دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 81416
تحميل: 9549

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81416 / تحميل: 9549
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

دراسات

في

الفِكر الاقتصادي الإسلامي

١

٢

دراسات

في

الفِكر الاقتصادي الإسلامي

د. عبد الأمير زاهد

الغدير

بيروت - لبنان

٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤

كلمةُ المركز

يبحث هذا الكتاب في الفكر الاقتصادي الإسلامي، فيُعالج خمس قضايا أساسيّة مِن قضاياه، ولا يخفى على أيّ معنيٍّ بهذا الشأن، أنّ قضايا الفكر الاقتصادي تُعدّ، وبخاصّة في مجتمعات البلدان النامية، وبلادنا منها، من القضايا المركزيّة الكبرى المفروض أن تُولى أهمّية خاصّة، وقد درج كثير من الباحثين في هذا المجال على استلهام النُظم الوضعيّة، والغربيّة منها بخاصّة، مُعتقدين أنّ الإسلام يُقدّم مجموعة نُظم جزئيّة أخلاقيّة تقتصر على معالجة قضايا التوزيع؛ الأمر الذي جعلهم يرون استحالة تقدّم المجتمع الذي تحكمه هذه النُظم، وبغية تأكيد وجهة نظرهم هذه يقدّمون ما عرفته البلدان الإسلاميّة من نُظم، ومنها بخاصّة نظام الدولة العُثمانية، ويقارنون بينها وبين ما عرفته الدول الأوروبية من نُظم مُختلفـة، ويرون أنّ النُظم الأُولى لم توفّر ما يُلبّي حاجات الإنسان الأساسيّة؛ بسبب فقدانها القدرة الذاتية على النموّ والتطوّر والإنتاج وتجاوز وضعها الساكن، في حين أنّ النُظم الثانية وفّرت تلك الحاجات، ومضت في تجاوز مستمرّ لكل وضع تصل إليه.

يدرك مؤلّف هذا الكتاب وجهة النّظر هذه، ويتّفق مع أصحابها في القول بأنّ تقدّم المجتمع هو غايةُ أيّ نظام، وقدرته على تحقيقها هي وسيلة فحص صلاحيّته، لكنّه يختلف معهم في ما تبقّى مِن قول؛ ذلك أن النُظم التي يقدّمونها، بوصفها نماذج للنظام الإسلامي، ليست كذلك، فهي لا تمثّل النظام الإسلامي المُنبثق من النظرية الإسلاميّة الشاملة الرائية إلى الكون والحياة والعلاقات بين الناس، والتي يمثّل القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة مصدرها.

مِن هنا كانت الحاجة ماسّة إلى بيان هذه النظرية في مُختلف المجالات، وبخاصّة في مجال الفكر الاقتصادي، الذي يقلّ البحث فيه، وتبرز الحاجة أكثر إلحاحاً وضرورة.

٥

وإذ يعي مؤلّف هذا الكتاب، أ. د. عبد الأمير زاهد (شاركه أ. د. فاضل عبّاس الحسب في تأليف البحث الأوّل) هذه الحقيقة يعمد إلى إجراء (دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي)؛ ليقدّم معرفةً بالنظرية الاقتصادية الإسلامية في مجالات التنمية والحاجة والإنتاج والرّشد والجريمة الاقتصادية وسُبل الوقاية منها، ويعتمد منهجاً يتدرّج في بحث كل قضية من عرضِ مفاهيم المذاهب المعاصرة إلى عرضِ المفاهيم المستنبطة من مصادر التشريع الإسلامي، إلى إجراء بحث مُقارن بين وجهتي النَظر، ما يُفضي إلى بلورة وجهة النَظر الإسلاميّة في كيفيّة النهوض الاقتصادي واستمرار النمو والتقدّم.

وتتميّز هذه الحركة النهضوية التنموية...، في المنظور الإسلامي، بأنّها ترمي إلى تحقيق أهداف مختلفة عن الأهداف التي ترمي إليها النظرية التي تحكم النظريات الوضعيّة؛ ذلك أنّ الأصل الأوّل في النظريّة الإسلامية هو عمارة الأرض وإقامة الحقّ فيها، وهذا الأصل هو تكليف شرعي يستنبط من نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة / 30]، و ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود / 61]، فقد جاء في تفسير الآية الأُولى: أنّ الله سبحانه وتعالى استخلف الإنسان في الأرض ليعمرها ويقيم الأرض عامرةً بما يحتاج إليه، بوصفه خليفة في الأرض، وهذا الأصل يُفيد، علاوةً على ما ذكرناه، أنّ هذه النظريّة لا تقتصر، كما يزعم بعضهم، على جُزئيات أخلاقيّة تتعلّق بالتوزيع، وإنّما تشمل إنتاج جميع ما يحتاجه الإنسان وسُبل توزيعه وفق مبدأ إقامة الحقّ الذي يكرّم الإنسان بوصفه خليفة الله في الأرض.

إنّنا إذ نعي أهميّة ما تُقدّمه هذه الدراسات من معرفة نُقْدِم على نشرها في هذا الكتاب، آملين أن تُسهم في تحقيق الهدف الذي يرمي إليه، وهو خدمة ديننا الحنيف، والله سبحانه وتعالى الموفّق إلى سواء السبيل.

مركز الغدير للدراسات الإسلامية

٦

البحث الأوّل

  التنمية الاقتصاديّة في المذهب

الاقتصاديّ الإسلاميّ

(هذا البحث مِن إعداد، المؤلّف أ. د. عبد الأمير زاهد و أ. د. فاضل

عبّاس الحسب، أُستاذ في كليّة الإدارة والاقتصاد - جامعة بغداد)

٧

٨

مُقدّمة

ثمّة مسلّمات، أو منطلقات أساسيّة في العلوم الاقتصاديّة، يتسالم عليها الفكر الاقتصاديّ، بمصدرَيه: الإلهيّ والبشريّ، تفيد أنّ التنمية الاقتصاديّة تشكّل الحصيلة النهائيّة التي يمكن بفحصها اختبار الفاعليّة لأيّ نظام اقتصاديّ، ذلك أنّ مجموعة النُظم الجزئيّة داخل التصوّر الشامل للمشكلة الاقتصاديّة، وطُرق علاجها في أيّ نظام، هي المحدّد لأسلوبه في تحقيق النشاط الاقتصاديّ الأمثل. وعلى هذا الأساس ترتكز مقولة التنمية وأُسلوب النُظم في حلّ مضاعفاتها مؤسّسيّاً واجتماعيّاً، وبالتالي تشكّل البرهنة على قدرة أيّ نظام على الديمومة ومواكبة الحياة.

أهمّية البحث والحاجة إليه

لمّا كانت التنمية غاية الجهد المؤسّسي لأيّ نظام، فهي بذاتها، وفي الوقت عينه، وسيلة فحص القدرة الدائميّة لصلاحية النُظم الاقتصاديّة؛ لذا فإنّ أهمّية البحث تكمن في فحص قدرة النظام الاقتصاديّ الإسلاميّ على تحقيقها. وضمن هذا السياق الفكريّ كانت الحاجة ماسّة إلى تلمّس قدرة هذا النُظم على تحقيق هذه الموضوعة، ليتمّ اختيار النظام المؤهّل لبناء المجتمعات المعاصرة؛ وبخاصّة مجتمعات العالم الثالث، وتشكيل حياتها الاقتصاديّة.

لقد ركّزت الأبحاث الاقتصاديّة على إجرائيّة تحقيق التنمية، فافترضت تصوّراتها أنّ التخلّف: (سلسلة مِن عوامل النكوص التي تتجلّى في تخلّف قوى الإنتاج السائدة، سواء في المعدّات (درجة تطويرها الفنّي)،

٩

أمْ في القوى البشريّة مِن حيث المهارات والفنون والمعرفة التراكميّة) (1) .

لتنطلق منه إلى إيجاد البديل الشموليّ لوضع المجتمع وحركته ونشاطه الاقتصاديّ على الدرب الصحيح، للانطلاق بعوامل الاندفاع نحو رقيّ قوى الإنتاج باتّجاه الغاية التي يراها الفكر الاقتصاديّ ذاك غاية النشاط الاقتصاديّ برمّته.

ومن تشخيص صور التخلّف ومظاهره ركّزت الأبحاث أيضاً على أسبابه وماهيّته وتفسير نشوئه وعوامل استمراريّة الظاهرة، وقد انقسم البحث في هذه التصوّرات إلى مذاهب شتّى وآراء متعدّدة، سنرى بالمقارنة مع التصوّر الإسلاميّ للتخلّف الفارق في أساس التصوّر ونوعيّة المنطلق وطبيعة المعالجة، وباستخدام المقارنة نُحاول الوصول إلى الترجيح بين الآراء والمواقف.

وعلى ضوء تصوّر الفكر الإسلاميّ للتخلّف وما يُحيط به، سيعدّ البحث محاور تصوّر الإسلام للعمليّات التنمويّة التي يتبنّاها أطروحةً لحلّ المُشكلة الاقتصاديّة من بين الأُطروحات السائدة في عصرنا الحالي، وبالتحديد المدرستان الرئيسيّتان: الرأسماليّة والاشتراكيّة.

أهداف البحث ومنهجيّته

يهدف البحث إلى مناقشة الاتّهامات الفكريّة الموجّهة إلى الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ وتحليلها، وهي تستهدف الوصول إلى تقرير استحالة التطوّر في ظلّ المجتمع الخاضع لأحكام الكتاب والسنّة، مع ما يعرض من تطوّر المجتمعات في ظلّ الأُطروحات الاقتصاديّة الوضعيّة، وخصوصاً تلك التي ترى الإسلام مجموعة نُظم جزئيّة أخلاقيّة..، أو في الحدّ الأعلى قوانين عامّة يتجلّى أثرها في مضمار التوزيع فقط، من دون أن يكون لها أثر في الإنتاج (2) مِن حيث كون التنمية في الفكر الاقتصاديّ الوضعيّ مقولة إنتاجيّة أوّلاً على أبسط التقديرات، ويعتمد البحث في مناقشة هذه (التحدّيات الفكريّة)، الرّامية إلى دراسة نظريّة الإسلام في التنمية، تحليل

____________________

(1) اُنظر: حمزة (سعد ماهر)، مقدّمة في اقتصاديّات التبعيّة والتنمية، دار المعارف - مصر، 1967م، ص: 3.

- القاضي (عبد الحميد)، تحويل التنمية الاقتصاديّة، دار المعارف - الإسكندريّة، ص: 58.

(2) تُلاحظ هذه المحاولات في اتّهام الإسلام لدى: رودنسون (مكسيم)، الإسلام والرأسمالية.

واردنبورغ، جـ، د، ح، مذكّرات في الإسلام والتنمية، مجلة اكشينج - هولندا، 1973م.

مجلّة أندونيسيا، الدين ومشكلة التنمية في أندونيسيا.

روبرت ن، الدين والتقدّم في آسيا الحديثة.

فضل الرحمان، أثر الحداثة على الإسلام.

محمّد (أركون)، الإسلام أمام التنمية، ورقة عمل وزّعت على مؤتمر أوروبي عام 1974م، ت2.

١٠

العلاقات الداخليّة بين موضوعات مؤلّفة مِن العقيدة والفقه، بغية الكشف عن ظاهرة التناسق والاتّساق في آليّة التطبيق الاقتصاديّ لمعرفة مدى التحسين الشامل لمصير المسلمين الاقتصاديّ وعُمقه وأهمّيته، وبالتالي وضع اليد على إمكانيّة التطوّر داخل فلسفة المسلمين الاقتصاديّة بالمقارنة مع الإمكانيّات الفكريّة في الفلسفات الوضعيّة المعاصرة.

على أنّ البحث يُنبّه هنا على أنّ المقولات الإسلاميّة وقوانين النموّ المركزيّة فيه سابقة زمنيّاً على نشوء علم الاقتصاد وتطوّره، ونضج الفكر الاقتصاديّ الحديث. ومع ذلك، فقد اختار الباحثان منهجاً يفترض عرض مفاهيم النموّ في المذاهب المعاصرة على المعايير الإسلاميّة، ومقارنتها بتلك القوانين الناتجة عن مصادر التشريع؛ لاستنباط وجهة نظر الإسلام في كيفيّة التحديث الاقتصاديّ، وخلْق عوامل الدفع والتطوّر في قوى الإنتاج للتخلّص مِن أسر التخلّف، والوصول إلى الأُسلوب الشمولي في خطّ الحركة الاقتصاديّة لتلك القوى في ظلّ منهجيّة القرآن والسنّة؛ ولذلك كان عليه أن يبدأ بتحديد ماهيّة التخلّف، وماهيّة النموّ، والتنمية، والباعث عليها، والمقياس الذي توزن به قوانينها، والغاية من النموّ؛ للخروج بالخصائص المميّزة لنموذج التنمية الإسلاميّ.

تحديد مُصطلحات البحث

ولأجل تحقيق هذا الهدف لا بدّ من تحديد مُراد الباحِثَين من الاصطلاحات المُستخدمة في بحثهما، وعلى الوجه الآتي:

يعني الباحثان بالاتّجاه الفردي: الفكر والنظام القائمَين على الملكيّة الخاصّة، وأظهر مصاديق هذا الاتّجاه المدرسة الليبراليّة باتّجاهاتها ومدارسها كافّة.

ويعني بالاتّجاه الجماعي: ما قام على الملكيّة الاجتماعيّة، وأظهر مصاديقه: الفكر الاشتراكيّ واجتهاداته وتيّاراته الفكريّة.

١١

أمّا المذهبيّة الإسلاميّة: فهي مُجمل الفلسفة الشاملة للكون والحياة والعلاقات بين الناس، ويمثّل القرآن والسنّة الأساس النظريّ لهذه المذهبيّة، على أنّ البحث يفترض أن لا يقاس في التصوّر الإسلاميّ نظام جزئيٌ واحدٌ بمعزل عن مُجمل النُظم الإسلاميّة.

أوّلاً: التخلّف ومفاهيمه في الفكرين: الوضعيّ والإسلاميّ

لمّا كانت التنمية هي البديل التاريخيّ للتخلّف، فلا بدّ من عرض موقف الفكرين منه:

1 - في الفكر الوضعيّ

يرى بعض الاقتصاديّين أنّ التخلّف: مجموعة مِن الظواهر التي تصاحب انخفاض الإنتاجيّة (1) .

ويرى آخرون أنّه: نظام وبُنية كلّية تسِم الهيكل الاقتصاديّ السائد (2) .

وبناءً على الاتّجاه الأوّل يحاول المنظّرون الرأسماليّون عَدّه ظاهرة طبيعيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة، أو تركيباً يجمع هذه الظواهر مجتمعة، بما يؤدّي إلى انخفاض الإنتاجيّة، بينما يُدافع الاتّجاه الثاني عن كونه ظاهرة تاريخيّة مُركّبة، (حيث يرى بأنّه مقولة عالميّة خاصّة بعصر الامبرياليّة، ومرتبطة بمجموعة معيّنة من العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الداخليّة والخارجيّة) (3) .

إنّ تصوّر الاتّجاه الفرديّ للتخلّف يجعله مضطرّاً إلى الكشف عنه فكريّاً من خلال مظاهره ونتائجه، وتعوّل تلك الدراسات كثيراً على نمط الارتباط بين التخلّف ومعدّلات النموّ السكّاني، أو انخفاض إجماليّ الإنتاج، أو انخفاض إنتاجيّة العاملين، أو تدنّي كفاءة مُجمل النشاط الاقتصاديّ.

وتوسّعاً، فقد ناقشه من خلال مظاهره غير الاقتصاديّة، مثل انخفاض نسبة المتعلّمين بالقياس إلى مجموعه السكّان، أو طبيعة النظام الحقوقيّ السائد.

____________________

(1) انظر: حمزة (سعد ماهر)، م. س.

القاضي (عبد الحميد)، م. س.

(2) اُنظر: سنتش (توماس)، الاقتصادي السياسيّ للتخلّف، ترجمة فالح عبد الجبّار، ص: 14، مطبعة الأديب - بغداد.

د. البعّاج (هشام)، المغزى الحقيقيّ لنظريّة الحلقات، مجلّة كلّية الإدارة والاقتصاد، العدد 2، السنة الأُولى، 1981م، ص: 9.

(3) اُنظر: افينسيف م. م، نظريّات النموّ الاقتصادي للبلدان النامية، ترجمة عز الدين جوني، ص: 34، دار الفارابي - بيروت، 1979م.

١٢

واعتُمِد لجلاء التخلّف، في تصوّر الاتّجاه الأوّل، على مقياس غير منضبط (1) ، باعتماد المقارنة بين ما تقدّمه الدول المتقدّمة لسكّانها، بما تقدّمه دول العالم الثالث، فاختير مقياس حجم الدخل الفرديّ الحقيقيّ مؤشّراً هامّاً في تلك المقارنات، وإن انطلقت دراسات أُخرى من اعتماد مدى انخفاض إنتاجيّة العمل أو مؤشّر الاختلال في هيكل الاستخدام لصالح القطاعات التقليديّة.

وبالمقابل ركّز أصحاب الاتّجاه الثاني على أسباب الظاهرة والمحاكمة التاريخيّة للنشأة والتطوّر، فربطوا التخلّف بتطوّر الحيازة الفرديّة لملكيّة وسائل الإنتاج، بما يوصل إلى عدم التوافق بين الطابع الاجتماعيّ لعمليّة الإنتاج، وبين شكل الملكيّة، وبالتالي عدم التوافق بين قوى الإنتاج الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة؛ الأمر الذي يخلق في رأيهم خرقاً لواحد من أساسيّات التقدّم الاقتصاديّ، هو ضرورة التوافق بين القوى المُنتجة وعلاقات الإنتاج.

وحوكمت أيضاً أسباب الاستمراريّة والديمومة لهذه الظاهرة، وعُزيت إلى التأثيرات الاقتصاديّة للرأسماليّة على اقتصاديّات بُلدان العالم الثالث؛ حيث جعلت هذه البلدان هوامش للأوطان الأمّهات، وقد صاحب ذلك تخريب شامل للبنيان الاقتصاديّ في هذه البلدان، وأحدث فيها نموّاً مُشوّهاً متّسماً بثُنائيّة القطاعات (2) .

وبالجمع بين العوامل الخارجيّة والداخليّة انشطر العالم الحديث إلى دول تنمو بسرعة، وأُخرى تُراوح أو تتراجع. وبتوسّع الهوّة نشأ التخلّف، وتطوّر في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، بينما اضطرد التقدّم الاقتصاديّ في أوروبا وشرق آسيا واليابان.

2 - في التصوّر الإسلاميّ

لقد طرح الفكر الإسلاميّ موضوع التخلّف معبّراً عنه بالشقاء، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم، في تحديد العلاقة بين الإنسان المتلقّي لهدى السماء، وبين الكائنات والمخلوقات التي تتصرّف في الحياة بقياساتها البشريّة:

____________________

(1) اُنظر: درويش (حسين)، التنمية الاقتصاديّة، 1979م، دار النهضة العربيّة - القاهرة، ص: 18.

(2) اُنظر: كوك (أوليفر)، الرأسماليّة نظاماً، ترجمة الدكتور إبراهيم كُبّه، ص: 184 - 189.

توماس سنتش، مصدر سابق، ص: 22.

مرسي (فؤاد)، التخلّف والتنمية، ص: 52.

١٣

( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مِنّي هُدىً فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏ ) [طه: 123 - 124].

وقال: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى‏ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل: 97].

وقال عزّ وجلّ: ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل: 112].

إنّ ما يُفهم من مُفردات (الضلال، والشقاء، والمعيشة الضنكا)، هي تلك التركيبة من الخصائص السلبيّة التي تعمّ نشاطات الحياة والمجتمع كلّها، بمظهرٍ خارجيّ مؤدّاه عدم قدرة الهيكل الاقتصاديّ على توفير ما يُلبّي الحاجات الأساسيّة ( Basic Needs )؛ بسبب فقدان القدرة الذاتيّة لذلك الهيكل على النموّ والتطوّر، وعدم قدرته على تجاوز سِمة السكونيّة.

قال المفسّرون: (المراد بـ ( يَشْقَى ) : أي يقع في تعب العمل وكدّ الاكتساب والنفقة، وقال الجبائي: المراد بـ ( مَعِيشَةً ضَنكاً ) أي أنّ الله يُقتّر عليه الرزق عقوبة له على إعراضه) (1) .

وعليه، فقد دلّ الشقاء الوارد في الآية على تدنّي الإنتاجيّة في العمل، ودلّ مفهوم المعيشة الضنكا على عدم القدرة الإنتاج الاجتماعيّ على الوفاء بسداد الحاجات العامّة للسكّان، ولعمليّة تجديد الإنتاج الاجتماعيّ، ومِن خلال إشارة الجبائي إلى أنّ الله (إن وسّع على المعرض فإنّه يُضيّق عليه بأن يجعله ممسكاً لا ينفق على نفسه) (2) ، يراد به ربط ذلك بالتوزيع غير المتساند، مع الاندفاع والإيجابيّة في استثمار المسخّر من الكون بأُسلوب إمساك الدخْل عن المساهمة الفاعلة في التوظّف، مع التزامن في تدنّي مستويات الاستهلاك.

____________________

(1) الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان في تفسير القرآن، المطبعة الإسلامية 7/34.

(2) المصدر نفسه.

١٤

أمّا في قوله تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى‏ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) ؛ أي مَن عَمل عملاً صالحاً، وهو مؤمن مصدّق بالله وأنبيائه، ومنفّذ لقوانين الشريعة، فقد وعده الله بأن يُحييه حياة طيّبة.

قال المفسّرون: المراد بالحياة الطيّبة: الرزق الحلال (عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير وعطاء)، وقيل: رزق يوم بيوم (تدفّق الإنتاج وزيادته بما يوازي زيادة الحاجات الكمّية بزيادة السكّان، أو النوعيّة بانشطار الحاجات وتطوّرها واتّساعها عموديّاً وأُفقياً حسب تطوّر المستوى الحضاريّ) (1) .

ويُلاحظ أنّ قول الله تعالى: ( قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً ) ؛ أي ذات أمْن، يأمَن أهلها من الإغارة عليهم، و ( مّطْمَئِنّةً ) ، قارّة ساكنة بأهلها، لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو بضيق، و ( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلّ مَكَانٍ ) ، أي يحمل إليها الرزق الواسع من كلّ موضع، ( فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ ) ، أي كفر أهلها بأن لم يؤدّوا شكرها، فأخذهم الله بالجوع والخوف بضيعهم، وسمّاه لباساً؛ لأنّ أثر الجوع والهزال يظهر على الإنسان كما يظهر اللباس، وقيل: يشملهم الجوع والخوف جميعاً كما يشمل اللباس البدن كلّه (2) .

وفي ضوء ما تقدّم، فإنّ ماهيّة التخلّف في المفهوم الإسلامي: هي (عجز البُنية الاقتصاديّة - الاجتماعيّة عجزاً كاملاً أو جزئيّاً عن تحقيق مُعدّل استثمار مستمرّ يعلو على معدّل الزيادة السكّانية، بما يجعلها - أي البُنية - غير قادرة على الوفاء بالاحتياجات الأساسيّة، بسبب تقصير الإنسان في مهمّاته الاستخلافيّة مِن جهة السياسة الاقتصاديّة أو مِن جهة عدم استجابة الأفراد لبرامج الاستخلاف في تكليف الإنسان شرعاً بعمارة الأرض) (3) .

إلاّ أنّه ممّا تلزم الإشارة إليه أنّ ما مرّ من تشخيص للماهيّة والظواهر، فإنّما هو على مستوى اقتصاد مغلق ( closed Economy )، الذي تجري عمليّاته بمعزل عن قسمة العمل الدوليّة، بعيداً عن حركة السِلع والخدمات العالميّة، وعن انتقال رؤوس الأموال بين الاقتصاديّات المُختلفة، وتبادل الأيدي العاملة في ما بينها، علماً بأنّ المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ يرى أصلاً أنّ

____________________

(1) المصدر نفسه: 3/384.

(2) المصدر نفسه: 3/389، 390.

(3) اُنظر: خلفيّات انتزاع هذا المفهوم عند: صالح (عبد الأمير كاظم)، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ.

١٥

وجود أكثر من نمط إنتاجيّ ( Production Mod ) إنّما هو حالة مؤقّتة وطارئة؛ لأنّ التكليف الشرعيّ الدائم يلزم بتعميم الشريعة الإسلاميّة على كلّ المعمورة.

أمّا الحوار على مستوى الاقتصاد المفتوح ( Open Economy )، أي أخذ الاقتصاد الإسلاميّ ضمن حركة الاقتصاد العالميّ، وبوصفه جُزءاً مِن السوق العالميّة، فإنّ التقصير بمهمّة الاستخلاف فيه (في المجتمع الإسلاميّ) إذ يتجسّد في انخفاض إنتاجيّة العمل الاجتماعيّة، فإنّه ينعكس رأساً في تدنّي مستوى تلك الإنتاجيّة عن المعدّل العالميّ، وبالتالي تصبح نسب التبادل التجاريّ مائلةً إلى الانخفاض دائماً؛ لذا فإنّ معيار الإنتاجيّة الاجتماعيّة للمجتمع الإسلاميّ، مقارنةً بنظائرها الخارجيّة، يغدو معياراً للمقدرة الاقتصاديّة ( Economic Potential ) للاقتصاد الإسلامي.

فكلّما كانت المقدرة الاقتصاديّة كبيرة كبُر إجمالي القوّة المُنتجة والإنتاج الاجتماعيّ، وبالتالي توسّعت وتعمّقت مكانة الاقتصاد الإسلاميّ في قسمة العمل الدوليّة.

فالاستقلال الاقتصاديّ - كما نراه - هو المكانة التي يحقّقها الاقتصاد بالمعنى للاقتصاد الدوليّ، تمشّياً مع مقدرته الاقتصاديّة التي ليست هي إلاّ إجمالي القوّة المُنتجة، زائداً على مجموع الإنتاج الاجتماعيّ، على أن ينظر إليها بوصفها مُتغيّراً تابعاً للمتغيّرات الهيكليّة في البُنية الاقتصاديّة، وإنّ تغيير الاقتصاد هيكليّاً يجرّ وراءه تغييرات وتحوّلات في كمّ القوى المنتجة وفي نوعيّتها، بحيث تؤدّي إلى تغيير في نمط الإنتاج، وبالتالي في حجمه وقيمته ونوعيّته، وأخيراً في مقدرته الاقتصاديّة ذاتها.

إنّ الآيات الكريمة التي أشارت إلى مفهوم التخلّف وسببه، أشارت أيضاً إلى ظواهر من أبرزها الانخفاض المُطلق والنسبيّ لحدّ الكفاية (1) ؛ لكونها من المعايير الكمّية في نمط التوزيع الإسلاميّ القائم على مِعيارَي العمل والحاجة.

____________________

(1) حدّ الكفاية بمنظور عيني هو: مجموع السِلع والخدمات التي يتناسب مقدارها كمّاً ونوعاً مع إنتاجيّة الفرد، ومدى التزامات بيت المال نحوه محسوباً على أساس الموقع الاقتصاديّ لذلك الفرد.

للتّفيصلات اُنظر في ذلك:

الحسب (فاضل)، الماوردي في نظريّة الإدارة الإسلاميّة العامّة، ص: 59، عمان، المنظّمة العربيّة للعلوم الإداريّة، 1984م.

المياحي (عبد الأمير كاظم)، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ، رسالة ماجستير مقدّمة إلى مجلس كلّية الشريعة، جامعة بغداد، رونيو، 1987م.

إبراهيم (أحمد إبراهيم)، في نمط التوزيع الإسلاميّ، رسالة دبلوم عالي مقدّمة إلى معهد البحثو والدراسات العربية - بغداد، رونيو، 1987م.

١٦

وسبب الانخفاض في حدّ الكفاية انخفاض إنتاجيّة العمل؛ بسبب عدم توفّر ظروف الجدّية في مُمارسة عمـارة الأرض، والتفريط بما سخّره الله تعالى من مُعطيات الطبيعة، بما يعني انخفاض صافي الأرباح الاجتماعيّ، وبالتالي ضيق حدود كفاية الأفراد؛ لصغر حجم السِلع والخدمات التي تدخل فيه، ومحدوديّة تنوّعها.

وعلى العكس، فإنّ إدراك العاملين في الاقتصاد الإسلاميّ لفريضة العمل والاستجابة لها تعني زيادة فاعليّة العمل؛ لتحويل نِعَم الله تعالى إلى سِلَع إنتاج وسِلَع استهلاك بدرجة توجب توسيع حدود الكفاية على نطاق الفرد، ومن ثَمّ على المستوى الاقتصاديّ كلّية.

إنّ البُعد النسبي لحدود الكفاية في الاقتصاد الإسلاميّ يتّضح في مجال المقارنة مع معايير مستوى المعيشة في الاقتصادات الأُخرى، على أن تُؤخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات النوعيّة المميّزة لنمط الاستهلاك الإسلاميّ، ومثالاً على ذلك نذكر: استبعاد السِلع المحرّمة والمكروهة - مثلاً - مِن مجال المقارنة والعوامل المُشابهة الأُخرى.

وفي حالة افتراض مُستوى مُعيّن من حدود الكفاية يمكن أن نتصوّر ثلاث حالات:

أ - تناسب مقدار (الكفاية) عيناً أو نقداً مع إنتاجيّة الفرد، وبذلك يكون عمل الفرد هو الكفيل بسدّ متطلّبات معيشته بالمستوى والموقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ في مُدّة زمنيّة مُعيّنة، اعتمد الفقهاء فيها غالباً السَنة مدّةً قياسيّة، نلحظ ذلك في شرط (الحول) في الزكاة والخُمس والخَراج.

ب - زيادة مردود عمل الفرد وإنتاجيّته مِن جهة المردود الاقتصاديّ (فائض الدَخل) بما يفوق (حدّ الكفاية)، بحيث يخضع هذا الفائض إلى موازنة ماليّة أقامتها الشريعة الإسلاميّة، مِن خلال تأسيس عِدّة قنوات تُرحِّل قسماً منه إلى بيت المال بوساطة الحقوق الشرعيّة على المال، وفي مقدّمتها

١٧

الزكاة والخُمس والكفّارات والنُذور والوَقف والخَراج والصدقات التطوّعيّة التي تمتلك خاصّية تتفرّد بها؛ إذ إنّها ترتبط بدرجة التقوى في ذات الفرد، أو إنّ المردود أو جزءاً منه يوظَّف في استثمارات إضافيّة في الأُصول الثابتة أو المتداولة للإنتاج، وبذلك لا يخضع للزكاة.

جـ - أمّا الحالة الثالثة، فهي عجز مردودات عمل الفرد وإنتاجيّته عن تغطية حدّ الكفاية، بما يجعل الفرد محلاً للمدفوعات التحويليّة، من صندوق الزكاة، أو بيت المال؛ لتغطية المتبقّي عن طريق مصارف الزكاة أو مصارف الخُمس، أو الاستفادة من تحقّق الكفّارات والنُذور والأوقاف التي تُسيل منافع الأُصول لصالح المحتاجين للمنافع المحبسـة (1) .

وحيث تنتهي البحوث في نمط التوزيع الإسلاميّ إلى أنّ قوانين التوزيع في الإسلام لا تدع شريحة العجز عرضة للهلكة أو الإحسان، إنّما تجعل الإمام والمسلمين جميعاً مسؤولين مباشرة عن انتزاع هذه الشريحة إلى مستوى الكفاية، فإنّ مفهوم التخلّف الناتج عن سوء التوزيع لا يكاد يرى في تصوّر اقتصاد إسلامي.

ويترتّب على ذلك أنّ نموذج التنمية في الإسلام لا يقوم على أساس (الإنتاج) فقط، فللتوزيع دور هامّ في إنجاز النموّ.

وقد يُؤسّس على ذلك أنّ محور التوزيع سيدخل في حسابات المخطّط الاقتصاديّ المسلم، إلى جانب الإنتاج عند صياغة السياسة الاقتصاديّة أو الخطط الطويلة والمتوسّطة؛ بما يؤدّي إلى اقتران النموّ مع توزيع إمكاناته توزيعاً عادلاً.

مِن كلّ ما تقدّم يخرج الباحث من هذا الاقتران بالنتائج الآتية:

1 - إنّ النمط التوزيعيّ يُهيّئ جميع قوّة العمل المتاحة للمساهمة بالإنماء.

2 - تحقيق الكفاية للجميع، بوصفها حدّاً أدنى يسهم في زيادة إنتاجيّة القوى العاملة ورأس المال معاً.

____________________

(1) اُنظر: الآيات الخاصّة بالإنفاق: [التوبة: 60، الأنفال: 40].

والمُستندات الشرعيّة للكفّارات، واجتهادات الفقهاء في الوقف والخراج. اُنظر في ذلك: الحسن بن يوسف بن المُطهّر، شرائع الإسلام، تحقيق عبد الحسين محمّد علي، الآداب - النجف، ط1، 1969م. وتذكرة الفقهاء، الطبعة الحجريّة.

الطوسي (محمّد بن الحسن)، المبسوط، الطبعة الحجريّة، 1271م. المحقّق النجفي (محمّد حسن)، جواهر الكلام، مطبعة النجف، ط6: 15/16. الكاساني (علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، مطبعة الجمالية - مصر، 1910م.

الحسب (فاضل عبّاس)، م. س. المياحي (عبد الأمير كاظم)، م. س.

١٨

3 - السماح بالتفاوت بعد تحقيق الكفاية؛ الأمر الذي يحرّك الطلب المنشّط، ثمّ الفعّال الذي يُشجّع الإنتاج، وبالتالي يُقلّل من فُرص الركود وآثاره السيّئة على الدورة الإنتاجيّة.

نخلص ممّا تقدّم - أيضاً - إلى أنّ نظرة المذهبيّة الإسلاميّة للتخلّف نظرة فكريّة وليست مادّيةً، هذه النظرة الفكريّة تستوعب كافّة مظاهره ونتائجه وأسبابه، وتعدّ أساساً لمعالجته، كما سيظهر من تصوّر تلك المذهبيّة للتنمية.

وإنّ تلك التصوّرات - كما يبدو - تُعطي للتوزيع أولويّة في انتزاع المفهوم الحقيقيّ للتخلّف، فتربطه بنمطه، ثمّ تحلّل تدنّي الأنماط من خلال عزوف الإنسان عن استثمار الموارد المُتاحة (المُسخّرة) للكون؛ بسبب عدم أداء الإنسان (المُستخلف) لمهامه الاستخلافيّة في الأرض (عمارة الكون).

وكلّ ذلك بسبب عدم وضوح أُسلوب المعالجة الإسلاميّة للمُشكلة الاقتصاديّة عند الفرد المُستخلَف - غير المسلم - أو سيطرة حالة التبعيّة الفكريّة والمنهجيّة لدى المسلمين في الإعراض عن القوانين المركزيّة للنموّ، كما ترسمها الشريعة الإسلاميّة. أمّا ما يترتّب على هذه العلّة المركزيّة فهو من قبيل النتائج والمظاهر التي تفرزها تلك العلّة.

وهذا يعني أنّ المذهبيّة الإسلاميّة تُعالج المسألة مُعالجة جذريّة عميقة، تبدأ مِن تمكين العقيدة في النفوس؛ لأنّ النموّ لا يعدّ ممارسة شرعيّة إلاّ إذا كان استجابة لحُكم شرعيّ، ثمّ وضع الإنسان تحت تأثيرات مجموعة من القيَم المحفّزة، إضافةً إلى دور الفقه (النُظم الحقوقيّة المؤسّسيّة) في تنظيم بيئة قانونيّة اجتماعيّة سياسيّة مُهيأة للإنماء، بما يشكّل، وفق مصطلح الاقتصاديّين، الإطار المُلائم للتنمية.

إذنْ، لتعدّ المنهجيّة الإسلاميّة المعادل لِما يُسمّى في أدب التنمية بشروط الانطلاق، على أنّنا لا بدّ من أن نشير إلى الخلاف في التصوّر والمعالجة بين الفكرين: الوضعيّ والإسلامي، وما يترتّب على كّل تصوّر من عناصر توجّه الطريقة الكليّة لكلّ فِكر في استخلاص قيميّ لحلّ المشكلة الاقتصاديّة، وعلى

١٩

ذلك، فإنّ منظومة معايير التخلّف في الدراسات الاقتصاديّة للتنمية لا ترقى إلى وصف التخلّف ماهيّةً أو مفهوماً، ذلك أنّ فائض الزيادة السكّانيّة مفهوم نسبيّ، فليس الأمر إلاّ عدم استخدام الموارد المُتاحة (المسخّرة)؛ لأنّ التصوّر الإسلاميّ لا يعترف البتّة بنقص الموارد إزاء زيادة السكّان، ولأنّ وجوب العمل في التصوّر الإسلاميّ وجوب مُنحل إلى كلّ قادر عليه، إلى جانب كفاية الموارد للحاجات الأُفقيّة (زيادة السكّان). كما أنّ نقص الموارد - كما يُمثّل له الحزام الاستوائيّ - مسوّغ غريب، فإنّ النظرة الإسلاميّة، إلى جانب كونها تؤكّد بدلالات قرآنيّة متعدّدة كفاية الموارد، لا ترى المسألة من زاوية إقليميّة، بل إنّ المسلمين جميعاً مسؤولون عن إخوانهم مسؤوليّة وجوبيّة حيناً وندبيّة حيناً آخر.

لقد أسهب الآلوسي والزمخشري في تفسير قول الله تعالى: ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) [إبراهيم: 34]، قال الألوسي: ( كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) يعني ما من شأنه أن يُسأل لاحتياج الناس إليه، سواء سأله الإنسان أمْ لم يسأله).

وقال الزمخشري: (إنّه آتاكم كلّ ما احتجتم إليه، والذي لم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلاّ به) (1) .

وقد أيّد العلم هذه النظرة الشموليّة بما جعل الباحثين يؤكّدون على أنّ معارف الإنسان لم تصل إلى اكتشاف فائدة كلّ ما يحيط به الموارد، وكلّ ما توصّل إلى معرفة فائدته لا يتجاوز قطرة من بحر، إذا قيس بجميع ما يشتمل عليه هذا الكون.

ففي المملكة الحيوانيّة التي تُعدّ فصائلها بمئات الآلاف، لم يستخدم الإنسان منها إلاّ نحو مِئتي فصيلة (2) .

ويرى العُلماء أنّ ارتفاع عدد سكّان العالم مِن (750 مليوناً) في سنة (1750) إلى (4000 مليون) حالياً صاحَبه ارتفاع في مستوى المعيشة، وهذا لا يتمّ إلاّ مع فرض كفاية الموارد (3) .

____________________

(1) الآلوسي (شهاب الدين محمود شكري)، روح المعاني، الطبعة النيرية: 13/ 226.

الزّمخشري (جار الله محمود بن عمر)، الكشّاف، طبعة الحلبي، 1966م: 2/379.

(2) وافي (علي عبد الواحد)، الاقتصاد السياسيّ، ط 5، دار الحلبي، 1952م، ص 6 و7.

(3) البيلاوي (حازم)، أصول الاقتصاد السياسيّ، ص: 34.

٢٠