الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127210
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127210 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في خط الهداية، ومَن يهدي بهداية غيره لا يكون مأموناً من الخطأ والزلل، فلا يكون هاديا.

وذلك المعصوم هو الذي يكون هادياً للحق على نحو الدوام. أمَّا الشخص الآخر الذي لا يهتدي إلى الحق إلاّ بهداية غيره، فإذا لم يوجد ذلك الغير، فهو يهدي إلى الباطل والضلال. وهداية اللَّه لهؤلاء المعصومين تكون بأحد الطرق الثلاثة ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) (1) .

وينقل العلاّمة دليلاً عقلياً على وجوب العصمة؛ وهو تفسير الإمامة بأنه يهدي ( بِأَمْرِنَا ) ، وأن الهداية إيصالية كما مرَّ ذكره سابقاً، فلابد أن مَن يكون لديه القدرة على تلك الهداية أن يكون مهتدياً بنفسه، بل تدل الآية على أن الفيوضات الكمالية العملية على النفوس وانتقال النفوس في سيرها التكاملي من موقف لآخر إنما يتم عبر الإمام؛ وذلك لأنه يهدي ( بِأَمْرِنَا ) ؛ إي بالأمر الملكوتي، وهو (كن فيكون). فالفيوضات تكون بواسطة رابطة الإمامة. أمَّا رابطة النبوة، فهي من أجل هداية الخلق في الإراءة فقط، وهي الجهة التشريعية.

فتحصَّل ممَّا تقدم:

1 - ضرورة كون الإمام معصوما.

2 - أن يكون موجوداً في كل زمان.

3 - أنه يفوق غيره في الفضائل النفسية، سواء المعاشية أم الأخروية.

4 - أن الإمامة باقية في عقب إبراهيم؛ وهذا يستفاد من نفس سؤاله للَّه تعالى في سورة البقرة، واستجابته تعالى لذلك، وما ورد في سورة الإنعام من الآية 90 - 82: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ... وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا

____________________

(1) الشورى: 51.

٢٨١

وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ... ) حيث الخطاب في الآية لذرِّية إبراهيم واصطفاء اللَّه لهم وهدايتهم، ثُم يقول عزَّ مَن قائل: ( فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) ؛ فالمراد من ( بِهَا ) الإمامة، وهذا يدل على تأبيدها واستمرارها، وأن الخطاب ما زال لإبراهيم وذرِّيته فهم الموكَلون بهداية البشرية.

ويطرح العلاّمة إشكالاَ ويجيب عنه. أمَّا الإشكال، فهو أن الآية تدل على أن مَن يكون نبياً فهو مهتديا، فهذا يدل على أن كل نبي إمام. ويجيب عنه: أنه ممّا لا شك فيه أن النبي يكون مهتديا، لكن ليست لدينا قاعدة أن كل مهتدي فهو هاد هداية إيصالية. نعم، ما دلَّت عليه آية ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ... ) هو أن على الهادي إلى الحق أن يكون مهتديا، فالتلازم من طرف واحد لا من طرفين.

ويضيف العلاّمة في آية سورة الزخرف 28: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ *إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أن اللَّه عزَّ وجل جعل الهداية باقية في عقبه.

نعم، يبقى إثبات أن المراد من الهداية في ( سَيَهْدِينِ ) ؛ حيث إنه كان نبياً ويدعو قومه، فيجب أن تكون تلك الهداية غير ما هو حاصل عنده، وما ذلك إلاّ الهداية الإيصالية والأمرية المجعولة باقية في عقبه.

ويخلص العلاّمة إلى أنه يتضح من آية البقرة سبع مسائل هي أمهات مسائل الإمامة:

1 - أن الإمامة مجعولة.

2 - أن الإمام يجب أن يكون معصوماً بعصمة إلهية.

3 - أن الأرض لا تخلو من إمام حق.

4 - أن الإمام يجب أن يكوم مؤيَّداً من عند اللَّه.

5 - أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

٢٨٢

6 - أنه يجب أن يكون عالماً بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معادهم وحياتهم.

7 - أنه يستحيل أن يوجد مَن يفوقه في فضائل النفس.

وفي كتاب (المقالات التأسيسية) يذكر العلاّمة تعريفاً أوسع للإمامة: أن الإمام هو السائق للنفوس البشرية إلى لقاء اللَّه وإلى المعاد؛ حيث يسوق أعمالهم ونفوسهم إلى اللَّه تعالى، فبه معادهم وحشرهم ونشرهم؛ حيث تشير الروايات المستفيضة إلى ورود الإمام في كافة منازل الآخرة، وقد أشار القرآن إلى ذلك ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فهذه الآية تثبت للرسول - الذي هو حي في عالم الدنيا - بأنه يشهد الأعمال، وهي من سنخ ملكوتي، والمؤمنون هم المعصومون يشهدون الأعمال بمقتضى ( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

ونضيف على ما ذكره العلاّمة: أن رابطة الإمام والرسول بما هو إمام لا تقتصر على عالم الدنيا وما بعده، بل حتى ما قبل عالم الدنيا، حيث بعثه في عالم الذرِّ إلى الآخرين وبقية العوالم السابقة على نشأة الدنيا، وأن الهداية الإرائية مفروضة أيضاً في الإمامة لتقدُّمها على الإيصالية وإن كانت هي في الإمام في طول الهداية الإرائية للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو ما يُعبَّر عنه بالحافظ والمبين للدين عند المتكلمين، وأن الإمامة في المجتمع - الإنسان المجموعي - هي الزعامة السياسية أيضاً مفروضة في حدّ الإمامة.

٢٨٣

٢٨٤

المبحث الثاني:

الأدلة العقلية على ماهية الإمامة الإلهية

وقبل الدخول في البحث، نذكر مقدمة تنفع في المقام:

من المسائل المهمة التي دار البحث عنها في الأمم السابقة هي مسألة اتصال الأرض بالسماء، وهل أن اللَّه بعد أن خلق الخلق تركهم أم استمر اتصاله بهم؟ واتخذت هذه المسألة أشكالاً متعددة؛ ففي عهد اليهود شاعت مقولة ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) بمعنى أن اللَّه عزَّ وجلَّ ترك عالم الخلق يسير كما يشاؤن، ولا يتدخَّل في سيرهم ولا يعيق إرادتهم.

وفي عهد مشركي الجزيرة العربية قالوا بضرورة توسيط آلهة صغار ليتم الاتصال مع الذات المقدَّسة اللامحدودة.

وفي العهد الإسلامي ظهرت مقولة العامة من انقطاع الاتصال بين الأرض والسماء بعد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه لا يمكن أن تتنزل مشيئة إلهية جزئية في الموارد الخاصة، وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق. إن دعوى العامة وإن لم تكن في انقطاع التشريع الإلهي، لكنَّها في انقطاع الإرادة التكوينية المرتبطة بالناموس البشري؛ فتكون هذه العقيدة قريبة المضمون من ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) .

والقران الكريم عالج كل تلك المقولات؛ فبالنسبة لعقيدة اليهود أجابهم بصراحة: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) وأن الإرادة الإلهية لم ينقطع اتصالها

٢٨٥

بالمخلوقين.

كما أن القران قد عالج مشكلة المشركين حيث خطّأهم في نقطتين:

1 - في اعتقادهم أن الرابطة مع الغيب يجب أن تكون ذاتاً مستقلة صغيرة(إله صغير).

2 - في اختراعهم لتلك الوسيلة والواسطة من عند أنفسهم دون اللَّه تعالى.

وفي نفس الوقت يؤكِّد القران الكريم على عدم انقطاع الاتصال بالغيب المطلق، وأن هناك وسيلة للاتصال بالعوالم العلوية، وهي في حقيقتها محكومة للَّه عزَّ وجل، ولا تكون معبودة، بل العبودية المطلقة للَّه عزَّ وجل.

فهذه الصيغ الثلاث تتضمن نفس المحتوى؛ وهو انقطاع الوحي عن الأرض وعدم الاتصال مع السماء. وأمَّا استمرار الاتصال، فهو عين التوحيد؛ وذلك لأن التوحيد الخالص هو توحيد الذات والصفات والأفعال، بل حتى التوحيد في التشريع حيث لا يكون للإنسان حق التشريع والتقنين، بل اللَّه وحده له هذا الحق الذي بيّنه عن طريق الأنبياء والأئمة.

وأيضاً هناك التوحيد في الولاية؛ أي نتبع اللَّه عزَّ وجل فيمَن نتولَّاه ونستهديه للوصول إلى الكمالات العالية، وهذا هو معنى الإمامة؛ فنفي الإمامة يكون شركاً ونفياً للتوحيد في الطاعة.

ويمكن لنا أن نضم إلى هذه الصيغ الثلاث صيغة رابعة نادى بها أصحاب المدرسة المادية الحديثة التي تدعي أن عالم المادة تحكمه المعادلات المادية والقوانين الخاصة بها؛ حيث إنهم يجعلون مصدر الخلقة والإيجاد هو المادة، ثُم يختلفون في تفسير هذه المادة؛ فيجعل البعض أن المقصود منها: الطاقة والقدرة، ولأجل الأقلمة مع أساس العقيدة يجعلون المادة شاعرة عالمة.

ولكنَّنا - في مقابل الصياغات المتقدمة - نقول: إن ارتباط مراتب الوجود مع

٢٨٦

الذات المقدسة موجود، ودائم غير منقطع حتى في عالم الإنسان الصغير، وهذا الارتباط اختياري لا إجباري، وقد بُرهن عليه في محله.

الدليل الأول: ضرورة الارتباط بالغيب

وخلاصته:

أنه لابد من ارتباط غيب الغيوب، وهو الذات المقدَّسة، بالعوالم النازلة وبالأخص عالم الإنسان الصغير وإراداته وهدايته الإرائية والإيصالية، وهذا التنزُّل - بلا شك - يجب أن يكون عبر قناة وجودية خَلْقية وإلاَّ لاقتضت وجود طفرة، ولابد لهذه القناة من أن تتَّصف بصفتين؛ أحدهما: الارتباط بالغيب، والأخرى: الارتباط بالعالم النازل. وتفصيل ذلك من خلال النقاط التالية:

* أننا أثبتنا فيما سبق وجوب الارتباط وعدم انقطاع الاتصال بين الأرض والسماء.

* أن الاتصال إمَّا أن يكون من خلال ارتباط الذات المقدسة بكل فرد فرد وبكل نفس بشرية، وهذا يعني أن تكون كل النفوس أنبياء ورسل وأئمة، وهذا وإن أمكن ثبوتاً وليس بممتنع على الحق تعالى، لكنَّه على خلاف نظام الخلقة؛ إذ أنه قائم على أن لا يكون الكل كذلك.

* أن الاتصال حينئذٍ يكون عبر أفراد، ولا يخلو أمرهم أن يكونوا إمَّا بشراً أو ملائكة؛ أي أننا اشترطنا أن يكون فيهم جنبة بشرية؛ وذلك لِمَا ذكرنا سابقاً من أن عدم وجود الجنبة البشرية مطلقاً يفقد خيرية الاقتداء والأسوة إذا أنه لا يحقق البعث والتحريك نحو الكمال فهو بشر يراه الناس كأنفسهم‏ن، لكنَّها نفس تعالت عن مزالق الشهوات إلى مراتب الكمال فأصبحت تهدي بأمر ملكوتي، فهو نموذج بشري توفَّرت فيه صفات الكمال. وفي هذا جواب على ما ذكره بعض العرفاء أو

٢٨٧

الصوفية من أن المرتاض في سير وسلوك وارتباط بالأرواح الكلِّية و العوالم العلوية. أمَّا في عالم الشهادة، فإنه يخطئ في تطبيق تلك الروح المرتبطة بعلي‏ عليه‌السلام فيجعل لها مصداقا من آخرين كزيد وعمرو... فهو في حقيقة أمره مرتبط ومذعن بالعوالم النورية، مثل ما قد ينسب إلى بعض عرفاء العامة فيرى أنه وصل في سيره وسلوكه إلى الحقائق العلوية، ولكنَّه أخطأ في التطبيق في هذه النشأة.

وقد ذكرنا أن هذا الارتباط غير نافع أيضاً؛ وذلك لأن الحقيقة الإنسانية هي أشرف صور المخلوقات الإلهية ومنها يبدأ السير التكاملي والاتصال بالغيب، فيجب أن لا يكون دونها كمالاً، وهذا - مع ما ذكرناه سابقاً - يقتضي أن يكون الهادي والرابط بين الأرض والسماء له جنبة بشرية.

* نعم، يبقى الجواب عن إشكال قد يطرأ على ذهن البعض؛ وهو أن الاتصال بالغيب يكفي فيه النبوة فما الحاجة للائمة، وبتعبير آخر: ما الحاجة إلى الهداية الإيصالية مع وجود الهداية الإرائية؟

وفي مقام الجواب نشير إلى أن الروايات قد استفاضت أو تواترت على أن للأئمة جنبة تشريعية للأحكام، لا بمعنى الإتيان بأصل الشريعة، بل هي هداية تشريعية متمِّمة للنبوة والرسالة. وبيان ذلك من خلال مقدمات:

ـ من المبادئ الأساسية التي تحكم التشريعات والتقنينات على مدى العصور هو مبدأ تدرج القوانين؛ وهو يعني أن القانون يبدأ من قواعد كلية وعمومات فوقانية، ثُم تتدرج إلى قوانين متوسطة حتى تصل إلى القوانين الجزئية التي تُطبَّق على الظواهر الفردية والاجتماعية، وهذا النحو هو الحاكم على التقنينات الوضعية؛ فترى الدستور، ثُم القوانين الصادرة من المجالس النيابية، ثُم القوانين الصادرة من السلطة التنفيذية. وقد أشرنا في بحوث الأصول إلى تماثل الاعتبار الشرعي مع الاعتبار الوضعي على أساس اتحاد لغة التقنين والتشريع.

٢٨٨

ـ أن تنزل القوانين العامة والقواعد الكلية إلى المصاديق يحتاج إلى مراقبة؛ وذلك لمنع حصول الاختلاط والتدافع والتصادم في التطبيق.

ـ أن السنة الجارية في عالم الخلقة هي محدودية أعمار الأنبياء والرسل، ولذا فهم يكتفون بذكر الكليات والقوانين العامة ولا يستوفون تنزيلها وتطبيقها على كل الدرجات و الموارد الجزئية؛ إذ أن محدودية أعمارهم تمنع من مراقبة كل الدرجات و الجزئيات الحاصلة بعد حياتهم الشريفة.

ـ أن سلامة الشريعة وصوابية التقنين تقتضي استمرار المراقبة في تطبيق تلك القواعد العامة والقوانين الكلية، خصوصاً في القواعد الإلهية التي ترعى المصالح والمفاسد الواقعية التي تخفى على الأذهان العادية، فلابد من استمرار بيان المتوسطات والتطبيقات، خصوصاً إذا قلنا: إن الأحكام الشرعية هي إرادات إلهية صادرة من جانب الذات المقدسة في الوقائع الجزئية والفردية والمجموعية.

ـ أن البشر العادي المنقطع عن الغيب ليس له أن يتوصَّل إلى بيان مؤدى النقطة السابقة؛ وذلك لاحتياجها إلى عصمة علمية.

والنتيجة: أنه لا بد من وجود فرد له عصمة علمية مضافاً إلى العصمة العملية والكمالات النفسانية العالية، وهذا الفرد الذي يكمل مسيرة الأنبياء التشريعية هو الإمام.

ولا يخفى على كل ذي لبٍّ ما نشاهده في حياتنا العملية من حال التشريعات الوضعية والمراقبة المستمرة على كيفية تطبيق التشريعات الدستورية وعدم مضادتها لها، ومع ذلك توجد موارد عديدة للنقض والخطأ، وبين كل فترة وأخرى تحصل الاستدراكات والملاحق لغرض تفادي الأخطاء والنقص. وفي القانون الإلهي وإن كان لا يقاس بالقانون الوضعي البشري إلاّ أنه لا بد من وجود المعصوم عصمة علمية يقوم ببيان تلك المتوسطات؛ وبذلك يؤمَن عن الوقوع في الخطأ

٢٨٩

والزلل في التطبيق أو التنزيل المسمَّى في اصطلاح الوحي بـ: التأويل. ومجرد احتواء الكتاب على تلك التشريعات العامة لا يدفع الخطأ في مجال التنزيل أو التفريع؛ فكم نرى في عملية الاجتهاد أثناء استنباط الأحكام الشرعية من أخطاء وغفلات؟! (1)

وبهذا يندفع الإشكال من أنه لا حاجة إلى افتراض العصمة العلمية بواسطة وجود كتاب يروونه عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيعتبرون لكونهم رواة عدولاً، ولا حاجة إلى العصمة حينئذ.

ووجه الاندفاع: أنه مهما بلغت درجته العلمية فإنه لا يؤمَن من الوقوع في الخطأ في بيان القوانين المتوسطة وتطبيقها على الجزئيات، فلا بد من الاتصال بالغيب.

وبناء على ما مضى يتبين ضرورة إبراز جنبة الهداية الإرائية في الأئمة مضافاً إلى الهداية الإيصالية، وعدم الاكتفاء بالأخيرة فقط كما ذهب إليه السيد العلاّمة في الميزان.

* وقد يثار إشكال آخر: أنه ما المانع من عدم وجود أئمة معصومين عملاً، فكل ما نحتاجه هو عصمة نسبية عملية كالعدالة، وعصمة نسبية علمية كالفقاهة، فنكتفي بهما عن العصمة الشاملة بمعنى المقام الغيبي والملكوتي؟

ويوجد في المقام جوابان:

الأول: أن هذا الإشكال قد حصل فيه تغافل عما ذكرناه في بداية البحث من أن الأنبياء والرسل، وبمقتضى محدودية أعمارهم البشرية، لا يوضحوا كل شي‏ء ولا يبيِّنوا كل القوانين الجزئية والمتوسطات، فمن أين للفقيه أن يعلم بقية المتوسطات مع عدم كونه متَّصلاً بالغيب؛ إذ المتوسطات ليست مجرد تطبيقات للكليات، بل هي

____________________

(1) حتى عرف مسلك فقهاء الإمامية بمسلك التخطئة دون التصويب.

٢٩٠

نوع من الإنشاء التشريعي من نفس المشرع الأول. وبتعبير آخر: أن الأنبياء نحو إراءتهم كانت إراءة

إجمالية، فلابد من الإراءة التفصيلية واستمرارها عن طريق الأئمة بأن تكون متصلة بالغيب معصومة من الوقوع في الخطأ.

الثاني: أن بيان الإمام وفهمه للحكم الشرعي لا يكون كفهم الفقيه، بل هو بيان بعلم الغيب والتسديد الإلهي المصيب للحق دوماً. فإراءة الإمام للأحكام الشرعية ليست شريعة جديدة، بل بيان لتلك الشريعة الإجمالية الكلية المتنزلة عبر القناة الغيبية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن نلاحظ في مقام الإمامة والنبوة نقاط التقاء وافتراق، وأفضلية جانب على آخر؛ فكلاهما حلقة اتصال بالغيب، وكلاهما حجة اللَّه على الخلق وسفارة إلهية إلاّ أن وظيفة كل منهما تختلف عن الآخر؛ فالنبوة فضيلة في نفسها والإمامة فضيلة في نفسها، ورأينا في تفسير آية البقرة كيفية استحقاق إبراهيم للإمامة، وأنه كان عبر تلك الابتلاءات المختلفة والشديدة.

فالنبوة لها فضل والإمامة تفصيل لتشريع النبوة، ويبقى للإمامة الهداية الإيصالية بخلاف النبوة التي تقتصر على الهداية الإرائية، وبعض الأنبياء هم أئمة أيضاً. أمَّا الأئمة، فليسوا بأنبياء، وتفضيل بعضهم على بعض ثابت بالنصوص القرآنية والروائية، وقد تبيَّن أيضاً كيف أن النبوة لا تقوم مقام الإمامة وأنها تكتمل بها.

وهاهنا تساؤل آخر؛ وحاصله: لماذا لا يُكتفى بالإمامة عن النبوة؛ فإنها جامعة للهداية الإيصالية والإرائية؟!

والجواب عن ذلك:

1 - أن المفروض أن الهداية الإيصالية ليست إلجائية، بل اختيارية.

2 - أن المكلَّف في اختياره لأي سيرة في حياته يجب أن يكون طبقاً لعلم؛ لكي يؤمِّن جانب الاختيار والكمال في المسير الإنساني. فلابد أن يكون الانسان على

٢٩١

علم بالطريق والغاية والهدف من هذا المسير، وهذا الجانب العلمي لا يؤمَّن إلاّ بالهداية الإرائية، فعلمه وانتقاؤه طبقاً لهداية النبي هو قوام الاختيار.

وبعد حصول ذلك العلم لدى المكلَّف يأتي دور الهداية الإيصالية والتسبُّب الملكوتي الذي يرى أن أرضية المكلَّف مخيَّرة ومهيَّأة لتقبُّل الكمال، ويستطيع المكلف الاختيار ويتبع إمام الهدى ويفضِّله على اتباع إمام الضلال.

فتظهر أهمية العلم بالشريعة الذي يبينه النبي، ثُم يأتي دور الإمام بعد أن يختاره المكلف، فتكون هدايته اختيارية لا إلجاء فيها ولا جبر، وخصوصاً أن السير التكاملي لا يؤدي هدفه إلاّ اختيارياً، وإذا كان جبرياً، فلا كمال فيه.

وعليه فمِن تمام عناية اللَّه ولطفه بالإنسان أن يهيَّئ له الأسباب المعدَّة للكمال، ونظير هذا حقيقة الإنسان الصغير حيث إن العقل العملي لا يغني عن العقل النظري؛ فحكمة وجوده هو نوع إعداد وتهيئة أرضية لانجذاب الإنسان إلى نزعات العقل العملي وذلك بما يحصل عليه من علوم حصولية (1) .

تقييم الدليل الأول:

ما يلاحظ على هذا الدليل هو تركيزه على حيثية الهداية الإرائية في الإمام، ولا يقوم بإثبات المقام الغيبي للإمام بما هو هادٍ هداية إيصالية، وهذا الدليل هو الذي اعتمده عامة المفسِّرين من الإمامية طيلة قرون عديدة، ولكنَّهم عند ذكره لم يتطرَّقوا إلى المقام الغيبي للإمام الذي يمكن التعمُّق فيه من خلال نفس المقدمات

____________________

(1) ومن هنا يتبيَّن أنه من دون حصول التولِّي للأئمة لا يمكن أن ينشدَّ الإنسان للكمال، ولا تنفع كلمة العرفاء من كفاية السير والمجاهدة الباطنية وإن أخطأ في مصداقه في عالم الشهادة؛ وما ذلك إلاّ لأن الهداية الإرائية لا يمكن أن تتم إلاّ بالإمام في عالم الدنيا حيث إن الأحكام الشرعية هي طريق الكمال، فإذا أخطأ في الإمام في هذه النشأة، فسوف تكون تشريعاته في حيز الوقوع في الزلل والخطأ، فكيف يمكن السير في طريق الكمال والهداية الإيصالية من دون الهداية الإرائية متعذرة؟!

٢٩٢

المذكورة.

الصياغة الثانية لنفس الدليل:

في بداية هذا الفصل بيّـنَّا الجهاز العلمي والإدراكي في الإنسان الصغير، وذكرنا أنه توجد مدارج إدراكية ثلاثة:

ـ المراتب الروحية(الأخفى والخفي والسر والقلب).

ـ المراتب الإدراكية(العقل والوهم والخيال والحس).

ـ المراتب العملية(العقل العملي والقوى الشهوية والقوى الغضبية والاختيار).

وذكرنا أن تنزُّل العلوم البشرية دليل على وجود العالم العيني وعالم ما وراء المادة؛ حيث إن العلم ليس بمادي وليس له عوارض المادة. وقد ثبت في محلِّه أن التجربة و الاستقراء لا يفيدان العلم؛ وذلك لأن الجزئي لا كاسب ولا مكتسب، بل العلم يفاض من العالم الغيبي. وفي تنزُّل العلوم تدرُّج في تلك المراتب حتى يصل إلى عالم الخارج.

وقد أشرنا إلى أن البديهيات توفِّر عصمة نسبية لدى الانسان؛ ولهذا أطلق على العقل الرسول الباطن. وأن هذه البديهيات لا تكون بديهية لدى العقل النظري إلاّ بعد ارتباطها بعلوم حضورية؛ وذلك لأن العلوم الحصولية - وهي الصور الذهنية - تظل قابلة للانطباق على كثيرين، وطبيعتها أنه يظل فيها الاحتمال والإمكان، فهي لا تولِّد اليقين ولا الضرورة؛ أي ضرورة الوقوع والوجود. أمَّا الدرك العياني الحضوري، فليس محلاً للاحتمال والزلل؛ لذلك يجب أن تستند الإدراكات الحصولية إلى إدراكات حضورية حتى تكون يقينية صحيحة.

وعلى كل حال... فهذه القنوات الإنسانية ليست بمأمونة من الخطأ باعتبار تجاذب النزعات الشيطانية؛ باعتبار أن الجن والشيطان ذو وجود خفي لطيف، حيث بإمكانه أن يرتبط بالإنسان عبر مدارج وجوده لا سيما الإدراكية النازلة، وهو ما يُعبَّر عنه في

٢٩٣

الروايات أنه يجري في البدن (مجرى الدم في العروق). فللشيطان منافذ يستطيع أن ينفذ من خلالها في الإنسان.

ونضيف هنا أنه كيف يمكن أن تتنزل الإرادات والمشيئات الربانية من دون اشتباه والتباس وخطأ؟ والجواب: أن هذا غير ممكن إلاّ لمَن أهّله اللَّه بمدارج روحانية وإدراكية بأن لا يستطيع الشيطان النفوذ إليها، وهو ما تشير إليه الآية قاصدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ ) ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) فما دام الاتصال بالغيب موجوداً في كل الأزمنة، وأن عالم الشهادة قائم على وجود هذا الاتصال، وأن يد اللَّه مبسوطة، فهذا يدل على ضرورة وجود قناة معصومة تتنزل عن طريقها المشيئات الإلهية.

وبعبارة أخرى: أن الإرادة والمشيئة الإلهية يجب أن تبرز إلى عامة البشر المختارين حتى يستعلموا مواطن مشيئة وإرادة اللَّه حتى في الموارد الجزئية، سواء الجزئي الإضافي أم الحقيقي، وهذه الإرادات لا يمكن أن تتنزل إلاّ عِبر مَن كانت له عصمة عملية وعلمية، أي يكون على صعيد المدارج الإدراكية النازلة وعلى المدارج الإدراكية الروحية الفوقانية. وبتعبير جامع: له مقام غيبي، فلا تنازعه قوى الغضب ولا الشهوة والخيال ولا الوهم: ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) (1) ، فالشيطان يدعو ويغري الإدراك، فالذي تكون إرادته ومشيئته مظهراً لإرادة اللَّه يجب أن يكون مأموناً من نفوذ الشيطان إلى إدراكاته.

تقييم الصياغة الثانية للدليل:

هذه الصياغة توضح كثيراً من الروايات نحو (نحن تراجمة أمر اللَّه... ) (وجعلهم تراجمة مشيئته وألسن إرادته... ). وفي هذه الصياغة ترميم للنقص في تعريف الإمامة لدى

____________________

(1) الشعراء: 222.

٢٩٤

العلاّمة الطباطبائي؛ حيث إنه قد ركَّز على أن للإمام مقاماً ملكوتياً يوجب بمقتضاه التصرُّف في النفوس والسير بها من منزل إلى منزل معنوي أعلى، وما ذكرناه يركِّز على الهداية الإرائية للمعصوم.

فالدليل الأول بصياغتيه يقوم بمهمة البرهنة على جانب الهداية الإرائية في الإمام.

الدليل الثاني: الفطرة

وهو المعروف بالدليل الفطري، وقد ورد في عدة روايات، وإجماله:

أن كل فطرة بشرية تجد في أعماقها انجذاباً فطرياً نحو الكامل علماً وعملاً، وهذا الانجذاب هو الباعث والمحرك للإنسان لأن يتكامل، وهذا دال على وجود مَن هو كامل علماً وعملاً.

تفصيل الدليل: من خلال بيان عدة مقدمات:

المقدمة الأولى:

إن مدارس المعارف البشرية تتَّفق على وجود الأمور البديهية والفطرية لدى الانسان، ويعرفون القضية البديهية بأنها القضية التي يضطر الإنسان إلى الإذعان بها بالضرورة من دون حاجة إلى إعمال الفكر، بل مجرد الرجوع إلى النفس ورفع الموانع يجد نفسه مُصدِّقاً بها.

ونلاحظ أن هذا التعريف للبديهة ينطبق على الأمور التي فُطر عليها الإنسان، فإذا افترض أمر اشتركت البشرية فيه، فإنه يعلم أنه من الأمور الفطرية. ومن أدلة التوحيد دليل الفطرة، وهو من براهين الصديقين، حيث يقولون: إن انجذاب الفطرة البشرية نحو الكمال اللاّمحدود، دليل على وجود اللاّمحدود؛ وذلك لأنه لا يعقل أن تشترك البشرية بالإيمان بأمر ما وتكون خاطئة به، وإلاّ لزم السفسطة؛ لأنه لو تبين

٢٩٥

خطؤها فهذا يعني عدم وجود حقيقة يمكن أن يرتكز عليها الإنسان في علومه، إذ أن السفسطة تعني احتمال الخطأ في كل علم تذعن به النفس، فالعلوم التي تكون على وزان الأمور الفطرية والبديهية والتي يشترك بها عامة البشرية لا يمكن أن تكون خاطئة.

المقدمة الثانية:

إن الإنسان في حين انجذابه إلى اللامحدود يقر في نفسه أنه لا يستطيع أن يكون لا محدوداً؛ لأن قدرته وإمكاناته كلها محدودة. فحتى لا يصاب باليأس وعدم الأمل والرجاء يجب أن يسعى لتحصيل الكمالات العلمية والعملية بالمقدار الممكن على حسب قدرته ووسعه، وهذا أحد وجوه تفسير ما يعبَّر عنه في بعض الروايات (آهٍ من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر) فهذا السفر لا نهاية له لأن المقصود لا محدود ولا متناه.

المقدمة الثالثة:

إن من مسبِّبات الانجذاب إلى الكامل اللامحدود الانجذاب إلى الكامل من بني الإنسان، فنجد الناس ينجذبون إليه، وهذا ما يثبته علماء الاجتماع حيث يذكرون أن من أعرق الأساطير في تاريخ البشرية هي أسطورة البطل، ولا يكاد يخلو مجتمع ومِلَّة منها، حيث يصوِّرون البطل الشجاع والهمام المتحلِّي بمحاسن الأخلاق، ونرى الناس يندفعون إلى التشبُّه به في كافة جوانبه؛ وذلك للاعتقاد أن كمالاته من اللامحدود.

المقدمة الرابعة:

إن من كمالات الإنسان الارتباط باللامحدود علماً وقدرة و هيمنة على كل عالم الخلقة أو مَن تكون له السيطرة على كل شي‏ء، وهذا لا يعني الإحاطة المطلقة بالعزل عن الذات المقدسة وإلاّ لم يكن ذلك كمالاً، ونفس وجود هذا الأمر و النزع

٢٩٦

الفطري دال على عدم امتناعه.

والنتيجة: أنه لا بد من وجود مثل هذا الكامل لامتناع السفسطة وثبوت ذلك بالفطرة.

الصياغة الثانية للدليل الثاني:

وهي تنطلق من نفس ما انطلقت منه الأولى: إن الإنسان ينجذب نحو الكمال اللامحدود.

المقدمة الثانية:

إن الحركة نحو أية غاية كمالية يشترط فيها أمران ذكرناهما فيما سبق: كون الهدف ممكناً وليس بممتنع ولا محال، وأن يكون الكمال المطلوب غير حاصل للإنسان فعلا.

المقدمة الثالثة:

إن الكمالات المطلقة للذات المقدسة لا يحدَّها حد، والإنسان يعلم من نفسه أنه لا يمكن أن ينقلب إلى اللامحدود، فحتى تكون تلك الكمالات ممكنة يجب أن تتنزل إلى الحظيرة الإنسانية حتى يتصوَّرها الإنسان ممكنة التحصيل مع بقاء تلك الكمالات المتنزلة غير حاصلة لديه.

وينتج من ذلك أن الارتباط بالذات المقدسة يجب أن يكون بواسطة رابطة من الحقيقة البشرية، وقد ذكرنا سابقاً أن المقتدى يجب أن يتحلى بالصفتين الغيبية والبشرية، وقد أشار القران إلى هذه الحقيقة ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) (1) ، فهذه الآية تؤكِّد ذات الحقيقة؛ ولذا يعيش الإنسان الحالة الوسطى ما بين الخوف والرجاء، فالارتباط مع الذات المقدسة يكون بواسطة

____________________

(1) الأنعام: 9.

٢٩٧

المعصوم، وإذا لم نفترض ذلك، فإنه يعني انقطاع الاتصال مع الخالق جلَّ وعلا.

والخلاصة: أن الموجِب لحفظ الخوف والرجاء حسب التعبير الشرعي، والموجب لضمان دوام الحركة حسب التعبير الفلسفي، والموجب للإيمان بالغيب حسب تعبير الروايات (ونعني بالإيمان بالغيب الاعتقاد بغيب الكمال اللامحدود والانجذاب إليه فتتحكم إرادات الغيب في التكامل بنحو غير منقطع) لا يتحقَّق إلاّ بوجود الرابطة، فمآل مَن لم يؤمن بالرابطة أنه لا ينجذب ولا يؤمن بالذات المقدسة، ومعنى الإيمان بها هو الإيمان باللَّه تعالى.

وضرورة الارتباط باللَّه عزَّ وجلَّ عن طريق الواسطة يؤمن به العامة أيضاً باضطرارهم الفطري، إلاّ أنهم في تطبيق مَن يلبسونه لباس العصمة يشتبهون في التطبيق، وهذا هو عين الانحراف والضلال؛ مثلاً يلبسون الصحابي - أو بعضهم - ثوب العصمة والكمال العلمي والعملي، وهذا واضح من خلال ما ينقلونه من فضائل للأول والثاني والعشرة المبشَّرة بالجنة كما يدَّعون. ونحن نستشهد بذلك على أنه في واقعه استجابة لنداء الفطرة الذي قد أشرنا إليه في بداية الدليل، وإقرار بمسلك الإمامية ومعتقد الإمامة العهدية الإلهية، و لأجل ذلك نلاحظ إطلاق الروايات على الأول والثاني الجبت والطاغوت؛ لأنهما في قبال العبودية والمخلوقية، فالجبت مأخوذ من الجب، وهو الطم أو القطع؛ أي السد العام لطريق الحق وسلوك الكمال، والطاغوت من الطغيان والتمرد في الذات على ما توجبه حقيقة الفطرة البشرية بأن يكون عبداً للعيش ويدرك حالة الفقر في حقيقته لربه، فيتمرد ويعتد بذاته مستقلة ومستغنية عن المدد الرباني.

ولذلك فبوابة التوحيد هو الإمام، وهو السبيل إلى الإيمان الخالص باللَّه، وفي الرواية عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا علي، من قصد اللَّه و لم يقصدني، فلم يقصد اللَّه، و من قصدني ولم يقصدك، فلم يقصدني). إذن فالواسطة والرابط يجب أن يكون من الكمال

٢٩٨

العلمي والعملي بمكان حتى يتحرك الإنسان وينبعث انبعاثاً صحيحاً سليماً نحو الكمال المطلق والذات الأزلية، وواضح من الحديث أن الهداية النبوية هي هداية إرائية إجمالية بحاجة إلى هداية تفصيلية يقوم بها الإمام.

فالإمام مظهر عقلي أتم للخوف والرجاء الذي يجب أن يتحلّى به الإنسان ليتكامل وليكون مرتبطاً بالذات المقدسة.

وهاهنا إشكال: أن هذه الصياغة تثبت كيفية الارتباط بين أفراد البشر والذات المقدسة وذلك عبر المعصوم الذي يتوفِّر فيه الشرطان اللذان يدفعان الإنسان نحو الحركة، لكن كيف هو الارتباط بين المعصوم، وهو بشر، مع الذات المقدسة؛ حيث يعلم أن كمالات الذات المقدسة أزلية أبدية لا يمكن تحصيلها، فكيف يحصل الاقتداء والسير التكاملي بالنسبة إلى نفس المعصوم؟

والجواب: لقد ذكرنا في المراتب الوجودية أن النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أفضل الأئمة والمعصومين فهو يمثِّل الرابطة بينهم وبين الذات المقدَّسة، ويكونون في حالة استسعاء تام لتحصيل كمالات الحقيقة المحمدية، وهذا ما تفيده الروايات والآيات، وارتباط النبي الخاتم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالذات المقدسة تكون مسألة من مختصات النبوة، ولكن نشير إليها بنحو الإجمال، حيث إنه عليه (الصلاة والسلام) أول ممكن في الوجود، فهو يعلم أن ما في الذات الأزلية غير منقطع الفيض عنه، والكمالات كلها تتجلى أو تتنزل تدريجياً شيئاً فشيئاً، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تكامل دائم.

الصياغة الثالثة للدليل الثاني :

تعتمد على مقدمة نقلية ذكرناها فيما سبق، حاصلها: أن لفظ الأمة أطلق في اللغة على المجموع البشري السائر نحو هدف، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بوجود هادٍ مطلعٍ وعالمٍ بالهدف يقود الأمة في هذا المسير التكاملي، ولا يمكن أن ينال هذا الدور أحد إلاّ إذا توفرت لديه العصمة العلمية والعملية حتى يمكن الوثوق بهدايته

٢٩٩

فيتبعه الآخرون. فماهية الأمة يستحيل أن تتخلف عن وجود الإمام فيها.

يبقى إشكال على هذه الصياغة: بأن القران الكريم أطلق الأمة على عدد آخر من الأمم، بل بعضها منحرف وتَتْبَع إمام الضلال؟

والجواب: أن القرآن أطلق على هذه الأمة أنها الملة الحقة والأمة الحقة، وهي التي لديها هدف حقيقي يوصل إلى الكمال الواقعي. أمَّا الأمم الأخرى، فإطلاق الأمة عليها لا يكون بلحاظ قصد الكمال الحق، فهم لا يؤمّون إليه؛ لأن سيرها لا ينتهي إلى الكمال المطلق.

تقييم الدليل الثاني:

أن هذا الدليل يثبت ما ذكره العلامة الطباطبائي من جنبة الهداية الإيصالية في مقام الإمامة وفيها جنبة الهداية الإرائية، وهو ما ذكرناه من الإشكال والجواب ومدى الحاجة إلى الهداية التفصيلية ليحصل الاطمئنان في اتباع هذا الهادي.

الدليل الثالث: برهان الغاية

وله عدة مقدمات:

1 - أن كل انسان عندما يتكامل لا بد أن يجعل له غاية يريد الوصول إليها وهذا أمر ثابت في جميع مدارس المعارف البشرية القديمة والحديثة.

2 - أن الموحدين يجعلون هدفهم هو اللَّه عزَّ وجل؛ أي التخلٌّق بأخلاق اللَّه.

3 - ثبت لدى أصحاب المعارف أن الفطرة لا يستحثها الكمال فقط، بل ما يدفعها نحو السعي هو خوف الضرر والهلاك أيضاً، وعليه فالإيمان بالتوحيد والنبوة يوفِّر الجانب الأول وهو كونه غاية وهدف. أمَّا الجانب الآخر، فيوفره الإيمان بالمعاد والعقاب الأخروي، وأن الإنسان لا يعيش عالم الدنيا فقط، وإنما يوجد هناك عوالم أخرى يحياها الإنسان، وهذه الرابطة بين المعاد والتوحيد يقرُّها كثير من علماء

٣٠٠