الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127246
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127246 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

منهج المعرفة الدينية

ونتناول فيه منهج الحجج في بحث الإمامة، فيقع البحث في الكتاب والسنة والعقل والمعرفة القلبية، والعلاقة والارتباط بين هذه الأدلَّة، لكن قبل الولوج في هذا البحث لا بأس بذكر عدَّة مقدِّمات؛ نتعرض فيها لتصوير الأحكام الشرعية في مُجمل العقائد، وبالتالي يمكن تطبيق قواعد أصول الفقه لاستنباط الأحكام الشرعية في العقائد.

المقدّمة الأولى:

ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين؛ أحدهما: الفقهي، والآخر: الأصولي.

يقصد بالأوَّل: الحكم الشرعي الواقعي المجعول بالجعل الأوّلي كوجوب الصلاة والخمس وقراءة السورة، ويكون ملاكه في نفسه... فهو ناظر إلى الواقع ويتعلَّق بالعناوين والموضوعات الواقعية، وبتعبير آخر؛ حكم أوَّلي مرتَّب على واقع الأفعال.

أمَّا الحكم الشرعي الأصولي، فهو الذي يبحث عنه في علم الأصول ويكون حكماً طريقيَّاً، الهدف منه إحراز الحكم الواقعي؛ فملاكه ليس في نفسه.

والبحث في: إمكان تصوير كلا القسمين في العقائد أو لا، ولذا سوف يكون البحث من الناحية الثبوتية والإثباتية.

٢١

أوَّلاً: البحث الثبوتي.

والبحث من جهتين:

الأولى: إمكان التعبُّد بالحكم الواقعي الأوَّلي في العقائد، سواء تفاصيلها أم اُمَّهات مسائلها.

والثانية: إمكان ثبوت الحكم الشرعي الأصولي في العقائد؛ بمعنى: هل يثبت بالظن النشأة السابقة، أو أحوال البرزخ؟... فعندما يُقال لا يمكن التعبّد بالظن، لا يكون ذلك منعاً للحكم الشرعي الواقعي؛ بل منعاً للحكم الأصولي.

أمَّا الجهة الأولى:

وهو إمكان وجود حكم شرعي فقهي في باب العقائد؛ أي هل يمكن للشارع أن ينشئ حكماً شرعياً بوجوب الإيمان بالرجعة مثلاً أم لا؟

إن تصوير الحكم الشرعي في تفاصيل العقائد، بل حتّى في مسائل الإمامة والنبوّة والمعاد، ليس بالأمر المشكل؛ وذلك لعدم تأتِّي إشكال وشبهة الدور، إذ إنّ هذه المسائل تثبت بعد توحيد الحقِّ تعالى والإيمان به، لذا سوف نركِّز الكلام حول التوحيد، وإثبات إمكانية الحكم الشرعي فيه.

والمدَّعى هو: إمكان ذلك، وعدم وجود المانع منه.

والدليل على ذلك يتَّضح من خلال النقاط التالية:

1 - إن الإيمان الذي يحصل لدى الفرد هو من وظيفة القوَّة العملية؛ أي العقل العملي، وليس من وظيفة القوَّة النظرية؛ وذلك لأن الإيمان هو عقد القلب على شيء، أي الإذعان والتسليم بذلك الشي‏ء، وبهذا يكون فعلاً من أفعال النفس.

أمَّا القوَّة النظرية، فوظيفتها الإدراك البحت، والإدراك بعد حصول مقدِّماته من الأدلَّة والبراهين لا يكون اختيارياً، بل يحصل تلقائياً، لكن ليس كلُّ إدراك يستتبعه إذعان من القوَّة العملية؛ فقد يحصل إدراك بحقيقة ما، ومع ذلك تأبى النفس

٢٢

التسليم بها والإخبار إلى وجودها والالتزام بها، ويتصرَّف الإنسان على خلاف ذلك.

ومن هنا، فإن الخطابات الشرعية والإحكام التي يجعلها الشارع، لا يكون متعلَّقها الإدراك، ولا الفحص عن مقدِّماته، وإنما متعلَّقها هو الفعل القلبي الذي تقوم به القوى العملية، وهنا يكمن موضع الاشتباه؛ حيث أن البعض تصوَّر أن متعلق الحكم الشرعي هو الإدراك بأن يخاطب الشارع الفرد: (أدْرِك ربك) أو (اعْرِف ربك) فأشكل بالدور وما شابهه. وما دام الإيمان وظيفة القوى العملية، فإن الترغيب والترهيب سوف يكون مؤثِّراً على النفس حتّى تنصاع القوى العملية للأدلّة الصحيحة والبراهين الساطعة التي أدركتها القوى النظرية.

2 - قد يُشكل البعض: أن المناطقة عرّفوا العلم بأنه التصديق والجزم فيعود الإشكال؟

والجواب عن ذلك: أنه طبقاً لآخر تحقيقات مدرسة الحكمة المتعالية، فإن الحكم في القضية هو غير العلم.

بيان ذلك:

أن صدر المتألِّهين ذهب إلى أن العلم الحصولي هو حصول صورة الشي‏ء لدى العقل، وهذا التصوُّر: تارة لا يولَّد الإذعان، فيكون تصوراً محضاً، وتارة يكون كاشفاً تامَّاً يتولَّد منه إذعان النفس، فيكون تصديقاً، وهذا هو الحكم (وهُو فعل نفساني ليس من قبيل العلم الحصولي والصورة الذهنية) (1) .

وأصحاب النفوس المريضة لا يتولَّد لديهم إذعان حتّى لو كان التصوُّر مبنيَّاً على أدلَّة حقيقية؛ وذلك للحُجُب المانعة من حصول التصديق، أو الأمراض النفسانية الإدراكية أو العملية، نظير:

____________________

(1) صدر المتألِّهين، رسالة في التصور والتصديق،ص 313.

ويضيف العلاّمة الطباطبائي: أن الحكم هو فعل نفساني في ظرف الإدراك الذهني، والتصوُّر هو الصورة الذهنية الحاصلة من معلومة خاصَّة، والتصديق هو الصورة الذهنية الحاصلة من علوم معها إيجاب وسلب كالقضايا الحملية والشرطية. نهاية الحكمة ص 250ـ المرحلة 11.

٢٣

الجربزة والوسوسة والعناد واللجاج والعصبية وغيرها؛ لذا يجب على الباحث والمستدِل أن يعمل على تهذيب النفس، وهذا التهذيب يكون بأحكام الشريعة.

والحاصل، أن قوام الحكم الفقهي هو كون متعلَّقه فعلاً اختيارياً، ويُجعل على امتثاله الثواب وعلى تركه العقاب، وكلا الركنين متوفِّران في الإيمان بالتوحيد، وإليه الإشارة في قول الصادق‏ عليه‌السلام : ((الإيمان عمل كلُّه)).

ومن هنا يمكن القول بأنه من اللطف الإلهي الواجب أن يأمر الحق به وأن يرغِّب في توحيده وأن ينهى ويرهِّب من الشرك به، وهذا الأمر يفسِّر لنا الأحاديث الواردة بأن على اللَّه المعرفة والبيان وعلى العبد الإيمان والتسليم (1) .

3 - إن الشبهة الحاصلة لدى البعض؛ من أن البراهين والأدلَّة المتكوِّنة من الصغرى والكبرى علِّة فاعلية للنتيجة والحكم، فقالوا باستحالة تخلُّفها عنهما، غيرُ تامَّة.

والصحيح أن هذه البراهين لها وظيفة إعدادية؛ بمعنى أنها لا تولِّد اليقين والجزم، بل هو فعل النفس نتيجة لإعداد وتهيئة تلك الأدلة، ومادام ذلك فعل النفس، يكون لإعداد النفس وتهذيبها أثر فعَّال في تولُّد اليقين من الأدلَّة الصحيحة. والفلاسفة يعترفون أن تلك الأدلَّة لا تورِّث اليقين، بل الظن؛ ولذلك يقولون: إنه إذا حصل إذعان وتسليم من النفس، فإن هذا كافٍ في المقام، وقد مدح الحقُّ تعالى: ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ ) (2) فمع أن لديهم من جهة الإدراك ظنٌّ، لكن من جهة الإذعان والتسليم لا يوجد لديهم تردُّد.

فاتضح من خلال هذا الاستعراض؛ أن الحكم الشرعي يعمُّ كلَّ المعارف الإلهية حتّى التوحيد، فثبوتاً أمكن تصوير الحكم الشرعي الفقهي.

____________________

(1) الكافي: كتاب التوحيد الباب 54 الحديث:12، 5.

(2) البقرة: 46.

٢٤

أمَّا الجهة الثانية:

وهو إمكان التعبُّد بالحكم الشرعي الأصولي.

ذكرنا سابقاً أن الغاية من الحكم الأصولي هي الإرائة، فهل تحصل الإرائة من الظن؟

هذه المسألة تداولها المتأخرون بشكل وافٍ بعد أن تعرَّض لها الشيخ الأنصاري في رسائله في تنبيهات الانسداد، وحكى (1) عن كلٍّ من المحقِّق الطوسي والأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك والشيخ البهائي والعلاّمة المجلسي والمحدِّث الكاشاني وغيرهم إمكان ذلك، وحكى (2) عن الشيخ الطوسي كفاية الجزم والظنِّ في الاعتقاد إذا طابق الواقع، وإنْ عصى المكلَّف بترك تحصيل الاعتقاد عن دليل قطعي؛ لأنه واجب مستقل، وذهب إلى ذلك الميرزا القمي في قوانينه (3) والمحقِّق الأصفهاني في نهاية الدراية (4) والسيَّد الخوئي في مصباح الأصول. وقد ذهب الشيخ نفسه إلى إمكانه بحسب مقتضى الصناعة إلاّ أنه منعه بحسب الوظيفة الشرعية.

والسرُّ في ذلك؛ أن اليقين والجزم ليس على درجة واحدة؛ إذ أنه - كما ذكرنا - يتأثَّر بدرجة الإدراك وبالعوامل النفسية المختلفة. فلدينا إذعان ينبع من اليقين العلمي، وإذعان ينبع من الظنِّ الإطمئناني( المتاخم للعلم)، وهناك إذعان يتولَّد من تساوي الطرفين؛ وذلك فيما دأبت عليه النفس من أخذ الحيطة في المحتملات البالغة الأهمية، فلا تراعي درجة الاحتمال، وإنما تراعي أهمية المحتمَل، فيحصل

____________________

(1) مبحث الظن/ تنبيهات دليل الانسداد /الأمر الخامس اعتبار الظن في أصول الدين والأقوال المستفادة من تتبع كلمات العلماء في هذه المسألة من حيث وجوب مطلق المعرفة.

(2) نقله (رحمه الله ) عن الشيخ في (العدة ) / مسألة حجية أخبار الآحاد، وفي آخر ( العدة )

(3) القوانين: 2 / 164ـ 220.

(4) نهاية الدراية 2 / 400 - ط مؤسسة آل البيت ( عليهم السلام ) مبحث الظن دليل الانسداد.

٢٥

الإذعان والجزم مع وجود الاحتمال فقط؛ وذلك لأهمية المحتمَل وخطورته.

والخلاصة: أن الإذعان - وهو فعل القوى العملية - يتبع في الغالب الإدراك، وهو فعل القوى النظرية، وبما أن الإدراك ذو درجات؛ تبدأ من تساوي الطرفين وحتّى اليقين والعلم، فإن الإذعان كذلك؛ تختلف درجته - مع بقائه إذعاناً وتسليما.

تبقى الإشارة إلى أن البعض يعتبر أن الشك هو درجة إدراكية، وهذا غير صحيح؛ إذ أن الشك هو عدم الإذعان وحالة التردُّد العملي، وبالتالي فهو صفة لحالة من حالات القوى العملية، فلا إذعان مع الشك، فما ذكر من كون تساوي الطرفين هو الشك الإدراكي، فهذا غير صحيح؛ لذا لم نعبِّر عنه كذلك.

ثانياً: البحث الإثباتي.

بعد أن تمَّ تصوير إمكان توجُّه الحكم الشرعي في العقائد، سواء أصولها أم تفاصيلها، تصل النوبة للبحث الإثباتي؛ وهو مقدار ما قامت عليه الأدلَّة في الأحكام الشرعية.

1 - الحكم الشرعي الفقهي:

أي الحكم الأوَّلي، فيمكن القول أن الآيات الواردة بصيغة ( آمَنُوا بِاللَّهِ ) كلُّها أحكام شرعية لوجوب التوحيد، لذا لم تخاطب الجانب الإدراكي البحت؛ بل أتت بلفظ الإيمان، وهو ما أشرنا إليه سابقاً في البحث الثبوتي، وعليه تكون هذه الأوامر مَوْلَويَّة لوجوب طاعة اللَّه والإيمان به وتوحيده.

أمَّا الآيات الواردة بوجوب الفحص والتفكير والمعرفة، نحو ( انظُرُواْ مَاذَا فِي

٢٦

السَّمَاوَاتِ... ) (1) وغيرها، فهي أوامر إرشادية، ترشد إلى وجوب الفحص الذي أدركه العقل؛ إذ أن الفحص مقدِّمة للإدراك، والإدراك متقدِّم على الإذعان.

أمَّا بالنسبة لتفاصيل الاعتقادات، فهي أيضا قامت أدلَّة كثيرة على وجوب الاعتقاد بها إذا حصل العلم بذلك؛ بمعنى، أن الحكم فيها بخلاف الأصول، فهناك يجب تحصيل الإيمان. أمَّا هنا، فالحكم معلَّق على قيام العلم، أو الحجَّة المعتبرة، على تلك التفاصيل؛ فالاعتقاد والإيمان بها واجب حينئذٍ، بل في بعض الأخبار وجوب التسليم الإجمالي بما أنزله اللَّه وما جاء به الرسول وبيّنه الأئمَّة وأن هذا هو مقتضى الإيمان بهم. ففي الرواية عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: ((مَن سرّه أن يستكمل الإيمان كلَّه، فليقل: القولُ مني في جميع الأشياء قول آل محمد، فيما أسرُّوا وما أعلنوا، وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني)) (2) .

2 - أمَّا بالنسبة للحكم الشرعي الأصولي:

فهل من الممكن التعبُّد بالظنِّ في أصول الاعتقادات وتفاصيلها؟

البحث هنا يختلف عن البحث في الحكم الأوَّلي؛ لذا سوف نقسِّمه إلى ثلاثة أقسام:

1 - التعبُّد بالظنَّ في التوحيد والنبوَّة.

يوجد تسالم على عدم التعبُّد بالأدلَّة الظنية في هذين الأصلين؛ وذلك للدور الحاصل في المقام. توضيح ذلك:

أن الإيمان بالتوحيد والنبوَّة يجب أن يستند إلى شي‏ء حجيَّته ذاتيَّة. أمَّا إذا كانت

____________________

(1) يونس 10: 101.

(2) أصول الكافي، كتاب الحجة، باب 15.

٢٧

حجيَّته عرضية، فيجب أن ينتهي إلى ما هو بالذات؛ أي إلى دليل عقلي اعتبره الشارع، و الفرض أن البحث مازال في التوحيد، فلم يثبت الشارع بعدُ حتّى نثبت اعتبار الشارع له أو عدمه.

2 - التعبُّد بالظنِّ في الإمامة والمعاد والعدل.

فالأشكال السابق غير وارد هنا؛ وذلك لأنَّ البحث فيما بعد ثبوت التوحيد والنبوَّة وإذعان النفس بهما، لكن مع ذلك يوجد تسالم بين الفقهاء على عدم جواز الاستناد إلى الدليل الظنِّي في إثبات الإمامة والمعاد، بل يجب الاستناد إلى الدليل القطعي؛ والسرُّ في هذا التسالم، هو أن الواجب في أصول الاعتقادات التحرُّز والتحفُّظ عن الوقوع في الضلال، وهذا الوجوب عقلي، والركون إلى الظنٍّ لا يؤمِّن هذا الجانب، لا أن الظنَّ غير محصِّل للإذعان، بل يمكن الإذعان والتسليم مع الإدراك الظنِّي، لكن هذا لا يكون حصَّناً أمام الشبهات والإشكالات.

3 - التعبُّد بالظنَّ في تفاصيل المعارف الإلهية.

البحث هنا حول المقدار الذي ثبت من جواز التعبُّد بالظنِّ لنيل تفاصيل الاعتقادات. وبعد أن ثبت في علم الأصول حجيَّة أخبار الآحاد والظواهر لتحصيل الأحكام الشرعية الفقهية الفرعية، يرد التساؤل: هل يمكن تعميم الحجيَّة لتشمل تفاصيل المعارف؟

وقبل البدء بأخبار الآحاد، نشير إلى أن كثيراً من تفاصيل المعارف قامت عليها الأخبار المتواترة، أو المستفيضة، والتي تورُّث القطع ويحصل بها العلم، وهي خارجة عن بحثنا.

٢٨

أمَّا أخبار الآحاد:

فأول إشكال يعترضنا، هو أن العمل يكون بالخبر واجباً إذا كان مؤدَّاه حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي. وتفاصيل الاعتقادات ليس من الواجب الاعتقاد بها، فلا معنى لوجوب العمل بخبر الواحد.

والجواب عن هذه الشبهة وإنْ كان يظهر ممَّا تقدَّم ذكره في البحث، لكنَّنا نفصِّل ونقسِّم تفاصيل الاعتقادات إلى قسمين:

أحدهما: المعارف التي تتعلَّق بعالم المادة وشؤون الدنيا؛ نحو: أن تحت الأرض كذا، أو فوق السماء كذا، والظن بأحوال القرون الماضية وكيف كانت حياتهم، ولم يقل أحد بوجوب الاعتقاد بها حتّى وإنْ حصل العلم بها.

والثاني: التفاصيل المتعلِّقة بأفعال الحقِّ سبحانه، وكيفية خلقه، ونحو أفعاله، وما هو مرتبط بعالم الغيب من مختلف المعارف، وهذه يجب الاعتقاد بها، لكن في حالة حصول العلم أو قيام الحجَّة المعتبرة، وقد جعلها المتقدِّمون - كالصدوق والمفيد - من قسم العقائد. والدليل على ذلك - مضافاً إلى أنه مقتضى عموم أدلَّة الحجية التعبدية، لو ثبت شمولها - عدم تعليق وجوب الاعتقاد بها على خصوص العلم، وإيجاب الاعتقاد بتوسُّطها، ولو بدرجة العقد الظني:

1 - إنه هناك الكثير من الآيات التي توجب الإيمان بالغيب مطلقاً، بل تذكر أن الإيمان بالغيب من الصفات الممدوحة في المؤمنين. وإذا كان الملتزِم بالغيب على نحو الإجمال ممدوحاً، فتدلُّ على عموم موضوع الأدلَّة الأولى لمَن قامت لديه أدلَّة تفصيلية على هذا الغيب. فإن الإيمان بذلك يكون واجباً.

2 - إن مقتضى الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته، هو التسليم بكلِّ ما صحَّ عنه، وبكلِّ ما ثبت نسبته إليه.

٢٩

3 - إن هذه الروايات تتناول صفات الحق وحكمته وأفعاله التي دلّت الأدلَّة العامَّة على لزوم الاعتقاد بها، مع أن الاعتقاد بهذه التفاصيل لا ريب في رجحانه ويزيد من قوَّة الإيمان، وهو مصحِّح للحجية.

4 - إن بعض الروايات الواردة في بعض التفاصيل قد صرَّحت بوجوب الاعتقاد بها كالرجعة، وهذه لا خصوصية لها، فيعمُّ الحكم جميع التفاصيل كعذاب القبر والبرزخ ونحوهما، ولا يُتوهَّم الدور كما لا يخفى، خصوصاً إذا ضممنا إلى ذلك أن الكثير من التفاصيل ثبت بروايات مستفيضة.

5 - إنه قد وردت روايات كثيرة في كفر - وإنْ لم يكن بالمعنى الخاص الاصطلاحي - مَن جحد ما تقوم به الحجَّة في بعض الضروريات، ولا يعتقد بها. وخصَّت الحجَّة بنقل الثقات (1) .

6 - ثُم إنه لو فرض الشك في وجوب الاعتقاد وعدم قيام الدليل، فإنه لا يُسوغ الردُّ عقلاً ولا شرعاً؛ إذ بينهما مغايرة.

أمَّا عقلاً - وذلك لعدم قيام الدليل على النفي - فإذا ردّ وجزم بالنفي، يكون كذباً؛ لعدم قيام الدليل على النفي حتّى لو كان ردُّه صحيحا.

أمَّا شرعاً، فلأن احتمال الصدور من الشارع وارد،، فمع احتمال الصدور كيف يجوز الرد؟ وقد ورد في رواية زرارة عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : ((لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا، لم يكفروا)) (2) .

ثُم قد يورَد إشكال ثان؛ حاصله: أن المطلوب هو الاعتقاد، وهو جزم وإذعان، فكيف يمكن تحصيل ذلك من الظن؟

وجواب هذا الإشكال واضح؛ وهو: أن الإذعان والجزم ذو مراتب، فقد يحصل

____________________

(1) الوسائل، باب/ 2؛ مقدمة العبادات.

(2) الكافي 2: 406.

٣٠

من العلم والقطع، وهو أعلى المراتب، وقد يحصل من الظن المعتبَر، فهو جزم إلاّ أنه ظنُّي؛ فالتفرقة في الفعل النفسي.

وقد يُشكَل أخيراً بالآيات الواردة في النهي عن اتباع الظن، وخصوصاً أن علماء الأصول حملوا هذه الروايات على الظنِّ في الاعتقادات وأن المطلوب فيها اليقين.

وقد أجيب عن هذا بأجوبة عدَّة:

منها: أن المراد من الظنِّ المنهيِّ عن اتباعه؛ هو الظنّ الذي لا يرجع إلى اليقين. أمَّا إذا كان مدرِكاً حجية هذا الظنِّ قطعياً، فلا مانع من متابعته.

ومنها: أن النهي عن اتباع الظنِّ وارد في أصول الاعتقادات. أمَّا في التفاصيل، فلا يُعلم أن الآية تنهى عنه.

ومنها: أن الآيات واردة في ذمِّ قسم من الناس الذين يرون المعاجز النبوية الثابتة ولا يؤمنون بها، ويتَّبعون الظنَّ وما جاءهم به آباؤهم. فالآيات واردة في ذمِّ مَن يتَّبع الظنَّ المقابل والمنافي لِمَا دلّ عليه اليقين.

ومنها: أن الظنَّ إنمَّا يُذم أتباعه؛ حيث يمكن تحصيل اليقين والعلم. أمَّا مع عدم إمكان تحصيل اليقين، فإن النوبة تصل إلى الظنون المعتبَرة. وبعبارة أخرى، أن المسائل في المعارف، كلَّما ترامت وابتعدت عن الاستدلال بالبديهيات، وتوغَّلت في النظرية، كلَّما قلّ وضوح يقينيتها - كما هو مشاهد بالوجدان، وكانت إلى الظنِّ أقرب منها إلى اليقين، كيف لا! وهذا ابن سينا يقرّ بالعجز عن إقامة الدليل العقلي على المعاد الجسماني مع أنه من أصول الدين، ويتوسّل ببرهان إخبار الشريعة المحمدية الحقَّة بذلك.

ثُم هناك نكتة مهمَّة يجب التنبه إليها؛ وهي جواب أيضا عمَّا هو وارد في القرآن؛

٣١

وهي أن الظنَّ واليقين في اصطلاح القرآن (1) ليس هو طبقاً للمتعارف الشائع من كونهما درجتين من درجات الإذعان، بل المراد منهما أن المقدِّمات إذا كانت لا يصحُّ الركون إليها - وإن ولّدت احتمالاً، فإنها تسمَّى ظنَّا. وأمَّا إذا كانت المقدِّمات ممَّا يصحُّ الركون إليها، فإنه يعبِّر عنها باليقين.

ومنها: ما ذكره صاحب القوانين (2) من أن الاستناد إلى دلالة ظواهر تلك الآيات هو استناد إلى الظنِّ أيضا، فكيف يمكن الاستناد إليها.

أمَّا أدلَّة عموم التعبُّد بخبر الواحد:

بالنسبة للآيات الواردة على حجية خبر الواحد، فإن أهمَّ آية دالَّة على ذلك هي آية النفر. وفيها أنّ التفقُّه متعلِّق بالدين؛ وهو يشمل الأحكام برمَّـتها؛ فرعية وأصولية، فمَن يريد التفقُّه يجب أن يسعى للتفقُّه في كلا المجالين. والإنذار كذلك يكون في الفروع والأصول، غاية الأمر وجد مانع من شمول الآية لأصول الاعتقادات، دون تفاصيلها، وهو المانع الخارجي الذي أشرنا إليه سابقا.

ومن أدلَّة حجية خبر الواحد: السيرة؛ وهي قائمة على تعاطي خبر الواحد في تفاصيل الاعتقادات، بل هو مرتكز في وجدانهم كما نرى في كتبهم. فهذا العدد الكبير الهائل من الروايات التي يرويها الرواة في تفاصيل المعارف شاهد عليه، وهذه هي السيرة الفعلية. ويمكن التعبير عن السيرة بأن لها إطلاق تقديري؛ بمعنى

____________________

(1) وهذا ليس بدعاً في اصطلاحات القران؛ بل له مماثل في لفظ: القرية، فهي في اصطلاح القران تعني: الأمم عن المعارف الإلهية، ولا يلاحظ فيه العمران. كما يَطلق المدينة على التي فيها تمدُّن المعرفة الإلهية لا تمدُّن المادة والبدن.

(2) القوانين في الأصول: ص 168.

٣٢

أنه لو لم تكن لهم سيرة قائمة بالفعل على العمل بخبر الواحد في التفاصيل، فإن ارتكاز السيرة بنحو يكون مدعاة لتعميمه وعدم الردع من الشارع لهذا الارتكاز، يعني إمضاؤه له.

كما أن الأصوليين يستندون في حجية أخبار الآحاد إلى روايات مستفيضة؛ مفادها مثل: أن السائل يسأل الإمام‏ عليه‌السلام : فلان ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فيجيب الإمام‏ عليه‌السلام : بالإيجاب.

و(أخذ معالم الدين) شامل للفروع والأصول.

أمَّا بالنسبة لحجية الظواهر:

فقد أشار الكثير إلى أن حجية الظواهر ليست أمراً متنازعاً فيه، وهذا يعني أن الدليل على حجيَّتها هو القطع؛ بتقريب: أن الشارع لم ترد له طريقة أخرى في التعامل مع المكلَّفين غير الطريقة القائمة فيما بينهم؛ وهو الاعتماد على الظواهر، وأن كثيراً من المعارف الإلهية وتفاصيلها قد ورد في القرآن الكريم ولم تكن للشارع في تفهيم القرآن طريقة غير طريقة أهل المحاورة، فهذا يثبت حجية الظواهر في المعارف أيضا.

وقبل أن نختم البحث في هذه المقدِّمة، نشير إلى نكات مهمَّة:

1 - إن هذه المقدِّمة والتي تليها تبرز أهميَّة أن البصيرة في هذه المباحث توجِب حصول بصيرة في كثير من المجالات، والعديد من المخاصمات في تفاصيل الاعتقادات.

2 - من المقرَّر في علم الأصول أن حجية خبر الواحد والظواهر منوطة بالفحص عن المعارض، والأمر هنا كذلك، بل الفحص عن المعارض في تفاصيل الاعتقادات يكون أشدّ وأخطر وأهمَّ لكثرة القرائن المنفصلة في هذا الباب،

٣٣

ومنها القرائن العقلية، فلا بدَّ من الخوض في البحوث العقلية بمقدار كافٍ حتّى يمكن فهم كثير من الروايات.

3 - إن الأحكام الشرعية الواردة في التفاصيل، حكمها على وزان الفروع. فما كان منها ضروري، فإن عدم الإيمان به وردّه، حكمه حكم الارتداد، وغيره قد يوجب الفسق في حالة التقصير.

المقدمة الثانية:

ونتناول فيها البحث حول الميزان وأصول الأدلة في علم العقائد، مع استعراض العلاقة القائمة بين العلوم وما يرتبط منها في بحث العقائد.

فما هي أصول العقائد؟

يطلق الأصل على معان عدَّة؛ فقد يطلق ويراد به الأساس للشي‏ء، وتارة يطلق ويراد به ما هو السبب للمسبَّب. وفي الاصطلاح، عندما يطلق على ما يعتبر أصلاً لعلم أخر، فإنه يُقصد به: العلم الذي يتكفَّل إيضاح منهجية علم آخر، وتهيئة قواعد لا تدخل نفسها كمواد في قياس ذلك العلم. ومن هنا تفترق القواعد الفقهية عن القواعد الأصولية بالنسبة لعلم الفقه، فإن القاعدة الفقهية بنفسها تدخل في استنباط الحكم الشرعي، فيستفاد منها في باب التطبيق، بينما القاعدة الأصولية لا تحضر بنفسها في الفقة، بل هي تحدِّد المنهج الذي يجب اتباعه في الاستنباط.

وبالنسبة للعقائد، يمكن القول أن القواعد العامَّة التي تذكر في علم الكلام أو الفلسفة، يتمُّ تطبيقها في الإلهيات، فتكون من قبيل القواعد الفقهية. ويمكن التعبير عن التطبيق بالقول: ( إن المحمول بنفسه يأتي في النتيجة ).

وعلى كلٍّ... ففي اصطلاح أهل الفن، يطلق الأصل ويراد به أحد هذين المعنيين.

والغرض هنا هو البحث حول إطلاق أصول أدلة العقائد:

٣٤

هل يراد بالأصل ما يبحث في منهجية الاستدلال أم يُراد به ما يرادف القواعد الفقهية؟

والجواب عن هذا التساؤل:

1 - إنه إذا أطلق الأصل هنا وأُريد المعنى الأوّل، فالعلم الباحث عن منهجية الاستدلال في العقائد هو: علم أصول الفقه.

والسرُّ في ذلك، أننا ذكرنا فيما سبق أن المقصود بالأحكام الشرعية لا يخصُّ الفرعية(عبادات ومعاملات)، بل يعمُّ ويشمل العقائد أصولاً وتفاصيلا، طبقا للتصوير السابق ذكره. وعلم أصول الفقه هو الباحث عن معيار الحجَّة في استنباط الأحكام الشرعية، وبالتالي يتدخَّل في العقائد؛ ويشهد لذلك أن المتكلِّمين (حتّى أن القيصري في مقدِّمات شرح الفصوص بحث، مفصَّلاً، الملائمة بين الكتاب والسنة والكشف، وهو بحث أصولي محض) عندما يتطرَّقون في بعض مسائلهم إلى كيفية الاحتجاج لحجَّة معينة، يستعينون بما تمَّ تصويره وتحريره في علم الأصول، بل أن صدر المتألِّهين، مبتكر الحكمة المتعالية، كثيراً ما يتعرَّض لمنهجة الملائمة بين الوحي والعقل ومتى يقدم كل واحد منها وما هو مدى كلٍّ منها.

* أصول الفقه والمنطق: من الضروري جدَّاً بيان الفارق بين العلمين، وأن لا تعارض بينهما، ولا يكون علم الأصول بديلاً عنه، بل يظل علم المنطق هو الباحث عن حجية الأدلَّة العقلية فقط، ويعتبر أصولاً للفلسفة. ويمكن التمييز بينهما:

أ - إن علم الأصول يبحث عن منهجة المعارف القلبية.

ب - إن في علم المنطق لا يُبحث عن أساس حجية الدليل العقلي من حيث المواد، وإنما يوصلها إلى البداهة أو اليقين، بينما يبحث عنه في علم الأصول.

ج - في المنطق لا يبحث إلاَّ عن الدليل العقلي بينما في الأصول يبحث عن الملائمة بين العقل والنقل والكشف.

٣٥

والحاصل: أن كلَّاً من العلمين يبحث عن الحجية حتّى أن علم المنطق يشتمل على صناعة كلٍّ من البرهان والجدل، والثاني فيه حيثية الإلزام، فيقترب من علم الأصول وإن كانت حيثيَّته ليست للخصومة، إلاّ أن بينهما فوارق، ومن ثَم أضحى علم الأصول منطقاً للعلوم الدينية وللمعرفة الدينية. فعلم الأصول له دخالة في كل معرفة دينية وعملية استنباط يسعى إليها الإنسان لاستكشاف المجهول.

ـ ثُم إنَّنا عندما نذكر تقدُّم علم على آخر لا نلتزم بذلك مطلقا؛ بل نقول إن من المتسالم عليه هو قاعدة التعاون بين العلوم، فقد يكون علم مقدَّما على آخر من حيثية، ويكون العلم الثاني مقدَّماً على الأوَّل من حيثية أخرى.

2 - وإنْ أريد بالأصول القواعد الفقهية، وهو المعنى الثاني، فيعتبر علم الفلسفة هو أصول العقائد - هكذا قيل، لكن الصحيح أن جميع القواعد العامَّة التي حُرِّرت في علم الكلام، وفي مقدِّمات التفسير، وفي البحث في روايات المعارف، كلَّها تكون أصلاً لعلم العقائد.

ومن هنا نشأت مدارس مختلفة في إرساء وتحرير القواعد العامة التي يحتاج إليها الباحث في علم العقائد. وهي عديدة:

منها: مدرسة المشَّائين؛ والتي اعتمدت العقل كأساس لتفسير العقائد والإيمان بها، ولا يوجد منبعا آخر، لا نقلاً ولا كشفا، وأساس هذه المدرسة، الفلسفة اليونانية، وتبنَّاها منهم أرسطو.

ومنها: مدرسة الإشراقيين - وهي أيضاً متأثرة بالفلسفة اليونانية - والتي ترى أن نيل المعارف الربوبية يكون عن طريق الإشراق والكشف الذي يتنزل إلى العقل. وبهذا تتميَّز هذه المدرسة عن المدرسة العرفانية؛ إذ لا تشترط أن تتنزَّل المعارف القلبية على العقل، بينما تشترطه الأولى.

وأشتهر قول شيخ الإشراق: لولا العقل والقلب لَمَا

٣٦

أمكن الوصول إلى هذه المعارف.

ومنها: المدرسة العرفانية؛ والتي ترى عجز العقل عن الوصول إلى المعارف العالية تماماً، بل يصل الإنسان إلى المعارف عن طريق المجاهدات وتصفية القلب، فينجلي أمامه المجهول، وتنكشف أمامه الحقائق.

ومنها: مدرسة المتكلمين، الذين حاولوا الربط بين العقل والنقل، لكنَّه يركِّز فيه على ما ورد في الشريعة ويحاول بعدئذ إقامة الدليل العقلي عليه، ويحرص على موافقة الحكم المستنتج من العقل لِمَا عليه الشرع.

ومنها: مدرسة الحكمة المتعالية؛ وهي قمَّة ما وصل إليه متأخرو الفلاسفة، وقد ظهرت من تحقيقات صدر المتألِّهين الذي حاول الجمع بين المدارس المختلفة لتظهر خلاصة تحقيقات المتقدِّمين، فوافق بين العقل والعرفان وجعل محورهما هو الوحي، وحاول الملائمة بينها.

ومنها: مدرسة المفسِّرين؛ حيث أنها ترجع إلى ظواهر القرآن لاستلهام مجموعة من القواعد في المعارف الإلهية.

ومنها: مدرسة التفكيك؛ والتي ظهرت على يد الميرزا مهدي الأصفهاني؛ حيث قامت بالتفكيك بين العقل المحدود والعقل اللاّمحدود؛ وهو الوحي، والاعتماد أساساً على القرآن.

ومنها: مدرسة المحدِّثين؛ وهذه استقت معارفها الإلهية من الأحاديث والروايات، فحرَّروا مسائل كثيرة لم تذكرها المدارس السابقة، وقد برز منها: المجلسيَّان، وصاحب الوسائل، وصاحب تفسير البرهان...

فهذه المدارس كلّها، وغيرها ممَّا ظهر وانتشر، كان هدفها ابتكار أرفع الأساليب وأسلم المناهج للوصول إلى المعارف الإلهية. ولا يمكن القول بالاقتصار على لغة مدرسة منها والاكتفاء بها، بل كلُّ مدرسة

٣٧

امتازت بقواعد حرَّرتها لم تهتد إليها المدرسة الأخرى، فإذا كان المراد من الأصل هو المعنى الثاني، فإن من الواجب أن تشمل الدراسة كلَّ القواعد التي دوِّنت، دون الاقتصار على بعض منها، في سبيل الوصول إلى معارف الوحي.

٣٨

المبحث الأوَّل:

حُجِّـيَّة الكتاب الكريم

من بديهيات الفكر الإسلامي حجية الكتاب وأنّه المعجزة الخالدة وخاتم الرسالات الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد أسهب الأصوليُّون في هذا البحث وفي الردِّ على الشبهات ومناقشة الإخباريين وغيرهم ممَّن فصَّـل في حجيَّته، فلا نعيد الكلام فيه، وإنما نتعرَّض إلى نقطتين:

1 - نظرية تفسير القرآن بالقران والتي نادى بها العامة وبعض الخاصة، وآخرهم العلاّمة الطباطبائي.

2 - كيفية الملائمة بين حجية الكتاب والسنَّة والعقل.

[نظرية تفسير القرآن بالقران]

أمَّا النقطة الأولى: تفسير القرآن بالقران...

وتعتبر هذه النظرية في الطرف المقابل لنظرية المحدِّثين والتي تقضي بعدم إمكان التفسير إلاّ بالرجوع إلى الروايات والأحاديث. أمَّا العلامة الطباطبائي، فإنه يرى أن القرآن فيه بيان كلِّ شي‏ء، وفي تفسير كل آية يجب الرجوع إلى الآيات الأخرى التي توضِّح المراد والمقصود؛ فمثلا قوله تعالى: ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (1) يشتبه المراد من كيفية الاستواء، لكن إذا رُجع إلى قوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) (2) عُلم أن المراد من الاستواء هو

____________________

(1) طه: 5.

(2) الشورى: 11.

٣٩

التسلُّط على الملك والإحاطة بالخلق، دون التمكُّن والاعتماد على المكان الذي يستلزم التجسيم المستحيل.

ولم يكن العلاّمة في نظريَّـته منفرداً، بل متَّبِعاً لطريقة أهل البيت: فإنهم قلَّمَا يفسِّرون آية من دون ذكر آية أخرى توضِّح المراد منها، وكأنَّهم يرشدون أتباعهم إلى كيفية تفسير القرآن والتدبُّر في آياته بالاستفادة من الآيات الأخرى في تفسير ما أبهم من المعاني.

ويضيف: أن ما ورد في تقسيم آيات القرآن إلى المحكمات والمتشابهات، لا يعني أن الآية في نفسها مبهمة ولا يتَّضح منها معنى البتة، بل أن التشابه هو بلحاظ فهم السامع والقارى‏ء وتردُّده بين معنى وآخر؛ بحيث لا يتعيَّن المراد منها إلاّ بالرجوع إلى آية محكمة والتي هي بمنزلة الأصل الواجب الرجوع إليه عند تردُّد المعاني في المتشابهات.

وحصول التشابه لدى السامع أو القارئ أمر طبيعي؛ ومرجعه أُنس الإنسان بالأمثلة المادية المحسوسة، فيحمل الألفاظ، لا على معانيها بحدها الماهوي، بل يخلط بها المصداق المألوف لديه، فيختلط عليه المراد. أمَّا إذا التفت إلى أن الألفاظ موضوعة لروح المعاني دون النظر إلى المصاديق التي هي عرضة للتبدل والتغيُّر، ارتفع لديه الاختلاط؛ فمثلا السجود موضوع لمنتهى الخضوع والخشوع، وليس موضوعا للهيئة الخاصة المتداولة، وعندها يمكن فهم أمر الحقِّ تعالى ملائكته بالسجود لأدم.

وقد يُشكَل عليه: بأن هذه الطريقة من التفسير هي ضرب القرآن بعضه ببعض، وقد نُهي عنها صراحة في قول الصادق عليه‌السلام : ((ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض

٤٠