الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127237
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127237 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إلاّ كفر)) (1) ، وغيرها.

ويجيب عن ذلك: بأن المقصود بالضرب هو التفسير بالرأي الذي يؤدِّي إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها ودفع مقاصد بعضها ببعض.

ويستدلُّ العلاّمة على نظريَّته بأدلَّة وشواهد عدَّة:

منها: أن القرآن وُصف بأوصاف متعدِّدة، منها؛ إنه نور، وهدى، ومبين، وفرقان، وإن فيه بيان لكلِّ شي‏ء، وهذه كلها تدلُّ على عدم إغلاقه وإنَّه لا يحتاج إلى مفسِّر خارج عنه.

ومنها: أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي تحدَّى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس كافَّة أن يأتوا بسورة أو آية مثله؛ ومقتضى التحدِّي كونه واضحاً غير مبهم، فهو يبيّن نفسه بنفسه.

ومنها: وردت روايات عديدة ترشد إلى كيفية تمييز الحجَّة عن اللاّحجَّة من الروايات بالعرض على كتاب اللَّه؛ فهذا يعني أن في كتاب اللَّه البرهان الواضح والمفاهيم الساطعة التي يمكن فهمها وعرض الروايات عليها.

ومنها: قوله تعالى: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (2) تدلُّ على إمكانية نيل المعارف القرآنية، وأنه لا معنى لإرجاع ذلك إلى بيان السنَّة؛ لأن ما بَيّنه إمَّا أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام، وإمَّا أن يكون معنى لا يوافق الظاهر، فإن كان الأوّل، فهو ممَّا يؤدِّي إليه اللفظ ويمكن التوصل إليه ولو بعد التدبُّر، وإن كان الثاني، فهو ممَّا لا يلائم التحدِّي.

ومنها: ما ورد من الروايات التي كالنصِّ في ذلك؛ كرواية الباقر عليه‌السلام : ((فمَن زعم أن

____________________

(1) بحار الأنوار، ج92، ص39؛ ح1.

(2) النساء 4: 82.

٤١

كتاب اللَّه مبهم فقد هلك وأهلك)) (1) .

ومنها: ما ذكره في حاشيته على الكفاية:

ـ من أن حجية السنَّة منبثقة عن حجية الكتاب، فبينهما طولية؛ حيث قد ورد في القرآن حجية السنَّة ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ... ) (2) ( وَلَكُم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (3) .

ـ ويرى أن قوله: ( إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (4) يعني أنه لا يبطله شي‏ء، وبالتالي لا يُنسخ القرآن إلاّ بالقران. أمَّا ما اتفق عليه العامة والخاصة من إمكانية النسخ بالسنَّة القطعية، فمدفوع بهذه الآية.

تقييم نظرية العلاَّمة:

إن أصل ما ذكره العلاَّمة متين ونوافقه عليه، لكن النتائج التي رتَّبها على ذلك؛ من استقلال الإنسان في تفسير القرآن بالقرآن بعد معرفة طريقة أهل البيت، غير صحيحة، حتّى أنه (رضوان اللَّه عليه) لم يتَّبع ذلك في تفسيره.

وما ندَّعيه هو: أننا في تفسيرنا للقرآن نحتاج دائماً إلى الرجوع إلى السنَّة الشريفة؛ لأن المعصوم هو القيّم والحافظ للقران بدليل حديث الثقلين (5) ، والرجوع إليهم لا يعني نقصاً أو تقليلاً من حجيَّة القرآن، فلقد قُرِّر في علم الأصول

____________________

(1) بحار الأنوار، ج92، ص90، ح34.

(2) الحشر 59: 7.

(3) الأحزاب 33: 25.

(4) فصلت 41: 42.

(5) وسوف يأتي مزيد تفصيل في الفصل الثالث عند البحث في فقه الحديث.

٤٢

أن حجية الظواهر إنما تكون بعد استفراغ الوسع في البحث عن القرائن المنفصلة، سواء من القرآن أم من السنَّة القطعية - أو المعتبرة - أم من القرائن العقلية.

ولتقريب الفكرة نضرب مثالاً في علم الرياضيات؛ حيث أنه من العلوم المستقلة التي لا تعتمد على علوم أخرى، ويحتوي على بديهات ونظريَّات ومعادلات، لكن هل الجميع على حد سواء في هذا العلم؟ بالطبع لا، فالافهام تتفاوت، والعقول تختلف، ودرجات الإدراك ليست على حد سواء، فيحتاج إلى قيّم وحافظ يُدرك كلَّ شي‏ء ولا تستعصي عليه مسألة. ولا يكون هذا القيِّم إلاّ مَن اتصل بعالم الغيب ونهل معرفته من العقل المحيط، كما نرى في أجوبة مسائل أمير المؤمنين في باب الإرث.

وعليه؛ فإنا نقول: إن الأفهام بما أنها متفاوتة في فهم القرآن واستظهار معانيه؛ لذلك يحتاج إلى قيّم وحافظ، فهمُه محيط بكلِّ معاني القرآن، فيُسترشد بفهمه دائماً.

وأمَّا ما استدل به العلاَّمة؛ من الدعوة إلى التدبُّر الواردة في القرآن، فيجاب عليها: بأن التدبُّر المشروط لا ينافي التدبُّر، والشرط هو الاسترشاد بروايات أهل بيت العصمة، بل إن العلاَّمة - كما ينقل عن سيرته - لم يبدأ التفسير حتّى قرأ بحار الأنوار قراءة دقيقة بتفحُّص، ثُم بدأ في تفسير القرآن، وما ذاك إلاّ مِن أجل مراعاة خط أهل البيت وفهمهم في تفسير القرآن.

نعم، الدعوة إلى التدبُّر تقع في قبال السلب الكلي الذي ادَّعاه الإخباريون؛ من عدم إمكانية فهم القرآن إلاّ من خلال الروايات.

* وأمَّا الإعجاز والتحدِّي، فهو ممكن، لكنَّه غير مشروط بأن يصل فهم الكافرين إلى كلِّ بطون وأسرار القرآن، بل مع الفهم البسيط إلى بعض أسرار القرآن وعجزهم

٤٣

عن الإتيان بمثله أكبر دليل على إعجاز القرآن وأنه من عند اللَّه. بالإضافة إلى أن جهات الإعجاز في القرآن كثيرة؛ لِمَا يحتوي من أسرار الخلق وشؤون النظام والمعارف العقلية، وهذا كلُّه دليل على ضرورة وجود القيّم والحافظ للقران الذي يرشد إلى تلكم المعارف، ويأخذ بيد المتعلِّم والمتدبِّر إلى بطون القرآن التي لا تنالها الافهام العادية.

* وما ذكره من أن جميع الحجج منبثقة من الكتاب، أمر لا ينكر، لكنَّه لا يعني انحصار حجية السنَّة بالكتاب؛ ذلك لأن المعجزات الأخرى للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله تثبت رسالته وحجيته كما هو الحال في بدء الدعوة، بل إن في بعض الآيات ما يشير إلى حجية الكتاب وصدق ما أنزل، بتوسط صفات النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الصدق والأمانة ( ... أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ... ) (1) ( ... فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً... ) (2) وكذلك حجيَّة كلام الأئمَّة عليهم‌السلام يُعلم بمعجزاتهم وبليغ خطابهم وإخبارهم عمَّا هو مجهول في ذلك العصر، وإلى قرون متمادية لاحقة.

* أمَّا ما ذكره من روايات عرض السنَّة على الكتاب، فقد تقرَّر في علم الأصول بأن السنَّة بعضها قطعي ولا معنى للعرض. أمَّا الخبر الظني الصحيح، فمعنى عرضه هو عدم مباينته للكتاب، وليس المراد الموافقة التفصيلية، وكذلك يعرض على السنَّة القطعية.

وأمَّا حديث النسخ وامتناعه، فهو غريب منه؛ لأن القرآن قد صرَّح بصدق الرسول وحجيَّة خبره، فما المانع من النسخ؟

ونورد عليه نقضاً: بأن القائلين بهذه النظرية - من العامة والخاصة - متعدِّدون، ومع ذلك لا نراهم يتَّفقون في تفسير الآيات، وهذا الاختلاف إمَّا راجع إلى الخطأ في

____________________

(1) المؤمنون 23: 69.

(2) يونس 10: 16.

٤٤

المنهج، أو خطأ في التطبيق. أمَّا الأوَّل، فذكرنا إنه صحيح في نفسه، فتبيَّن أن الاختلاف راجع إلى الثاني؛ حيث يجب الاسترشاد بالروايات، لا الانعزال التام عن السنَّة؛ حيث أن المنهج وحده لا يوجب العصمة في التطبيق.

* وقد أرشد القرآن الكريم إلى حَفَظَته بقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ ) (1) فهم الحافظون للكتاب المطلعون على أسراره، وبدونهم لا يمكن الاهتداء إلى بطونه، ولا يمكن التدبر في آياته.

تنبيه: يجب التفرقة بين طائفتين من الروايات؛ إحداهما: هي الروايات المبيِّنة لتفسير الآيات، فمعها لا يمكن الاعتماد على الظاهر القرآني، والأخرى: هي الروايات المتعرِّضة للتأويل التي لا تمنع من حجية الظاهر، بل يبقى الظهور على حجيَّـته.

[كيفية الملائمة بين حُجِّـيَّة الكتاب والسنَّة والعقل]

النقطة الثانية: في الملائمة بين الحجج. وقد ذكرت في ذلك نظريَّات متعدِّدة، والذي نراه أن الكتاب والسنة والعقل حجج متكافلة متضامنة فيما بينها، تشير جميعها إلى حقائق واحدة، ويجب الرجوع في كلٍّ منها إلى المحكم منها، لا المتشابه، ويجب الابتداء بالعقل؛ لأن إليه ترجع كلُّ الحجج، ولْيَكُنْ هو الأساس. والاسترشاد بالأدلَّة الواردة في القرآن الكريم في ‏باب التوحيد؛ والسرُّ في ذلك، أن العقل مع كونه هو المبدأ في حركة الإرادة إلاّ إنه ليس بالعقل المحيط ولا المرتبط بالوحي، فيجب حتّى يأمن الخطأ ويسير في الجادة الصحيحة أن يرتبط بالوحي؛ وهو على نحوين؛ أحدهما: القرآن الكريم، والآخر هو: السنة النبوية والمعصومة.

وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

____________________

(1) العنكبوت 29: 49.

٤٥

٤٦

المبحث الثاني:

حُجِّـيَّة السنَّة

وكما تقدَّم في حجية الكتاب؛ ليس البحث في أصل حجية السنَّة، فإنه موكول إلى مباحث أخرى من علم الكلام وإلى علم الأصول، بل البحث في نكات جانبية لم يثرها الأصوليُّون:

أوَّلاً - أقسام الحديث:

ذكروا للحديث أقساماً متعدِّدة؛ منها: المتواتر، والمستفيض، والآحاد. وقسَّموا الأخير إلى أقسام؛ منها: الصحيح، والحسن، والموثَّق، والضعيف، والمعلَّّل...

وليس الغرض التعرُّض إلى هذه الأقسام، فهو موكول إلى علم الدراية؛ بل الإشارة إلى عدد من المطالب يجب ملاحظتها في العمل الروائي:

أ - ذكروا في تعريف المتواتر أنه: إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب. وقد قُسِّم المتواتر - كما نبَّه إليه المحقِّق الخراساني - إلى لفظي ومعنوي وإجمالي. وقد ذكروا أن تعدُّد الجماعة يجب أن يكون في كلِّ الطبقات وإن اختلفوا في تحديد العدد المطلوب (1) ، لكن الصحيح هو عدم التعبُّد بعدد معين، بل الضابطة هي امتناع التواطى‏ء على الكذب.

____________________

(1) راجع: مقباس الهداية، ج1، 111.

٤٧

وهذا يعني أن إنتاج المتواتر إنما يكون لضابطة رياضية وقلَّة احتمال الكذب، بل انعدامه في بعض الصور. وما دام إنتاج الخبر المتواتر للعلم عبر تلك الضابطة الرياضية، فإنَّنا نخلص إلى عدم اشتراط تساوي دائرة التواتر في كلِّ الطبقات، بل قد يكون في بعض الطبقات واسع الانتشار بينما ينحسر ذلك في دائرة أضيق في الطبقات الأخرى، فيقتصر على فئة معينة أو بأصحاب مسلك معين، وهذا لا يخدش في التواتر. والسرُّ في ذلك، أن احتمال الكذب كما يتأثر بالجانب الكمي كذلك يتأثَّر بالجانب الكيفي الذي يُعرف بتمييز طبقات الرواة وكيفية اختلاطهم، والوضع السياسي والاجتماعي لكلِّ طبقة.

ومن هنا نخلص إلى أن وجود تواتر بدائرة معينة في حديث ما في طبقة معينة وهي الأُولى، وانحسار تلك الدائرة من التواتر في الطبقات الأخرى، لا يمنع من اعتبار الخبر متواتراً، إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الجهة الكيفية. فتحصَّـل: أن التواتر على درجات؛ فقد يكون واسع الانتشار بين الناس، وقد يختصُّ بطبقة دون أخرى، وبفئة معينة دون أخرى، لكن ذلك كلّه لا يخدش بالتواتر وتحقُّقه ضمن دوائر متعدِّدة تختلف سعة وضيقاً.

ويمكن تمثيل ذلك بعلم اللغة؛ من صرف ونحو وبلاغة... فإن التواتر بدائرته الوسيعة التي كان عليها في عموم مَن ينطق بالضاد في طبقات عديدة متأخرة، قد انقطع وانحصر وجود التواتر بالدائرة المزبورة بالطبقات الأولى. وأمّا وجود التواتر في الطبقات اللاَّحقة، فهو بدائرة أهل الاختصاص بالأدب اللغوي، وهم الحاملون لتراث اللغة عن الاندراس بكامل خصوصيَّاته جيلاً بعد جيل. وهذا لا يمنع من ثبوت اللغة وشواهدها بالتواتر، ولو ضمن طبقات أهل الاختصاص الأدبي. وكذا الحال في بقيَّة الاختصاصات والفنون. ومِن ثَمَّ قسَّموا الضرورات في العلوم وعلم المنطق إلى ضرورات عامة عند عموم الناس، وضرورات خاصة عند خصوص شرائح معينة، وهذا يدلُّ على عدم

٤٨

اشتراط حصول التواتر بدائرة ثابتة في جميع الطبقات حتّى الآن، بل يكفي حصوله بأيِّ دائرة في البعض مع مراعاة ضابطة التواتر.

وبتعبير أخر، إذا حصلت ضابطة التواتر في طبقةٍ، فإن عدم حصوله بتلك الدائرة بعينها في طبقات أخرى لا يخدش في ذلك، ولا يمكن الاستدلال على عدم قطعية الحديث وبطلانه بعدم التواتر بدائرة ثابتة في بعض الطبقات وجهل كثير من الناس له، والأمثلة على ذلك متعدِّدة؛ فإن هناك دوائر من التواتر على نطاق البشرية جمعاء، وتواتر على نطاق المسلمين خاصة، وتواتر على نطاق الطائفة الإمامية... وهلمَّ جرَّا، مادامت شرائط التواتر منحفظة في الدوائر المختلفة، وإنْ كانت بين درجات الضرورة والتواتر المتعدِّدة اختلاف كبير. ولا يخفى أن جهة بحثنا هذا هو من زاوية النقل والصدور، لا من زاوية مضمون المنقول وتمامية موازينه.

ونتيجة لِمَا تقدَّم، لا وقع للتعجُّب من تواتر الخبر الواصل إلينا وإنْ ضُيِّـقت دائرة التواتر، وهذا ما نراه في بعض الأحاديث التي هي مواد خلاف بين المسلمين كحديث الغدير والثقلين؛ حيث نجد أن دائرة التواتر في الصدر الأوَّل واسعة، ثُم تنحسر هذه الدائرة في العصور المتأخر حتّى تكاد تقتصر في نطاق ضيِّق لدى المتخصِّصين في هذا الفن.

وأخيراً نشير إلى أن التواتر على درجات كما أن اليقين والجزم على درجات، واختلاف الدرجات لا يعني عدم التواتر.

ب - إن النقطة المهمَّة في التواتر هو التكرار الذي يحصل في روايات مختلفة، وهذا هو المحصِّل للتواتر اللفظي والمعنوي والإجمالي. ومن هنا تبرز أهمية الأخبار الضعيفة (غير الموضوعة أو المدلَّسة) حيث أنها تمثِّل المادة والمنبع الذي يحقِّق التواتر. فما يدَّعيه البعض من وجوب غربلة الأحاديث، وترك الضعيفة والاقتصار على

٤٩

الأخبار المعتبَرة فقط، دعوى جهالة، وحديث لا أساس له من الموازين العلمية والصحة. ويمكن إبراز فوائد تلك الأخبار فيما يأتي:

1 - إن الأخبار الضعيفة تمثِّل مادة ومنبع المتواترات.

2 - إن الأخبار الضعيفة إذا كانت محفوفة بقرائن توجب الوثوق بالصدور تجعلها معتبرة يعتمد عليها.

3 - إن المطالع والمتتبِّع في تاريخ البشرية يلاحظ اعتماد الناس على الخبر الضعيف بلحاظ التواتر أو الاستفاضة، وهذا هو الذي يجعل الخبر موثوقاً بصدوره. وخير مثال على ذلك الإخبار عن الأمم والقرون الماضية؛ حيث أن مادتها الأولى أخبار لا ترقى إلى الصحاح، مع قبول الناس لها بلحاظ ما تفيده من الوثوق بصدورها؛ وتحليل ذلك يعود إلى ما يسمّى بعملية (حساب الاِحتمال) وتصاعده البالغ لذلك الحد من الوثوق طبقاً للقواعد الرياضية البرهانية.

4 - إن المباني في قبول الأخبار مختلفة ومتنوِّعة؛ فكم من خبر رفض الشهيد الثاني العمل به بينما صحَّحه المتأخرون، خصوصاً بعد بزوغ طريقة التحليل المشابه للتحليل التاريخي، والاستفادة من طبقات المحدِّثين التي ابتكرها السيِّد البروجردي والمحقِّق والأردبيلي صاحب جامع الرواة، وعليه لا يمكن اعتمادها ضابطة عامة لتضعيف الخبر، فالضابطة اجتهادية.

5 - إن الخبر الضعيف(الذي لا يُعلم وضعه أو تدليسه) يحرم ردُّه وإن لم يجب العمل به؛ إذ بين حرمة الردِّ والحجية فَرق، كما حُرّر في علم الحديث والأصول، ولم يخالف في هذا الحكم أحد. وتلك الغربلة تعني الرد.

6 - إن الخبر الضعيف إنْ لم يجب العمل على طبقه، فإنه يُفيد في مواطن عدَّة؛ من باب توليد طرح الاحتمال، فهو ليس بأقل - بل يفوق - استدلالاً منقول عن أحد الحكماء أو العلماء السابقين، فأيُّ ضرر فيها إن اُعتبرت إشارتها إلى احتمال من

٥٠

الاحتمالات.

ج - إن الخبر الضعيف لا يساوي الخبر الموضوع أو المدلَّس، وهذه نكتة قلَّ الالتفات إليها، وهي إحدى الأسباب التي أدَّت إلى ترك الأخبار الضعيفة. فإننا نسلِّم أن الأخبار الموضوعة المدلَّسة يجب طرحها وإهمالها وتركها إذا عُلم وضعها وتدليسها؛ حيث اُتفق على أنه إذا ثبت كون حديث موضوعاً، حرمت روايته؛ لكونها إعانة على الإثم وإتيان للفرية في الدين. وأمَّا ما كان ضعيفُ السند غيرَ الموضوع، فلا بأس بروايته مطلقاً. نعم، العمل على طبق ما فيه يحتاج إلى جبر الضعف (1) ، وقد وضع العلماء(أعلى اللَّه مقامهم) طُرق وقرائن لكشف الحديث الضعيف الموضوع عن غيره؛ فمثلاً مجرَّد اتصاف الراوي بالكذب لا يعني وضع الخبر؛ فإن الكذوب قد يصدق، كما في وهب بن أبي وهب، كما إنا نلاحظ أن طائفة كبيرة قد وُصفت بالكذب لمجرد روايتها لأخبار المعارف.

فما ثبت وضعه وتدليسه من الأخبار الضعيفة، يجب ردُّها وتركها. أمَّا الأخبار الضعيفة كلها، فلا يجوز ردُّها؛ خصوصاً أن لدينا ضوابط سهلة يمكن بواسطتها تمييز الوضع والتدليس؛ كعرضها على المحكمات في الكتاب والسنَّة والعقل. وبالتالي لا يكون نقل الأحاديث الضعيفة تغريراً على المسلمين؛ حيث أن الخبر الضعيف مهما بلغ شأنه لا يمكن أن يحرف المسلمين عن جادة المحكمات في الحجج الثلاث. ومن هنا تساهل القوم في نقل الضعاف؛ لِمَا لها من فوائد جمّة في الحجية، ولا مجال لتوهُّم اتحادها مع أخبار الوضع والدس (2) .

د - إن المسألة المهمَّة التي يجب الالتفات إليها؛ هي: مسألة تجميع القرائن حتّى يوثق بصدور الرواية عن المعصوم؛ حيث من النادر أن تكون قرينة واحدة كافية

____________________

(1) مقباس الهداية، ج1، ص417. وقد ذكر أن الحديث الضعيف ينقسم إلى 15 قسماً.

(2) راجع: مقباس الهداية، ج1، 400.

٥١

لإثبات الصدور، بل تتجمَّع القرائن من هنا وهنالك. وهذا على غرار ما ذكرناه في بحث الرجال؛ من أن المشيخة، أو ورود الراوي في أحد الأصول المعتمدة، كلها قرائن، مع اجتماعها تفيد التوثيق، لا أن كلَّاً منهما بمفرده يفيد التوثيق. وهذا أيضاً على غرار ما ذُكر في بحث الإجماع؛ حيث ذكر الشيخ - تبعاً لصاحب المقابيس: أن قيمة الإجماع بكونه جزء الحجة تنضم إلى الحجج الأخرى، لا أنه حُجَّة مستقلة.

ومن القرائن التي تذكر في هذا الباب: الشهرة العملية والروائية، بل حتّى الفتوائية؛ وهي ممكنة الحصول في باب الاعتقادات من ملاحظة كتابي الاعتقادات و الأمالي للصدوق. والشهرة وإن نوقش في مدى جبرها للضعف، لكن على ما ذكرناه في المقام؛ تكون قرينة من القرائن، لا أنها قرينة مستقلة.

ومنها: أن يرد الخبر في بعض الكتب المعتبرة ككتب صفوان بن يحيى أو محمد بن الحسين بن أبي الخطَّاب الزيَّات، والحسن بن محبوب المعروفين بضبطهم.

ومنها: إنه يروي الخبر راوٍ هو على مذهب مخالف لِمَا يرويه من مضمون. وغيرها من قرائن توثيق الصدور المحرّرة في تلك المسألة.

هـ - نشير أخيراً إلى قسم من أقسام الحديث هو: المستفيض، وهو الخبر الذي يقرب من المتواتر ويرتفع عن الآحاد؛ حيث أن رواته لم يبلغوا حد التواتر، لكنَّه يكون مؤيَّداً ومدعوماً من جهة القرائن الداخلة والخارجة، فيصبح مستفيضاً. والخبر المستفيض، أو الموثوق الذي بدرجته، يصحُّ الاستناد إليه كما هو مقرَّر في علم الأصول، بل درجة حجيَّـته تفوق الخبر الصحيح.

٥٢

ثانياً: أحوال الكتب الأربعة والمصادر الروائية:

وفي بحث الكتب توجد مسألتان يجب معالجتهما قبل الاستناد إلى أيِّ كتاب:

أوَّلاً : إثبات نسبة هذا الكتاب إلى المؤلف.

ثانياً : إثبات أن هذه النسخة الواصلة إلينا هي النسخة التي ألَّفها المؤلِّف، ولم تصل لها يد التحريف.

وعلم الدراية هو العلم المختصُّ بمعالجة هاتين المسألتين، لكنَّهم لم يذكروا سبيل العلاج على نحو مفهرس، لكنّا نستطيع - عملاً - اقتناص بعض النقاط لتوضيح منهجهم في العمل:

1 - الإلمام بكتب الفهارس؛ حيث أنها تختص بذكر كتب الطائفة وأسماء مؤلِّفيها.

2 - التعرُّف على سلسلة إسناد وطُرق صاحب الفهرست للكتاب أو صاحب المجاميع الروائية المتأخرة أو المتقدِّمة، فيُعرف أنه لم يذكره في فهرسته اعتماداً على الشياع ونحوها، بل بطريق مسلسل مسند.

3 - التعرُّف على مدى اشتهار الكتاب بين طبقات المحدِّثين والفقهاء، وذلك بملاحظة:

أ - سلسلة الإجازات المعروفة كإجازات العلاَّمة المجلسي، وإجازة العلاَّمة الحلِّي لابن زهرة، وكذلك إجازات صاحب الوسائل.

ب - متابعة كتب الاستدلال في الأحكام الفرعية بحسب القرون المتعاقبة؛ حيث يعلم منها مدى اشتهار الكتاب، وهذا يفيدنا فيما نحن فيه باعتبار ملاحظة روايات الاعتقاد المذكورة فيه.

4 - من خلال ملاحظة المجاميع الروائية في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، فإنه يُعلم منها أن لكلٍّ منها طريق خاص إلى الكتب الروائية الأم، مع افتراق

٥٣

أصحاب ومؤلِّفي المجاميع بين الأمصار، ومنه يُعلم مدى اشتهار تلك الكتب الروائية وتوفُّرها بين المحدِّثين.

5 - مراجعة النسخ المختلفة، الخطية وغيرها، وعدم الاكتفاء بما هو مطبوع منها.

6 - ملاحظة الحواشي والتعاليق والملْكيَّـات الحاصلة على النسخ الخطية؛ حيث يتبيَّن من خلالها مدى معروفية النسخة وتوثيقها.

7 - يجب على المتتبِّع والباحث أن يلفِّق ويقارن بين الطُرق المختلفة ويستعين بكتب مختلفة من أجل أن يحرز صحة رواية أو صحة نسبة كتاب لمؤلِّفه؛ فمثلاً في العصور المختلفة إلى أصحاب المجاميع، يستعان بكتب: الذريعة، ورياض العلماء، وأعيان الشيعة، وطبقات الشيعة وغيرها، ومن أصحاب المجاميع كـ: الوسائل، والبحار، والوافي، وتفسير البرهان وغيرها، ويستعان بما يذكره المؤلف في مشيخته أو فهرسته أو كتبه الأخرى، وقد ترد طبقات مجهولة تقريباً، وهي ما بين أصحاب الكتب الأربعة وما بعدهم؛ لذا يجب أن يتم التتبُّع والمقارنة والتلفيق بين كتب مختلفة. مثال ذلك: رواية القطب الراوندي في باب ترجيح الروايات، رواها صاحب الوسائل في/ باب 9/ من أبواب صفات القاضي، ومشكلة هذه الرواية مع أهميَّتها أن صاحب الوسائل يرويها عن رسالة للقطب الراوندي في رسالة ألَّفها في أحوال أحاديث أصحابنا، ولم يرد ذكر هذه الرسالة في كلام مَن عدَّد وذكر مصنفات الراوندي، لا سيما تلميذه ابن شهر آشوب ومنتجب الدين، وقد توسَّل السيِّد الشهيد الصدر بطرق عدَّة للتصحيح هذه الرواية والتلفيق بين اسناد وطرق مختلفة (1) .

____________________

(1) انظر: تعارض الأدلة الشرعية، ص 349ـ 357.

٥٤

ثالثاً: العلم الإجمالي بوجود الدس:

من المسائل المثارة في علم الحديث هو دعوى وجود علم إجمالي بحصول دسٍّ ووضع في الأحاديث والروايات، وقد ذكرها الشيخ الأنصاري في كتاب الرسائل في حجية خبر الواحد. ومن القرائن على دعوى حصول هذا الدس، ما ورد من روايات عن الأئمة بوجود كذَّابين؛ منها:

ـ ما رواه الكشِّي في ترجمة عبد اللَّه بن سبأ عن الصادق‏ عليه‌السلام : (إنَّا أهل بيت صدِّيقون، لا نخلو من كذَّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلِّها وكان مسيلمة يكذب عليه) (1) .

ـ ما رواه في ترجمة المغيرة بن سعيد (2) عن الرضا عليه‌السلام أنه قال: (إن أبا الخطَّاب كذب على أبي عبد اللَّه عليه‌السلام . لعن اللَّه أبا الخطَّاب). وعن أبي عبد اللَّه‏ عليه‌السلام أنه قال: (كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي، فيدفعونها إلى المغيرة لعنه اللَّه، فكان يدسُّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي، ثُم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثُّوها في الشيعة. فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو، فذاك ما دسَّه المغيرة بن سعيد في كتبهم).

ـ وقد وصف الرضا عليه‌السلام وهب بن أبي وهب البختري: (لقد كذب على اللَّه وملائكته ورسله).

وهذه القرائن وغيرها تكون محقِّقة لعلم إجمالي بوجود الدس والوضع والتزوير في الأخبار التي بين أيدينا، وهذا العلم الإجمالي هو الذي دعا البعض إلى

____________________

(1) رجال الكشِّي، ج1، ص324.

(2) المصدر، ج2، ص490.

٥٥

ادعاء انسداد باب العلم بالأحكام عن طريق الأحاديث، لكن في قبال هذا العلم الإجمالي بالدس يوجد لدينا علم ويقين بما سعى إليه العلماء والمحدِّثون في إزالة هذا الدس، وهو يوجب زوال وانحلال العلم الأوَّل، وهذا العلم الثاني متولِّد من قرائن:

1 - ما ورد من عرض الكتب على الأئمَّة.

منها: ما رواه الكشِّي عن داود بن القاسم، أن أبا جعفر الجعفري قال: أدخلت كتاب يوم وليلة الذي ألَّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري‏ عليه‌السلام فنظر فيه وتصفَّحه كلَّه، ثُم قال: (هذا ديني ودين أبائي، وهو الحقُّ كلُّه) (1) .

ومنها: ما رواه الكشِّي (2) في ترجمة الفضل بن شاذان، من أن أبا محمد عليه‌السلام دخل عليه حامد بن محمد - الملقَّب بغورا - الذي بعثه الفضل بن شاذان، فلمّا أراد أن يخرج، سقط منه كتاب في حضنه، ملفوف برداء له، فتناوله عليه‌السلام ونظر فيه، وكان الكتاب من تصنيف الفضل، وترحَّم عليه.

ومنها: ما ورد في عرض كتاب سليم بن قيس على السجاد عليه‌السلام .

ومنها: عرض كتاب ظريف بن ناجح في الديات على ابي عبد اللَّه‏عليه السلام والرضاعليه السلام (3) .

ومنها: ما ذكره الحرُّ العاملي (4) حول عرض كتب يونس بن عبد الرحمن، وكتب بني فضال، والفضل بن شاذان، وعبيد اللَّه بن علي الحلبي على

____________________

(1) رجال الكشي، ج2، ص780.

(2) المصدر، ج2، ص820.

(3) الوسائل، باب 8 من أبواب صفات، ح 32.

(4) المصدر، باب 8 من أبواب صفات، ح 73ـ81.

٥٦

الصادق عليه‌السلام .

مضافاً إلى روايات كثيرة تثبت أن الأصحاب كانوا يعرضون كتبهم على الأئمة أو نوَّابهم، كالعرض على الحسين بن روح، ويصحِّحه الأئمة أو ينكرونه أو يقبلونه.

2 - إن أصحاب الكتب كانوا يدقِّقون في الكتب والروايات، ولا يودعونها إلاّ بعد أن يتيقَّنوا عدم الدس، كتشدُّد القميِّين في قبول الرواية وإخراجهم الضعاف أو مَن يروي عن الضعاف من قم، وكاستثنائهم لروايات كتب الحديث كالذي استثنوه من نوادر محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري وما نقل من تشدُّد محمد بن الحسن بن الوليد معروف. ومن يتصفَّح تراجم القميِّين يراه حافلاً بعملية تصفية وغربلة الأحاديث.

3 - ما ورد في ترجمة العديد من الرواة من أنه لا يروى ولا يرسل إلاّ عن ثقة كابن أبي عمير وغيره.

4 - اهتمام الأصحاب بكتب الفهارس والتي غرضها تصحيح السند إلى صاحب الكتاب. وقد بدأ تصنيف الفهارس من الحسن بن محبوب.

5 - ما ورد في طريقة رواتهم؛ حيث لا يعتمدون على التلقِّي فقط، بل يروون عمَّن سمع من الثقات. أمَّا مَن وُجد في الكتب فقط، فيتحرَّزون في الرواية عنه حتّى أن علي بن الحسن بن فضال لم يرو كتب أبيه الحسن عنه، مع مقابلتها عليه، وإنما يرويها عن أخويه أحمد ومحمد عن أبيه؛ واعتذر عن ذلك بأنه يوم مقابلة الحديث عن أبيه كان صغير السن ليس له كثير معرفة بالحديث.

وملاحظة ديدنهم في كتب الأمالي، وما ذكره الميرزا النوري من أن التهذيب وصل إليه وعليه توقيع تلامذة الشهيد الثاني، وأنهم قرأوه عليه، وكذا ما ذكره الفخر في الإيضاح عن التهذيب، يظهر مدى عناية المحدِّثين في النقل والرواية.

6 - ما هو منقول في كيفية تصنيف كتب الحديث، فالكليني قضى عشرين سنة

٥٧

في التصنيف، وهذه الفترة إنما احتاج إليها لأنه كان يدقِّق في الحديث وينتقي من بين الأحاديث.

7 - ما ذكره أصحاب المصنَّفات كما في الفقيه وكامل الزيارات؛ من أنهم لا يكتبون من الأحاديث إلاّ ما يعتقدون حجيَّته بينهم وبين اللَّه، وأنهم رووه عن المشايخ الثقات و قرأوه عليهم من الكتب المعتبرة. مضافاً إلى أن خصوص القرائن المولّدة للعلم الإجمالي الأوّل هي بنفسها مذيَّلة بما يوجب انحلالها؛ فإن الأئمة عليهم‌السلام ‏كانوا على ترصّد ومراقبة لِمَا يدلّسه أولئك الكذَّبوان، وذكروا ضوابط لمعرفة الحديث المدلَّس والموضوع من أولئك؛ بحيث تمَّت عملية الغربلة في ذلك الحين مضافاً إلى ضوابط روايات العرض على الكتاب والسنة القطعية. فيتحصل: أن القرائن الكاشفة عن اهتمام الأصحاب بتنقيح الأخبار كثيرة جدا، ممّا يدعو إلى انحلال العلم الإجمالي الأول، و أن الأحاديث التي بين دفتي كتب المتأخرين صادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ، هذه بالإضافة إلى أن قرائن الدسِّ المزعومة - ممَّا هو حاصل في مسائل معروفة معينة - إنْ أدَّى إلى الانسداد، فإنه يسدّه في بابه، لا في كل الأبواب كما ذهب إليه البعض، فدائرة العلم الإجمالي الأوَّل ليست واسعة حتّى تشمل كل الروايات ويؤدِّي إلى القول بالانسداد في جميع أبواب الفقه.

٥٨

المبحث الثالث:

حُجِّـيَّة العقل

وينقسم العقل إلى قسمين: نظري، وعملي.

1 - العقل النظري: هو القوَّة الموجودة في الإنسان المجرَّدة عن المادة والتي بواسطتها يحصل الإدراك، وهي تنطلق من رأس مال البديهيَّات والفطرة، وهو معصوم فيها، ومنها ينطلق إلى النظريات والتي لا يكون معصوما فيها. وتجدر الإشارة إنه في بديهيَّاته لا يكون خالقاً لها، وإنما تصل إليه عن طريق اتصاله بالعوالم العالية عن طريق الإلهام الفطري أو الإيحاء.

ـ والحقائق التي يقوم على إثباتها العقل النظري غير متناهية، بل متطوِّرة؛ فبعض الحقائق عجز عن إثباتها بالبرهان الفلاسفة المتقدِّمون كابن سينا، بينما أثبتها المتأخرون، نظير: المعاد الجسماني؛ فقد عجز عن ذلك ابن سينا، بينما أثبتها صدر المتألِّهين مسترشداً بالدليل النقلي. وكذلك مسألة الرجعة، فقد أثبتها من المتأخرين بالبرهان أبو الحسن الرفيعي (1) ، فعدم إقامة السابقين الدليل العقلي على مسألة لا يعني عدم إمكان المتأخرين على ذلك، فليس مَن سبق كمَّلَ العقول حتّى يمتنع على المتأخرين إقامة البرهان، بل العقول في سير تكاملي؛ إذ الفحص والاسترشاد بالوحي يفتح أبواباً واسعة من العلوم والمعارف العقلية.

____________________

(1) مجموعة رسائل و مقالات فلسفي[ بالفارسية]، للحكيم المحقق العلاّمة الرفيعي، ط انتشارات الزهراء، طهران.

٥٩

ـ ما ثبت بالقطع من الوحي المحمدي يعتبره فلاسفة العهد الإسلامي وسطاً برهانيا؛ وذلك لأن الشريعة الحقَّة ثبتت بالبرهان، وكذلك ثبتت القدرة الغيبية بالبرهان، ومع ذلك لا يختلط علم الكلام بالفلسفة؛ لأن الأوَّل يعتمد التعبُّد الظنِّي أيضا.

ـ إن كثيراً من روايات المعارف ذُكر فيها الاستدلال العقلي، فالعمل بها لا يكون من باب التعبُّد بالنقل، بل يكون عقلياً وبرهانياً أيضاً.

2 - العقل العملي؛ عرّفوه بأنه: القوَّة المدرِكة للقضايا التي ينبغي أن يقع العمل عليها.

ومنذ القدم بزغ الخلاف؛ في أن العقل العملي والنظري قوَّتان مختلفتان أم أنهما قوَّة واحدة والاختلاف بينهما من حيث المدرَكات؟ والصحيح أنهما قوَّتان مختلفتان، وقد ذُكر لذلك أدلة متعدِّدة، نذكر منها دليلان:

1 - ويتكوَّن من مقدِّمتين:

الأولى: ما قرَّره الفلاسفة في علم النفس من أن التعرُّف على قوى النفس إنما يتمُّ باختلاف أثارها؛ فكلُّ أثر يكون ويتمُّ عن درجة معينة من درجات النفس.

والثانية: أن الفلاسفة قرَّروا في الحكمة العملية أن كمال الإنسان يكون عندما تنصاع قواه السفلية إلى القوة العقلية؛ أي أن القوة العقلية تُدير القوَّة الوهمية والحسية والشهوية والغضبية، بمعنى أن القوة العقلية تقوم بالتأثير في هذه القوى والهيمنة عليها، وهذا يعني أن القوة العاقلة لها عملان: إدراك، وتأثير، وهو عمل من غير سنخ الإدراك، فهذا يدل - بضميمة المقدمة الأولى - على أنه توجد قوَّتان عقليَّـتان: نظرية وظيفتها الإدراك، وعملية وظيفتها العمل والتأثير.

2 - إن آخر التحقيقات لدى صدر المتألِّهين أدَّت إلى القول بأن التصور

٦٠