الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137292 / تحميل: 8160
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

لأن التعليل بالاعتزال لا يختص بأهل البيت، بخلاف ما إذا كانت الإرادة تكوينية، فهي لا تتخلَّف، أي أن المراد يتحقَّق لا محالة، فيصح التخصيص في لفظ الآية، هذا مع أن الأغلب في استعمال الإرادة التشريعية مجي‏ء لفظ (أن) التفسيرية متوسطة بين الإرادة و متعلقها تدليلاً على التكليف.

ثانيهما: يبقى التساؤل حول التعبير بالمضارع الدال على التدريجية لا الدفعية، وإذا كانت الإرادة كذلك، فهذا يدل على أن المراد من الإرادة هو التشريعية لا التكوينية؛ إذ أن الإرادة التكوينية لا يتخلَّف عنها المراد فلا مجال للتدريج والاستمرار، مضافاً إلى أن (أهل البيت) استخدمت في القرآن وأريد منها الزوجة كما في سارة امرأة إبراهيم ( رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .

أمَّا الأخير، فجوابه أن سارة هي ابنة عم إبراهيم، فهي من أهل بيت الوصاية، وهي من أهل البيت من هذه

الجهة، لا من جهة زوجيَّتها لإبراهيم. مع أنه في هذه الآية أيضاً لم يستعمل في خصوص الزوجة، وكذا في قوله تعالى حول موسى‏ عليه‌السلام : ( وَسَارَ بِأَهْلِهِ ) ؛ حيث إن الإطلاق عليها وهي حامل مقرِب.

وعلى أيَّة حال... فإطلاق الأهل على ذي الرحم ودخوله فيه ممَّا لا ريب فيه. وأمَّا الأزواج، فهو - على فرض الإطلاق - ليس إطلاقاً ذاتياً، بل معلَّق على الوصف؛ وهو الزوجية، ويزول بزواله، وظاهر الحكم في الآية أنه بلحاظ الذوات هنا. مضافاً إلى ما حرَّره العديد من الأعلام من ورود الروايات من طريق العامة على قراءة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ستة أشهر على باب أصحاب الكساء، أي اختصاصها بهم‏ عليهم‌السلام . مضافاً إلى تغاير الضمير بين آيات سورة الأحزاب المخاطبة لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بضمير جمع الإناث بينما الضمير في الآية بلفظ جمع المذكر، كما أن لسان تلك الآيات التحذير والوعيد والتشدد بينما لسان هذه الآية المجد والتودد ممَّا يوجب الوثوق بأن هذه الآية أقحمت بين تلك الآيات عند جمع القرآن الكريم.

٣٨١

أمَّا الإشكال الأساس في الإرادة، فجوابه؛ أولاً: إن الإرادة التكوينية على نحوين إمَّا دفعية وإمَّا تدريجية كما في الأمطار وإرسال الرياح لواقح، وهذه التدريجية لا تقدح في كونها تكوينية؛ وذلك لأن الخاصية الأساس لها هو عدم التخلُّف، وهي متوفرة، وكونها تدريجية لا يقدح في كون الإرادة تكوينية. أمَّا أن التدريجية تقدح في العصمة، فهذا أيضاً غير تام؛ وذلك لأن العصمة على درجات فالملائكة معصومون ولكن هذا لم يمنع أن يتركوا الأولى، والمسلمون قاطبة يجمعون على أن النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله - بالنسبة إلى ربه تعالى - هو في تكامل مستمر ويكتسب الفيض منه تعالى وإن كان بالنسبة لمَن دونه لا يصل إليه أحد؛ لِمَا له من مقام لا يصل إليه نبي ولا وصي، إذن، التدريجية لا تنافي العصمة؛ لأن التكامل والسير نحو اللَّه مستمر وهم مكلَّفون بحقيقة التشريع.

وأمَّا الإشكال: بأن الإذهاب من زاوية التدريج لا يستلزم العصمة، لكن من زاوية إثبات الرجس قبل الإذهاب يدل على عدم العصمة.

فجوابه: أن هناك مقطعين في الآية: أحدهما يذهب الرجس، والأخر يطهِّركم تطهيرا، فلنتأمل في سر المخالفة

بينهما! والسر في هذه المخالفة أنه قد قُرِّر في علم الفلسفة والعرفان وأيَّده الأخلاق أن هناك مقامان: مقام التزكية أو التخلية، ثُم مقام التحلية و التجلية؛ وذلك لأن التحلية بالفضائل لا تكون إلاّ بعد التخلية عن الرذائل، وهذا شرط في تحقُّق التحلية، وبدونه لا تتحقق. وفي مقامنا نقول: إن إذهاب الرجس تخلية والتطهير تحلية، ويلاحظ أن التطهير - وإن كان مستمراً - فعلي؛ حيث لا يوجد فيه دلالة على الاستقبال، بل إنه مؤكد بالمفعول المطلق، وهذا يدل على الوقوع الحالي، فلا بد من وقوع الإذهاب قبل ذلك، وهذا التطهير غير متناه.

ثم إن هناك معنى آخر لإذهاب الرجس يجتمع مع ما تقدم من المعنى؛ وهو بمعنى الإبعاد، وأن لا يقترب الرجس من الذات والتوقية عن حريم ذواتهم نظير

٣٨٢

قوله تعالى ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (١) ، أي الصرف، فلا يقترب إليه.

والجواب الثاني: يذكر علماء الأخلاق والعرفان أن المرتبة الأدنى من العصمة هي عدم الرجس وما فوقها كمالات، كما أن ليس كل عدم يطلق عليه رذيلة؛ وذلك لأن العدميات تصنَّف إلى قسمين: أحدهما ما يكون منشأ للرذيلة والشرور، والأخر عدم كمال، والمنطقة الأولى من العصمة سمِّيت بإذهاب الرجس، ومنه يبدأ السير التكاملي.

أمَّا المراد من الطهارة في الآية، فهي في معناها اللغوي مقابل القذارة، وقد استعملت في القرآن في مصاديق مادية ومعنوية؛ أمَّا الأولى، ففي النقاء من الحيض وموارد الاستنجاء بالماء، أمَّا المعنوية، فقد عُبِّر عن الكفر بالرجس في آيات عديدة ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ ) ، وقد أطلق فيها الرجس على أحد معاني الشرك أو الالتفات لغير اللَّه.

وللطهارة مراتب ومدارج نستفيدها من نفس القرآن الكريم؛ ففي سورة الدهر ( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ) ، في الرواية عن الإمام الصادق‏ عليه‌السلام ‏قال: (يطهِّرهم عن كل شي‏ء سوى اللَّه) (٢)، فهؤلاء الذين أدخلوا الجنة ونعموا بها يبقى هناك مجال للتطهير مع أنهم داخل الجنة ولا يدخلها إلاّ المؤمنون، ولكن مع ذلك يمكن أن ينظروا بانشداد وجذبة في هذه الجنة إلى غير الذات الإلهية نظرة مستقلة، وهذا معنى للشرك دقيق قد لا يلتفت إليه الإنسان في حياته اليومية، وفي بعض الروايات نرى التعبير: أن كل شي‏ء شغلك عما سوى اللَّه فهو صنم، وهذا يدلنا على أن الطهارة

____________________

(١) يوسف: ٢٤.

(٢) الصافي: ٢٦٥.

٣٨٣

لها مدارج عديدة وعجيبة.

* ثم إن هاهنا تحقيق دقِّي يزول به اللبس المتوهَّم في معنى الإذهاب، وذلك بالإمعان في هذه النكتة العقلية؛ وهي أن الرفع وإن عرف بأنه إزالة ما كان، والدفع ممانعة الشيء عن الحصول منذ البدء، إلاّ أنه في الواقع يرجع الرفع في حقيقته إلى الدفع؛ لأنه أيضاً ممانعة من الوجود غاية الأمر بقاءً، إذ أن وجود الشيء حدوثاً لا يشفع في وجوده بقاءً، بل هو محتاج إلى سبب ليفيض عليه وجوده آناً فآنا، فمن ثَمَّ يتَّضح أن الرفع هو دفع ممانعة عن حصة الوجود اللاحقة، لا أن ما هو موجود بالفعل يزال ويعدم في عين فرض وجوده، فإن ذلك تناقض؛ فإن العدم لا يصدق على نفس الوجود، فمن ثَمَّ يتضح أن الرفع أو الإذهاب في حقيقته دفع وليس هناك رفع حقيقي، نعم، المصحِّح للتفرقة هو الوجود السابق، ثم لحوق العدم أو العدم من الابتداء، ولكن المصحح للتفرقة لا ينحصر بذلك، بل يسوغه أيضاً وجود القابلية في المحل؛ إذ أن الممانعة التي في الدفع لا تصحح إلاّ بوجود الاقتضاء القابلي، وإلاّ فلا معنى للممانعة (لولا التقى لكنت أدهى العرب)، وهو ممانعة التكليف، فالإذهاب والرفع والدفع يصحِّحه الإمكان الذاتي والاقتضاء القابلي، فليس يتوقف الذهاب على الوجود الفعلي كما يُتوهَّم. وهذا الذي قرَّرنا باللغة العقلية هو المعنى الثاني للإذهاب الذي أشرنا إليه سالفاً بمعنى الصرف والإبعاد للرجس عن حريم الذوات المطهَّرة.

* أمَّا الآية الثانية، وهي ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ء * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) .

لقد تقدم البحث في شؤون الكتاب في الطوائف السابقة، ونشير هنا إلى المراد من المس، وقد ذكر أن المس غير اللمس الحسي، بل يقصد به الإدراك والعلم به، وعليه يحمل على أن الكتاب مكنون في العوالم العلوية؛ لا يصل إليه إلاّ المطهَّر،

٣٨٤

والمطهر - بقول مطلق - هو الذي عنده علم الكتاب، وبهذا يكون التناسب بين هذه الآية وبين الآيات السابقة في الكتاب.

* آيات الاقتران بين التوبة والطهارة.

وهنا نلاحظ أن منشأ التوبة هو منشأ الطهارة، وبيانها العقلي: أن كل أوبة وتوبة هو رجوع وسير إلى

اللَّه عزَّ وجل؛ إذ هو انقلاع للنقائص، والبعد عن الباري هو سبب النقائص والقرب منه تعالى هو سبب الكمال.

* آيات الاصطفاء.

وواضح أن المراد منها هو الغربلة والانتقاء؛ ومنها: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الْنَّاسِ بِرِسَالاَتِي ) (١) ، وهو اختصاص بمقام غيبي واصطفاء آل إبراهيم وآل عمران على العالمين، واضح فيه أنه لمقام فوق مقام بقية العالمين، وفي بعض الآيات: ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) (٢) ، وهذا سلام مخصوص يدل على مقام مخصوص.

الطائفة السادسة: آيات شهادة الأعمال

( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) (٣) .

( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (٤) .

وقوله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ

____________________

(١) الأعراف: ١٤٤.

(٢) النمل: ٥٩.

(٣) التوبة: ١٠٥.

(٤) المطفِّفيِن: ١٧ - ٢١.

٣٨٥

فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (١) .

وهذا المقام هو مقام غيبي؛ حيث فيه شهادة أعمال الأمة.

( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (٢) .

الكلام يقع أولاً في الشهادة على الناس، فليس المراد شهادة مطلق المسلمين، بل المراد ثلَّة خاصة منهم؛ وذلك لقرائن:

ـ لِمَا ورد في آية الحج: ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذَا... ) (٣) والتعبير بـ (أبيكم) حيث لا يراد منه مطلق المسلمين.

ـ أن هذه الأمة المسلمة التي دعى لها إبراهيم ربه ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً ) (٤) ، وهذه هي التسمية التي أطلقها إبراهيم عليهم.

ـ ما ورد في آيات عديدة من خصائص لذرية إبراهيم من الاصطفاء، وأن ليس كل الذرية مشمولون بكل دعاء، وقوله تعالى ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (٥) .

ـ وقوله تعالى ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاَءِ شَهِيداً ) (٦) ، ومن الواضح أن مقام الشهادة ليس لكل الناس، بل لفئة خاصة؛ حيث يكون الرسول شاهداً على جميع الأمم الغابرة، وهذا يقتضي نوع خاص من التحمُّل، خارج إطار الحياة البشرية؛ حيث إنها قبل ولادة الرسول وبعد وفاته.

____________________

(١) يس: ٢١.

(٢) الحج: ٨٧.

(٣) الحج: ٧٨.

(٤) البقرة: ١٢٨.

(٥) الزخرف: ٢٨.

(٦) النساء: ٤١.

٣٨٦

ـ أن سنخ هذه الشهادة التي هي مقرونة برؤية اللَّه تعالى للأعمال تعني أن التحمُّل لهذه الشهادة ليس من سنخ الإدراك الحسي؛ إذ هو ممتنع في حقه تعالى لأنه ليس بجسم، وممتنع في حق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون المعنيون في الآية، بحسب أجسامهم البدنية أن يفرض لها الإحاطة بكل الناس مع أن رؤية الأعمال غير مخصوصة بما إذا كانوا في النشأة الدنيوية للتأبيد والعموم في الآية، فيحدس اللبيب بالقواعد العقلية أن نحو الإحاطة بأعمال العباد إحاطة ملكوتية في طول إحاطة الباري تعالى.

ـ وقد ورد مثلها في قوله تعالى: ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (١) ، وفي قراءة أهل البيت ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ) ؛ حيث فرَّع غايتين على الوسطية: شهادتهم على الأعمال، وشهادة الرسول عليهم. وهذه الوسطية ليست متوفِّرة في جميع أفراد الأمة؛ فإن فيها الطغاة والظالمين، فليس كونهم مسلمين هو الذي جعل لهم تلك الوسطية، بل إن الوسطية في الصفات العلمية والعملية والخلقية بين الإفراط والتفريط على نحو الإطلاق تعني التوفر على أكمل الصفات وأعلاها، وإلاَّ لم يكن وسطاً ميزاناً شاهدا، وهو يعني العصمة من كل النقائض.

وفي العياشي عن الصادق عليه‌السلام قال: (ظننت أن اللَّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين؟! أفترى أن مَن لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللَّه شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟! كلا، لم يعنِ اللَّه مثل هذا من خلقه؛ يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وهم الأئمة الوسطى، وهو خير أمة أخرجت للناس) (٢) .

____________________

(١) البقرة: ١٤٣.

(٢) تفسير الصافي، ج١، ص١٩٦.

٣٨٧

إذن ما نستفيده من الآية أن الرسول والأئمة لهما مقام الشهادة على كل الأمم على كل أعمال الناس. وفي قوله تعالى لعيسى بن مريم ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ ) (١) ، فهو شهيد عليهم في زمن حياته، بخلاف شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو مقام شهادة يفوق مقام شهادة بقية الأنبياء.

كما نستفيد من هذه الطائفة أن الإمام هو رائد قافلة الأعمال الذي له وسطية الفيض في العمل، وله إحاطة بالعمل، وقد ورد في كثير من تعاريف الإمامة على لسان الأئمة بشهادة الأعمال؛ فقد روى في بصائر الدرجات بعدة أسانيد معتبرة عن الباقر عليه‌السلام : (أن الإمام إذا قام بالأمر رفع له في كل بلد منار ينظر به إلى أعمال العباد)، وروي بعدة أسانيد أخرى: (أنه يجعل له في كل قرية عمود من نور يرى به ما يعمل أهلها فيها) (٢) .

الطائفة السابعة: آيات الولاية

وهي الآيات التي تبيِّن مقامات من ولاية النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأمة، ولسان آخر تبين أن الولاية للنبي وآخرين معيَّنين: ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٣) .

وهذه الآيات وثيقة الصلة ببحث التوحيد في الطاعة، وهي آيات أغلبها مدنية، وقد أشبعنا البحث حولها في الفصول السابقة. أمَّا هنا، فالكلام في نقاط:

____________________

(١) المائدة: ١١٧.

(٢) بصائر الدرجات، ص١٢٩، وبحار الأنوار، ج٢٦، ص١٣٣ - ١٣٤.

(٣) المائدة: ٥٥ - ٥٦.

٣٨٨

* قوله تعالى: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (١) .

في هذه الآية يطرح بحث حول حدود ولايته وسلطانه، وكما ذكرنا مراراً ليس الغرض من القرآن التفنُّن الأدبي الصرف، والتزويق اللفظي المجرد، بل الألفاظ لقولبة المعاني وهندسة القواعد وتحديد الحقائق، وأن انتقاء الألفاظ للدلالة على المعاني المعينة المحددة، وهنا يعبِّر عزَّ مِن قائل عن النبي بأنه أولى من النفس، فكل ما يثبت أنه شأن من شؤون النفس فالنبي أولى به، وشؤون النفس غير منحصرة في الإرادة؛ قال العلاّمة: (فالمحصَّل أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وإنفاذ الإرادة فالنبي أولى بذلك من نفسه، ولو دار الأمر بين النبي وبين نفسه في شي‏ء من ذلك، كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه، وكذا النبي أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية؛ كل ذلك لمكان الإطلاق في الآية) (٢) .

وهكذا تظهر الأولوية بنصوصية في قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٣) ، وواضح من نزول الآية كون موردها قضية شخصية؛ وهي زواج زينب بنت جحش، وهو أمر شخصي، وهذا يعني أن ولايته تعم حتى الأمور الشخصية.

ـ وهاهنا إشكالات قد تطرح على تعميم الولاية:

١ - وحاصله: أن إرادة النبي لو كانت في الأغراض الشرعية والأمور العامة المهمة التي يعتمد عليها مصير الجماعة، فيكون هناك وجه لتقديم ولاية النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله . أمَّا لو كانت إرادته صادرة عن أمر نفساني خاص وشوق شخصي، فإن ذلك لا يليق بالشريعة،

____________________

(١) الأحزاب: ٦.

(٢) الميزان، ج١٦، ص٢٧٦.

(٣) الأحزاب: ٣٦.

٣٨٩

وأنه لو كانت الولاية عامة لشملت حتى وطء الزوجة والنظر إلى محارم المؤمنين.

والجواب: أن هذه الأحكام منوطة بعناوين خاصة كالزوجية وعناوين الرحم الخاصة كالابن والأب والعم ونحو ذلك، مضافاً إلى عدم كونها أفعالاً منوطة بالرضا والاختيار؛ أي بقدرة وولاية الشخص، فلم ينط حلِّيَّة وطء الزوج للزوجة برضا الزوج، ولم يعلِّق حلِّيَّة نظر لمُحْرِم للمرأة المحرم برضاه، والولاية خارج هذا الإطار؛ وإنما الولاية تشمل المواطن التي تناط بالاختيار والإرادة وتكون للمؤمن ولاية على نفسه. وبتعبير آخر: الأشياء الثابتة للمؤمن بما هو مؤمن، وليست ثابتة له بعنوان خاص مثل عنوان الولد أو الأب أو الزوج، لذا لا تصح المقايسة بين البيع والنظر؛ لأن الأول منوط بالرضا والاختيار لذا يستطيع المالك أن ينيب غيره عنه، بخلاف الوطء فإنه لا يعقل أن ينيب فيه أحد

عنه، والطلاق كفعل مثلاً أنيط برضا الزوج بما أن له الولاية، وحينئذ يثبت للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ - ما ذكره البعض من أن الآية ليست في صدد بيان الولاية الخاصة للنبي على الأمة، بل في صدد بيان ولايته على بيت المال وإمرة المؤمنين؛ بدليل ما ورد في أدلة الإرث من أن النبي ولي مَن لا ولي له، وأن الإمام مَن ضمن طبقات الميراث، وأنه إذا لم يوجد مَن يسدد ديون الميت، فالإمام هو الذي يقوم بسداده، مع الاستدلال بهذه الآية في مثل تلك الروايات؛ منها: ما روي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يقول: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فأيُّما رجل مات وترك دينا، فإليَّ، ومَن ترك مالاً، فهو لورثته) (١) ، وأمثال هذه الروايات العامة التي تثبت ولايته في الأمور السياسية العامة وما يشبه الضمان الاجتماعي في يومنا هذا.

____________________

(١) الميزان، ج١٦، ص٢٨٢.

٣٩٠

ولكن الحق أن كل هذا لا يدل على تحديد لولاية النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لأن الآية ظاهرة في أن للنبي مقاماً فوق منزلة النفس يجب الانصياع لها في كل مورد يوجد نفوذ للإرادة التي هي في مجال الولاية، وهذه الروايات في الإرث لا تتنافى مع هذا الذي ذكرناه؛ وذلك لأنها تعلِّل وتنزِّل ولاية النبي على الأمة منزلة الوالد على الولد، وهذه الولاية تعني أنه في موارد التزاحم تنفذ ولاية الوالد بمناط حرمة العقوق ووجوب الطاعة (وهي لا تعني أن يجب أن يستأذن من والده في كل تصرف)، وهكذا في مورد البيع أنيط برضا المالك الشخصي ولم ينط بإرادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك بقية التصرُّفات الاعتبارية أنيطت بالملاك الشخصيين، ولم تنط بولاية النبي، نعم، في بعض الموارد إذا أعمل النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولايته وإرادته تكون المفاضلة له وهي النافذة.

هذا في موارد وجود الإرادة النبوية. أمَّا في موارد عدمها، فإن صرف الاعتقاد والمحبة هو الذي يكون عليه الفرد المسلم، ويوطِّن نفسه أنه في بعض الموارد إذا أراد النبي استعمال إرادته، فعليه أن يستجيب.

٣ - أنه لا يعقل تعميم الولاية للميل الشخصي؛ أي أن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل ولايته تبعاً لرغبات وأمور شخصية، لأنه يكون فيها نوع من الاستبداد الذي ينبذه القرآن والعقل، فلا بدَّ من اعتماده ميزاناً شرعياً يرجع إليه في تصرفاته، وهذا يعني أن ولايته غير مطلقة، بل محدَّدة. وشبيه بهذا ما يقال في الأنفال والأخماس من أنه ليس ملكاً شخصياً للإمام، بل هو للمقام، ويترتَّب عليه أن الإمامة حينئذ لا تكون حيثية تعليلية، بل تقييديَّة؛ لأنها إذا كانت تعليلية، فتكون ملكاً شخصياً للإمام، وعليه لا يكون المعصوم منطلقاً من الميول الشخصية خصوصاً في الأمور العامة ومصالح المسلمين.

والجواب: إن في هذا الكلام خلطا؛ لأنَّا عندما نتكلم عن إعمال الولاية في الأمور

٣٩١

العادية والشخصية هل مرادنا هو غرائز المعصوم أم الإرادة المعصومة؟ ولاشك أنَّا نريد الثاني، وأصل البحث أن ثبوت هذه الولاية لهم هو بتعليل عصمتهم، فهم آباء هذا الأمة، فإرادته معصومة عن الزلل والخطأ وغرائز الشهوة وكبرياء الذات، ولا يمكن أن تصدر منه نزوة و لا يكون تصرفه صادر عن جهالة، بل إنَّا من تصرفه نستكشف الإرادة الشرعية؛ لأن إرادته هي إرادة شرعية وإنْ لم نعلم جهتها الشرعية.

وخلاصة القول:

إن المعصوم غير خالٍ من الغرائز والشهوات كبقية بني آدم، لكن الفارق أن مبدأها هو العقل والإرادة الإلهية التي تجعل كل فعل يقوم به الإنسان يكون خالصاً لوجهه الكريم، ولا يكون مبدؤها الشهوات الطامحة البهيمية التي تأكل الإنسان العادي، بل القوة العاقلة المتصلة بالأفق المبين هي التي تسيطر على جميع القوى المادون، فتجعلها تسير في خط مستقيم لا ينحرف عن جادة الصواب والحق.

وهذا يقودنا إلى بحث آخر؛ وهو: أن الجنبة البشرية في النبي والإمام هل تعني إلغاء الأفعال الغيبية أو أن الجنبة الغيبية للمعصوم تلغي أفعاله البشرية؟

وللاجابة عن هذا التساؤل نقول: إنه يُذكر في أقسام العبادات: عبادة الأحرار؛ وهو: مَن يعبد اللَّه حباً فيه وأنه أهلاً للعبادة، وعبادة التجَّار؛ وهي: عبادة مَن يرغب في الجنة، وعبادة العبيد؛ وهي: مَن يعبد اللَّه خوفاً من النار. ومن جانب آخر نرى في الأدعية حرص الأئمة على العبادة والدعاء خوفاً من ناره وطلباً لجنته، وقد ألفت صدر المتألهين في مبحث المعاد من كتاب الأسفار إلى أن هذا الرجاء والخوف لا ينافي الأكملية؛ إذ أن تلبية الغرائز الدانية للنفس ليس ينافي الأكملية دوماً، فليس كل مَن طلب بعبادته الجنة فهي عبادة التجَّار، بل توجد روايات تشير إلى أن الذي يعبد طلباً للجنة بما هي جنة من دون غاية أخرى فهي عبادة التجَّار. أمَّا إذا أتى بالعبادة طلباً للجنة والنجاة من النار كغاية متوسطة، والغاية النهائية هي اللَّه، فلا

٣٩٢

يكون خلافاً للراجح، وتكون هي عبادة الأحرار.

وببيان عقلي: أن لكل قوة من قوى النفس كمال تسعى إليه، وهذه القوى المادون كمالها هو في النعيم الأخروي والأجر والابتعاد عن النار، فيجعل الإنسان سعيه في الدنيا لغرض تسكين تلك الغرائز في النشأة الدنيوية كي لا تمانعه من أن يسير في طريق آخر، وهو طريق الحق وسير النفوس في كمالاتها العالية، فالخوف من النار وطلب الجنة هو غاية متوسطة للقوى النازلة حتى لا تمانع من سير النفوس العالية.

وروي في الصحيفة السجادية أنه‏ عليه‌السلام ‏رؤي بعد منتصف ليلة متهيأ بأحسن وأجمل هيئة في سكك المدينة فسئل: إلى أين؟ فقال عليه‌السلام : (إلى خطبة الحور)، وقصد بذلك التهجد في المسجد النبوي. وفي كفاية الأثر في باب ما جاء عن الصادق‏ عليه‌السلام في التنصيص على الأئمة عليه‌السلام في حديث قال‏ عليه‌السلام : (إن أولي الألباب الذين عملوا بالفكرة حتى ورثوا منه حب اللَّه، فإن حب اللَّه إذا ورثه القلب استضاء به وأسرع إليه اللطف، فإذا نزل منزلة اللطف صار من أهل الفوائد، فإذا صار من أهل الفوائد تكلم بالحكمة، فإذا تكلم بالحكمة صار صاحب فطنة، فإذا نزل منزل الفطنة عمل في القدرة، فإذا عمل في القدرة عرف الأطباق السبعة، فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبته في خالقه) (١) .

٤ - أنه ورد في معتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام ‏قال: قال أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام : (إذا حضر سلطان من سلطان اللَّه جنازة، فهو أحق بالصلاة عليها إن قدّمه ولي الميت، وإلاّ فهو غاصب) (١) فقد قيَّد صلاته على الجنازة بإذن ولي الميت، ولم يجعل أولى منه.

والجواب: أن متن الرواية متدافع؛ حيث إن إثبات الأحقية يفيد أولويته على

____________________

(١) كفاية الأثر، ص٢٥٣.

(٢) وسائل الشيعة، أبواب الجنازة، ب٢٣، ح٣.

٣٩٣

الكل وعلى ولي الميت، والتقييد بـ (إن قدَّمه ولي الميت) ينفي الأحقية الخاصة به؛ إذ أن مَن يقدمه ولي الميت أحق من غيره سواء كان السلطان أو غيره، فلو كان المدار على تقديم مَن يقدمه ولي الميت، فلا اختصاص لها بالسلطان، كما أن الأحقية هي لتقديم ولي الميت، فلو لم يقدمه لَمَا كان أحق، فكيف يجعل الأحقية الخاصة به دون بقية الناس.

فالوجه في مفاد الرواية هو كون المراد أن سلطان اللَّه أحق بالصلاة، وعلى ولي الميت تقديمه على الجميع، وإلاّ فولي الميت غاصب في التصرف فيما غيره - وهو السلطان - أحق منه، ويعضد هذا التفسير لمفاد الرواية، ما رواه الكليني في الصحيح عن طلحة بن زيد - وهو وإن كان عامِّياً بترياً إلاّ أن الشيخ الطوسي وصف كتابه بأنه معتمد - عن أبي عبد اللَّه‏ عليه‌السلام ‏قال: (إذا حضر الإمام الجنازة، فهو أحق الناس بالصلاة عليها) (١) ، وقد رواه الشيخ في التهذيب أيضاً، فإن ظاهر إطلاقها الأحقية على الجميع بما فيهم ولي الميت، ويكفي بياناً في المقام قضية زواج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة، فقد روى في تفسير البرهان عن الكليني عن أحمد بن عيسى عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ‏في قول اللَّه عزَّ وجلَّ ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) قال: (إنما يعني أولى بكم؛ أي أحق بكم وبأموركم وأنفسكم وأموالكم، وللَّه ورسوله والذين آمنوا يعني علياً وأولاده عليهم‌السلام ‏إلى يوم القيامة.

____________________

(١) المصدر، ح٤.

٣٩٤

المبحث الرابع:

الإمامة في السنة النبوية

وجرياً على ما اتخذناه من المنهج، فإنا لن نتعرَّض للروايات الخاصة الواردة في مقامات الأئمة عليهم‌السلام ، ‏بل سوف ننتقي الروايات التي تواتر نقلها لدى الفريقين والتركيز على الفقه العقلي والذوق المعرفي.

الحديث الأول: حديث الثقلين

وهو حديث متواتر ومشهور بين العامة والخاصة، ويظهر التسليم على أنه قد ذكره النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواطن عدة حتى قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه: (ثم أعلم أن لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا، ومرَّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال لمَّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافٍ؛ إذ لا مانع من أنه كرَّر عليهم ذلك في تلك المواضع وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة) (١) .

والاستدلال من طرق العامة في ثبوت هذه الأحاديث له فائدة في إفحام الخصم، لأن الحديث كلَّما كان نَقَلته غير مؤمنين بما ورد فيه كلَّما كان ابعد عن الرمي

____________________

(١) الصواعق المحرقة، ٨٩ - ٩٠.

٣٩٥

بالتدليس والكذب.

والبيان الإجمالي لهذا الحديث هو: أن النبي اشترط للنجاة من الضلال التمسك بالعترة؛ ومن ثَم ورد في كثير من الروايات أنهم أعدال الكتاب، فلا مجال لمقولة حسبنا كتاب اللَّه، ولا أن يقال: حسبنا الروايات المأثورة، وعلى حسب تعبير العلامة: أن من يقول حسبنا كتاب اللَّه فقد خالف الحديث؛ وذلك لأن من فارق التمسك بهما فقد فارقهما، لا أنه فارق أحد والتزم بالأخر.

ثم أن مقتضى العِدلية هي اتحاد صفاتهما، فإذا كان الكتاب تبياناً لكل شي‏ء ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ونور وهدى وغير ذلك هو ثبوت الصفات للعِدل الآخر، ومن ثم تسمى كل منهما باسم الآخر، فهم القرآن الناطق، والكتاب إمام لمَن استهداه وعمل به.

ومن الغريب بعد ذلك حسر مفاد حديث الثقلين بكون مفاده كالقاعدة الفقهية؛ وهو كون مصدر التشريع الكتاب والعترة، وحجية أقوالهم، كيف وأن نفي الضلال المشروط بالتمسك بهما ليس مخصوصاً بالأعمال الجارحية، بل إن الشطر الأعظم في جانب الضلال هو في العقيدة والمعرفة فبالتمسك بهما يتحرَّز عنه أولا، وعن الضلال في الفروع ثانياً، كما أن الكتاب الكريم أكثر ما اشتمل عليه هو في المعتقدات والمعارف، وكذلك مجموعة المنظومة الروائية المأثورة عنهم عليهم‌السلام ، وهل يتم التمسُّك بالكتاب - مع ذلك - من دون الاعتقاد به أنه منزل من الباري تعالى، فكذلك في التمسك بالعترة لا يتم من دون الاعتقاد بنصبهم من قبله تعالى، مع أن لازم حجية أقوالهم الأخذ بما يدعون إليه من الاعتقاد بإمامتهم.

١ - حديث الثقلين في القرآن الكريم:

ذكرنا سابقاً أن هذا الحديث الشريف أكدَّ عليه القرآن في ضمن مجموعة من الآيات نستعرضها:

٣٩٦

١ - قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (١) ، وقوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ‏ءٍ ) وغيرها من الآيات الدالة على أن الكتاب الكريم فيه تبيان لكل شي‏ء ولا يعدوه شي‏ء، ثم نربط هذا بقوله تعالى: ( هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (٢)، حيث إن القرآن - الحامل لهذا النعت المادح لنفسه - لابد أن يوجد من يصل إلى هذا البيان العظيم الذي اقتصر على الذين أوتوا العلم وصاروا هم المحيطون به إحاطة علمية تامة، فقد جعل اللَّه لهذا القرآن عِدلاً مطَّلعاً على أسراره وإحاطته، وهؤلاء موجودون ما وُجد القرآن؛ وذلك لأنه لو كان تبياناً ولا يوجد مَن يصل إلى هذا التبيان لَمَا كان هناك فائدة من هذا الوصف، واللطيف أنه لم يدَّع أحد من المسلمين علم ما في القرآن إلاّ هم‏ عليهم‌السلام .

٢ - قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، وهي دالة على أن للقرآن مرتبة وجودية تكوينية غيبية لا يصل إليها أحد إلاّ المطهَّرون المعصومون، كما نستطيع اقتناص عدة نكات من الآية:

آ - أن مسَّ هذا الكتاب المكنون - وهو مرتبة للقرآن قد أشرنا سابقاً إلى مؤداها تفصيلاً - مختص بالمطهَّرين؛ ممَّا يدل على أن لهم رقي روحي يجعلهم قادرون على الوصول إلى تلك المرتبة.

ب - أنهم معصومون.

ج - أن المؤهل لهذه المرتبة العلمية العالية إنما ينالها بفضل الطهارة والعصمة التي يتمتع بها.

٣ - قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) . ويستفاد منها:

أ - أن الاستفادة المستقلة من الكتاب من دون توسُّط ( الرَّاسِخُونَ ) غير ممكن

____________________

(١) النحل: ٨٩.

(٢) العنكبوت: ٤٩.

٣٩٧

ويجب الاستهداء بهم في رفع المتشابه.

ب - كما تدل أيضاً على أن المحكم لا سبيل للوصول إليه من دونهم؛ وذلك لأن المحيط بالمحكم يرتفع عنده التشابه حينئذ، حيث إنها أم الكتاب والأمومة هي في الإحاطة التامة، فهم يهدون إلى القرآن، وعليه نستطيع فهم المعية فهماً صحيحاً؛ فلا مقولة حسبنا كتاب اللَّه تامة ولا مقولة حسبنا الروايات المأثورة تامة، بل هما معاً.

جـ - أن هذه الآية تدل على وجودهم دائماً؛ لأن القرآن موجود دائماً والمحكم والمتشابه موجودان، فيجب أن يكون هناك مَن يرفع هذا المتشابه، خصوصاً أن التشابه في كثير من الأحيان يعود إلى المصداق والتطبيق، لا المعنى المراد، و إلى تأويل القرآن تطبيقاته؛ حيث إن كثير من الأخطاء والانحرافات تنشأ من إرجاع الصغريات أو الكليات العديدة المتوسطة إلى الكليات الفوقانية.

ومن هنا أيضاً نفهم كيف يقاتل عليه‌السلام ‏على التنزيل وعلى التأويل أيضاً، ومن هنا نلتفت لمعنى ما روي

عنهم عليهم‌السلام ‏أنهم الكتاب الناطق، وأن بدونهم يعني تعطيل الكتاب وترك التمسك به. ومن أمثلة رفع التشابه ما ذكره المشايخ الثلاث وابن حمزة والحلبي: أن من فوائد وجوده‏ عليه‌السلام ‏أنه ينبه بوسائل خفية؛ بوسائط غيبية، شيعته، ولذا اعتبروا الإجماع حجة من باب اللطف، وأن الإمام إذا وجد الاتفاق على الخطأ، فإنه يتدخَّل لإزالته وإحداث الخلاف، فيرتفع الاتفاق.

د - أن هذه الطائفة تدلِّل على وجوب الاتباع في الجزئيات والكليات المتوسطة، ومن ثَمَّ تدل على لزوم الائتمام

بهم، وهذا هو الهداية الإيصالية التي هي حد الإمامة، فإذا كان أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام قاتل على التأويل، فإن بقية الأئمة يهدون إلى التأويل، فليس الإيمان فقط بالتنزيل، بل المهم أيضاً الإيمان بالتأويل وأنه بيد ثلة خاصة هم أهل البيت‏ عليهم‌السلام ؛ إذ ما الفائدة في الإيمان بالكليات الفوقانية مع فرض الخطأ في الكليات المتوسطة - بدرجات عديدة - و في الجزئيات والمصاديق.

٣٩٨

٤ - قوله تعالى: ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ‏ءٍ ) ، وقوله تعالى: ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) .

وواضح الارتباط بين الآيتين؛ إذ أن الكتاب هو الحاوي لكل شي‏ء، وهو الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة، وأن الذي عنده علم الكتاب هم أهل البيت عليهم‌السلام .

٥ - قوله تعالى: ( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) الدالة على أن الصادقين المأمور بالكون معهم موجودون في كل زمان ومكان.

٢ - ألفاظ حديث الثقلين:

التعبير بـ (الثقل)، وهو العيار الذي يوضع ليثبت به الميزان، وقد يعبَّر به عن الثقل والتثبت وأن حركته تكون مطمئنة، فالكتاب والعترة هما اللذان تستقر بهما الحياة المطمئنة الدنيوية، وبارتفاعهما يرتفع الاستقرار، وبهذا المضمون (لولا الحجة، لساخت الأرض بأهلها).

ـ (فيكم) ممَّا يدل على التواجد الدائم، وأنه أمر يُتوصَّل إليه وليس ممتنعاً.

ـ (ما إن تمسكتم بهما) لم يقيد التمسك بمورد معين أو في مجال ما، بل جعله مطلقاً حتى يشمل كل شي‏ء ومطلق الأمور، وخصوصاً أن القرآن جامع لكل العلوم.

ـ (لن تضلوا أبدا) تأكيد الإطلاق بـ (أبدا) يدل على عدم الضلال المطلق، وهو يعني أنه غير مختص بالإراءة

فقط، بل يعمه إلى الهداية الإيصالية، وهو يدلِّل على ماهية الإمامة التي ذكرناه.

ـ (لن يفترقا) دليل على العصمة؛ حيث إن العترة مع الكتاب دوماً، والكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا غير مختص بهذه النشأة، بل يدل على الاتصال في جميع مراتبه ومدارجه

ـ أن المعية بين القرآن والعترة مؤبَّدة؛ بدليل قوله: (حتى يردا عليَّ الحوض)، وهذا يشمل جميع النشآت التالية للدنيوية والبرزخ والبعث وتطاير الكتب... والمراد

٣٩٩

من الحوض هو حوض يوم القيامة، وقد يشار به إلى حقائق أخرى. كما يستفاد من الورود على النبي أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلى مكانة ومنزلة ومقاماً من العترة ومن الكتاب؛ إذ أنه المرجع والمنتهى، وهو المبدأ (إني تارك) لحجية الثقلين، وهو المنتهى (علي الحوض) لهما.

٣ - النظريات في تفسير الْمَعِيَّة بين القرآن والعترة:

ثُم إن مقتضى المعية الواردة هو التلازم بينهما كما ذكرنا مراراً، وهاهنا بحث في تفسير هذه المعية وقد ظهرت ثلاث نظريات في بيان العلاقة بينهما:

النظرية الأولى:

حسبنا كتاب اللَّه وأنه هادٍ، ولذلك ورد الأمر في تمييز الحجة عن اللاَّحجة من الروايات بعرضها على الكتاب الكريم، وهذا مؤيِّد بأنه المعجزة الخالدة الباقية الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، ودور أهل البيت هو كونهم مقدمة للقرآن الذي عليه المدار، فإذا وصل واصل إلى تلك المفادات بأي طريقة كانت، فبها ونعمت، فيكون الآل طريق ليس إلاّ، ويستدل لهذا البيان بقوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) (١) ، ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (٢) ، فدوره دور المعلم والدال على طريق التعليم، والأصل هو القرآن. ويعضده ما ورد من تحدِّي المشركين بأن يؤتوا بمثل هذا القرآن، فلو كان مغلقاً مقفلاً، لَمَا كان هناك معنى للتحدي، بل إن حجية قوله‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مستمدة من معجزة القرآن وحجيته.

وفي مقام تقييم هذه النظرية نرى أن أدلة النظرية الثانية وإن لم تتم منفردة فهي بلا شك تخدش في تمامية هذه النظرية، ولكن يمكن الإجابة عن هذه النظرية بعدة وجوه:

____________________

(١) النحل: ٤٣.

(٢) البقرة: ١٢٩.

٤٠٠

منها: وجود آيات (قد أشرنا إليها؛ وهي التي ذكرنا أنها دالة على الثقلين ومعيتهما على الإطلاق وغيرها) وطوائف روايات عدة دالة على أنهم المخاطبون بالقرآن وهم القادرون على فهمه وتأويله، والظاهر من عموم الأدلة أنه لا يمكن الاستبداد دونهم والانفراد في فهم القرآن.

منها: أن معجزة الرسالة المحمدية ليست هي القرآن وحده؛ والذي يظهر من النصوص - سواء من حديث الثقلين أم غيره - أن مقام النبي الخاتم فوق مقام القرآن، فهو كما ذكرنا المبدأ لهما بمقتضى أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أسند وجود الثقلين في الأمة إلى نفسه الشريفة (إني تارك)، فهو بمنزلة المصدر لاعتبارهما، وهو المنتهى باعتبار (يردا عليَّ الحوض).

بل أحد وجوه حجية القرآن هي صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (1) ( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ ) (2) ، فأمانته وصدقه ووثاقته كانت بدرجة عالية فائقة تضاهي أمانة وصدق ووثوق المعجزة في الدلالة على كون القرآن من الباري تعالى، وقد لبث فيهم عمراً لم يأتهم بشي‏ء؛ لأنه لم يأته من تلقاء نفسه، وهذه كلها من الموثِّقات على أن القرآن من عند اللَّه، والتاريخ ينقل لنا أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل المشركين: أنه لو أخبرتكم أن العدو وراءكم وراء هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى إنك الصادق الأمين، إذن نفس حجية الكتاب من نفس قطع المشركين بصدقه وأمانته وما رأوا من بقية معجزاته، لكنَّه العناد

____________________

(1) يونس: 15.

(2) المؤمنون: 69.

٤٠١

والتكبر هو الذي منعهم عن التسليم له.

ومنها: أن الاحتياج إلى الغير في فهم القرآن لا يدل على نقص القرآن الكريم، بل هو أشبه شي‏ء بالوادي العميق الذي يحتاج في ارتياده إلى رائد يقود المسير، والقرآن فيه المحكم والمتشابه والظاهر والباطن، فالنقص في الواقع هو في الإنسان الذي يقرأ القرآن ويتداوله حيث لا يستطيع أن يصل إلى أعماقه، لا في القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين وعلى الإنسان أن يغرف منه ما استطاع طبقاً لِمَا يمتلك من القدرات والإمكانيات العلمية.

ومنها: أن الصحيح بعد ما تقدم هو تكافل الحجج الإلهية، فصفات الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبقية معجزاته أحد وجوه حجية القرآن، و القرآن هو أحد معجزات النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومَن عنده علم الكتاب والراسخون في العلم والذين أوتوا العلم... أحد وجوه حجية القرآن، وهم شهداء للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالتكافل والتشاهد بين الحجج برهان، وفي مقام الدلالة الإثباتية كذلك.

وأخيراً؛ قد ذكرنا بحثاً مبسوطاً في الفصل الأول في جواب منهج العلاّمة الطباطبائي القائل أنه بممارسة السنة يحصل لنا الدربة في طريقة تفسير القرآن بالقرآن.

النظرية الثانية:

ومؤداها حسبنا الأحاديث المأثورة عن العترة الطاهرة، وقد نادى بها الإخباريون؛ واستدلوا على ذلك بما ورد بأنهم المخاطبون بالقرآن وأنه لا يحيط بالقرآن إلاّ أهل البيت، وأن القرآن فيه المحكم والمتشابه وله ظاهر وباطن وفيه العام والخاص والناسخ والمنسوخ، وهذا يعني عدم إمكان توصلنا إلى معانيه المرادة الواقعية، وكذلك يُستدل بما ورد من النهي عن التفسير بالرأي والذي فُسِّر على أساس النهي عن الاستبداد بالرأي، كما يستدل بالحصر الوارد في قوله تعالى:

٤٠٢

( والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ ) ؛ حيث إن فيها حصراً في عدم العلم بالتأويل إلاّ لهؤلاء، وهذا يعني أن المحكم أيضاً لا يحيط به كل أحد؛ وذلك لأن للمحكم قيمومة على المتشابه باعتبار أنه أمُّ الكتاب، فلو كان غير الراسخين لهم إحاطة بالمحكمات، فلا يبقى متشابه حينئذ، وعليه يبطل الحصر الوارد أن المتشابه لا يعلمه إلاّ اللَّه والراسخون في العلم.

وما ذكره الإخباريون من مواد الأدلة متين، لكن لا يؤدي إلى ما ذكروه، ونفس أدلة النظرية الأولى تبطل أدلَّتهم، كما أن النصوص القرآنية لا تجعل المدار على أقوال العترة فقط، بل تنص على أن للقرآن دورا؛ خصوصاً مع روايات العرض على الكتاب، ونفس الآيات التي مفادها حديث الثقلين، وكذا نفس الحديث، فإن التمسك فيه بهما معا - لا بأحدهما - هو المدار في عدم الضلال، بل قد تقدم أن التمسك بأحدهما هو تمسك صوري، وإلاّ فهو في واقعه عدم تمسك به أيضاً؛ لأنهما لا ينفكان عن الآخر، فالانفكاك عن أحدهما انفكاك عن كلٍّ منهما معا.

النظرية الثالثة:

وهي التي نادى بها أغلب علماء الإمامية والتي تنص على المعية على نحو المجموعية، لا الاستقلال كما أفادته النظريتان السالفتان، وهذه المجموعية هي المدار في المعرفة الدينية واستنباط الأحكام الشرعية الأصولية والفرعية، فالتعامل يكون معهما كوحدة واحدة. هذا هو البيان الإجمالي لمفاد النظرية، أمَّا المفاد التفصيلي:

فإن المعية بين الكتاب والسنة على صعيدين: أحدهما تكويني، والأخر اعتباري باعتبار الحجية.

أمَّا الصعيد الأول، فقد أشرنا في بحث الآيات إلى طوائف عدة تشير إلى أن للقرآن حقائق تكوينة و مدارج في عالم التكوين، وأن لأهل البيت حقيقة تكوينية، وأن تلك الحقيقتين في الواقع واحدة.

٤٠٣

ونشير مجملاً إلى ذلك ببيان أن المصداق الحقيقي للكتاب هو الشي‏ء الوجودي الجامع للكلمات الحقيقية، فالكتاب له دلالة على شي‏ء جامع لكل شي‏ء، وهو شاعر، ومَن تكون له الإحاطة الحضورية بذلك الوجود الجامع، ويكون هناك اتحاد بين العالم والمعلوم والعلم، فهذا يعني أن العلم يكون فصلاً نوعياً واحدا، وكذا الفصول النوعية للراسخين في العلم والذين أوتوا العلم، فهي تدل على أن كمال جوهر الفصل النوعي ورُقيِّه بذلك العلم، وهو يدل على الوحدة التكوينية بينهما، فهناك مَعيَّة في مدارج الوجود.

نعم، في تنزل هذه الحقائق العلوية تتنزل بكثرة، ويُعبَّر عن ذلك في بعض الروايات أن الأئمة نور واحد، وقد يُعبَّر عنه في مقام التنزل بالروح الأعظم التي تنتقل من إمام إلى إمام.

فإذا كان الحال هكذا في مدارج التكوين، فهو بنفسه في مدارج الاعتبار، فالوجود الاعتباري اللفظي المصوت أو للنقوش المرسومة في الخط للقرآن، في محاذاته وجود اعتباري للإمام، وهو كلامه، وممَّا تقدم يتضح أن كلامهم عليهم‌السلام ‏واحد وإن كان متفرقا، ومجموعه حجة وإن تعددت رواياته. نعم، القرآن له إضافة تشريفية في كونه كلام اللَّه، وكلام العترة هو دونه وأنه كلام المخلوق، وفي الجهة الحقيقية التكوينية فإنهم كلمات اللَّه التكوينية، كما في التعبير عن عيسى أنه كلمة اللَّه، وهم حقيقة القران.

ومن هنا نفهم لماذا يجب عرض رواياتهم على الكتاب الكريم؛ بمعنى أن المتشابهات من كلٍّ من الكتاب والعترة تعرض على المحكمات منهما جميعا؛ وما ذلك إلاّ لأن مصدر الكلام واحد، وقريب من هذا التعبير في عالم الاعتبار والحجية ما يقال من أن الكتاب الكريم هو كالمتن، وأن روايات المعصومين هي كالشرح على المتن، وأنهم شارحون لشريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله والهادين إليها على أساس ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ

٤٠٤

قَوْمٍ هَادٍ ) .

4 - خلاصة ما يستفاد من الحديث:

1 - أن من المسامحة والبعد عن الإنصاف حصر مفاد الحديث في التشريع والفروع، حيث إن التمسك بهما ورد مطلقاً من دون تقييد، ومقتضى الإطلاق وجوب الأخذ بهما في الاعتقادات، كما أن مقتضى ذلك هو وجوب الاعتقاد بكل منهما.

2 - دوام وتأبيد بقاء إمامتهم، وهذا التأبيد شامل لعالم الدنيا والحشر.

3 - أن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المبدأ لحجية الثقلين والمنتهى لهما، وأنه أفضل من أهل البيت‏ عليهم‌السلام .

4 - أن لهم مقام غيبي باعتبارهم عِدلاً للقرآن، فصفات القرآن المسطورة في الآيات والسور المتكثرة كلها فيهم بمساعدة الآيات الدالة على الحديث.

5 - المعية في الحجية بين الكتاب والعترة، فلا يجوز الاكتفاء بأحدهما دون الأخر.

6 - مفاضلتهم على بقية الأنبياء؛ حيث إن الكتاب وصف بأوصاف لم يتَّصف بها أيٍّ من الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، وكونهم عدل الكتاب المتصف بهذه الأوصاف يدل على مدارجهم الروحية وإحاطتهم بهذا الكتاب الذي امتاز بهذه المميزات.

الحديث الثاني: (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

وهذا من الأحاديث التي ثبتت صحتها من كتب العامة والخاصة والكلام في فقه الحديث.

وللأسف حاول البعض تفسير هذا الحديث سياسياً بمعنى وجوب مبايعة الإمام

٤٠٥

ولو كان فاسقا، ولا يجوز أن تكون رقبة وذمة المكلَّف خالية من البيعة، وقد وجدنا أمثال هؤلاء في العصر المتقدم كعبد اللَّه بن عمر مع الحجاج عندما ذهب إليه ليبايعه مستدلاً بهذا الحديث، وسوف نتناول الحديث في نقاط عدة:

* إن أول أمر يواجهنا في هذا الحديث هو الأثر المترتِّب على عدم المعرفة، لا عدم البيعة؛ وهو أن تكون النتيجة كميتة الجاهلية؛ أي أن هذا الإنسان مُدْرَج في الذي لم يشم رائحة الإسلام في الآخرة، أي بحسب الواقع، وكأن الرواية الشريفة تعطي مفاد الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) فرضية كانت متوقفة على الإمامة التي بلّغها الرسول في هذا اليوم، وبها يتم الدين والإسلام كمجموع متكامل وكل شي‏ء مرهون به، وقبله لم يكن رضا؛ ولذلك قال عزَّ مِن قائل: ( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) ، وهذه كلها تؤكد المضمون الذي يورده هذا الحديث: من أن المعرفة والاعتقاد بالإمامة دخيلان في أصل الدين والتدين بالإسلام بحسب الواقع والآخرة.

* نعود إلى الشرط المذكور في الرواية؛ حيث إنه مطلق غير مقيد بشي‏ء، بل هو المعرفة المطلقة، ممَّا يدلِّل على أن المطلوب العمدة هو أمر اعتقادي، فليس المطلوب الأهم المتابعة في الفروع، ولا المتابعة السياسية، بل المتابعة الاعتقادية والمعرفة والتدين والائتمام، وهل يعقل ترتُّب مثل هذه النتيجة، وهي الموت ميتة الجاهلية، على مجرد عدم المتابعة في الفروع، بل الأمر أهم وأكبر، وهو محور اعتقادَي المعرفة والاعتقاد. ولو فرض المتابعة السياسية (المصطلح عليه بالولاء السياسي) والمتابعة في الفروع والأخذ من الإمام المنصوب أحكام الفروع من دون المتابعة الاعتقادية (المصطلح عليه بالولاء الاعتقادي المعرفي)، لَمَا تحقَّق أصل التدين بالإسلام بحسب عالم الآخرة والواقع.

* إن الرواية مطلقة من حيث الزمان والمكان، فهذا اللسان عام وشامل لكل

٤٠٦

الأفراد في جميع الأزمنة، ممَّا يدلِّل على عموم وجود الإمام وأنه موجود حتى قيام الساعة، وهذا يؤيِّد مدَّعى الإمامية من تأبيد وجود الإمام.

* إن الرواية تدلِّل على وجود واجب شرعي في قسم من الأصول الدينية على الفرد المسلم، وهو السعي إلى معرفة الإمام في كل فترة من فترات حياته، فهذه وظيفته التي أوكلها إليه الحق سبحانه، ويقع على عاتقه تشخيص الإمام، وأن هذا الواجب جانحي، وأن هذا الإمام تناط به النجاة من النار.

* ثم إن هذا الوجوب الاعتقادي - من قسم الأصول الدينية - دال على كون المعتقد من الإمامة ليس من سنخ حسي مشهود بالآلات الحسية، بل متعلق المعرفة ومتعلق الاعتقاد هو من السنخ الغيبي؛ فمثلاً نبوَّة النبي ليست أمراً حسيا، بل شيئاً وراء الحس ومن قبيل نشأة الروح وإن كان لها آثار في عالم الدنيا والحس دالة عليها برهانا، وإلاّ فمثل السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال ونحوها من الحسيات ليست تتعلق بها المعرفة الدينية، فالمعرفة الحسية والشواهد المادية ليست من متعلقات الإيمان والمعرفة الدينية، فالإيمان ركن متعلقه لابدَّ أن يكون غيبيا، من النشئآت أخرى، وإن كانت تلك النشئآت مهيمنة محيطة على الحس، يقصر الحس عن مدرج ظهورها، فتكون غيباً عنه، فظهورها الشديد عين غيبها عن الحس.

* وقد ينقض على هذا اللسان ما ورد من أن مَن استطاع الحج ولم يحج، أو سوَّف في ذلك، ثم مات، بعثه اللَّه يهودياً أو نصرانيا، ولكن التأمل في هذا المفاد يبيِّن الفرق بين أن يبعث يهوديا، وأن يبعث كافراً جاهليا، فإن الثاني هو مَن لم يدخل في الدين السماوي من الأساس. أمَّا الأول، فهو المعتنق للديانة الإلهية إلاّ أنه بعّض في التدين وآمن ببعض وكفر ببعض، فقد تكرَّر في أحاديث كثيرة أن تكون هناك درجة معينة من العذاب في النار مترتبة على ارتكاب بعض الكبائر، ولكنه بخلاف

 

٤٠٧

ما نحن فيه من أن المنكِر وغير العارف لإمام زمانه يخلد في النار ويموت ميتة الجاهلية، وهو إنما يتفق مع كون الواجب الاعتقادي من أصول الديانة.

الحديث الثالث: في تبليغ سورة براءة

وقد ورد الحديث بألسنة متعددة؛ منها: أن جبرائيل نزل على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فقال: (يا محمد، لا يؤدي عنك إلاّ رجل منك). ومنها: (لا يبلِّغ عنك إلاّ علي). ومنها: (لا يؤدي عني إلاّ أنا أو رجل مني).

ولا خلاف في نزول هذا الحديث في أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام ، ولكن الكلام في مدلول هذا الحديث الشريف الذي ينطوي على دلالات مهمَّة تفوق مسألة التبليغ لسورة براءة كما يحاول كثير من العامة تصويرها؛ على أساس أن مِن عادات العرب أن لا ينقض العهد إلاّ عاقده أو رجل من أهل بيته، ومراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ سورة براءة - وفيها نقض ما للمشركين من عهد - من أبي بكر ويسلِّمها إلى علي ليستحفظ بذلك السنة العربية، فيؤديها عنه بعض أهل بيته، ويزعمون أن أبا بكر لم ينفصل من إمارة الحاج.

وواضح أن هذا التأويل من العامة لا أساس له.

أمَّا أولاً: فأي شهادة من التاريخ أن مِن عادة العرب ذلك، بل من عاداتهم أنهم يبعثون في إجراء العهد أو حلِّه عَلِيَّة القوم ومَن يطمئنون إليه، وأي مدرك في سير ووقائع العرب دال على أنه يجب أن يكون من عشيرة القوم، فهذه قريش في صلح الحديبية بعثت مسعود الثقفي، وهو ليس من قريش، لإبرام العهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والواقعة في تبليغ سورة براءة ليست قبَلية وعائلية وشخصية، بل أمر إلهي لا يتحمَّله إلاّ مَن هو أهل له.

وثانياً: إن كتب السير والتاريخ مختلفة في كون أمارة الحاج بيد أبي بكر في ذلك

٤٠٨

العام، مضافاً إلى أن أبا بكر لم يكن هو الأمير إلى الأبد، بل تولَّى الأمارة غيره أيضا.

وثالثاً: ما ذكره العلاّمة الطباطبائي من أن البحث ليس في أفضلية مَن على مَن، بل الكلام في ما يمكن فهمه من الحديث: (فليت شعري من أين تسلموا أن هذه الجملة التي نزل بها جبرائيل: (أنه لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك) مقيدة بنقض العهد لا تدل على أزيد من ذلك؟! ولا دليل عليه من نقل أو عقل، فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤديه لا يجوز أن يؤديه إلاّ هو أو رجل منه، سواء كان نقض عهد من جانب اللَّه كما في مورد سورة براءة أم حكماً آخر إلهياً على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤديه ويبلِّغه)، ثم إن هذا التبليغ يتميز أنه التبليغ الأول عن السماء؛ حيث إن الحكم لم يعلن بعد على مسامع المسلمين وغيرهم، بل اختص به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن هنا ورد في الرواية أن الكتاب كان لدى أبي بكر مغلق لا يعلم ما فيه، وعندما أتى الإمام أخذه منه.

وهذا يغاير إبلاغ بقية الأحكام بتوسط مَن سمعها إلى مَن لم يسمعها التي كان النبي قد أعلن عنها في ملأ المسلمين في مناسبات عدة، فمقام تبليغ سورة براءة هو مقام الناطق الرسمي عن السماء، وهذا لا يعني الشركة في النبوة مع النبي الخاتم (‏صلَّى الله عليه وآله وسلم)؛ لأن الوارد هو: (لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك)، وليس الوارد (لا يؤدي إلاّ أنت أو رجل منك)، وواضح الفرق بين المعنيين بأدنى تأمل.

وبتعبير آخر: أن الذي له أهلية التبليغ عن الغيب يجب أن يكون له ارتباط بالغيب، فلا يبلغ عن تلقيك النبوي إلاّ لسانك النازل وبفيك أو فاه آخر، لكنَّه من سنخك الذي يسمع صوت الوحي ويرى نوره ويشمه، ويسمع رنة إبليس، كما تقدم في الخطبة القاصعة.

وهذا يفتح الباب لفقه حديث المنزلة (أشركه في أمري)، وأن هارون كموسى نبي، وحيث يضفي النبي على عليّ تلك المنزلة إلاّ النبوة؛ أي الإنباء، فبقية الصفات

٤٠٩

تكون ثابتة للإمام بمقتضى حديث المنزلة، كما يتضح معنى الحديث: (يا علي، أنا وأنت أبوا هذه الأمة)، والظاهر أن هذا المقام من مختصات علي أمير المؤمنين، وهكذا نفهم المؤاخاة بينهما في المدينة ليست اعتبارية، بل تكوينية حقيقية.

فالمدلول الذي نستفيده من الحديث أنه يشير إلى مقام للإمام عليه‌السلام ، ‏وأن مقام تأدية الأحكام الإلهية لا يكون إلاّ للنبي أو مَن يؤديه عنه وهو منه، ونستفيد منه أن ما يبلِّغه الإمام وبقية الأئمة لا ينحصر فيما بلَّغه النبي، بل حتى الموارد التي لم يبلِّغها للأمة فهم يبلِّغونها عنه، وتشمل الأخذ عن مقامه النوري بعد مماته كما هو الحال في مصحف فاطمة عليها‌السلام ؛ لأن عنعنتهم عن النبي ليست روائية حسية سماعية كما هو المتعارف في نَقَلة الحديث خاضعة لشرائط الحس والمشاهدة، بل هي عنعنة نورية.

وقد روى الصدوق في العيون: (أن المأمون سأل الرضا عليه‌السلام : ما وجه إخباركم بما يكون؟ قال: (ذلك بعهد معهود إلينا من رسول اللَّه‏ صلَّى الله عليه وآله ) قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال‏ عليه‌السلام : (أمَا بلغك قول الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللَّه؟)، قال: بلى، قال: (وما من مؤمن إلاّ وله فراسة ينظر بنور اللَّه على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه، وقد جمع اللَّه في الأئمة منّا ما فرَّقه في جميع المؤمنين، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ في محكم كتابه: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) ، فأول المتوسِّمين رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثُم أمير المؤمنين عليه‌السلام من بعده، ثُم الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين‏ عليهم‌السلام ‏إلى يوم القيامة)، قال: فنظر المأمون، فقال له: يا أبا الحسن، زدنا ممَّا جعل اللَّه لكم أهل البيت، فقال الرضا عليه‌السلام : (إن اللَّه عزَّ وجلَّ قد أيَّدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملَك، ولم تكن مع أحد ممَّن مضى إلاّ مع رسول اللَّه، وهي مع الأئمة منَّا تسددهم وتوفقهم، وهو عمود من نور

٤١٠

بيننا وبين اللَّه عزَّ وجل) (1) .

ومن هنا يجب أن نهتم كثيراً بإزالة هذا الالتباس عن أذهان الجميع: من أن روايتهم ليست رواية بالموازين العادية أو أن حجية أقوالهم بما أنهم رواة.

ونتجاوز إطار اللفظ إلى عمق المعنى لنقول: إن هذا الحديث يدلُّنا على حجية الزهراء البتول‏ عليها‌السلام ؛ ‏وذلك من جهة أن المناط في حجية المؤدي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الوصف المتعقب للرجل، وهو (منك)، وهذا الوصف يدل على عدم خصوصية الرجل، بل الوصف هو المهم، وقد ورد في الحديث أنها منه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما تؤديه عن النبي لا ينبغي التشكيك فيه، ومن هنا كان مصحف فاطمة مصدر لعلوم الأئمة عليهم‌السلام .

إشكال ودفع:

قد يقال: إن رواة الحديث الذين ينقلون الحديث عن المعصومين لهم هذا المقام، حيث يسأل الإمام حول مسألة معينة ولم يكن الإمام قد أظهر الحكم فيها قبل ذلك، ويكون دور الراوي نشر هذا الحكم بين أهل مدينته أو قبيلته وما شابه ذلك؟

والجواب عن هذا الإشكال: أن الحديث يتحدث عن مقام خاص اختص به الأمير عليه‌السلام ، وليس الحديث عن مسألة شرعية سألها أحد المسلمين بتلقيه حساً عن حسِّ المعصوم، وهذا المقام هو مقام التلقي النبوي الذي حازه النبي الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو كان هذا التلقي عن الوجود النازل لمقام النبوة لَمَا قيل في الحديث القدسي: (لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو...)، فتأدية النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفسه، ليست بمعنى تأدية حسِّه الشريف عن حسه، بل هو نحو من التجريد وتأدية المراتب النازلة من وجوده

____________________

(1) عيون أخبار الرضا(ع)، ج2، ص200، ب46.

٤١١

الشريف عن المراتب العالية من روحه المقدسة، وعن مقام التلقي للوحي في درجة وجوده، فالذي يبلغ عن ذلك المقام من روحه وجوده النازل، أو رجل منه يتلقى عن ذلك المقام، فعلي‏ عليه‌السلام يتلقى من المقام الروحي النوري النبوي كما تتلقى القوى الإدراكية النازلة في نفس النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المقام الباطن لروحه الشريفة، ومن ذلك يتضح أن علياً في حين أخوته للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمتاز عليه وعلى بقية الأئمة عليه‌السلام أنهم يتلقون ممَّا قد تلقاه المقام الروحي النوري النبوي؛ أي في طوله متأخراً عنه.

فالتصريح بأنه (لا يؤدي عنك)، أي عن هذا المقام الذي أنت فيه (إلاّ أنت أو رجل منك)، والترديد هو لإفادة كونكما في نفس هذه المرتبة الصالحة للتأدية عن مقامك النوري.

وجواب ثالث: أن المعصوم في السؤال والجواب العاديين لا يكون غرضه تخصيص السائل دون غيره بالحكم، بل أي شخص أتى وسأله هذا السؤال لكان أجابه بنفس الحكم، لأنه أدى إليه الحكم عبر قناة الحس إلى حسه، فليس المقام مقام تبليغ حكم عن السماء وكون المبلغ هو الناطق الرسمي، بل من باب الاتفاق اختص هذا السائل بهذا الحكم، ثم إن الحصر الوارد في هذا الحديث القدسي عن رب العزَّة بالحصر في التأدية بهذين دليل على أن هذا لا يشمل مقام الرواية.

الحديث الرابع: (إن اللَّه يرضى لرضا فاطمة)

إن هذا الحديث من الأحاديث المهمة التي نستفيد منها عصمة الزهراء البتول، وليست المسألة هي مداراة من العلي القدير لنبيه الأكرم في تبجيل ابنته التي يحبها، بل هو مقام حباها اللَّه به، حيث تكون هي ممثلة لرضا اللَّه جلَّ وعلا ويكون رضاه برضاها، وهذا يعني أنها لا تفعل المعصية لأنها ممثِّلة لرضا الرب وغضبه.

وقد ذكرنا سابقاً في بحث المراتب الوجودية للإنسان وتنزل العلوم أن للإنسان مراتب ثلاث: هي مرتبة العلم الحضوري، ومرتبة العلوم الحصولية، ومرتبة القوى

٤١٢

العملية التي هي دون المرتبتين، وسلامة الأفعال تتوقَّف على مدى المطابقة بين هذه المدارج الثلاثة حيث تتنزل الإرادات الإلهية من دون عوائق، ولا تكون هناك مشاكسات من القوى المادون؛ وذلك إذا ما ابتلي بالأمراض والوساوس والبلادة والحدة أو سلطنة الغرائز النازلة... وقد استعرضنا ذلك - بنحو مفصَّل - وشواهده من الآيات القرآنية.

وبناء على هذا فعندما يقال: إن الرضا الإلهي هو برضا أحد عباده، فهذا يعني أن هذا العبد هو ممثل للمشيئة الإلهية وتكون كل حركاته وسكناته لا تتخلَّف عن المشيئة الإلهية، وهذا يعني أن تكون القنوات التي تسير فيها علوم الإنسان - وهي ما تقدم ذكره - غير مبتلاة بأمراض إدراكية ولا عملية، ولا يكون هناك عائق أمامها، فتتنزَّل صافية من دون كدر، وهذا ليس تأليها، بل هو استقامة في مدارج الوجود، فيخرج العمل مظهراً للإرادة الإلهية. وعلى هذا البيان لا تنحصر العصمة في الموضوعات الكلية، بل تشمل الجزئيات الخارجية ولا يشذ عنها مورد، وقريب من هذا المعنى الحديث الذي ينص على أن علياً مع الحق والحق مع علي؛ إذ لا يمكن أن تكون هناك موائمة بينه وبين الحق إلاّ إذا افترضنا أن هناك عصمة علمية عملية تجعل كل تصرفاته نابعة عن العلم الحضوري، وأن إراداته تمثِّل الإرادة الإلهية.

ومنه نستطيع الربط مع الأحاديث التي تبين كيفية تلقي الإمام عليه‌السلام عن النبي الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث لا يكون التلقِّي من الوجود البشري للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو تلقي عن مقام النورية للنبي، وخصوصاً في مثل الحديث القائل: (علَّمني رسول اللَّه ألف باب من العلم، ينفتح من كل باب ألف باب)؛ حيث لا يوجد تفسير لها على نحو العلوم الحصولية، بل هي الوراثة النورية التي ورثها النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله للأئمة الأطهار، وعليه يكون أداء الأئمة عن النبي ليس عن مرتبته الوجود الحسي له، بل عن المرتبة النورية.

وقد أورد على هذا التقريب لفقه الحديث عدة نقوض حاصلها: أنه قد ورد في الأحاديث والآيات القرآنية تصريح برضا اللَّه تعالى عن بعض المؤمنين، مثل: ( قَالَ

٤١٣

اللّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ، وورد في موارد أربعة قوله تعالى ( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ) : الفتح 18 / المجادلة 22 / البينة 8 / التوبة 100، ما ورد في الحديث الشريف من رضي اللَّه عن عمار، وأن أبا ذر لا يكذب قط.

وهناك جواب تفسيري عن هذه الأحاديث ينفع جواباً كلياً عن هذه الموارد نذكره: وهو أن العصمة على درجات، وليس كلها من نحو واحد، فإن منها: العلمية، ومنها: العملية، ومنها: الذاتية، ومنها: الأفعالية؛ أي في مقام الفعل دون الذات، وكل منها فيه شدة وضعف، وقد مر بعض الحديث عن ذلك في آية استخلاف آدم والفرق بين عصمته وعصمة الملائكة، كذلك هناك مقامات تتلو أدنى مراتب العصمة كمقام الحكمة الذي مَن أوتيه أوتي خيراً كثيراً كما وردت الإشارة إليه في الآيات، وكمقام الصدِّيقين ومقام أهل الفوائد، ومنهم مَن يُعطى علم البلايا والمنايا وغير ذلك من المقامات.

ويشير إلى تلك المقامات حديث الإمام الصادق عليه‌السلام ‏الذي رواه الخزَّاز القمي(كفاية الأثر / ص253)، وهي مقامات من سنخ غيبي وهيبة ملكوتية بحسب تولِّي الشخص وتسليمه لأوامر اللَّه تعالى ونواهيه الإلزامية والندبية وطوعانيته لإراداته.

فلا يقال بامتناع انوجادها في مَن يتلو المعصومين من المؤمنين المتمسِّكين بحبل اللَّه كالأوتاد والأبدال الذين أخلصوا في طاعة اللَّه؛ مثل: لقمان الذي لم يكن نبياً ومع ذلك أوتي الحكمة، وهي نحو يتلو العصمة العلمية، وكما في ذي القرنين الذي ورد عن أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام أنه (كان عبداً أحبَّ اللَّه، فأحبه اللَّه... وآتاه الله من كل شيء)، و مثل زينب عندما قال لها الإمام زين العابدين: (يا عمَّة، إنك عالمة غير معلمة)، وفي السيد محمد ابن الإمام الهادي‏ عليه‌السلام ‏وأبي الفضل العباس وغيرهم من أبناء الأئمة، وهكذا عمار وأبو ذر، مضافاً إلى أنهم ممَّن ائتمَّ بإمامة أهل

____________________

(1) المائدة: 119.

٤١٤

البيت عليهم‌السلام ‏وآمن بالمقام الغيبي للائمة ويتولُّون أهل الكساء وممَّن يتشفع بهم، وهذا المقدار لا يجعل مقامهم مقام الأئمة.

وقد ذكرنا في علم الكلام وعلوم المعارف أن الصفات الكمالية وإن كانت مشتركة بين الخالق وعبده، ولكنَّها ليست بمرتبة واحدة، كالصدق؛ فقوله تعالى: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ) ، والنبي الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الصادق الأمين أيضا، لكن اتصاف الحق تعالى بهذه الصفة في مرتبة واجب الوجود لا متناهية، غير مرتبة اتصاف الرسول الأكرم بها، وهذا التفاوت في الدرجات حاصل أيضاً بين المعصوم وغيره؛ إذ أن رضا اللَّه لرضا المعصوم غير رضاه على عمار أو أبي ذر لأنهم آمنوا بالمعصوم واعتقدوا به فهم في مرتبة تلي المعصوم، وروايات كثيرة تشير إلى الأوتاد وأن وجودهم هو حفظ لمدنهم أو لمَن يحيط بهم، كالذي ورد عن الرضا عليه‌السلام في زكريا بن آدم (1) والذي ورد في سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار (2) ، كما تشير المصادر إلى أن عمار إنما وصف بهذا الوصف في سياق نصرته وولائه لعلي عليه‌السلام (3) .

أمَّا الجواب التفصيلي:

1 - أمَّا آية المجادلة: ( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، وهذه الآية لا ينقض بها على ما تقدم؛ وذلك لأن الرضا الإلهي مترتِّب على الاتصاف بهذه الأوصاف الخاصة، وهي الإيمان باللَّه واليوم الآخر و عدم موادة مَن حاد اللَّه

____________________

(1) رجال الكشي، 857، ح111.

(2) المصدر السابق، 33، ح13.

(3) صحيح مسلم، كتاب الفتن، وكتاب صفات المنافقين.

٤١٥

ورسوله، كتب الإيمان في قلوبهم، التأييد بروح منه و الاتصاف بها مورد رضا اللَّه، وهو يختلف عمَّا نحن فيه؛ حيث إن الرضا مترتب على ذات فاطمة من دون تقييدها بوصف معين ولا زمان ولا مكان معين، بل هو عام شامل ومطلق. أمَّا ما ورد في الآية، فهو رضا للوصف، لا لذات هؤلاء بما هي هي.

2 - وقريب منه ما في سورة البينة؛ حيث إن الرضا هو للوصف، ويزاد عليه ما ختمت به الآية من أن ( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) ؛ أي مقيَّد بالخشية منه تعالى، وإلاّ ينتفي عنه الرضا، مضافاً إلى أن المفسِّرين ينصُّون على أنها نزلت في علي‏ عليه‌السلام ، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور في ذيل آية خير البرية من السورة.

3 - آية الفتح: ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) ، وهذه الآية الشريفة تؤكد نفس المدلول من أن الرضا هنا بالوصف، وهو الإيمان، لا أنه مطلق؛ وذلك مع أن مطلق المسلمين قد بايع، لكن الرضا لم يكن عن الكل، ويؤيد ذلك إذ التعليلية؛ حيث إن الرضا نتيجة الفعل الصالح، وهو المبايعة تحت الشجرة، وليس رضا بالذات. ثم إن تمامية المبايعة والحصول على الرضا الإلهي مناط بالموافاة والبقاء على العهد حتى الموت، وهكذا آية المائدة التي ذكر فيها الرضا مقيداً بالوصف، وهو الصدق مع شرط الموافاة.

4 - أمَّا آية التوبة ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) ، فالجواب عن النقض بها - مضافاً إلى الأجوبة السابقة -:

أ - ورد في الحديث في ذيل الآية أنهم هم النقباء وأبو ذر والمقداد وسلمان وعمار ومَن آمن وثبت على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) ؛ ويشهد لذلك - و لعدم إرادة العموم - أن سورة التوبة تقسِّم مَن صحب النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من المكِّيين والمدنيين إلى أقسام

____________________

(1) تفسير الصافي: ج2، ص329.

٤١٦

عديدة كالذين في قلوبهم مرض، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، الذين يلمزون المطوعين، المخلّفون، الذين يؤذون النبي، المنافقون وغيرهم.

ب - أنه ليس فيها تعميم لكل المهاجرين والأنصار، بل خصوص السابقين، بل خصوص الأولين من السابقين.

جـ - أن اصطلاح (السابقون) تشرحه الآيات القرآنية: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) ، ومَن هم

المقرَّبون؟ ( كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) ، فهم شهداء الأعمال الذين لا يكونوا بشراً عاديين؛ إذ لا يمكن أن يشهد الأعمال إلاّ البشر الذين يكون لهم نفوس خاصة هي عِدل النبوة، كما تقدم مفصَّلا.

د - أن الآيات في سورة المدثر تشير إلى أن بعض مَن أسلم أول البعثة من المنافقين من الذين في قلوبهم مرض، أي أن إسلامهم لم يكن عن إيمان، فلا يمكن أن يراد منها السابقون من المهاجرين والأنصار على العموم، وكذا ما في سورة العنكبوت المكِّيَّة (الآية 1 ـ13) وسورة النحل المكِّية (107 - 110)

هـ ورد في الرواية: أن المقصود من السابقين علي عليه‌السلام ، ‏ومن الأنصار الحسن والحسين، والذين اتبعوهم بإحسان هم الأئمة الذين لم يدركوا النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ويشهد لذلك ما تقدم من إرادة شهداء الأعمال من السابقين الأولين.

و - أن (من المهاجرين) ليس متعلَّقا و لا معمولاً للسابق، بل للفاعل المضمر فيه؛ إذ لا تصلح (من) التبعيضية للتعلُّق لمادة السبق، ولو أريد ذلك لأتي بلفط (في الهجرة) ونحوه، وهذا يعني أن (السابقون) وصف مستقل و(المهاجرين) وصف مستقل آخر لهؤلاء الأشخاص، لا أن المراد السابقون هجرة كما يريد البعض تصويرها.

ز - أنه ورد في العديد من السور تأنيب الصحابة الذين خالفوا أوامر الرسول؛ ونجد ذلك في سورة الأنفال، وهي من أوائل السور المدنية وتتعرَّض لغزوة بدر، وتقسِّم مَن شهد بدراً إلى صالح وبعضهم طالح، وكذا سورة آل عمران تتعرض لمَن شهد أُحداً، وتقسّمهم إلى ثلاث فئات: واحدة صالحة مخلصة واثنتان

٤١٧

طالحتين، فلاحظ سياق مجموع الآيات في السورتين، وكذا سورة الأحزاب في مَن شهد الخندق، وسورة محمد، وفي سورة التوبة نفسها - وهي آخر ما نزل في المدينة - تقسِّيم مَن صحب النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من المكِّيين والمدنيين إلى فئات عديدة كما تقدم، وتشير إلى فرار المسلمين في حنين أمام الزحف إلاّ ثلة من بني هاشم...

ومن هنا لا نستطيع القول أن الآية شاملة لكل مَن أسلم مع الرسول الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك نكتة تشير إليها الآية؛ وهي أن التابع موصوف بالمحسن فكيف بالسابق! إذ مقام الإحسان ليس من المقامات العادية؛ حيث ورد في القرآن ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1) ، فهو مقام بعد الإيمان والعمل الصالح والتقوى بدرجات من المنازل العلْوية، ثم المذكور في هذه الآية هو التابعين المقيَّدين بقيد الإحسان، وهذا لا يكون إلاّ في المعصومين الذين لم يشهدوا الرسول الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وورد في رواية أن علياً عليه‌السلام ‏قرأ هذه الآية في زمن عثمان وقرأ بعدها آية السابقون السابقون، وقال متسائلاً عمَّن يشهد أنها نزلت فيمَن؟ فشهد عدة من الصحابة أنها نزلت في الأنبياء والأوصياء وفي علي، وكذا ينفي العموم ما ورد في مسلم (كتاب الفضائل - باب حوض النبي‏ صلَّى الله عليه وآله)، والبخاري (كتاب الفتن) مِن عرض الصحابة على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الحوض، إلاّ أن جماعات منهم يحال بينهم وبين رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويذادون عن الحوض، فيقول: (أصحابي أصحابي، فيقال: لقد أحدثوا أو بدلوا بعدك، فيقول: بُعدا بُعدا) (على اختلاف في ألفاظ الحديث)، وهي تؤكد أن الصحبة ليست هي الموجبة للنجاة، بل الموافاة على منهاج رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى الممات هو المناط في النجاة.

____________________

(1) المائدة: 93.

٤١٨

الحديث الخامس: (علي مني وأنا من علي)

هذا الحديث الشريف الذي تواتر نقله في كتب العامة والخاصة، دال - بلا ريب - على النشوية؛ وهي ليست البدنية فقط، بل هي وحدة بلحاظ الروح و النورية. وفي بعض الروايات قال جبرائيل: (وأنا منكما)؛ وهذا يدل على أن الوحدة من سنخ الملَك الغيبي العلوي اللطيف. وقريب من هذا المعنى ما ورد من أن (الناس معادن شتى، وأشجار شتى، وأنا وعلي من شجرة واحدة)، وبنفس البيان حديث النور الوارد (كنت أنا وعلياً نوراً بين يدي اللَّه...)

الحديث السادس: (يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل)

والتنزيل هو تلقِّي المقامات الكلية لحقيقة القرآن الكريم، والتأويل هو تطبيق تلك المقامات الكلية على الموارد و الدرجات المتوسطة و الجزئية العديدة. ولا يمكن لشخص أن يحيط بكل تأويل القرآن إلاّ أن يكون قد أحاط بمراتب القرآن، وأن تكون قواه خالية من الزلل والزيغ؛ ومنه يعلم أن النبوة في التنزيل والإمامة في التأويل، فهي تلو النبوة الخاتمة ومشتقة منها ومترتبة عليها. وفي كثير من الأحاديث نرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرن بين النبوة والإمامة المتمثلة بشخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي‏ عليه‌السلام ، مع بيان الفاصل بين الشأن النبوي والشأن الولوي.

تذييل:

بعد هذا الاستعراض لفقه الروايات الواردة في الإمامة نحاول أن نذكر عدد من التوصيات التي تنفع في المقام:

أولاً: إن قدماء الإمامية - وتبعاً للطرق المبيَّنة في الكتاب والسنة للمعصومين عليهم‌السلام - قد ذكروا عدة مناهج لإثبات إمامة الأئمة الاثنى عشر، سواء من متكلمي الرواة أو متكلمي الغيبة كالشيخ المفيد والمرتضى والطبرسي، ونحن نشير إلى تغاير صياغات أدلتهم ومواد قوالبها تنبيهاً على تعدُّد أشكالها وموادها المنطقية:

٤١٩

منها: التدليل على الكبرى بما ورد من نصوص عديدة تنص على أن الخلفاء بعد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر، وفي بعضها أنهم من قريش، وفي بعضها أنهم من بنى هاشم، وهذه طائفة من الأحاديث.

وقد وقع العامة في بلبلة وتشويش في كيفية التطبيق الخارجي للخلفاء الاثنى عشر، واختلفت أقوالهم، والبعض جعل بينهم فاصل ولم يشترط التتابع، والبعض أنهاهم قبل يوم القيامة مع أن في بعض الألسنة أن هؤلاء الخلفاء باقون حتى يوم القيامة. ولو بحث الباحث عن الحقيقة بعيداً عن التعصُّب، لَمَا رأى مصداقاً لهذا الحديث إلاّ لدى الإمامية الاثنى عشرية؛ حيث لا يوجد طائفة لديها تفسير لهذه الطائفة المتواترة إلاّ لدى الإمامية الاثنى عشرية، حيث إن الإمامة المنصوبة المجعولة من قبل اللَّه تعالى عندهم إلى يوم القيامة هي في الاثنى عشر.

ونشير إلى نكتة مهمة يلحظها المطالع لكتب التاريخ: أنه لم يدّع أحد لنفسه هذه المقامات وأنها خلافة الرسول طبقاً لهذا الحديث إلا الأئمة الاثنى عشر، فكانوا يدّعون علم الكتاب كلِّه وهم على مرأى ومسمع من الدولتين الأموية والعباسية قرابة ثلاثة قرون، ولم تفتأ تلك الدولتين من امتحانهم في العلوم المختلفة ومسائل الدين وأحكامه، بل كانوا يمتحنونهم في الفنون المختلفة وفي الصفات البدنية بغية منهم أن يقطعوا عليهم دعواهم، ولم تكتفِ الدولتين بما كان لديها من أفراد في العلوم المختلفة، بل كانت تستعين بعلماء النصارى واليهود والروم والهند وغيرها، وبأصحاب الرياضات المختلفة، وبمختلف وسائل القوى روماً في دحض دعوى هؤلاء الأئمة الاثنى عشر.

لكن الرصد التاريخي ينبئنا بفشل الدولتين في ذلك، وفشل علماء الفرق الإسلامية الأخرى في مقابلتهم، بل كان نجمهم يزداد تلألؤاً ممَّا يضطر السلطات إلى تصفية وجودهم المبارك، فكان ذلك تحدي وإعجاز للبشرية أجمع طيلة قرون ثلاثة.

وقد تحدوا جميع مَن حولهم أن يُقدِموا على مساجلتهم وقطع حجتهم ولم

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440