الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137467 / تحميل: 8182
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

في خط الهداية، ومَن يهدي بهداية غيره لا يكون مأموناً من الخطأ والزلل، فلا يكون هاديا.

وذلك المعصوم هو الذي يكون هادياً للحق على نحو الدوام. أمَّا الشخص الآخر الذي لا يهتدي إلى الحق إلاّ بهداية غيره، فإذا لم يوجد ذلك الغير، فهو يهدي إلى الباطل والضلال. وهداية اللَّه لهؤلاء المعصومين تكون بأحد الطرق الثلاثة ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) (١) .

وينقل العلاّمة دليلاً عقلياً على وجوب العصمة؛ وهو تفسير الإمامة بأنه يهدي ( بِأَمْرِنَا ) ، وأن الهداية إيصالية كما مرَّ ذكره سابقاً، فلابد أن مَن يكون لديه القدرة على تلك الهداية أن يكون مهتدياً بنفسه، بل تدل الآية على أن الفيوضات الكمالية العملية على النفوس وانتقال النفوس في سيرها التكاملي من موقف لآخر إنما يتم عبر الإمام؛ وذلك لأنه يهدي ( بِأَمْرِنَا ) ؛ إي بالأمر الملكوتي، وهو (كن فيكون). فالفيوضات تكون بواسطة رابطة الإمامة. أمَّا رابطة النبوة، فهي من أجل هداية الخلق في الإراءة فقط، وهي الجهة التشريعية.

فتحصَّل ممَّا تقدم:

١ - ضرورة كون الإمام معصوما.

٢ - أن يكون موجوداً في كل زمان.

٣ - أنه يفوق غيره في الفضائل النفسية، سواء المعاشية أم الأخروية.

٤ - أن الإمامة باقية في عقب إبراهيم؛ وهذا يستفاد من نفس سؤاله للَّه تعالى في سورة البقرة، واستجابته تعالى لذلك، وما ورد في سورة الإنعام من الآية ٩٠ - ٨٢: ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ... وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا

____________________

(١) الشورى: ٥١.

٢٨١

وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ... ) حيث الخطاب في الآية لذرِّية إبراهيم واصطفاء اللَّه لهم وهدايتهم، ثُم يقول عزَّ مَن قائل: ( فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) ؛ فالمراد من ( بِهَا ) الإمامة، وهذا يدل على تأبيدها واستمرارها، وأن الخطاب ما زال لإبراهيم وذرِّيته فهم الموكَلون بهداية البشرية.

ويطرح العلاّمة إشكالاَ ويجيب عنه. أمَّا الإشكال، فهو أن الآية تدل على أن مَن يكون نبياً فهو مهتديا، فهذا يدل على أن كل نبي إمام. ويجيب عنه: أنه ممّا لا شك فيه أن النبي يكون مهتديا، لكن ليست لدينا قاعدة أن كل مهتدي فهو هاد هداية إيصالية. نعم، ما دلَّت عليه آية ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ... ) هو أن على الهادي إلى الحق أن يكون مهتديا، فالتلازم من طرف واحد لا من طرفين.

ويضيف العلاّمة في آية سورة الزخرف ٢٨: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ *إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أن اللَّه عزَّ وجل جعل الهداية باقية في عقبه.

نعم، يبقى إثبات أن المراد من الهداية في ( سَيَهْدِينِ ) ؛ حيث إنه كان نبياً ويدعو قومه، فيجب أن تكون تلك الهداية غير ما هو حاصل عنده، وما ذلك إلاّ الهداية الإيصالية والأمرية المجعولة باقية في عقبه.

ويخلص العلاّمة إلى أنه يتضح من آية البقرة سبع مسائل هي أمهات مسائل الإمامة:

١ - أن الإمامة مجعولة.

٢ - أن الإمام يجب أن يكون معصوماً بعصمة إلهية.

٣ - أن الأرض لا تخلو من إمام حق.

٤ - أن الإمام يجب أن يكوم مؤيَّداً من عند اللَّه.

٥ - أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

٢٨٢

٦ - أنه يجب أن يكون عالماً بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معادهم وحياتهم.

٧ - أنه يستحيل أن يوجد مَن يفوقه في فضائل النفس.

وفي كتاب (المقالات التأسيسية) يذكر العلاّمة تعريفاً أوسع للإمامة: أن الإمام هو السائق للنفوس البشرية إلى لقاء اللَّه وإلى المعاد؛ حيث يسوق أعمالهم ونفوسهم إلى اللَّه تعالى، فبه معادهم وحشرهم ونشرهم؛ حيث تشير الروايات المستفيضة إلى ورود الإمام في كافة منازل الآخرة، وقد أشار القرآن إلى ذلك ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فهذه الآية تثبت للرسول - الذي هو حي في عالم الدنيا - بأنه يشهد الأعمال، وهي من سنخ ملكوتي، والمؤمنون هم المعصومون يشهدون الأعمال بمقتضى ( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

ونضيف على ما ذكره العلاّمة: أن رابطة الإمام والرسول بما هو إمام لا تقتصر على عالم الدنيا وما بعده، بل حتى ما قبل عالم الدنيا، حيث بعثه في عالم الذرِّ إلى الآخرين وبقية العوالم السابقة على نشأة الدنيا، وأن الهداية الإرائية مفروضة أيضاً في الإمامة لتقدُّمها على الإيصالية وإن كانت هي في الإمام في طول الهداية الإرائية للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو ما يُعبَّر عنه بالحافظ والمبين للدين عند المتكلمين، وأن الإمامة في المجتمع - الإنسان المجموعي - هي الزعامة السياسية أيضاً مفروضة في حدّ الإمامة.

٢٨٣

٢٨٤

المبحث الثاني:

الأدلة العقلية على ماهية الإمامة الإلهية

وقبل الدخول في البحث، نذكر مقدمة تنفع في المقام:

من المسائل المهمة التي دار البحث عنها في الأمم السابقة هي مسألة اتصال الأرض بالسماء، وهل أن اللَّه بعد أن خلق الخلق تركهم أم استمر اتصاله بهم؟ واتخذت هذه المسألة أشكالاً متعددة؛ ففي عهد اليهود شاعت مقولة ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) بمعنى أن اللَّه عزَّ وجلَّ ترك عالم الخلق يسير كما يشاؤن، ولا يتدخَّل في سيرهم ولا يعيق إرادتهم.

وفي عهد مشركي الجزيرة العربية قالوا بضرورة توسيط آلهة صغار ليتم الاتصال مع الذات المقدَّسة اللامحدودة.

وفي العهد الإسلامي ظهرت مقولة العامة من انقطاع الاتصال بين الأرض والسماء بعد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه لا يمكن أن تتنزل مشيئة إلهية جزئية في الموارد الخاصة، وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق. إن دعوى العامة وإن لم تكن في انقطاع التشريع الإلهي، لكنَّها في انقطاع الإرادة التكوينية المرتبطة بالناموس البشري؛ فتكون هذه العقيدة قريبة المضمون من ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) .

والقران الكريم عالج كل تلك المقولات؛ فبالنسبة لعقيدة اليهود أجابهم بصراحة: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) وأن الإرادة الإلهية لم ينقطع اتصالها

٢٨٥

بالمخلوقين.

كما أن القران قد عالج مشكلة المشركين حيث خطّأهم في نقطتين:

١ - في اعتقادهم أن الرابطة مع الغيب يجب أن تكون ذاتاً مستقلة صغيرة(إله صغير).

٢ - في اختراعهم لتلك الوسيلة والواسطة من عند أنفسهم دون اللَّه تعالى.

وفي نفس الوقت يؤكِّد القران الكريم على عدم انقطاع الاتصال بالغيب المطلق، وأن هناك وسيلة للاتصال بالعوالم العلوية، وهي في حقيقتها محكومة للَّه عزَّ وجل، ولا تكون معبودة، بل العبودية المطلقة للَّه عزَّ وجل.

فهذه الصيغ الثلاث تتضمن نفس المحتوى؛ وهو انقطاع الوحي عن الأرض وعدم الاتصال مع السماء. وأمَّا استمرار الاتصال، فهو عين التوحيد؛ وذلك لأن التوحيد الخالص هو توحيد الذات والصفات والأفعال، بل حتى التوحيد في التشريع حيث لا يكون للإنسان حق التشريع والتقنين، بل اللَّه وحده له هذا الحق الذي بيّنه عن طريق الأنبياء والأئمة.

وأيضاً هناك التوحيد في الولاية؛ أي نتبع اللَّه عزَّ وجل فيمَن نتولَّاه ونستهديه للوصول إلى الكمالات العالية، وهذا هو معنى الإمامة؛ فنفي الإمامة يكون شركاً ونفياً للتوحيد في الطاعة.

ويمكن لنا أن نضم إلى هذه الصيغ الثلاث صيغة رابعة نادى بها أصحاب المدرسة المادية الحديثة التي تدعي أن عالم المادة تحكمه المعادلات المادية والقوانين الخاصة بها؛ حيث إنهم يجعلون مصدر الخلقة والإيجاد هو المادة، ثُم يختلفون في تفسير هذه المادة؛ فيجعل البعض أن المقصود منها: الطاقة والقدرة، ولأجل الأقلمة مع أساس العقيدة يجعلون المادة شاعرة عالمة.

ولكنَّنا - في مقابل الصياغات المتقدمة - نقول: إن ارتباط مراتب الوجود مع

٢٨٦

الذات المقدسة موجود، ودائم غير منقطع حتى في عالم الإنسان الصغير، وهذا الارتباط اختياري لا إجباري، وقد بُرهن عليه في محله.

الدليل الأول: ضرورة الارتباط بالغيب

وخلاصته:

أنه لابد من ارتباط غيب الغيوب، وهو الذات المقدَّسة، بالعوالم النازلة وبالأخص عالم الإنسان الصغير وإراداته وهدايته الإرائية والإيصالية، وهذا التنزُّل - بلا شك - يجب أن يكون عبر قناة وجودية خَلْقية وإلاَّ لاقتضت وجود طفرة، ولابد لهذه القناة من أن تتَّصف بصفتين؛ أحدهما: الارتباط بالغيب، والأخرى: الارتباط بالعالم النازل. وتفصيل ذلك من خلال النقاط التالية:

* أننا أثبتنا فيما سبق وجوب الارتباط وعدم انقطاع الاتصال بين الأرض والسماء.

* أن الاتصال إمَّا أن يكون من خلال ارتباط الذات المقدسة بكل فرد فرد وبكل نفس بشرية، وهذا يعني أن تكون كل النفوس أنبياء ورسل وأئمة، وهذا وإن أمكن ثبوتاً وليس بممتنع على الحق تعالى، لكنَّه على خلاف نظام الخلقة؛ إذ أنه قائم على أن لا يكون الكل كذلك.

* أن الاتصال حينئذٍ يكون عبر أفراد، ولا يخلو أمرهم أن يكونوا إمَّا بشراً أو ملائكة؛ أي أننا اشترطنا أن يكون فيهم جنبة بشرية؛ وذلك لِمَا ذكرنا سابقاً من أن عدم وجود الجنبة البشرية مطلقاً يفقد خيرية الاقتداء والأسوة إذا أنه لا يحقق البعث والتحريك نحو الكمال فهو بشر يراه الناس كأنفسهم‏ن، لكنَّها نفس تعالت عن مزالق الشهوات إلى مراتب الكمال فأصبحت تهدي بأمر ملكوتي، فهو نموذج بشري توفَّرت فيه صفات الكمال. وفي هذا جواب على ما ذكره بعض العرفاء أو

٢٨٧

الصوفية من أن المرتاض في سير وسلوك وارتباط بالأرواح الكلِّية و العوالم العلوية. أمَّا في عالم الشهادة، فإنه يخطئ في تطبيق تلك الروح المرتبطة بعلي‏ عليه‌السلام فيجعل لها مصداقا من آخرين كزيد وعمرو... فهو في حقيقة أمره مرتبط ومذعن بالعوالم النورية، مثل ما قد ينسب إلى بعض عرفاء العامة فيرى أنه وصل في سيره وسلوكه إلى الحقائق العلوية، ولكنَّه أخطأ في التطبيق في هذه النشأة.

وقد ذكرنا أن هذا الارتباط غير نافع أيضاً؛ وذلك لأن الحقيقة الإنسانية هي أشرف صور المخلوقات الإلهية ومنها يبدأ السير التكاملي والاتصال بالغيب، فيجب أن لا يكون دونها كمالاً، وهذا - مع ما ذكرناه سابقاً - يقتضي أن يكون الهادي والرابط بين الأرض والسماء له جنبة بشرية.

* نعم، يبقى الجواب عن إشكال قد يطرأ على ذهن البعض؛ وهو أن الاتصال بالغيب يكفي فيه النبوة فما الحاجة للائمة، وبتعبير آخر: ما الحاجة إلى الهداية الإيصالية مع وجود الهداية الإرائية؟

وفي مقام الجواب نشير إلى أن الروايات قد استفاضت أو تواترت على أن للأئمة جنبة تشريعية للأحكام، لا بمعنى الإتيان بأصل الشريعة، بل هي هداية تشريعية متمِّمة للنبوة والرسالة. وبيان ذلك من خلال مقدمات:

ـ من المبادئ الأساسية التي تحكم التشريعات والتقنينات على مدى العصور هو مبدأ تدرج القوانين؛ وهو يعني أن القانون يبدأ من قواعد كلية وعمومات فوقانية، ثُم تتدرج إلى قوانين متوسطة حتى تصل إلى القوانين الجزئية التي تُطبَّق على الظواهر الفردية والاجتماعية، وهذا النحو هو الحاكم على التقنينات الوضعية؛ فترى الدستور، ثُم القوانين الصادرة من المجالس النيابية، ثُم القوانين الصادرة من السلطة التنفيذية. وقد أشرنا في بحوث الأصول إلى تماثل الاعتبار الشرعي مع الاعتبار الوضعي على أساس اتحاد لغة التقنين والتشريع.

٢٨٨

ـ أن تنزل القوانين العامة والقواعد الكلية إلى المصاديق يحتاج إلى مراقبة؛ وذلك لمنع حصول الاختلاط والتدافع والتصادم في التطبيق.

ـ أن السنة الجارية في عالم الخلقة هي محدودية أعمار الأنبياء والرسل، ولذا فهم يكتفون بذكر الكليات والقوانين العامة ولا يستوفون تنزيلها وتطبيقها على كل الدرجات و الموارد الجزئية؛ إذ أن محدودية أعمارهم تمنع من مراقبة كل الدرجات و الجزئيات الحاصلة بعد حياتهم الشريفة.

ـ أن سلامة الشريعة وصوابية التقنين تقتضي استمرار المراقبة في تطبيق تلك القواعد العامة والقوانين الكلية، خصوصاً في القواعد الإلهية التي ترعى المصالح والمفاسد الواقعية التي تخفى على الأذهان العادية، فلابد من استمرار بيان المتوسطات والتطبيقات، خصوصاً إذا قلنا: إن الأحكام الشرعية هي إرادات إلهية صادرة من جانب الذات المقدسة في الوقائع الجزئية والفردية والمجموعية.

ـ أن البشر العادي المنقطع عن الغيب ليس له أن يتوصَّل إلى بيان مؤدى النقطة السابقة؛ وذلك لاحتياجها إلى عصمة علمية.

والنتيجة: أنه لا بد من وجود فرد له عصمة علمية مضافاً إلى العصمة العملية والكمالات النفسانية العالية، وهذا الفرد الذي يكمل مسيرة الأنبياء التشريعية هو الإمام.

ولا يخفى على كل ذي لبٍّ ما نشاهده في حياتنا العملية من حال التشريعات الوضعية والمراقبة المستمرة على كيفية تطبيق التشريعات الدستورية وعدم مضادتها لها، ومع ذلك توجد موارد عديدة للنقض والخطأ، وبين كل فترة وأخرى تحصل الاستدراكات والملاحق لغرض تفادي الأخطاء والنقص. وفي القانون الإلهي وإن كان لا يقاس بالقانون الوضعي البشري إلاّ أنه لا بد من وجود المعصوم عصمة علمية يقوم ببيان تلك المتوسطات؛ وبذلك يؤمَن عن الوقوع في الخطأ

٢٨٩

والزلل في التطبيق أو التنزيل المسمَّى في اصطلاح الوحي بـ: التأويل. ومجرد احتواء الكتاب على تلك التشريعات العامة لا يدفع الخطأ في مجال التنزيل أو التفريع؛ فكم نرى في عملية الاجتهاد أثناء استنباط الأحكام الشرعية من أخطاء وغفلات؟! (١)

وبهذا يندفع الإشكال من أنه لا حاجة إلى افتراض العصمة العلمية بواسطة وجود كتاب يروونه عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيعتبرون لكونهم رواة عدولاً، ولا حاجة إلى العصمة حينئذ.

ووجه الاندفاع: أنه مهما بلغت درجته العلمية فإنه لا يؤمَن من الوقوع في الخطأ في بيان القوانين المتوسطة وتطبيقها على الجزئيات، فلا بد من الاتصال بالغيب.

وبناء على ما مضى يتبين ضرورة إبراز جنبة الهداية الإرائية في الأئمة مضافاً إلى الهداية الإيصالية، وعدم الاكتفاء بالأخيرة فقط كما ذهب إليه السيد العلاّمة في الميزان.

* وقد يثار إشكال آخر: أنه ما المانع من عدم وجود أئمة معصومين عملاً، فكل ما نحتاجه هو عصمة نسبية عملية كالعدالة، وعصمة نسبية علمية كالفقاهة، فنكتفي بهما عن العصمة الشاملة بمعنى المقام الغيبي والملكوتي؟

ويوجد في المقام جوابان:

الأول: أن هذا الإشكال قد حصل فيه تغافل عما ذكرناه في بداية البحث من أن الأنبياء والرسل، وبمقتضى محدودية أعمارهم البشرية، لا يوضحوا كل شي‏ء ولا يبيِّنوا كل القوانين الجزئية والمتوسطات، فمن أين للفقيه أن يعلم بقية المتوسطات مع عدم كونه متَّصلاً بالغيب؛ إذ المتوسطات ليست مجرد تطبيقات للكليات، بل هي

____________________

(١) حتى عرف مسلك فقهاء الإمامية بمسلك التخطئة دون التصويب.

٢٩٠

نوع من الإنشاء التشريعي من نفس المشرع الأول. وبتعبير آخر: أن الأنبياء نحو إراءتهم كانت إراءة

إجمالية، فلابد من الإراءة التفصيلية واستمرارها عن طريق الأئمة بأن تكون متصلة بالغيب معصومة من الوقوع في الخطأ.

الثاني: أن بيان الإمام وفهمه للحكم الشرعي لا يكون كفهم الفقيه، بل هو بيان بعلم الغيب والتسديد الإلهي المصيب للحق دوماً. فإراءة الإمام للأحكام الشرعية ليست شريعة جديدة، بل بيان لتلك الشريعة الإجمالية الكلية المتنزلة عبر القناة الغيبية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن نلاحظ في مقام الإمامة والنبوة نقاط التقاء وافتراق، وأفضلية جانب على آخر؛ فكلاهما حلقة اتصال بالغيب، وكلاهما حجة اللَّه على الخلق وسفارة إلهية إلاّ أن وظيفة كل منهما تختلف عن الآخر؛ فالنبوة فضيلة في نفسها والإمامة فضيلة في نفسها، ورأينا في تفسير آية البقرة كيفية استحقاق إبراهيم للإمامة، وأنه كان عبر تلك الابتلاءات المختلفة والشديدة.

فالنبوة لها فضل والإمامة تفصيل لتشريع النبوة، ويبقى للإمامة الهداية الإيصالية بخلاف النبوة التي تقتصر على الهداية الإرائية، وبعض الأنبياء هم أئمة أيضاً. أمَّا الأئمة، فليسوا بأنبياء، وتفضيل بعضهم على بعض ثابت بالنصوص القرآنية والروائية، وقد تبيَّن أيضاً كيف أن النبوة لا تقوم مقام الإمامة وأنها تكتمل بها.

وهاهنا تساؤل آخر؛ وحاصله: لماذا لا يُكتفى بالإمامة عن النبوة؛ فإنها جامعة للهداية الإيصالية والإرائية؟!

والجواب عن ذلك:

١ - أن المفروض أن الهداية الإيصالية ليست إلجائية، بل اختيارية.

٢ - أن المكلَّف في اختياره لأي سيرة في حياته يجب أن يكون طبقاً لعلم؛ لكي يؤمِّن جانب الاختيار والكمال في المسير الإنساني. فلابد أن يكون الانسان على

٢٩١

علم بالطريق والغاية والهدف من هذا المسير، وهذا الجانب العلمي لا يؤمَّن إلاّ بالهداية الإرائية، فعلمه وانتقاؤه طبقاً لهداية النبي هو قوام الاختيار.

وبعد حصول ذلك العلم لدى المكلَّف يأتي دور الهداية الإيصالية والتسبُّب الملكوتي الذي يرى أن أرضية المكلَّف مخيَّرة ومهيَّأة لتقبُّل الكمال، ويستطيع المكلف الاختيار ويتبع إمام الهدى ويفضِّله على اتباع إمام الضلال.

فتظهر أهمية العلم بالشريعة الذي يبينه النبي، ثُم يأتي دور الإمام بعد أن يختاره المكلف، فتكون هدايته اختيارية لا إلجاء فيها ولا جبر، وخصوصاً أن السير التكاملي لا يؤدي هدفه إلاّ اختيارياً، وإذا كان جبرياً، فلا كمال فيه.

وعليه فمِن تمام عناية اللَّه ولطفه بالإنسان أن يهيَّئ له الأسباب المعدَّة للكمال، ونظير هذا حقيقة الإنسان الصغير حيث إن العقل العملي لا يغني عن العقل النظري؛ فحكمة وجوده هو نوع إعداد وتهيئة أرضية لانجذاب الإنسان إلى نزعات العقل العملي وذلك بما يحصل عليه من علوم حصولية (١) .

تقييم الدليل الأول:

ما يلاحظ على هذا الدليل هو تركيزه على حيثية الهداية الإرائية في الإمام، ولا يقوم بإثبات المقام الغيبي للإمام بما هو هادٍ هداية إيصالية، وهذا الدليل هو الذي اعتمده عامة المفسِّرين من الإمامية طيلة قرون عديدة، ولكنَّهم عند ذكره لم يتطرَّقوا إلى المقام الغيبي للإمام الذي يمكن التعمُّق فيه من خلال نفس المقدمات

____________________

(١) ومن هنا يتبيَّن أنه من دون حصول التولِّي للأئمة لا يمكن أن ينشدَّ الإنسان للكمال، ولا تنفع كلمة العرفاء من كفاية السير والمجاهدة الباطنية وإن أخطأ في مصداقه في عالم الشهادة؛ وما ذلك إلاّ لأن الهداية الإرائية لا يمكن أن تتم إلاّ بالإمام في عالم الدنيا حيث إن الأحكام الشرعية هي طريق الكمال، فإذا أخطأ في الإمام في هذه النشأة، فسوف تكون تشريعاته في حيز الوقوع في الزلل والخطأ، فكيف يمكن السير في طريق الكمال والهداية الإيصالية من دون الهداية الإرائية متعذرة؟!

٢٩٢

المذكورة.

الصياغة الثانية لنفس الدليل:

في بداية هذا الفصل بيّـنَّا الجهاز العلمي والإدراكي في الإنسان الصغير، وذكرنا أنه توجد مدارج إدراكية ثلاثة:

ـ المراتب الروحية(الأخفى والخفي والسر والقلب).

ـ المراتب الإدراكية(العقل والوهم والخيال والحس).

ـ المراتب العملية(العقل العملي والقوى الشهوية والقوى الغضبية والاختيار).

وذكرنا أن تنزُّل العلوم البشرية دليل على وجود العالم العيني وعالم ما وراء المادة؛ حيث إن العلم ليس بمادي وليس له عوارض المادة. وقد ثبت في محلِّه أن التجربة و الاستقراء لا يفيدان العلم؛ وذلك لأن الجزئي لا كاسب ولا مكتسب، بل العلم يفاض من العالم الغيبي. وفي تنزُّل العلوم تدرُّج في تلك المراتب حتى يصل إلى عالم الخارج.

وقد أشرنا إلى أن البديهيات توفِّر عصمة نسبية لدى الانسان؛ ولهذا أطلق على العقل الرسول الباطن. وأن هذه البديهيات لا تكون بديهية لدى العقل النظري إلاّ بعد ارتباطها بعلوم حضورية؛ وذلك لأن العلوم الحصولية - وهي الصور الذهنية - تظل قابلة للانطباق على كثيرين، وطبيعتها أنه يظل فيها الاحتمال والإمكان، فهي لا تولِّد اليقين ولا الضرورة؛ أي ضرورة الوقوع والوجود. أمَّا الدرك العياني الحضوري، فليس محلاً للاحتمال والزلل؛ لذلك يجب أن تستند الإدراكات الحصولية إلى إدراكات حضورية حتى تكون يقينية صحيحة.

وعلى كل حال... فهذه القنوات الإنسانية ليست بمأمونة من الخطأ باعتبار تجاذب النزعات الشيطانية؛ باعتبار أن الجن والشيطان ذو وجود خفي لطيف، حيث بإمكانه أن يرتبط بالإنسان عبر مدارج وجوده لا سيما الإدراكية النازلة، وهو ما يُعبَّر عنه في

٢٩٣

الروايات أنه يجري في البدن (مجرى الدم في العروق). فللشيطان منافذ يستطيع أن ينفذ من خلالها في الإنسان.

ونضيف هنا أنه كيف يمكن أن تتنزل الإرادات والمشيئات الربانية من دون اشتباه والتباس وخطأ؟ والجواب: أن هذا غير ممكن إلاّ لمَن أهّله اللَّه بمدارج روحانية وإدراكية بأن لا يستطيع الشيطان النفوذ إليها، وهو ما تشير إليه الآية قاصدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ ) ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) فما دام الاتصال بالغيب موجوداً في كل الأزمنة، وأن عالم الشهادة قائم على وجود هذا الاتصال، وأن يد اللَّه مبسوطة، فهذا يدل على ضرورة وجود قناة معصومة تتنزل عن طريقها المشيئات الإلهية.

وبعبارة أخرى: أن الإرادة والمشيئة الإلهية يجب أن تبرز إلى عامة البشر المختارين حتى يستعلموا مواطن مشيئة وإرادة اللَّه حتى في الموارد الجزئية، سواء الجزئي الإضافي أم الحقيقي، وهذه الإرادات لا يمكن أن تتنزل إلاّ عِبر مَن كانت له عصمة عملية وعلمية، أي يكون على صعيد المدارج الإدراكية النازلة وعلى المدارج الإدراكية الروحية الفوقانية. وبتعبير جامع: له مقام غيبي، فلا تنازعه قوى الغضب ولا الشهوة والخيال ولا الوهم: ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) (١) ، فالشيطان يدعو ويغري الإدراك، فالذي تكون إرادته ومشيئته مظهراً لإرادة اللَّه يجب أن يكون مأموناً من نفوذ الشيطان إلى إدراكاته.

تقييم الصياغة الثانية للدليل:

هذه الصياغة توضح كثيراً من الروايات نحو (نحن تراجمة أمر اللَّه... ) (وجعلهم تراجمة مشيئته وألسن إرادته... ). وفي هذه الصياغة ترميم للنقص في تعريف الإمامة لدى

____________________

(١) الشعراء: ٢٢٢.

٢٩٤

العلاّمة الطباطبائي؛ حيث إنه قد ركَّز على أن للإمام مقاماً ملكوتياً يوجب بمقتضاه التصرُّف في النفوس والسير بها من منزل إلى منزل معنوي أعلى، وما ذكرناه يركِّز على الهداية الإرائية للمعصوم.

فالدليل الأول بصياغتيه يقوم بمهمة البرهنة على جانب الهداية الإرائية في الإمام.

الدليل الثاني: الفطرة

وهو المعروف بالدليل الفطري، وقد ورد في عدة روايات، وإجماله:

أن كل فطرة بشرية تجد في أعماقها انجذاباً فطرياً نحو الكامل علماً وعملاً، وهذا الانجذاب هو الباعث والمحرك للإنسان لأن يتكامل، وهذا دال على وجود مَن هو كامل علماً وعملاً.

تفصيل الدليل: من خلال بيان عدة مقدمات:

المقدمة الأولى:

إن مدارس المعارف البشرية تتَّفق على وجود الأمور البديهية والفطرية لدى الانسان، ويعرفون القضية البديهية بأنها القضية التي يضطر الإنسان إلى الإذعان بها بالضرورة من دون حاجة إلى إعمال الفكر، بل مجرد الرجوع إلى النفس ورفع الموانع يجد نفسه مُصدِّقاً بها.

ونلاحظ أن هذا التعريف للبديهة ينطبق على الأمور التي فُطر عليها الإنسان، فإذا افترض أمر اشتركت البشرية فيه، فإنه يعلم أنه من الأمور الفطرية. ومن أدلة التوحيد دليل الفطرة، وهو من براهين الصديقين، حيث يقولون: إن انجذاب الفطرة البشرية نحو الكمال اللاّمحدود، دليل على وجود اللاّمحدود؛ وذلك لأنه لا يعقل أن تشترك البشرية بالإيمان بأمر ما وتكون خاطئة به، وإلاّ لزم السفسطة؛ لأنه لو تبين

٢٩٥

خطؤها فهذا يعني عدم وجود حقيقة يمكن أن يرتكز عليها الإنسان في علومه، إذ أن السفسطة تعني احتمال الخطأ في كل علم تذعن به النفس، فالعلوم التي تكون على وزان الأمور الفطرية والبديهية والتي يشترك بها عامة البشرية لا يمكن أن تكون خاطئة.

المقدمة الثانية:

إن الإنسان في حين انجذابه إلى اللامحدود يقر في نفسه أنه لا يستطيع أن يكون لا محدوداً؛ لأن قدرته وإمكاناته كلها محدودة. فحتى لا يصاب باليأس وعدم الأمل والرجاء يجب أن يسعى لتحصيل الكمالات العلمية والعملية بالمقدار الممكن على حسب قدرته ووسعه، وهذا أحد وجوه تفسير ما يعبَّر عنه في بعض الروايات (آهٍ من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر) فهذا السفر لا نهاية له لأن المقصود لا محدود ولا متناه.

المقدمة الثالثة:

إن من مسبِّبات الانجذاب إلى الكامل اللامحدود الانجذاب إلى الكامل من بني الإنسان، فنجد الناس ينجذبون إليه، وهذا ما يثبته علماء الاجتماع حيث يذكرون أن من أعرق الأساطير في تاريخ البشرية هي أسطورة البطل، ولا يكاد يخلو مجتمع ومِلَّة منها، حيث يصوِّرون البطل الشجاع والهمام المتحلِّي بمحاسن الأخلاق، ونرى الناس يندفعون إلى التشبُّه به في كافة جوانبه؛ وذلك للاعتقاد أن كمالاته من اللامحدود.

المقدمة الرابعة:

إن من كمالات الإنسان الارتباط باللامحدود علماً وقدرة و هيمنة على كل عالم الخلقة أو مَن تكون له السيطرة على كل شي‏ء، وهذا لا يعني الإحاطة المطلقة بالعزل عن الذات المقدسة وإلاّ لم يكن ذلك كمالاً، ونفس وجود هذا الأمر و النزع

٢٩٦

الفطري دال على عدم امتناعه.

والنتيجة: أنه لا بد من وجود مثل هذا الكامل لامتناع السفسطة وثبوت ذلك بالفطرة.

الصياغة الثانية للدليل الثاني:

وهي تنطلق من نفس ما انطلقت منه الأولى: إن الإنسان ينجذب نحو الكمال اللامحدود.

المقدمة الثانية:

إن الحركة نحو أية غاية كمالية يشترط فيها أمران ذكرناهما فيما سبق: كون الهدف ممكناً وليس بممتنع ولا محال، وأن يكون الكمال المطلوب غير حاصل للإنسان فعلا.

المقدمة الثالثة:

إن الكمالات المطلقة للذات المقدسة لا يحدَّها حد، والإنسان يعلم من نفسه أنه لا يمكن أن ينقلب إلى اللامحدود، فحتى تكون تلك الكمالات ممكنة يجب أن تتنزل إلى الحظيرة الإنسانية حتى يتصوَّرها الإنسان ممكنة التحصيل مع بقاء تلك الكمالات المتنزلة غير حاصلة لديه.

وينتج من ذلك أن الارتباط بالذات المقدسة يجب أن يكون بواسطة رابطة من الحقيقة البشرية، وقد ذكرنا سابقاً أن المقتدى يجب أن يتحلى بالصفتين الغيبية والبشرية، وقد أشار القران إلى هذه الحقيقة ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ) (١) ، فهذه الآية تؤكِّد ذات الحقيقة؛ ولذا يعيش الإنسان الحالة الوسطى ما بين الخوف والرجاء، فالارتباط مع الذات المقدسة يكون بواسطة

____________________

(١) الأنعام: ٩.

٢٩٧

المعصوم، وإذا لم نفترض ذلك، فإنه يعني انقطاع الاتصال مع الخالق جلَّ وعلا.

والخلاصة: أن الموجِب لحفظ الخوف والرجاء حسب التعبير الشرعي، والموجب لضمان دوام الحركة حسب التعبير الفلسفي، والموجب للإيمان بالغيب حسب تعبير الروايات (ونعني بالإيمان بالغيب الاعتقاد بغيب الكمال اللامحدود والانجذاب إليه فتتحكم إرادات الغيب في التكامل بنحو غير منقطع) لا يتحقَّق إلاّ بوجود الرابطة، فمآل مَن لم يؤمن بالرابطة أنه لا ينجذب ولا يؤمن بالذات المقدسة، ومعنى الإيمان بها هو الإيمان باللَّه تعالى.

وضرورة الارتباط باللَّه عزَّ وجلَّ عن طريق الواسطة يؤمن به العامة أيضاً باضطرارهم الفطري، إلاّ أنهم في تطبيق مَن يلبسونه لباس العصمة يشتبهون في التطبيق، وهذا هو عين الانحراف والضلال؛ مثلاً يلبسون الصحابي - أو بعضهم - ثوب العصمة والكمال العلمي والعملي، وهذا واضح من خلال ما ينقلونه من فضائل للأول والثاني والعشرة المبشَّرة بالجنة كما يدَّعون. ونحن نستشهد بذلك على أنه في واقعه استجابة لنداء الفطرة الذي قد أشرنا إليه في بداية الدليل، وإقرار بمسلك الإمامية ومعتقد الإمامة العهدية الإلهية، و لأجل ذلك نلاحظ إطلاق الروايات على الأول والثاني الجبت والطاغوت؛ لأنهما في قبال العبودية والمخلوقية، فالجبت مأخوذ من الجب، وهو الطم أو القطع؛ أي السد العام لطريق الحق وسلوك الكمال، والطاغوت من الطغيان والتمرد في الذات على ما توجبه حقيقة الفطرة البشرية بأن يكون عبداً للعيش ويدرك حالة الفقر في حقيقته لربه، فيتمرد ويعتد بذاته مستقلة ومستغنية عن المدد الرباني.

ولذلك فبوابة التوحيد هو الإمام، وهو السبيل إلى الإيمان الخالص باللَّه، وفي الرواية عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا علي، من قصد اللَّه و لم يقصدني، فلم يقصد اللَّه، و من قصدني ولم يقصدك، فلم يقصدني). إذن فالواسطة والرابط يجب أن يكون من الكمال

٢٩٨

العلمي والعملي بمكان حتى يتحرك الإنسان وينبعث انبعاثاً صحيحاً سليماً نحو الكمال المطلق والذات الأزلية، وواضح من الحديث أن الهداية النبوية هي هداية إرائية إجمالية بحاجة إلى هداية تفصيلية يقوم بها الإمام.

فالإمام مظهر عقلي أتم للخوف والرجاء الذي يجب أن يتحلّى به الإنسان ليتكامل وليكون مرتبطاً بالذات المقدسة.

وهاهنا إشكال: أن هذه الصياغة تثبت كيفية الارتباط بين أفراد البشر والذات المقدسة وذلك عبر المعصوم الذي يتوفِّر فيه الشرطان اللذان يدفعان الإنسان نحو الحركة، لكن كيف هو الارتباط بين المعصوم، وهو بشر، مع الذات المقدسة؛ حيث يعلم أن كمالات الذات المقدسة أزلية أبدية لا يمكن تحصيلها، فكيف يحصل الاقتداء والسير التكاملي بالنسبة إلى نفس المعصوم؟

والجواب: لقد ذكرنا في المراتب الوجودية أن النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أفضل الأئمة والمعصومين فهو يمثِّل الرابطة بينهم وبين الذات المقدَّسة، ويكونون في حالة استسعاء تام لتحصيل كمالات الحقيقة المحمدية، وهذا ما تفيده الروايات والآيات، وارتباط النبي الخاتم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالذات المقدسة تكون مسألة من مختصات النبوة، ولكن نشير إليها بنحو الإجمال، حيث إنه عليه (الصلاة والسلام) أول ممكن في الوجود، فهو يعلم أن ما في الذات الأزلية غير منقطع الفيض عنه، والكمالات كلها تتجلى أو تتنزل تدريجياً شيئاً فشيئاً، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تكامل دائم.

الصياغة الثالثة للدليل الثاني :

تعتمد على مقدمة نقلية ذكرناها فيما سبق، حاصلها: أن لفظ الأمة أطلق في اللغة على المجموع البشري السائر نحو هدف، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بوجود هادٍ مطلعٍ وعالمٍ بالهدف يقود الأمة في هذا المسير التكاملي، ولا يمكن أن ينال هذا الدور أحد إلاّ إذا توفرت لديه العصمة العلمية والعملية حتى يمكن الوثوق بهدايته

٢٩٩

فيتبعه الآخرون. فماهية الأمة يستحيل أن تتخلف عن وجود الإمام فيها.

يبقى إشكال على هذه الصياغة: بأن القران الكريم أطلق الأمة على عدد آخر من الأمم، بل بعضها منحرف وتَتْبَع إمام الضلال؟

والجواب: أن القرآن أطلق على هذه الأمة أنها الملة الحقة والأمة الحقة، وهي التي لديها هدف حقيقي يوصل إلى الكمال الواقعي. أمَّا الأمم الأخرى، فإطلاق الأمة عليها لا يكون بلحاظ قصد الكمال الحق، فهم لا يؤمّون إليه؛ لأن سيرها لا ينتهي إلى الكمال المطلق.

تقييم الدليل الثاني:

أن هذا الدليل يثبت ما ذكره العلامة الطباطبائي من جنبة الهداية الإيصالية في مقام الإمامة وفيها جنبة الهداية الإرائية، وهو ما ذكرناه من الإشكال والجواب ومدى الحاجة إلى الهداية التفصيلية ليحصل الاطمئنان في اتباع هذا الهادي.

الدليل الثالث: برهان الغاية

وله عدة مقدمات:

١ - أن كل انسان عندما يتكامل لا بد أن يجعل له غاية يريد الوصول إليها وهذا أمر ثابت في جميع مدارس المعارف البشرية القديمة والحديثة.

٢ - أن الموحدين يجعلون هدفهم هو اللَّه عزَّ وجل؛ أي التخلٌّق بأخلاق اللَّه.

٣ - ثبت لدى أصحاب المعارف أن الفطرة لا يستحثها الكمال فقط، بل ما يدفعها نحو السعي هو خوف الضرر والهلاك أيضاً، وعليه فالإيمان بالتوحيد والنبوة يوفِّر الجانب الأول وهو كونه غاية وهدف. أمَّا الجانب الآخر، فيوفره الإيمان بالمعاد والعقاب الأخروي، وأن الإنسان لا يعيش عالم الدنيا فقط، وإنما يوجد هناك عوالم أخرى يحياها الإنسان، وهذه الرابطة بين المعاد والتوحيد يقرُّها كثير من علماء

٣٠٠

النفس والاجتماع.

4 - أن الكمالات التي يسعى الإنسان إلى تحصيلها لا تقتصر على كمالات عالم الدنيا، بل هي كمالات في عوالم لاحقة لهذه الدنيا؛ فهناك عوالم آتية فيها كمالات و دركات ومفاسد، وأعمال الإنسان في هذه الدنيا تهيئ الأرضية لنيل المكانة في تلك العوالم وهذا هو معنى المعاد.

فالنتيجة: أن هذا السير يقتضي وجود الهادي والمعصوم الذي يسير بالأمة نحو المعاد الحقيقي وإحراز الكمالات العالية في العوالم اللاحقة، وهذه المقدمات تثبت ضرورة تحلِّي الإمام الهادي بـ:

أ - الهداية الإيصالية، وأن يكون له تصرُّف في النفوس تصرفاُ غير إلجائي؛ أي تتكامل النفوس باختيار الإنسان.

ب - الهداية الإرائية التفصيلية.

ج - الزعامة الاعتبارية في الإنسان المجموعي، وهو المجتمع.

فهذا الدليل يثبت ضرورة الإمامة حسب تعريف العلاّمة مع التكملة التي أضفناها.

كذلك يبيِّن الدليل الارتباط بين المعاد ومعرفة الإمام، ومن هنا نفهم قوله تعالى: ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) . فالدعوة والحشر والمعاد يكون بتوسُّط الإمام؛ لأنه هو الهادي لهم نحو الكمالات التي تظهر في العوالم اللاحقة، والآثار التي تظهر في المعاد إنما هي بتوسط الإمام حيث يكون مرتبطاً بالغيب، ويعلم بلوازم الأفعال الدنيوية وحقائقها وما يضر وما ينفع.

ومن الأدلة النقلية التي تؤيد هذا الدليل، وما هو دور الإمام في المعاد،

٣٠١

قوله تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (1) ، وهذه الآية سوف نفرد لها بحثاً مستقلاً في المقام الثالث، إلاّ أنّا نريد أن نشير إلى أن الآية تنص على أن المؤمنين - وهم الأئمة كما في العديد من الروايات - يشاهدون حقائق أعمال العباد في الدنيا، وهذا الاطلاع اطلاع ملكوتي.

وفي روايات أخرى تشير إلى أن الأعمال إذا أُريد أن تصعد إلى السماء والعرش، فإن الصاعد بها هو الإمام، وروايات تشير إلى أن دور الإمام يكون عند قبض الروح وفي البرزخ وعقبات الانتقال من عالم إلى عالم، وروايات تشير إلى أن الإمام يُنصب له عمود من نور على كل مدينة فيطَّلع على أعمال العباد.

وفي تفسير ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ ) (2) يشير العلاّمة إلى أنه على الأعراف رجال مشرِفون على الناس من الأولين والآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم (3) .

تقييم الدليل الثالث:

إن هذا الدليل يثبت مقام الهداية الإيصالية والإرائية والزعامة والرئاسة التي ذكرها المتكلمون.

الدليل الرابع: معرفة النفس

ويعتمد على مقدمات:

1 - أنه من الثابت روائياً وعقلياً أن معرفة النفس من أشرف الطرق للمعرفة الربوبية؛ وذلك لأنه طريق برهاني يؤول إلى العيان الحضوري بناء على (مَن عرف

____________________

(1) التوبة 9: 105.

(2) الأعراف: 46.

(3) الميزان 8: 132.

٣٠٢

نفسه فقد عرف ربه) (أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه).

2 - قد بيَّنَّا في زاوية التعريف العقلي لـ (ما الحقيقية) شئون النفس والرسول الباطن ودور العقل العملي والقلب، وأشرنا إلى صفات عشر لدور العقل العملي وآثار القلب وسائر القوى.

3 - بمقتضى المطابقة بين الإنسان الصغير والكبير، وأن المقصود من معرفة الرب ليس معرفة الذات الأزلية، بل معرفة أفعال الذات وعالم الخلقة الذي هو عالم ربوبية الباري للخلق، والرب هو عنوان من الصفات الفعلية للباري عزَّ وجل، بل وبمقتضى المطابقة بين الإنسان الكبير والمجموعي؛ أي المجتمع، وهو وأن كان اعتبارياً إلاّ أن هذا الاعتبار ليس ناشئاً من لا شي‏ء، بل الاعتبار - كما أشرنا إليه - يقتنص وينتزع من التكوين، وقد مثلنا أن قوى الإنسان الصغير كلها تتمثَّل في المجتمع؛ فالجيش يمثِّل القوة الغضبية، ووزارات الترفيه تمثِّل القوة الشهوية، والقوى المقنِّنة تمثِّل العقل النظري، والقوة القضائية تمثِّل الوجدان والضمير وحسب تعبير القرآن: ( النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) ؛ فهذه هي المطابقة بين الإنسان الكبير والصغير والمجموعي.

وبمقتضى هذه المقدمات إذا كان في الإنسان الصغير توجد إمامة ذات هداية إيصالية إرائية، فنستكشف وجود ذلك في الإنسان الكبير والمجموعي، وهو دور الإمامة في المجتمع، وما ذكرنا في كيفية تصرف العقل العملي في بقية القوى ينطبق على الإمام في الإنسان المجموعي.

الدليل الخامس: برهان العناية

وهو برهان العناية، وقد تعرَّضنا له في الفصل الأول إلاّ أنّا نعيده هنا ملخَّصاً:

وهو علم الباري بالنظام الوجودي الأحسن، وعلى أكمل ما يكون عليه، وهذا

٣٠٣

العلم مستلزم لإفاضة الوجود الإمكاني الخَلقي على أحسن ما يمكن أن يكون عليه ولو بنحو الترتيب أو التدريج في العوالم كي تستقصي كل الكمالات في عالم الإمكان (وهذا التعريف مأخوذ من مدرسة الإشراق والحكمة المتعالية).

وقد أشرنا إلى أن قاعدة العناية الفلسفية هي بعينها قاعدة اللطف لدى المتكلمين؛ حيث إن الأخيرة تعني أن كل فعل موجب لقرب المكلَّف من كماله المنشود، فإن الباري يحسن ويلطف تهيئته وإيجاده ويقبح عدم إيجاده، فمن حيث اللب القاعدتان تعبِّران عن مفهوم واحد وأمر واحد، إلاّ أن الفلاسفة في منهجهم يعتمدون على العقل النظري في إثبات القاعدة. أمَّا المتكلمون، فيعتمدون على العقل العملي في إثبات القاعدة.

* أن أعلام الإمامية، واستناداً إلى الروايات المختلفة، ذهبوا إلى أن موقع الإمام في الإنسان المجموعي (موقع الرئاسة والزعامة) هو لطف؛ فلذا يحسن عن اللَّه نصبه وتعيينه. واللطف هو أكمل ما يمكن أن يكون عليه الوجود، فإذا كان أكمل ما يمكن أن يكون عليه الإنسان المجموعي هو بوجود الإمام، فبمقتضى قاعدة العناية يجب عن الحق تعالى إيجاده.

* أن الحفظ للدين و تدبير الدنيا يستلزمان أن تتوفَّر في الإمام الهداية الإيصالية والإرائية التفصيلية؛ وذلك أن الإمام لا يكون حافظاً للدين إلاّ إذا أمّنت جنبة المقام الغيبي، ويكون على اتصال بالغيب، فلا تصدر منه زلة علمية في تبيان مدارج الأحكام الشرعية، وأيضاً لأن الغاية هو تكامل الأفراد إلى الكمالات المنشودة، وهو نوع من الهداية الإيصالية.

تقييم الدليل الخامس:

إن المتكلمين اقتصروا في إثبات الإمامة في الإنسان المجموعي على قاعدة اللطف، ولم يتناولوا جانب الهداية الإيصالية مع أنها لطف أيضاً، وقد قمنا بتوسعة

٣٠٤

الدليل ليشمل هذا الجانب أيضاً؛ حيث إن العناية صفة من صفات الباري وأنه لطيف خبير ( إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) .

ملاحظة عامة:

إلى هنا نلاحظ الارتباط بين الإمامة وبقية أصول الدين؛ ففي الدليل الأول بيَّنَّا كيف الارتباط بين الإمامة والنبوة، وفي الدليل الثاني بيَّنَّا الارتباط بين الإمامة وفطرة التوحيد، وأن بوابة التوحيد هو الإمامة، وفي الدليل الثالث بيَّنَّا الارتباط بين الإمامة والمعاد ودور الإمام في عوالم ما بعد نشأة الدنيا، وفي الدليل الرابع انتقلنا من معرفة النفس إلى الإمامة، وفي الدليل الخامس ننتقل من صفات الباري وإنها تستلزم الإمامة.

وبتعبير آخر: أن هذه الأدلة ليست أدلة خطابية، بل هي برهانية عرفانية في آن واحد؛ أي أن إدراكها يحتاج إلى مقدمات فكرية من المعاني الحصولية، وإلى ذائقة قلبية كي يدرك كنه تلك الأدلة الخمسة؛ ففيها مطالب علمية ممتزجة من العلم الحصولي والعلم الحضوري، والنكتة التي أردنا الإشارة إليها أن هذه الأدلة الخمسة اللمية تدلِّل على أن أصول الدين تقود إلى الإمامة.

الدليل السادس: الأدلة الإنْيَّة

وهو من الأدلة الإنْيَّة التي اعتمدها المتكلمون والتي تنطلق من احتياج الكل إليه وغناؤه عن الكل دليل على إمامته، وعبَّر البعض عنه: أنه اجتمعت فيهم من الفضائل كلها، فهم أحق بالأمر بحكم العقل العملي، وبتعبير ثالث: أنهم‏ عليهم‌السلام ‏المشار إليهم بأشخاصهم وأسمائهم بحسب الجرد التاريخي، وباعتراف كل الفِرق والمِلل قد فاقوا نوابغ كل صفة في كمال تلك الصفة.

٣٠٥

تفصيل ذلك:

* أن التاريخ يذكر أنهم قد وضعوا الحلول الناجعة لكثير من المعضلات الفكرية التي ابتليت بها الأمة الإسلامية؛ كما في إشكالية صفات الباري حيث قالوا: (لا تعطيل ولا تشبيه وإنما أمر بين أمرين)، فلا يجوز تعطيل الصفات والقول أننا لا ندرك شيئاً من صفاته تعالى، كما لا يجوز التشبيه والقول أننا ندركه كما ندرك المحسوسات، وكذا نفي التجسيم ولوازمه عن ذات الباري، فقد كانت الأذهان عالقة بهذا الوهم. ونفي الجبر والتفويض وإثبات الاختيار في الأفعال.

وهكذا في معالجتهم للمشاكل الفكرية التي انتقلت إلى الأمة الإسلامية من الحضارات الأخرى، فتراهم يجعلون لها الحلول بنحوٍ لا يصطدم مع الإسلام وضرورياته، وموارد هذا شتى من التوحيد وصفات الحق تعالى، والعدل والمعاد والقضاء والقدر وما ورد من الشبهات حول نبوة الأنبياء عليهم‌السلام ، وبقول ابن أبي الحديد في ذيل إحدى الخطب: (لم تنتشر المعارف الإلهية من غير هذا الرجل، ولم يكن في الصحابة من تصوُّر أو صور شيئاً طفيفاً من المعارف)، ونضيف على مقولته تلك: أن عباراتهم وحلولهم وحكمهم ظلت حتى يومنا هذا مدار بحث وتشييد؛ لأنها تفوق ما توصل إليه السابقون من الفلسفة اليونانية ويستنير بهديها المتأخرون من الفلاسفة.

* المرحوم الشاه أبادي يذكر: أنه في الصحيفة السجادية لفتات وحلول لمعضلات في عالم المعنى والعرفان، بنحو لم يكن مطروحاً في العرفان الهندي الذي هو من أقوى وأقدم المدارس العرفانية لدى البشرية، ويشير إلى أنه في الأدعية الأولى بحوث عديدة وغريبة ودقيقة في السير والسلوك أو في مقامات الهادي أو مقامات الخلقة والتكامل الإنساني، ويعبّر عن أدعيتهم عليهم‌السلام أنها بمثابة القرآن الصاعد لِمَا تحتويه من أسرار المعرف الإلهية.

٣٠٦

فمثلاً المتقدمون يجعلون الظاهر في قبال الباطن والأول في قبال الآخر، بينما الإمام عليه‌السلام جعل الذات المقدسة هو الظاهر والباطن والأول والآخر، (فهو وحدة واحدة؛ يستوي فيها الظاهر والباطن والأول والآخر)، وفي كتاب التوحيد في ما ذكره الإمام الصادق عليه‌السلام ‏تبيان لكيفية الدلالة على ذلك.

* أن خضوعهم وعبوديتهم المطلقة للَّه عزَّ وجلَّ لا تجد لها مثيلاً عند مَن عاصرهم أو تأخر عنهم.

* أن معجزة السماء الخالدة القرآن الكريم لم ولن يوجد في الساحة الإسلامية ترجمان له - بحيث يثبت للبشرية أن القران الكريم يغطي كل احتياجاتها، وأن كل تساؤل يطرح على وجه الأرض لم يتمكن أحد من الإجابة عليه - سوى الإمام، ممَّا يوضح وجود رابطة بينهم وبين القران، وهو ما سوف نثبته في المرحلة الثالثة في فقه الآيات.

* يضاف إلى تلك الأدلة مقدمة مشتركة لا بد منها؛ وذلك لأن الاقتصار عليها يثبت أن الأئمة هم أليق الناس وأفضلهم لإدارة شؤون الأمة، لكن لا يثبت بها وجود مقامات أخرى، في حين أننا يمكن أن نستفيد من تلك الأدلة لِمَا هو أوسع من ذلك بإضافة هذه المقدمة، وحاصلها:

أن توافر هذه الصفات بهذا النحو في هؤلاء الاثنى عشر إمَّا أن يكون من باب الصدفة والاتفاق أو يكون بسبب

وعلَّة.

أمَّا الأول، فباطل؛ وذلك لأن القول به هو نفي لوجود اللَّه، وذلك لأن الطفرة هي صدور شي‏ء من شي‏ء من دون سبب وعلَّة، والاتفاق عبارة أخرى عن نفي السببية، وأن حيازة هؤلاء على الريادة في الصفات الكمالية - إن كان اتفاقاً - يعني أن يد اللَّه مغلولة، وأنه ترك الخلق كما خلقهم من دون هدايتهم والاتصال بهم. فيبقى الثاني وأن وجود تلك الصفات فيهم لم يكن من باب الصدفة والاتفاق،

٣٠٧

بل إن هذا يدل على عناية إلهية وإفاضة ربانية جعلت هؤلاء متَّصفين بتلك الصفات طيلة تلك السنين المتعاقبة والتي شهدت منافسين عدة حاولوا النيل منهم بشتى الطرق والوسائل، فتوجد في البين إفاضة ربانية للكمالات العلمية والعملية، وإن الوراثة بينهم ليست وراثة نسبية، بل وراثة نورية تكوينية جعلت تلك الحقيقة الغيبية مستمرة فيهم.

وبهذه المقدمة تكون تلك الأدلة الإنْيَّة مثبتة للمقام الغيبي الذي نتوخَّاه في الإمامة والذي يكون به عِدل النبوة وسفارة إلهية.

٣٠٨

المبحث الثالث:

الإمامة في القران الكريم

إن الهدف الذي نتوخَّاه من هذه الدراسة هو فهم حقيقة الإمامة ودورها في عالم الغيب بعد أن استوفى الباحثون حقيقتها في عالم الشهادة، ونعتمد في ذلك على الآيات الكريمة التي تحمل معانٍ نورانية لنستوحي منها معاني تلك القناة المعصومة المرتبطة بالغيب.

وهاهنا ملاحظة مهمة: أنه يجب الالتفات إلى أن القرآن الكريم قد صدر من الحكيم العالم بخفايا الأمور والعارف بأساليب اللغة ومفرداتها، فالألفاظ المستخدمة في القرآن ليست قوالب لفظية شعرية وأدبية بغرض إبراز الجمال الأدبي، بل إن وراء استخدام ألفاظ دون أخرى أو صياغات معينة دون غيرها غاية وهدف ومعنى يرمي إليه القران، وعدم فهم كلام الباري بهذا النحو يكون ابتذالاً وتوهيناً للمعاني القرآنية، وتزييفاً لمعارفه، ومخالفاً لقوله تعالى: ( تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) ؛ فليس المراد أن القرآن فيه تبيان للحقائق التشريعية فقط، بل إن القرآن فيه بيان للحقائق التكوينية أيضاً كما يظهر من كثير من الآيات التي تذكر خلق العالم وسنن التكوين، وإن هذا القران الحامل لسبعين بطناً لا يجوز لنا أن نقف أمام ظاهره فقط، بل يجب الغوص في حقائق معانيه وما تحمله الألفاظ من معارف، بل نجد أن البعض يقدِّس القرآن ويسلّم بعظمته، لكن عندما نلاحظ فهمه لآياته نجده يبتذل

٣٠٩

معانيه ويقف عند حاق اللفظ والظاهر فقط جاهلا أن الألفاظ ليست هي الهدف والغاية، بل هي قنطرة للوصول إلى المعنى المراد، فيجب تجاوز منطق الأدب وعلومه، فتنفتح أمام الإنسان حينئذ تلك المعاني العالية الدقيقة التي تحتاج إلى موازين العقل والمنطق. وهذه نقطة نفترق بها عن العامة الذين حجبوا عن أعينهم تلك الأمور.

وقد قسَّمنا الآيات التي تتحدث عن الإمامة إلى طوائف عدة نتناولها بالتفصيل:

الطائفة الأولى: آيات استخلاف آدم

من الوقائع القرآنية العجيبة التي يحكي بها الحق تعالى بدء الخلقة وكيفية خلق آدم‏ عليه‌السلام ‏وأمر الملائكة بالسجود إليه، وهي من الآيات التي تحمل معانٍ كبيرة تدلِّلنا على موقع الإمامة في الوجود الإمكاني، ويمكن القول أنها تمثِّل البوابة لهذا البحث، والعلامة الأم لهذا الموقع الإلهي. وقد تكرَّر ذكر هذه الواقعة أو مقاطع منها في مواضع كثيرة من القرآن في السور التالية:

1 - سورة البقرة 2: 30

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ

٣١٠

وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

وهذه السورة تحوي جميع مقاطع الواقعة منذ إخبار اللَّه الملائكة بخلق آدم وحتى هبوطه إلى الأرض.

2 - سورة الكهف: 50

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) .

3 - سورة الحجر: 28

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) .

4 - سورة الإسراء: 61

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً ) .

5 - سورة طه: 115

( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَّيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ... ) .

٣١١

6 - سورة الأعراف:11 - 25

( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكِةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ... )

7 - سورة ص: 71 - 75

( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ... )

وقبل الاستعراض التفصيلي لهذه الطائفة نذكر عدة ملاحظات:

1 - إن هذه الواقعة العجيبة التي يذكرها اللَّه جلّ وعلا لعباده تحتوي على معانٍ جليلة وعظيمة وتستحق وقفة مطولة.

2 - إن ست سور من التي وردت فيها القصة مكِّية، وسورة واحدة مدنية؛ وهي البقرة.

3 - إن العنصر المشترك المتكرر في كل هذه الموارد السبعة هو أمر الملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس عن ذلك.

4 - تمتاز سورة البقرة بورود نص الاستخلاف فيها ومناقشة الملائكة فيه، وهذا لم يتكرَّر في الموارد الأخرى.

5 - قد رتَّبنا السور المكِّية التي ورد فيها هذه القصة حسب النزول.

وسوف تكون دراسة هذه الحادثة في مقامات أربع:

أولاً: دراسة الألفاظ الواردة فيها

نبدأ بدراسة الواقعة كما وردت في سورة البقرة والتدقيق في المعاني الواردة فيها:

* الملائكة: وهو وإن كان جمع معرَّف باللام ويفيد العموم، أي جميع الملائكة، إلاّ أن بعض الروايات تشير إلى أنهم قسم من الملائكة، لا أقل أنهم من نمط جبرئيل

٣١٢

وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، لكن إدخال عنصر غيب السماوات والأرض يدل على أن الملائكة في الواقعة لم يكونوا صنفاً خاصاً منهم، بل عموم الملائكة؛ إذ أن ما غاب عنهم هو خافٍ على كل السماوات والأرض. كما أن الخطاب للملائكة بإخبارهم عن جعلٍ عام، وهو جعل الخليفة، ولم يخصص بآدم.

* في الأرض: وفيه احتمالات ثلاث:

أ - أن تكون متعلقة بـ(خليفة).

ب - أن تكون متعلقة بالضمير المستتر في (خليفة) لأنها مشتق.

جـ - أن تكون متعلقة (جاعل).

فعلى الاحتمال الأول يكون المعنى أن الخليفة مقيَّد في الأرض، فدائرة الخلافة تكون محدَّدة حينئذ بالأرض.

وعلى الاحتمال الثاني تكون دائرة الخلافة مطلقة غير محددة، والمستخلَف مقيَّد بكونه أرضياً، فهو إنسان أرضي دائرة خلافته مطلقة غير محددة فتشمل كل عالم الخلقة.

وعلى الاحتمال الثالث فحيث أن (جاعل) تتعدى إلى مفعولين؛ الأول (في الأرض) والثاني (خليفة)، فيكون المعنى إخباراً من اللَّه عزَّ وجلَّ أن الذي هو في الأرض قد جعلته خليفة على نحو (جعلت الآجر بيتا).

أمَّا الاحتمال الأول، فهو بعيد؛ حيث إن من البعيد جداً تقيُّد الخلافة في الأرض، وذلك لمجموعة من القرائن نستوحيها من الآية نفسها:

أ - أن العلم الذي يمتلكه هذا الخليفة علم خاص يفوق علم الملائكة؛ إذ أنه علم محيط بكل الأشياء حتى التي لا ترتبط بالواقع الأرضي كما سوف نتبين ذلك لاحقاً، فلو كانت خلافته محددة بالأرض فما هو الحاجة لهذا العلم؟ ثُم ما هو الداعي لإظهار تفوُّق علمه على علم الملائكة؟ بخلاف ما إذا كانت دائرة الاستخلاف

٣١٣

غير محددة بالأرض.

ب - أن إسجاد الملائكة لآدم يدل على الهيمنة التكوينية للمطاع بإذن اللَّه، وهذه الطاعة وتلك الهيمنة إنما هي وليدة العلم؛ بحيث أن الملائكة تستقي علومها منه كما سوف يأتي التدليل عليه، ومعلوم أن شؤون الملائكة ليست منحصرة بالأرض، بل بكل عالم الخلقة، فهذا يدل على أن دائرة الخلافة غير مقيدة بالأرض، بل هي تشمل كل عالم الخلقة غايتها هذا الموجود كينونة بدنه هي في الأرض.

وقد يُستَشكَل أنه لو كانت خلافته عامة لكل عالم الإمكان فكيف يجعل متأخراً عن الملائكة؛ أي كيف تتأخر خلقته عنهم؟

والجواب: أن خلقته غير متأخرة عنهم وإنما المتأخر هو وجوده الأرضي. أمَّا أصل الخلقة، فإنها لم تتأخر عنهم كما سيتضح ذلك لاحقاً.

جـ - استنكار الملائكة وتساؤلهم لم يكن دائراً حول دائرة الاستخلاف، بل حول الموجود الأرضي، فهي فهمت أن هناك ذاتاً في الأرض سوف تكون هي الخليفة، فجاء الاستنكار. وبعبارة أخرى: أن مقتضى كلامهم ( أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ... ) هو تعلق ( في الأرض ) بالجعل.

د - أن مقتضى تقدم الجار والمجرور على لفظة الخليفة، مع صلاحية تعلُّقه بالعامل المتقدم، يعيِّن تعلقه به، وخلاف ذلك يحتاج إلى قرينة.

* أمَّا بالنسبة إلى (جاعل)، فإنها تأتي بمعنيين؛ أحدهما بمعنى موجِد، وهو يتعدى إلى معمول واحد، والأخر يعني الصيرورة، وهو يتعدى إلى معمولين، والأقرب أن يكون الوارد هنا الثاني، ومعمولاه هما: (في الأرض) و(خليفة)، وهذا يؤدي نفس المعنى الذي نتوخاه؛ وهو عدم تقييد وتحديد دائرة الخلافة في الأرض.

إن أصل المعمولين مبتدأ وخبر، فلو قدَّرنا المبتدأ (خليفة) والخبر (في الأرض)، فمقتضاه أنه ليس في صدد جعل الاستخلاف، بل هو أمر مفروغ منه، وإنما هو في

٣١٤

صدد الإخبار عن الجعل الأرضي لهذا الخليفة. أمَّا لو كان العكس، فإنه يعني أن كونه في الأرض أمر مفروغ منه والجعل والإخبار عن الاستخلاف. والأول أنسب؛ وذلك لأن مسائلة الملائكة هو عن كينونته في الأرض، وعن هذا القيد الذي يظهر أنه مجهول بالنسبة إليهم.

ويحتمل أن يكون الجعل بمعنى الإيجاد فيأخذ معمولاً واحداً هو (في الأرض) وخليفة صفة له، وقد يُعترض عليه أن هذا التركيب يشبه قولك: إني جاعل في البيت مسئولاً أو إني جاعل في المؤسسة مديراً وهذا تقيد للمسؤولية والإدارة؟ والجواب: أن هنا مناسبة بين المؤسسة والإدارة والبيت والمسؤولية في حين أنها مفقودة بين الأرض والاستخلاف، كما أن القرائن التي ذكرناها سابقاً من التعليم وإلاسجاد وما يأتي من تعليم الأسماء كلِّها، تؤكد على أن الاستخلاف دائرته أوسع من الأرض، ثُم إن هذا الجعل - مضافاً إلى ظهوره في الإطلاق الزماني والتأبيد ما دام الموجود الأرضي - يبطل اعتراض الملائكة الذي يكفي في وجاهته صدقه ولو لبرهة وفترة يسيرة؛ فالتخطئة لهذا الاعتراض لابد أن تكون بنحو النفي والسلب المطلق له، وذلك بدوام وجود الخليفة ذي العلم اللَّدُني ما دام الخلق البشري على الأرض.

* خليفة : والاستخلاف الوارد في القرآن على نحوين؛ الأول: استخلاف عام لنوع البشر؛ والهدف منه إعمار الأرض والعالم الكوني، والثاني: استخلاف خاص، وهو خلافة الاصطفاء، وهي المقصودة هنا؛ وذلك لأن الحق تعالى قد ربط هذا الاستخلاف بالعلم اللدني المحيط، ومثل هذا العلم ليس لدى نوع البشر، بل لدى فئة خاصة منتخبة من البشر، ولكن هذا لا يعني الاختصاص بآدم، بل قد يعمُّ فئة من بني البشر، نعم، هو لا يعم كل البشر.

والفارق بين الاستخلاف والنيابة والوكالة، أن هذه العناوين تقتضي وجود

٣١٥

طرفين أحدهما يتولَّى عن الآخر الفعل والعمل إلاّ أن دائرة التولي إذا كانت محدودة، فتسمّى وكالة، ويتبع ذلك ضيق صلاحيات الطرف، وإذا اتسعت تسمّى نيابة وتزداد صلاحيات الطرف، وإذا اتسعت أكثر تسمى ولاية، وإذا ازداد اتساعها تسمّى خلافة؛ وهي قيام شخص مقام آخر، فيقال: خلف فلان فلانا، أي حلَّ محلَّه. غاية الأمر أنه في عالم الممكنات تكون بدلاً عن فقد، أي بعد فقد المستخلَف في ذلك المقام. أمّا عندما تكون الخلافة عن الواجب، فلا تكون عن فقد، بل بنحو الطولية. فاللَّه مالك الملك في السماوات والأرض، فهو يملك ويُقْدِر الملائكة على شي‏ء، وليس هو فاقد للقدرة، بل في عين تملُّكهم وإقدارهم يكون مالكاً وقادرا، فهذا الاستخلاف ليس هو التفويض الباطل، بل هو إقدار وتمكين من دون تجافٍ وفقد.

فالمستخلِف هو اللَّه عزَّ وجل، والخليفة يكون هو الرابطة التكوينية بين الذات الأزلية ومورد الاستخلاف، نظير الأفعال الاختيارية التي يقدم بها الفاعل المختار المخلوق فإنها إقدارٌ وتمكينٌ من مالك الملوك واستخلافٌ فيها من دون عزلة ولا انحسار لقدرة واجب الوجود.

وأخيراً فإن عنوان الخليفة غير عنوان النبوة والرسالة، بل يكون أهم شأناً منها؛ لأنه يقوم مقام اللَّه ويخلف اللَّه بخلاف العنوانين.

* ( قال: إني أعلم ما لا تعلمون ) .

إن اعتراض الملائكة يدل على أنهم تصوَّروا أن الهدف من إيجاد آدم هو إعمار الأرض، ولكن الآية تبيِّن خطأهم في فهمهم، ومحط اعتراض الملائكة أن مَن يصدر منه الإفساد وسفك الدماء، أي مَن يصدر منه الزلل والخطأ لا يتساوى مع مَن يكون معصوماً عن الخطأ، فهم أحق بخلافته من هذا الموجود. وكان الجواب: أن هذا الاعتراض منشؤه الجهل؛ حيث إن العصمة العملية ليست هي فقط العاصمة عن الزلل، بل المهم هو العصمة العلمية التي تكون عاصمة حينئذ عن الزلل العملي

٣١٦

أيضاً، فالجهل العلمي هو الذي يسبب الوقوع في الأخطاء والزلل، ومن هذه الآية نعرف السر في حثِّ القرآن على طلب العلم واستخدام العقل؛ حيث غن التقدّس والتعبد غير مانع وعاصم من الوقوع في الخطأ، بل العلم التام والصحيح هو العاصم الأتم. وبذلك يمكننا القول أن سؤال الملائكة ليس اعتراضا؛ فهم مسلمون للَّه وخاضعون له إلاّ أنه سؤال استفهامي ناتج عن عدم إحاطتهم بكل شي‏ء، فتصوَّروا أنهم أكثر أهلية لهذا المقام.

* الأسماء: وهو جمع محلَّى باللام مفيد للعموم، والكلام في المراد من هذه الأسماء؛ فذهب البعض إلى أنها المعاني المختلفة، وبعض إلى أنها أسماء المعاني كلِّها، ولكن التدبر في الآيات الشريفة لا يساعد على الاقتصار على أيٍ منها؛ وذلك:

ـ أن العلم بهذه الأسماء أوجد امتيازاً لآدم على الملائكة وبه استحق الاستخلاف، وإذا كان هو ما ذكروه من المعلومات الحصولية فإن آدم بتعليمه للملائكة يصبحون في مستوى واحد، بل قد يكون تدبر اللاحق أشرف من السابق، وعليه لا موجب لاستحقاق الأفضلية لآدم على الملائكة.

ـ أن الأسماء لو كانت هي اللغات وأسماء هذه المعاني المتداولة، فإن الحاجة إليها إنما هو لانتقال المعاني والمرادات بين الناس، والملائكة ذات كمال أعلى وأشرف من ذلك، فإنها تطَّلع على النوايا من دون حاجة إلى الألفاظ، فأي كمال تحصل عليه الملائكة في إنبائها بهذه الأسماء؟!

ـ أن هذه الأسماء أرفع من أن تصل إليها الملائكة مع تنوُّع شؤونها ووظائفها؛ حيث أنها جاهلة بها، خصوصاً أن الملائكة كانت عالمة بشؤون الأرض، ولذا سألت عن هذا الموجود الأرضي، فلا يخفى عليها شأن من شؤون الأرض، فلا بد أن تكون هذه الأسماء غير أرضية.

٣١٧

ـ في الآية اللاحقة عندما عرض اللَّه (جلَّ وعلا) المسمَّيات أو الأسماء على الملائكة أشار إليها باسم الإشارة (هؤلاء) وهو يستخدم للعاقل الحي الحاضر، ولا يقال للمعدوم ولا للجماد،وكذا استعمل ضمير الجمع للعاقل (هم) في جملة (عرضهم) وفي جملة ( أنبأهم بأسمائهم، فلمَّا أنبأهم بأسمائهم ).

ـ أن تميُّز آدم عن الملائكة ظل حتى بعد إنباء الملائكة بهذه الأسماء أو بأسماء الأسماء.

ـ أن آدم لم يُعلم الملائكة بهذه الأسماء، بل أنبأهم، والإنباء غير التعليم؛ إذ أن التعليم هو العيان الحضوري، أمَّا الأنباء، فهو إخبار بالعلم الحصولي.

ـ التعبير عن هذه الأسماء أنها ( غيب السماوات والأرض ) ، فالإضافة هنا لامية وليست تبعيضية؛ أي غيب للسماوات والأرض لا أنه غيب من السماوات والأرض، أي ما وراء السماوات والأرض وأنها كانت غائبة عن الملائكة، بل خارجة عن محيط الكون.

وهذه القرائن والشواهد تدل على حقيقة واحدة:

أن هذه الأسماء لمسمَّيات ووجودات شاعرة حية عاقلة عالمة أرفع مرتبة وأشرف وجوداً من الملائكة، بل هي أشرف من آدم، لأنه بالعلم بها استحق الخلافة، فهي أشرف مقام في الخليقة.

* العلم: أن العلم الذي تعلمه آدم من قبل الحق تعالى لم يكن بالتعليم الكسبي الحصولي إنما هو بالعلم الحضوري، وهو نوع من الارتباط والرقي للروح إلى عوالم عالية حيث ترتبط الروح بتلك العوالم العلوية عياناً وحضورا، والحديث هنا ليس في مقام الرسالة والنبوة، بل في مقام الخلافة وخليفة اللَّه.

إذن فالعلم المذكور هنا هو خارج حد الملائكة؛ لذا نفي التعليم عنهم حتى بعد إنباء آدم يدل على أن هذا المقام هو غير مقام النبوة، بل هو مقام الإمامة والخلافة، كما

٣١٨

ترتَّب عليه إطواع وإتباع الملائكة له.

ثم أن هذا التعليم لآدم كان قبل دخوله الجنة وقبل نزوله للأرض كما يتَّفق عليه المفسِّرون؛ أي قبل أن يكون مقام النبوة لأدم. وقد يقال: إن إنبائه للملائكة يدل على كونه نبياً لهم، لكن هذا ليس من قبيل النبوة الاصطلاحية للأرض حيث التكليف والعمل، وإنما الإنباء هاهنا من قبيل التعليم اللدني الذي هو فوق مقام الملائكة.

ويذهب البعض إلى القول أن الخلافة التي جعلت عنواناً لهذا الموجود هي خلافة عن النسناس الأرضي، وهذا خطأ فاحش، بل بقرينة الإنباء المزبور هو مقام خلافة اللَّه عزَّ وجل، أي بمعنى الإقدار من قبله عزَّ وجل.

وممَّا يدلل على أن العلم الوارد ليس علم النبوة والرسالة أن في هذا العلم لا يحتمل واسطة ملائكية بين اللَّه وبين آدم بينما في علم النبوة يحتمل واسطة ملائكية ويمكن وقوعها.

فهذه القرائن تدل على أن هذا العلم الذي تعلمه آدم نحو من العلم الحضوري الخاص، وأنه استحق به مقام الولاية والرتبة التكوينية، وهو فوق مقام النبوة والرسالة.

* ( إن كنتم صادقين ) .

إن القرآن في حديثه عن الصدق يذكر له مراتب من مقام الصدِّيقين والصدِّيق، وهذه المراتب ليس في قبالها الكذب الاصطلاحي، بل هي مراتب اشتدادية في نفس الصدق، وقد أشرنا قبل إلى قوله تعالى: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ) حيث ذكرنا أن اللَّه أصدق من سيد الكائنات، وهذا لا يعني أنه كاذب - والعياذ باللَّه - فالأصدق دوام كلامه وسعته أكثر من الآخر، والأمر الذي نريد التأكيد عليه أن مراتب الصدق لا يقابلها الكذب فالآية لا تدل على كذب الملائكة، بل تشير إلى عدم واقعية ما

٣١٩

حسبوه وتوهَّموه.

وهناك روايات تبيِّن كيفية الطريق إلى أن يكون الإنسان من الصدِّيقين، وهو مقام أوسع من الصدق الخبري والمخبري، فالذي يكون أكثر علماً وأكثر إحاطة يكون أصدق من الأقل علماً؛ وذلك لأن الأول يكون علمه محيطاً والآخر أقل إحاطة فتأتي علومه غير مطابقة، فالمقصود أن المراد هنا من الصدق الإحاطة وعدمها، لا المطابقة للواقع وعدمها.

ونظير ذلك ما تصف الروايات بعض آيات القرآن أنها أصدق من آيات أخرى وأكثر إحكاماً وأكثر حقا، وهذا لا يقصد منه بطلان الآيات الأخرى، بل يقصد منه أن تلك الآيات أكثر إحاطة بالواقع فتكون أصدق وأحق وأحكم.

فالملائكة في هذه الآية يخبرون عن أحقيَّتهم وأهليَّتهم للخلافة في الأرض، حيث إنهم أنبئوا عن استحقاق ذلك لمَن تكون له العصمة العملية، لا أنهم يخبرون عن واقع، بل من باب المسائلة.

* الإنباء: بناء على ما ذكرنا سابقاً من أن استخدام الحق تعالى للألفاظ المختلفة ليس من باب التنوُّع اللفظي والنثر البلاغي، بل القرآن كتاب حقائق، وتغيُّر اللفظ من موضع إلى آخر يدل على تغاير في المعنى الحقيقي المراد للحق تعالى.

فنلاحظ هنا أن الباري تعال أسند تعبيرين لهذه الأسماء؛ أحدهما: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ) ، والآخر: قوله للملائكة: ( أَنبِئُونِي ) ؟ وأجابت الملائكة: ( لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ) فأمر آدم بإنبائهم باسمائهم، فالارتباط بين الحق تعالى وآدم كان بالتعليم، أمَّا عندما أخبر آدم الملائكة، فكان الارتباط بالإنباء. وهذا التغاير يدل على أن الملائكة لم ينالوا العلم الحقيقي بهذه الأسماء.

والسر في هذا التغاير هو أن التعليم عياني حضوري، والإنباء إخبار من وراء حجب الصور والمفاهيم وما شابه ذلك، فإضافة آدم مع ربه من نحو العلم

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440