الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127184
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127184 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

منها: وجود آيات (قد أشرنا إليها؛ وهي التي ذكرنا أنها دالة على الثقلين ومعيتهما على الإطلاق وغيرها) وطوائف روايات عدة دالة على أنهم المخاطبون بالقرآن وهم القادرون على فهمه وتأويله، والظاهر من عموم الأدلة أنه لا يمكن الاستبداد دونهم والانفراد في فهم القرآن.

منها: أن معجزة الرسالة المحمدية ليست هي القرآن وحده؛ والذي يظهر من النصوص - سواء من حديث الثقلين أم غيره - أن مقام النبي الخاتم فوق مقام القرآن، فهو كما ذكرنا المبدأ لهما بمقتضى أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أسند وجود الثقلين في الأمة إلى نفسه الشريفة (إني تارك)، فهو بمنزلة المصدر لاعتبارهما، وهو المنتهى باعتبار (يردا عليَّ الحوض).

بل أحد وجوه حجية القرآن هي صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (1) ( أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ ) (2) ، فأمانته وصدقه ووثاقته كانت بدرجة عالية فائقة تضاهي أمانة وصدق ووثوق المعجزة في الدلالة على كون القرآن من الباري تعالى، وقد لبث فيهم عمراً لم يأتهم بشي‏ء؛ لأنه لم يأته من تلقاء نفسه، وهذه كلها من الموثِّقات على أن القرآن من عند اللَّه، والتاريخ ينقل لنا أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل المشركين: أنه لو أخبرتكم أن العدو وراءكم وراء هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى إنك الصادق الأمين، إذن نفس حجية الكتاب من نفس قطع المشركين بصدقه وأمانته وما رأوا من بقية معجزاته، لكنَّه العناد

____________________

(1) يونس: 15.

(2) المؤمنون: 69.

٤٠١

والتكبر هو الذي منعهم عن التسليم له.

ومنها: أن الاحتياج إلى الغير في فهم القرآن لا يدل على نقص القرآن الكريم، بل هو أشبه شي‏ء بالوادي العميق الذي يحتاج في ارتياده إلى رائد يقود المسير، والقرآن فيه المحكم والمتشابه والظاهر والباطن، فالنقص في الواقع هو في الإنسان الذي يقرأ القرآن ويتداوله حيث لا يستطيع أن يصل إلى أعماقه، لا في القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين وعلى الإنسان أن يغرف منه ما استطاع طبقاً لِمَا يمتلك من القدرات والإمكانيات العلمية.

ومنها: أن الصحيح بعد ما تقدم هو تكافل الحجج الإلهية، فصفات الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبقية معجزاته أحد وجوه حجية القرآن، و القرآن هو أحد معجزات النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومَن عنده علم الكتاب والراسخون في العلم والذين أوتوا العلم... أحد وجوه حجية القرآن، وهم شهداء للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالتكافل والتشاهد بين الحجج برهان، وفي مقام الدلالة الإثباتية كذلك.

وأخيراً؛ قد ذكرنا بحثاً مبسوطاً في الفصل الأول في جواب منهج العلاّمة الطباطبائي القائل أنه بممارسة السنة يحصل لنا الدربة في طريقة تفسير القرآن بالقرآن.

النظرية الثانية:

ومؤداها حسبنا الأحاديث المأثورة عن العترة الطاهرة، وقد نادى بها الإخباريون؛ واستدلوا على ذلك بما ورد بأنهم المخاطبون بالقرآن وأنه لا يحيط بالقرآن إلاّ أهل البيت، وأن القرآن فيه المحكم والمتشابه وله ظاهر وباطن وفيه العام والخاص والناسخ والمنسوخ، وهذا يعني عدم إمكان توصلنا إلى معانيه المرادة الواقعية، وكذلك يُستدل بما ورد من النهي عن التفسير بالرأي والذي فُسِّر على أساس النهي عن الاستبداد بالرأي، كما يستدل بالحصر الوارد في قوله تعالى:

٤٠٢

( والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ ) ؛ حيث إن فيها حصراً في عدم العلم بالتأويل إلاّ لهؤلاء، وهذا يعني أن المحكم أيضاً لا يحيط به كل أحد؛ وذلك لأن للمحكم قيمومة على المتشابه باعتبار أنه أمُّ الكتاب، فلو كان غير الراسخين لهم إحاطة بالمحكمات، فلا يبقى متشابه حينئذ، وعليه يبطل الحصر الوارد أن المتشابه لا يعلمه إلاّ اللَّه والراسخون في العلم.

وما ذكره الإخباريون من مواد الأدلة متين، لكن لا يؤدي إلى ما ذكروه، ونفس أدلة النظرية الأولى تبطل أدلَّتهم، كما أن النصوص القرآنية لا تجعل المدار على أقوال العترة فقط، بل تنص على أن للقرآن دورا؛ خصوصاً مع روايات العرض على الكتاب، ونفس الآيات التي مفادها حديث الثقلين، وكذا نفس الحديث، فإن التمسك فيه بهما معا - لا بأحدهما - هو المدار في عدم الضلال، بل قد تقدم أن التمسك بأحدهما هو تمسك صوري، وإلاّ فهو في واقعه عدم تمسك به أيضاً؛ لأنهما لا ينفكان عن الآخر، فالانفكاك عن أحدهما انفكاك عن كلٍّ منهما معا.

النظرية الثالثة:

وهي التي نادى بها أغلب علماء الإمامية والتي تنص على المعية على نحو المجموعية، لا الاستقلال كما أفادته النظريتان السالفتان، وهذه المجموعية هي المدار في المعرفة الدينية واستنباط الأحكام الشرعية الأصولية والفرعية، فالتعامل يكون معهما كوحدة واحدة. هذا هو البيان الإجمالي لمفاد النظرية، أمَّا المفاد التفصيلي:

فإن المعية بين الكتاب والسنة على صعيدين: أحدهما تكويني، والأخر اعتباري باعتبار الحجية.

أمَّا الصعيد الأول، فقد أشرنا في بحث الآيات إلى طوائف عدة تشير إلى أن للقرآن حقائق تكوينة و مدارج في عالم التكوين، وأن لأهل البيت حقيقة تكوينية، وأن تلك الحقيقتين في الواقع واحدة.

٤٠٣

ونشير مجملاً إلى ذلك ببيان أن المصداق الحقيقي للكتاب هو الشي‏ء الوجودي الجامع للكلمات الحقيقية، فالكتاب له دلالة على شي‏ء جامع لكل شي‏ء، وهو شاعر، ومَن تكون له الإحاطة الحضورية بذلك الوجود الجامع، ويكون هناك اتحاد بين العالم والمعلوم والعلم، فهذا يعني أن العلم يكون فصلاً نوعياً واحدا، وكذا الفصول النوعية للراسخين في العلم والذين أوتوا العلم، فهي تدل على أن كمال جوهر الفصل النوعي ورُقيِّه بذلك العلم، وهو يدل على الوحدة التكوينية بينهما، فهناك مَعيَّة في مدارج الوجود.

نعم، في تنزل هذه الحقائق العلوية تتنزل بكثرة، ويُعبَّر عن ذلك في بعض الروايات أن الأئمة نور واحد، وقد يُعبَّر عنه في مقام التنزل بالروح الأعظم التي تنتقل من إمام إلى إمام.

فإذا كان الحال هكذا في مدارج التكوين، فهو بنفسه في مدارج الاعتبار، فالوجود الاعتباري اللفظي المصوت أو للنقوش المرسومة في الخط للقرآن، في محاذاته وجود اعتباري للإمام، وهو كلامه، وممَّا تقدم يتضح أن كلامهم عليهم‌السلام ‏واحد وإن كان متفرقا، ومجموعه حجة وإن تعددت رواياته. نعم، القرآن له إضافة تشريفية في كونه كلام اللَّه، وكلام العترة هو دونه وأنه كلام المخلوق، وفي الجهة الحقيقية التكوينية فإنهم كلمات اللَّه التكوينية، كما في التعبير عن عيسى أنه كلمة اللَّه، وهم حقيقة القران.

ومن هنا نفهم لماذا يجب عرض رواياتهم على الكتاب الكريم؛ بمعنى أن المتشابهات من كلٍّ من الكتاب والعترة تعرض على المحكمات منهما جميعا؛ وما ذلك إلاّ لأن مصدر الكلام واحد، وقريب من هذا التعبير في عالم الاعتبار والحجية ما يقال من أن الكتاب الكريم هو كالمتن، وأن روايات المعصومين هي كالشرح على المتن، وأنهم شارحون لشريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله والهادين إليها على أساس ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ

٤٠٤

قَوْمٍ هَادٍ ) .

4 - خلاصة ما يستفاد من الحديث:

1 - أن من المسامحة والبعد عن الإنصاف حصر مفاد الحديث في التشريع والفروع، حيث إن التمسك بهما ورد مطلقاً من دون تقييد، ومقتضى الإطلاق وجوب الأخذ بهما في الاعتقادات، كما أن مقتضى ذلك هو وجوب الاعتقاد بكل منهما.

2 - دوام وتأبيد بقاء إمامتهم، وهذا التأبيد شامل لعالم الدنيا والحشر.

3 - أن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المبدأ لحجية الثقلين والمنتهى لهما، وأنه أفضل من أهل البيت‏ عليهم‌السلام .

4 - أن لهم مقام غيبي باعتبارهم عِدلاً للقرآن، فصفات القرآن المسطورة في الآيات والسور المتكثرة كلها فيهم بمساعدة الآيات الدالة على الحديث.

5 - المعية في الحجية بين الكتاب والعترة، فلا يجوز الاكتفاء بأحدهما دون الأخر.

6 - مفاضلتهم على بقية الأنبياء؛ حيث إن الكتاب وصف بأوصاف لم يتَّصف بها أيٍّ من الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، وكونهم عدل الكتاب المتصف بهذه الأوصاف يدل على مدارجهم الروحية وإحاطتهم بهذا الكتاب الذي امتاز بهذه المميزات.

الحديث الثاني: (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

وهذا من الأحاديث التي ثبتت صحتها من كتب العامة والخاصة والكلام في فقه الحديث.

وللأسف حاول البعض تفسير هذا الحديث سياسياً بمعنى وجوب مبايعة الإمام

٤٠٥

ولو كان فاسقا، ولا يجوز أن تكون رقبة وذمة المكلَّف خالية من البيعة، وقد وجدنا أمثال هؤلاء في العصر المتقدم كعبد اللَّه بن عمر مع الحجاج عندما ذهب إليه ليبايعه مستدلاً بهذا الحديث، وسوف نتناول الحديث في نقاط عدة:

* إن أول أمر يواجهنا في هذا الحديث هو الأثر المترتِّب على عدم المعرفة، لا عدم البيعة؛ وهو أن تكون النتيجة كميتة الجاهلية؛ أي أن هذا الإنسان مُدْرَج في الذي لم يشم رائحة الإسلام في الآخرة، أي بحسب الواقع، وكأن الرواية الشريفة تعطي مفاد الآية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) فرضية كانت متوقفة على الإمامة التي بلّغها الرسول في هذا اليوم، وبها يتم الدين والإسلام كمجموع متكامل وكل شي‏ء مرهون به، وقبله لم يكن رضا؛ ولذلك قال عزَّ مِن قائل: ( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) ، وهذه كلها تؤكد المضمون الذي يورده هذا الحديث: من أن المعرفة والاعتقاد بالإمامة دخيلان في أصل الدين والتدين بالإسلام بحسب الواقع والآخرة.

* نعود إلى الشرط المذكور في الرواية؛ حيث إنه مطلق غير مقيد بشي‏ء، بل هو المعرفة المطلقة، ممَّا يدلِّل على أن المطلوب العمدة هو أمر اعتقادي، فليس المطلوب الأهم المتابعة في الفروع، ولا المتابعة السياسية، بل المتابعة الاعتقادية والمعرفة والتدين والائتمام، وهل يعقل ترتُّب مثل هذه النتيجة، وهي الموت ميتة الجاهلية، على مجرد عدم المتابعة في الفروع، بل الأمر أهم وأكبر، وهو محور اعتقادَي المعرفة والاعتقاد. ولو فرض المتابعة السياسية (المصطلح عليه بالولاء السياسي) والمتابعة في الفروع والأخذ من الإمام المنصوب أحكام الفروع من دون المتابعة الاعتقادية (المصطلح عليه بالولاء الاعتقادي المعرفي)، لَمَا تحقَّق أصل التدين بالإسلام بحسب عالم الآخرة والواقع.

* إن الرواية مطلقة من حيث الزمان والمكان، فهذا اللسان عام وشامل لكل

٤٠٦

الأفراد في جميع الأزمنة، ممَّا يدلِّل على عموم وجود الإمام وأنه موجود حتى قيام الساعة، وهذا يؤيِّد مدَّعى الإمامية من تأبيد وجود الإمام.

* إن الرواية تدلِّل على وجود واجب شرعي في قسم من الأصول الدينية على الفرد المسلم، وهو السعي إلى معرفة الإمام في كل فترة من فترات حياته، فهذه وظيفته التي أوكلها إليه الحق سبحانه، ويقع على عاتقه تشخيص الإمام، وأن هذا الواجب جانحي، وأن هذا الإمام تناط به النجاة من النار.

* ثم إن هذا الوجوب الاعتقادي - من قسم الأصول الدينية - دال على كون المعتقد من الإمامة ليس من سنخ حسي مشهود بالآلات الحسية، بل متعلق المعرفة ومتعلق الاعتقاد هو من السنخ الغيبي؛ فمثلاً نبوَّة النبي ليست أمراً حسيا، بل شيئاً وراء الحس ومن قبيل نشأة الروح وإن كان لها آثار في عالم الدنيا والحس دالة عليها برهانا، وإلاّ فمثل السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال ونحوها من الحسيات ليست تتعلق بها المعرفة الدينية، فالمعرفة الحسية والشواهد المادية ليست من متعلقات الإيمان والمعرفة الدينية، فالإيمان ركن متعلقه لابدَّ أن يكون غيبيا، من النشئآت أخرى، وإن كانت تلك النشئآت مهيمنة محيطة على الحس، يقصر الحس عن مدرج ظهورها، فتكون غيباً عنه، فظهورها الشديد عين غيبها عن الحس.

* وقد ينقض على هذا اللسان ما ورد من أن مَن استطاع الحج ولم يحج، أو سوَّف في ذلك، ثم مات، بعثه اللَّه يهودياً أو نصرانيا، ولكن التأمل في هذا المفاد يبيِّن الفرق بين أن يبعث يهوديا، وأن يبعث كافراً جاهليا، فإن الثاني هو مَن لم يدخل في الدين السماوي من الأساس. أمَّا الأول، فهو المعتنق للديانة الإلهية إلاّ أنه بعّض في التدين وآمن ببعض وكفر ببعض، فقد تكرَّر في أحاديث كثيرة أن تكون هناك درجة معينة من العذاب في النار مترتبة على ارتكاب بعض الكبائر، ولكنه بخلاف

 

٤٠٧

ما نحن فيه من أن المنكِر وغير العارف لإمام زمانه يخلد في النار ويموت ميتة الجاهلية، وهو إنما يتفق مع كون الواجب الاعتقادي من أصول الديانة.

الحديث الثالث: في تبليغ سورة براءة

وقد ورد الحديث بألسنة متعددة؛ منها: أن جبرائيل نزل على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله، فقال: (يا محمد، لا يؤدي عنك إلاّ رجل منك). ومنها: (لا يبلِّغ عنك إلاّ علي). ومنها: (لا يؤدي عني إلاّ أنا أو رجل مني).

ولا خلاف في نزول هذا الحديث في أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام ، ولكن الكلام في مدلول هذا الحديث الشريف الذي ينطوي على دلالات مهمَّة تفوق مسألة التبليغ لسورة براءة كما يحاول كثير من العامة تصويرها؛ على أساس أن مِن عادات العرب أن لا ينقض العهد إلاّ عاقده أو رجل من أهل بيته، ومراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعت النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ سورة براءة - وفيها نقض ما للمشركين من عهد - من أبي بكر ويسلِّمها إلى علي ليستحفظ بذلك السنة العربية، فيؤديها عنه بعض أهل بيته، ويزعمون أن أبا بكر لم ينفصل من إمارة الحاج.

وواضح أن هذا التأويل من العامة لا أساس له.

أمَّا أولاً: فأي شهادة من التاريخ أن مِن عادة العرب ذلك، بل من عاداتهم أنهم يبعثون في إجراء العهد أو حلِّه عَلِيَّة القوم ومَن يطمئنون إليه، وأي مدرك في سير ووقائع العرب دال على أنه يجب أن يكون من عشيرة القوم، فهذه قريش في صلح الحديبية بعثت مسعود الثقفي، وهو ليس من قريش، لإبرام العهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والواقعة في تبليغ سورة براءة ليست قبَلية وعائلية وشخصية، بل أمر إلهي لا يتحمَّله إلاّ مَن هو أهل له.

وثانياً: إن كتب السير والتاريخ مختلفة في كون أمارة الحاج بيد أبي بكر في ذلك

٤٠٨

العام، مضافاً إلى أن أبا بكر لم يكن هو الأمير إلى الأبد، بل تولَّى الأمارة غيره أيضا.

وثالثاً: ما ذكره العلاّمة الطباطبائي من أن البحث ليس في أفضلية مَن على مَن، بل الكلام في ما يمكن فهمه من الحديث: (فليت شعري من أين تسلموا أن هذه الجملة التي نزل بها جبرائيل: (أنه لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك) مقيدة بنقض العهد لا تدل على أزيد من ذلك؟! ولا دليل عليه من نقل أو عقل، فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤديه لا يجوز أن يؤديه إلاّ هو أو رجل منه، سواء كان نقض عهد من جانب اللَّه كما في مورد سورة براءة أم حكماً آخر إلهياً على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤديه ويبلِّغه)، ثم إن هذا التبليغ يتميز أنه التبليغ الأول عن السماء؛ حيث إن الحكم لم يعلن بعد على مسامع المسلمين وغيرهم، بل اختص به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن هنا ورد في الرواية أن الكتاب كان لدى أبي بكر مغلق لا يعلم ما فيه، وعندما أتى الإمام أخذه منه.

وهذا يغاير إبلاغ بقية الأحكام بتوسط مَن سمعها إلى مَن لم يسمعها التي كان النبي قد أعلن عنها في ملأ المسلمين في مناسبات عدة، فمقام تبليغ سورة براءة هو مقام الناطق الرسمي عن السماء، وهذا لا يعني الشركة في النبوة مع النبي الخاتم (‏صلَّى الله عليه وآله وسلم)؛ لأن الوارد هو: (لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك)، وليس الوارد (لا يؤدي إلاّ أنت أو رجل منك)، وواضح الفرق بين المعنيين بأدنى تأمل.

وبتعبير آخر: أن الذي له أهلية التبليغ عن الغيب يجب أن يكون له ارتباط بالغيب، فلا يبلغ عن تلقيك النبوي إلاّ لسانك النازل وبفيك أو فاه آخر، لكنَّه من سنخك الذي يسمع صوت الوحي ويرى نوره ويشمه، ويسمع رنة إبليس، كما تقدم في الخطبة القاصعة.

وهذا يفتح الباب لفقه حديث المنزلة (أشركه في أمري)، وأن هارون كموسى نبي، وحيث يضفي النبي على عليّ تلك المنزلة إلاّ النبوة؛ أي الإنباء، فبقية الصفات

٤٠٩

تكون ثابتة للإمام بمقتضى حديث المنزلة، كما يتضح معنى الحديث: (يا علي، أنا وأنت أبوا هذه الأمة)، والظاهر أن هذا المقام من مختصات علي أمير المؤمنين، وهكذا نفهم المؤاخاة بينهما في المدينة ليست اعتبارية، بل تكوينية حقيقية.

فالمدلول الذي نستفيده من الحديث أنه يشير إلى مقام للإمام عليه‌السلام ، ‏وأن مقام تأدية الأحكام الإلهية لا يكون إلاّ للنبي أو مَن يؤديه عنه وهو منه، ونستفيد منه أن ما يبلِّغه الإمام وبقية الأئمة لا ينحصر فيما بلَّغه النبي، بل حتى الموارد التي لم يبلِّغها للأمة فهم يبلِّغونها عنه، وتشمل الأخذ عن مقامه النوري بعد مماته كما هو الحال في مصحف فاطمة عليها‌السلام ؛ لأن عنعنتهم عن النبي ليست روائية حسية سماعية كما هو المتعارف في نَقَلة الحديث خاضعة لشرائط الحس والمشاهدة، بل هي عنعنة نورية.

وقد روى الصدوق في العيون: (أن المأمون سأل الرضا عليه‌السلام : ما وجه إخباركم بما يكون؟ قال: (ذلك بعهد معهود إلينا من رسول اللَّه‏ صلَّى الله عليه وآله ) قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال‏ عليه‌السلام : (أمَا بلغك قول الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللَّه؟)، قال: بلى، قال: (وما من مؤمن إلاّ وله فراسة ينظر بنور اللَّه على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه، وقد جمع اللَّه في الأئمة منّا ما فرَّقه في جميع المؤمنين، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ في محكم كتابه: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) ، فأول المتوسِّمين رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثُم أمير المؤمنين عليه‌السلام من بعده، ثُم الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين‏ عليهم‌السلام ‏إلى يوم القيامة)، قال: فنظر المأمون، فقال له: يا أبا الحسن، زدنا ممَّا جعل اللَّه لكم أهل البيت، فقال الرضا عليه‌السلام : (إن اللَّه عزَّ وجلَّ قد أيَّدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملَك، ولم تكن مع أحد ممَّن مضى إلاّ مع رسول اللَّه، وهي مع الأئمة منَّا تسددهم وتوفقهم، وهو عمود من نور

٤١٠

بيننا وبين اللَّه عزَّ وجل) (1) .

ومن هنا يجب أن نهتم كثيراً بإزالة هذا الالتباس عن أذهان الجميع: من أن روايتهم ليست رواية بالموازين العادية أو أن حجية أقوالهم بما أنهم رواة.

ونتجاوز إطار اللفظ إلى عمق المعنى لنقول: إن هذا الحديث يدلُّنا على حجية الزهراء البتول‏ عليها‌السلام ؛ ‏وذلك من جهة أن المناط في حجية المؤدي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الوصف المتعقب للرجل، وهو (منك)، وهذا الوصف يدل على عدم خصوصية الرجل، بل الوصف هو المهم، وقد ورد في الحديث أنها منه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما تؤديه عن النبي لا ينبغي التشكيك فيه، ومن هنا كان مصحف فاطمة مصدر لعلوم الأئمة عليهم‌السلام .

إشكال ودفع:

قد يقال: إن رواة الحديث الذين ينقلون الحديث عن المعصومين لهم هذا المقام، حيث يسأل الإمام حول مسألة معينة ولم يكن الإمام قد أظهر الحكم فيها قبل ذلك، ويكون دور الراوي نشر هذا الحكم بين أهل مدينته أو قبيلته وما شابه ذلك؟

والجواب عن هذا الإشكال: أن الحديث يتحدث عن مقام خاص اختص به الأمير عليه‌السلام ، وليس الحديث عن مسألة شرعية سألها أحد المسلمين بتلقيه حساً عن حسِّ المعصوم، وهذا المقام هو مقام التلقي النبوي الذي حازه النبي الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو كان هذا التلقي عن الوجود النازل لمقام النبوة لَمَا قيل في الحديث القدسي: (لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو...)، فتأدية النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن نفسه، ليست بمعنى تأدية حسِّه الشريف عن حسه، بل هو نحو من التجريد وتأدية المراتب النازلة من وجوده

____________________

(1) عيون أخبار الرضا(ع)، ج2، ص200، ب46.

٤١١

الشريف عن المراتب العالية من روحه المقدسة، وعن مقام التلقي للوحي في درجة وجوده، فالذي يبلغ عن ذلك المقام من روحه وجوده النازل، أو رجل منه يتلقى عن ذلك المقام، فعلي‏ عليه‌السلام يتلقى من المقام الروحي النوري النبوي كما تتلقى القوى الإدراكية النازلة في نفس النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المقام الباطن لروحه الشريفة، ومن ذلك يتضح أن علياً في حين أخوته للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يمتاز عليه وعلى بقية الأئمة عليه‌السلام أنهم يتلقون ممَّا قد تلقاه المقام الروحي النوري النبوي؛ أي في طوله متأخراً عنه.

فالتصريح بأنه (لا يؤدي عنك)، أي عن هذا المقام الذي أنت فيه (إلاّ أنت أو رجل منك)، والترديد هو لإفادة كونكما في نفس هذه المرتبة الصالحة للتأدية عن مقامك النوري.

وجواب ثالث: أن المعصوم في السؤال والجواب العاديين لا يكون غرضه تخصيص السائل دون غيره بالحكم، بل أي شخص أتى وسأله هذا السؤال لكان أجابه بنفس الحكم، لأنه أدى إليه الحكم عبر قناة الحس إلى حسه، فليس المقام مقام تبليغ حكم عن السماء وكون المبلغ هو الناطق الرسمي، بل من باب الاتفاق اختص هذا السائل بهذا الحكم، ثم إن الحصر الوارد في هذا الحديث القدسي عن رب العزَّة بالحصر في التأدية بهذين دليل على أن هذا لا يشمل مقام الرواية.

الحديث الرابع: (إن اللَّه يرضى لرضا فاطمة)

إن هذا الحديث من الأحاديث المهمة التي نستفيد منها عصمة الزهراء البتول، وليست المسألة هي مداراة من العلي القدير لنبيه الأكرم في تبجيل ابنته التي يحبها، بل هو مقام حباها اللَّه به، حيث تكون هي ممثلة لرضا اللَّه جلَّ وعلا ويكون رضاه برضاها، وهذا يعني أنها لا تفعل المعصية لأنها ممثِّلة لرضا الرب وغضبه.

وقد ذكرنا سابقاً في بحث المراتب الوجودية للإنسان وتنزل العلوم أن للإنسان مراتب ثلاث: هي مرتبة العلم الحضوري، ومرتبة العلوم الحصولية، ومرتبة القوى

٤١٢

العملية التي هي دون المرتبتين، وسلامة الأفعال تتوقَّف على مدى المطابقة بين هذه المدارج الثلاثة حيث تتنزل الإرادات الإلهية من دون عوائق، ولا تكون هناك مشاكسات من القوى المادون؛ وذلك إذا ما ابتلي بالأمراض والوساوس والبلادة والحدة أو سلطنة الغرائز النازلة... وقد استعرضنا ذلك - بنحو مفصَّل - وشواهده من الآيات القرآنية.

وبناء على هذا فعندما يقال: إن الرضا الإلهي هو برضا أحد عباده، فهذا يعني أن هذا العبد هو ممثل للمشيئة الإلهية وتكون كل حركاته وسكناته لا تتخلَّف عن المشيئة الإلهية، وهذا يعني أن تكون القنوات التي تسير فيها علوم الإنسان - وهي ما تقدم ذكره - غير مبتلاة بأمراض إدراكية ولا عملية، ولا يكون هناك عائق أمامها، فتتنزَّل صافية من دون كدر، وهذا ليس تأليها، بل هو استقامة في مدارج الوجود، فيخرج العمل مظهراً للإرادة الإلهية. وعلى هذا البيان لا تنحصر العصمة في الموضوعات الكلية، بل تشمل الجزئيات الخارجية ولا يشذ عنها مورد، وقريب من هذا المعنى الحديث الذي ينص على أن علياً مع الحق والحق مع علي؛ إذ لا يمكن أن تكون هناك موائمة بينه وبين الحق إلاّ إذا افترضنا أن هناك عصمة علمية عملية تجعل كل تصرفاته نابعة عن العلم الحضوري، وأن إراداته تمثِّل الإرادة الإلهية.

ومنه نستطيع الربط مع الأحاديث التي تبين كيفية تلقي الإمام عليه‌السلام عن النبي الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث لا يكون التلقِّي من الوجود البشري للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو تلقي عن مقام النورية للنبي، وخصوصاً في مثل الحديث القائل: (علَّمني رسول اللَّه ألف باب من العلم، ينفتح من كل باب ألف باب)؛ حيث لا يوجد تفسير لها على نحو العلوم الحصولية، بل هي الوراثة النورية التي ورثها النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله للأئمة الأطهار، وعليه يكون أداء الأئمة عن النبي ليس عن مرتبته الوجود الحسي له، بل عن المرتبة النورية.

وقد أورد على هذا التقريب لفقه الحديث عدة نقوض حاصلها: أنه قد ورد في الأحاديث والآيات القرآنية تصريح برضا اللَّه تعالى عن بعض المؤمنين، مثل: ( قَالَ

٤١٣

اللّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) ، وورد في موارد أربعة قوله تعالى ( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ) : الفتح 18 / المجادلة 22 / البينة 8 / التوبة 100، ما ورد في الحديث الشريف من رضي اللَّه عن عمار، وأن أبا ذر لا يكذب قط.

وهناك جواب تفسيري عن هذه الأحاديث ينفع جواباً كلياً عن هذه الموارد نذكره: وهو أن العصمة على درجات، وليس كلها من نحو واحد، فإن منها: العلمية، ومنها: العملية، ومنها: الذاتية، ومنها: الأفعالية؛ أي في مقام الفعل دون الذات، وكل منها فيه شدة وضعف، وقد مر بعض الحديث عن ذلك في آية استخلاف آدم والفرق بين عصمته وعصمة الملائكة، كذلك هناك مقامات تتلو أدنى مراتب العصمة كمقام الحكمة الذي مَن أوتيه أوتي خيراً كثيراً كما وردت الإشارة إليه في الآيات، وكمقام الصدِّيقين ومقام أهل الفوائد، ومنهم مَن يُعطى علم البلايا والمنايا وغير ذلك من المقامات.

ويشير إلى تلك المقامات حديث الإمام الصادق عليه‌السلام ‏الذي رواه الخزَّاز القمي(كفاية الأثر / ص253)، وهي مقامات من سنخ غيبي وهيبة ملكوتية بحسب تولِّي الشخص وتسليمه لأوامر اللَّه تعالى ونواهيه الإلزامية والندبية وطوعانيته لإراداته.

فلا يقال بامتناع انوجادها في مَن يتلو المعصومين من المؤمنين المتمسِّكين بحبل اللَّه كالأوتاد والأبدال الذين أخلصوا في طاعة اللَّه؛ مثل: لقمان الذي لم يكن نبياً ومع ذلك أوتي الحكمة، وهي نحو يتلو العصمة العلمية، وكما في ذي القرنين الذي ورد عن أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام أنه (كان عبداً أحبَّ اللَّه، فأحبه اللَّه... وآتاه الله من كل شيء)، و مثل زينب عندما قال لها الإمام زين العابدين: (يا عمَّة، إنك عالمة غير معلمة)، وفي السيد محمد ابن الإمام الهادي‏ عليه‌السلام ‏وأبي الفضل العباس وغيرهم من أبناء الأئمة، وهكذا عمار وأبو ذر، مضافاً إلى أنهم ممَّن ائتمَّ بإمامة أهل

____________________

(1) المائدة: 119.

٤١٤

البيت عليهم‌السلام ‏وآمن بالمقام الغيبي للائمة ويتولُّون أهل الكساء وممَّن يتشفع بهم، وهذا المقدار لا يجعل مقامهم مقام الأئمة.

وقد ذكرنا في علم الكلام وعلوم المعارف أن الصفات الكمالية وإن كانت مشتركة بين الخالق وعبده، ولكنَّها ليست بمرتبة واحدة، كالصدق؛ فقوله تعالى: ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ) ، والنبي الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الصادق الأمين أيضا، لكن اتصاف الحق تعالى بهذه الصفة في مرتبة واجب الوجود لا متناهية، غير مرتبة اتصاف الرسول الأكرم بها، وهذا التفاوت في الدرجات حاصل أيضاً بين المعصوم وغيره؛ إذ أن رضا اللَّه لرضا المعصوم غير رضاه على عمار أو أبي ذر لأنهم آمنوا بالمعصوم واعتقدوا به فهم في مرتبة تلي المعصوم، وروايات كثيرة تشير إلى الأوتاد وأن وجودهم هو حفظ لمدنهم أو لمَن يحيط بهم، كالذي ورد عن الرضا عليه‌السلام في زكريا بن آدم (1) والذي ورد في سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار (2) ، كما تشير المصادر إلى أن عمار إنما وصف بهذا الوصف في سياق نصرته وولائه لعلي عليه‌السلام (3) .

أمَّا الجواب التفصيلي:

1 - أمَّا آية المجادلة: ( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، وهذه الآية لا ينقض بها على ما تقدم؛ وذلك لأن الرضا الإلهي مترتِّب على الاتصاف بهذه الأوصاف الخاصة، وهي الإيمان باللَّه واليوم الآخر و عدم موادة مَن حاد اللَّه

____________________

(1) رجال الكشي، 857، ح111.

(2) المصدر السابق، 33، ح13.

(3) صحيح مسلم، كتاب الفتن، وكتاب صفات المنافقين.

٤١٥

ورسوله، كتب الإيمان في قلوبهم، التأييد بروح منه و الاتصاف بها مورد رضا اللَّه، وهو يختلف عمَّا نحن فيه؛ حيث إن الرضا مترتب على ذات فاطمة من دون تقييدها بوصف معين ولا زمان ولا مكان معين، بل هو عام شامل ومطلق. أمَّا ما ورد في الآية، فهو رضا للوصف، لا لذات هؤلاء بما هي هي.

2 - وقريب منه ما في سورة البينة؛ حيث إن الرضا هو للوصف، ويزاد عليه ما ختمت به الآية من أن ( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) ؛ أي مقيَّد بالخشية منه تعالى، وإلاّ ينتفي عنه الرضا، مضافاً إلى أن المفسِّرين ينصُّون على أنها نزلت في علي‏ عليه‌السلام ، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور في ذيل آية خير البرية من السورة.

3 - آية الفتح: ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) ، وهذه الآية الشريفة تؤكد نفس المدلول من أن الرضا هنا بالوصف، وهو الإيمان، لا أنه مطلق؛ وذلك مع أن مطلق المسلمين قد بايع، لكن الرضا لم يكن عن الكل، ويؤيد ذلك إذ التعليلية؛ حيث إن الرضا نتيجة الفعل الصالح، وهو المبايعة تحت الشجرة، وليس رضا بالذات. ثم إن تمامية المبايعة والحصول على الرضا الإلهي مناط بالموافاة والبقاء على العهد حتى الموت، وهكذا آية المائدة التي ذكر فيها الرضا مقيداً بالوصف، وهو الصدق مع شرط الموافاة.

4 - أمَّا آية التوبة ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) ، فالجواب عن النقض بها - مضافاً إلى الأجوبة السابقة -:

أ - ورد في الحديث في ذيل الآية أنهم هم النقباء وأبو ذر والمقداد وسلمان وعمار ومَن آمن وثبت على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) ؛ ويشهد لذلك - و لعدم إرادة العموم - أن سورة التوبة تقسِّم مَن صحب النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من المكِّيين والمدنيين إلى أقسام

____________________

(1) تفسير الصافي: ج2، ص329.

٤١٦

عديدة كالذين في قلوبهم مرض، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، الذين يلمزون المطوعين، المخلّفون، الذين يؤذون النبي، المنافقون وغيرهم.

ب - أنه ليس فيها تعميم لكل المهاجرين والأنصار، بل خصوص السابقين، بل خصوص الأولين من السابقين.

جـ - أن اصطلاح (السابقون) تشرحه الآيات القرآنية: ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) ، ومَن هم

المقرَّبون؟ ( كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) ، فهم شهداء الأعمال الذين لا يكونوا بشراً عاديين؛ إذ لا يمكن أن يشهد الأعمال إلاّ البشر الذين يكون لهم نفوس خاصة هي عِدل النبوة، كما تقدم مفصَّلا.

د - أن الآيات في سورة المدثر تشير إلى أن بعض مَن أسلم أول البعثة من المنافقين من الذين في قلوبهم مرض، أي أن إسلامهم لم يكن عن إيمان، فلا يمكن أن يراد منها السابقون من المهاجرين والأنصار على العموم، وكذا ما في سورة العنكبوت المكِّيَّة (الآية 1 ـ13) وسورة النحل المكِّية (107 - 110)

هـ ورد في الرواية: أن المقصود من السابقين علي عليه‌السلام ، ‏ومن الأنصار الحسن والحسين، والذين اتبعوهم بإحسان هم الأئمة الذين لم يدركوا النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ويشهد لذلك ما تقدم من إرادة شهداء الأعمال من السابقين الأولين.

و - أن (من المهاجرين) ليس متعلَّقا و لا معمولاً للسابق، بل للفاعل المضمر فيه؛ إذ لا تصلح (من) التبعيضية للتعلُّق لمادة السبق، ولو أريد ذلك لأتي بلفط (في الهجرة) ونحوه، وهذا يعني أن (السابقون) وصف مستقل و(المهاجرين) وصف مستقل آخر لهؤلاء الأشخاص، لا أن المراد السابقون هجرة كما يريد البعض تصويرها.

ز - أنه ورد في العديد من السور تأنيب الصحابة الذين خالفوا أوامر الرسول؛ ونجد ذلك في سورة الأنفال، وهي من أوائل السور المدنية وتتعرَّض لغزوة بدر، وتقسِّم مَن شهد بدراً إلى صالح وبعضهم طالح، وكذا سورة آل عمران تتعرض لمَن شهد أُحداً، وتقسّمهم إلى ثلاث فئات: واحدة صالحة مخلصة واثنتان

٤١٧

طالحتين، فلاحظ سياق مجموع الآيات في السورتين، وكذا سورة الأحزاب في مَن شهد الخندق، وسورة محمد، وفي سورة التوبة نفسها - وهي آخر ما نزل في المدينة - تقسِّيم مَن صحب النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من المكِّيين والمدنيين إلى فئات عديدة كما تقدم، وتشير إلى فرار المسلمين في حنين أمام الزحف إلاّ ثلة من بني هاشم...

ومن هنا لا نستطيع القول أن الآية شاملة لكل مَن أسلم مع الرسول الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك نكتة تشير إليها الآية؛ وهي أن التابع موصوف بالمحسن فكيف بالسابق! إذ مقام الإحسان ليس من المقامات العادية؛ حيث ورد في القرآن ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1) ، فهو مقام بعد الإيمان والعمل الصالح والتقوى بدرجات من المنازل العلْوية، ثم المذكور في هذه الآية هو التابعين المقيَّدين بقيد الإحسان، وهذا لا يكون إلاّ في المعصومين الذين لم يشهدوا الرسول الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وورد في رواية أن علياً عليه‌السلام ‏قرأ هذه الآية في زمن عثمان وقرأ بعدها آية السابقون السابقون، وقال متسائلاً عمَّن يشهد أنها نزلت فيمَن؟ فشهد عدة من الصحابة أنها نزلت في الأنبياء والأوصياء وفي علي، وكذا ينفي العموم ما ورد في مسلم (كتاب الفضائل - باب حوض النبي‏ صلَّى الله عليه وآله)، والبخاري (كتاب الفتن) مِن عرض الصحابة على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الحوض، إلاّ أن جماعات منهم يحال بينهم وبين رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويذادون عن الحوض، فيقول: (أصحابي أصحابي، فيقال: لقد أحدثوا أو بدلوا بعدك، فيقول: بُعدا بُعدا) (على اختلاف في ألفاظ الحديث)، وهي تؤكد أن الصحبة ليست هي الموجبة للنجاة، بل الموافاة على منهاج رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى الممات هو المناط في النجاة.

____________________

(1) المائدة: 93.

٤١٨

الحديث الخامس: (علي مني وأنا من علي)

هذا الحديث الشريف الذي تواتر نقله في كتب العامة والخاصة، دال - بلا ريب - على النشوية؛ وهي ليست البدنية فقط، بل هي وحدة بلحاظ الروح و النورية. وفي بعض الروايات قال جبرائيل: (وأنا منكما)؛ وهذا يدل على أن الوحدة من سنخ الملَك الغيبي العلوي اللطيف. وقريب من هذا المعنى ما ورد من أن (الناس معادن شتى، وأشجار شتى، وأنا وعلي من شجرة واحدة)، وبنفس البيان حديث النور الوارد (كنت أنا وعلياً نوراً بين يدي اللَّه...)

الحديث السادس: (يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل)

والتنزيل هو تلقِّي المقامات الكلية لحقيقة القرآن الكريم، والتأويل هو تطبيق تلك المقامات الكلية على الموارد و الدرجات المتوسطة و الجزئية العديدة. ولا يمكن لشخص أن يحيط بكل تأويل القرآن إلاّ أن يكون قد أحاط بمراتب القرآن، وأن تكون قواه خالية من الزلل والزيغ؛ ومنه يعلم أن النبوة في التنزيل والإمامة في التأويل، فهي تلو النبوة الخاتمة ومشتقة منها ومترتبة عليها. وفي كثير من الأحاديث نرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرن بين النبوة والإمامة المتمثلة بشخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي‏ عليه‌السلام ، مع بيان الفاصل بين الشأن النبوي والشأن الولوي.

تذييل:

بعد هذا الاستعراض لفقه الروايات الواردة في الإمامة نحاول أن نذكر عدد من التوصيات التي تنفع في المقام:

أولاً: إن قدماء الإمامية - وتبعاً للطرق المبيَّنة في الكتاب والسنة للمعصومين عليهم‌السلام - قد ذكروا عدة مناهج لإثبات إمامة الأئمة الاثنى عشر، سواء من متكلمي الرواة أو متكلمي الغيبة كالشيخ المفيد والمرتضى والطبرسي، ونحن نشير إلى تغاير صياغات أدلتهم ومواد قوالبها تنبيهاً على تعدُّد أشكالها وموادها المنطقية:

٤١٩

منها: التدليل على الكبرى بما ورد من نصوص عديدة تنص على أن الخلفاء بعد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر، وفي بعضها أنهم من قريش، وفي بعضها أنهم من بنى هاشم، وهذه طائفة من الأحاديث.

وقد وقع العامة في بلبلة وتشويش في كيفية التطبيق الخارجي للخلفاء الاثنى عشر، واختلفت أقوالهم، والبعض جعل بينهم فاصل ولم يشترط التتابع، والبعض أنهاهم قبل يوم القيامة مع أن في بعض الألسنة أن هؤلاء الخلفاء باقون حتى يوم القيامة. ولو بحث الباحث عن الحقيقة بعيداً عن التعصُّب، لَمَا رأى مصداقاً لهذا الحديث إلاّ لدى الإمامية الاثنى عشرية؛ حيث لا يوجد طائفة لديها تفسير لهذه الطائفة المتواترة إلاّ لدى الإمامية الاثنى عشرية، حيث إن الإمامة المنصوبة المجعولة من قبل اللَّه تعالى عندهم إلى يوم القيامة هي في الاثنى عشر.

ونشير إلى نكتة مهمة يلحظها المطالع لكتب التاريخ: أنه لم يدّع أحد لنفسه هذه المقامات وأنها خلافة الرسول طبقاً لهذا الحديث إلا الأئمة الاثنى عشر، فكانوا يدّعون علم الكتاب كلِّه وهم على مرأى ومسمع من الدولتين الأموية والعباسية قرابة ثلاثة قرون، ولم تفتأ تلك الدولتين من امتحانهم في العلوم المختلفة ومسائل الدين وأحكامه، بل كانوا يمتحنونهم في الفنون المختلفة وفي الصفات البدنية بغية منهم أن يقطعوا عليهم دعواهم، ولم تكتفِ الدولتين بما كان لديها من أفراد في العلوم المختلفة، بل كانت تستعين بعلماء النصارى واليهود والروم والهند وغيرها، وبأصحاب الرياضات المختلفة، وبمختلف وسائل القوى روماً في دحض دعوى هؤلاء الأئمة الاثنى عشر.

لكن الرصد التاريخي ينبئنا بفشل الدولتين في ذلك، وفشل علماء الفرق الإسلامية الأخرى في مقابلتهم، بل كان نجمهم يزداد تلألؤاً ممَّا يضطر السلطات إلى تصفية وجودهم المبارك، فكان ذلك تحدي وإعجاز للبشرية أجمع طيلة قرون ثلاثة.

وقد تحدوا جميع مَن حولهم أن يُقدِموا على مساجلتهم وقطع حجتهم ولم

٤٢٠