الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 127182
تحميل: 7059


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 127182 / تحميل: 7059
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هـ - أوّل اعتبار قام الذهن بتصويره حتّى يُحرِّك الإرادة هو إيجاد نسبة الضرورة بين موضوع ومحمول لم تكن بينهما تلك النسبة من قبل؛ بيان ذلك:

إن الإنسان يرى وجود نسبة حقيقية بين ذاته وبين أعضائه، فيقوم بجعل نفس هذه النسبة بين نفسه وبين الأكل، فيسعى نحو تحقيقه، فيتحرك نحو الغذاء. وعبّر عن هذا بأنه أوَّل خديعة.

بعض تلامذة العلاّمة يصوّر الخديعة بنحو أخر؛ وذلك بأن الخديعة التي تقوم بها هي: تصوير أن حاجات البدن هي حاجات الروح، ويجعلها ضرورية لها، وتفسير هبوط آدم إنه هبوط إدراكي؛ حيث جعلت الروح البدن جزءَ حقيقةٍ نفسها، فجعلت كمالات البدن وحاجاته هي حاجات لها، فأول خديعة هي من جعل البدن جزء من الروح؛ خدعته بها الفطرةُ الإنسانية؛ لتتوصَّل بها إلى الخير بالذات والكمال المطلق الحقيقي.

و - إن نسبة الضرورة تعني الوجوب، وهو متقدِّم على الحرمة، كما أن الاستحباب متقدِّم على الكراهة؛ وذلك لأن الشعور بالحاجات والضرورات متقدِّم على الشعور بالمضرَّات والمؤذيات التي هي نسبة الامتناع.

ز - مثال آخر على نشأة اعتبار آخر؛ هو (اعتبار الملكية) وكيفية حصوله: هو أنه رأى وجود نسبة حقيقية بين الإنسان وسلطته على أعضائه وتصرُّفه بها كما يشاء، فجعل هذه السلطة بين الأمر الخارجي وبين نفسه حتّى يستطيع التصرُّف والاستفادة منه وحده؛ لا ينازعه فيه أحد.

ح - وأوَّل اعتبار اجتماعي نشأ؛ هو: اعتبار الألفاظ ودلالتها على المعاني، ثُم بعد ذلك تولَّد اعتبار العقد والمعاملات، واعتبار الرئاسة؛ وذلك لأن في الإنسان توجد قوة العقل التي تكون مهيمنة على بقيَّة القوى، فانتزع العقل هذه النسبة وجعلها في مملكة صغيرة هي مملكة الأسرة ورئاسة وهيمنة ربِّها، ثُم للمجتمع.

٨١

ط - إن الاعتبارات غير ثابتة و متزلزلة، فلا يمتنع أن لا يأتمر و لا يتبع الإنسان ذلك الاعتبار، لذا مسَّت الحاجة إلى أن تَعتبر ما يدعم هذا الاعتبار ويجعله مؤثِّراً في إرادة الإنسان، فاعتُبر الثواب والعقاب، واعتُبر المدح والذم. فاعتبار المدح والذم إنما هو لأجل أن يكون دافعاً لأن يتَّبع الإنسان الاعتبار الأصلي؛ حيث يضعف تأثيره، وكلَّما قوي تأثيره، ضعفت الحاجة إلى الثواب والعقاب أو إلى مدح وذم العقلاء.

والعلاّمة الطباطبائي في المقالة الثانية من رسالة الاعتباريات يركِّز على أمر مهم؛ وهو كيفية نشأة التكوين من الاعتبار، حيث أوضح في مقالته الأولى كيفية نشأة الاعتبار من التكوين والحقيقة، وكيف أن الاعتبار هو إعطاء حد الشي‏ء أو حكمه لشئ آخر بتصرف الوهم، وأنه ينشأ بسبب النقص؛ وهو أمر حقيقي. أمّا في المقالة الثالثة، فبيّن أن الاعتبار يولِد الإرادة، والإرادة تُحقِّق الفعلَ التكويني الخارجي؛ وهو إما كمال للإنسان أو نقص، فينشأ حينئذ التكوين من الاعتبار، فولِّد العقلُ التكوين من خلال عنوانٍ اعتباري.

وجوه التأمل في نظرية العلاّمة:

لا يخفى ما في النظرية من ظرافة ودقَّة نظر، ويظهر كذلك مدى أهميتها في صياغة الفكر البشري، وهذا لا يمنع من وجود بعض التأملات لنا عليها:

1 - إننا نتَّفق مع العلاّمة في:

* إن العقل النظري لا يحرِّك الإرادة؛ لذا سوف يأتي في الفصل الثاني أن التوحيد النظري من دون التوحيد العملي؛ وهو تولّي وليّ اللَّه الذي يهدي لإرادات اللَّه ومشيئآته، لا يوجب تحرَّك الإنسان، بل توجد مراتب أخرى متوسطة حتّى تصل إلى مدرَكات العقل العملي.

٨٢

* إن الفاعل الإرادي لا يتكامل إلاّ بتوسط إرادته.

* إن الإرادة لا تسعى إلى تحصيل ما هو متحقق بالفعل لأنه تحصيل للحاصل.

لكن نختلف مع العلاّمة في تحديد القضايا الحقيقية، فقد ذكر أن كل ما ليس له تحقق خارجي فعلي فهو قضية اعتبارية، وهذا غير صحيح وغفلة منه‏(قدِّس سرُّه)؛ وذلك لأن القضية الحقيقة لا تساوي القضية الخارجية، بل هي تشمل ما يكون الموضوع فيها حاكٍ عن وجودات في ظرف الاستقبال، وما تكون حاكية عن وجود تقديري، وما تكون حاكية عن موضوعات ممتنعة وهي القضايا غير البتِّية التي ليس فيها سوى فرض الوجود، وهذا أمر متسالم عليه، وبناء عليه فإن القضية التي يتصورها العقل ويحكم بها العقل العملي هي غير حاصلة في الخارج فعلاً، لكنها ليست اعتباراً محضا، بل تكون قضية حقيقية.

2 - لقد حصر العلاّمة (رحمه الله) ‏الحاجة إلى الاعتبار في أنه مولِّد للإرادة، وهذا غير صحيح، بل إن الحاجة للاعتبار هو أمر آخر ذكره المتكلِّمون والأصوليون؛ حاصله:

إن الإرادة تنبعث من مدرَكات العقل العملي، ومدرَكات العقل العملي هي من الكلِّيات الفوقانية كحسن العدل وقبح الظلم، ومن هذه المدرَكات التي تمثِّل رأس مال العقل العملي ينطلق في سلسلة إدراكاته، وكذلك يستطيع إدراك الكلِّيات القريبة وفوق المتوسطة كحسن الصدق وقبح الكذب. أمَّا الكلِّيات النازلة والجزئيات الحقيقية، فإن العقل العملي لا يصل إليها كما في قبح القمار، ونكاح الشغار، ناهيك عن الجزئيات الحقيقية المتكثِّرة وغير المتناهية، من هنا يُحتاج إلى ضابطة تكون كاشفة عن حسن هذه الأمور وقبحها؛ وهذه الضابطة تكون بالاعتبار، فالاعتبار وظيفته الكشف عن الحقائق وما تخبِّأه من حسن وقبح، وحينئذٍ تنطلق الإرادة من هذا الاعتبار الكاشف، لا من كونه اعتباراً محضا.

والاعتبار إنما يكون كاشفاً صائباً للواقع في حال صدوره من العقل اللاّمحدود

٨٣

الذي يعلم بحسن وقبح جميع الأفعال.

3 - ما ذكره من توسُّط الاعتبار بين حقيقتين وتكوينين صحيح، لكنَّه الاعتبار بما هو كاشف، لا بما هو اعتبار.

ونضيف على ما ذكره العلاّمة، وتكملة لِمَا ذكرناه من الحاجة للاعتبار:

ـ إنه قد يُتساءل: لماذا لجأ إلى الاعتبار - الذي هو إنشاء - في الكشف عن الحقائق، ولم يلتجأ إلى الإخبار عن حقيقة الأفعال الخارجية؟

والجواب عنه:

أ - إن الجزئيات غير متناهية، فإذا اعتمد أسلوب الإخبار التفصيلي، فهذا يعني إخبارات غير متناهية؛ لعدم تناهي الأفعال وعدم تناهي الأشخاص، فيجب أن يكون إخباراً لكل واحد. ويترتَّب عليه أن يُجعل كل الناس أنبياء، وأن لا يخطئ الكل في فعل، وهذا يبطل عالم الامتحان والابتلاء.

ب - إن برهان النظام الأصلح يقتضي وجود مراتب في العلم والوجود، والإخبار التفصيلي لكل واحد يقتضي عدم وجود مراتب، ويبطل النظام الأصلح.

جـ - إن الإخبار قد يؤدِّي إلى اختلاط الجزئيات؛ حيث إن الجزئي قد تكون له جهة حسن، وله قبح من جهة أخرى هي العامة، وقد يختلف الجزئي الواحد في تقديم جهة على جهة عن جزئي آخر، فلا تنضبط القضايا بضابط معين، بخلاف ما لو جعل ضابط يكون غالب المطابقة للواقع، فإنه ينظِّم حالة الإنسان بنحو أفضل. فالاعتبار أحد أمثلته: القانون الوضعي؛ حيث يراد من وضعه أن يكون كشفه غالبيا.

د - إن وساطة الاعتبارين الحقيقين هي وساطة إثباتية؛ باعتبار كشفه عن الواقع، ولا يتبعه الإنسان لأنه اعتبار، بل لأنه كاشف عن الواقع؛ وما ذلك إلاّ لأن الإنسان لا ينطلق إلاّ من الحقائق.

وما ذكره من أن أول اعتبار هو الأكل ونحوه، محلُّ إشكال؛ إذ لا داعي فيه إلى الاعتبار؛ حيث إن الأكل يُعتبر مكمِّلاً للبدن، ويَشعر الإنسان

٨٤

بحاجته ويقصد إليه، وهذه حقيقة يتولَّد منها الشوق والإرادة، وهذه الواقعية يدركها العقل - سواء العملي أم النظري - بسهولة، فلا حاجة إلى الاعتبار.

وهنا قد يرد تساؤل حول ما يظهر من التناقض بين قولنا فيما سبق: إن الإرادة تنطلق دوماً من

الحقائق( القضايا الحقيقية)، وبين ما ذكرناه في الأسطر السابقة من انطلاق الفاعل الإرادي من القضايا الاعتبارية.

وحلُّ هذا الإشكال يتمُّ بالتدقيق فيما بيَّناه من الحاجة إلى الاعتبار؛ إذ إنما يَلجأ إليه العقل لجهة كشفه عن جهات الحسن والقبح في الفعل، فهذا الاعتبار يساوق الحقيقة؛ لأنه يكون كاشفاً عن أمر واقعي، وليس بما هو اعتبار محض. ومن هنا لا يتَّبع الفاعل الإرادي أيَّ مُعتبر كان، بل يتحرى المُعتبرَ المطّلع على جهات الحسن والقبح، وخير مثال على ذلك: الاعتبار التشريعي الإلهي. فالإنسان يتَّبعه لأنه صادر من عقل لا محدود ومن المحيط بكل شي‏ء، فهو كاشف عن الواقع والتكوين، وهكذا الاعتبار في القانوني الوضعي؛ لأنه يقتضي صدوره من الكُمّلين في مجتمع بشري ما، فيتَّبعه لهذا الكشف أيضا؛ ومن ثَمّ ذكر أرسطو أنه لا يمكن أن يصدر التقنين إلاّ ممَّن يكون إنساناً إلهيَّا.

أمّا ما ذكر من الإثارة، وهي التغيُّر في التشريع وعدم الثبات، فيمكن الجواب عنه بما يلي:

1 - إن الحسن والقبح واقعيان، فأحكام العقل العملي ليست متغيِّرة، وقد برهنا على ذلك.

2 - إن الاعتبار ليس أمراً اعتباطياً يقوم به كل واحد، بل لأجل الكشف عن الواقع، فيجب أن يتولاَّه مَن تكون له تلك القدرة؛ وآية ذلك أن المقنِّن الوضعي لا يُوكل كلَّ مَن هب ودبّ، بل يتخيَّر من أفراد المجتمع فئة خاصة تمتلك الخبرة والتجربة.

3 - هناك نظريتان مشهورتان؛ أحدهما: المسمَّاة بنظرية التضاد أو الديالكتيكية.

٨٥

والأخرى: نظرية العقل التجريدي.

الأولى؛ تفترض عدم الثبات والتغيُّر الدائم. أمَّا الثانية، فتفترض الثبات ولو بنحو الموجبة الجزئية. وقد أُثري البحث فيهما بنحو تام وكامل، وثبت خطأ الأولى؛ لأنهم لابدّ أن يفترضوا ثوابت حتّى في نفس نظريتهم، فيكون نقضاً عليهم. إذن؛ لابدَّ من الاستناد إلى ثوابت، وإذا افترض أن كل شي‏ء في تغيُّر وغير ثابت، فما هو الهدف من البحث والاكتشافات؟ فإن كان للإثبات، فالسعي من أجل اكتشاف المجهول لن يصل إلى حد وغاية؛ حيث لا واقع ثابت.

4 - إنَّا نسلِّم بوجودِ ثابتٍ وبوجود متغيِّر، لكن المشكلة في تحديد ضابط كلٍّ منهما. فمنطقة الثبات - كما أشرنا إليها سابقا - هي منطقة الكلِّيات العالية - كحسن العدل وقبح الظلم - والكلِّيات المتوسطة القريبة من العالية كالأخلاق الفاضلة المنبعِثة عن المَلَكات الفاضلة. أمَّا ما دونها؛ وهي منطقة الاعتبار، فهي تحتاج إلى ضوابط لمعرفة المتغيِّر والثابت.

ونستطيع أن نستفيد من القانون الوضعي وتقسيمه لتقريب فكرة الثابت والمتغيِّر في الاعتبار، بعد ثبوت أن لغة القانون والاعتبار واحدة. فإن القانون الوضعي على ثلاثة أقسام: الدستور / التشريعات البرلمانية / التشريعات الوزارية. فالقسم الأول غير قابل للتغيُّر عادة (1) ، والقسم الثاني أقلُّ ثباتا. أما الثالث، فهو دائم التغيُّر، وهكذا في الاعتبار؛ فنجد بعض الاعتبارات غير قابلة للتغيير، والبعض الأخر يحصل فيه التغيير والتبديل.

لكن ما هي ضابطة الأمور والاعتبارات المتغيِّرة؟

لقد ذُكر هنا ضوابط متعدِّدة، نذكر منها:

____________________

(1) والدستور ينطلق في وضعه من أهداف وأغراض ثابتة بحسب رشد مقنِّني الأمة كهدف الاستقلال والحرية والعدالة.

٨٦

1 - ذكر الميرزا النائيني أن ما هو قابل للتغيُّر هو الأحكام السياسية. أمَّا بقيَّة التشريعات، فثابتة. وتوضيح المقصود من الأحكام السياسية كالتالي:

إن التسيُّس هو التدبير وكيفية جعل الجزئيات متطابقة مع الكلِّيات الفوقانية؛ حيث إن الأمر الكلي الذي يُكتشف بقوة العقل يتنزَّل حتّى يصل إلى هذا الجزئي الحقيقي، فابتداءً هذا الجزئي لا يكون مندرجاً تحت قانون معيَّن، ولا محدود بميزان مخصوص، وإنما يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، ويتغيَّر بتغيُّر المصالح والمقتضيات، وبالتالي يجب أن تكون هناك قوة خاصة لدى الإنسان تُرجِع هذه الجزئيات إلى كلِّياتها حسب جهات الحسن والقبح، وهذا يكون بقوة الفطنة. وهذه الجزئيات هي منطقة البرهان العياني؛ فالفطنة لا تتدخَّل في الجزئي الخارجي بقدر ما تُشخِّص إنه تحت أي كلي؟ وكيف يتنزَّل هذا الكلي في مدارج النفس إلى العمل الجزئي؟

2 - من الأمور التي تؤدِّي إلى تغيُّر الأحكام، هو تبدُّل الموضوع الجزئي.

3 - وجود التزاحم والورود بالعناوين الثانوية كالعسر والحرج والضرر على صعيد الأحكام الاجتماعية والأمور العامة، ولكن ليُلْتفت إلى أن الحكم الثانوي لا يكون إلاّ مؤقَّتاً دائما، ولا ينقلب إلى الدوام؛ لأنه خروج عن مقتضاه.

4 - الاختلاف في الإحراز ومدى رعاية الضوابط الموضوعة، سواء في فهم القانون الإلهي أم القانون الوضعي، فكم نجد من فقهاء القانون يختلفون في تفسير القواعد القانونية، وهكذا في فقهاء الشريعة؛ حيث يختلفون في تفسير وفهم بعض النصوص الإلهية.

وهذا الاختلاف لا يتناول الكلِّيات الفوقانية؛ وذلك لأنها ثابتة وغير متغيِّرة، والأمور الثابتة أكثر وضوحا، والخفاء فيها يقل، بل يندر، والخفاء يظهر في الجزئيات والمتوسطات التي هي ذات درجات كثيرة وعرض عريض؛ حيث تتداخل

٨٧

الجزئيات مع بعضها البعض، فيكون عنصر الغموض.

وتتفق هذه الأسباب الثلاث على أن مورد الاختلاف والتغيُّر هو في الجزئيات، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى فهم الضوابط التي تمنع الإنسان من الوقوع في الاشتباه عند تمييز الجزئيات، وهذه الضوابط تقع في مباحث أصول الفقه.

و يتلخَّص من كل ما مر:

1 - إن الأساس للأحكام الشرعية هو الحسن والقبح العقليين، وهما برهانيان، وهذا يعني أن لا تبدل فيهما ولا تغيُّر.

2 - إن منشأ الحاجة للاعتبار هو محدودية العقل البشري، فتظهر عناية ولطف واجب الوجود بأن يبيِّن لهم تشريعات ثابتة في تلك المنطقة التي لا يدركها العقل المحدود.

3 - إن جهات التغيُّر والتبدُّل في الاعتبار هي غالباً في منطقة الجزئيات.

٨٨

التنبيه الرابع:

في تبعية الولاية التشريعية للولاية التكوينية

المقصود من هذا البحث بيان أن مَن له صلاحية التشريع وسنِّ القوانين يجب أن يكون له مقام

تكويني خاص. فبعد اتفاق جميع الموحِّدين أن المشرّع الأول والمحيط بالواقع وحقائق الوجود هو اللَّه عزَّ وجل، يرد التساؤل والبحث: هل أُعطيت صلاحية مقدار من التشريع للبشر؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فأي بشر هو الذي يمكنه سنُّ القوانين؟

للإجابة عن هذا التساؤل يوجد مسلكان:

المسلك الأول: النقل والاستدلال بالآيات القرآنية والروايات الشريفة الدالة على هذه التبعية؛ من نحو قوله تعالى: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (1) ، ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تسليماً ) (2) ، ( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (3) .

ومن أمثلة الروايات: ما ورد أن الصلاة الرباعية كانت ثنائية، فأوكِل التشريع للرسول فجعلها رباعية، وغيرها من الروايات.

المسلك الثاني: العقل. وهذا هو المقصود بالبحث هنا، فيمكن إقامة وجوه ثلاثة لإثبات تلك التبعية:

____________________

(1) الحشر 59: 7.

(2) النساء 4: 65.

(3) الأحزاب 33: 21.

٨٩

الوجه الأول:

وهو ما ذكرناه سابقاً في التنبيه الثاني من وجه الحاجة إلى الاعتبار؛ حيث بينَّا:

أ - الحاجة إلى التشريع والقانون لتنظيم الاجتماع ولمسيرة الإنسان في هذه الحياة.

ب - إن العقل البشري لمحدوديته لا يستطيع التوصل إلى الواقع، ولا يحيط بجهات الحسن والقبح والموازنة بينها.

ح - يحتاج العقل المحدود إلى مَن يسنُّ له تلك القوانين، فتتم صياغة الحقائق عن طريق قضايا اعتبارية قانونية.

وحتّى لا تكون هذه الصياغات جهلاً، يجب أن تكون مطابقة للواقع، فيجب أن يتصف مَن يسنُّ تلك التشريعات أن يكون له علم متصل ومرتبط بالذات المقدَّسة، وإلاّ لأصاب التشريع والتقنين التغيير والتبديل كما نراه في التشريعات الوضعية الحديثة على مرّ الزمان.

د - إن من رحمة اللَّه بعباده ورأفته بهم أن يوصل العباد إلى كمالاتهم ويُبعدهم عن نقائصهم، فطِبقاً لذلك، ولِمَا ذكره المتكلِّمون بقاعدة اللطف أو ما ذكره الفلاسفة بقاعدة العناية الإلهية، يجعل الباري تعالى في بني الإنسان مَن له ذلك الاتصال الغيبي وتلك المنزلة الرفيعة.

وبذلك يثبت أنَّ مَن تكون له الولاية التشريعية وصلاحية سنِّ القوانين، له أيضاً ولاية تكوينية واتصال غيبي بالذات المقدَّسة.

الوجه الثاني:

ويعتمد على:

1 - ملاحظة الجهاز الإدراكي للإنسان وتفصيل قواه العقلية وكيفية توصُّـله للنتائج. وقد ذكر الفلاسفة أن هناك جهازين يحكمان إدراكات الإنسان؛

أحدهما: الجهاز القلبي؛ وهو يُعني بالعلم الحضوري. ومراتبه أربع: قلب، وسر، وخفي، وأخفى.

٩٠

وثانيهما: الجهاز العقلي الذي يحكم إدراكاته الحصولية. ومراتبه هي: العقل النظري، والعقل العملي، وقوة الفطنة والرؤية، والقوة النازلة الإدراكية كقوة الوهم والخيال والحس، والقوى العملية النازلة كقوى الغضبية والشهوية.

وهذه القوى النازلة تكون منصاعة إلى قوة العقل العملي بحسب الفطرة الإلهية الأصلية، وهو يمارس هيمنته وتوجيهه لها.

2 - ذكرنا في التنبيه الأول ما يميِّز العقل العملي عن النظري؛ فالإدراك لأيِّ قضية يمرُّ عَبر أفعال ثلاثة:

أحدها: الفحص والبحث في الفكر.

الثاني: إدراك النتيجة المتولِّدة من المقدمات.

الثالث: الإذعان بتلك النتيجة والتسليم بها.

وقد أشار صدر المتألهين في رسالته في التصوير والتصديق وتبعه جلُّ المتأخرين: أن النتيجة والحكم في القضية لا يعتبر جزءاً للقضية. فالتصور؛ وهو الصورة الحاصلة لدى الذهن، تارة تكون مؤدِّية ومؤثِّرة في حصول الحكم، فتكون تصديقا، وتارة لا تكون مؤثِّرة، فتسمّى تصورا. وهاتان المقدمتان هما من إدراك العقل النظري؛ فهو يدرك النتيجة المتولِّدة من المقدمات، لكن هذا غير الإذعان والحكم الذي هو من أفعال العقل العملي. ويفسر العلاّمة الطباطبائي الحكم بأنه (1) : قيام النفس بدمج صورة الموضوع مع صورة المحمول في صورة واحدة.

وقد تقدَّم منَّا الإشارة إلى أن المراد من وجوب المعرفة هو الفعل الثالث، ومن هنا قلنا بإمكانية كونه واجباً شرعياً.

3 - كثير من المفكِّرين يتوهَّمون بأن العلاقة والارتباط بين المقدِّمات (الصغرى والكبرى) والنتيجة، والعلاقة بين النتيجة والحكم والإذعان، هي علاقة العلية والمعلولية؛ بمعنى استحالة تخلُّف النتيجة عن مقدِّماتها واستحالة تخلُّف الإذعان عن النتيجة، لكن الحق أن الفلاسفة اثبتوا خلاف ذلك. فقد ذكر السبزواري في منظومته في بحث القياس أن الرابطة ليست هي رابطة العلة والمعلول، بل المقدمات

____________________

(1) نهاية الحكمة، ص 252.

٩١

إعدادية فقط. والمتكلِّمون ذكروا بأن سنَّة اللَّه جلَّ وعلا قد جرت على أنه إذا أُدركت تلك المقدمات، فإنها تكون مُعِدَّة لإفاضة النتيجة على الإنسان، وهذه الإفاضة من العقول العالية على العقل البشري النازل.

والذي أوقع البعض في هذا الوهم، هو عدم التخلّف، وغفلوا عن أن هذا لا ينحصر بالعلية. وقد ذكر الحق سبحانه في مثال الفلاح الذي يقوم بعملية الزرع؛ حيث نصَّ سبحانه على أن وظيفته ليست إفاضة وجود الشجرة على البذرة، بل يقوم الفلاح بالإعداد عن طريق تهيئة التربة ووضع البذرة وريّها. أمّا المُفيض لوجود هذا النبات فهو الحق سبحانه: ( ءَأَنتُمْ تَزرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) . وقد أثبت الفلاسفة أن الجسم لا يمكن أن يُفيض صورة جسمية أخرى. وهكذا الارتباط بين النتيجة والحكم والإذعان؛ فالوظيفة التي يقوم بها العقل العملي هي الإذعان بالنتيجة، فهذا هو الحالة الطبيعية، وهي بذلك تكون مُعِدَّة لحصول ذلك الإذعان وليست علة.

4 - إن ما ذكرناه سابقاً في تسلسل عملية الإدراك في الجهاز الوجودي للإنسان هي الحالة الطبيعية والتي بمقتضاها ينصاع الأسفل إلى الأعلى، وتمارس القوى العُليا هيمنتها على القوى النازلة، وتنساب عملية الفكر والإدراك في هذه المراحل المتسلسلة، لكن هذا التسلسل لعملية الإدراك يواجه عوائق وموانع تمنع عن حصول الإدراك الصحيح، وتمنع من خروج التصرف الصحيح طبقاً للإدراك الصحيح، وتؤدِّي هذه العوائق إلى قلب عملية التفكير؛ حيث تُسيطر القوى النازلة على القوى العالية وتتحكَّم بإدراكاتها؛ بمعنى أن ما ندركه، هو ما يحقِّق كمالات تلك القوى، فيندفع الإنسان حينئذ إلى تحقيق شهواته وإشباع رغباته الفتَّاكة.

ومن هذه الأمراض (1) :

مرض الجُربزة؛ وهي مقابل للبلادة؛ وهي البطء الشديد في إدراك النتائج بعد

____________________

(1) لاحظ: ملاّ صدرا، الأسفار، ج8.

٩٢

إدراك المقدمات.

العناد: وهو عدم انسياق العقل العملي لمدركات العقل النظري مع العلم بصحتها.

... الوسوسة، الاضطراب.

فهذه الأمراض هي التي تمنع من حصول إذعان النفس بمدركات العقل النظري، وهذه الأمراض هي التي تصيب قوى الإنسان في إدراكاته الحصولية. وهناك أمراض تصيب درجات إداركه الحضورية؛ حيث تمنعه من الترقِّي الوجودي، وتمنعه من الوصول إلى/ بل ومن الاتصال بـ الصقع الربوبي، فيبتعد أكثر عن ساحة الحق ويصير بينه وبين الحقائق حاجباً وساتراً لا يزول إلاّ بالتقوى والعمل الصالح ولقد قال عزَّ من قائل: ( اتَّقُوا اللَّهَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) (1) .

ومن هذه المقدمات الأربع ننتقل إلى ما نريد التوصُّل إليه؛ وهو إنه مع وجود هذه المراحل في إدراك الإنسان، ووجود مثل تلك الموانع والعوائق التي تؤثِّر في صدور القرار الصحيح والفعل النافع، كيف يمكن تقليده صلاحية التقنين والتشريع؟ إذن؛ فإن من الواجب أن يمتلك زمام التشريع والتقنين مَن يكون جهازه الإدراكي في مأمن من تلك العوائق والموانع، ويكون محلّاً لإفاضة العلوم عليها من العوالم العلوية وتنزُّلها، في مأمن من تشويش ومشاغبة قوى النفس الدنيا؛ هذا إذا أرادنا تشريعاً يكون مظهراً للحقائق الواقعية، مطابقاً وصحيحا.

وهذا الإنسان الذي يمتلك تلك القابلية، هو الذي يكون مظهراً للرضا الإلهي وللغضب الإلهي وللعزائم الإلهية؛ وذلك لا يكون ألاّ بأن تتساوى كلُّ حركاته وسكناته بلحاظ التأثُّر بالعوالم العلوية. ومَن لا يمتلك تلك المكانة والقابلية لن يكون تشريعه سالماً وصحيحا؛ ومن هنا قلنا: إن الولاية التشريعية تابعة للمقام التكويني الخاص.

والمقام الأكمل الذي يصل إليه المشرِّع والمُسِن للقوانين هو مقام العصمة، وهي كما لا يخفى على درجات؛ فبعضهم أصحاب شرائع، وبعضهم أولوا عزم،

____________________

(1) البقرة: 282.

٩٣

وبعضهم شرائعهم دائمة وأبدية، وهكذا تختلف درجاتهم العصموية باختلاف درجات قربهم من الصقع الربوبي، وتتنزَّل درجات العصمة حتّى تصل إلى العصمة في الإنسان العادي وتتمثَّل في حدود البديهيات الموجودة في العقل البشري؛ حيث إن عدم وجودها يؤدي إلى نوع من الاضطراب والخلل؛ حيث لا يوجد حينئذ ما يتَّكئ عليها الفكر البشري.

الوجه الثالث:

ذكرنا فيما سبق أن الإنسان يُركِّز ويستند في علومه إلى نوع محدود من العصمة؛ وذلك من خلال البديهيات الموجودة في العقل البشري والتي ينتهي إليها في كل قضية، وبدونها يحل الاضطراب في الفكر البشري، كما أشرنا فيما سبق إلى أن مدركات العقل العملي والنظري هي الكلِّيات الفوقانية، وأن العقل البشري - وبسبب محدوديَّـته - احتاج إلى التقنين والاعتبار لضبط الجزئيات الخارجية، وأن التفكير البشري يمرُّ في تنزُّل العلوم الكلية إلى الجزئيات بمراحل متعدِّدة، ويستعين بجملة من البراهين يُحرز من خلالها التفكير الصحيح؛ وهما: البرهان النظري؛ ورأس ماله العلوم البديهية. و البرهان العياني الذي يتَّصل بالجزئيات، وأنه يضمن اختيار الفعل الأصلح عن طريق قوَّة الفطنة والتروِّي التي تستلم من العقل العملي والبرهان النظري النتائج الصادقة الحقيقية. وتستخدم قوة الفطنة القوى الإدراكية الجزئية والقوى العمَّالة السفلية؛ حيث الغضب الرافع للموانع والشهوة المولِّدة للشوق، وبهذا الشكل يصدر الفعل الجزئي صحيحاً غير خاطئ.

٩٤

التنبيه الخامس:

العلاقة بين العقل العملي والعقل النظري

نلاحظ بعض الظواهر التي يتَّحد فيها حكم العقلين وإن اختلف طريقهما؛ من أمثلة ذلك: قاعدة اللطف الكلامية المعروفة، ومدركها العقل العملي، وقاعدة العناية الفلسفية، ومدركها العقل النظري، وهما قاعدتان ينتجان نتائج متشابهة بنحو كبير.

وهكذا في بحث العقوبة الأخروية؛ بمقتضى المعاد الجسماني وكون القبح والحسن عقليين، فإن العقل العملي يحكم بالعقوبة الأخروية؛ حيث إن مدح اللَّه ثوابُه وذمَّه عقابُه، أو أن مدح الفعل بالكمال المنتهي إليه وذمِّ الفعل بالنقص، والعقل النظري يحكم بالعقوبة الأخروية بتوسُّط نظرية تجسُّم الأعمال. وهكذا سوف نجد موازاة بين قواعد أخرى يحكم بها العقلان، فهذا الارتباط بينهما ليس ارتباطاً عفوياً وصدفة؛ وإنما له منشأ تكويني.

بيان ذلك : أن ضابطة مدركات العقل العملي هو ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله، وما ينبغي فعله هو الحب التكويني الفطري والانجذاب نحو الكمال؛ فلذا هو يطلبه طلباً تكوينياً ويبتغيه كغاية، وما لا ينبغي فعله هو خلافه؛ أي ما تنفر منه تكوينا.

والكمال هو الخير والوجود، والنقص هو الشر والعدم، وضابطة مدركات العقل النظري هي الوجود ونفي الوجود، فمباحث الحكمة النظرية مرتبطة بالكمال والوجود، ومباحثه تؤثِّر في العقل العملي الذي ينجذب تكويناً نحو الكمال الذي

٩٥

يحكم به العقل النظري، وقد ذكرنا فيما سبق أن محمولات العقل العملي هي الحسن والقبح بمعنى المدح والذم، والمدح هو الحكاية عمَّا يختزنه الفعل من الكمال، والذم هو الحكاية عمّا يكنزه من النقص.

وهكذا نلاحظ الارتباط الحاصل بين العقلين والاندماج بين مدركاتهما؛ بحيث يفتح باباً جديداً في الاستدلال الحِكمي البرهاني والمعرفة العقلية. ويمكن استخدام الأدلة الكلامية في المباحث الفلسفية؛ حيث تكون كاشفاً كشفاً إنيَّا، وكذلك العكس واستخدام الأدلة الفلسفية في المباحث الكلامية.

٩٦

المبحث الرابع:

حُجِّـيَّة المعارف القلبية

والبحث فيها من جهات:

الجهة الأولى:

في بيان المراد من المعارف القلبية.

إن الحديث عن المعارف القلبية مُتشعِّب وطويل، وسوف نتناول منه ما يهمُّنا في بحثنا و المقدار الذي يكون فيه حجة متميِّزة عن غير الحجة.

يتَّفق الفلاسفة على أن هناك نحوين من الإدراكات التي يتوصل بها الإنسان لمعرفة الحقائق؛

الأول: الإدراكات العقلية.

والثاني: الإدراكات القلبية.

وضابطة التفصيل بينهما يعتمد على كيفية الإدراك؛ فالأول يتمُّ عن طريق الصور الحصولية للأشياء، والثاني يتمُّ عن طريق الإدراكات الحضورية؛ وهو الارتباط بالشي‏ء ارتباطاً ما.

توضيح ذلك: أن الإدراكات العقلية تعتمد على الصور، ويختلف مدى ارتباط هذه الصور بالمادة حسب المراتب:

فالصورة الحسية وإن كانت مجرَّدة عن الخارج، إلاّ أن لها ثلاثة تعلُّقات:

1 - من جهة الأبعاد؛ الطول والعرض والعمق.

2 - من جهة المشخِّصات والألوان.

3 - لابدَّ من محاذات وجود خارجي محسوس.

فالصورة الحسية تنطوي على تجرُّد عن نفس المادة، ولها ثلاث تعلُّقات من لوازم المادة.

٩٧

أمَّا الصورة الخيالية، ففيها شي‏ء من اللطافة؛ إذ يضاف إليها تجرُّد عن المحاذات لشي‏ء محسوس، لكن مع تعلُّق من جهة الأبعاد ومن جهة العوارض المشخِّصة.

أمَّا الصورة الوهمية، فيضاف إليها تجرُّد عن الأبعاد الثلاثة وعن العوارض، لكن يبقى لها تعلُّق؛ باعتبار وجوب إضافتها إلى الجزئي الحقيقي كحبِّ زيد وبغض عمرو... وهكذا.

وأمَّا في العقل العملي والنظري، ففيه تجرُّدات تامة، لكن يبقى له تعلُّق بالصور.

والنفس في إدراكها لهذه الصور المختلفة، لها إياب وذهاب وخلط وترتيب وربط بين هذه الصور المختلفة؛ فقد تغرب عن الصور الحسية؛ أي الوهمية أو الخيالية، وتحمل المعنى الوهمي على المعنى الحسي... وهكذا؛ وهذا ما يسمّى في الاصطلاح: أن النفس لها حركة تجرُّد وتعلُّق.

أمّا المعارف القلبية، فهي أشدُّ تجرُّدا؛ حيث لا تتعلَّق بالصور كما في الإدراكات العقلية، بل هو الارتباط بالشي‏ء بنحو ما.

وللنفس أيضاً إياب وذهاب في مراتب المعارف القلبية الأربع وهي:

1 - القلب: وهو الارتباط بحقائق الأشياء من دون توسُّط الصور المادية، نعم، يُدرك في هذه المرحلة الصور العينية البرزخية كما في سماع أنين الموتى من الصالحين، وكذلك تشمل إدراكات عالم المثال، و يقال حينئذ: إنها تدرك صور الجوهر المثالي.

2 - السر: وهي الإدراكات التي فوق عالم البرزخ والمثال، فهي أكثر سعة من مرتبة القلب، وأكثر إحاطة وجودية.

3 و4 - الخفي والأخفى وهما المرتبتان المتعلِّقتان بالأنوار الربوبية وإدراك الأسماء الإلهية.

إذا اتضح ذلك، نقول:

1 - إنه كما أن الإدراكات العقلية موجودة في كل إنسان، لكن قد لا يستطيع

٩٨

البعض استخدامها ويعجز عن الوصول حتّى إلى القوة الوهمية، بل تظل نفسه محبوسة بين الحس والخيال، فهكذا المراتب القلبية؛ فهي مراتب شأنية يستطيع كل إنسان أن ينالها، لكن تحتاج إلى قوة إيمانية وكمالات عالية حتّى يكون للنفس سبح في هذه المراتب، ولا ينالها إلاّ ذو حظٍ عظيم، والإنسان بعمله ومناعة نفسه يرتقي إلى هذه المراتب.

2 - إن التمييز بين المراتب القلبية الأربعة هو التمييز في الحدود الوجودية.

3 - إن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تبنَّت الرؤية القلبية للذات المقدسة، لا الرؤية الحصولية الوهمية، ولا الخيالية، ولا الحسية. وأمَّا الرؤية العقلية بتوسط المعاني المجردة، فقد أثبتتها العديد من الروايات الواردة عنهم، المتضمِّنة للتنبيه على لزوم الوحدة والبساطة في المعاني والصفات وعدم تطرُّق التركيب العقلي التحليلي فيها، وأنه الفارق في التوصيف العقلي للذات الواجبة عن الممكنات؛ وهو متطابق مع ما قام عليه البرهان الحكمي.

وفي بعض الروايات (1) أنه لو أحيل الإدراك بالمعاني ‏العقلية، لكانت المعرفة أمر لا يطاق عند عامة البشر، كما أن الروايات نبَّهت على أن المعبود هو المحكي بالمعاني العقلية وهو المسمَّى، لا نفس المعاني العقلية وهي الاسم. فالذات المقدَّسة لا تُقتنَص بحسٍ ولا بوهمٍ ولا بخيال؛ لعدم الحدود والمقدار فيه، فكيف يمكن اقتناصها بتلك القوى وإثبات الرؤية الحسية لها؟! نعم، الإدراكات العقلية هي الحالة الوسط بين الإدراكات الصورية النازلة وبين الإدراكات القلبية؛ ولذا فهي بوابة على الغيب، لكنَّها تبقى معانٍ حاكية، وليست هي نفس المحكي؛ أي ليست هي نفس الواقع. وهذه الإدراكات العقلية بهذا المقدار، والحاكية عن أقصى غيب

____________________

(1) أصول الكافي، ج1، ص83، ح6.

٩٩

الغيوب؛ وهو الباري جلَّ وعلا، هو المقدار المكلَّف به الناس؛ أي العبادة عبر إدراكاتهم العقلية.

4 - فوائد المعارف القلبية:

أ - إن الإنسان لم يخلق للخلود في هذا العالم، بل هو مخلوق لعوالم أخرى، فهو يعيش منذ ولادته عالمَه البرزخي؛ بمعنى إنه يَصنع بأعماله وعقائده عالمَه البرزخي، وعندما يتكامل ويبلغ ويرشد يصنع حياته الأخروية التي هي بعد الحياة البرزخية في عين عيشه حالياً للحياة الدنيوية، والمراتب القلبية تجعله مشرفاً على تلكم العوالم.

وقد يظنُّ البعض أن هذا نوع من الخيال وتسطير الكلمات، فما الحاجة إلى الإشراف على هذه العوالم وهو لم يعشها؛ بمعنى لم يحن ظرفها الزماني، فنقول:

خير مثال على ذلك؛ الطفل الذي يعيش في بطن أمِّه، يكون له أذن وأنف وفم ولسان وشفتين... وكل شي‏ء، فَلِمَ كل هذه الأجهزة؟ هل هي حتّى يستعين بها في حياته داخل رحم أمه؟ بالطبع لا، من الواضح أن هذه الأجهزة لأجل أن يعيش بها في عالم آخر غير عالم الرحم؛ وهو عالم الدنيا. وهكذا الإنسان في مراحله القلبية؛ فالإنسان لا يحتاج إليها في إدارة شؤون عالم الدنيا، إلاّ إنه محتاج لها في عالم الآخرة.

ب - إن المراتب القلبية هي السبيل لمعرفة الغيب، فكلٌّ يستطيع إدراك الغيب وكلٌّ يعيش الغيب ولو مرتبة ضامرة.

جـ - الفائدة الجليلة والعظيمة في الإدراكات القلبية، هي رؤية أشرف مرئي وهو: نور واجب الوجود.

5 - إن الإنسان إذا أدرك - بلحاظ المراتب القلبية - حقيقة من الحقائق وأرادها أن تنزل إلى الإدراك العقلي النظري، فلابدَّ أن تتنزَّل بمعناها لا بوجودها وحقيقتها؛ فالارتباط بين المراتب القلبية والعقل النظري هي بوحدة المعنى وبوحدة المفهوم،

١٠٠