الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127284
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127284 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

متعددة.

ويذكر العلامة الطباطبائي في ذيل قوله تعالى ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ... فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (1) أن الكتاب وارد في ثلاثة معان:

الأول: الكتب المنزلة على الأنبياء، وهي المشتملة على شرائع الدين، مثل كتاب نوح ( وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) (2) ( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (3) وكتاب عيسى، وهو الإنجيل ( وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ ) (4) وكتاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ) (5) .

والثاني: الكتب التي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات، وهو كتاب الأعمال والآجال ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً ) (6) وما ورد في سورة المطففين: 21.

والثالث: الكتب التي تضبط تفاصيل نظام الوجود و الحوادث الكائنة فيه، ولعل هذا النوع من الكتب فيه ضبط عام حفيظ لجميع الموجودات؛ وهو أم الكتاب، يستطر فيه كل شي‏ء وفيه ضبط خاص يتطرَّق إليه المحو والإثبات، وهذا هو الكتاب المبين واللوح التكويني ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ... إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (7) .

فالكتاب المبين - بشهادة الآيات - هو الذي يستطر فيه كل شي‏ء، وهو يحصي

____________________

(1) الأنعام: 59.

(2) البقرة: 213.

(3) الأعلى: 19.

(4) المائدة: 46.

(5) الحجر: 1.

(6) الإسراء: 13.

(7) يونس: 61.

٣٦١

جميع ما وقع في عالم الصنع والإيجاد، ممَّا كان وما يكون وما هو كائن، من غير أن يشذَّ عنه شاذ، وفيه نوع تعيين وتقدير للأشياء إلاّ أنه موجود قبل الأشياء ومعها وبعدها.

المسألة الثالثة: أن القرآن الكريم هو الكتاب المبين؛ بدليل قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (1) ، وهذا الكلام الصادر من الحكيم العليم ليس من قبيل الألفاظ العادية والمبالغات، وقد أشرنا إلى ذلك في بداية الفصل حول المعاني القرآنية العالية، و أننا إذا استنطقنا القرآن ووصلنا إلى معنى، فلا يجوز أن نتراجع عنه خشية ذلك المعنى الهائل، فإذا كان القرآن فيه تبيان لكل شي‏ء صادر من حكيم، وهو تعالى يعبِّر عن القران بذلك، وفي موضع آخر: أن الكتاب المبين فيه كل شي‏ء ولا يعزب عنه شي‏ء، وليس المقصود من التبيان هو خصوص الأحكام الشرعية؛ وذلك لان الواقع يخالفه؛ حيث إن أربعة أخماس القرآن في المعارف الإلهية، ولا يمكن أن نقول: إن ظاهر هذا الذي بين الدفتين هو فيه كل شي‏ء من أحكام الوجود وهو محدود، إلاّ إذا اعتبرناه نافذة على أمر آخر، وأنه يشير إلى حقيقة معينة هي القرآن الذي فيه تبيان لكل شي‏ء، وهذا هو الذي نريد الوصول إليه من أن النبي الخاتم اختص بالكتاب المبين، ومن هنا لم تطلق على كتب بقية الأنبياء القرآن، بل الفرقان.

ونستطيع أن نوجز الدليل على اتحادهما من خلال اتحاد وصفهما:

1 - أن الكتاب المبين يستطر فيه كل شي‏ء وهكذا القرآن الكريم.

2 - أن المقصود من القرآن ليس هو خصوص اللفظ المصوت، بل الحقائق النورانية التي ليست من سنخ المعاني الحصولية؛ ومن الشواهد على ذلك قوله

____________________

(1) النحل: 89.

٣٦٢

تعالى: ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) ، فكيف يكون مكنوناً مع أن المنقوش برسم الخط متداول بين أيدي الناس؟!

3 - قوله تعالى ( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ... ) وقد ورد توصيف الكتاب المبين بأنه أم الكتاب.

4 - أن في القرآن الاسم الأعظم، وهو ليس من جنس الألفاظ المصوتة وإن كان لاسمه لفظ، فلا يعقل وجوده في القرآن بوجوده الاعتباري بنقش رسم الخط، بل في القرآن التكويني.

ومن هنا ننتقل إلى نقطة أخرى أن هذه الأقسام التي ذكرناه للكتاب هي في واقعها تنزُّلات ومراتب للكتاب المبين، وأنها كلها تعود إليه، والكتاب المبين هو عين القرآن الكريم، وهو له مدارج عالية ونازلة، ومدارجه العالية أم الكتاب؛ أي المصدر الذي يتنزَّل عنه كل شي‏ء، والبقية تنزُّلات.

والدليل على ذلك:

أ - أنه قد ورد أن في القرآن أشياء يراد منها أمور تكوينية كالأسماء الحسنى واللوح والقلم والصحف والرق المنشور.

ب - أن الماهية المقرَّرة للكتاب شي‏ء يكتب فيه ويجمع فيه الكلمات والكلام، والكلمة والكلام هو ما يدل على أمر ما، وهذه الدلالة وإن كانت بالوضع الاعتباري كما في الألفاظ، فهي كلمة وكلام اعتباري، ومصداق فرضي لماهية ومفهوم الكلمة والكلام، وأمَّا إن كانت الدلالة تكوينية، فالشيء الدال تكويناً كلمة وكلام حقيقيان ومصداق خارجي للماهية، قال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (1) ، وبالتالي فإن الكتاب الحقيقي هو الذي يجمع ويضم الكلمة

____________________

(1) آل عمران: 45.

٣٦٣

والكلام الحقيقيين جمعاً وضماً تكوينا.

وكذلك الحال في الاسم؛ فهو إنما سمِّي اسماً لأنه يكون علامة على ذي العلامة، والمصداق الاعتباري له هو اللفظ المصوت؛ لكون دلالته بالوضع الفرضي الاعتباري، بخلاف المصداق الحقيقي فهو الدال تكويناً والعلامة التكوينية على الشى‏ء، فالكتاب مجموع الكلمات، و ماهية الكلمة هي الشيء المنطوق بها، والنطق هو الإظهار والإعراب، وهو أيضاً ينقسم إلى إظهار تكويني واعتباري، وهو إعراب عن مغيب ومستور، فنطق اللَّه تعالى خلْقُه وإيجاده، ومخلوقاته كلماته، وبعضها تام.

جـ - ذُكر في المعقول أن كل معنى ماهوي له وجود اعتباري، ولا يمكن أن يكون هناك شي‏ء اعتباري ليس وراءه أمر تكويني؛ أي أن الماهية التي يفرض لها وجود اعتباري إنما تُقتنص وتنتزع عن وجود تكويني لها، فالكلمة لها وجود تكويني، والاسم له وجود تكويني، فالمعنى الاعتباري لا يمكن أن يكون مستلَّاً لا من شي‏ء، بل لا بد أن يستلَّ من وجود تكويني، وهذه مسألة استوفي البحث فيها في الاعتباريات في علم الأصول أيضا. ومن شواهدها القرآنية التعبير عن بعض الأنبياء أنه كلمة من اللَّه، (النساء: 171، المؤمنون: 50)، وهذا الإطلاق ليس مجازياً، بل هو إطلاق حقيقي، وإطلاق الكلمة على اللفظ هو المجازي؛ لأن حقيقة الكلمة هي المعبرة تكويناً عن معنى لدى المتكلم، والمتكلم هنا هو اللَّه (جلَّ وعلا)، والنبي معبِّر حقيقي عن اللَّه وعن عظمته وينبئ عمَّا في الغيب، فهذا الإطلاق

حقيقي.

وإذا كان القرآن الكريم هو الكتاب المبين وهو أم الكتاب - وهذا يعني أنه الكتاب التكويني - فكل الكمالات المتنزلة تكون هناك موجودة بشكل بسيط شريف وعالٍ، ويكون معنى الكتاب هو: وجود جمعي بسيط مجموع فيه كل الكلمات التي تعبِّر

٣٦٤

عن الغيب.

د - وهناك الكثير من الآيات التي يذكر فيها الحق سبحانه تنزيل الكتاب والآيات مع ذكر خلق السموات والأرض مثل قوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْ‏ءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ ) (1) ، وقوله تعالى: ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ *... * وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ... ) (2) ، وقوله تعالى: ( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... ) (3) ، وقوله تعالى: ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّماوَاتِ الْعُلَى ) (4) ، وغيرها من الآيات في السور الأخرى.

5 - الروايات الواردة أن في القرآن عمل كل عامل ومكانه في الجنة مآله وثوابه وعقابه... وهذه الكتب في الكتاب المبين باعتبار أنه يستطر فيه كل شي‏ء، وهذا يعني أن القرآن فيه كل شي‏ء، وهو عبارة ثانية عن العينية بين القرآن والكتاب المبين.

والخلاصة: أن المراد من حقيقة القرآن الكريم هو الكتاب بوجوده التكويني، وهو حقيقة علوية تكوينية جامعة لجميع الكلمات الإلهية، والشهادة المعطوفة على

____________________

(1) آل عمران: 6.

(2) هود: 1، 6، 7.

(3) إبراهيم: 1 - 2.

(4) طه: 1 - 4.

٣٦٥

شهادة اللَّه تعالى هي شهادة مَن عنده علم مثل هذا الكتاب، فمن ثَمّ ذكرت تلو الشهادة الأولى.

ثانياً: البحث في الآية الثانية

الآية الثانية قوله تعالى: ( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (1) .

* الآية الكريمة في مقام الموازنة بين كفَّتين بعد أن ذكر الاحتجاج مع الكفَّار على كون القرآن كتاباً منزلاً من عند اللَّه سبحانه، ثُم يطيِّب خاطر النبي بأن ليس مَن كان كذا وكذا كغيره ممَّن ليس كذلك، وأنت على هذه الصفات من كونك على بصيرة من ربك ويتلوه مَن يشهد بأحقِّـيَّة القرآن وكان على بصيرة من أمره، فآمن به عن بصيرته وشهد بأنه حق منزل من عند اللَّه تعالى.

* إنما أوردناها في هذه الطائفة من حيث إن هذا الشاهد من شأنه أن يشهد على أصل النبوة وأحقِّيَّة القرآن، فتكون قريبة المضمون من آية سورة الرعد، مع اتفاقهما في كونهما مكِّيَّتان.

* حاول البعض صرف ظهورها عن الإمام علي عليه‌السلام ؛ ‏وذلك بالتصرف في إرجاع الضمائر ونحوه أو القول أن المراد منه جبرائيل يتلو القرآن على النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن كلّها مردودة، وخصوصاً على ما ورد في بعض القراءات عند أهل البيت‏ عليهم‌السلام ‏من أن الآية (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى)، فوصف الإمامة والرحمة للشاهد لا لكتاب موسى، إلاّ أنهم بدَّلوا موضعها عند جمع القرآن.

* وجود قيد (منه) للشاهد تدفع الاحتمالات التي ادعوها في المقصود من الشاهد؛ حيث لا معنى أن يرجع الضمير إلى غير الرسول، وأن المراد من (يتلوه)

____________________

(1) هود: 17.

٣٦٦

التلو التابع لا التلاوة.

* أن المراد من حرف الجر في قوله تعالى: (بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) هي النشوية لا البيانية؛ أي أنها ناشئة من اللَّه وآتية من جانبه.

* لفظة (منه) الواردة في (شاهد منه) هل المراد منها الاتصال النسبي أم أمر آخر؟ والأول بعيد؛ وذلك لأن القرآن لا يعتد بخصوص ظاهرة الولاء النسبي فقط في نسبة الأشخاص كما في قوله تعالى ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) مع أنه إبنه، بل يعتبر أن من خرج عن الطريق الصحيح فهو خارج عن اتصاله بالنبي، وهنا إطلاق (منه) على الإمام علي‏ عليه‌السلام ‏من جهة نسبة الروح والولاء والإيمان وكونه منه لها دخالة في شهادة الشاهد؛ ويؤكِّده ما ورد عن الإمام من رؤيته لنور النبوة، وقوله‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنت أخي)، فالأخوة ليست نسبية، والشقيق يعني الاشتقاق من أصل واحد، فمرتبتهما الغيبية تؤول إلى أصل واحد، وقريب منه ما ورد (كنَّا نوراً واحدا)، ومثله قوله تعالى (وأنْفُسَنا وأنْفُسكُم).

ثالثاً: ما يستفاد من طائفة آيات الكتاب

أمَّا النقاط التي يمكن استفادتها من هذه الطائفة:

1 - ثبوت مقام الطهارة والعصمة لمَن عنده علم الكتاب؛ حيث إن الشهادة لا يمكن أن تُقبل في هذه المواطن التي هي اللبنة الأولى للشريعة إلاّ لمَن اتصف بذلك، وإنَّ سرَّ وحقيقة العصمة يعود للعلم، ولم يدَّعِ أحد من الأولين والآخرين أن لديه علم الكتاب إلاَّ هؤلاء الأطهار واستعدادهم للجواب على كل تساؤل، ومن دلائل العصمة أجوبتهم وكلماتهم التي صحَّت نسبتها إليهم؛ فإنها تظل مناراً هادياً ومشعلاً مضيئاً إلى أبد الدهر ودالاً على إمامتهم وعصمتهم ومعاجزهم العلمية.

2 - أن الأئمة عليهم‌السلام ‏لديهم العلم اللَّدُني المحيط بكل الأشياء، وهو ليس غير علم الأسماء الجامع، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الطائفة الأولى.

3 - أن مَن يكون لديه العلم اللدني يكون مؤهَّلاً للهداية التكوينية الإيصالية، وهي

٣٦٧

الحد لماهية الإمامة كما ذكرنا في الطائفة الأولى.

4 - بما أن لديهم هذا العلم الحضوري فلديهم القدرة، وهذا يعني أن لديهم الولاية التكوينية والقدرة التكوينية على من سواهم حتى الملائكة، وهذا العلم يكسب مثل هذه القدرة الغريبة كما رأينا في آصف بن برخيا؛ إذ أن إتيانه بعرش بلقيس بهذه السرعة ليس إلاّ بسبب ما حصل عليه من علم من الكتاب فكيف بمَن عنده علم الكتاب؟! وقد حُرِّر في محلِّه أن القدرة فرع العلم.

5 - لقد أشرنا إلى أن الكتاب هو الكتاب المبين، وهو كتاب التكوين، وهو الحاوي لكل شي‏ء، ومن وصل إلى هذا العلم يدل على علو منزلته ومقامه، وعلى حسب ما أوتي نستطيع معرفة رقيِّه الروحي، ومن المسلَّم به في علوم المعارف الإلهية أن فضيلة الإنسان بمقدار ما أوتي من ربه.

6 - أن مقتضى النقاط السابقة هو إمامتهم لمَن دونهم، وأن هذه الإمامة هداية تكوينية، وأنها باقية على مر

الزمان إذ تنزَّل العلوم والكمالات من المراتب العليا على النفوس المستعدة لها، وقد مرّ عليك إطلاق الكلمة على بعض الأنبياء، كما أنه قد عرفت الفرق بين الكلمة والكتاب التكوينيين؛ فعلم الكتاب حاوٍ لجميع الكلمات، وإيَّاك أن تحمل هذه الاستعمالات القرآنية على المجاز والتفنُّن اللفظي، فإنه كتاب حقائق، موزونة ألفاظه واستعمالاته ومعانيه ولطائفه وحقائقه من لدن حكيم عليم، فلاحظ ما ذكرناه في الفصل الأول.

7 - أن القرآن معجزة خالدة باقية على حقانية الرسول، وهكذا الإمام الذي هو شاهد حي على مر الدهور على صدق الرسول، حيث إن شهادة مَن عنده علم الكتاب لكل أفراد الإنسانية، فكما أن القرآن لجميع الإنسانية فكذلك الشاهد الآخر يكون شاهداً أبدياً على صدق الرسالة وصدق الكتاب من الحق سبحانه، وهو القرآن الناطق.

٣٦٨

وهذا المفاد عين مفاد حديث الثقلين، وقد أشارت روايات أهل البيت عليهم‌السلام إلى العديد من الآيات التي يتطابق مفادها مع حديث الثقلين، وبالتالي فإن هذا الحديث وإن كان متواتراً بين الفريقين إلاّ أنه يزداد رصيد اعتباره مفاداً وسندا، وسوف يأتي مزيد بيان في فقه الروايات.

والمحصَّل: أن وجود الأئمة عليهم‌السلام وتصديقهم بنبوة النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله شهادة و معجزة على نبوته‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله على حذو شهادة ومعجزة القرآن الكريم على نبوته، وهذا مفاد يدق معناه ويلطف في معنى معية الثقلين، فوجود الأئمة عليهم‌السلام ‏وعلومهم وسيرتهم وطهارتهم وكمالاتهم المختلفة في الجوانب العديدة التي بهرت العقول دليل صدق على النبوة، ومن ثَمَّ ورد عنهم عليه‌السلام أن آية ( وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً... ) مورد نزولها في أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام ، وهي جارية في الأئمة عليهم‌السلام ، ولقد كان تحدِّي السلطات القائمة - دولة بني أمية و بني العباس - لهم مستمرة في العلوم المختلفة والرياضات النفسانية والقدرات الكمالية وعلى الأصعدة كافَّة، وكانوا يستعينون برواد العلوم والفنون والرياضات من الأقطار المختلفة في العالم ومن الممالك المختلفة، بل كانوا يستعينون بالسباع فيرونها تخبت لهم خاضعة.

8 - يثبت من خلال الآية أن ولايتهم وإمامتهم أمر اعتقادي وليس من الفرعيات؛ وذلك باعتبار أن المعجزة يجب الإيمان بها كالقرآن، وهذه الشهادة أمر اعتقادي وهي دليل النبوة، مما يدلِّل على أن النبوة والإمامة توأمان وقرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

٣٦٩

الطائفة الثالثة: آيات الهداية

وهي على ثلاثة ألسنة:

أ - ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (1) .

( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي ) (2) .

ب - ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) (3) .

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (4) .

جـ - ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) (5) .

( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً ) (6) .

( وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ) (7) .

( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (8) .

إن الهداية الواردة في القرآن الكريم على أنحاء مختلفة:

1 - الهداية التكوينية الخلقية ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) أي الذي خلق كل شي‏ء وجعله في صراطه التكويني الذي يؤدي إلى كماله وهدفه، وجعل ذلك في فطرته حتى الكائنات غير الشاعرة، غير الإرادية.

____________________

(1) الرعد: 7.

(2) يونس: 35.

(3) طه: 82.

(4) المائدة: 82.

(5) مريم: 76.

(6) محمد: 17.

(7) الكهف: 24.

(8)العنكبوت: 69.

٣٧٠

2 - الهداية التشريعية الإرائية العامة، وهي التي تصدر عن النبوَّات وشرائع الأنبياء، وهي معلَّقة على العلم والإدراك الذي يستطيع أن يصيبه كل أحد.

3 - الهداية الإيصالية للفاعل المختار، وهي التي نبحث عنها بالآيات من القسم الأول، ويقابلها الإضلال

التكويني، وفي القسم الثالث يتضح أن هذه الهداية معلَّقة على العمل والطاعة ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً ) ، ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ ) .

فهذه الألسنة الثلاثة تعالج ماهية الإمامة، وهي المستبطِنة للهداية الإيصالية، وأمَّا الإرائية، فتكون تابعة لصاحب الشريعة، ونلاحظ أن القران في مواطن كثيرة يشير إلى أن العمل الصالح له آثار وضعية؛ منها: أنه يؤدي إلى عمل صالح آخر أكثر من الأول.

و - يظهر من آية (24) من سورة الكهف أن الهداية على مراتب ودرجات، وهي لا تقف عند حد، فكلما زاد العمل والسعي، زادت الهداية؛ وما ذلك إلاّ لأن الكمال لا حد له، والقرب الإلهي لا يقف عند نقطة معينة، وفي هذا جواب قاطع على العامة الذين يقولون: إن الهداية حاصلة بمجرد التلفظ بالشهادتين، بل إن قوله تعالى: ( وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ) (2) دليل على خطئهم.

وتشير آية سورة المائدة إلى تعين الولاية وتشخيص صاحب الهداية الإيصالية، ممَّا يعني أن هذا السعي يجب أن يسري عن هذا الطريق ومن هذا الباب.

إن آية سورة طه التي أشرنا إليها في البداية تدل على أن الغفران منوط بالولاية؛ لأنها تشترط الإيمان والعمل الصالح والهداية، وهو اتباع الهادي.

____________________

(1) الكهف: 13.

(2) الكهف: 24.

٣٧١

المفاد التفصيلي للآيات:

1 - ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ )

في هذه الآية الشريفة موارد للبحث:

أولاً: مَن المقصود بالـ(هاد)، فقد ذكر البعض أن المقصود هو الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أي أنك هادٍ لكل قوم، وهذا الاحتمال ضعيف لأمور؛ منها: أن الحصر بـ(إنما) في قبال توهُّم أن وظيفته‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هي إهتداؤهم بالفعل بتلبية طلبهم بإتيان المعجزة والآية التي يقترحونها.

ومنها: من الجهة الإعرابية؛ حيث سوف يتنازع (منذر) و(هادٍ) الجار والمجرور، ولذا لا يجوز توسطها، كما لا يجوز الفصل بين العامل والمعمول بالواو.

ومنها: أن الإنذار هداية إرائية، فتكون (هادٍ) عطف تفسير، وهو خلاف الأصل الأولي في ظهور الكلام في التأسيس.

ومنها: أنه لا يكون هناك وجه لتأخير (هادٍ) عن الجار والمجرور.

ثانياً: أن الهداية ليست الهداية الإرائية، بل الإيصالية؛ وذلك لعدَّة وجوه:

* المقابلة بين الإنذار والهداية.

* أن الكفَّار طلبوا من الرسول آية، وهي مظهر للقدرة، والقدرة مظهر الولاية؛ وهذا ما يحتاج إلى بيان:

وذلك لأن المدَّعى أن المعجزة التي تظهر على يد الرسول هي من حيثية ولايته، لا رسالته، ويكون جواب طلبهم: إنك من حيث الرسالة لا تجري بيدك الآية، وإنما ظهور الآية، والمعجزة بيد الهادي ومَن له الهداية الإيصالية، والنبي الأكرم حيثياته متعددة ومن هذه الحيثية يكون المعجز على يديه.

* أن هذه الهداية جعلت عدلاً للنبوة؛ باعتبار أنها تحقق الإيمان في الخارج، وهو غاية الهداية الإرائية، فإن الإيمان في الخارج متوقِّف على الهادي.

٣٧٢

* أن مجيء أداة العموم (كل) والتنوين في (قوم، هاد) يدل على الاستغراق، وأن لكل قوم هادٍ، وحيث إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله محدود العمر و ليس باقٍ في هذه النشأة لجميع الأقوام، فبتكثر الأقوام يتكثَّر الهادي.

* أن سياق الآيات التالية لهذه الآية يدل على العلم اللدني، وأن علم الحق وموارد قدرته التكوينية تتسع وتحيط بكل شي‏ء، وهو مناسب للهداية التكوينية.

2 - الآية الثانية ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى ) .

والآية مكِّية واردة في مقام الاحتجاج مع الكفَّار، وأن الإلهة التي يعبدونها لا تستطيع شيئا، وأن الهادي هو اللَّه، وإسناد الهداية إليه لا يختص بالهداية الإرائية، بل يعم حتى الإيصالية. ويكاد يجمع المفسرين أن (يهدي) في الأصل يهتدي، ثُم قلبت التاء دالاً لأجل التخفيف، والمقابلة هنا بين مَن يهدي إلى الحق، وهو عام ولم يخصص كما في قوله تعالى: ( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) وبين مَن يهدى؛ أي أن السؤال هو: مَن الأحق بالاِتباع هل هو الذي يهدي إلى الحق أم من لا يهتدي إلى الحق إلاّ أن يهدى.

فالذي تكون هدايته من ذاته ومن نفسه هو الذي يكون هاديا. أمَّا مَن لا تكون هدايته ذاتية وليست من نفسه، فإنه لا يكون هاديا للحق، فتوجد ملازمة بين الهداية الحقة والهداية اللدنية، فيجب أن يكون الهادي مهتدياً لا بغيره، وفي المقابل الذي يهتدي بغيره لا يكون هادياً للحق، فتوجد ملازمة بين الاثنين؛ أي أن المهتدي بنفسه هدايته ملكوتية بإقدار اللَّه عزَّ وجل. والمهتدي باللَّه لا يقال إنه مهتدي بغيره من المخلوقين؛ إذ الاهتداء بهداية اللَّه كما ورد في ( قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) هو عبر اتباع رسوله، واللَّه هو الحق وهداية الرسول إلى الحق هي هداية إلى اللَّه، ونتيجة لهذه الخصوصية في الهداية نقول: إن المراد هو الهداية الإيصالية؛ وذلك لأن المهتدي بسبب غيره قادر على الهداية

الإرائية. أمَّا الإيصالية، فلا يستطيعها.

٣٧٣

ثُم إن للهداية درجات كما تشير إليه العديد من الآيات كقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) (2) ، وقوله تعالى: ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) (3) ممَّا يدلِّل على كون الهداية على درجات، وفي الاستعمال القرآني أيضاً استعملت الهداية في مقابل الضلالة، والهداية بمعنى الصراط المستقيم في مقابل بقية السُّبل المتفرقة.

كما أن في قوله تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) (4) دال على وجود درجة من الهداية دخيلة في أصل النجاة الأخروية، وهذه الدرجة وراء مبدأ الإيمان والعمل الصالح، وهذا المفاد كما يلاحظ مقارب لمفاد الطائفة الأولى في واقعة آدم‏ عليه‌السلام ؛ حيث تبيَّن أن إبليس لم ينفعه إيمانه باللَّه تعالى واليوم الآخر، ولا عبادته بعد عدم توليه آدم عليه‌السلام ‏وعدم خضوعه وانقياده إليه كخليفة للَّه تعالى، وهذا المفاد في آية سورة طه لمفاد آية الإكمال ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) فالإسلام بما فيه من التوحيد والنبوة والمعاد والفروع من الصلاة وغيرها كمُلت بالذي نزل ذلك اليوم وتمَّ به، ورضا الرب مشروط بما نزل في حجة الوداع عند رجوعه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في غدير خم في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (5)، فوعده بالعصمة ممَّا

____________________

(1) محمد: 17.

(2) الكهف: 24.

(3) مريم: 76.

(4) طه: 83.

(5) المائدة: 76.

٣٧٤

يحذره صلى‌الله‌عليه‌وآله من الناس، وأن من يكفر بذلك الذي أنزل، فإن اللَّه لا يهديه، فهذه الهداية هداية زائدة على ما ذكرنا تشترط في النجاة الأخروية، وهي الهداية التي في هذه الطائفة.

الطائفة الرابعة: آيات الملك

قوله تعالى: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً ) (1) .

والآية تتعرَّض للنبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الآخرين يحسدونه على ما آتاه اللَّه من فضله، ثُم يعدد ذلك الفضل بالكتاب والحكمة والملك العظيم. أمَّا الكتاب والحكمة، فمعناهما واضح إجمالاً؛ فالأول هو النبوة، والثاني هو العصمة كما تشير إليه كثير من الروايات، فإن مقتضى الحكمة عدم الزلل.

أمَّا الملك العظيم، فيتضح معناه بالالتفات:

أولاً: أن آل إبراهيم لم يستلم أحد منهم السلطة والملك إلاَّ سليمان وداود، وهذا لا يتناسب مع مجيئه مورد صفة الجمع والمنَّة على كل آل إبراهيم.

وثانياً: هذا الملك العظيم لا بدَّ أن يكون مغايراً للكتاب والحكمة ولا يكون غير الاقتدار والسلطنة، وهذا هو الحد الماهوي للملك.

وثالثاً: إذا لاحظنا الآية السابقة عنها، وهي ( أَم لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ) فما هو الملك الذي لو أوتوه بني إسرائيل لَمَا أعطوا الناس منه شيئا؟ بالتأكيد ليس هو الملك الظاهري؛ حيث إن المراد من النقير هو المتخلِّف من التمر في النواة، وهذا نوع تشبيه؛ و المراد منه: باب المحاجة وبيان المباغضة والحسد الذي

____________________

(1) النساء: 54.

٣٧٥

عند اليهود تجاه نبوة النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي في مقام النعم الغيبية الإلهية التي حباها اللَّه تعالى آل إبراهيم، فإذا كانت لديكم النبوة وما هو من قبيلها من المنح الإلهية، فلا تؤتونها أحداً من الناس وتمانعون من وصول هذا الفضل الإلهي لأحد، فلا بد من مجموع هذه القرائن أن يكون هذا الملك ولاية تكوينية.

وهذا يعني أن الملك هو الذي تنبثق عنه النبوة، وهو أعظم مقام من النبوة؛ بمعنى أن ولاية كل نبي أرفع شأناً من نبوته، لا أن ولاية أيُّ ولي أرفع من مطلق النبوة؛ وذلك لأن الولاية تعبِّر عن أرقى مراحل الروح التي ترتقي فيها فترتبط بالفيض عن الذات الأزلية، أو ترتبط بالذات، ويعبر عنه بـ: باطن النفس، وهي تنقاد للرب وتعبد الرب منتهى الانقياد والعبادة بحيث تكون مشيئته مشيئة اللَّه وإرادته إرادة اللَّه.

فالولاية هي الجانب الملكوتي. أمَّا الإنباء والنبوة، فدون ذلك المقام؛ وذلك لأنه بتوسط رقي روحه يفاض عليه المطالب العالية حيث أن علومها أوسع من التشريعية وتكون مصدراً لها، ويشير إلى ذلك قوله تعالى ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (1) ، حيث إن الابتلاء كان في كبر سنه بعد ما رزق الذرِّية، والابتلاء بتوسط ما أوحي إليه كما تشرحه بقية السور، فهو بعد النبوة والرسالة كان التأهُّل لمقام الإمامة.

ثُم بالنظر إلى الآيات الأخرى نرى أن آل إبراهيم قد أوتوا الإمامة وحبوا بها ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا... ) ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) ، فالحبوة التي حبى بها اللَّه آل إبراهيم هي الإمامة، وهل يوجد ملك أعظم من هذا؟! وهذا الملك العظيم هو الذي حباه اللَّه لرسوله

____________________

(1) البقرة: 124.

٣٧٦

الأكرم وعترته الطاهرة.

يذكر العلامة الطباطبائي (أن المراد من الملك هو السلطنة على الأمور المادية والمعنوية، فيشمل ملك النبوة والولاية والهداية وملك الرقاب والثروة؛ وذلك أنه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة، فإن الآية السابقة تومئ إلى دعواهم أنهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين، وهو مسانخ للملك على الفضائل المعنوية) ثُم عندما يصل إلى الملك العظيم يقول: (تقدَّم أن مقتضى السياق أن يكون المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة والولاية الحقيقية على هداية الناس وإرشادهم، ويؤيِّده أن اللَّه سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلى فضيلة معنوية ومنقبة دينية) (1) ، ونحن وإن نقلنا كلام العلاّمة بطوله، إلاّ أنَّا لا نتَّفق معه على أن كلاً من النبوة والإمامة داخلتان في الملك العظيم، لِمَا ذكرناه من القرائن، ونضيف أن قوله تعالى ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ... ) يدل على أن القدرة هو علم الكتاب، وهو الإمامة كما توصَّلنا إليه.

ثُم إن المراد بآل إبراهيم هم النبي وآله؛ وذلك لجملة من القرائن:

ـ أن المقام هو المحاجَّة، والحاسدين هم بنو إسرائيل، وحسدهم للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو كان المراد أنبياء بني إسرائيل، لكان تقريراً لحجَّتهم لا دحضاً، لها فلا بدَّ أن آل إبراهيم لا يشمل بني إسحاق.

ـ أن الناظر في الآيات الأخرى:

كقوله تعالى ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا

____________________

(1) الميزان، ج4، ص377.

٣٧٧

وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَاكانُوا يَعْمَلُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

وقوله تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (2) .

وقوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (3) .

فإن ما في سورة الأنعام دل على أن إبقاء هذا الاجتباء والحبوة الإلهية في ذرَّية إبراهيم متصلة حتى النبي الخاتم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا ) ، أي بهذه النعم اللدنية الإلهية

____________________

(1) الأنعام: 83 - 90.

(2) البقرة: 124 - 125.

(3) الزخرف: 28.

٣٧٨

(الكتاب والحكم والنبوة) ( فَقَدْ وَكَّلْنَا... )

وهكذا في سورة البقرة أن الإمامة متصلة في ذرَّيته، وهي ذرية إسماعيل، وكذا ما في سورة الزخرف؛ فإن كلمة التوحيد ونفي الشرك جعلها اللَّه باقية في عقب إبراهيم متصلة، ومن الواضح أن الباقي على التوحيد ونفي الشرك إنما هو في عقب إسماعيل، وتدل كل هذه الآيات في السور على بقاء هذا الأمر والأمور بعد النبي الخاتم في ذرِّيته التي هي ذرية إسماعيل وإبراهيم عليه‌السلام ‏أيضا.

فيستنتج أن الإمامة في عقب إبراهيم و إسماعيل إلى النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثَّم في ذرِّيته.

ـ قوله تعالى: ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (1) ، فهذا التشقيق الثلاثي الذين اتبعوه والنبي والذين آمنوا، فهو أولى الناس بإبراهيم...

ـ أن ما ورد في دعاء إسماعيل عند بناء البيت العتيق واستجابة الدعاء وأن الإمامة في ذريته، وهي الآية المتقدمة في سورة البقرة.

وعلى كل حال... فإن المتتبِّع لآي القرآن الكريم يقف على أن المراد من آل إبراهيم في اصطلاحه؛ هم: محمد وآله (عليهم الصلاة و السلام).

الطائفة الخامسة: آيات الاصطفاء والطهارة

( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) (2)، ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم ْ

____________________

(1) آل عمران: 68.

(2) آل عمران: 33.

٣٧٩

تَطْهِيراً ) (1) .

( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (2) ، ( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) (3) ، ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (4) .

* ونبدأ البحث في آية سورة الأحزاب، وقد وردت الآية في ضمن سياق آيات تخاطب نساء النبي، وقد أشبع علماء الإمامية البحث عن أن المراد منهم أصحاب الكساء خاصة، لا نساء النبي؛ ولذا نكتفي بما قرَّروه و نتحدث في فقه الآية:

ـ إن في الآية قصرين؛ أحدهما بـ (إنما)، والمقصور عليه إذهاب الرجس عن أهل البيت، والآخر هو: تكرار الاسم بعد الضمير في عليكم، وهو دال على القصر والاختصاص؛ أي أن المخاطب هم أهل البيت.

ـ إن الإرادة هل هي تشريعية أم تكوينية؟ وهذا أيضاً بحَثه علماء الإمامية، وأثبتوا أن الإرادة تكوينية؛ ولذا نكتفي بالإشارة إلى نكتتين:

إحداهما: أن الإرادة لو كانت تشريعية، وأن اللَّه يريد تبيين أن الهدف من إرادته - أي من التكاليف - هو تطهير أهل البيت، فهو غير مختص بهم‏ عليهم‌السلام ؛ حيث إن المعنى أن إرادته تعالى متعلقة بصدور الفعل الواجب تشريعاً من غيره بإرادته واختياره كما في إرادة اللَّه سبحانه وتعالى صدور العبادات والواجبات من عباده باختيارهم وإرادتهم، لا مجرد حصولها بأعضائهم وصدورها بأبدانهم، وحملها هنا عليهم فقط لا خصوصية فيه؛ لأن الجميع مخاطبون بذلك كما في ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ... إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ،

____________________

(1) الأحزاب: 33.

(2) الواقعة: 79.

(3) الدهر: 121.

(4) البقرة: 222.

٣٨٠