الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127273
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127273 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لأن التعليل بالاعتزال لا يختص بأهل البيت، بخلاف ما إذا كانت الإرادة تكوينية، فهي لا تتخلَّف، أي أن المراد يتحقَّق لا محالة، فيصح التخصيص في لفظ الآية، هذا مع أن الأغلب في استعمال الإرادة التشريعية مجي‏ء لفظ (أن) التفسيرية متوسطة بين الإرادة و متعلقها تدليلاً على التكليف.

ثانيهما: يبقى التساؤل حول التعبير بالمضارع الدال على التدريجية لا الدفعية، وإذا كانت الإرادة كذلك، فهذا يدل على أن المراد من الإرادة هو التشريعية لا التكوينية؛ إذ أن الإرادة التكوينية لا يتخلَّف عنها المراد فلا مجال للتدريج والاستمرار، مضافاً إلى أن (أهل البيت) استخدمت في القرآن وأريد منها الزوجة كما في سارة امرأة إبراهيم ( رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .

أمَّا الأخير، فجوابه أن سارة هي ابنة عم إبراهيم، فهي من أهل بيت الوصاية، وهي من أهل البيت من هذه

الجهة، لا من جهة زوجيَّتها لإبراهيم. مع أنه في هذه الآية أيضاً لم يستعمل في خصوص الزوجة، وكذا في قوله تعالى حول موسى‏ عليه‌السلام : ( وَسَارَ بِأَهْلِهِ ) ؛ حيث إن الإطلاق عليها وهي حامل مقرِب.

وعلى أيَّة حال... فإطلاق الأهل على ذي الرحم ودخوله فيه ممَّا لا ريب فيه. وأمَّا الأزواج، فهو - على فرض الإطلاق - ليس إطلاقاً ذاتياً، بل معلَّق على الوصف؛ وهو الزوجية، ويزول بزواله، وظاهر الحكم في الآية أنه بلحاظ الذوات هنا. مضافاً إلى ما حرَّره العديد من الأعلام من ورود الروايات من طريق العامة على قراءة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ستة أشهر على باب أصحاب الكساء، أي اختصاصها بهم‏ عليهم‌السلام . مضافاً إلى تغاير الضمير بين آيات سورة الأحزاب المخاطبة لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بضمير جمع الإناث بينما الضمير في الآية بلفظ جمع المذكر، كما أن لسان تلك الآيات التحذير والوعيد والتشدد بينما لسان هذه الآية المجد والتودد ممَّا يوجب الوثوق بأن هذه الآية أقحمت بين تلك الآيات عند جمع القرآن الكريم.

٣٨١

أمَّا الإشكال الأساس في الإرادة، فجوابه؛ أولاً: إن الإرادة التكوينية على نحوين إمَّا دفعية وإمَّا تدريجية كما في الأمطار وإرسال الرياح لواقح، وهذه التدريجية لا تقدح في كونها تكوينية؛ وذلك لأن الخاصية الأساس لها هو عدم التخلُّف، وهي متوفرة، وكونها تدريجية لا يقدح في كون الإرادة تكوينية. أمَّا أن التدريجية تقدح في العصمة، فهذا أيضاً غير تام؛ وذلك لأن العصمة على درجات فالملائكة معصومون ولكن هذا لم يمنع أن يتركوا الأولى، والمسلمون قاطبة يجمعون على أن النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله - بالنسبة إلى ربه تعالى - هو في تكامل مستمر ويكتسب الفيض منه تعالى وإن كان بالنسبة لمَن دونه لا يصل إليه أحد؛ لِمَا له من مقام لا يصل إليه نبي ولا وصي، إذن، التدريجية لا تنافي العصمة؛ لأن التكامل والسير نحو اللَّه مستمر وهم مكلَّفون بحقيقة التشريع.

وأمَّا الإشكال: بأن الإذهاب من زاوية التدريج لا يستلزم العصمة، لكن من زاوية إثبات الرجس قبل الإذهاب يدل على عدم العصمة.

فجوابه: أن هناك مقطعين في الآية: أحدهما يذهب الرجس، والأخر يطهِّركم تطهيرا، فلنتأمل في سر المخالفة

بينهما! والسر في هذه المخالفة أنه قد قُرِّر في علم الفلسفة والعرفان وأيَّده الأخلاق أن هناك مقامان: مقام التزكية أو التخلية، ثُم مقام التحلية و التجلية؛ وذلك لأن التحلية بالفضائل لا تكون إلاّ بعد التخلية عن الرذائل، وهذا شرط في تحقُّق التحلية، وبدونه لا تتحقق. وفي مقامنا نقول: إن إذهاب الرجس تخلية والتطهير تحلية، ويلاحظ أن التطهير - وإن كان مستمراً - فعلي؛ حيث لا يوجد فيه دلالة على الاستقبال، بل إنه مؤكد بالمفعول المطلق، وهذا يدل على الوقوع الحالي، فلا بد من وقوع الإذهاب قبل ذلك، وهذا التطهير غير متناه.

ثم إن هناك معنى آخر لإذهاب الرجس يجتمع مع ما تقدم من المعنى؛ وهو بمعنى الإبعاد، وأن لا يقترب الرجس من الذات والتوقية عن حريم ذواتهم نظير

٣٨٢

قوله تعالى ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (1) ، أي الصرف، فلا يقترب إليه.

والجواب الثاني: يذكر علماء الأخلاق والعرفان أن المرتبة الأدنى من العصمة هي عدم الرجس وما فوقها كمالات، كما أن ليس كل عدم يطلق عليه رذيلة؛ وذلك لأن العدميات تصنَّف إلى قسمين: أحدهما ما يكون منشأ للرذيلة والشرور، والأخر عدم كمال، والمنطقة الأولى من العصمة سمِّيت بإذهاب الرجس، ومنه يبدأ السير التكاملي.

أمَّا المراد من الطهارة في الآية، فهي في معناها اللغوي مقابل القذارة، وقد استعملت في القرآن في مصاديق مادية ومعنوية؛ أمَّا الأولى، ففي النقاء من الحيض وموارد الاستنجاء بالماء، أمَّا المعنوية، فقد عُبِّر عن الكفر بالرجس في آيات عديدة ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ ) ، وقد أطلق فيها الرجس على أحد معاني الشرك أو الالتفات لغير اللَّه.

وللطهارة مراتب ومدارج نستفيدها من نفس القرآن الكريم؛ ففي سورة الدهر ( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) ، في الرواية عن الإمام الصادق‏ عليه‌السلام ‏قال: (يطهِّرهم عن كل شي‏ء سوى اللَّه) (2)، فهؤلاء الذين أدخلوا الجنة ونعموا بها يبقى هناك مجال للتطهير مع أنهم داخل الجنة ولا يدخلها إلاّ المؤمنون، ولكن مع ذلك يمكن أن ينظروا بانشداد وجذبة في هذه الجنة إلى غير الذات الإلهية نظرة مستقلة، وهذا معنى للشرك دقيق قد لا يلتفت إليه الإنسان في حياته اليومية، وفي بعض الروايات نرى التعبير: أن كل شي‏ء شغلك عما سوى اللَّه فهو صنم، وهذا يدلنا على أن الطهارة

____________________

(1) يوسف: 24.

(2) الصافي: 265.

٣٨٣

لها مدارج عديدة وعجيبة.

* ثم إن هاهنا تحقيق دقِّي يزول به اللبس المتوهَّم في معنى الإذهاب، وذلك بالإمعان في هذه النكتة العقلية؛ وهي أن الرفع وإن عرف بأنه إزالة ما كان، والدفع ممانعة الشيء عن الحصول منذ البدء، إلاّ أنه في الواقع يرجع الرفع في حقيقته إلى الدفع؛ لأنه أيضاً ممانعة من الوجود غاية الأمر بقاءً، إذ أن وجود الشيء حدوثاً لا يشفع في وجوده بقاءً، بل هو محتاج إلى سبب ليفيض عليه وجوده آناً فآنا، فمن ثَمَّ يتَّضح أن الرفع هو دفع ممانعة عن حصة الوجود اللاحقة، لا أن ما هو موجود بالفعل يزال ويعدم في عين فرض وجوده، فإن ذلك تناقض؛ فإن العدم لا يصدق على نفس الوجود، فمن ثَمَّ يتضح أن الرفع أو الإذهاب في حقيقته دفع وليس هناك رفع حقيقي، نعم، المصحِّح للتفرقة هو الوجود السابق، ثم لحوق العدم أو العدم من الابتداء، ولكن المصحح للتفرقة لا ينحصر بذلك، بل يسوغه أيضاً وجود القابلية في المحل؛ إذ أن الممانعة التي في الدفع لا تصحح إلاّ بوجود الاقتضاء القابلي، وإلاّ فلا معنى للممانعة (لولا التقى لكنت أدهى العرب)، وهو ممانعة التكليف، فالإذهاب والرفع والدفع يصحِّحه الإمكان الذاتي والاقتضاء القابلي، فليس يتوقف الذهاب على الوجود الفعلي كما يُتوهَّم. وهذا الذي قرَّرنا باللغة العقلية هو المعنى الثاني للإذهاب الذي أشرنا إليه سالفاً بمعنى الصرف والإبعاد للرجس عن حريم الذوات المطهَّرة.

* أمَّا الآية الثانية، وهي ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ء * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) .

لقد تقدم البحث في شؤون الكتاب في الطوائف السابقة، ونشير هنا إلى المراد من المس، وقد ذكر أن المس غير اللمس الحسي، بل يقصد به الإدراك والعلم به، وعليه يحمل على أن الكتاب مكنون في العوالم العلوية؛ لا يصل إليه إلاّ المطهَّر،

٣٨٤

والمطهر - بقول مطلق - هو الذي عنده علم الكتاب، وبهذا يكون التناسب بين هذه الآية وبين الآيات السابقة في الكتاب.

* آيات الاقتران بين التوبة والطهارة.

وهنا نلاحظ أن منشأ التوبة هو منشأ الطهارة، وبيانها العقلي: أن كل أوبة وتوبة هو رجوع وسير إلى

اللَّه عزَّ وجل؛ إذ هو انقلاع للنقائص، والبعد عن الباري هو سبب النقائص والقرب منه تعالى هو سبب الكمال.

* آيات الاصطفاء.

وواضح أن المراد منها هو الغربلة والانتقاء؛ ومنها: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الْنَّاسِ بِرِسَالاَتِي ) (1) ، وهو اختصاص بمقام غيبي واصطفاء آل إبراهيم وآل عمران على العالمين، واضح فيه أنه لمقام فوق مقام بقية العالمين، وفي بعض الآيات: ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) (2) ، وهذا سلام مخصوص يدل على مقام مخصوص.

الطائفة السادسة: آيات شهادة الأعمال

( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (3) .

( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (4) .

وقوله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ

____________________

(1) الأعراف: 144.

(2) النمل: 59.

(3) التوبة: 105.

(4) المطفِّفيِن: 17 - 21.

٣٨٥

فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (1) .

وهذا المقام هو مقام غيبي؛ حيث فيه شهادة أعمال الأمة.

( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (2) .

الكلام يقع أولاً في الشهادة على الناس، فليس المراد شهادة مطلق المسلمين، بل المراد ثلَّة خاصة منهم؛ وذلك لقرائن:

ـ لِمَا ورد في آية الحج: ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذَا... ) (3) والتعبير بـ (أبيكم) حيث لا يراد منه مطلق المسلمين.

ـ أن هذه الأمة المسلمة التي دعى لها إبراهيم ربه ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً ) (4) ، وهذه هي التسمية التي أطلقها إبراهيم عليهم.

ـ ما ورد في آيات عديدة من خصائص لذرية إبراهيم من الاصطفاء، وأن ليس كل الذرية مشمولون بكل دعاء، وقوله تعالى ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (5) .

ـ وقوله تعالى ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاَءِ شَهِيداً ) (6) ، ومن الواضح أن مقام الشهادة ليس لكل الناس، بل لفئة خاصة؛ حيث يكون الرسول شاهداً على جميع الأمم الغابرة، وهذا يقتضي نوع خاص من التحمُّل، خارج إطار الحياة البشرية؛ حيث إنها قبل ولادة الرسول وبعد وفاته.

____________________

(1) يس: 21.

(2) الحج: 87.

(3) الحج: 78.

(4) البقرة: 128.

(5) الزخرف: 28.

(6) النساء: 41.

٣٨٦

ـ أن سنخ هذه الشهادة التي هي مقرونة برؤية اللَّه تعالى للأعمال تعني أن التحمُّل لهذه الشهادة ليس من سنخ الإدراك الحسي؛ إذ هو ممتنع في حقه تعالى لأنه ليس بجسم، وممتنع في حق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون المعنيون في الآية، بحسب أجسامهم البدنية أن يفرض لها الإحاطة بكل الناس مع أن رؤية الأعمال غير مخصوصة بما إذا كانوا في النشأة الدنيوية للتأبيد والعموم في الآية، فيحدس اللبيب بالقواعد العقلية أن نحو الإحاطة بأعمال العباد إحاطة ملكوتية في طول إحاطة الباري تعالى.

ـ وقد ورد مثلها في قوله تعالى: ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (1) ، وفي قراءة أهل البيت ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ) ؛ حيث فرَّع غايتين على الوسطية: شهادتهم على الأعمال، وشهادة الرسول عليهم. وهذه الوسطية ليست متوفِّرة في جميع أفراد الأمة؛ فإن فيها الطغاة والظالمين، فليس كونهم مسلمين هو الذي جعل لهم تلك الوسطية، بل إن الوسطية في الصفات العلمية والعملية والخلقية بين الإفراط والتفريط على نحو الإطلاق تعني التوفر على أكمل الصفات وأعلاها، وإلاَّ لم يكن وسطاً ميزاناً شاهدا، وهو يعني العصمة من كل النقائض.

وفي العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال: (ظننت أن اللَّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين؟! أفترى أن مَن لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللَّه شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟! كلا، لم يعنِ اللَّه مثل هذا من خلقه؛ يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وهم الأئمة الوسطى، وهو خير أمة أخرجت للناس) (2) .

____________________

(1) البقرة: 143.

(2) تفسير الصافي، ج1، ص196.

٣٨٧

إذن ما نستفيده من الآية أن الرسول والأئمة لهما مقام الشهادة على كل الأمم على كل أعمال الناس. وفي قوله تعالى لعيسى بن مريم ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ ) (1) ، فهو شهيد عليهم في زمن حياته، بخلاف شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو مقام شهادة يفوق مقام شهادة بقية الأنبياء.

كما نستفيد من هذه الطائفة أن الإمام هو رائد قافلة الأعمال الذي له وسطية الفيض في العمل، وله إحاطة بالعمل، وقد ورد في كثير من تعاريف الإمامة على لسان الأئمة بشهادة الأعمال؛ فقد روى في بصائر الدرجات بعدة أسانيد معتبرة عن الباقر عليه‌السلام : (أن الإمام إذا قام بالأمر رفع له في كل بلد منار ينظر به إلى أعمال العباد)، وروي بعدة أسانيد أخرى: (أنه يجعل له في كل قرية عمود من نور يرى به ما يعمل أهلها فيها) (2) .

الطائفة السابعة: آيات الولاية

وهي الآيات التي تبيِّن مقامات من ولاية النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأمة، ولسان آخر تبين أن الولاية للنبي وآخرين معيَّنين: ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (3) .

وهذه الآيات وثيقة الصلة ببحث التوحيد في الطاعة، وهي آيات أغلبها مدنية، وقد أشبعنا البحث حولها في الفصول السابقة. أمَّا هنا، فالكلام في نقاط:

____________________

(1) المائدة: 117.

(2) بصائر الدرجات، ص129، وبحار الأنوار، ج26، ص133 - 134.

(3) المائدة: 55 - 56.

٣٨٨

* قوله تعالى: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (1) .

في هذه الآية يطرح بحث حول حدود ولايته وسلطانه، وكما ذكرنا مراراً ليس الغرض من القرآن التفنُّن الأدبي الصرف، والتزويق اللفظي المجرد، بل الألفاظ لقولبة المعاني وهندسة القواعد وتحديد الحقائق، وأن انتقاء الألفاظ للدلالة على المعاني المعينة المحددة، وهنا يعبِّر عزَّ مِن قائل عن النبي بأنه أولى من النفس، فكل ما يثبت أنه شأن من شؤون النفس فالنبي أولى به، وشؤون النفس غير منحصرة في الإرادة؛ قال العلاّمة: (فالمحصَّل أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وإنفاذ الإرادة فالنبي أولى بذلك من نفسه، ولو دار الأمر بين النبي وبين نفسه في شي‏ء من ذلك، كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه، وكذا النبي أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية؛ كل ذلك لمكان الإطلاق في الآية) (2) .

وهكذا تظهر الأولوية بنصوصية في قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (3) ، وواضح من نزول الآية كون موردها قضية شخصية؛ وهي زواج زينب بنت جحش، وهو أمر شخصي، وهذا يعني أن ولايته تعم حتى الأمور الشخصية.

ـ وهاهنا إشكالات قد تطرح على تعميم الولاية:

1 - وحاصله: أن إرادة النبي لو كانت في الأغراض الشرعية والأمور العامة المهمة التي يعتمد عليها مصير الجماعة، فيكون هناك وجه لتقديم ولاية النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله . أمَّا لو كانت إرادته صادرة عن أمر نفساني خاص وشوق شخصي، فإن ذلك لا يليق بالشريعة،

____________________

(1) الأحزاب: 6.

(2) الميزان، ج16، ص276.

(3) الأحزاب: 36.

٣٨٩

وأنه لو كانت الولاية عامة لشملت حتى وطء الزوجة والنظر إلى محارم المؤمنين.

والجواب: أن هذه الأحكام منوطة بعناوين خاصة كالزوجية وعناوين الرحم الخاصة كالابن والأب والعم ونحو ذلك، مضافاً إلى عدم كونها أفعالاً منوطة بالرضا والاختيار؛ أي بقدرة وولاية الشخص، فلم ينط حلِّيَّة وطء الزوج للزوجة برضا الزوج، ولم يعلِّق حلِّيَّة نظر لمُحْرِم للمرأة المحرم برضاه، والولاية خارج هذا الإطار؛ وإنما الولاية تشمل المواطن التي تناط بالاختيار والإرادة وتكون للمؤمن ولاية على نفسه. وبتعبير آخر: الأشياء الثابتة للمؤمن بما هو مؤمن، وليست ثابتة له بعنوان خاص مثل عنوان الولد أو الأب أو الزوج، لذا لا تصح المقايسة بين البيع والنظر؛ لأن الأول منوط بالرضا والاختيار لذا يستطيع المالك أن ينيب غيره عنه، بخلاف الوطء فإنه لا يعقل أن ينيب فيه أحد

عنه، والطلاق كفعل مثلاً أنيط برضا الزوج بما أن له الولاية، وحينئذ يثبت للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - ما ذكره البعض من أن الآية ليست في صدد بيان الولاية الخاصة للنبي على الأمة، بل في صدد بيان ولايته على بيت المال وإمرة المؤمنين؛ بدليل ما ورد في أدلة الإرث من أن النبي ولي مَن لا ولي له، وأن الإمام مَن ضمن طبقات الميراث، وأنه إذا لم يوجد مَن يسدد ديون الميت، فالإمام هو الذي يقوم بسداده، مع الاستدلال بهذه الآية في مثل تلك الروايات؛ منها: ما روي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يقول: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فأيُّما رجل مات وترك دينا، فإليَّ، ومَن ترك مالاً، فهو لورثته) (1) ، وأمثال هذه الروايات العامة التي تثبت ولايته في الأمور السياسية العامة وما يشبه الضمان الاجتماعي في يومنا هذا.

____________________

(1) الميزان، ج16، ص282.

٣٩٠

ولكن الحق أن كل هذا لا يدل على تحديد لولاية النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لأن الآية ظاهرة في أن للنبي مقاماً فوق منزلة النفس يجب الانصياع لها في كل مورد يوجد نفوذ للإرادة التي هي في مجال الولاية، وهذه الروايات في الإرث لا تتنافى مع هذا الذي ذكرناه؛ وذلك لأنها تعلِّل وتنزِّل ولاية النبي على الأمة منزلة الوالد على الولد، وهذه الولاية تعني أنه في موارد التزاحم تنفذ ولاية الوالد بمناط حرمة العقوق ووجوب الطاعة (وهي لا تعني أن يجب أن يستأذن من والده في كل تصرف)، وهكذا في مورد البيع أنيط برضا المالك الشخصي ولم ينط بإرادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك بقية التصرُّفات الاعتبارية أنيطت بالملاك الشخصيين، ولم تنط بولاية النبي، نعم، في بعض الموارد إذا أعمل النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولايته وإرادته تكون المفاضلة له وهي النافذة.

هذا في موارد وجود الإرادة النبوية. أمَّا في موارد عدمها، فإن صرف الاعتقاد والمحبة هو الذي يكون عليه الفرد المسلم، ويوطِّن نفسه أنه في بعض الموارد إذا أراد النبي استعمال إرادته، فعليه أن يستجيب.

3 - أنه لا يعقل تعميم الولاية للميل الشخصي؛ أي أن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل ولايته تبعاً لرغبات وأمور شخصية، لأنه يكون فيها نوع من الاستبداد الذي ينبذه القرآن والعقل، فلا بدَّ من اعتماده ميزاناً شرعياً يرجع إليه في تصرفاته، وهذا يعني أن ولايته غير مطلقة، بل محدَّدة. وشبيه بهذا ما يقال في الأنفال والأخماس من أنه ليس ملكاً شخصياً للإمام، بل هو للمقام، ويترتَّب عليه أن الإمامة حينئذ لا تكون حيثية تعليلية، بل تقييديَّة؛ لأنها إذا كانت تعليلية، فتكون ملكاً شخصياً للإمام، وعليه لا يكون المعصوم منطلقاً من الميول الشخصية خصوصاً في الأمور العامة ومصالح المسلمين.

والجواب: إن في هذا الكلام خلطا؛ لأنَّا عندما نتكلم عن إعمال الولاية في الأمور

٣٩١

العادية والشخصية هل مرادنا هو غرائز المعصوم أم الإرادة المعصومة؟ ولاشك أنَّا نريد الثاني، وأصل البحث أن ثبوت هذه الولاية لهم هو بتعليل عصمتهم، فهم آباء هذا الأمة، فإرادته معصومة عن الزلل والخطأ وغرائز الشهوة وكبرياء الذات، ولا يمكن أن تصدر منه نزوة و لا يكون تصرفه صادر عن جهالة، بل إنَّا من تصرفه نستكشف الإرادة الشرعية؛ لأن إرادته هي إرادة شرعية وإنْ لم نعلم جهتها الشرعية.

وخلاصة القول:

إن المعصوم غير خالٍ من الغرائز والشهوات كبقية بني آدم، لكن الفارق أن مبدأها هو العقل والإرادة الإلهية التي تجعل كل فعل يقوم به الإنسان يكون خالصاً لوجهه الكريم، ولا يكون مبدؤها الشهوات الطامحة البهيمية التي تأكل الإنسان العادي، بل القوة العاقلة المتصلة بالأفق المبين هي التي تسيطر على جميع القوى المادون، فتجعلها تسير في خط مستقيم لا ينحرف عن جادة الصواب والحق.

وهذا يقودنا إلى بحث آخر؛ وهو: أن الجنبة البشرية في النبي والإمام هل تعني إلغاء الأفعال الغيبية أو أن الجنبة الغيبية للمعصوم تلغي أفعاله البشرية؟

وللاجابة عن هذا التساؤل نقول: إنه يُذكر في أقسام العبادات: عبادة الأحرار؛ وهو: مَن يعبد اللَّه حباً فيه وأنه أهلاً للعبادة، وعبادة التجَّار؛ وهي: عبادة مَن يرغب في الجنة، وعبادة العبيد؛ وهي: مَن يعبد اللَّه خوفاً من النار. ومن جانب آخر نرى في الأدعية حرص الأئمة على العبادة والدعاء خوفاً من ناره وطلباً لجنته، وقد ألفت صدر المتألهين في مبحث المعاد من كتاب الأسفار إلى أن هذا الرجاء والخوف لا ينافي الأكملية؛ إذ أن تلبية الغرائز الدانية للنفس ليس ينافي الأكملية دوماً، فليس كل مَن طلب بعبادته الجنة فهي عبادة التجَّار، بل توجد روايات تشير إلى أن الذي يعبد طلباً للجنة بما هي جنة من دون غاية أخرى فهي عبادة التجَّار. أمَّا إذا أتى بالعبادة طلباً للجنة والنجاة من النار كغاية متوسطة، والغاية النهائية هي اللَّه، فلا

٣٩٢

يكون خلافاً للراجح، وتكون هي عبادة الأحرار.

وببيان عقلي: أن لكل قوة من قوى النفس كمال تسعى إليه، وهذه القوى المادون كمالها هو في النعيم الأخروي والأجر والابتعاد عن النار، فيجعل الإنسان سعيه في الدنيا لغرض تسكين تلك الغرائز في النشأة الدنيوية كي لا تمانعه من أن يسير في طريق آخر، وهو طريق الحق وسير النفوس في كمالاتها العالية، فالخوف من النار وطلب الجنة هو غاية متوسطة للقوى النازلة حتى لا تمانع من سير النفوس العالية.

وروي في الصحيفة السجادية أنه‏ عليه‌السلام ‏رؤي بعد منتصف ليلة متهيأ بأحسن وأجمل هيئة في سكك المدينة فسئل: إلى أين؟ فقال عليه‌السلام : (إلى خطبة الحور)، وقصد بذلك التهجد في المسجد النبوي. وفي كفاية الأثر في باب ما جاء عن الصادق‏ عليه‌السلام في التنصيص على الأئمة عليه‌السلام في حديث قال‏ عليه‌السلام : (إن أولي الألباب الذين عملوا بالفكرة حتى ورثوا منه حب اللَّه، فإن حب اللَّه إذا ورثه القلب استضاء به وأسرع إليه اللطف، فإذا نزل منزلة اللطف صار من أهل الفوائد، فإذا صار من أهل الفوائد تكلم بالحكمة، فإذا تكلم بالحكمة صار صاحب فطنة، فإذا نزل منزل الفطنة عمل في القدرة، فإذا عمل في القدرة عرف الأطباق السبعة، فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبته في خالقه) (1) .

4 - أنه ورد في معتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام ‏قال: قال أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام : (إذا حضر سلطان من سلطان اللَّه جنازة، فهو أحق بالصلاة عليها إن قدّمه ولي الميت، وإلاّ فهو غاصب) (1) فقد قيَّد صلاته على الجنازة بإذن ولي الميت، ولم يجعل أولى منه.

والجواب: أن متن الرواية متدافع؛ حيث إن إثبات الأحقية يفيد أولويته على

____________________

(1) كفاية الأثر، ص253.

(2) وسائل الشيعة، أبواب الجنازة، ب23، ح3.

٣٩٣

الكل وعلى ولي الميت، والتقييد بـ (إن قدَّمه ولي الميت) ينفي الأحقية الخاصة به؛ إذ أن مَن يقدمه ولي الميت أحق من غيره سواء كان السلطان أو غيره، فلو كان المدار على تقديم مَن يقدمه ولي الميت، فلا اختصاص لها بالسلطان، كما أن الأحقية هي لتقديم ولي الميت، فلو لم يقدمه لَمَا كان أحق، فكيف يجعل الأحقية الخاصة به دون بقية الناس.

فالوجه في مفاد الرواية هو كون المراد أن سلطان اللَّه أحق بالصلاة، وعلى ولي الميت تقديمه على الجميع، وإلاّ فولي الميت غاصب في التصرف فيما غيره - وهو السلطان - أحق منه، ويعضد هذا التفسير لمفاد الرواية، ما رواه الكليني في الصحيح عن طلحة بن زيد - وهو وإن كان عامِّياً بترياً إلاّ أن الشيخ الطوسي وصف كتابه بأنه معتمد - عن أبي عبد اللَّه‏ عليه‌السلام ‏قال: (إذا حضر الإمام الجنازة، فهو أحق الناس بالصلاة عليها) (1) ، وقد رواه الشيخ في التهذيب أيضاً، فإن ظاهر إطلاقها الأحقية على الجميع بما فيهم ولي الميت، ويكفي بياناً في المقام قضية زواج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة، فقد روى في تفسير البرهان عن الكليني عن أحمد بن عيسى عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ‏في قول اللَّه عزَّ وجلَّ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) قال: (إنما يعني أولى بكم؛ أي أحق بكم وبأموركم وأنفسكم وأموالكم، وللَّه ورسوله والذين آمنوا يعني علياً وأولاده عليهم‌السلام ‏إلى يوم القيامة.

____________________

(1) المصدر، ح4.

٣٩٤

المبحث الرابع:

الإمامة في السنة النبوية

وجرياً على ما اتخذناه من المنهج، فإنا لن نتعرَّض للروايات الخاصة الواردة في مقامات الأئمة عليهم‌السلام ، ‏بل سوف ننتقي الروايات التي تواتر نقلها لدى الفريقين والتركيز على الفقه العقلي والذوق المعرفي.

الحديث الأول: حديث الثقلين

وهو حديث متواتر ومشهور بين العامة والخاصة، ويظهر التسليم على أنه قد ذكره النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواطن عدة حتى قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه: (ثم أعلم أن لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا، ومرَّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال لمَّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافٍ؛ إذ لا مانع من أنه كرَّر عليهم ذلك في تلك المواضع وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة) (1) .

والاستدلال من طرق العامة في ثبوت هذه الأحاديث له فائدة في إفحام الخصم، لأن الحديث كلَّما كان نَقَلته غير مؤمنين بما ورد فيه كلَّما كان ابعد عن الرمي

____________________

(1) الصواعق المحرقة، 89 - 90.

٣٩٥

بالتدليس والكذب.

والبيان الإجمالي لهذا الحديث هو: أن النبي اشترط للنجاة من الضلال التمسك بالعترة؛ ومن ثَم ورد في كثير من الروايات أنهم أعدال الكتاب، فلا مجال لمقولة حسبنا كتاب اللَّه، ولا أن يقال: حسبنا الروايات المأثورة، وعلى حسب تعبير العلامة: أن من يقول حسبنا كتاب اللَّه فقد خالف الحديث؛ وذلك لأن من فارق التمسك بهما فقد فارقهما، لا أنه فارق أحد والتزم بالأخر.

ثم أن مقتضى العِدلية هي اتحاد صفاتهما، فإذا كان الكتاب تبياناً لكل شي‏ء ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ونور وهدى وغير ذلك هو ثبوت الصفات للعِدل الآخر، ومن ثم تسمى كل منهما باسم الآخر، فهم القرآن الناطق، والكتاب إمام لمَن استهداه وعمل به.

ومن الغريب بعد ذلك حسر مفاد حديث الثقلين بكون مفاده كالقاعدة الفقهية؛ وهو كون مصدر التشريع الكتاب والعترة، وحجية أقوالهم، كيف وأن نفي الضلال المشروط بالتمسك بهما ليس مخصوصاً بالأعمال الجارحية، بل إن الشطر الأعظم في جانب الضلال هو في العقيدة والمعرفة فبالتمسك بهما يتحرَّز عنه أولا، وعن الضلال في الفروع ثانياً، كما أن الكتاب الكريم أكثر ما اشتمل عليه هو في المعتقدات والمعارف، وكذلك مجموعة المنظومة الروائية المأثورة عنهم عليهم‌السلام ، وهل يتم التمسُّك بالكتاب - مع ذلك - من دون الاعتقاد به أنه منزل من الباري تعالى، فكذلك في التمسك بالعترة لا يتم من دون الاعتقاد بنصبهم من قبله تعالى، مع أن لازم حجية أقوالهم الأخذ بما يدعون إليه من الاعتقاد بإمامتهم.

1 - حديث الثقلين في القرآن الكريم:

ذكرنا سابقاً أن هذا الحديث الشريف أكدَّ عليه القرآن في ضمن مجموعة من الآيات نستعرضها:

٣٩٦

1 - قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (1) ، وقوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ‏ءٍ ) وغيرها من الآيات الدالة على أن الكتاب الكريم فيه تبيان لكل شي‏ء ولا يعدوه شي‏ء، ثم نربط هذا بقوله تعالى: ( هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (2)، حيث إن القرآن - الحامل لهذا النعت المادح لنفسه - لابد أن يوجد من يصل إلى هذا البيان العظيم الذي اقتصر على الذين أوتوا العلم وصاروا هم المحيطون به إحاطة علمية تامة، فقد جعل اللَّه لهذا القرآن عِدلاً مطَّلعاً على أسراره وإحاطته، وهؤلاء موجودون ما وُجد القرآن؛ وذلك لأنه لو كان تبياناً ولا يوجد مَن يصل إلى هذا التبيان لَمَا كان هناك فائدة من هذا الوصف، واللطيف أنه لم يدَّع أحد من المسلمين علم ما في القرآن إلاّ هم‏ عليهم‌السلام .

2 - قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، وهي دالة على أن للقرآن مرتبة وجودية تكوينية غيبية لا يصل إليها أحد إلاّ المطهَّرون المعصومون، كما نستطيع اقتناص عدة نكات من الآية:

آ - أن مسَّ هذا الكتاب المكنون - وهو مرتبة للقرآن قد أشرنا سابقاً إلى مؤداها تفصيلاً - مختص بالمطهَّرين؛ ممَّا يدل على أن لهم رقي روحي يجعلهم قادرون على الوصول إلى تلك المرتبة.

ب - أنهم معصومون.

ج - أن المؤهل لهذه المرتبة العلمية العالية إنما ينالها بفضل الطهارة والعصمة التي يتمتع بها.

3 - قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) . ويستفاد منها:

أ - أن الاستفادة المستقلة من الكتاب من دون توسُّط ( الرَّاسِخُونَ ) غير ممكن

____________________

(1) النحل: 89.

(2) العنكبوت: 49.

٣٩٧

ويجب الاستهداء بهم في رفع المتشابه.

ب - كما تدل أيضاً على أن المحكم لا سبيل للوصول إليه من دونهم؛ وذلك لأن المحيط بالمحكم يرتفع عنده التشابه حينئذ، حيث إنها أم الكتاب والأمومة هي في الإحاطة التامة، فهم يهدون إلى القرآن، وعليه نستطيع فهم المعية فهماً صحيحاً؛ فلا مقولة حسبنا كتاب اللَّه تامة ولا مقولة حسبنا الروايات المأثورة تامة، بل هما معاً.

جـ - أن هذه الآية تدل على وجودهم دائماً؛ لأن القرآن موجود دائماً والمحكم والمتشابه موجودان، فيجب أن يكون هناك مَن يرفع هذا المتشابه، خصوصاً أن التشابه في كثير من الأحيان يعود إلى المصداق والتطبيق، لا المعنى المراد، و إلى تأويل القرآن تطبيقاته؛ حيث إن كثير من الأخطاء والانحرافات تنشأ من إرجاع الصغريات أو الكليات العديدة المتوسطة إلى الكليات الفوقانية.

ومن هنا أيضاً نفهم كيف يقاتل عليه‌السلام ‏على التنزيل وعلى التأويل أيضاً، ومن هنا نلتفت لمعنى ما روي

عنهم عليهم‌السلام ‏أنهم الكتاب الناطق، وأن بدونهم يعني تعطيل الكتاب وترك التمسك به. ومن أمثلة رفع التشابه ما ذكره المشايخ الثلاث وابن حمزة والحلبي: أن من فوائد وجوده‏ عليه‌السلام ‏أنه ينبه بوسائل خفية؛ بوسائط غيبية، شيعته، ولذا اعتبروا الإجماع حجة من باب اللطف، وأن الإمام إذا وجد الاتفاق على الخطأ، فإنه يتدخَّل لإزالته وإحداث الخلاف، فيرتفع الاتفاق.

د - أن هذه الطائفة تدلِّل على وجوب الاتباع في الجزئيات والكليات المتوسطة، ومن ثَمَّ تدل على لزوم الائتمام

بهم، وهذا هو الهداية الإيصالية التي هي حد الإمامة، فإذا كان أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام قاتل على التأويل، فإن بقية الأئمة يهدون إلى التأويل، فليس الإيمان فقط بالتنزيل، بل المهم أيضاً الإيمان بالتأويل وأنه بيد ثلة خاصة هم أهل البيت‏ عليهم‌السلام ؛ إذ ما الفائدة في الإيمان بالكليات الفوقانية مع فرض الخطأ في الكليات المتوسطة - بدرجات عديدة - و في الجزئيات والمصاديق.

٣٩٨

4 - قوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ‏ءٍ ) ، وقوله تعالى: ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) .

وواضح الارتباط بين الآيتين؛ إذ أن الكتاب هو الحاوي لكل شي‏ء، وهو الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة، وأن الذي عنده علم الكتاب هم أهل البيت عليهم‌السلام .

5 - قوله تعالى: ( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) الدالة على أن الصادقين المأمور بالكون معهم موجودون في كل زمان ومكان.

2 - ألفاظ حديث الثقلين:

التعبير بـ (الثقل)، وهو العيار الذي يوضع ليثبت به الميزان، وقد يعبَّر به عن الثقل والتثبت وأن حركته تكون مطمئنة، فالكتاب والعترة هما اللذان تستقر بهما الحياة المطمئنة الدنيوية، وبارتفاعهما يرتفع الاستقرار، وبهذا المضمون (لولا الحجة، لساخت الأرض بأهلها).

ـ (فيكم) ممَّا يدل على التواجد الدائم، وأنه أمر يُتوصَّل إليه وليس ممتنعاً.

ـ (ما إن تمسكتم بهما) لم يقيد التمسك بمورد معين أو في مجال ما، بل جعله مطلقاً حتى يشمل كل شي‏ء ومطلق الأمور، وخصوصاً أن القرآن جامع لكل العلوم.

ـ (لن تضلوا أبدا) تأكيد الإطلاق بـ (أبدا) يدل على عدم الضلال المطلق، وهو يعني أنه غير مختص بالإراءة

فقط، بل يعمه إلى الهداية الإيصالية، وهو يدلِّل على ماهية الإمامة التي ذكرناه.

ـ (لن يفترقا) دليل على العصمة؛ حيث إن العترة مع الكتاب دوماً، والكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا غير مختص بهذه النشأة، بل يدل على الاتصال في جميع مراتبه ومدارجه

ـ أن المعية بين القرآن والعترة مؤبَّدة؛ بدليل قوله: (حتى يردا عليَّ الحوض)، وهذا يشمل جميع النشآت التالية للدنيوية والبرزخ والبعث وتطاير الكتب... والمراد

٣٩٩

من الحوض هو حوض يوم القيامة، وقد يشار به إلى حقائق أخرى. كما يستفاد من الورود على النبي أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلى مكانة ومنزلة ومقاماً من العترة ومن الكتاب؛ إذ أنه المرجع والمنتهى، وهو المبدأ (إني تارك) لحجية الثقلين، وهو المنتهى (علي الحوض) لهما.

3 - النظريات في تفسير الْمَعِيَّة بين القرآن والعترة:

ثُم إن مقتضى المعية الواردة هو التلازم بينهما كما ذكرنا مراراً، وهاهنا بحث في تفسير هذه المعية وقد ظهرت ثلاث نظريات في بيان العلاقة بينهما:

النظرية الأولى:

حسبنا كتاب اللَّه وأنه هادٍ، ولذلك ورد الأمر في تمييز الحجة عن اللاَّحجة من الروايات بعرضها على الكتاب الكريم، وهذا مؤيِّد بأنه المعجزة الخالدة الباقية الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، ودور أهل البيت هو كونهم مقدمة للقرآن الذي عليه المدار، فإذا وصل واصل إلى تلك المفادات بأي طريقة كانت، فبها ونعمت، فيكون الآل طريق ليس إلاّ، ويستدل لهذا البيان بقوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) (1) ، ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (2) ، فدوره دور المعلم والدال على طريق التعليم، والأصل هو القرآن. ويعضده ما ورد من تحدِّي المشركين بأن يؤتوا بمثل هذا القرآن، فلو كان مغلقاً مقفلاً، لَمَا كان هناك معنى للتحدي، بل إن حجية قوله‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مستمدة من معجزة القرآن وحجيته.

وفي مقام تقييم هذه النظرية نرى أن أدلة النظرية الثانية وإن لم تتم منفردة فهي بلا شك تخدش في تمامية هذه النظرية، ولكن يمكن الإجابة عن هذه النظرية بعدة وجوه:

____________________

(1) النحل: 43.

(2) البقرة: 129.

٤٠٠