الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127275
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127275 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحضوري، وأمَّا الإضافة بينه وبين الملائكة، فهي إضافة إنباء، وهي درجة نازلة عن العلم، ومن القرائن على تلك المغايرة:

ـ أن الملائكة لو كانت قابلة لتعليم الأسماء لأصبحوا في الشرف سواء مع آدم، ولَمَا كانت لآدم مزية عليهم، فالملائكة لم يستحصلوا على ذلك العلم إلى آخر المطاف، خصوصاً إذا لاحظنا أن الأهلية للخلافة غير منوطة بالأسبقية الزمانية للحصول على العلم، بل الأهلية هي بالعلم، وهي حاصلة لآدم.

ـ فاطلاع الملائكة لم يكن بالعلم اللدني، ولو كان كذلك، لَمَا كانت حاجة لإنباء آدم.

فالخلاصة أن الملائكة بعد إنباء آدم أصبح لديهم علماً حصولياً بتلك المسمَّيات.

* غيب السماوات والأرض: ذكرنا في بحث الأسماء أن الإضافة في غيب السماوات هي إضافة لامية؛ أي غيب للسماوات والأرض، وقد جعل بعض العامة أن المراد بهذا الغيب هو ما كتمته الملائكة، لكنَّه غير تام؛ وذلك لأن قوله تعالى ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) (1) من عطف المغاير زيادة على الجملة السابقة؛ إذ ( مَا تُبْدُونَ ) ليس من الغيب أصلاً، وما كانت تكتمه هو أنها كانت ترى أنه لا يوجد مَن هو أقرب منها إلى اللَّه كما يفهم من مفاضلتها ذواتها على مطلق مَن هو غيرها من المخلوقات، فليس هذا المراد من غيب السماوات والأرض، بل المراد منه أمر ليس بجزء من السماوات والأرض.

ومقابل الإضافة اللامية الإضافةُ التبعيضية، أي خصوص غيب هو جزء من السماوات والأرض، وهو ينطبق على الكونية المستقبلية، لكن المورد ليس من هذه الموارد التي

____________________

(1) البقرة: 133.

٣٢١

تكون الإضافة تبعيضية؛ وذلك لأنه مقام إظهار قدرته تعالى وإحاطته وعجز الملائكة، وتمام العجز أن هذه الأسماء أمور غائبة عن العالم السماوي والأرضي خارج محيط الكون، وممّا يبعد معنى التبعيض وأن الغيب بمعنى المستقبل الذي هو جزء السماوات والأرض، أنه قد عرضهم على الملائكة فهي موجودات بالفعل لا مستقبلية، وهذا ممَّا يعزِّز أيضاً أن المراد غيب فعلي عن السماوات والأرض، فإذن هي موجودات أحياء فعلية خارج إطار السماوات والأرض.

* أية السجود: وفيها موقفان يجب التأمل فيهما؛ أحدهما: أمر اللَّه عزَّ وجل الملائكة بالسجود لآدم، والآخر هو: إباء إبليس واستكباره وكونه من الكافرين.

أمَّا الأمر الأول ، وهو السجود، ففيه عدة نقاط:

ـ أن التساؤل يثار عادة هل أن السجود لغير اللَّه تعالى صحيح أم لا؟ وهذه مسألة كلامية فقهية نتعرض لبعض جوانبها ومن ثم نذكر ما يمكن استيحاؤه من الآية الكريمة.

ذهب بعض الفقهاء إلى أن السجود ذاتيُّه العبادة، فأينما وقع فهو عبادة، فلا يجوز إيقاعه لغير اللَّه تعالى لأنه هو المعبود حقيقة؛ ولذا يذهبون إلى تأويل ما ورد في القرآن الكريم من السجود لغير اللَّه تعالى إلى أنها تحمل على مطلق الخضوع والخشوع، لا أداء تلك الحركة المعينة؛ لأنه من المحال أن يأمر اللَّه تعالى بعبادة مَن ليس أهلاً للعبادة، فهو شرك وقبيح، ويستشهدون بما ورد من الأثر عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لو كنت آمراً أحداً بالسجود، لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها)، وهذا يعني عدم جواز الأمر بالسجود.

والجواب عنه: أن المستدِل يستدل بوجهين؛ أحدهما: أن السجود ذاتيُّه العبادة، والآخر: نهي الشارع عن السجود لغير اللَّه.

أمَّا الأول، فكون السجود - لو كان بمعنى الهيئة الجسمانية المخصوصة - ذاتيُّه

٣٢٢

العبادة أول الكلام، بل إن السجود مُظهِر ومُبرِز للعبادة، وفرق بين الأمرين؛ والشاهد على ذلك: أن تلك الهيئة المعينة قد يوقعها الإنسان و مقصوده الرياضة أو الاستراحة أو أي أمر آخر، وهذا يدل على أن العبادية فيها متقوِّمة بالقصد، لا أن الهيئة متى وقعت كانت عبادة، وعليه نقول: إن تلك الهيئة لو وقعت بقصد الإكرام والاحترام، لا بقصد الخضوع العبادي، فلا تكون عبادة. وقد مورس هذا النوع من التكريم والاحترام في الشعوب القديمة حيث كان يسجد للسلطان والملك كما في عهد النبي يوسف عليه‌السلام ولم يكن في البين عبودية، وهذا يدلِّل على أن تلك الهيئة ليست ماهيتها التكوينية العبادة. مضافاً إلى أن أصحاب هذا الرأي لا يعتبرون الركوع عبادة مطلقاً، ويجوّزون وقوعه لغير اللَّه إذا كان القصد منه الاحترام والتكريم.

وبعبارة أدق: أن الخضوع تارة عبودي وأخرى مطلق الاحترام والتكريم والتعظيم، والفارق بينهما أن الخضوع إن كان بقصد أن المخضوع له ذات واجبة الوجود بنفسه خالق متَّصف بجميع الكمالات بالذات، فهو عبادة، وإن كان لا بقصد منتهى الخضوع ولا أن المخضوع له ذات مستقلة الوجود، فلا يكون عبادة، بل إن القبح يزول عن هذه الهيئة عندما يكون الآمر إلى هذا السجود هو اللَّه عزَّ وجل، بل يعد السجود لهذا الشخص هو منتهى الامتثال والخضوع لأوامر اللَّه، بل هو منتهى الفناء والابتعاد عن أنانية الذات. والحق تعالى عندما يأمر بالسجود لا يكون أمراً بمعنى العبادة لغيره؛ إذ أنه مستحيل، بل العبادة للَّه تعالى بتوسط الاحترام والخضوع لخليفته تعالى، وهذا ما توضحه كثير من الأخبار والآثار الواردة في ذيل السجود ليوسف‏ عليه‌السلام وفي آية ( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ) (1) ، إذ ليس

____________________

(1) يونس: 87.

٣٢٣

المراد السجود لبيت موسى، بل هو سجود للَّه وإكرام واحترام للشخص.

أمَّا الوجه الثاني، فابتداءً ليتنبَّه إلى أنه غير الوجه الأول إذ أنه يتم، ولو فرض التنزُّل بأن السجود ليس ذاتيُّه العبادة، فهو منهي عنه من قبل الشارع إيقاعه لغير اللَّه؛ وبذلك لا نحتاج إلى تأويل آيات السجود في القرآن، بل بأن السجود بهذا المعنى لم يكن محرَّماً في شريعة يوسف وموسى عليهما‌السلام ، وعلى كل حال نقول: إن السجود بمعنى العبادة لغير اللَّه منهي عنه من قبل الشارع.

أمَّا الآية الكريمة التي نحن بصددها، فإنه - على ما ذكرنا - لا حاجة لتأويل السجود إلى معنى الخضوع والاحترام وما معناه، ولا حاجة إلى القول أن السجود على معناه الحقيقي ولا مانع منه لأنه لم يكن محرماً إلا في شريعة الخاتم، لا حاجة إلى كل هذا، بل نقول: إن السجود لا مانع منه حيث لم يُوقع بقصد العبادة.

مضافاً إلى أنه لو كان منهياً عنه، فيمكن أن يأمر اللَّه تعالى به في هذا الموضع ويكون تخصيصاً للنهي العام عن السجود لغير اللَّه، ولا مانع من تخصيص العام على الوجه الثاني؛ حيث إن السجود كان تكريما لآدم، وقد أشارت الروايات من الفريقين إلى أن إبليس كان ومازال يستطيع التوبة بالسجود لآدم، فلو سجد لتاب اللَّه عليه، وهذا من سعة حلمه تعالى بعباده، إلاّ أن إبليس أخذته العزة بالإثم فأبى عن السجود.

2 - ومن أجل الوصول إلى المعنى المراد من السجود في الآيات الكريمة نستعرض عدداً من النقاط:

أ - نعيد التذكير بأن القرآن كتاب حقائق، فعندما نلاحظ لفظاً كُرِّر عدة مرات، فلا يمكن القول أن التعبير به أمر أدبي، بل يكون إشارة إلى ماهية معينة أراد الحق تعالى إفهامها لخلقه، وهذا هو ما ذكرناه سابقاً في مقدمة البحث.

ب - عبَّر في آية 29 من سورة الحجر ( فَقَعُوا ) ، حيث لم يكتف بذكر مادة

٣٢٤

السجود، بل عبَّر بالوقوع الفوري، وهذا فيه نوع من التشديد والتأكيد لمعنى الخضوع والتعظيم.

جـ - أن حادثة السجود هي الحلقة المتصلة بين هذه السور السبعة، فقد كُرِّرت في كل الآيات بخلاف بقية مقاطع قصة آدم.

د - أن لفظ السجود ومشتقاته تكرَّر كثيراً حتى في السورة الواحدة؛ مثلاً في سورة الحجر كُرِّر 5 مرَّات وفي الأعراف 4 مرَّات وفي الإسراء وص كُرِّر 3 مرَّات،وهذا التكرار لهذه اللفظة لابد له من وجه، لا أنه مجرد التحسين اللفظي والأدبي، بل يدل على محورية هذه الماهية وجعلها فيصلاً بين الطاعة والمعصية.

هـ - في بعض الآيات ورد التأكيد على أن الأمر بالسجود كان لجميع الملائكة ولم يكتف بدلالة الجمع المحلَّى بالـ ( الْمَلآئِكَةُ ) ، بل أردف بالتأكيد بـ ( أَجْمَعُونَ ) و ( كُلُّهُمْ ) للدلالة على الاستغراق.

و - أنه عندما رفض إبليس السجود لآدم عبَّر عن ذلك بـ ( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) ؛ أي أن منشأ عصيان إبليس هو الإباء والاستكبار، وفي مقابله طاعة الملائكة، وهو الانقياد والمتابعة والخضوع، فمعنى السجود المأمور به، فيه زيادة على معنى الاحترام والتكريم، بل هو إظهار لمطلق الانقياد (غير العبادي) لآدم، و إبليس لم يستكبر عن عبادة اللَّه في الصورة، بل استكبر عن أمر اللَّه بالانقياد لآدم حيث زعم أن آدم أقل مرتبة منه.

ز - أن قوله تعالى في خطابه لإبليس ( مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) منطوٍ على ظريفة لا تحصل من التعبير بلفظ الملائكة أو الضمير (ما منعك أن تكون معهم)؛ إذ وصفهم بالساجدين لبيان حالة الانقياد، وهو السجود.

حـ - نسبة آدم للَّه جلَّ وعلا ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) فيها تشريف لأدم وأنَّ سرَّ خلقته وتسويته مباشرة من اللَّه من دون توسيط الملائكة.

٣٢٥

ط - يظهر من بعض الآيات الحاكية لهذه الواقعة أن الأمر بالسجود وقع مباشرة بعد خلقة آدم من دون وجود تراخي ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ؛ وهذا يدل على التلازم والفورية وأن لا تمر فترة من بعد الخلقة من دون انقياد الملائكة به.

ي - أن تكرار هذا المقطع بالذات من دون بقية المقاطع فيه دلالة مؤكَّدة على أن ما جرى من الواقعة هو من باب المقدمة لهذا الأمر، وأن كل ما مضى كان إعداداً لها، وبتعبير آخر: أن المحاورة من إخبار الملائكة بالخلق وغيره كله جَرَت تمهيداً وبياناً لمقام هذا المخلوق الجديد حتى لا يكون الأمر بالسجود مفاجئاً للملائكة ولا تنفر منه ذواتهم.

فهذه عشر قرائن وملاحظات عامة على التعابير الواردة في هذا المقطع. أمَّا ما يمكن استظهاره من المعاني في هذا الشأن، فهو:

1 - كما أن إنباء آدم للملائكة تعبير عن الهداية الإرائية وأنه استكمال لهم؛ لولاه لَمَا حصل لهم ذلك العلم، فإن السجود لآدم هو تعبير عن الهداية الإيصالية والمتابعة العملية التي بدونها لا يحصل لهم أيُّ كمال، وهذا الانقياد لم يكن لمجرد مخلوق، بل إنما هو لمقام الخلافة الذي جعله اللَّه تعالى لآدم، فلازم مقام الخلافة عند اللَّه هو متابعة وانقياد الملائكة والجن (بناء على القول المشهور أن إبليس من الجن) وهذا هو مفاد الإمامة؛ وهي المتابعة العملية والعلمية والهداية الإرائية والإيصالية، ويثبت بذلك أن شؤون الإمامة ليست للناس فقط وإنما هي تشمل الملائكة والجن.

2 - أن حدود إمامة آدم لا تقتصر على البشر، بل تشمل الملائكة والجن أيضاً.

3 - أن القرآن الكريم قد أثبت للملائكة وظائف وشؤون متعدِّد؛ منها: الحفظة، إنزال الذكر، قبض الأرواح، نشر الرياح، اللواقح، المقسمات، نصرة الرسل

٣٢٦

وتأييدهم، تسبيح اللَّه...

ونتيجة أن علمهم كان من آدم وأن عليهم متابعة آدم والانقياد له وأنه حاز مقام الخلافة، فهذه كلها تدل على أن لآدم الولاية التكوينية على الملائكة، وتكون شؤون الملائكة كلها تحت يده وفي تصرفه.

4 - أن خلافة آدم ليست خلافة مقيَّدة، بل خلافة مطلقة، ونستطيع أن نطلق عليها أنها: خلافة اسمائية

للَّه عزَّ وجل؛ وذلك لأنه بالعلم بالأسماء الشاعرة الحية العاقلة استحق مقام الخلافة، وأسماء اللَّه لها تأثير في عالم الخلقة؛ حيث إنها حقائق حيَّة واقعية مهيمنة، حيث أن أفعال اللَّه تعرف باسمائه، وهي آثار وتوابع اسمائه، فتكون بذلك كل القدرات الموجودة في عالم التكوين محاطة بها، وهو ذلك المقام.

وبالطبع ليس هذا الثبوت بنحو التفويض العزلي الباطل، بل هو إقدار من اللَّه سبحانه وتعالى في عين ثبوت القدرة المستقلة الأزلية للَّه عزَّ وجل.

الأمر الثاني: إباء إبليس

* إن من المسلَّم به أن إبليس كان في جمع الملائكة عندما خاطبهم اللَّه وأمرهم بالسجود لآدم. أمَّا أن إبليس هل هو من الجن أو الملائكة، فقد كان موضع خلاف وتعبير القرآن أنه من الجن ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) وهذا وإن كان له تفسيران؛ أنه كان من الملائكة فصار من الجن وأن (كان) هنا بمعنى صار، أو أن يقال: إنه من الجن، وإنما تواجد في جمع الملائكة لأن اللَّه جلَّ وعلا كان يكلِّفه بوظائف الملائكة، وهذا نوع تشريف لإبليس، والروايات الواردة تشير إلى أن لإبليس قبل الامتحان مقاماً رفيعاً؛ ويدل عليه انضمامه في الخطاب الموجَّه للملائكة، كما أن تشريفه بالخطاب الإلهي يدلِّل على أنه كان من الموحِّدين والمؤمنين باللَّه وبعالم الغيب والمعاد ( أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) . وأمَّا إنباء آدم

للملائكة، فقد كان حاضراً بمقتضى تواجده معهم،

٣٢٧

ومقتضى ذلك أن إبليس استحق الكفر لأنه لم يؤمن بالإمامة؛ مقام خلافة اللَّه، وبالتحديد لعدم طاعته للَّه عزَّ وجل في الائتمام والانقياد لمَن جعله اللَّه إماماً، ولم يذكر لإبليس فعلاً وعصياناً آخر استحق به هذا العقاب، وكانت النتيجة أن مصير إبليس هو جهنم وأن كل ما عمله قد ذهب سدى وهباء.

فهذا يثبت أحد معتقدات الإمامية؛ وهي أن النجاة مرهونة بالائتمام بخليفة اللَّه في أرضه، وقد وصف إبليس بالكفر، وهو على درجات، و يراد منه هاهنا: الكفر الاصطلاحي الذي يقابل أصل الإيمان ويستوجب الخلود في النار.

والكفر على قسمين: أحدهما بحسب الواقع دون الظاهر، والآخر بحسب الواقع والظاهر معاً، والظاهري هو ما عليه الكفَّار الآن. وأمَّا الأول، فهو ما نشاهده من المقصِّرين الذين اطلعوا على الأدلة الحقَّة إلاّ أنهم لم يؤمنوا ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (1) ، فهؤلاء وإن كانوا في الظاهر غير كافرين إلاّ أنهم بحسب الواقع كافرون، ويعاملون في الآخرة على طبق الواقع الحقيقي. وأمّا في هذه النشأة والدار، فيعاملون معاملة ظاهر الإسلام، فالإمامة مرتبة من مراتب التوحيد والإيمان، فهي توحيد في الطاعة كما ذكرنا ذلك مراراً في الفصل الأول، وبالتعبير الوارد في هذه الواقعة رأينا أن الكفر أُطلق في قبال الائتمام كما أطلق في مقابل الإيمان والتوحيد.

* كما أننا نلاحظ أن من أصعب الامتحانات الإلهية في العقيدة هو الإيمان بالإمامة؛ حيث إن هذين الموجودين (الملائكة والجن) لا يظهر منهما أي تمنُّع من الاستجابة لنداء التوحيد والنبوة بخلاف الإمامة - وهو الانقياد المطلق لخليفة اللَّه والخضوع و السجود إليه - حيث تمنَّع إبليس عن ذلك.

____________________

(1) الحجرات: 14.

٣٢٨

وبتعبير آخر: أن أكمل مراتب التوحيد والإيمان هو الإمامة؛ أي أن بها تمام التوحيد، لا بمعنى أنها الأصل والباقي فرع.

ثانياً: الفوائد

بعد هذا الاستعراض للمقاطع الواردة في هذه الآيات الشريفة نستعرض الفوائد التي نقتطفها من هذه الآيات:

الفائدة الأولى: يمكن القول أن هذه الآيات تعتبر من أمهات الآيات الوارد ذكرها في قوله تعالى ( هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) ؛ وذلك لأنها تبيِّن ركناً من أركان النجاة الأخروية، وتبين كيفية بدء الخليقة ومقام خليفة اللَّه.

الفائدة الثانية: أن المفاد الإجمالي هو استخلاف اللَّه عزَّ وجلَّ لخليفةٍ أحد مصاديقه آدم، وهذه الخلافة مطلقة غير مقيدة بقيد، وهي خلافة اسمائية كما بيَّـنَّاه.

الفائدة الثالثة: أن هذا المقام الذي يبينه الحق تعالى في هذه الآيات ليس مقام النبوة والرسالة وإن كان يتصادق

معهما، بل ينطبق على مقام الإمامة، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في شرح الخطبة القاصعة.

الفائدة الرابعة: أن الخلافة ليست محدودة في الأرض وغير مقيدة بهذه النشأة وإن كان المستخلَف ذا بدن وسنخه أرضيا.

الفائدة الخامسة: الذي يظهر من الآيات الكريمة أن آدم كان قد تلقَّى العلم اللَّدُني قبل نزوله الأرض، بل قبل دخوله الجنة، وهذا يدفعنا للقول أن الموجود الإنساني حقيقته ليست جهته البدنية التي يحيا بها على هذه الأرض، بل إن له مدى أعمق من ذلك، وأن وراء تلك الحقيقة البدنية الأرضية حقيقة بعيدة عن عالم البدن؛ هي الروح، تكون - بشهادة قصة آدم - سابقة على الوجود الأرضي؛ مخلوقة قبل خلق البدن، وهذا هو المقدار الذي اتفق عليه كثير من الفلاسفة من لدن أفلاطون وحتى صدر المتألهين وإن اختلفوا بعد ذلك في كيفية

٣٢٩

التقدم وتفسير ذلك التقدم وحدوثه أو قدمه على نظريات مختلفة، لكن القدر المتَّفق عليه بينهم أن خلق الأرواح كان قبل خلق الأبدان بمعنى ما وإن عبّر المشاؤون بأنها حادثة بحدوث البدن.

فهذه الروح أيضاً ذات درجات مختلفة تبعاً لاختلاف درجات العلم كما يظهر من قصة آدم، ووجود هذه الروح يتلاءم مع تفسير العلم أنه من سنخ المجرَّدات.

وأخيراً نود أن يسائل الإنسان نفسه: إذا كان تلك حال آدم وروحه المقدسة ودرجاتها العالية، فكيف يكون الحال مع مَن تكون حقيقته الأسماء التي أشير إليها بلفظ ( هؤلاء ) ؟!

الفائدة السادسة: أثبتنا سابقاً أن مِلاك استخلاف آدم هو العلم اللدني الذي تلقَّاه من الحق تعالى.

الفائدة السابعة: أن متعلق العلم الذي تلقاه آدم حقائق نورية حية عاقلة شاعرة جامعة للعلوم، وهي غيب السماوات والأرض. وما ورد في بعض روايات العامة والخاصة من أن المراد بالأسماء هي مسميات كل الأشياء في عالم الخلقة، فهو لا يتنافى مع ما نذكره؛ وذلك لأن الفرض أن العلم بالمعلومات التي هي جوامع ومحيطة بما تحتها من مصاديق وأنواع وأجناس، فيكون متعلق العلم اللدني جامع كل العلوم وذلك بجنسية اللام.

الفائدة الثامنة: أن هذه الآيات تقودنا إلى ما يثبته الإمامية من أبدية الخليفة على وجه الأرض ودوام وجود الحجة على هذه الأرض إلى أن يرث اللَّه الأرض وما عليها. ويتضح ذلك من خلال تساؤل الملائكة عن الخليفة الأرضي؛ حيث إنها نظرت إلى الصفات السلبية، فأجاب الحق تعالى: أنه يكفي في صحة الاستخلاف وجود إنسان كامل تتمثَّل فيه الحقيقة البشرية، وهو حاصل العلم اللدني، وهو خليفة اللَّه في أرضه. فلو فرضنا انتفاء ذلك الموجود الكامل على وجه الأرض فترة

٣٣٠

وبرهة زمنية ما، لصح اعتراض الملائكة وتساؤلهم وأن ما ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ غير متحقِّق - والعياذ باللَّه.

الفائدة التاسعة: ورد في الروايات أن الإمامة سفارة ربانية إلهية كالنبوة وإن لم تكن نبوة، فآدم حلَّ في مقام الخليفة والسفير، وهو الحجة صاحب التعليم وهم ينقادون إليه، فهو ينطبق عليه الحد الماهوي للإمامة؛ بدليل اكتمال الملائكة بالعلم الحصولي الذي حصلوا عليه وأنبأهم به آدم، وبالانقياد إليه وإلاّ لَمَا أمرهم تعالى بذلك، فهو إمام الإنس والجن.

الفائدة العاشرة: أن الخلافة هنا لا تكون بعزل المستخلف عن الأمر، بل هي خلافة مع وجوده تعالى ولا انحسار لقدرته تعالى، بل هو إقدار من جانبه لآدم. والخليفة هنا حاوٍ وجامع لصفات المستخلِف بنحو التنزُّل في عالم الإمكان، لا أن الاستخلاف هو عين تلك الصفات.

الفائدة الحادية عشر: ذكرنا مراراً أن مراتب التوحيد لا تتم إلاّ بالمرتبة الأخيرة؛ وهي: التوحيد في الطاعة، ومن هنا نجد أن الروايات المختلفة لدى العامة والخاصة تشير إلى أن كفر إبليس ليس كفر شرك، فهو لم يعبد غير اللَّه، وإنما كان جحده واستكباره عن توحيد اللَّه في مقام الطاعة، وقد ورد في بعضها أنه طلب من ربه إعفائه من السجود لآدم وسوف يعبده عبادة لا نظير لها، وجاء الجواب من الحق تعالى: (إني أريد أن أطاع من حيث أريد لا من حيث تريد) (1) ، وفي رواية أخرى: (إني أُريد أن اُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد) (2) ، وهذه هي الضابطة المهمة في بحث الإمامة، فالإمامة هي توحيد في عبادة وطاعة الباري من حيث يريد لا من حيث الذوات الأخرى تريد.

____________________

(1) قصص الأنبياء، 7، 43، وبحار الأنوار، ج2، ص262.

(2) تفسير القمي، ج1، ص41، وبحار الأنوار، ج11، ص141.

٣٣١

الفائدة الثانية عشر: أنه ورد في بعض الروايات عن أهل البيت‏ عليهم‌السلام : (الناس عبيد لنا) وهذه ليست عبادة ربوبية، بل هي خضوع وانقياد وعبودية الطاعة ونكران الذات والانقياد المطلق للسفير الإلهي، وهذا التسليم هو الذي نستفيده من الإسجاد الوارد في هذه الآيات.

الفائدة الثالثة عشر: أن قبول الأعمال مرهون بالتولِّي لخليفة اللَّه وسفيره، وهذا نستفيده من الغضب الإلهي الذي حل على إبليس لامتناعه عن السجود كما أن عبادته السابقة ذهبت هباء لا أثر لها؛ لعدم التولي والانقياد لخليفته. وقد أشرنا فيما سبق أن قبول الأعمال مرهون بالموافاة، أي موت المكلف الحي على موافاة التوحيد؛ أي أن لا يكفر، وقد ذكرنا أن التوحيد المقابل للكفر الاصطلاحي أحد أركانه التوحيد في الطاعة؛ أي تولِّي ولي اللَّه. وهذا الأمر الذي دلت عليه هذه الواقعة القرآنية مُدلَّل عليه أيضا في علم الكلام والتفسير.

وبتعبير آخر: أن الثواب على الأعمال هو التكامل، والتكامل هو السير إلى المقامات المعنوية العالية والإمام هو صاحب ذلك المقام الملكوتي الذي يسير بالنفوس في سيرها التكاملي من كمال إلى كمال.

الفائدة الرابعة عشر: أن الآية تثبت الولاية التكوينية؛ وذلك لأن سجود الملائكة لآدم - كما ذكرنا - لم يكن سجوداً عبادياً، بل طاعتيا، وهذا يعني إقداره عليهم، وهذا يعني ولايته على أهل السماوات والأرضين والغيب، ومن ثُم الإشراف على كل عمل يسند إلى الملائكة في الكتاب المجيد.

ويجب الالتفات إلى أن المقصود بالولاية التكوينية هي إقدار من عند الحق تعالى وفي طوله، من دون أن يوجب ذلك حصر قدرته وعزله عن مخلوقاته، ومن دون أن يؤدي إلى التفويض الباطل، ومن دون أن يحيط المخلوق - الذي أقدره تعالى - بقدرة الباري؛ وحيثية الشرك ناشئة من عزله تعالى وحصر قدرته، بل إن

٣٣٢

الاعتقاد باستقلالية الممكن استقلالية تامة هو شرك وندِّيَّة للَّه تعالى. أمَّا الاعتقاد بالطولية وإقدار اللَّه وأن كل عالم الإمكان هو في حضرته تعالى، فهو ليس بشرك، بل تمام التوحيد في الأفعال.

إذن في هذه الآيات بيان لجانب من جوانب الولاية التكوينية وخصوصاً إذا لاحظنا أن السجود قامت به كل الملائكة وليس بعضهم، بخلاف المواقف الأخرى في الآيات الكريمة حيث إنه كان بمحضر بعض الملائكة كما يظهر من بعض الروايات. أمَّا مقام السجود، فإنه كان بحضور جميع الملائكة كما يظهر من (كلهم، أجمعون، اللام في الملائكة)، ويؤيِّده ما ورد في الحديث أن جبرائيل لا يتقدم على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي كثير من المواطن يخاطبه الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك؛ فيعلله من أن اللَّه أسجدنا نحن أجمعين لآدم. وفي صحيح عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه‏ عليه‌السلام قال: (لمَّا مات آدم‏ عليه‌السلام ، ‏فبلغ إلى الصلاة عليه، فقال هبة اللَّه لجبرئيل: تقدَّم يا رسول اللَّه، فصل على نبي اللَّه، فقال جبرئيل: إن اللَّه أمرنا بالسجود لأبيك، فلسنا نتقدَّم على أبرار ولْده، وأنت من أبرِّهم) (1) .

الفائدة الخامسة عشر: يستفاد من جعل الخليفة سابقاً على الخلق أن الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق؛ وهو تفسير لِمَا ورد: (لولا الحجة لساخت الأرض).

الفائدة السادسة عشر: إن إمامة آدم وغيره من خلفاء اللَّه وسفراءه مطلقة وعامة للجميع البشر والملائكة والجن، وهذا يستدعي بيان مقدمات:

ـ أشرنا في الفصل الثاني إلى أن الاستخلاف لبني البشر على نحوين؛ أحدهما: استخلاف اصطفاء، وهو مقام خليفة اللَّه والإمامة، والثاني: الاستخلاف العام لنوع

____________________

(1) التهذيب، ج3، ص330، ح 1033.

٣٣٣

بني الشر، وفي هذا النحو اختلفت الآراء في الهدف من هذا الاستخلاف، فذهب جمع من العامة إلى أن الغاية من هذا الاستخلاف هو إعمار الأرض؛ تمسُّكاً بظاهر قوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) (1) ، ولكن في هذا الرأي مجانبة للحقيقة والواقع؛ وذلك لأن ظاهر كثير من الآيات القرآنية تدل على خلاف ذلك، أو بالأحرى تدل على أن الغاية من الخلقة والاستخلاف في هذه النشأة لا ينحصر بالإعمار، وأوضح تلك الآيات: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ؛ حيث فسَّرت العبادة بالمعرفة، فالغاية النهائية من الاستخلاف في هذه النشأة هو معرفة الحق تعالى حقَّ معرفته وإطاعته وعبادته، بل في قوله تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ... وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) إشارة إلى أن الغاية من خلق الإنسان ليس خصوصيته الأرضية، بل هو أمر أعمق غوراً، وآيات تسخير المخلوقات له وأنَّ أكرم الخلق هم بني آدم التي تدل دلالة قاطعة على أنه حُشِد في هذا المخلوق من الإمكانيات والطاقات ما لا يتناسب مع جعل الغاية هو إعمار جزء عالم الإمكان.

ـ وبتعبير فلسفي عرفاني: أن الإنسان هو المظهر الجامع للأسماء الحسنى، فمظاهر كل اسم من أسماء اللَّه الحسنى يمكن أن تتجلَّى وتظهر في الإنسان وفي أفعاله ودرجات وجوده بخلاف بقيَّة الكائنات؛ ولذا يوصف الإنسان بأنه مظهر الاسم الجامع اللَّه وإنْ كان هناك أبرز أفراد البشر؛ وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في مظهر اسم الجمع (اللَّه)، أمَّا بقية الأفراد، فقد يكونوا مظهراً لبعض الأسماء كالعليم أو غيره...

وعليه فالإنسان أتمُّ مخلوق وأشرف مخلوق وأكرم مخلوق، ومن غير الممكن أن يُخلق كائن بكل تلك الإمكانيات والقدرات من أجل أمر سافل، بل لا

____________________

(1) هود:61.

٣٣٤

بد أن يكون لأجل شي‏ء أعلى وهدف أسمى.

وهذا الأمر العقلي يتناسب مع ما ذكرنا من ظواهر الآيات القرآنية أن هدف الخلقة ليس هو مجرد إعمار الأرض، بل يجب أن يكون أمراً أسمى وأعلى، وأن المطلوب من الإنسان غير الذي هو مطلوب من غيره، وهذا من باب الكشف الإنِّي.

ـ أشرنا أيضاً إلى أن حادثة السجود حضرها جميع الملائكة بدون استثناء، ومع أن الملائكة هي التي تدير الكون بأمر اللَّه تعالى، وأن رُتبتها تفوق كثير من المخلوقات، فهي - مع ذلك - تنقاد لخليفة اللَّه؛ فيظهر من ذلك أن الجن وما دون الجن تنقاد أيضاً لخليفة اللَّه.

الفائدة السابعة عشر: من الأمور التي رُكّز عليها في قصة آدم هو مسألة خلق آدم من الطين، وأن اللَّه عزَّ وجلَّ تعمَّد إخبار الملائكة بذلك قبل أمرهم بالسجود؛ وهذا يدلِّل على أمر مهم، وهو: أن الملائكة مع أنهم معصومون، إلاّ أن تكاملهم ورُقيِّهم يتوقَّف على الامتحان والابتلاء - كما سوف تأتي الإشارة إلى ذلك في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة - وذلك بالأمر بالسجود، مع علمهم أنه مخلوق من طين وهو ليس من جنسهم، وهذا فيه تشديد في الابتلاء والامتحان؛ وما ذلك إلاّ لأن الطاعة - حينئذٍ - سوف تكون خالصة للَّه، لا شائبة فيها، فلو كان في خلق آدم مزية على خلق الملائكة، وكان له من النور ما يخطف به الأبصار، لكانت الطاعة مشوبة لا خالصة. وهذا يرشدنا إلى ما يجب أن تكون عليه الواسطة من كونها لمجرد الإرشاد والعلامتية والحرفية للذات المقدسة، وأن لا يرى فيها الإنسان شيئاً سوى حرفيَّتها؛ ولهذا كان التنبيه الدائم على الطبيعة الأرضية لآدم.

فكمال التوحيد وتمامه هو بالائتمام، وبه يتم الخلوص في العبادة، وهذا ليس شرطاً كمالياً للعبادة، بل يكون شرطاً مقوِّماً للتوحيد والعبادة؛ حيث يرى أن كل

٣٣٥

ما سوى اللَّه مخلوقاً للَّه.

وإذا نظر إليها على نحو الاستقلالية، فإنها سوف تكون ربَّاً، وحال الواسطة حال المعنى الحرفي الذي إذا لوحظ في نفسه فلن ينبأ عن معنى في غيره، وإذا لم يلاحظ كذلك، فسوف ينبأ عن معنى في غيره ويؤدي الغرض منه.

ومن هنا يجب أن تكون الطاعة خالصة للَّه عزَّ وجل؛ لا يُرى فيها إلاّ وجه المعبود، خالية من الزوائد والشوائب. وهذا لا يكفي فيه الخطور الذهني فقط، بل يجب أن يرى في نفسه حقيقة العبودية، والخلوص بهذا المعنى نستفيده من هذه الآية، وأن ما جرى لإبليس أنه كان يرى لنفسه استقلالية، فقال: ( لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ) ، فهو رأى أن لا يليق بشأنه أن يسجد لآدم، وهذا نحو من رؤية استقلال الذات ونفي للواسطة التي نصبها اللَّه، أي نفي للحاظ الافتقار إلى الباري. ومن هنا يظهر أن الإيمان أحد محاوره هو الإمامة؛ حيث فيها يظهر كيف يقوم الإنسان بإماتة الذات ودحر الأنانية، وأن عدم الاعتقاد بالإمامة هو بداية الشرك.

الفائدة الثامنة عشر: والحديث حول نفس الوسائط حيث يجب أن يؤمن فيها معنى الحرفية، وهذا يعني أنهم لا يشيرون إلى ذواتهم وغرور ذاتهم، بل هم في حالة خضوع وتذلُّل لباريهم، وهذا لا يكون إلاّ بعصمتهم العلمية والعملية؛ وذلك لأنه إذا نصب واسطة غير معصومة، فإنها سوف لا تكون مشيرة إلى الحق تعالى، وسوف تُظهر نفسها ولا تظهر عظمة اللَّه، ولدينا في بعض الروايات: (أن مَن حكم بغير حكم اللَّه فهو طاغوت).

وهنا يجب التدقيق في: ما هو منشأ عدم حكمه بما حكم به اللَّه؟ والجواب: هو غرائزه النفسية؛ فذاته طغت على ما يجب أن تكون عليه الذات الإنسانية من حقيقة العبودية للَّه والحرفية له تعالى، وطاغوت صيغة مبالغة من الطغيان، وقال

٣٣٦

في المفردات: (أنه كل متعدٍّ، وكل معبود ما سوى اللَّه)، أي تعدَّى حدود نفسه ونظر إليها على نحو الاستقلالية. والإيمان بالطاغوت هو الإيمان بذلك الطاغوت، وهي الذوات التي ليس فيها إراءة للَّه عزَّ وجل، إذن العصمة هي التي تؤمِّن لنا أن يكون الواسطة دائماً مظهراً للَّه يطوِّع إرادته لإرادة ربِّه في كل مكان ولا يرى لنفسه شيئاً.

فيجب على العابد:

1 ـ أن لا يلتفت إلى ذاته، وأن يرى نفسه - دائماً - مخلوقا.

2 - أن تكون الوسائط حقَّة؛ من عند اللَّه، لا أن توسُّطها له من عند المخلوق، بل توسطها منتسب إلى اللَّه ولا استقلالية لها في نفسها، وأن الواسطة دائماً في حالة خضوع وتذلل إلى اللَّه ولا تشير إلى نفسها. ومن هنا كان التنصيب للواسطة من عند اللَّه وكانت الواسطة معصومة؛ حتى لا ترى لنفسها مكاناً سوى مكان الطاعة والخضوع للَّه عزَّ وجل، بل يجب أن تكون - في تمام شؤونها - حاكية عن اللَّه؛ قال تعالى: ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ ) (1) .

وإذا لم تكن الواسطة آية، فسوف تكون حجاباً ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) ؛ إذ من الواضح أن المسيحيين لم يؤلِّهوا أحبارهم، وإنما كانوا مستقلين في أحكامهم؛ يحكمون بهواهم ورغباتهم، ولم يستقوها من عند اللَّه.

وفي كلام بعض أهل المعرفة والتحقيق عند شرحه للسفرين الأولين من الأسفار الأربعة قال: وفي هذين السفرين لو بقي من الأنانية شي‏ء يظهر له شيطانه الذي بين جنبيه بالربوبية ويصدر منه (الشطح)، والشطحات كلها من نقصان السالك والسلوك وبقاء الإنِّيَّة والأنانية؛ ولذلك بعقيدة أهل السلوك لا بدَّ للسالك

____________________

(1) آل عمران: 79.

٣٣٧

من معلم يرشده إلى طريق السلوك، عارفاً كيفيَّاته، غير معوج عن طريق الرياضات الشرعية، فإن طرق السلوك الباطن غير محصور، بل هو بعدد أنفاس الخلائق) (1) .

والأئمة عليهم‌السلام ‏في حالة خضوع وخشوع وتضعضع للَّه دائماً، ومَن اقترب منهم فقد اقترب من الحق تعالى لأنهم مرآة له وآيات له.

الفائدة التاسعة عشر: أن إحدى الشؤون النازلة لمقام سفير اللَّه وحجته هي الزعامة السياسية، وأن غصبها منه لا يعني غصب مقام الإمامة، وهي أدنى شؤون الإمامة، وقد أشرنا أن أعلاها هو الخلافة الأسمائية لأسماء اللَّه حيث يبيَّن في الآيات أن استحقاقه لهذا المقام هو بتعلُّمه لهذه الأسماء؛ فأدني الدرجات اعتبارية كما في نصبه في حديث الغدير وأعلاها تكوينية.

الفائدة العشرون: أن الإمامة أمر اعتقادي ومن أصول الدين وليست مسألة فرعية، ويبتني عليه أن البحث فيها يكون ذا ثمرة خطيرة وليس بحثاً متوسط الفائدة، ولا تنحصر الفائدة منه في كونه مصدراً للأحكام فقط، بل المسألة اعتقادية كمسألة النبوة تناط بالتواجد الفعلي، فيجب بحثها حتى مع غيبة المعصوم، كما أنها ليست مسألة فرعية يكون الحكم فيها دائراً مدار وجود الموضوع، ومن الغفلات الشديدة أن يقال: إن البحث في الإمامة لا محل له الآن.

وهذا الأمر نستفيده من مقام الولاية على الملائكة الوارد في الآية، وأن هذا المقام حقيقة تكوينية، ويحاول البعض من العامة الاستفادة من غفلة البعض ليعترض بأن الإمام الثاني عشر غائب فما الفائدة من البحث في إمامته؟ وهذا الأمر يؤثِّر على المبنى المتبع في تنظير الحكم والحكومة في زماننا هذا؛ حيث إنه مع عدم وجود الإمام فقد يقال بالشورى، وهذا كله غفلة عن حقيقة الإمام و مقامه

____________________

(1) الإمام الخميني، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، ص88 عند نقله لكلام الشيخ العارف القمشه أي.

٣٣٨

التكويني وأنه يتصرَّف في النفوس لا من باب الجبر، وقد مضى البحث في هذا مفصَّلا.

الفائدة الحادية والعشرون: إثبات المعرفة النورانية وأنهم كانوا أنواراً، لِمَا تقدم من أن اسم الإشارة (هؤلاء) وضمير الجمع (هم) المتكرِّر ثلاث مرات، إنما يستعمل في الحي الشاعر العاقل، وأن تلك المسمَّيات غيب محيط بالسماوات والأرض، وأنه بالعلم بأسمائهم استُحق مقام الخلافة والتفوق على الملائكة، فهذه المسميات موجود نوري؛ أي حي شاعر لطيف منشأ للقدرة والعلم، وكونهم أعلى وأرفع شأنا من آدم فضلاً عن الملائكة. وفي الحديث عن أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام : (إنه لا يستكمل أحد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية، فإذا عرفني بهذه المعرفة، فقد امتحن اللَّه قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفاً مستبصراً،... معرفتي بالنورانية معرفة اللَّه عزَّ وجل، ومعرفة اللَّه عزَّ وجل معرفتي بالنورانية، وهو الدين الخالص الذي قال اللَّه تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (1) ) والحديث طويل يتناول فيه معرفتهم بالنورانية وشؤون الإمامة ن وهو وإن كان حديثا مرسلاً إلاّ أن مضمونه عالٍ، وهكذا الرواية التي تليها من نفس الباب عن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام السجاد والباقر عليهما‌السلام وهي كالسابقة عالية المضامين ويشير بعض الأعلام في ذيلها (إنما أفردت لهذه الأخبار باباً؛ لعدم صحة أسانيدها، وغرابة مضامينها، فلا نحكم بصحتها ولا ببطلانها ونرد علمها إليهم - ‏عليهم السلام) وهذا عجيب منه‏(قدس سره‏)؛ حيث إن أحاديث النورانية عنهم كثيرة في غير هذا الباب وليس فيها غرابة، انظر: بحار الأنوار/ المجلدات 25 - 24 - 23 يذكر روايات كثيرة في بيان مقام الإمامة التكوينية

____________________

(1) البيِّنة: 5.

٣٣٩

وعلومهم اللَّدُنيَّة، وكذا من طرق العامة التي بمضمون (أول ما خلق اللَّه نور نبيك يا جابر).

وفي حديث طارق بن شهاب عن أمير المؤمنين المروي في البحار / مج25/ ص169: (يا طارق، الأمام كلمة اللَّه و حجة اللَّه ووجه اللَّه ونور اللَّه وحجاب اللَّه و أية اللَّه، يختاره اللَّه ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية على جميع خلقه، فهو وليه في سماواته وأرضه أخذ له بذلك العهد على جميع عباده، فمَن تقدم عليه كفر باللَّه من فوق عرشه) وهذه الموارد كلها قد ذكرناها في النقاط الماضية حيث إنه يكون حرفياً بالنسبة للَّه مشيراً إليه دائماً، وأن إمامته تشمل جميع الخلائق. و لا نريد الاسترسال في البحث الروائي وإنما أوردنا البعض فقط من باب التأييد لِمَا يستفاد من ظهور الآية الكريمة، ومن أراد الاستزادة فعليه بما ورد عن الإمام الرضا في الكافي حيث يزاوج بين مقامات الإمام العالية وشؤونه النازلة.

الفائدة الثانية والعشرون: أن اللَّه عزَّ وجلَّ بيّن موضوعية الواسطة والوسيلة وضرورة الأخذ منها، فلا يقول قائل: ملك مقرَّب أو عبد ممتحن، وإنه يجب أن يكون كل شي‏ء عن طريقه. وفي نفس الوقت نؤكِّد أن تمام وجودها آية والاقتراب من الحق سبحانه هو بالواسطة، ومن دون الواسطة سوف يكون كفراً إبليسياً وحجابا.

الفائدة الثالثة والعشرون: أن الملائكة على عظم مقاماتهم وخلوصهم وصفائهم ونورانيتهم غير مؤهلين لخلافة اللَّه تعالى.

الفائدة الرابعة والعشرون: أن إضافة الرب إلى ضمير الخطاب (ربك)، يفيد أن هذه السنة الإلهية في هذه الأمة أيضا، بل إن صياغة التعبير المكرَّر في السور لهذه الواقعة آب عن الاختصاص بأمة دون أخرى، بل لنوع البشرية، هذا مضافاً إلى ما ذكرناه من أن عموم جواب الملائكة لدفع اعتراضهم يقتضي التأبيد أيضا.

الفائدة الخامسة والعشرون: أن مقتضى الجملة الاسمية واعتماد هيئة الفاعل في

٣٤٠