دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 81513
تحميل: 9564

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81513 / تحميل: 9564
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

المبحث الأوّل: جوهر الصُلح أهمّيته ونطاقه

المطلب الأوّل: الصُلح لُغةً واصطلاحاً

يعرّف العلماء الصُلح لغةً بأنّه: (قطْع النزاع).

  واختلفوا في تعريفه اصطلاحاً على أقوال:

1 - عرّفه الحنفيّة (1) والإماميّة (2) والشافعيّة (3) بأنّه: (عقْد وضْعٍ لرفْع المُنازعة). والتعريف اتّكأ - كما هو واضح - على الغاية مِن الصُلح، وفيه من عدم المانعيّة أنّ أكثر العقود الشرعيّة وُضعت ابتداءً لرفع المنازعة، فلو قيّدوها - بعد حصولها - لانصرف الذهن إلى أنّه وسيلة لضمان العقد، وإنهاء المسؤوليّة العقديّة، لكن ما يسوّغ القول بصحّة هذا التعريف أنّهم لم يُريدوا اعتبار المنازعة مقدّمة داخلة في شرائط صحّة الصُلح، فمع هذا القيد ربّما يُفهم أنّه لا يصلح إلاّ عندما تسبقه خصومة ونزاع، وهذا ما سيتبيّن في عَرْض فروض الصُلح.

2 - وعرّفه الحنابلة (4) بأنّه: (معاقدة يتوصّل بها إلى الإصلاح بين المختلفَين).

وفيه، أنّه يدخل فيه التعويض المدني وبقضاء القاضي، إذا قبِل فيه قبْل النطق بالحُكم.

3 - وعرّفه المالكيّة (5) بأنّه: (انتقال عن حقٍّ أو دعوى بعوَض، لرفعِ نزاعٍ أو خوف وقوعه)، وأرادوا بالانتقال نقل المركز القانوني للخصم من حيّز المطالبة، إلى عدمها.

وهو ما يقابل التنازل عن الحقّ أو إسقاطه، وفرّقوا بين الحقّ والدعوى؛ لأجْل أن يوسّعوا موضوع الصُلح إلى ما يشمل الحقّ الثابت، وغير الثابت المعبّر عنه بالدعوى، لكنّهم لمّا قيّدوه بالعوض، فُهِم منه أنّ الصلح على مبنى المالكيّة لا يتمّ إلاّ بعوَض. ومن هُنا يمكن وصف التعريف بعدم

____________________

(1) ابن عابدين، ردّ المحتار على الدرّ المختار: 4/493.

(2) المحقّق الحلّي، الشرائع: 2/121، ظ: جواهر الكلام: 26/210، مفتاح الكرامة، ص 460، اللمعة: 4/174.

(3) الشربيني، مغني المحتاج على متن المنهاج: 2/177.

(4) ابن قدامة، المغني: 4 / 476، غاية المنتهى: 2/118.

(5) محمّد بن سعد، دليل السالك، ص 115.

١٨١

الجامعيّة؛ لأنّه يصحّ الصُلح بلا عوضٍ، ومن جهة المقاصد نجدهم قد جعلوا رفع الخصومة الحاليّة أو المتوقّعة غرضاً للصُلح.

4 - وعرّفه بعض الفقهاء (1) بأنّه: (التراضي والتسالم على أمر، من تمليكِ عينٍ أو منفعة، أو إسقاط دَينٍ أو حقٍّ أو غير ذلك).

وفي التعريف تسوية بين إتمامه عن تراضٍ أو تسالم.

5 - وعرّفته مجلّة الأحكام (2) أنّه: (عقدٌ يتّفق فيه المتنازعون في حقّ على ما يَرفع النزاع بينهما).

ومسلك تعريف المجلّة يشير إلى عدم تحقّقه في (دعوى) قبل ثبوتها، وهذا خلاف ما سيذهب إليه أكثر الفقهاء.

6 - وعرّفه فقهاء القانون (3) أنّه: عقدٌ يَحسم به الطرفان نزاعاً قائماً، أو يتوقّيان به حصول نزاعٍ محتمل، ذلك بأن ينزل كلٌّ منهما على وجه التقابل عن جزءٍ من ادّعائه.

وفي تعريف أهل القانون إدخال (للإقالة) في أحكام الصُلح، واعتبار النزول عن الادّعاء بمثابة التنازل عن الحقّ، باعتباره وسيلة الإثبات، أو أنّه يسقط بالتنازل عنه من باب الأَولى.

والذي أختارُه: إنّه عقدٌ شرعيٌّ ينهي خصومة حاصلة أو متوقّعة غالباً، بالتوصّل إلى ما يتراضى به الخصوم انتهـاءً، إمّا بإسقاط بعضهم كلّ حقّه أو جزئه، بعوَضٍ أو من دون عوَض.

لذلك يمكن القول: إنّه ذو صور متعدّدة، منها:

إسقاط أحد الخصمَين كلّ حقِّه للآخَر بعوَض أو من دون عوض.

أو إسقاطه بعض حقّه بعوَض أو من دون عوض.

أو إنشاء معاوضة جديدة على (حقٍّ متنازعٍ) عليه.

____________________

(1) أبو الحسن الموسوي، وسيلة النجاة، ص561.

(2) علي حيدر، مجلّة الأحكام العدليّة: 1/599، المادّة 1531، 1560.

(3) أحمد محمّد إبراهيم، القانون المدني، ص604.

١٨٢

المطلب الثاني: أهميّة عقد الصُلح

يحتلّ مبحث الصُلح وتطبيقاته في الفقه الإسلامي أهمّية متميّزة تفوق أغلب العقود. وذلك:

1 - لأنّ الطبيعة الحقوقيّة للفقه الإسلامي تختلف عن تلك الطبيعة للقانون المدني الوضعي؛ إذ إنّ انتهاء المطالبة أو ردّ الدعوى على أحد الخصوم من قِبل القضاء لا ينهي الحقّ في الفقه الإسلامي، فالحقّ الثابت يبقى متعلّقاً بالذمّة طالما لم يوفَّ لصاحبه.

ولضمان التصرّفات العقديّة في الفقه الإسلامي بجزأيه: الدنيوي والأُخروي، فإنّ التملّص من ضرورة ضمان العقد - قضاءً - لا يسقط القانون الأُخروي للعقد، قال تعالى: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) [آل عمران: 30].

لهذا، فإنّ الصُلح يُعدّ وسيلة من وسائل التخلّص من تعلّق الحقّ بالذمّة، سواء نشأ هذا التعلّق مع قصد أحد الخصوم في فترة ما عمداً هضْم حقِّ صاحبه وأكْل أمواله بالباطل، أو نشأ عن ظرفٍ خارجٍ عن إرادة المتعاقدَين، كالعجز عن إثبات الحقّ بوثيقة أو بالقضاء، ويمكن الإشارة إلى تفسير مقاصد الشارع من تشريع عقد الصلح، إلى أنّه وسيلة لإعادة الحقوق غير القاطعة وغير الواضحة إلى أصحابها؛ انزجاراً من آثار شغْل الذمّة، أو احتراماً للشرع، أو حياءً من الله، أو خشيةً منه، فلولاه لأصاب الناس حرَج في حالات التوبة وحالات أُخرى تدخل في مسوّغات عقد الصُلح ومقاصده.

2 - وفي تشريع الصُلح غرض جماعيّ فوق الأغراض الشخصيّة للمتعاقدَين؛ وهو أنّه لمّا كان هو الطريق لإعادة الحقوق إلى أصحابها برضا المتعاقدين، فقد أحلّ الصلح بين الناس الحبّ والودّ، وساد الأمن والاطمئنان، وانتهت أسباب الظلم والانتقام، فالصلح - إذن - ليس رابطة قانونيّة فحسب، إنّما في مقاصده يؤدّي إلى روابط اجتماعيّة أساسيّة متينة

١٨٣

ووديّة؛ لأنّه من المفاسد بقاء الحقوق معلّقةً دون حسْم، وبقاء روح المقاصّة في النفوس، وتمكّن الانتقام من أن يكون دافعاً للسلوك.

لذلك، فإنّ مِن جلْب المصلحة (تشريع الصُلح)، ومِن دفْع المفسدة (إنهاءه للخصومات). ويتّضح هذا المقصد - في الاستثناء البيّن - من القاعدة الأساسية للحقّ في الفقه الإسلامي، إذ القاعدة هي أنّ كلّ صاحب حقٍّ له أن يأخذ حقّه كاملاً غير منقوص في الصفة والمقدار، والاستثناء أن يرخّص له الشارع بإسقاط الحقّ كلّه أو جُزئه، واستيفاء الباقي لمعنى (إزالة المشقّة في تحقيق ما لا سبيل إلى تحقيقه) من إقرار الحقوق؛ لانعدام بيّنة، أو جهل بمقدار. ومبني على قاعدة (المشقّة تجلب التيسير)، التي هي ضربٌ من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة (1) .

وإذا كان الشارع في مقاصده قد حافظ على الضروريّات، فإنّ الصُلح ألصق بالمحافظة على المال، فتضييع المال مفسدة، وحِفظه على ممتلكيه مصلحة فرديّة واجتماعيّة، وهو في هذا يشارك بقيّة العقود، لكنّه يفترق عنها أنّه علاج ما لا تستطيع المواد الفقهيّة الأُخرى علاجه.

3 - ويمكننا القول أيضاً: إنّ الصلح يشكّل الصورة الخارجيّة للواجهة القانونيّة لسلوكٍ تندمج فيه القيَم الأخلاقيّة بالقوانين، وهي السِمة التي تميّز التشريع الإسلامي عن القوانين الوضعيّة، فالمسلم إذا ثبت له قضائياً ما لا يستحقّه يردّه على صاحبه، وإذا أعجز خصمه عن إثبات حقٍّ عليه ندَم ورجع عن غيّة، فيسارع إليه يطلب منه إبراء الذمّة من المشغَل، بالتصالح، فإنّ محاولات التحايل على القانون في مجتمع إسلامي تكاد تتلاشى لهذه السِمة الجزائيّة الأُخرويّة.

4 - مسألة رابعة مهمّة، وهي أنّ الصلح يكشف عن أنّ الفقه في المجتمع الإسلامي له من المقاصد ما يحلّ نزاعات الناس على الأموال خارج ساحات القضاء، فالصُلح - مثلاً - باب يخفّف كثيراً عن المؤسّسات القضائيّة، فهو في المجتمع الإسلامي ليس الوسيلة الوحيدة للتوصّل إلى الحقّ (2) .

____________________

(1) ظ: العز بن عبد السلام، في قواعد الأنام، ص22.

(2) عبد الكريم زيدان، نظام القضاء، ص9.

١٨٤

5 - وأخيراً، يُعَدّ الصلح أحد الطُرق لضمان العقد، وهو باب من الأبواب التي تدعو إلى الاطمئنان في المعاملات، وفيه أفضل ضمان للحقوق الهالكة والمتقادمة (1) .

المطلب الثالث: نطاق الصُلح وأقسام القانون

هل الصلح مبحث فقهي خاص، كالبيع والرهن والإجارة؟

أمْ أنّه ضابط لبعض الحالات التي يعجز عن حسمها القضاء؟

أمْ هو قاعدة تجري في أكثر من باب فقهيّ؟

الذي يخرج به الباحث أنّ الصُلح نظريّة حقوقيّة لها شروطها، وأركانها، وفرضيّاتها؛ لأنّ جوهر الصلح في الفقه: عقد يعقب علاقة بين متعاقدَين، هدفه حلّ إشكال حقوقي لا يستطيع أحد الخصوم أو كلاهما التوصّل إليه.

والمُدقّق في مبحث الصلح لا يراه مجموعة قواعد فاعلة في قسمٍ من أقسام القانون فقط، بل نجده في أكثر من مجال، ففي مجال التعامل المالي بين الأفراد نجد (صُلح المعاملات) مجموعة قواعد فاعلة، وهو ما يدخل في عموم الصلح في القانون المدني والتجاري.

وفي مجال الأحوال الشخصيّة نجد جوهر عقد الصلح، ومعناه موجود في المخالعة والمباراة والصلح بين الزوجين، ونجد معانيه موجودة في العقود والإيقاعات، أي أنّ جوهر قواعده في عموم التصرّفات المنشئة للحقّ.

ليس هذا نطاقه فحسب، بل نجد تلك القواعد موجودة في مجال القانون الدوَلي، فإنّ في عقود الصلح بعد الحرب، أو عند عقد الهدنة ممّا يطلق عليه اليوم بـ (المعاهدات)، نجد تلك القواعد فاعلة، ونجده في القانون الدستوري؛ إذ إنّ قواعده فاعلة في نمط التعامل الحقوقي مع الأقليّات في الحكم في النُظم الإسلاميّة، ففي أنماط العلاقة بين الدولة الإسلاميّة وأهل

____________________

(1) أحمد فهمي أبو سنه، النظريّات العامّة للمعاملات، يتصّرف، ص35 - 40.

١٨٥

الذمّة، ومباحث الجزية وأراضي الصُلح نجد جميع تلك الأحكام قائمة على قواعد الصلح عامّة.

فالفقهاء يسمُّون العقود مع أهل الذمّة صُلحاً، ويرون أنّ أرضهم تصنّف في أرض الصلح، وهي أرض ذات أحكام خاصّة مقابل أحكام الأراضي المفتوحة عنوةً وما أسلم عليها أهلها، يقول الشيخ الفياض: (وبالجملة، فإنّ الكفّار قد يُسلّمون الأرض إلى وليّ الأمّة تسليماً من دون شرط. وقد يسلّمونها مع شرط مُسبق، وعقْد الصُلح سيكون مبنيّاً على تلك الشروط)، ويخلص الشيخ إلى القول: (إنّ أرض الصلح تختلف باختلاف ما تمّ عليه عقد الصلح بشأنها، فليس له ضابط كلّي في جميع الموارد) (1) .

وكسبب من أسباب اختلاف الفقهاء في مقدار الجزية على أهل الذمّة، نجد أنّ الإماميّة (2) وعطاء (3) ويحيى بن آدم (4) وسفيان (5) يرون أن لا حدّ لها؛ لأنّها ممّا يقرّره المتعاقدان (الإمام وأهل الذمّة).

وفي المعاهدات نجد أنّ الفقهاء قد عرّفوها بأنّها (عقد مصالحة بين المسلمين والحربيّين في حالة ضعف المسلمين على الشروط المباحة شرعاً) (6) .

ويراها الشربيني أنّها: (مُصالحة أهل الحرب على ترْك القتال مدّة معيّنة بعوَض أو بغيره) (7) .

ويراها الدردير أنّها: (صُلح الحربي مدّة لمصلحة) (8) .

والإماميّة، وإن لم يعرّفوا المعاهدة بالصلح، لكن مضمون تعريفهم يكاد ينطق بأنّها مصالحة (9) .

إنّ هذا العرض السريع يكشف لنا قواعد الصُلح ومعناه، وهي لا تنحصر في بابٍ من أبواب الفقه، فهي موجودة في أقسام المعاملات الماليّة الفرديّة، والأحوال الشخصيّة، وأحكام القانون الدستوري والدولي، كما نجدها في أحكام القانون الجنائي، حين يصحّح الفقهاء الصلح على الديّة بين وليّ الدم والجاني..

____________________

(1) إسحاق الفيّاض، أحكام الأراضي، ص 325.

(2) المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام، ص328، محمّد حسن النجفي، جواهر الكلام: 26 / 212.

(3) الطبرسي، مجمع البيان: 3 - 4/519.

(4) المصدر نفسه.                                      (5) المصدر نفسه.

(6) السرخسي، المبسوط: 9/85.                     (7) الشربيني، مغني المحتاج: 4/260.

(8) الدردير، الشرح الكبير: 2/205.

(9) ظ: الشرائع، الجواهر، الروضة البهيّة، في الأجزاء والصفحات المشار إليها، وكنز العرفان للسيوري: 3/77.

١٨٦

ونجد قواعده في قوانين العمل، والتعويض عن المتلف... إلخ.

لهذا وذاك يعتقد الباحث أنّ الصلح يشكّل قاعدة عامّة من قواعد الفقه الإسلامي؛ لأنّ قواعده كلّية تندرج تحتها موضوعات متشابهة في الأركان والشروط والأحكام العامّة، وإن كان لكلّ موضوع أركان وشروط وأحكام خاصّة.

إنّ هذا التدخّل الواسع للصُلح في أكثر من مبحث فقهي يجعله أوسع من البيع، والإجارة، والهبة، والإبراء، والإسقاط، والمخالعة، والمباراة، والمعاهدات، وحقوق الذمّيين.

بل هو أعمّ من مصطلح (العقد) في الفقه الإسلاميّ، وأقرب إلى الإحاطة بعموم مصطلح التصرّف المُنشئ للحقّ؛ لذلك اشتهر بين العلماء بأنّه سيّد الأحكام (1) .

ولذلك فهو يحتاج إلى صياغة تبرزه بوصفه نظريّة قانونيّة متكاملة، سيشرع الباحث في ترسيم الإطار النظري لها، كحلقة أُولى يلزم أن تتْبعها حلقات لإيضاح هذا المُدّعى.

المطلب الرابع: أدلّة مشروعيّة الصُلح

لقد دلّت على عقد الصلح مجموعة من الأدلّة من الكتاب المجيد والسنّة المطهّرة والإجماع، ودلّ العقل على جوازه، وفي ما يأتي بعض أدلّة الجواز:

1 - من الكتاب

أ - ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ ) [النساء: 128].

ب - قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) [الأنفال: 1].

قال المفسّرون: (أي ما بينكم مِن الخصومة والمنازعة) (2) ، ووضّحها القرطبي قائلاً: (أي ما يقع في حال الاجتماع من مَيل النفوس إلى التشاحّ، فأمرَهم الله بإنهاء الخصومة) (3) .

____________________

(1) السيوري، كنز العرفان: 3/77.

(2) الطبرسي، مجمع البيان: 3 - 4/519.

(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 7/364.

١٨٧

جـ - ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ ) [النساء: 114].

د - قوله تعالى: ( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) [الحجرات: 10]. لقد فهِم المفسّرون من هذه الآيات أنّها واردة في الحثّ على رفع الفتنة بإيقاع الصلح، واستدلّوا بها على مشروعيّة الصُلح بمصطلحه الفقهيّ (1) .

2 - مِن السُنّة المطهّرة

أ - ما روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مرفوعاً وموقوفاً أنّه قال: (الصُلح جائز بين المسلمين، إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً) (2) . رواه الترمذي، وغيره، وروى أيضاً بزيادة: (والمسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً)، قال الترمذي: هذا الحديث صحيح (3) . وقد ورد الحديث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلفظ: (الصُلح جائز بين المسلمين)، وفي رواية: (اشترطوا طِيبة صاحب الحقّ) (4) .

ب - ومن سيرته أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصلح بين بني عمرو بن العوف، وأصلح بين كعب بن مالك وابن أبي حدرد، بأنّه استوضع من دَين كعب الشطْر وأمر غريمه بقبول الشطْر (5) .

جـ - وروي عنه أنّه قال لرجُلين احتكما عنده: (اذهبا فاقتسما، ثُمّ توخّيا الحقّ، ثُمّ اسْتهِما، ثُمّ ليحلّل كلّ منكما صاحبه) (6) .

3 - مِن أقوال الصحابة وإقراراتهم

أ - نقل عطاء عن ابن عبّاس (رضي الله عنه) أنّه كان لا يرى بأساً بالمخارجة، يعنـي الصُلـح فـي الميـراث (7) .

ب - صولحت امرأة عبد الرحمان بن عوف من نصيبها ربُع الثمن على ثمانين ألفاً (8) .

____________________

(1) ظ: أحكام القرآن للجصاص، ومسالك الافهام للكاظمي، ومنتهى المرام لمحمّد بن الحسين الزيدي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

(2) الزيلعي، نصب الراية: 4/114، الشوكاني، نيل الأوطار: 5/254، الجامع الصّغير: 2/50، التلخيص الحبير، ص 249، صحّحه الترمذي وابن حبان وابن ماجة، ورواه أحمد وأبو داود، ووصفه السيوطي بالصحّة، وردّه ابن حزم؛ لأنّه انفرد فيه كثير بن عبد الله بن زياد بن عمر، وهو عنده ساقط.

(3) ابن قيّم الجوزيّة، أعلام الموقّعين: 1/107.

(4) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، باب الصلح، رواه ابن بابويه مرسلاً، ب3، ج2، الصلح.

(5) ابن قيّم الجوزيّة، أعلام الموقّعين: 1/107.

(6) المصدر نفسه.                                      (7) المصدر نفسه.

(8) المصدر نفسه.

١٨٨

جـ - روى مسعر، عن أزهر، عن محارب، عن عمَر أنّه قال: (ردّوا الخصوم متى يصطلحوا، فإنّ فصل القضاء يُحدث بين القوم الضغائن) (1) .

وروى عنه (رضي الله عنه) أيضاً قوله: (ردّوا الخصوم لعلّهم يصطلحوا؛ فإنّه آثـر للصدق، وأقـلّ للخيانـة) (2) .

4 - مِن الإجماع

ما استفاضت به أقوال العلماء في حصول الإجماع على مشروعيّته مجملاً من غير خلاف بين العلماء (3) .

وقد نقل العاملي الإجماع على جواز الصلح (4) ، ونقل ابن قدامة (5) والشيخ الطوسي (6) وابن إدريس (7) إجماع المسلمين على جوازه.

5 - مِن العقل

نجد أنّ انسداد طريق إنهاء المنازعات يتعارض مع أهمّ غاية من غايات التشريع؛ وهي إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، وإزالة الضغائن، فإذا تعسّر الوصول إلى إثبات الحقّ بقيت آثار سيّئة في النفس، فلا بدّ من طريق يحلّ التنازع؛ لذلك وصَفه القرآن بأنّه خير.

يقول السيوري في الآية الكريمة: ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) [النساء: 128]: أي خير عظيم، أو خير من الخيرات، كما أنّ الخصومة شرّ من الشرور (8) ، ويفيد هذا الفهْم أنّ لفظ ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) على أنّه صيغة أفعل التفضيل، أي خير مِن تمسُّك كلٍّ بحقّه، وهذا وإن كان معارضاً بقاعدة شرعيّة، إلاّ أنّه خير من الخيرات.

ممّا تقدّم يتبيّن لنا أنّ عقد الصلح مجملاً عقدٌ جائزٌ، دلّت عليه أدلّة الشرع، ولكن هذا الجواز وقع عليه مجملاً، أمّا في تفاصيله، فقد اختلف العلماء فيها، وسنعرض لخلافهم في المبحث القادم.

____________________

(1) المصدر نفسه.

(2) المصدر نفسه.

(3) الزحيلي، الفقه الإسلامي: 2/191، ظ: ابن رشد، بداية المجتهد: 2/290.

(4) محمّد جواد العاملي، مفتاح الكرامة، ص 454.

(5) ابن قدامة، المغني: 4/476.

(6) الطوسي، المبسوط، كتاب الصلح، ط. حجريّة.

(7) ابن إدريس، السرائر، كتاب الصلح، ط. حجريّة.

(8) السيوري، كنز العرفان: 3/77.

١٨٩

المبحث الثاني: الفروض الأساسية في عقد الصُلح

عندما يتعرّض باحث لموضوع الصُلح تواجهه أربعة مداخل رئيسة، يلزمه حسم النزاع فيها؛ لكي تتشكّل نظريّة الصلح على ترجيحاته لهذه المداخل، وهي:

1 - هل تعتبر الخصومة شرطاً لعقد الصُلح؟

2 - هل الصُلح عقد قائم برأسه، أمْ هو متفرّع على عقودٍ أُخرى، أمْ هو عقد مهامّه تصحيح وضع غير قانوني؟

3 - هل تترتّب آثار الصلح في حالات إقرار الخصم وسكوته، وإنكاره. أمْ تترتّب آثاره فقط إذا كان المدّعى عليه مقرّاً بالحقّ؟

4 - هل يشترط لصحّة العقد أن يكون العوَض عن المدّعى معلوماً معلوميّة تحدّد مقداره وصفاته، أمْ عموم ما يُدّعى به معلوماً أو مجهولاً؟

هذه الفروض الأربعة مداخل لو حسَمها البحث - ابتداءً - لأمكنه أن يُنشئ بعد ذلك مفهوماً واضحاً في بسط فقه الصُلح؛ لأنّها ممّا اختلف فيه العلماء، فلا بدّ من عَرْض الآراء وأدلّتها للوصول إلى صياغة قواعد الصلح.

المطلب الأوّل: هل ينحصر عقد الصلح في ما يُنهي خصومة حاصلة أو متوقّعة، أمْ يصحّ من دون أن تسبقه خصومة؟.

انقسم الفقهاء إزاء هذه الإشكاليّة إلى فريقين:

1 - يرى الأغلب منهم أنّ الأصل والغاية من تشريع عقد الصلح قطْع التجاذب بين المتخاصمَين، وقد طفحت كتُبهم بهذا التعريف؛ لذلك قال الفقهاء: إنّ أحكامه لا بدّ أن ترِد على سبب وهو الخصومة؛ لأنّ ما نسمّيه قاطع التجاذب يلزم أن يكون مسبوقاً به، إذ إنّ جوازه قائم على إنهاء المنازعات؛ لذلك فقد حكموا بأنّه لا يصحّ ابتداءً.

١٩٠

قال في متْن المنهاج: (ولو قال من غير سبْق خصومة: صالحني عن دارك بكذا، فالأصحّ بطلانه) (1) ، وعقّب عليه شارح المنهاج، بقوله: (لأنّ لفظ الصُلح يستدعي سبْق الخصومة، سواء أكانت عند حاكمٍ أمْ لا) (2) .

2 - ويرى غيرهم أنّ عقد الصلح عقدٌ عامّ مشرَّع لتصحيح أوضاع غير قانونيّة، قضاءً أو ديانةً، يسعى المَدين (مَن عليه الحقّ) إلى إبراء ذمّته منها، أو يسعيان معاً للوصول إلى الإبراء وتصفية تعلّق الحقوق بذمّتيهما أو ذمّة أحدهمـا، سواء سبقت العقد خصومة أمْ لا.

وقد ناقشوا أدلّة الفريق الأوّل بأدلّة متعدّدة أبرزها:

أ - إنّه لا يلزم من استنباط غاية المشرّع في أنّ الصُلح يسعى إلى إنهاء الخصومة أو قطْعها، تعليق صحّة الصلح في ما قطعها؛ لأنّ القواعد الحكمية لا يجب فيها الاطّراد، ومثّلوا لذلك بقوله تعالى في وصف الجنّة أنّها ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) [آل عمران: 133]، فهذا لا ينافي دخول غير المتّقين فيها، ومثّلوا له أيضاً بأنّ مشروعيّة العدّة، بوصفها لاستبراء الرَحِم، تلزم المطلّقة المدخول بها، وإن فارقها قبل الطلاق بسنين، وتلزم غير المدخول بها، وتلزم الصغيرة واليائس؛ لأنّ العدّة حُكم شرعيّ وُجد للأغلب، فكذا الصلح، فإنّه طريق وُجد للأغلب أنّه ممّا يقطع الخصومة، فلا ينبغي أن تكون (مقاصده الغالبة) ركناً في صحّته، ومثّلوا له كذلك بالسفر في كونه علّة في قصر صلاة المسافر، فالقصْر ثابت في السفر سواء صاحبَته مشقّة أمْ لا (3) .

لذلك نجد صاحب (الجواهر) يعلّق على ذلك بقوله: (إنّ الصلح من الأحكام التي لا تقتضي تخصيصاً أو تقييداً؛ لعموم الدليل أو إطلاقه، ممّا يقتضي ثبوت حُكم الدليل في محلّه وفي غير محلّه) (4) .

ب - إنّ الأدلّة الدالّة على اعتباره موضوعاً لقطع التنازع، كقول الله تعالى: ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً ) [النساء: 128]، الذي فيه تصريح بعدم حصول المنازعة، إنّما توقّع حصولها، والمتوقّع غير حاصل

____________________

(1) النووي، متن المنهاج: 2/178.

(2) الشربيني، مغني المحتاج في شرح المنهاج: 2/178.

(3) محمّد جواد العاملي، مفتاح الكرامة، ص454.

(4) محمّد حسن النجفي، جواهر الكلام: 26/210.

١٩١

فعلاً، فربّما يحصل وربّما لا يحصل، فهو هنا معدوم، فلمّا جاز الصلح على خصومةٍ معدومة جاز مطلقاً.

3 - ما دلّ على مشروعيّته بإطلاق، كقوله تعالى: ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) [النساء: 128]، أو قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الصُلح جائز)، والإطلاق يقتضي عدم التقييد، والقيد بلا دليل شرعيّ زيادة على النصّ لا يلزم اعتباره شرطاً في الصحّة، فحيث ثبتت شرعيّته مطلقاً لإطلاق الأدلّة، فلا فرصة لتقييده.

4 - ويرى أصحاب هذا الرأي أيضاً أنّ مشترطي الخصومة تمسّكوا بتعريفات العلماء له، والحال أنّ التعريف غير متلقّى من الشارع، فليس هو حقيقة شرعيّة. يقول المقداد السيوري: (إنّ شرط إنهائه لخصومة اعتُبر جرْياً وراء مقتضى التعريف، وهو لا يعدو أن يكون الغرض الأقصى من تشريع الصلح لا كلّ أغراضه ومقاصده) (1) .

ولهذه الأدلّة، فإنّهم يرون أنّ موضوعه سيتّسع لِما تسبقه خصومة حاصلة أو متوقّعة، ويدخل في مجالاته ما يراد به تصفية لحقوق معلّقة غير مبتوت بها. وندرة هذا القسم لا تمنع من صحّة العقد كما هو مقتضى الإطلاق.

أمّا فقهاء القانون الوضعي، فيرون أنّه إن لم يكن هناك نزاع قائم أو محتمل، فلا يكون العقد صلحاً؛ تمسّكاً بنظريّة السبب في العقود، ويرونه في غير إنهاء الخصومة إبراء.

ويرون أنّ أيّةَ مشارطة ليس موضوعها حقوقاً متنازعاً عليها لا تسري فيها أحكام الصلح (2) .

  ومن الثمرات التي تترتّب على ذلك: أنّ الصلح لمّا كان مشروعاً لحسم النزاع، فلا يجوز في العقود الصلحيّة أن تخلق نزاعاً آخر؛ لذلك يرون أنّ من آثاره أنّه يحسم المنازعات التي يتناولها، وبه تنقضي الحقوق والدعاوى التي يتنازل عنها كلّ من المتعاقدَين تنازلاً نهائياً (3) .

____________________

(1) المقداد السيوري، كنز العرفان: 3/77.

(2) ظ: المادّة 549 من القانون المصري.

(3) السنهوري، مصادر الحقّ: 6/223، اُنظر كذلك: الوسيط في شرح القانون المدني، 5/508، أحمد محمّد إبراهيم، القانون المدني، شرح المادة 549 من القانون المدني المصري.

١٩٢

رأي الباحث:

  يرى الباحث أنّ فقهاء القانون الوضعيّ بنَوا إلزامهم سبْق الخصومة كشرطٍ لصحّة عقد الصلح على نظريّتهم في السبب، فهم يرون أنّ لكلّ عقدٍ سبباً، والسبب عندهم ركنٌ في العقد إلى جانب التراضي والمحل، ويرون أنّ سبب عقد الصلح نيّة المتعاقدَين المنعقدة على إنهاء النزاع أو توَقّيه، إلاّ أنّ نظريّة السبب في الفقه الإسلاميّ متروكة للنيّة والقصد، وهي بهذا القدَر لا تكون ركناً في ماهيّة العقد من جهة، ومن جهةٍ أُخرى فإنّ القصد المشروع (النيّة الحسنة) موجود؛ لأنّ تسوية الحقوق قبل حصول الخصومة قصد صحيح، إذن حتى اعتبار السبب بمعنى القصد يصحّ شرعاً؛ وعليه فالعقد ينعقد صحيحاً (*) .

أمّا تفرقة أهل القانون من أنّ التصرّف من دون خصومة يسمّونه إبراءً، فهو تعميم يرى أنّ الفقه أدقّ بكثير منه؛ إذ الإبراء عندهم هو إسقاط شخص حقّاً له في ذمّة آخر، وهو إسقاط لكلّ الحقّ من دون عوَض، أو إقرار باستيفاء الحقّ أمام القضاء، وإسقاط المطالبة به أبداً.

بينما الصُلح إمّا كليّ أو جزئيّ، بعوَضٍ أو من دون عوَض، وكلاهما في الفقه الإسلاميّ يصحّ بعد الخصومة أو قبلهـا، وإنّ ما يبيّن اشتباه أهل القانون في ذلك أنّهم يُجيزون في الصلح ما يسمّونه التعاقدي، وهو الصلح خارج المحكمة، ويجيزون انعقاده ابتداءً، فكيف يعلّقونه على خصومة؟ وأرى أنّ ذلك لقوّة أدلّة الفريق الثاني من الفقهاء في اعتباره صحيحاً سبقَته خصومة أمْ لا.

____________________

(*) لا بدّ هنا من توضيح أنّ الفقهاء المسلمين لم يجعلوا من السبب ركناً في العقد، وهُم وإن علّقوا صحّة العقد على نيّة العاقد ديانةً، إلاّ أنّهم لم يأخذوا بنظريّة السبب كرُكن في ماهيّة العقود، كما هُم أهل النظريّة التقليديّة في القانون، فما يسمّونه بالسبب الباعث يُطلق عليه الفقهاء بالقصد، كما فعل أهل القانون، فإنّ أصحاب النظريّة الحديثة يركّزون على الباحث بدل السبب المادّي، ومعيار الباعث شخصيّ، وهو خارج عن العقد، ويتغيّر بتغيّر العقود والعاقد، وبذلك تسير النظريّة الحديثة في السبب نحو ما قرّره الفقهاء المسلمون.

١٩٣

وإنّ حصره فيها معارَض بمقاصد الشريعة التي توسّع الباب؛ لكي تحيط أحكامها بالواقعات الكثيرة. ولأنّ أدلّته عامّة ومطلقة، لم يقمْ الاعتبار الشرعيّ للدليل المخصّص أو للقيد، ولأنّي أرى أنّ السبب الذي يكمن وراء عقد الصلح هو تحقيق التراضي عموماً - سواء بخصومة أم بغير خصومة - أعتقد أنّ تضييقه لا ينسجم مع طبيعة الشريعة ومقاصدها.

ومَن زعم أنّه يتحرّز بهذا الشرط عن انعقاده ابتداءً، احتيالاً على التشريع، لإجراء معاملة غير شرعيّة أو تعليقها على شرط مفسِد، فهذا أجنبيّ عن الموضوع؛ لأنّ الافتراض المركزيّ أنّ الفقه الإسلاميّ شريعة المؤمنين، ولأنّ الفقهاء اشترطوا لصحّة العقد سلامة القصد، فهو بهذه الحالة وإن صحّ قضاءً لا يصحّ ديانةً.

المطلب الثاني: استقلاليّة عقد الصُلح

كما اختلف الفقهاء في المدخل السابق، فإنّهم اختلفوا في ما إذا كان الصلح عقداً مستقلاًّ برأسه أمْ تابعاً متفرّعاً عن عقودٍ أُخرى، والقول الثاني - في ما بدا لي - هو قول أكثر الفقهاء، وهو مذهب الإمام الشافعي (1) ، والشيخ الطوسي - من الإماميّة - (2) ، وقول مشهور للحنفيّة (3) ، وقول للمالكيّة (4) والحنابلة (5) والظّاهريّة (6) . يقول الشهيد الأوّل في اللمعة: (هو أصل في نفسه على أصحّ القولين وأشهرهما؛ لأصالة عدم الفرعيّة) (7) . واختلف القائلون بأنّه فرع عن غيره على أقوال: ذهب الشربيني - من الشافعيّة - إلى أنّه خمسة أضرب: (فرع عن البيع، وفرع عن الإجارة، والهبـة، والإبـراء، والعارية) (8) .

وذهب المالكيّة إلى أنّ أقسامه ثلاثة: بيع، وإجارة، وهبة. فالصلح على غير المدّعى، إن كان ذاتاً فهو بيع، فيشترَط فيه شروط البيع وموانعه، وإن كان على منفعة فهو إجارة، فتعتبر شروطها... (9) .

____________________

(1) الشربيني، مغني المحتاج، ص 178.

(2) الطوسي، المبسوط، كتاب الصلح، ظ: النهاية، ص182، الخلاف: 2/115.

(3) السمرقندي، خزانة الفقه: 1/248، ظ: تكييف الصلح، الميرغيناني، الهداية: 3/192.

(4) محمّد بن سعد، دليل السالك لمذهب الإمام مالك.

(5) ابن قدامة، المغني: 5/15.                         (6) ابن حزم، المحلّى: 8/166.

(7) محمّد بن جمال الدين العاملي: 4/174.         (8) الشربيني، مغني المحتاج: 2/180.

(9) محمّد بن سعد، دليل السالك، ص115.

١٩٤

أمّا على القول باستقلال عقد الصلح، فيعبّر عنه في الوسيلة بقوله: (ما أفاد منه فائدة البيع لا تجري فيه الخيارات، كخيار المجلس وخيار الحيوان، ولا تجري فيه أحكام الشفعة، ولا شرط القبض بمعاوضة النقدين، وما أفاد فائدة الهبة لا يعتبر فيه قبْض العَين) (1) .

ثمرة الخلاف:

وضُح من النصّ المتقدّم أنّ ثمرة الخلاف تظهر في ما إذا كان الصُلح - مثلاً - متفرّعاً على البيع، فإن كان المدّعى أحد النقدين - مثلاً - يجري في العوضين شرط التقابض في مجلسٍ واحدٍ، ويُشترط في غير النقدَين معلوميّة العوضين، وفي الإجارة يشترط معلوميّة ثمن الإجارة ومدّتها. بينما على رأي مَن يراه - الصلح - عقداً مستقلاًّ، فإنّ كون العوَض مطلقاً لا يؤثّر في العقد، وقد استدلّ القائلون بالاستقلال بما يأتي:

1 - إنّ ما حمل أصحاب الرأي الثاني على القول به - وهو التفرّع عن عقودٍ أُخرى - هو دعوى المماثلة والمشابهة الحُكميّة، والحال أنّ التشابه لا يقتضي الاتّحاد على وجهٍ تلحق أحكام الأصل بالفرع، فكلّ حكمٍ ثبت لموضوع خاصّ، لا يثبت لغيره من تلك الحيثيّة، وإلاّ لاقتضى اتّحاد الهبة بعوضٍ معلوم مع البيع، وهو واضح البطلان.

2 - إنّ عمومات النصّ أفردَته بنفسه، ولم تخصّصه بإلحاقه بغيره من العقود كما ألحقَت الخيارات بعقد البيع.

3 - ومع افتراض وجود العارض الظنّي، فإنّ المرجع لاستقلال عقد الصلح أصالةً استقلال العقود؛ لذلك يقول الشهيد في اللمعة: (لأصالة عدم الفرعيّة).

4 - ويُلزم القائلون بالاستقلال خصومهَم في أنّهم أجازوا الصلح على غير المعلوم، فأخرجوه من شرائط البيع والإجارة، فلو كان تابعاً لما صحّ الصلح على غير المعلوم.

وللإماميّة - كما تقدّم - قولان: نُسب القول بفرعيّة عقد الصلح إلى الشيخ الطوسي، في حين خالف ابن إدريس الحلّي تلك الفتوى، بل جعَل القول باستقلال عقد الصلح مذهب أهل البيت (عليهم السلام) (2) ، بل في السرائر

____________________

(1) السيّد أبو الحسن، الوسيلة: 1/561.

(2) ابن إدريس، السرائر، كتاب الصلح، ط. حجريّة غير مرقّمة.

١٩٥

تلويح ومناقشة، في أنّ ما نُسب إلى الطوسي ليس رأياً له، إنّما نقله الشيخ في النهاية كرأي من الآراء، ويؤكّد ذلك رأيه في الخلاف؛ إذ يرى استقلاله، والخلاف متأخّر عن النهاية (1) .

ولكن بمتابعة أقوال الشيخ الطوسي - رحمه الله - في النهاية والمبسوط والخلاف، تُظهر عبارته أنّه يميل إلى أنّه مصحّح لوضعٍ نشأ بعد بيعٍ أو إجارة، بهبةٍ أو إبراءٍ أو عارية.

وفي القرن الثالث عشر الهجري ظهرت عقليّة فقهيّة مُبدعة، وهي عقليّة الشيخ الأنصاري الذي يرى أنّ حقيقة الصلح هي التسالُم؛ لذا لا يتعدّى بنفسه إلى المال، إلاّ أنّه يتضمّن التمليك إذا تعلّق بعَينٍ أو منفعة، كما يشمل الانتفاع إذا تعلّق بعارية، وهنا لا يفيد أكثر من مجرّد التسليط، ويتضمّن عقد الصلح الإسقاط إذا تعلّق بالإبراء من الحقوق. فهو عند الشيخ الأنصاري مشتركٌ عقديّ، يفيد في كلّ موضوعٍ فائدة (2)

إنّ نظريّة الشيخ الأنصاري مبنيّة على رأي المقداد السيوري، الذي وجدناه يعدّه في موضوعه أعمّ من باقي العقود؛ ولأجل ذلك أُطلقت عليه تسمية سيّد الأحكام.

رأي القانون المدني:

  يرى فقهاء القانون أنّ الصلح من العقود التي تقع على الملكيّة، والتي ينقضي بها الالتزام؛ لأنّه كاشف عن الحقّ وليس منشأً له، ولمّا كان أهل القانون - كما تقدّم - يحصرونه في المعاوضات؛ إذ هم يسمّون ما لا معاوضة فيه بالإبراء، فالصلح عندهم يتضمّن في معانيه عدّة عقود معاوضيّة، كالهبة المعوّضة والبيع والقسمة الرضائيّة والمطلقة، وأحال أهل القانون قضيّة التفريق بين الصلح برأسه والصلح المتفرّع عن البيع أو الإجارة إلى اجتهاد القاضي، من خلال ملاحظة ورود الإرادتين وبقيّة عناصر الصلح (3) .

رأي الباحث:

يرى الباحث أنّ سبب الخلاف هو اشتمال الصلح على معاني وضوابطَ عدّةِ عقودٍ، فاختلفت أنظار الفقهاء في ما إذا كان هو نتيجة لاختلاف المتنازعين في تلك العقود، أمْ هو (ذو موضوعٍ أعمّ من تلك

____________________

(1) ظ: المصدر نفسه، العاملي، مفتاح الكرامة، ص458، الطوسي، الخلاف: 2/115.

(2) الأنصاري، المكاسب: 6/39.

(3) السنهوري، مصادر الحقّ في الفقه الإسلامي: 6/223.

١٩٦

العقود)، بحيث يمكن أن تكون موضوعاتها موضوعاً له، مع اختلاف في وجهة كلّ عقدٍ في تصحيح أوضاع غير رضائيّة.

والذي يظهر لي أنّ المقداد السيوري أوّل من نبّه على عموم موضوعاته، فتقدّم الشيخ الأنصاري خطوة على الخلاف التقليدي للمتقدّمين، عندما أطلق عليه مصطلح المشترك العقديّ، فصار عنده عقداً مُصحّحاً لِما أُنشئ عن بيعٍ أو إجارةٍ أو غصبٍ أو غيره، وهنا يمكن اعتباره مصحّحاً شاملاً، بل الذي يظهر لي أنّ للصُلح - بناءً على هذه النظرة - قابلية تعديل ترتيب الحقوق والالتزامات، التي أُبرمت في ظروف واقعيّة أو قانونيّة لم يتحقّق منها تراضٍ فعليّ، وإن كان هناك اختيار قولي - على ما عند الحنفيّة من تفريقٍ بين مصطلح الرضا ومصطلح الاختيار -، كذلك لا يُصار إلى القول: (إنّ الأصل في جملة على أقرب العقود وأشبهها)، كما يقول الميرغيناني (1) .

المطلب الثالث: صحّة عقد الصُلح مع إنكار المدّعى عليه

اتّفق الفقهاء على جواز الصُلح إذا كان المدّعى عليه مُقرّاً بالحقّ (2) ، واختلفوا في صحّته إذا كان ساكتاً أو منكراً على أقوال:

1 - ذهب الإمام الشافعي إلى عدم جوازه إذا كان المدّعى عليه ساكتاً أو منكراً، ووافقه على ذلك ابن أبي ليلى.

2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جوازه إذا كان المدّعى عليه ساكتاً.

3 - أمّا مع إنكار المدّعى عليه - محلّ الدعوى الصُلحيّة - فإنّ الفقهاء فيها على قولين: ذهب الإماميّـة والحنفيّـة (3) إلى جواز عقد الصلح مع الإنكار، بينما ذهب غيرهم إلى عدم جوازه.

أدلّة المُجيزين

استدلّ المجيزون بعدّة أدلّة منها: أ - عموم النصوص الواردة في الصلح تجعله صالحاً للانعقاد مع إنكار المدّعى عليه؛ لأنّ أدلّة الصلح عامّة لم تخصّص بدليل.

____________________

(1) الميرغيناني، الهداية: 3/192.

(2) السرخسي، المبسوط: 20/139، الكاساني، بدائع الصنائع: 6/40، ابن رشد، بداية المجتهد: 2/290، الدردير، الشرح الكبير: 3/3 - 9، الحلّي، المختلف: 2/18، الشهيد الأوّل، اللمعة: 4/177.

(3) ظ: الشربيني، مغني المحتاج: 2/180، المهذّب: 1/333، ابن قدامة، المغني: 4/482، العاملي، مفتاح الكرامة، ص 458، النجفي، جواهر الكلام: 26/212، المحقّق الحلّي، الشرائع: 2/123، الزحيلي، الفقه الإسلامي: 1/192.

١٩٧

ب - قول الخليفة عمَر: (رُدّوا الخصوم حتى يصطلحوا)، فهو إضافة إلى اعتباره بحُكم المرفوع، فهو مُشعِر بالإجماع؛ لأنّ القول كان بمحضرٍ من الصحابة، فلم ينكر عليه أحد مطالباً إيّاه بالمخصّص.

جـ - واستدلّوا بدليل عقليّ مؤدّاه أنّ الصلح شُرّع للحاجة إلى قطع خصومة؛ حيث إنّ الإنكار فيها أمر أغلبي، ومنْع الصلح في تلك الحالات تضييق لأغلب ما شُرّع له.

إضافة إلى أنّ الإقرار مسالمة على الصُلح، فوق ما له من قنوات قضائيّة وعُرفيّة لا تنحصر بالصلح، فيبقى الصلح في أصل مقاصده مُشرَّعاً لحالات الإنكار.

لذلك مالَ أبو حنيفة، حيث قال: (أجوَز ما يكون الصلح على الإنكار).

أدلّة المانعين

استدلّ المانعون على بطلان الصلح على الإنكار بعدّة أدلّة، منها:

إنّ الصلح على الإنكار يدخل في مستثنى الحديث: (إلاّ صلحاً أحلّ حراماً)، والمُنكر لا يجب عليه شيء، فالصُلح كأنّه استحلال ما ليس له، وهو حرام، فإن كان المدّعي صادقاً؛ فإنكار المدّعى عليه يجعل الصلح معاوضة على ما لم يثبت له من حقّ، زيادةً على أنّه خَلا من العوَض في جانبه الآخر، وإذا كان كاذباً، فقد أكل مال أخيه بالباطل، ففي كلا الحالَين صار الصلح وسيلةً لأكل أموال الناس بالباطل المنهيّ عنه، وبه يدخل في موضوع الاستثناء؛ إذ على فرض أنّ المدّعى عليه قد بذَل المال وهو منكر لغرض قطع الخصومة، فكأنّه أعطى مالَه رشوة، وهي حرام.

مناقشة الأدلّة

لقد نوقشت أدلّة (المُجيزين) بعدّة مناقشات، أهمّها:

1 - إنّ الاستدلال بالعموم مع وجود المخصّص لا يمكن اعتباره والركون إليه؛ إذ إنّ العمومات مخصّصة، والحديث فيه استثناء، والاستثناء هو

١٩٨

المخصّص، وإذا ثبت نصّاً، لا يُعارَض بالاجتهاد. يقول ابن حزم: (لقد احتجّوا بعموم ( وَالصُلْحُ خَيْرٌ ) [النساء: 128]، والعمل بالآية ليست على عمومها؛ إذ الله تعالى لم يُرِدْ قطّ كلّ صُلح) (1) ، فمتى استطاع المُجيزون إخراج الصلح مع إنكار المدّعى عليه من مصاديق الاستثناء صرنا إلى الجواز، ومن جهة المجيز الشرعي لم يرِد في القرآن أو السنّة تصحيح الصلح على الإنكار ولا إسقاط اليمين؛ إذ إنّ ذلك ليس مشترَطاً في كتاب الله وسنّة نبيّه (2) .

2 - إنّ قول الخليفة عمَر لا يحتمِل أكثر من الحثّ على الصلح قبل التقاضي، وعجْز الرواية دليل على بطلان الصلح على الإنكار، فعجْز الرواية يقول: (إنّ فصل القضاء يورث الضغائن)، وأخذ مال الغير بالصلح مع إنكاره يورث الضغينة أيضاً؛ إذ لا رضا ولا تراضٍ في صُلحٍ مع الإنكار، إذن فقَدَ الصلح مقاصده، فكأنّ الصلح مع الإنكار هنا صار خلاف مقصد تشريعه.

هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أُخرى لا يُحمَل قول الخليفة عمر مع إغماض العين عمّا تقدّم فقدانه لقوّةٍ قانونية مُلزمة بحدّ ذاته؛ لأنّه لا يعدو أكثر من قولِ مجتهد ندَب الناس إلى الصُلح، واعتبار الرواية عنه كاشفة عن إجماع الصحابة أمرٌ فيه تأمّل. وإنْ عَدّها الكاساني إجماعاً وحجّةً قاطعة، لكن الجمهور يرى أنّه تحميل للأمر أكثر ممّا يحتمل؛ لأنّ أقل ما يقال فيه: إنّ هذا المسمّى إجماعاً يندرج في السكوتي منه، وهو مختلَف في حجيّته، والباحث مع رجحان مَن يراه غير حجّة البتّة (3) .

زيادةً على أنّ القول المذكور لم يصرّح بجواز الصُلح مع الإنكار.

3 - أمّا ما استدلّوا به من موافقة جواز الصلح مع الإنكار لمقاصد الشريعة، فهو معارَض بمقاصدها أيضاً؛ إذ إنّ فتح الباب في مشروعيّة الصلح مع الإنكار ذريعة يسلكها أصحاب النفوس الضعيفة؛ لكي يُفادى الناس الخصومات واليمين بالمال تحت عنوان الصلح، وعند ذلك يتعارض الدليل مع نفسه أو بمثله، فضلاً عمّا عارضه ما هو أقوى؛ إذ إنّ المقاصد

____________________

(1) ابن حزم، المحلّى: 8/162.

(2) المصدر نفسه.

(3) السمرقندي، ميزان الأُصول، ج2.

١٩٩

دليلٌ لُبّي، والدليل اللفظي مقدّم عليه مطلقاً، وهو مُستثنى الحديث النبوي، فيسقط اعتبار الحجيّة فيه.

وكما نوقشت أدلّة المُجيزين، تعرّضت أدلّة المانعين إلى النقض بعدّة مداخلات، أهمّها:

إنّه ليس مسلّماً دخول الصلح مع إنكار المدّعى عليه في مستثنى الحديث النبوي؛ لأنّ الممنوع في الحديث أن يُجيز الصلح شيئاً محرَّماً مع بقائه على تحريمه، كما لو اصطلحا على خمرٍ أو خنزير، وحيث إنّ للمدّعي أن يأخذ حقّه مع إقرار المدّعى عليه أو إنكاره قضاءً أو صلحاً، فإنّ الصلح مقدّمة للتخفيف عن القضاء، فإن لم يحصل عليه صلحاً لجأ إلى القضاء، وعند ذلك فالمدّعى عليه يدفع ادّعاء المدّعي إمّا بالبينّة على بطلان الدعوى أو باليمين؛ لأنّه على المنكر. فإذا أراد أن يصون نفسه من الخصومة واليمين فله ذلك، والشرع لا يمنع منه وقايةً لنفسه ولدفع الضرر عنه، فإنّه يسوغ له، لهذه الغاية بذَل المال مفاداةً ليمينه؛ ولهذا ليس مسلّماً أن يدخل الصلح مع الإنكار في مستثنى الحديث.

وبذْله للمال هنا يجعله على عوض، وليس على غير معاوضةٍ، وهو أنّ للمدّعي حقّ تحليف المُدّعى عليه المنكِر، فله أن يتفاداه بالمال، فكأنّ المال هنا صار عوضاً عن حقٍّ ترتّب في الذمّة ولم يُؤدَّ، فاعتباره رشوة مسألة غير مسلّم بها، وكذا كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل؛ إذ المفترض أنّ الدعوى صادرة من ذي حقّ، وادّعاء كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل يصحّ إذا قطعنا بأنّ المدّعي كاذب في دعواه، وحيث إنّ القطع منتفٍ، فالنتيجة تلك فاسدة لفساد مقدِّماتها.

يقول ابن قدامة: (فإمّا أن يكون المدّعي كاذباً فالصلح باطل في الباطن؛ لأنّه أكلُ مالٍ بالباطل، وليس عوضاً عن حقّ، فيكون حراماً) (1) .

ويرى ابن قدامة المقدسي أيضاً: (أرأيت أنّ الفقهاء يُبيحون لمَن له حقّ يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقدَره، فإذا حلّ له ذلك من غير اختباره

____________________

(1) ابن قدامة، المغني 4/477.

٢٠٠