصومين عملاً، فكل ما نحتاجه هو عصمة نسبية عملية كالعدالة، وعصمة نسبية علمية كالفقاهة، فنكتفي بهما عن العصمة الشاملة بمعنى المقام الغيبي والملكوتي؟

ويوجد في المقام جوابان:

الأول: أن هذا الإشكال قد حصل فيه تغافل عما ذكرناه في بداية البحث من أن الأنبياء والرسل، وبمقتضى محدودية أعمارهم البشرية، لا يوضحوا كل شي‏ء ولا يبيِّنوا كل القوانين الجزئية والمتوسطات، فمن أين للفقيه أن يعلم بقية المتوسطات مع عدم كونه متَّصلاً بالغيب؛ إذ المتوسطات ليست مجرد تطبيقات للكليات، بل هي

____________________

(1) حتى عرف مسلك فقهاء الإمامية بمسلك التخطئة دون التصويب.

٢٩٠

نوع من الإنشاء التشريعي من نفس المشرع الأول. وبتعبير آخر: أن الأنبياء نحو إراءتهم كانت إراءة

إجمالية، فلابد من الإراءة التفصيلية واستمرارها عن طريق الأئمة بأن تكون متصلة بالغيب معصومة من الوقوع في الخطأ.

الثاني: أن بيان الإمام وفهمه للحكم الشرعي لا يكون كفهم الفقيه، بل هو بيان بعلم الغيب والتسديد الإلهي المصيب للحق دوماً. فإراءة الإمام للأحكام الشرعية ليست شريعة جديدة، بل بيان لتلك الشريعة الإجمالية الكلية المتنزلة عبر القناة الغيبية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن نلاحظ في مقام الإمامة والنبوة نقاط التقاء وافتراق، وأفضلية جانب على آخر؛ فكلاهما حلقة اتصال بالغيب، وكلاهما حجة اللَّه على الخلق وسفارة إلهية إلاّ أن وظيفة كل منهما تختلف عن الآخر؛ فالنبوة فضيلة في نفسها والإمامة فضيلة في نفسها، ورأينا في تفسير آية البقرة كيفية استحقاق إبراهيم للإمامة، وأنه كان عبر تلك الابتلاءات المختلفة والشديدة.

فالنبوة لها فضل والإمامة تفصيل لتشريع النبوة، ويبقى للإمامة الهداية الإيصالية بخلاف النبوة التي تقتصر على الهداية الإرائية، وبعض الأنبياء هم أئمة أيضاً. أمَّا الأئمة، فليسوا بأنبياء، وتفضيل بعضهم على بعض ثابت بالنصوص القرآنية والروائية، وقد تبيَّن أيضاً كيف أن النبوة لا تقوم مقام الإمامة وأنها تكتمل بها.

وهاهنا تساؤل آخر؛ وحاصله: لماذا لا يُكتفى بالإمامة عن النبوة؛ فإنها جامعة للهداية الإيصالية والإرائية؟!

والجواب عن ذلك:

1 - أن المفروض أن الهداية الإيصالية ليست إلجائية، بل اختيارية.

2 - أن المكلَّف في اختياره لأي سيرة في حياته يجب أن يكون طبقاً لعلم؛ لكي يؤمِّن جانب الاختيار والكمال في المسير الإنساني. فلابد أن يكون الانسان على

٢٩١

علم بالطريق والغاية والهدف من هذا المسير، وهذا الجانب العلمي لا يؤمَّن إلاّ بالهداية الإرائية، فعلمه وانتقاؤه طبقاً لهداية النبي هو قوام الاختيار.

وبعد حصول ذلك العلم لدى المكلَّف يأتي دور الهداية الإيصالية والتسبُّب الملكوتي الذي يرى أن أرضية المكلَّف مخيَّرة ومهيَّأة لتقبُّل الكمال، ويستطيع المكلف الاختيار ويتبع إمام الهدى ويفضِّله على اتباع إمام الضلال.

فتظهر أهمية العلم بالشريعة الذي يبينه النبي، ثُم يأتي دور الإمام بعد أن يختاره المكلف، فتكون هدايته اختيارية لا إلجاء فيها ولا جبر، وخصوصاً أن السير التكاملي لا يؤدي هدفه إلاّ اختيارياً، وإذا كان جبرياً، فلا كمال فيه.

وعليه فمِن تمام عناية اللَّه ولطفه بالإنسان أن يهيَّئ له الأسباب المعدَّة للكمال، ونظير هذا حقيقة الإنسان الصغير حيث إن العقل العملي لا يغني عن العقل النظري؛ فحكمة وجوده هو نوع إعداد وتهيئة أرضية لانجذاب الإنسان إلى نزعات العقل العملي وذلك بما يحصل عليه من علوم حصولية (1) .

تقييم الدليل الأول:

ما يلاحظ على هذا الدليل هو تركيزه على حيثية الهداية الإرائية في الإمام، ولا يقوم بإثبات المقام الغيبي للإمام بما هو هادٍ هداية إيصالية، وهذا الدليل هو الذي اعتمده عامة المفسِّرين من الإمامية طيلة قرون عديدة، ولكنَّهم عند ذكره لم يتطرَّقوا إلى المقام الغيبي للإمام الذي يمكن التعمُّق فيه من خلال نفس المقدمات

____________________

(1) ومن هنا يتبيَّن أنه من دون حصول التولِّي للأئمة لا يمكن أن ينشدَّ الإنسان للكمال، ولا تنفع كلمة العرفاء من كفاية السير والمجاهدة الباطنية وإن أخطأ في مصداقه في عالم الشهادة؛ وما ذلك إلاّ لأن الهداية الإرائية لا يمكن أن تتم إلاّ بالإمام في عالم الدنيا حيث إن الأحكام الشرعية هي طريق الكمال، فإذا أخطأ في الإمام في هذه النشأة، فسوف تكون تشريعاته في حيز الوقوع في الزلل والخطأ، فكيف يمكن السير في طريق الكمال والهداية الإيصالية من دون الهداية الإرائية متعذرة؟!

٢٩٢

المذكورة.

الصياغة الثانية لنفس الدليل:

في بداية هذا الفصل بيّـنَّا الجهاز العلمي والإدراكي في الإنسان الصغير، وذكرنا أنه توجد مدارج إدراكية ثلاثة:

ـ المراتب الروحية(الأخفى والخفي والسر والقلب).

ـ المراتب الإدراكية(العقل والوهم والخيال والحس).

ـ المراتب العملية(العقل العملي والقوى الشهوية والقوى الغضبية والاختيار).

وذكرنا أن تنزُّل العلوم البشرية دليل على وجود العالم العيني وعالم ما وراء المادة؛ حيث إن العلم ليس بمادي وليس له عوارض المادة. وقد ثبت في محلِّه أن التجربة و الاستقراء لا يفيدان العلم؛ وذلك لأن الجزئي لا كاسب ولا مكتسب، بل العلم يفاض من العالم الغيبي. وفي تنزُّل العلوم تدرُّج في تلك المراتب حتى يصل إلى عالم الخارج.

وقد أشرنا إلى أن البديهيات توفِّر عصمة نسبية لدى الانسان؛ ولهذا أطلق على العقل الرسول الباطن. وأن هذه البديهيات لا تكون بديهية لدى العقل النظري إلاّ بعد ارتباطها بعلوم حضورية؛ وذلك لأن العلوم الحصولية - وهي الصور الذهنية - تظل قابلة للانطباق على كثيرين، وطبيعتها أنه يظل فيها الاحتمال والإمكان، فهي لا تولِّد اليقين ولا الضرورة؛ أي ضرورة الوقوع والوجود. أمَّا الدرك العياني الحضوري، فليس محلاً للاحتمال والزلل؛ لذلك يجب أن تستند الإدراكات الحصولية إلى إدراكات حضورية حتى تكون يقينية صحيحة.

وعلى كل حال... فهذه القنوات الإنسانية ليست بمأمونة من الخطأ باعتبار تجاذب النزعات الشيطانية؛ باعتبار أن الجن والشيطان ذو وجود خفي لطيف، حيث بإمكانه أن يرتبط بالإنسان عبر مدارج وجوده لا سيما الإدراكية النازلة، وهو ما يُعبَّر عنه في

٢٩٣

الروايات أنه يجري في البدن (مجرى الدم في العروق). فللشيطان منافذ يستطيع أن ينفذ من خلالها في الإنسان.

ونضيف هنا أنه كيف يمكن أن تتنزل الإرادات والمشيئات الربانية من دون اشتباه والتباس وخطأ؟ والجواب: أن هذا غير ممكن إلاّ لمَن أهّله اللَّه بمدارج روحانية وإدراكية بأن لا يستطيع الشيطان النفوذ إليها، وهو ما تشير إليه الآية قاصدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ ) ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) فما دام الاتصال بالغيب موجوداً في كل الأزمنة، وأن عالم الشهادة قائم على وجود هذا الاتصال، وأن يد اللَّه مبسوطة، فهذا يدل على ضرورة وجود قناة معصومة تتنزل عن طريقها المشيئات الإلهية.

وبعبارة أخرى: أن الإرادة والمشيئة الإلهية يجب أن تبرز إلى عامة البشر المختارين حتى يستعلموا مواطن مشيئة وإرادة اللَّه حتى في الموارد الجزئية، سواء الجزئي الإضافي أم الحقيقي، وهذه الإرادات لا يمكن أن تتنزل إلاّ عِبر مَن كانت له عصمة عملية وعلمية، أي يكون على صعيد المدارج الإدراكية النازلة وعلى المدارج الإدراكية الروحية الفوقانية. وبتعبير جامع: له مقام غيبي، فلا تنازعه قوى الغضب ولا الشهوة والخيال ولا الوهم: ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) (1) ، فالشيطان يدعو ويغري الإدراك، فالذي تكون إرادته ومشيئته مظهراً لإرادة اللَّه يجب أن يكون مأموناً من نفوذ الشيطان إلى إدراكاته.

تقييم الصياغة الثانية للدليل:

هذه الصياغة توضح كثيراً من الروايات نحو (نحن تراجمة أمر اللَّه... ) (وجعلهم تراجمة مشيئته وألسن إرادته... ). وفي هذه الصياغة ترميم للنقص في تعريف الإمامة لدى

____________________

(1) الشعراء: 222.

٢٩٤

العلاّمة الطباطبائي؛ حيث إنه قد ركَّز على أن للإمام مقاماً ملكوتياً يوجب بمقتضاه التصرُّف في النفوس والسير بها من منزل إلى منزل معنوي أعلى، وما ذكرناه يركِّز على الهداية الإرائية للمعصوم.

فالدليل الأول بصياغتيه يقوم بمهمة البرهنة على جانب الهداية الإرائية في الإمام.

الدليل الثاني: الفطرة

وهو المعروف بالدليل الفطري، وقد ورد في عدة روايات، وإجماله:

أن كل فطرة بشرية تجد في أعماقها انجذاباً فطرياً نحو الكامل علماً وعملاً، وهذا الانجذاب هو الباعث والمحرك للإنسان لأن يتكامل، وهذا دال على وجود مَن هو كامل علماً وعملاً.

تفصيل الدليل: من خلال بيان عدة مقدمات:

المقدمة الأولى:

إن مدارس المعارف البشرية تتَّفق على وجود الأمور البديهية والفطرية لدى الانسان، ويعرفون القضية البديهية بأنها القضية التي يضطر الإنسان إلى الإذعان بها بالضرورة من دون حاجة إلى إعمال الفكر، بل مجرد الرجوع إلى النفس ورفع الموانع يجد نفسه مُصدِّقاً بها.

ونلاحظ أن هذا التعريف للبديهة ينطبق على الأمور التي فُطر عليها الإنسان، فإذا افترض أمر اشتركت البشرية فيه، فإنه يعلم أنه من الأمور الفطرية. ومن أدلة التوحيد دليل الفطرة، وهو من براهين الصديقين، حيث يقولون: إن انجذاب الفطرة البشرية نحو الكمال اللاّمحدود، دليل على وجود اللاّمحدود؛ وذلك لأنه لا يعقل أن تشترك البشرية بالإيمان بأمر ما وتكون خاطئة به، وإلاّ لزم السفسطة؛ لأنه لو تبين

٢٩٥

خطؤها فهذا يعني عدم وجود حقيقة يمكن أن يرتكز عليها الإنسان في علومه، إذ أن السفسطة تعني احتمال الخطأ في كل علم تذعن به النفس، فالعلوم التي تكون على وزان الأمور الفطرية والبديهية والتي يشترك بها عامة البشرية لا يمكن أن تكون خاطئة.

المقدمة الثانية:

إن الإنسان في حين انجذابه إلى اللامحدود يقر في نفسه أنه لا يستطيع أن يكون لا محدوداً؛ لأن قدرته وإمكاناته كلها محدودة. فحتى لا يصاب باليأس وعدم الأمل والرجاء يجب أن يسعى لتحصيل الكمالات العلمية والعملية بالمقدار الممكن على حسب قدرته ووسعه، وهذا أحد وجوه تفسير ما يعبَّر عنه في بعض الروايات (آهٍ من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر) فهذا السفر لا نهاية له لأن المقصود لا محدود ولا متناه.

المقدمة الثالثة:

إن من مسبِّبات الانجذاب إلى الكامل اللامحدود الانجذاب إلى الكامل من بني الإنسان، فنجد الناس ينجذبون إليه، وهذا ما يثبته علماء الاجتماع حيث يذكرون أن من أعرق الأساطير في تاريخ البشرية هي أسطورة البطل، ولا يكاد يخلو مجتمع ومِلَّة منها، حيث يصوِّرون البطل الشجاع والهمام المتحلِّي بمحاسن الأخلاق، ونرى الناس يندفعون إلى التشبُّه به في كافة جوانبه؛ وذلك للاعتقاد أن كمالاته من اللامحدود.

المقدمة الرابعة:

إن من كمالات الإنسان الارتباط باللامحدود علماً وقدرة و هيمنة على كل عالم الخلقة أو مَن تكون له السيطرة على كل شي‏ء، وهذا لا يعني الإحاطة المطلقة بالعزل عن الذات المقدسة وإلاّ لم يكن ذلك كمالاً، ونفس وجود هذا الأمر و النزع

٢٩٦

الفطري دال على عدم امتناعه.

والنتيجة: أنه لا بد من وجود مثل هذا الكامل لامتناع السفسطة وثبوت ذلك بالفطرة.

الصياغة الثانية للدليل الثاني:

وهي تنطلق من نفس ما انطلقت منه الأولى: إن الإنسان ينجذب نحو الكمال اللامحدود.

المقدمة الثانية:

إن الحركة نحو أية غاية كمالية يشترط فيها أمران ذكرناهما فيما سبق: كون الهدف ممكناً وليس بممتنع ولا محال، وأن يكون الكمال المطلوب غير حاصل للإنسان فعلا.

المقدمة الثالثة:

إن الكمالات المطلقة للذات المقدسة لا يحدَّها حد، والإنسان يعلم من نفسه أنه لا يمكن أن ينقلب إلى اللامحدود، فحتى تكون تلك الكمالات ممكنة يجب أن تتنزل إلى الحظيرة الإنسانية حتى يتصوَّرها الإنسان ممكنة التحصيل مع بقاء تلك الكمالات المتنزلة غير حاصلة لديه.

وينتج من ذلك أن الارتباط بالذات المقدسة يجب أن يكون بواسطة رابطة من الحقيقة البشرية، وقد ذكرنا سابقاً أن المقتدى يجب أن يتحلى بالصفتين الغيبية والبشرية، وقد أشار القران إلى هذه الحقيقة ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) (1) ، فهذه الآية تؤكِّد ذات الحقيقة؛ ولذا يعيش الإنسان الحالة الوسطى ما بين الخوف والرجاء، فالارتباط مع الذات المقدسة يكون بواسطة

____________________

(1) الأنعام: 9.

٢٩٧

المعصوم، وإذا لم نفترض ذلك، فإنه يعني انقطاع الاتصال مع الخالق جلَّ وعلا.

والخلاصة: أن الموجِب لحفظ الخوف والرجاء حسب التعبير الشرعي، والموجب لضمان دوام الحركة حسب التعبير الفلسفي، والموجب للإيمان بالغيب حسب تعبير الروايات (ونعني بالإيمان بالغيب الاعتقاد بغيب الكمال اللامحدود والانجذاب إليه فتتحكم إرادات الغيب في التكامل بنحو غير منقطع) لا يتحقَّق إلاّ بوجود الرابطة، فمآل مَن لم يؤمن بالرابطة أنه لا ينجذب ولا يؤمن بالذات المقدسة، ومعنى الإيمان بها هو الإيمان باللَّه تعالى.

وضرورة الارتباط باللَّه عزَّ وجلَّ عن طريق الواسطة يؤمن به العامة أيضاً باضطرارهم الفطري، إلاّ أنهم في تطبيق مَن يلبسونه لباس العصمة يشتبهون في التطبيق، وهذا هو عين الانحراف والضلال؛ مثلاً يلبسون الصحابي - أو بعضهم - ثوب العصمة والكمال العلمي والعملي، وهذا واضح من خلال ما ينقلونه من فضائل للأول والثاني والعشرة المبشَّرة بالجنة كما يدَّعون. ونحن نستشهد بذلك على أنه في واقعه استجابة لنداء الفطرة الذي قد أشرنا إليه في بداية الدليل، وإقرار بمسلك الإمامية ومعتقد الإمامة العهدية الإلهية، و لأجل ذلك نلاحظ إطلاق الروايات على الأول والثاني الجبت والطاغوت؛ لأنهما في قبال العبودية والمخلوقية، فالجبت مأخوذ من الجب، وهو الطم أو القطع؛ أي السد العام لطريق الحق وسلوك الكمال، والطاغوت من الطغيان والتمرد في الذات على ما توجبه حقيقة الفطرة البشرية بأن يكون عبداً للعيش ويدرك حالة الفقر في حقيقته لربه، فيتمرد ويعتد بذاته مستقلة ومستغنية عن المدد الرباني.

ولذلك فبوابة التوحيد هو الإمام، وهو السبيل إلى الإيمان الخالص باللَّه، وفي الرواية عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا علي، من قصد اللَّه و لم يقصدني، فلم يقصد اللَّه، و من قصدني ولم يقصدك، فلم يقصدني). إذن فالواسطة والرابط يجب أن يكون من الكمال

٢٩٨

العلمي والعملي بمكان حتى يتحرك الإنسان وينبعث انبعاثاً صحيحاً سليماً نحو الكمال المطلق والذات الأزلية، وواضح من الحديث أن الهداية النبوية هي هداية إرائية إجمالية بحاجة إلى هداية تفصيلية يقوم بها الإمام.

فالإمام مظهر عقلي أتم للخوف والرجاء الذي يجب أن يتحلّى به الإنسان ليتكامل وليكون مرتبطاً بالذات المقدسة.

وهاهنا إشكال: أن هذه الصياغة تثبت كيفية الارتباط بين أفراد البشر والذات المقدسة وذلك عبر المعصوم الذي يتوفِّر فيه الشرطان اللذان يدفعان الإنسان نحو الحركة، لكن كيف هو الارتباط بين المعصوم، وهو بشر، مع الذات المقدسة؛ حيث يعلم أن كمالات الذات المقدسة أزلية أبدية لا يمكن تحصيلها، فكيف يحصل الاقتداء والسير التكاملي بالنسبة إلى نفس المعصوم؟

والجواب: لقد ذكرنا في المراتب الوجودية أن النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أفضل الأئمة والمعصومين فهو يمثِّل الرابطة بينهم وبين الذات المقدَّسة، ويكونون في حالة استسعاء تام لتحصيل كمالات الحقيقة المحمدية، وهذا ما تفيده الروايات والآيات، وارتباط النبي الخاتم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالذات المقدسة تكون مسألة من مختصات النبوة، ولكن نشير إليها بنحو الإجمال، حيث إنه عليه (الصلاة والسلام) أول ممكن في الوجود، فهو يعلم أن ما في الذات الأزلية غير منقطع الفيض عنه، والكمالات كلها تتجلى أو تتنزل تدريجياً شيئاً فشيئاً، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تكامل دائم.

الصياغة الثالثة للدليل الثاني :

تعتمد على مقدمة نقلية ذكرناها فيما سبق، حاصلها: أن لفظ الأمة أطلق في اللغة على المجموع البشري السائر نحو هدف، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بوجود هادٍ مطلعٍ وعالمٍ بالهدف يقود الأمة في هذا المسير التكاملي، ولا يمكن أن ينال هذا الدور أحد إلاّ إذا توفرت لديه العصمة العلمية والعملية حتى يمكن الوثوق بهدايته

٢٩٩

فيتبعه الآخرون. فماهية الأمة يستحيل أن تتخلف عن وجود الإمام فيها.

يبقى إشكال على هذه الصياغة: بأن القران الكريم أطلق الأمة على عدد آخر من الأمم، بل بعضها منحرف وتَتْبَع إمام الضلال؟

والجواب: أن القرآن أطلق على هذه الأمة أنها الملة الحقة والأمة الحقة، وهي التي لديها هدف حقيقي يوصل إلى الكمال الواقعي. أمَّا الأمم الأخرى، فإطلاق الأمة عليها لا يكون بلحاظ قصد الكمال الحق، فهم لا يؤمّون إليه؛ لأن سيرها لا ينتهي إلى الكمال المطلق.

تقييم الدليل الثاني:

أن هذا الدليل يثبت ما ذكره العلامة الطباطبائي من جنبة الهداية الإيصالية في مقام الإمامة وفيها جنبة الهداية الإرائية، وهو ما ذكرناه من الإشكال والجواب ومدى الحاجة إلى الهداية التفصيلية ليحصل الاطمئنان في اتباع هذا الهادي.

الدليل الثالث: برهان الغاية

وله عدة مقدمات:

1 - أن كل انسان عندما يتكامل لا بد أن يجعل له غاية يريد الوصول إليها وهذا أمر ثابت في جميع مدارس المعارف البشرية القديمة والحديثة.

2 - أن الموحدين يجعلون هدفهم هو اللَّه عزَّ وجل؛ أي التخلٌّق بأخلاق اللَّه.

3 - ثبت لدى أصحاب المعارف أن الفطرة لا يستحثها الكمال فقط، بل ما يدفعها نحو السعي هو خوف الضرر والهلاك أيضاً، وعليه فالإيمان بالتوحيد والنبوة يوفِّر الجانب الأول وهو كونه غاية وهدف. أمَّا الجانب الآخر، فيوفره الإيمان بالمعاد والعقاب الأخروي، وأن الإنسان لا يعيش عالم الدنيا فقط، وإنما يوجد هناك عوالم أخرى يحياها الإنسان، وهذه الرابطة بين المعاد والتوحيد يقرُّها كثير من علماء

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440