الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137327 / تحميل: 8161
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

إلاّ كفر)) (١) ، وغيرها.

ويجيب عن ذلك: بأن المقصود بالضرب هو التفسير بالرأي الذي يؤدِّي إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها ودفع مقاصد بعضها ببعض.

ويستدلُّ العلاّمة على نظريَّته بأدلَّة وشواهد عدَّة:

منها: أن القرآن وُصف بأوصاف متعدِّدة، منها؛ إنه نور، وهدى، ومبين، وفرقان، وإن فيه بيان لكلِّ شي‏ء، وهذه كلها تدلُّ على عدم إغلاقه وإنَّه لا يحتاج إلى مفسِّر خارج عنه.

ومنها: أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي تحدَّى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس كافَّة أن يأتوا بسورة أو آية مثله؛ ومقتضى التحدِّي كونه واضحاً غير مبهم، فهو يبيّن نفسه بنفسه.

ومنها: وردت روايات عديدة ترشد إلى كيفية تمييز الحجَّة عن اللاّحجَّة من الروايات بالعرض على كتاب اللَّه؛ فهذا يعني أن في كتاب اللَّه البرهان الواضح والمفاهيم الساطعة التي يمكن فهمها وعرض الروايات عليها.

ومنها: قوله تعالى: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (٢) تدلُّ على إمكانية نيل المعارف القرآنية، وأنه لا معنى لإرجاع ذلك إلى بيان السنَّة؛ لأن ما بَيّنه إمَّا أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام، وإمَّا أن يكون معنى لا يوافق الظاهر، فإن كان الأوّل، فهو ممَّا يؤدِّي إليه اللفظ ويمكن التوصل إليه ولو بعد التدبُّر، وإن كان الثاني، فهو ممَّا لا يلائم التحدِّي.

ومنها: ما ورد من الروايات التي كالنصِّ في ذلك؛ كرواية الباقر عليه‌السلام : ((فمَن زعم أن

____________________

(١) بحار الأنوار، ج٩٢، ص٣٩؛ ح١.

(٢) النساء ٤: ٨٢.

٤١

كتاب اللَّه مبهم فقد هلك وأهلك)) (١) .

ومنها: ما ذكره في حاشيته على الكفاية:

ـ من أن حجية السنَّة منبثقة عن حجية الكتاب، فبينهما طولية؛ حيث قد ورد في القرآن حجية السنَّة ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ... ) (٢) ( وَلَكُم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) .

ـ ويرى أن قوله: ( إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (٤) يعني أنه لا يبطله شي‏ء، وبالتالي لا يُنسخ القرآن إلاّ بالقران. أمَّا ما اتفق عليه العامة والخاصة من إمكانية النسخ بالسنَّة القطعية، فمدفوع بهذه الآية.

تقييم نظرية العلاَّمة:

إن أصل ما ذكره العلاَّمة متين ونوافقه عليه، لكن النتائج التي رتَّبها على ذلك؛ من استقلال الإنسان في تفسير القرآن بالقرآن بعد معرفة طريقة أهل البيت، غير صحيحة، حتّى أنه (رضوان اللَّه عليه) لم يتَّبع ذلك في تفسيره.

وما ندَّعيه هو: أننا في تفسيرنا للقرآن نحتاج دائماً إلى الرجوع إلى السنَّة الشريفة؛ لأن المعصوم هو القيّم والحافظ للقران بدليل حديث الثقلين (٥) ، والرجوع إليهم لا يعني نقصاً أو تقليلاً من حجيَّة القرآن، فلقد قُرِّر في علم الأصول

____________________

(١) بحار الأنوار، ج٩٢، ص٩٠، ح٣٤.

(٢) الحشر ٥٩: ٧.

(٣) الأحزاب ٣٣: ٢٥.

(٤) فصلت ٤١: ٤٢.

(٥) وسوف يأتي مزيد تفصيل في الفصل الثالث عند البحث في فقه الحديث.

٤٢

أن حجية الظواهر إنما تكون بعد استفراغ الوسع في البحث عن القرائن المنفصلة، سواء من القرآن أم من السنَّة القطعية - أو المعتبرة - أم من القرائن العقلية.

ولتقريب الفكرة نضرب مثالاً في علم الرياضيات؛ حيث أنه من العلوم المستقلة التي لا تعتمد على علوم أخرى، ويحتوي على بديهات ونظريَّات ومعادلات، لكن هل الجميع على حد سواء في هذا العلم؟ بالطبع لا، فالافهام تتفاوت، والعقول تختلف، ودرجات الإدراك ليست على حد سواء، فيحتاج إلى قيّم وحافظ يُدرك كلَّ شي‏ء ولا تستعصي عليه مسألة. ولا يكون هذا القيِّم إلاّ مَن اتصل بعالم الغيب ونهل معرفته من العقل المحيط، كما نرى في أجوبة مسائل أمير المؤمنين في باب الإرث.

وعليه؛ فإنا نقول: إن الأفهام بما أنها متفاوتة في فهم القرآن واستظهار معانيه؛ لذلك يحتاج إلى قيّم وحافظ، فهمُه محيط بكلِّ معاني القرآن، فيُسترشد بفهمه دائماً.

وأمَّا ما استدل به العلاَّمة؛ من الدعوة إلى التدبُّر الواردة في القرآن، فيجاب عليها: بأن التدبُّر المشروط لا ينافي التدبُّر، والشرط هو الاسترشاد بروايات أهل بيت العصمة، بل إن العلاَّمة - كما ينقل عن سيرته - لم يبدأ التفسير حتّى قرأ بحار الأنوار قراءة دقيقة بتفحُّص، ثُم بدأ في تفسير القرآن، وما ذاك إلاّ مِن أجل مراعاة خط أهل البيت وفهمهم في تفسير القرآن.

نعم، الدعوة إلى التدبُّر تقع في قبال السلب الكلي الذي ادَّعاه الإخباريون؛ من عدم إمكانية فهم القرآن إلاّ من خلال الروايات.

* وأمَّا الإعجاز والتحدِّي، فهو ممكن، لكنَّه غير مشروط بأن يصل فهم الكافرين إلى كلِّ بطون وأسرار القرآن، بل مع الفهم البسيط إلى بعض أسرار القرآن وعجزهم

٤٣

عن الإتيان بمثله أكبر دليل على إعجاز القرآن وأنه من عند اللَّه. بالإضافة إلى أن جهات الإعجاز في القرآن كثيرة؛ لِمَا يحتوي من أسرار الخلق وشؤون النظام والمعارف العقلية، وهذا كلُّه دليل على ضرورة وجود القيّم والحافظ للقران الذي يرشد إلى تلكم المعارف، ويأخذ بيد المتعلِّم والمتدبِّر إلى بطون القرآن التي لا تنالها الافهام العادية.

* وما ذكره من أن جميع الحجج منبثقة من الكتاب، أمر لا ينكر، لكنَّه لا يعني انحصار حجية السنَّة بالكتاب؛ ذلك لأن المعجزات الأخرى للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله تثبت رسالته وحجيته كما هو الحال في بدء الدعوة، بل إن في بعض الآيات ما يشير إلى حجية الكتاب وصدق ما أنزل، بتوسط صفات النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الصدق والأمانة ( ... أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ... ) (١) ( ... فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً... ) (٢) وكذلك حجيَّة كلام الأئمَّة عليهم‌السلام يُعلم بمعجزاتهم وبليغ خطابهم وإخبارهم عمَّا هو مجهول في ذلك العصر، وإلى قرون متمادية لاحقة.

* أمَّا ما ذكره من روايات عرض السنَّة على الكتاب، فقد تقرَّر في علم الأصول بأن السنَّة بعضها قطعي ولا معنى للعرض. أمَّا الخبر الظني الصحيح، فمعنى عرضه هو عدم مباينته للكتاب، وليس المراد الموافقة التفصيلية، وكذلك يعرض على السنَّة القطعية.

وأمَّا حديث النسخ وامتناعه، فهو غريب منه؛ لأن القرآن قد صرَّح بصدق الرسول وحجيَّة خبره، فما المانع من النسخ؟

ونورد عليه نقضاً: بأن القائلين بهذه النظرية - من العامة والخاصة - متعدِّدون، ومع ذلك لا نراهم يتَّفقون في تفسير الآيات، وهذا الاختلاف إمَّا راجع إلى الخطأ في

____________________

(١) المؤمنون ٢٣: ٦٩.

(٢) يونس ١٠: ١٦.

٤٤

المنهج، أو خطأ في التطبيق. أمَّا الأوَّل، فذكرنا إنه صحيح في نفسه، فتبيَّن أن الاختلاف راجع إلى الثاني؛ حيث يجب الاسترشاد بالروايات، لا الانعزال التام عن السنَّة؛ حيث أن المنهج وحده لا يوجب العصمة في التطبيق.

* وقد أرشد القرآن الكريم إلى حَفَظَته بقوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ ) (١) فهم الحافظون للكتاب المطلعون على أسراره، وبدونهم لا يمكن الاهتداء إلى بطونه، ولا يمكن التدبر في آياته.

تنبيه: يجب التفرقة بين طائفتين من الروايات؛ إحداهما: هي الروايات المبيِّنة لتفسير الآيات، فمعها لا يمكن الاعتماد على الظاهر القرآني، والأخرى: هي الروايات المتعرِّضة للتأويل التي لا تمنع من حجية الظاهر، بل يبقى الظهور على حجيَّـته.

[كيفية الملائمة بين حُجِّـيَّة الكتاب والسنَّة والعقل]

النقطة الثانية: في الملائمة بين الحجج. وقد ذكرت في ذلك نظريَّات متعدِّدة، والذي نراه أن الكتاب والسنة والعقل حجج متكافلة متضامنة فيما بينها، تشير جميعها إلى حقائق واحدة، ويجب الرجوع في كلٍّ منها إلى المحكم منها، لا المتشابه، ويجب الابتداء بالعقل؛ لأن إليه ترجع كلُّ الحجج، ولْيَكُنْ هو الأساس. والاسترشاد بالأدلَّة الواردة في القرآن الكريم في ‏باب التوحيد؛ والسرُّ في ذلك، أن العقل مع كونه هو المبدأ في حركة الإرادة إلاّ إنه ليس بالعقل المحيط ولا المرتبط بالوحي، فيجب حتّى يأمن الخطأ ويسير في الجادة الصحيحة أن يرتبط بالوحي؛ وهو على نحوين؛ أحدهما: القرآن الكريم، والآخر هو: السنة النبوية والمعصومة.

وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

____________________

(١) العنكبوت ٢٩: ٤٩.

٤٥

٤٦

المبحث الثاني:

حُجِّـيَّة السنَّة

وكما تقدَّم في حجية الكتاب؛ ليس البحث في أصل حجية السنَّة، فإنه موكول إلى مباحث أخرى من علم الكلام وإلى علم الأصول، بل البحث في نكات جانبية لم يثرها الأصوليُّون:

أوَّلاً - أقسام الحديث:

ذكروا للحديث أقساماً متعدِّدة؛ منها: المتواتر، والمستفيض، والآحاد. وقسَّموا الأخير إلى أقسام؛ منها: الصحيح، والحسن، والموثَّق، والضعيف، والمعلَّّل...

وليس الغرض التعرُّض إلى هذه الأقسام، فهو موكول إلى علم الدراية؛ بل الإشارة إلى عدد من المطالب يجب ملاحظتها في العمل الروائي:

أ - ذكروا في تعريف المتواتر أنه: إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب. وقد قُسِّم المتواتر - كما نبَّه إليه المحقِّق الخراساني - إلى لفظي ومعنوي وإجمالي. وقد ذكروا أن تعدُّد الجماعة يجب أن يكون في كلِّ الطبقات وإن اختلفوا في تحديد العدد المطلوب (١) ، لكن الصحيح هو عدم التعبُّد بعدد معين، بل الضابطة هي امتناع التواطى‏ء على الكذب.

____________________

(١) راجع: مقباس الهداية، ج١، ١١١.

٤٧

وهذا يعني أن إنتاج المتواتر إنما يكون لضابطة رياضية وقلَّة احتمال الكذب، بل انعدامه في بعض الصور. وما دام إنتاج الخبر المتواتر للعلم عبر تلك الضابطة الرياضية، فإنَّنا نخلص إلى عدم اشتراط تساوي دائرة التواتر في كلِّ الطبقات، بل قد يكون في بعض الطبقات واسع الانتشار بينما ينحسر ذلك في دائرة أضيق في الطبقات الأخرى، فيقتصر على فئة معينة أو بأصحاب مسلك معين، وهذا لا يخدش في التواتر. والسرُّ في ذلك، أن احتمال الكذب كما يتأثر بالجانب الكمي كذلك يتأثَّر بالجانب الكيفي الذي يُعرف بتمييز طبقات الرواة وكيفية اختلاطهم، والوضع السياسي والاجتماعي لكلِّ طبقة.

ومن هنا نخلص إلى أن وجود تواتر بدائرة معينة في حديث ما في طبقة معينة وهي الأُولى، وانحسار تلك الدائرة من التواتر في الطبقات الأخرى، لا يمنع من اعتبار الخبر متواتراً، إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الجهة الكيفية. فتحصَّـل: أن التواتر على درجات؛ فقد يكون واسع الانتشار بين الناس، وقد يختصُّ بطبقة دون أخرى، وبفئة معينة دون أخرى، لكن ذلك كلّه لا يخدش بالتواتر وتحقُّقه ضمن دوائر متعدِّدة تختلف سعة وضيقاً.

ويمكن تمثيل ذلك بعلم اللغة؛ من صرف ونحو وبلاغة... فإن التواتر بدائرته الوسيعة التي كان عليها في عموم مَن ينطق بالضاد في طبقات عديدة متأخرة، قد انقطع وانحصر وجود التواتر بالدائرة المزبورة بالطبقات الأولى. وأمّا وجود التواتر في الطبقات اللاَّحقة، فهو بدائرة أهل الاختصاص بالأدب اللغوي، وهم الحاملون لتراث اللغة عن الاندراس بكامل خصوصيَّاته جيلاً بعد جيل. وهذا لا يمنع من ثبوت اللغة وشواهدها بالتواتر، ولو ضمن طبقات أهل الاختصاص الأدبي. وكذا الحال في بقيَّة الاختصاصات والفنون. ومِن ثَمَّ قسَّموا الضرورات في العلوم وعلم المنطق إلى ضرورات عامة عند عموم الناس، وضرورات خاصة عند خصوص شرائح معينة، وهذا يدلُّ على عدم

٤٨

اشتراط حصول التواتر بدائرة ثابتة في جميع الطبقات حتّى الآن، بل يكفي حصوله بأيِّ دائرة في البعض مع مراعاة ضابطة التواتر.

وبتعبير أخر، إذا حصلت ضابطة التواتر في طبقةٍ، فإن عدم حصوله بتلك الدائرة بعينها في طبقات أخرى لا يخدش في ذلك، ولا يمكن الاستدلال على عدم قطعية الحديث وبطلانه بعدم التواتر بدائرة ثابتة في بعض الطبقات وجهل كثير من الناس له، والأمثلة على ذلك متعدِّدة؛ فإن هناك دوائر من التواتر على نطاق البشرية جمعاء، وتواتر على نطاق المسلمين خاصة، وتواتر على نطاق الطائفة الإمامية... وهلمَّ جرَّا، مادامت شرائط التواتر منحفظة في الدوائر المختلفة، وإنْ كانت بين درجات الضرورة والتواتر المتعدِّدة اختلاف كبير. ولا يخفى أن جهة بحثنا هذا هو من زاوية النقل والصدور، لا من زاوية مضمون المنقول وتمامية موازينه.

ونتيجة لِمَا تقدَّم، لا وقع للتعجُّب من تواتر الخبر الواصل إلينا وإنْ ضُيِّـقت دائرة التواتر، وهذا ما نراه في بعض الأحاديث التي هي مواد خلاف بين المسلمين كحديث الغدير والثقلين؛ حيث نجد أن دائرة التواتر في الصدر الأوَّل واسعة، ثُم تنحسر هذه الدائرة في العصور المتأخر حتّى تكاد تقتصر في نطاق ضيِّق لدى المتخصِّصين في هذا الفن.

وأخيراً نشير إلى أن التواتر على درجات كما أن اليقين والجزم على درجات، واختلاف الدرجات لا يعني عدم التواتر.

ب - إن النقطة المهمَّة في التواتر هو التكرار الذي يحصل في روايات مختلفة، وهذا هو المحصِّل للتواتر اللفظي والمعنوي والإجمالي. ومن هنا تبرز أهمية الأخبار الضعيفة (غير الموضوعة أو المدلَّسة) حيث أنها تمثِّل المادة والمنبع الذي يحقِّق التواتر. فما يدَّعيه البعض من وجوب غربلة الأحاديث، وترك الضعيفة والاقتصار على

٤٩

الأخبار المعتبَرة فقط، دعوى جهالة، وحديث لا أساس له من الموازين العلمية والصحة. ويمكن إبراز فوائد تلك الأخبار فيما يأتي:

١ - إن الأخبار الضعيفة تمثِّل مادة ومنبع المتواترات.

٢ - إن الأخبار الضعيفة إذا كانت محفوفة بقرائن توجب الوثوق بالصدور تجعلها معتبرة يعتمد عليها.

٣ - إن المطالع والمتتبِّع في تاريخ البشرية يلاحظ اعتماد الناس على الخبر الضعيف بلحاظ التواتر أو الاستفاضة، وهذا هو الذي يجعل الخبر موثوقاً بصدوره. وخير مثال على ذلك الإخبار عن الأمم والقرون الماضية؛ حيث أن مادتها الأولى أخبار لا ترقى إلى الصحاح، مع قبول الناس لها بلحاظ ما تفيده من الوثوق بصدورها؛ وتحليل ذلك يعود إلى ما يسمّى بعملية (حساب الاِحتمال) وتصاعده البالغ لذلك الحد من الوثوق طبقاً للقواعد الرياضية البرهانية.

٤ - إن المباني في قبول الأخبار مختلفة ومتنوِّعة؛ فكم من خبر رفض الشهيد الثاني العمل به بينما صحَّحه المتأخرون، خصوصاً بعد بزوغ طريقة التحليل المشابه للتحليل التاريخي، والاستفادة من طبقات المحدِّثين التي ابتكرها السيِّد البروجردي والمحقِّق والأردبيلي صاحب جامع الرواة، وعليه لا يمكن اعتمادها ضابطة عامة لتضعيف الخبر، فالضابطة اجتهادية.

٥ - إن الخبر الضعيف(الذي لا يُعلم وضعه أو تدليسه) يحرم ردُّه وإن لم يجب العمل به؛ إذ بين حرمة الردِّ والحجية فَرق، كما حُرّر في علم الحديث والأصول، ولم يخالف في هذا الحكم أحد. وتلك الغربلة تعني الرد.

٦ - إن الخبر الضعيف إنْ لم يجب العمل على طبقه، فإنه يُفيد في مواطن عدَّة؛ من باب توليد طرح الاحتمال، فهو ليس بأقل - بل يفوق - استدلالاً منقول عن أحد الحكماء أو العلماء السابقين، فأيُّ ضرر فيها إن اُعتبرت إشارتها إلى احتمال من

٥٠

الاحتمالات.

ج - إن الخبر الضعيف لا يساوي الخبر الموضوع أو المدلَّس، وهذه نكتة قلَّ الالتفات إليها، وهي إحدى الأسباب التي أدَّت إلى ترك الأخبار الضعيفة. فإننا نسلِّم أن الأخبار الموضوعة المدلَّسة يجب طرحها وإهمالها وتركها إذا عُلم وضعها وتدليسها؛ حيث اُتفق على أنه إذا ثبت كون حديث موضوعاً، حرمت روايته؛ لكونها إعانة على الإثم وإتيان للفرية في الدين. وأمَّا ما كان ضعيفُ السند غيرَ الموضوع، فلا بأس بروايته مطلقاً. نعم، العمل على طبق ما فيه يحتاج إلى جبر الضعف (١) ، وقد وضع العلماء(أعلى اللَّه مقامهم) طُرق وقرائن لكشف الحديث الضعيف الموضوع عن غيره؛ فمثلاً مجرَّد اتصاف الراوي بالكذب لا يعني وضع الخبر؛ فإن الكذوب قد يصدق، كما في وهب بن أبي وهب، كما إنا نلاحظ أن طائفة كبيرة قد وُصفت بالكذب لمجرد روايتها لأخبار المعارف.

فما ثبت وضعه وتدليسه من الأخبار الضعيفة، يجب ردُّها وتركها. أمَّا الأخبار الضعيفة كلها، فلا يجوز ردُّها؛ خصوصاً أن لدينا ضوابط سهلة يمكن بواسطتها تمييز الوضع والتدليس؛ كعرضها على المحكمات في الكتاب والسنَّة والعقل. وبالتالي لا يكون نقل الأحاديث الضعيفة تغريراً على المسلمين؛ حيث أن الخبر الضعيف مهما بلغ شأنه لا يمكن أن يحرف المسلمين عن جادة المحكمات في الحجج الثلاث. ومن هنا تساهل القوم في نقل الضعاف؛ لِمَا لها من فوائد جمّة في الحجية، ولا مجال لتوهُّم اتحادها مع أخبار الوضع والدس (٢) .

د - إن المسألة المهمَّة التي يجب الالتفات إليها؛ هي: مسألة تجميع القرائن حتّى يوثق بصدور الرواية عن المعصوم؛ حيث من النادر أن تكون قرينة واحدة كافية

____________________

(١) مقباس الهداية، ج١، ص٤١٧. وقد ذكر أن الحديث الضعيف ينقسم إلى ١٥ قسماً.

(٢) راجع: مقباس الهداية، ج١، ٤٠٠.

٥١

لإثبات الصدور، بل تتجمَّع القرائن من هنا وهنالك. وهذا على غرار ما ذكرناه في بحث الرجال؛ من أن المشيخة، أو ورود الراوي في أحد الأصول المعتمدة، كلها قرائن، مع اجتماعها تفيد التوثيق، لا أن كلَّاً منهما بمفرده يفيد التوثيق. وهذا أيضاً على غرار ما ذُكر في بحث الإجماع؛ حيث ذكر الشيخ - تبعاً لصاحب المقابيس: أن قيمة الإجماع بكونه جزء الحجة تنضم إلى الحجج الأخرى، لا أنه حُجَّة مستقلة.

ومن القرائن التي تذكر في هذا الباب: الشهرة العملية والروائية، بل حتّى الفتوائية؛ وهي ممكنة الحصول في باب الاعتقادات من ملاحظة كتابي الاعتقادات و الأمالي للصدوق. والشهرة وإن نوقش في مدى جبرها للضعف، لكن على ما ذكرناه في المقام؛ تكون قرينة من القرائن، لا أنها قرينة مستقلة.

ومنها: أن يرد الخبر في بعض الكتب المعتبرة ككتب صفوان بن يحيى أو محمد بن الحسين بن أبي الخطَّاب الزيَّات، والحسن بن محبوب المعروفين بضبطهم.

ومنها: إنه يروي الخبر راوٍ هو على مذهب مخالف لِمَا يرويه من مضمون. وغيرها من قرائن توثيق الصدور المحرّرة في تلك المسألة.

هـ - نشير أخيراً إلى قسم من أقسام الحديث هو: المستفيض، وهو الخبر الذي يقرب من المتواتر ويرتفع عن الآحاد؛ حيث أن رواته لم يبلغوا حد التواتر، لكنَّه يكون مؤيَّداً ومدعوماً من جهة القرائن الداخلة والخارجة، فيصبح مستفيضاً. والخبر المستفيض، أو الموثوق الذي بدرجته، يصحُّ الاستناد إليه كما هو مقرَّر في علم الأصول، بل درجة حجيَّـته تفوق الخبر الصحيح.

٥٢

ثانياً: أحوال الكتب الأربعة والمصادر الروائية:

وفي بحث الكتب توجد مسألتان يجب معالجتهما قبل الاستناد إلى أيِّ كتاب:

أوَّلاً : إثبات نسبة هذا الكتاب إلى المؤلف.

ثانياً : إثبات أن هذه النسخة الواصلة إلينا هي النسخة التي ألَّفها المؤلِّف، ولم تصل لها يد التحريف.

وعلم الدراية هو العلم المختصُّ بمعالجة هاتين المسألتين، لكنَّهم لم يذكروا سبيل العلاج على نحو مفهرس، لكنّا نستطيع - عملاً - اقتناص بعض النقاط لتوضيح منهجهم في العمل:

١ - الإلمام بكتب الفهارس؛ حيث أنها تختص بذكر كتب الطائفة وأسماء مؤلِّفيها.

٢ - التعرُّف على سلسلة إسناد وطُرق صاحب الفهرست للكتاب أو صاحب المجاميع الروائية المتأخرة أو المتقدِّمة، فيُعرف أنه لم يذكره في فهرسته اعتماداً على الشياع ونحوها، بل بطريق مسلسل مسند.

٣ - التعرُّف على مدى اشتهار الكتاب بين طبقات المحدِّثين والفقهاء، وذلك بملاحظة:

أ - سلسلة الإجازات المعروفة كإجازات العلاَّمة المجلسي، وإجازة العلاَّمة الحلِّي لابن زهرة، وكذلك إجازات صاحب الوسائل.

ب - متابعة كتب الاستدلال في الأحكام الفرعية بحسب القرون المتعاقبة؛ حيث يعلم منها مدى اشتهار الكتاب، وهذا يفيدنا فيما نحن فيه باعتبار ملاحظة روايات الاعتقاد المذكورة فيه.

٤ - من خلال ملاحظة المجاميع الروائية في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، فإنه يُعلم منها أن لكلٍّ منها طريق خاص إلى الكتب الروائية الأم، مع افتراق

٥٣

أصحاب ومؤلِّفي المجاميع بين الأمصار، ومنه يُعلم مدى اشتهار تلك الكتب الروائية وتوفُّرها بين المحدِّثين.

٥ - مراجعة النسخ المختلفة، الخطية وغيرها، وعدم الاكتفاء بما هو مطبوع منها.

٦ - ملاحظة الحواشي والتعاليق والملْكيَّـات الحاصلة على النسخ الخطية؛ حيث يتبيَّن من خلالها مدى معروفية النسخة وتوثيقها.

٧ - يجب على المتتبِّع والباحث أن يلفِّق ويقارن بين الطُرق المختلفة ويستعين بكتب مختلفة من أجل أن يحرز صحة رواية أو صحة نسبة كتاب لمؤلِّفه؛ فمثلاً في العصور المختلفة إلى أصحاب المجاميع، يستعان بكتب: الذريعة، ورياض العلماء، وأعيان الشيعة، وطبقات الشيعة وغيرها، ومن أصحاب المجاميع كـ: الوسائل، والبحار، والوافي، وتفسير البرهان وغيرها، ويستعان بما يذكره المؤلف في مشيخته أو فهرسته أو كتبه الأخرى، وقد ترد طبقات مجهولة تقريباً، وهي ما بين أصحاب الكتب الأربعة وما بعدهم؛ لذا يجب أن يتم التتبُّع والمقارنة والتلفيق بين كتب مختلفة. مثال ذلك: رواية القطب الراوندي في باب ترجيح الروايات، رواها صاحب الوسائل في/ باب ٩/ من أبواب صفات القاضي، ومشكلة هذه الرواية مع أهميَّتها أن صاحب الوسائل يرويها عن رسالة للقطب الراوندي في رسالة ألَّفها في أحوال أحاديث أصحابنا، ولم يرد ذكر هذه الرسالة في كلام مَن عدَّد وذكر مصنفات الراوندي، لا سيما تلميذه ابن شهر آشوب ومنتجب الدين، وقد توسَّل السيِّد الشهيد الصدر بطرق عدَّة للتصحيح هذه الرواية والتلفيق بين اسناد وطرق مختلفة (١) .

____________________

(١) انظر: تعارض الأدلة الشرعية، ص ٣٤٩ـ ٣٥٧.

٥٤

ثالثاً: العلم الإجمالي بوجود الدس:

من المسائل المثارة في علم الحديث هو دعوى وجود علم إجمالي بحصول دسٍّ ووضع في الأحاديث والروايات، وقد ذكرها الشيخ الأنصاري في كتاب الرسائل في حجية خبر الواحد. ومن القرائن على دعوى حصول هذا الدس، ما ورد من روايات عن الأئمة بوجود كذَّابين؛ منها:

ـ ما رواه الكشِّي في ترجمة عبد اللَّه بن سبأ عن الصادق‏ عليه‌السلام : (إنَّا أهل بيت صدِّيقون، لا نخلو من كذَّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلِّها وكان مسيلمة يكذب عليه) (١) .

ـ ما رواه في ترجمة المغيرة بن سعيد (٢) عن الرضا عليه‌السلام أنه قال: (إن أبا الخطَّاب كذب على أبي عبد اللَّه عليه‌السلام . لعن اللَّه أبا الخطَّاب). وعن أبي عبد اللَّه‏ عليه‌السلام أنه قال: (كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي، فيدفعونها إلى المغيرة لعنه اللَّه، فكان يدسُّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي، ثُم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثُّوها في الشيعة. فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو، فذاك ما دسَّه المغيرة بن سعيد في كتبهم).

ـ وقد وصف الرضا عليه‌السلام وهب بن أبي وهب البختري: (لقد كذب على اللَّه وملائكته ورسله).

وهذه القرائن وغيرها تكون محقِّقة لعلم إجمالي بوجود الدس والوضع والتزوير في الأخبار التي بين أيدينا، وهذا العلم الإجمالي هو الذي دعا البعض إلى

____________________

(١) رجال الكشِّي، ج١، ص٣٢٤.

(٢) المصدر، ج٢، ص٤٩٠.

٥٥

ادعاء انسداد باب العلم بالأحكام عن طريق الأحاديث، لكن في قبال هذا العلم الإجمالي بالدس يوجد لدينا علم ويقين بما سعى إليه العلماء والمحدِّثون في إزالة هذا الدس، وهو يوجب زوال وانحلال العلم الأوَّل، وهذا العلم الثاني متولِّد من قرائن:

١ - ما ورد من عرض الكتب على الأئمَّة.

منها: ما رواه الكشِّي عن داود بن القاسم، أن أبا جعفر الجعفري قال: أدخلت كتاب يوم وليلة الذي ألَّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري‏ عليه‌السلام فنظر فيه وتصفَّحه كلَّه، ثُم قال: (هذا ديني ودين أبائي، وهو الحقُّ كلُّه) (١) .

ومنها: ما رواه الكشِّي (٢) في ترجمة الفضل بن شاذان، من أن أبا محمد عليه‌السلام دخل عليه حامد بن محمد - الملقَّب بغورا - الذي بعثه الفضل بن شاذان، فلمّا أراد أن يخرج، سقط منه كتاب في حضنه، ملفوف برداء له، فتناوله عليه‌السلام ونظر فيه، وكان الكتاب من تصنيف الفضل، وترحَّم عليه.

ومنها: ما ورد في عرض كتاب سليم بن قيس على السجاد عليه‌السلام .

ومنها: عرض كتاب ظريف بن ناجح في الديات على ابي عبد اللَّه‏عليه السلام والرضاعليه السلام (٣) .

ومنها: ما ذكره الحرُّ العاملي (٤) حول عرض كتب يونس بن عبد الرحمن، وكتب بني فضال، والفضل بن شاذان، وعبيد اللَّه بن علي الحلبي على

____________________

(١) رجال الكشي، ج٢، ص٧٨٠.

(٢) المصدر، ج٢، ص٨٢٠.

(٣) الوسائل، باب ٨ من أبواب صفات، ح ٣٢.

(٤) المصدر، باب ٨ من أبواب صفات، ح ٧٣ـ٨١.

٥٦

الصادق عليه‌السلام .

مضافاً إلى روايات كثيرة تثبت أن الأصحاب كانوا يعرضون كتبهم على الأئمة أو نوَّابهم، كالعرض على الحسين بن روح، ويصحِّحه الأئمة أو ينكرونه أو يقبلونه.

٢ - إن أصحاب الكتب كانوا يدقِّقون في الكتب والروايات، ولا يودعونها إلاّ بعد أن يتيقَّنوا عدم الدس، كتشدُّد القميِّين في قبول الرواية وإخراجهم الضعاف أو مَن يروي عن الضعاف من قم، وكاستثنائهم لروايات كتب الحديث كالذي استثنوه من نوادر محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري وما نقل من تشدُّد محمد بن الحسن بن الوليد معروف. ومن يتصفَّح تراجم القميِّين يراه حافلاً بعملية تصفية وغربلة الأحاديث.

٣ - ما ورد في ترجمة العديد من الرواة من أنه لا يروى ولا يرسل إلاّ عن ثقة كابن أبي عمير وغيره.

٤ - اهتمام الأصحاب بكتب الفهارس والتي غرضها تصحيح السند إلى صاحب الكتاب. وقد بدأ تصنيف الفهارس من الحسن بن محبوب.

٥ - ما ورد في طريقة رواتهم؛ حيث لا يعتمدون على التلقِّي فقط، بل يروون عمَّن سمع من الثقات. أمَّا مَن وُجد في الكتب فقط، فيتحرَّزون في الرواية عنه حتّى أن علي بن الحسن بن فضال لم يرو كتب أبيه الحسن عنه، مع مقابلتها عليه، وإنما يرويها عن أخويه أحمد ومحمد عن أبيه؛ واعتذر عن ذلك بأنه يوم مقابلة الحديث عن أبيه كان صغير السن ليس له كثير معرفة بالحديث.

وملاحظة ديدنهم في كتب الأمالي، وما ذكره الميرزا النوري من أن التهذيب وصل إليه وعليه توقيع تلامذة الشهيد الثاني، وأنهم قرأوه عليه، وكذا ما ذكره الفخر في الإيضاح عن التهذيب، يظهر مدى عناية المحدِّثين في النقل والرواية.

٦ - ما هو منقول في كيفية تصنيف كتب الحديث، فالكليني قضى عشرين سنة

٥٧

في التصنيف، وهذه الفترة إنما احتاج إليها لأنه كان يدقِّق في الحديث وينتقي من بين الأحاديث.

٧ - ما ذكره أصحاب المصنَّفات كما في الفقيه وكامل الزيارات؛ من أنهم لا يكتبون من الأحاديث إلاّ ما يعتقدون حجيَّته بينهم وبين اللَّه، وأنهم رووه عن المشايخ الثقات و قرأوه عليهم من الكتب المعتبرة. مضافاً إلى أن خصوص القرائن المولّدة للعلم الإجمالي الأوّل هي بنفسها مذيَّلة بما يوجب انحلالها؛ فإن الأئمة عليهم‌السلام ‏كانوا على ترصّد ومراقبة لِمَا يدلّسه أولئك الكذَّبوان، وذكروا ضوابط لمعرفة الحديث المدلَّس والموضوع من أولئك؛ بحيث تمَّت عملية الغربلة في ذلك الحين مضافاً إلى ضوابط روايات العرض على الكتاب والسنة القطعية. فيتحصل: أن القرائن الكاشفة عن اهتمام الأصحاب بتنقيح الأخبار كثيرة جدا، ممّا يدعو إلى انحلال العلم الإجمالي الأول، و أن الأحاديث التي بين دفتي كتب المتأخرين صادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ، هذه بالإضافة إلى أن قرائن الدسِّ المزعومة - ممَّا هو حاصل في مسائل معروفة معينة - إنْ أدَّى إلى الانسداد، فإنه يسدّه في بابه، لا في كل الأبواب كما ذهب إليه البعض، فدائرة العلم الإجمالي الأوَّل ليست واسعة حتّى تشمل كل الروايات ويؤدِّي إلى القول بالانسداد في جميع أبواب الفقه.

٥٨

المبحث الثالث:

حُجِّـيَّة العقل

وينقسم العقل إلى قسمين: نظري، وعملي.

١ - العقل النظري: هو القوَّة الموجودة في الإنسان المجرَّدة عن المادة والتي بواسطتها يحصل الإدراك، وهي تنطلق من رأس مال البديهيَّات والفطرة، وهو معصوم فيها، ومنها ينطلق إلى النظريات والتي لا يكون معصوما فيها. وتجدر الإشارة إنه في بديهيَّاته لا يكون خالقاً لها، وإنما تصل إليه عن طريق اتصاله بالعوالم العالية عن طريق الإلهام الفطري أو الإيحاء.

ـ والحقائق التي يقوم على إثباتها العقل النظري غير متناهية، بل متطوِّرة؛ فبعض الحقائق عجز عن إثباتها بالبرهان الفلاسفة المتقدِّمون كابن سينا، بينما أثبتها المتأخرون، نظير: المعاد الجسماني؛ فقد عجز عن ذلك ابن سينا، بينما أثبتها صدر المتألِّهين مسترشداً بالدليل النقلي. وكذلك مسألة الرجعة، فقد أثبتها من المتأخرين بالبرهان أبو الحسن الرفيعي (١) ، فعدم إقامة السابقين الدليل العقلي على مسألة لا يعني عدم إمكان المتأخرين على ذلك، فليس مَن سبق كمَّلَ العقول حتّى يمتنع على المتأخرين إقامة البرهان، بل العقول في سير تكاملي؛ إذ الفحص والاسترشاد بالوحي يفتح أبواباً واسعة من العلوم والمعارف العقلية.

____________________

(١) مجموعة رسائل و مقالات فلسفي[ بالفارسية]، للحكيم المحقق العلاّمة الرفيعي، ط انتشارات الزهراء، طهران.

٥٩

ـ ما ثبت بالقطع من الوحي المحمدي يعتبره فلاسفة العهد الإسلامي وسطاً برهانيا؛ وذلك لأن الشريعة الحقَّة ثبتت بالبرهان، وكذلك ثبتت القدرة الغيبية بالبرهان، ومع ذلك لا يختلط علم الكلام بالفلسفة؛ لأن الأوَّل يعتمد التعبُّد الظنِّي أيضا.

ـ إن كثيراً من روايات المعارف ذُكر فيها الاستدلال العقلي، فالعمل بها لا يكون من باب التعبُّد بالنقل، بل يكون عقلياً وبرهانياً أيضاً.

٢ - العقل العملي؛ عرّفوه بأنه: القوَّة المدرِكة للقضايا التي ينبغي أن يقع العمل عليها.

ومنذ القدم بزغ الخلاف؛ في أن العقل العملي والنظري قوَّتان مختلفتان أم أنهما قوَّة واحدة والاختلاف بينهما من حيث المدرَكات؟ والصحيح أنهما قوَّتان مختلفتان، وقد ذُكر لذلك أدلة متعدِّدة، نذكر منها دليلان:

١ - ويتكوَّن من مقدِّمتين:

الأولى: ما قرَّره الفلاسفة في علم النفس من أن التعرُّف على قوى النفس إنما يتمُّ باختلاف أثارها؛ فكلُّ أثر يكون ويتمُّ عن درجة معينة من درجات النفس.

والثانية: أن الفلاسفة قرَّروا في الحكمة العملية أن كمال الإنسان يكون عندما تنصاع قواه السفلية إلى القوة العقلية؛ أي أن القوة العقلية تُدير القوَّة الوهمية والحسية والشهوية والغضبية، بمعنى أن القوة العقلية تقوم بالتأثير في هذه القوى والهيمنة عليها، وهذا يعني أن القوة العاقلة لها عملان: إدراك، وتأثير، وهو عمل من غير سنخ الإدراك، فهذا يدل - بضميمة المقدمة الأولى - على أنه توجد قوَّتان عقليَّـتان: نظرية وظيفتها الإدراك، وعملية وظيفتها العمل والتأثير.

٢ - إن آخر التحقيقات لدى صدر المتألِّهين أدَّت إلى القول بأن التصور

٦٠

والتصديق هما قسما العلم، وكلاهما يعرَّفان بحصول الصورة لدى العقل، والفَرق بينهما أن التصور لا يوجب الإذعان والحكم، بينما التصديق يوجب حصول الإذعان والحكم؛ ولذا فالحكم خارج عن التصديق وليس هو جزء القضية، وإنما هو فعل تقوم به النفس، فبعد تصور الموضوع والمحمول والنسبة، تصل إلى الحكم، وهو الدمج بين الموضوع والمحمول، وهذه وظيفة العقل العملي الذي يقوم بالحكم والإذعان بما أدركه وتصوَّره العقل النظري، وهذا فعل غير الإدراك، تقوم به قوة غير القوة التي وظيفتها الإدراك.

ومن هنا نقول: إن العقل له أمر ونهي تكويني؛ أي بعث وزجر للقوى الأخرى الكُلِّية.

* بناء على هذا التفكيك بين القوتين تتَّضح لنا حقيقة العقل النظري؛ فهو يدرك نمطين من القضايا، أحدهما: لا يرتبط بالعمل كالقول بان الوجود المادي متناهي، والأخرى: ترتبط بالعمل، وهذا القسم من الإدراكات يتناوله العقل العملي بعدئذ ويؤثِّر على القوى المادُون لتنصاع إليها، فهو الرابط بين العقل النظري والقوى السفلية، وكمال العقل العملي هو الانصياع إلى إدراكات العقل النظري الصادقة.

* بالبيان السابق اتضحت النقاط التي كنا أثرناها في مقدِّمة الفصل الأوَّل؛ من أن معنى الإيمان والتسليم هو الإذعان، وهو وظيفة العقل العملي، وأنه ليس إدراكاً صرفا، فهناك ثلاث مراحل: فحص، و إدراك، وإذعان وإيمان.

* قال العرفاء: إن الإنسان في حالة صعود وهبوط دائمين. ومقصودهم من ذلك: أن الإنسان في حركاته اليومية وطريقة تفكيره ينتقل في درجات وجودية مختلفة أدناها هي المتصلة بعالم المادة وأعلاها هي المجرَّدة تجرُّداً تامَّا، فيبدأ من الدرجات الحسية، وهي المجردة عن المادة - دون أحكام المادة - إلى الخيال، وهي مجردة عن المادة - لا عن المقدار - ولا ترتبط بالجزئي الحقيقي كالحسي، إلى الوهم،

٦١

وهو إدراك المعاني الخالية عن المقدار كالحب والبغض، وهي مع تجرُّدها عن المادة وأحكامها إلاّ أنها متعلِّقة ومضافة إلى جزئي معين؛ إلى العقل ذي التجرُّد التامِّ عن المادة وأحكامه، وهذه كلها درجات وجودية في الإنسان.

والإنسان المهذَّب والكامل في صَلاته يتوجَّه بقلبه إلى ما فوق عالم العقل؛ حيث الصقع الربوبي والرؤية القلبية، وإلى هذا نمط من الإدراك، لكنَّه ليس بالقوة العاقلة، ويطلق عليه: الإدراك القلبي؛ وهو ذو درجات أربع: سر، وخفي، وأخفى، وهي ليست من سنخ الإدراكات الحصولية، بل إدراكات حضورية، وهذا استدراك لتوضيح درجات الإنسان الوجودية ومعرفة النفس البشرية، وسوف يأتي مزيد بيان للعلاقة والارتباط بين هذه المراتب.

* من النقاط السابقة يتَّضح لنا تعريفاً آخر للعقل العملي؛ وذلك لأننا قلنا: إن مهمته الأساسية هي الإذعان والحكم، وهذا قد يكون بقضايا ترتبط بالعمل، وحينئذٍ يترتَّب على الحكم والإذعان بها تأثُّر القوى السفلية، وقد يكون بالحكم والإذعان بقضايا لا ترتبط بالعمل كحدوث العالم وعدم تناهيه.

٦٢

التنبيه الأوَّل:

الحسن والقبح العقليَّان

هذه المسألة من أمهات مسائل علم الفلسفة وعلم الكلام والتي جرى البحث عنها منذ القدم في بداية عهد الفلسفة الإسلامية وقبلها الفلسفات الهندية الفهلوية واليونانية. وقد ذهب الأشاعرة إلى كونهما اعتباريين بجعل العقلاء، وأيَّدهم في ذلك بعض الإمامية وذهب كثير منهم إلى القول بعقليَّـتهما وتكوينيَّـتهما. ويبتني على هذه المسألة ثمرات عدَّة؛ إذ أن أغلب البراهين تعود إلى حسن العدل وقبح الظلم، فإذا كان الحسن والقبح اعتباريين، فإن الاستدلالات سوف تكون خطابية لا برهانية. وتظهر خطورة المسألة أكثر حيث يذهب كثير من المتأخرين إلى اعتبارها من المشهورات التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وينتج عن ذلك اختلال البنية التحتية للشريعة؛ وذلك لأن المتكلمين يقولون: إن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية؛ أي أن العقل لو علم بمِلاكات الأحكام الشرعية، لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال يحكم بها العقل لو اطلع عليها. فإذا كانت البنية التحتية للشريعة هي الأحكام العقلية، وهي مسألة الحسن والقبح، وهي مسألة اعتبارية بيد المعتبر وتتَّبع نظره، فينتج من ذلك تغيير الأحكام تبَعاً لتغيير الأفكار، وهو ما يُعرف حديثا بنظرية: تغيُّر المعرفة الدينية أو بسط وقبض الشريعة، فلا

٦٣

تتَّصف الشريعة حينئذ بالثبات، ولكن بحمد للَّه ومنّه هذا الإشكال وغيره مدفوع حتّى على القول باعتبارية الحسن والقبح كما سوف يأتي بيانه.

من الناحية التاريخية المسألة مرَّت بمراحل متعدِّدة:

1 - إن الفلاسفة القدمى قبل الإسلام، سواء في الهندية أم البهلوية أم الحرانية أم اليونانية، كلُّهم قائلون بعقلية المسألة، وممَّن أشار إلى عقليَّـتهما من المسلمين الفارابي في كتابه المنطقيات.

2 - إن ابن سينا الذي قام بمهمة ترجمة كتب القدماء عدل عن هذا الرأي ولم يبيِّن عدوله ولم يشر إليه، وهكذا أثَّر في مَن أتى مِن بعده؛ حيث تعاملوا مع كتبه على أنها ترجمة أمينة لكتب القوم. وقد تأثَّر هو في ذلك بما ذكره أبو الحسن الأشعري في التفكيك بين معاني الحسن والقبح.

وابن سينا تتضارب كلماته، فهو في منطق الشفاء والإشارات يمثِّل للمشهورات بالحسن والقبح؛ وهي الآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وفي مقام أخر في النمط الثالث من الإشارات يقول: (إن أحكام العقل العملي تستعين بالنظري وقضاياه، إما أوَّليَّات أو مشهورات)، وكذلك عبارات أخرى كما في إلهيات الشفاء في مسألة استجابة الدعاء يذكر فيها: أن قضايا الحسن والقبح قضايا حقَّة يمكن إقامة البرهان عليها.

3 - بعض المتأخرين كالمحقق اللاّهيجي في كتابة (گوهر مراد)، والسبزواري في (شرح الأسماء الحسنى)، ذهب إلى أنها تكوينية ولا ينافي كونها مشهورة من جهة أخرى.

4 - المحقَّق الأصفهاني ومَن بعده ذهب إلى أنها اعتبارية مطلقاً ولا يمكن إقامة البرهان عليها، وهذا هو المذهب السائد إلى الآن.

٦٤

من خلال هذا السبر التاريخي نلاحظ كيف تحوَّلت هذه القضية من عقلية تكوينية إلى اعتبارية جعْلية.

أمَّا الأسباب التي دعت ابن سينا إلى القول بالاعتبارية:

1 - المغالطة التي ذكرها أبو الحسن الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح وجعل بعض المعاني تكوينية، أمّا معنى المدح والذم، فليس كذلك؛ وذلك لأنه لو كان بديهيا لأذعن به الجميع، فمن ثَمّ أدرجه في المشهورات. ولم يكن هو أول من ذكر هذه المغالطة، بل أن السوفسطائيين اليونانيين معاصرو سقراط قالوا بهذه المقالة وردهم سقراط في مؤلَّفاته.

2 - تعريفه للعقل العملي؛ حيث إنه قد عرَّفه بتعريف هو عين العقل النظري والاختلاف بينهما في المُدرَك، وأن العقل، مطلقاً، شأنه الإدراك، وليس من شأنه التأثير والانفعال، فكيف يمكن تصوّر أنَّ العقل له تدخُّل في أعمال الأفعال النفسانية! بل العمليات ليست إلاّ تأديبات وعادات، وهذا المبنى على خلاف مبنى الفلاسفة المتقدِّمين كالفاربي وتقسيمهم الحكمة إلى نظرية وعملية.

3 - غضَّ ابن سينا النظر عن أحد قسمي البرهان الذين ذكرهما أرسطو، وهو البرهان العياني أو الشهودي، ويمتاز هذا البرهان بأنه يقام على إثبات الجزئيات الحقيقية، واكتفى بالقسم الأول المعروف في باب البرهان، وهو مختص بالكليَّات؛ لذا يشترط فيه الأبدية وعدم التغيير.

ولا بأس بذكر نبذة عن هذا البرهان:

هناك قوة في الإنسان تسمَّى: قوَّة الفطنة، وهذه قوة تُرَوِّي أعمال الإنسان وتُراعي صدور الإرادة على طبق الحكمة، فهي قوة تكون محيطة بأحوال الأمور الواقعية الجزئية فتوجب انطباق الكليات على الجزئيات والوصول إلى الكمال المنشود.

٦٥

توضيح ذلك:

أن إدراك القضايا، حتّى العملية، لا يكفي للوصول إلى الكمال، وإنما هذا هو كمال لقوة خاصة وهي العقل النظري، وكمال العقل العملي والقوى السفلى يكون بالانصياع إلى القوة العملية، ولكن هذا وحده لا يكفي، بل يجب أن تكون هناك آلة وأداة تميِّز حال الجزئيات الحقيقية، لا سيما في الأمور الاجتماعية. وعدم إدراك الواقع الجزئي على ما هو عليه يؤثِّر في عدم الوصول للكمال المنشود؛ لأن تنزُّل القضايا الكلية إلى الجزئية لا يتمُّ إلاّ بأداة قادرة على استكشاف حال الجزئي على ما هو عليه وتطبيق الكلي عليه، فيكون تسلسل الادراكات بالنحو التالي:

* - مرحلة إدراك الكمال في الأعمال والبرهان عليها، وهذا يقوم به العقل النظري.

* - ثُم مرحلة الإذعان في العقل العملي والتأثير على القوى السفلى.

* - ثُم مرحلة تشخيص الأمور الجزئية بالدقة وتطبيق تلك الكليات عليها.

وشبيه هذا التسديد عند التنزُّل من الأعلى إلى الأسفل قوله تعالى: ( بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ ) فهو إشارة إلى السداد والعصمة في مراحل التنزيل؛ حيث كونه حقَّاً لوحده لا يكفي، بل يجب أن يكون السداد في النزول، وفي النفس الإنسانية الإدراك والإذعان وحده غير كافٍ، بل يجب أن يحصل التسديد في التنفيذ على الأمور الخارجية الجزئية، وهذا لا يكون إلاّ بقوة الفطنة، وهي قوة فوق القوى المادون (الغضبية والعمّالة والشهوية)، فهي تستخدم هذه القوى للوصول إلى الجزئي الحقيقي المندرج تحت الأجناس العالية، فتصدر بعد ذلك أوامرها في عالم النفس لتولِّد الشوق والإرادة وصدور الفعل بعد ذلك.

وقوة الفطنة هي التي تقوم بالبرهان العياني الذي يحتاجه الإنسان في تطبيق الكليات على الجزئيات، والكمال في الواقعة الجزئية مبتنٍ على هذا البرهان.

فتلخص الفارق بين البرهان العياني والبرهان النظري:

٦٦

1 - إن البرهان النظري هو مختص بالكليات، والعياني للجزئيات.

2 - إن النظري يتوسَّط العقل النظري والعملي، أمّا العياني، فيتوسَّط العقل النظري والعملي والفطنة.

أمَّا كيف أدَّت الغفلة عن هذا القسم من البرهان إلى إنكار الحسن والقبح العقلي، فبيانه:

إنه لو أذعنَّا بلزوم كون الأعمال برهانية، فلا بدَّ من القول بارتكاز الجزئيات على أنها قضايا برهانية، والذي يمكنه البرهنة على أن الجزيئات حسنة وحكيمة إمّا الحسن والقبح وإمّا التشريع؛ أي أنّ إدراك حسن وكمال الأفعال الجزئية يكون بأحد هذين، والأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية.

وبتعبير أخر: أن البرهان العياني يبرهن على أن العمل الجزئي على وفق الحكمة والكمال، ولا يمكن البرهنة على كل واقعة جزئية إلاّ بتوسط استناد البرهان إلى قضايا يقينية، لا قضايا مشهورة لا أساس لها إلاّ الاعتبار، فحينئذ يحصل الالتفات إلى أن قضايا العقل العملي والحسن والقبح تكوينية لا مشهورة.

ـ وحينئذٍ نقول: إن التوحيد النظري وحده - من دون تنزُّله إلى توحيد عملي - هو توحيد أجوف، ولا يحصل هذا التنزُّل من التوحيد النظري إلى التوحيد في الطاعة إلاّ بالبرهان العياني وقوة الفطنة.

ومن هنا أن التوحيد والاعتقاد بالنبوة من دون الولاية لا يُقبل: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) وسيأتي بسط الكلام فيه.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي سبَّبت الخلط الحاصل لدى ابن سينا، وعليه ابتنى اشتباه المتأخرين.

بعد اتضاح هذا الخلط التاريخي في مسألة القبح والحسن، نعرض للأدلة التي أُقيمت على اعتباريَّتهما ومناقشتها، ثُم نعرض إلى الأدلة التي ذكرها صدر

٦٧

المتألهين.

أدلَّة اعتبارية الحسن والقبح:

1 - اختلاف العقلاء في تحسين بعض الأمور وتقبيحها باختلاف الأزمنة والأمكنة، فهذا يعني عدم وجود واقع تكويني ثابت؛ بحيث يبقى الشي‏ء حسناً دائماً أو قبيحاً دائما.

2 - نفس وقوع التشاجر بين العلماء حول اعتباريتهما أو عقليَّتهما.

3 - يذكرون في إثبات النفس: أن الإنسان لو خلق من دون أعضاء أصلا، فإنه سوف يدرك ذاته، وهذا يدل على مغايرة الذات للبدن، وهكذا فيما نحن فيه، فلو خُلق الإنسان وحيداً في هذا العالم ولم يؤدَّب على العادات الحسنة ولم يلاقِ أيَّ إنسان آخر، فإنه سوف لن يحكم بحسن العدل وقبح الظلم، فهذا يدل على أنهما ليسا تكوينين، بل هما أمران جعليَّان.

4 - إن العقلاء إنما يحكمون بهذا الحكم من أجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم، فلو انعدم الاجتماع والنظام، لَمَا حكم العقلاء بذلك وبعبارة أخرى: أنّ هذه الأحكام للوصول لإغراض أخرى بواسطة هذا الاعتبار.

5 - ما ذكره المحقِّق الأصفهاني: أن الفعل المقتضي للمدح والذم على أحد نحوين، إمّا بنحو اقتضاء السبب لمسبَّبه والمقتضي لمقتضاه، وإمّا بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.

أما السببية والمسبَّبية، فهي تكوينية، لكنَّها ليست ناشئة عن النزعة العقلية وقوى الإنسان العقلية؛ بل هي ناشئة بدواع حيوانية كالانتقام والتشفِّي والغيظ. أما الغاية وذي الغاية، فإنها إذا ثبتت، فهي تعني وتدل على الاعتبارية؛ لأن الغاية لهيئة الاجتماع الاعتبارية، والمدح والذم،موجب لِمَا فيه صلاح العامة، فهو اعتباري محض.

٦٨

6 - ما ذكره ابن سينا والأصفهاني: أن الحسن والقبح لو كانا عقليين تكوينيين، لَمَا خرجا عن إحدى البديهيات الست وهما ليسا بواحدة منها، فيبطل كونها من البديهيَّات.

7 - إن المدح والذم يعدُّه العقلاء من الإنشائيات، والإنشاء من سنخ الاعتباريات.

8 - ما ذكره الشهيد الصدر: أن تعريف العدل هو إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، والظلم هو منع الحق، والحق أمر اعتباري قانوني، فكذلك العدل والظلم. ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الطباطبائي من عروض الحسن والقبح على الأمور الاعتبارية كالتوقير والاحترام.

و هذه الأدلة كلها مردودة. و قبل أن نستعرضها نتعرض لِمَا ذكره الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح، و هو كما ذكرنا أحد الأسباب التي أدَّت إلى مغالطة ابن سينا.

* إننا يجب أن نلاحظ الحد الماهوي للمدح و الذم؛ فالمدح هو القضية المتكفِّلة لحمل كمال معين على موضوع معين، والذم بخلافه. وعليه يُعلم أنه يجب أن يكون الممدوح آتٍ بكمالٍ، فيكون المدح هو التوصيف بالكمال، والذم هو التوصيف بالنقص، ولا يمكن أن يُمدح بغير كمال أو يذم بغير نقص؛ فيجب أن يكون هناك واقع يطابقه المدح والذم.

وبتعبير أخر: إن وظيفة المدح هو الحكاية الحقيقية عن الكمال، أي المحمول الذهني الحاكي عن الكمال الحقيقي الخارجي، والذم كذلك، فالارتباط بينهما هو الارتباط بين الحاكي والمحكي عنهما، وهما متَّحدان هويةً ومختلفان وجودا، فالكمال الحقيقي وجود خارجي، والمدح وجود ذهني. وحكاية وجود عن وجود أمر متسالم عليه، وأكمل صورة هو حكاية

٦٩

الموجودات عن وجود الخالق؛ إذ أنها آيات عظمته وقدرته، وكلَّما كان الوجود أكمل، فحكايته عن الوجود الإلهي أعظم وأتم. وقد قال عليه‌السلام : (ما للَّه آية أكبر منّي) باعتبار أن الكمالات التي وصل إليها عليه‌السلام ( بغير وجوده البدني) حاكية عن وجود الحق أكثر من حكاية السماوات والأرضين. فالوجود الخارجي يكون حاكياً عن وجود خارجي آخر أكمل وأتم من الأول. فالحكاية ليست مقتصرة على الوجود الذهني، بل إن الأفعال القبيحة الصادرة من الفاعل البشري المختار حاكية عن الهيئات الرديئة في النفس.

* ثُم إنه لا مضايقة في أن يخلق الإنسان وجودات اعتبارية للأمور الخارجية العينية؛ وذلك لغرض الاحتياج إلى هذا الاعتبار من أجل الاجتماع والتفاهم، وهذا الوجود الاعتباري لا يلغي الوجود التكويني الخارجي العيني، ومثاله الواضح: الوجود اللفظي والوجود الكتبي، فهما وجوادن اعتباريان دعت إليهما الحاجة، وهذان الوجودان الاعتباريان يكونان حاكيين عن الوجود العيني الخارجي. وقد تدعو الحاجة إلى اعتبار وجودات أخرى حاكية عن الوجود الغيبي.

وهكذا نستطيع ملاحظة الهجاء الوارد في القرآن، فهو وإن كان إنشائياً، لكنَّه حاكٍ عن أمور تكوينية وواقع خارجي، وإنما أظهره القرآن بإنشاء الهجاء؛ لإعلام الآخرين بما حصل في الأقوام الآخرين.

* ثُم إن الشجار في الأمر البديهي لا يؤدِّي إلى عدم البداهة؛ نوضح ذلك من خلال علم المنطق: إنه قد تعتري الإنسان أسباب تؤدِّي إلى إنكار البديهة كالمغالطة والشبهة في قبال البديهة، وهذا الإنكار لا يؤدِّي إلى إنكار بديهية القضية.

وقد يكون الإنكار في بعض الأحيان نتيجة حالة مرضية تصيب القوة العاقلة؛ حيث لا ينصاع العقل العملي لمدرَكات العقل النظري، فيصاب بحالة التشكيك الدائم كما وقع للرازي. فهذا كلُّه لا يؤدِّي إلى عدم بداهة القضية.

٧٠

هذا كلُّه جواب إجمالي عن أدلة اعتبارية الحسن والقبح، أمَّا الجواب التفصيلي:

1 - إن اختلاف العقلاء في التحسين والتقبيح حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة إما أن يكون ناشئاً من اختلاف التشخيص؛ أي عدم إصابة الكمال الواقعي والنقص الواقعي، وذلك لاختلاف الافهام والعقول، وإما أن يكون ناشئاً من اختلاف الظروف البيئية المختلفة كالاختلاف بين الأماكن الباردة والحارة، فإنه في الأولى يقبح لبس الملابس الخفيفة بخلاف الثانية.

2 - أمّا وقوع التشاجر والخلاف بين العلماء، فيُعلم جوابه مما مر.

3 - أمّا ما ذكروه من أن الإنسان لو خُلق وحيداً أو لم يؤدب، لَمَا حَكم بحسن أو قبح، فإن هذا كالمصادرة على المطلوب، بل إن العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولو لم يكن هناك اجتماع أو لم يؤدب، فإن الظلم - كما سوف نبيِّن - هو ممانعة شخص لكمال آخر، فلو عرِف العقل بذلك التعريف وفكّر به، فإنه سوف يحكم لا محالة بقبحه.

وابن سينا نفسه وقع في التناقض؛ حيث قال في إلهيات الشفاء في مسألة استحابة الدعاء والتضرُّع والتوسُّل: إن أكثر ما في أيدي الناس من الحسن والقبح حقٌّ يقام عليه البرهان.

4 - أمّا ما ذكره المحقق الأصفهاني؛ من أن سببية الفعل للمدح والذم تكون من مناشئ حيوانية، فهو غير تام؛ وذلك لأن للعقل ملائمات ومنافرات، وبالتالي يمكن أن يكون المنشأ هو داعٍ عقلي محض، ويكون العقل سبباً للمدح والذم، وهذا واضح في الكُمّلين من البشر، حيث نلاحظ أن انفعالاتهم ومدحهم وذمهم ليس ناشئاً من دواع حيوانية؛ وذلك لأن قواهم كلّها منصاعة تماماً للقوى العقلية، فتكون كل تصرفاتهم منبعثة عن العقل، فعندما يذمُّون ظالماً - مثلاً - لا يكون الذم بداعي

٧١

الغريزة الحيوانية. ويمكن أن يكون تعبير القرآن عن موسى: ( وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ ) إشارة إلى

ذلك؛ إذ أن النطق والسكوت من خصائص الإنسان، بخلاف الحركة والسكون العامة لمطلق الحيوان، فقد استخدم تعبير السكوت للدلالة على أن غضبه لم يكن ناشئاً من القوى الحيوانية، بل من القوى العاقلة؛ وسرُّه هو ما ذكرناه.

وهذا التحليل هو الذي يفسِّر لنا كيف أن الإنسان الكامل يكون رضاه رضا اللَّه وغضبه غضب اللَّه؛ لأن قواه كلها منصاعة لقواه العقلية التي هي معصومة في ما تتلقَّاه من مدرَكات عن العوالم العلْوية من مشيئة اللَّه.

ومن الجهة الأخرى؛ أي عندما نُخبَر بأن رضا اللَّه في رضا فاطمة (إن اللَّه يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها) فإن هذا يعني عصمتها؛ لأن هذا يعني سلامة النفس والانقياد إلى القوة العاقلة التي هي في اختيار مشيئة اللَّه، والتعبير المزبور إنما يُطلق ويصدق عندما يكون العبد تمام مظهر الطاعة والتبعية لربِّه.

5 - أمّا إشكال الشهيد الصدر، فجوابه بمخالفته لتعريف الظلم والعدل، فإن التعريف الصحيح للعدل هو: وصول كل موجود إلى كماله المطلوب من دون إعاقة وممانعة موجود آخر. والظلم هو: ممانعة موجود من وصول موجود آخر لكماله. فالعدالة الاجتماعية - مثلاً - هي: وصول كل أفراد المجتمع في حسن نظام المجتمع إلى كمالاته الممكنة من دون إعاقة الأفراد الآخرين، أما عندما تصل طبقة لكمالها على حساب طبقة أخرى، فإنه يكون من الظلم الاجتماعي. والتشريع إنما يكون عادلاً؛ لأنه يكون كاشفاً عن الكمالات المخبوءة في الأفعال والتي بها يصل الإنسان لكمالاته.

فالعدل كمال والظلم نقص، فيكون توصيف العدل والظلم بالحسن والقبح تكوينياً لا اعتباريا.

٧٢

أما الاحترام والتعظيم، فنفس الاحترام والتعظيم ليس بشي‏ء، بل المهم هو الداعي للاحترام والداعي للتعظيم؛ لِمَا فيه من ترويض النفس، وهو في الواقع تقديس واحترام للكمال المخبوء في ذلك الشخص، فالتقديس ليس للبدن، بل للصفات العالية، ومن هنا نقول: إن التقديس إذا كان للحقائق والكمالات، فهو دعوة نحوهما وسير حثيث اتجاههما.

وبهذا يختلف عن تقديس الأباطيل والخرافات، فهذه قدسية باطلة. وبتعبير آخر، يمكن القول: إن القدسية والتقديس هو خضوع قوى الإنسان السفلى إلى قواه العقلية العملية، فإذا كانت تلك القوى العملية مصابة بحالة مرضية وتنصاع للأباطيل، فتكون قدسية مذمومة. أمّا لو كانت القوة العملية منصاعة للكمالات العالية والتي بها تكبح جماح القوى المادون، فإنها قدسية محمودة.

6 - أمّا ما ذكر من أن المدح والذم من الإنشائيات، فقد ذكرنا أن الإنشاء لا يصدر إلاّ من داعي، وهذا الداعي أمر تكويني؛ فالهجاء هو إظهار للنقص التكويني، والمدح إبراز للكمال الخارجي الحقيقي، والبلاغيُّون قد أذعنوا بأن أقسام الإنشاء هي عناوين لماهيَّات الدواعي.

فتبيَّن من كل ما سبق: أن الحسن والقبح أمران تكوينيان واقعيان، وليسا اعتباريين كما ذهب إليه جلّ المتأخرين.

أدلَّة واقعية الحسن والقبح:

ونلفت أخيراً إلى براهين أقامها صدر المتألهين تثبت تكوينية الحسن والقبح؛ ذكرها بعد أن كان قد أنكر واقعيتهما عندما تعرض لهما ابتداءً، وهذا يلفت إلى الخلط والتردد الحاصل لدى مَن أتى بعد ابن سينا، بسبب الاضطراب الحاصل في كلماته.

والبراهين التي ذكرها للدلالة على واقعية الحسن والقبح ثلاثة:

٧٣

1 - العناية الإلهية:

أي أن للحق تعالى عناية بخلقه. والقاعدة الفلسفية المثبَتة هنا هي: أن علمه بالنظام الأتم والأكمل ورضاه به لهذا النظام. توضيح ذلك:

أن الباري يكون على أكمل وأشرف وأعلى ما يمكن أن يكون في مقام ذاته، فالصادر من الحق يكون كذلك؛ حيث أن آيات ومخلوقات اللَّه تدل على صفة الكمال في الباري، والنظام الذاتي يكون علة للنظام الخلقي، وإفاضة الكمال على ما دون هو من العناية.

وهكذا يستفيد الملا صدرا أنّ علم الباري هو منشأ إفاضة الكمالات للمخلوقات، وصفة العناية هذه هي التي تفيض ما يعرف بالنظام الأحسن والأكمل، حيث يكون كل عالم من العوالم بنحو يؤدي إلى تحقيق الكمالات الوجودية بنحو أكثر وأرفع، فعناية الحق توصل تلك الموجودات الفاعلة بالإرادة إلى أكمل ما يمكن أن تكون عليه، ومن هنا يستدل على ضرورة التشريع والتقنين الإلهي؛ حيث إنه يرشد الفاعل الإرادي إلى طريق هذا الكمال.

ومؤدّى هذه القاعدة (العناية) يمكن أن يستبدل بقاعدة اللطف المعروفة إلاّ أن الأولى الحاكم بها هو العقل النظري، والثانية الحاكم بها هو العقل العملي.

ونعود فنقول: إن الأفعال يجب أن تؤدي إلى الكمال المطلوب، وهذا يقتضي أن يكون لهذه الأفعال في الواقع كمال مُعين (العلم تابع للمعلوم الذاتي) وهو النظام الكمالي الذاتي، فالعلم (فعله الصادر) يتحدَّد طبقاً للكمال الذي في المعلوم، وهذا يعني أن في الأفعال الإرادية، في حد نفسها، كمال ونقص، وأن الخير والشر نابع من واقع الفعل الإرادي، وأن الحكم التشريعي الإلهي على طبق ما في الأفعال من خير وشر، فهو كاشف عمّا هي عليه في الواقع، لا كما يقوله الأشعري: إن واقع الفعل تابع لنمط التشريع، ولا هوية له في نفسه. أو لك أن تقول ما قدَّمناه؛ من أن حقيقة المدح: الإخبار عن الكمال. والذم: الإخبار عن النقص، فللأفعال الإرادية في نفسها مدح وذم؛ أي حسن وقبح.

٧٤

2 - تجسُّم الإعمال:

وهي قاعدة مهمة نقَّحها بوضوح فائق فلاسفة الإمامية مسترشدين بالروايات الواردة في ذلك؛ ومؤداها: أن تكرار الفعل يولِّد ملكات إما حسنة نورانية أو ملكات رديئة، وكلّما ازدادت، ترسَّخت في النفس أكثر حتّى تصبح جوهرية. من هنا قالوا: إن الإنسان ليس هو النوع الأخير، بل يتلبَّس بعد الصورة الإنسانية بصورة وفعل إما ملكي أو شيطاني أو بهيمي أو سبعي. وهكذا - وفي كل نوع - هناك شعب أخرى. بيان ذلك:

إن الإنسان في سعيه نحو الكمال إنما يبتغي أن يحصل على ما له ثبات، والكمال العرضي يكون في معرض الزوال، فيعود حاله إلى ما كان عليه قبل تحصيله. فهو يسعى لأن يحصل على كمال ذاتي يكون بنحو جوهري لا أن يكون معرَّضاً للزوال، وبهذا يتكامل ويصعد في سُلّم الكمالات ويثبت عند كل درجة، ويحصل هذا التغيير الجوهري عن طريق الأفعال المؤدية للكمال؛ حيث يُحدث الفعل - عند تكراره والمواظبة عليه - حالات في النفس تنتقل إلى هيئات، ثُم تتنقل إلى ملكات، فتشتد حتّى تصل وتصبح فصولاً جوهرية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن البدن يكون بشكل يتناسب مع القوة التي يتملَّكها الإنسان وغيره، فمثلاً في الذئب الهيئة الجسمانية لها تناسب مع القوة التي يمتلكها، ودلَّت الروايات على أن الأجسام الأخروية هيئتها تابعة للفصول الجوهرية التي يتكامل بها الإنسان أو يتناقص.

أمّا تطبيق القاعدة على ما نحن فيه، فهو أن موارد الحكم بالحسن هي نفسها في موارد الفضائل والكمالات، حيث يتبين أنها توجب تجسُّم تلك الأعمال بصورة نورانية، وموارد الحكم بالقبح هي نفسها موارد النقص التي تتجسَّم بصور رديئة ظلمانية، فيظهر من ذلك أن الحكم بالحسن والقبح ليس اعتبارياً، بل أمراً عقلياً له من مناشئ تكوينية.

٧٥

3 - قاعدة الغاية:

وهذه قاعدة تُبحث في أبحاث العلل، وهي تعني وجود ارتباط بين صدور الفعل وغايته؛ بمعنى أن تصور النتيجة المترتبة على الفعل القصدي تكون دافعاً لرغبته للقيام بذلك الفعل، فهناك ارتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعلية الفاعل، وهناك ارتباط بين الوجود الخارجي للفعل والتوصل للغاية، فالوجود العلمي هو في سلسلة العلل المتقدِّمة على الفعل والثانية متأخرة عن وجود الفعل. وقد وردت هذه القاعدة في بيانات عدّة ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) فهناك تقدير مقدّم على الخلق وهداية لهم بعد الخلق، فالمخلوقات في سير تكاملي، وهو الغاية التي من اجلها خُلقت. وهذا البرهان بهذا النحو يختلف عن برهان النظم وإن اقتربا من بعضهما. وإنكار العلة الغائية يساوق إنكار العلة الفاعلية.

أما تطبيق ذلك على الحسن والقبح، فبيانه: أن الفاعل الإرادي لا يفعل فعلاً إلاّ لأجل غاية، وهذه الغاية هي تحقيق الكمال، فالكمال يتحقق بهذا الفعل، وهذه هي الموارد التي يحكم بها العقل بالحسن، فالحسن راجع لكمالٍ يتحقق بواسطة هذا الفعل، فهو أمر واقعي، والكمال المقصود هو: كمال للقوة العاقلة وما فوقها من درجات النفس، وتكون موجِبة للقرب الإلهي. أما في موارد القبح، فإن الكمال الذي تحققه بالأفعال هي كمالات للقوى الشهوانية والغضبية، فدعوى الأشعري: أن لا حسن ولا قبح واقعي في الأفعال، يساوق إنكار العلة الغائية، وإنكار العلة الغائية يؤدي إلى إنكار العلة الفاعلية.

فتلخَّص من مجمل البحث أن الحسن والقبح العقليين أمران تكوينيان واقعيان بالأدلة المثبِتة، سواء على مبنى المتقدِّمين كابن سينا أو على مبنى صدر المتألهين.

٧٦

التنبيه الثاني:

الخطأ في الفكر البشري

ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو في كيفية نشأة الخطأ في الفكر البشري، وقد أثار هذا التساؤل كثير من الفلاسفة والمناطقة وأجابوا بإجابات متعدِّدة:

منها: أن علوم المنطق تتكفَّل عصمة الفكر عن الخطأ، ويبقى على عاتق الإنسان مراعاته عند

التطبيق، فالخطأ الناشئ هو من سوء التطبيق.

ومنها: أن الخطأ ينشأ بسبب خطأ نفس مواد الأقيسة؛ حيث أن بعضها نظري، وكلَّما ابتعدت القضايا عن البداهة زادت نسبة الخطأ.

ومنها: أن الخطأ هو نتيجة عدم توازن في أفعال النفس؛ فقد ذكرنا سابقاً أن الإذعان والجزم الحاصل لدى النفس هو غير النتيجة، وأن وظيفة العقل النظري هو الإدراك، فالخلل يحصل عندما يحصل جزم وإذعان غير متناسب مع درجة الإدراك الحاصلة لدى العقل النظري.

وقد سعى الفلاسفة والمفكرون لإزالة هذا الخطأ، أو على الأقل تقليل نسبة الخطأ، ومن تلك المحاولات ما دعى إليه السيد الشهيد الصدر(رحمه الله) باعتماد منهج الاستقراء وتراكم الاحتمالات في الفكر البشري بدلاً من القياس الأرسطي، والاستقراء طريقة رياضية عملية، حيث تتضاءل احتمالات الخلاف حتّى تصل إلى نسبة قليلة جداً بحيث تقوم النفس بإلغاء احتمال الخلاف، وتتعامل مع النتيجة

٧٧

معاملة اليقين الصحيح التام، وتكون النتيجة حينئذ يقينية برهانية.

ولنا على هذه النظرية تعليق لا يتَّصل بجوهرها، فهي متينة وتامة، لكن:

1 - إن ما توصل إليه السيد الشهيد بحساب الاحتمال وكيفية تضاؤله، ومن كون النتيجة الحاصلة من الاستقراء برهانية،خطأ؛ إذ إن النتيجة ليست برهانية، بل العمل بهذه النتيجة برهاني؛ بمعنى أنه أقام البرهان على تعين العمل بهذه النتيجة، كما يقوم البرهان في علم الأصول عبر دليل الانسداد على وجوب العمل بالظن. وبعبارة أخرى: النتيجة ليست يقينية وإن كان العمل بها لابدَّ منه بالدليل اليقيني.

2 - لقد ذكر السيد أن بإمكان استخدام هذه النظرية لإثبات الغيبيات وما وراء الطبيعة، وهذا غير تام؛ لأن هذه الطريقة تظل غير يقينية ونحن لا نحتاج إليـها في إثبـات الغيـب، إذ لدينـا كثير من البراهين - كبرهان

الصديقين - التي تورث اليقين.

3 - إن احتمال الخلاف يظل قائماً، وجزم النفس على خلافه - وهو قليل جدَّاً - لا ينفيه من أساسه، ولا يتحول إلى يقين.

٧٨

التنبيه الثالث:

الثابت والمتغيِّر

من المسائل المهمة التي تبتني على مسألة الحسن والقبح هي ثبات التشريع وتغيُّره، فبناء على اعتبارية الحسن والقبح وإنه لا واقع حقيقي وراء تطابق آراء العقلاء، فإن الحسن والقبح يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، وبالتالي لا يوجد ما هو ثابت في التشريع، بل هو متغيِّر. أمّا بناء على أنهما أمران واقعيَّان، فالنتيجة خلافها.

ـ وقد يصاغ هذا البحث بصياغة أخرى، وهي: أن ختم النبوة يعني أنْ لا حاجة إلى النبوة حتّى يوم

القيامة؛ وذلك لأنَّ العقول تكون قد تكاملت بواسطة تلك النبوة الخاتمة، ولا تحتاج إلى رعاية نبي ولا وصي، ولا هدايتهما.

ـ وقد تصاغ بنحو ثالث، كما ذكره العلاّمة الطباطبائي، وخلاصته: أن الإرادة تنبعث من جهات اعتبارية لا حقيقية، وحسب تغيُّر هذا الاعتبار تتغيَّر وجهة سير هذا الإنسان.

أمّا جواب هذه الصياغات:

فأوَّلاً: بما مرَّ من البراهين التي أثبتت تكوينية الحسن والقبح.

ثانياً: أن دعوى تكامل العقول تعني وقوف السير والبحث والفحص العلمي لدى البشرية؛ لاطلاعهم على الحقائق وإصابتهم لها، والحال أنَّا نجد من أنفسنا الإذعان بعدم توقُّف هذا السير ولن يتوقف هذا السعي الحثيث لدى الفطرة

٧٩

البشرية، وهذا يدل على أمرين:

الأول: وجود واقعية وحقيقة ثابتة تسعى البشرية للوصول إليها.

الثاني: عدم إمكان وصول البشرية إلى الإحاطة بتمام تلك الحقيقة الواقعية وإن كانت الإصابة النسبية مستمرة، وهذا وإن لم يزلزل الحقائق المتوصَّل إليها، إلاّ أنها لا تعني تمام الواقع.

وهذان الأمران يستلزمان دوام حاجة البشرية إلى التشريع السماوي والنبوة المحمدية؛ لأن ربَّ الواقعية هو المحيط تماماً بها. كما يثبت بذلك عدم إحاطة البشرية بكنه غايات التشريع السماوي والمصالح المخبوّة فيه.

ثالثاً: أمّا جواب ما يُدَّعى من انبعاث الإرادة دوماً من الاعتبار، وهو الذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي، فهو يستدعي أن نُلقي نظرة على ما سطَّره يراعه الشريف في رسالة الاعتبار والتي تُعتبر حصيلة البحث الأصولي في ذلك الوقت.

تحليل مختصر لنظرية الاعتبار:

وملخَّص ما ذكره العلاّمة:

أ - إن الاعتبار يمثِّل جانباً من نشاطات العقل العملي ومدرَكاته، وشأناً من شؤونه.

ب - إن كل موجود يسعى نحو كماله؛ فالفاعل غير الإرادي يوجد له صراط معيَّن يسير فيه. أمَّا الموجود الإرادي، فإنه يسعى نحو كماله من خلال إرادته.

ج - إن الفاعل الإرادي في تحريك إرادته يسعى نحو تحقيق ما هو غير موجود. أمَّا ما هو موجود، فلا يسعى لتحصيله كما هو واضح.

د - إن الإرادة تنطلق من قضايا غير حقيقية؛ أي لا واقع خارجي فعلي لها، فلا محالة تكون القضايا اعتبارية وهي التي تولِّد الإرادة، ومن دونها لا يمكن للإرادة أن تنطلق.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440