دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 81429
تحميل: 9549

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81429 / تحميل: 9549
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

الكفاية، أو إنّه إحلال حدّ كفاية جديد محلّ القديم يتّصف بتوزيع الكمّ والكيف في عدد السِلع والخدمات الداخلة في حدّ الكفاية ونوعيّتها.

  أمّا التحسينيّ، فهو الاستمرار في إدخال سِلع وخدمات لم تكن قد دخلت الكفاية في مرحلة سابقة، شريطة ألاّ تبلغ مستوى الترف البذخي والإسراف؛ لأنّ في ذلك خروجاً على أحكام الشريعة الإسلاميّة وتأطيرها لنمط الاستهلاك.

وبقدر علاقة وليّ الأمر - الدولة أو الإمام - بحدّ الكفاية وضرورة توفيره، فإنّ وليّ الأمر مُلزَم بالضروريّات، إمّا عن طريق الإعالة الثابتة لمواطن الدولة الإسلاميّة، أو عن طريق إيجاد فُرص العمل له.

أمّا الحاجي والتحسيني، فهما متروكان لإبداعات الأفراد خلال ممارستهم لمهمّة الاستخلاف، وبخاصّة في قطاع استخلاف الأفراد.

وتظلّ سِلع الترف والبذخ موضوعاً تكافحه السياسة الاقتصاديّة للدولة الإسلاميّة، من حيث إنّها غريبة عن سلوك الفرد المسلم في عباداته ومعاملاته.

إنّ دَور الحاجة وتحرّكها، من الضروري إلى التحسيني عِبر الحاجي، مردّه إلى المفهوم الحركي للحاجة في الاقتصاد الإسلامي، فتطوّر الاقتصاد وزيادة المداخيل والإيفاء بواجبات المهمّة الاستخلافيّة في عمارة الأرض، وتطوير معطياتها النباتيّة والحيوانيّة والمعدنيّة، أُمور تدفع بالحاجات الاقتصاديّة الإسلاميّة إلى التوسّع، أُفقيّاً وعموديّاً، بشكل مستمرّ يستجيب للإرادة الإلهيّة في أنّ نِعَم الله لا تُحصى.

د - دَور الحاجة في نمط الاستهلاك الإسلامي

الحاجة في الفكر الاقتصادي الإسلامي، من زاوية التحديد أو الإطلاق، نجدها محدودة بضوابط فنّية وشرعيّة، والمحدّدات الفنّية هي نفسها السارية في الاقتصادات الوضعيّة؛ لأنّ المسألة تتعلّق بحياة الإنسان في مُجتمع إنساني في مرحلة حضاريّة واحدة من التطوّر الاقتصادي، ولأنّ تلك سُنن الله في الكون.

٦١

أمّا المحدّدات الشرعيّة (1) ، فهي أُسلوب المذهبيّة الاقتصاديّة الإسلاميّة في إقرار حاجات اقتصاديّة، وحظْر أُخـرى، والحياد قبالة ثالثة، ومِن الجمع بين المحدّدات يتكامل الموقف من محدوديّة الحاجة، أي أنّه بزوال المحدّدات الفنّية، أي في حالة اكتمال عمليّات التنمية، وتصعيد وتائر الدخل الفردي الحقيقي، نكون أمام حاجات مُتّسعة ومتنوّعة، وحاجات جديدة تبدأ بالظهور والتكوّن.

إنّ المحدّدات الشرعيّة الكمّية والنوعيّة للحاجات والسِلع تعمل على تنظيم الحاجة وتأطيرها نوعيّاً، ولكنّها لا توقف تطوّرها في حجم ثابت.

إنّ القيَم العقائديّة والفكريّة حين تُلغي الخمر والميسر - مثلاً - بوصفهما من السلع غير المشروعة، تكون لديها حاجات روحية وثقافيّة بنّاءة لا يراها الفكر الاقتصادي الوضعي، إضافةً إلى مفهوم العقائديّة الإسلاميّة الخاص في السِلع غير المحدودة التي تلبّي حاجات مادّية مشروعة.

فالتحديد الشرعي ليس تحديداً مادّياً معوّقاً في اتّساع سلّة السلع الاستهلاكيّة، وإنّما هو تنظيم للحاجة؛ استناداً إلى علّة يجعلها المُشرّع الإسلامي المعيار في الفصل والتمييز بين الحاجات المشروعة والحاجات المحظورة.

إنّ دَور الحاجة في نمط الاستهلاك الإسلامي مؤطّر - كما نعتقد - بالمطالب الأربعة التالية:

1 - كونها الحاجة الأساس التي يبني عليها الهيكل الإنتاجي للسِلع والخدمات وأولويّاته (السلع النمطيّة القياسيّة)، والسِلع القابلة للتنويع، أي البدائل ذات الطلب المُشترك.

2 - ومِن خلال الجمع بين مفهوم الحاجة الإسلاميّة والهيكل الإنتاجيّ لها يُصار إلى فهْم هدف المُستهلك المُسلم وسلوكيّته، أي يُصار إلى بناء نظريّة سلوك المُستهلك الإسلامي في ضوء الجهاز المفاهيمي الإسلامي وضمنه؛ لأنّ المسألة - أصلاً - مسألة عقائديّة نابعة من أحكام الشريعة الإسلاميّة وتأطيرها للحاجة.

____________________

(1) كاظم (عبد الأمير)، (م. س)، ص: 326.

٦٢

3 - إنّ المحدّدات الفنّية والشرعيّة للحاجة الإسلاميّة تشكّل أحد الأُسس في تدخّل الدولة الإسلاميّة في الحياة الاقتصاديّة وتخطيطها؛ لذلك فإنّ الأمر النسبيّ في محدوديّة الحاجة يرتبط في السياسة الاقتصادية للدولة الإسلاميّة بمتغيّرات نسبية هي:

أ - انعدام ظاهرة تعطيل الطاقات الإنتاجيّة؛ لأنّ مهمّة عمارة الأرض، من حيث إنّها موضوع الاستخلاف، هي مهمّة عباديّة تجعل العمل تكليفاً إلهياً لا بدّ من الإتيان به دائماً وأبداً، وأنّ التأثير المُتبادل بين الإنسان والبيئة والنشاط الاقتصادي مهمّة مستمرّة دائمية بديمومة الإنسانيّة والنسل البشريّ، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ب - تغيّر مستويات الدخل صعوداً أو هبوطاً، الأمر الذي يجعل حدّ الكفاية مقداراً متحرّكاً مَرِناً، يجرّ وراءه اتّساع سلّة السِلع والخدمات الداخلة فيها أو ضمورها.

جـ - قدرة الفكر الإسلامي على تحليل المستجدّات، واستنباط الأحكام المتلائمة مع تطوّر الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في إطار الثوابت (القرآن الكريم، والسنّة الشريفة)، وفي ضوء آراء الفقهاء وأئمّة المسلمين ومذاهبهم في مجال نمط الاستهلاك الإسلامي.

4 - تلعب الحاجة الإسلاميّة دور حلقة الربط بين الجعل الشرعي بإنماء الطاقات البشريّة، وبين التخطيط للحياة الاقتصاديّة في عمارة الأرض؛ فكون الحاجة الاقتصاديّة الإسلاميّة غير محدودة يمكن الاستدلال عليه من المُنطلقات الأساسيّة التالية:

أ - إنّ الهدف المركزيّ للنشاط الإنساني هو عمارة الأرض، من حيث إنّها سلسلة من عمليّات مستمرّة في علاقات تأثير مُتبادل بين الإنسان والحيوان والمعدن.

ب - إنّ عمارة الأرض تستهلك في الممارسة طاقات وموارد اقتصاديّة مادّية وبشريّة؛ فالواجب تجديدها وإنماؤها، وإيجاد البدائل والمصادر البديلة بشكل دائم ومُستمرّ.

٦٣

المصادر

أ - القرآن الكريم.

ب - كُتب التفسير:

1 - الطبرسي (الفضل بن الحسن)، مجمع البيان في تفسير القرآن، شركة المعارف، ب. م.

2 - البيضاوي (عبد الله بن عمر)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمد - مصر.

3 - الطوسي (محمّد بن الحسن)، التبيان، تحقيق أحمد القصير، مطبعة النعمان - النجف.

4 - القرطبي (أحمد بن محمّد)، الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث - بيروت، 1966م.

5 - ابن أنس (مالك)، الموطّأ، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب، 1951م.

6 - ابن حنبل (أحمد)، المسند، تحقيق أحمد محمّد شاكر، دار المعارف - مصر، 1955م.

7 - السيوطي (جلال الدين عبد الرحمان)، الجامع الصغير لأحاديث البشير النذير، مطبعة مصطفى البابي الحلبـي، ط4، 1954م.

جـ - كتب الفقه:

كُتب الإماميّة:

8 - الطوسي (محمّد بن الحسن)، المبسوط، طبعة محمّد باقر (حجريّة) ن 1271م.

9 - الحلّي (نجم الدين جعفر بن الحسين)، شرائع الإسلام، تحقيق عبد الحسين محمّد علي، مطبعة الآداب - النجف، ط1، 1969م.

٦٤

10 - الأنصاري (مرتضى)، المكاسب، تحقيق محمّد كلانتر، مطبعة الآداب - النجف، 1392هـ.

الحنفية:

11 - الأنصاري (يعقوب بن إبراهيم، أبو يوسف)، الخراج، المطبعة السلفية، ط2، 1356هـ.

12 - الداماد (عبد الله بن محمّد بن سليمان)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، دار الطباعة العامرة، 1316هـ.

13 - الكاساني (علاء الدين)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، مطبعة الجمالة - مصر.

14 - الرملي (محيي الدين بن خير الدين)، الفتاوى الخيريّة لنفع البريّة على مذهب أبي حنيفة، المطبعة العثمانيّـة، 1312هـ.

الحنابلة:

15 - الفرّاء (أبو يعلى، محمّد بن الحسين)، الأحكام السلطانيّة، تعليق محمد حامد الفقهي، مطبعة البابي الحلبي - القاهرة، ط1، 1356هـ.

الشافعية:

16 - الشافعي (محمّد بن إدريس)، الأُمّ، تحقيق محمّد زهدي النجّار، دار المعرفة - بيروت، 1973م.

17 - الغزالي (محمّد بن محمّد)، الوجيز في فقه الشافعي، مطبعة موشي قدم - الغورية.

المالكيّة:

18 - الصاوي (أحمد بن محمّد)، بُلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب مالك، مطبعة الحلبي.

الظاهريّة:

19 - ابن حزم (عليّ بن أحمد بن سعيد)، الحلّي، تحقيق أحمد شاكر، المطبعة الميريّة - مصر.

٦٥

د - كتب الاقتصاد الإسلامي:

20 - صقر (محمّد أحمد)، الاقتصادي الإسلامي مفاهيم ومرتكزات، دار النهضة، ط1، 1978م.

21 - الحِسب (فاضل عبّاس)، الماوردي في نظريّة الإدارة الإسلاميّة، المُنظمة العربيّة للعلوم الإدارية - عمان، مطبعة الدستور، 1984م.

22 - الكبيسي (أحمد عوّاد)، الحاجات الاقتصاديّة في المذهب الاقتصادي الإسلامي، مطبعة العاني - بغداد، 1987م.

23 - سيّد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار إحياء الكُتب العربيّة - مصر، ط6، 1965م.

24 - عودة (عبد القادر)، المال والحكم في الإسلام، دار النذير - بغداد، ط2، 1964م.

25 - العربي (محمّد عبد الله)، استثمار المال في الإسلام، بحث منشور في المؤتمر الأوّل - الأزهر، 1964م (اُنظر: وقائع المؤتمر).

26 - عابد (عبد العزيز)، مفهوم الحاجات وأثره على الإنماء الاقتصادي، بحث منشور في مجموعة المؤتمر الأوّل لأبحاث الاقتصاد الإسلاميّ - جدّة، (اُنظر: أبحاث المؤتمر) طبعة دار العلم، 1985م.

27 - الزرقاء (محمّد أنس)، إعادة اكتشاف دالة إسلاميّة للمصلحة الاجتماعيّة، بحث في مجلّة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، العدد الأوّل، م3، 1985م.

هـ - كتب الاقتصاد الحديث:

28 - زكي (رمزي)، المشكلة السكّانيّة وخرافة المالثوسية، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1984 م.

29 - نامق (صلاح الدين)، اقتصاديّات السكّان، دار المعارف - مصر، 1970م.

30 - المحجوب (رفعت)، الاقتصادي السياسي، دار النهضة - مصر، 1973م.

و - الرسائل الجامعية:

31 - زاهد (عبد الأمير كاظم صالح)، التنمية في الاقتصاد الإسلامي، رسالة ماجستير مقدّمة إلى مجلس كلّية الشريعة - بغداد، 1987م، (رونيو).

٦٦

٦٧

البحث الثالث

ملامح نظريّة الإنتاج الإسلاميّة

في مبحث إحياء الأراضي المَوات

٦٨

٦٩

أهمّية البحث وأسباب اختياره وأهدافه

تحتلّ الدراسات التي تعدّ الشريعة الإسلامية نظاماً كاملاً يستوعب حاجة الإنسان الماديّة والروحيّة مكاناً هامّاً في الاهتمام الأكاديمي، وبخاصّة إذا تولّت عمليّة التنظير في هذه الدّراسات بناء نظريّة إنتاج إسلاميّة تستند إلى أُصول الأحكام الشرعيّة.

وبناء نظريّة الإنتاج الإسلاميّة هذه تشكّل في الجانب الآخر ردّاً على جهود دراسيّة غربيّة أو عربيّة تحاول، عامدة أو منساقة، تصوير الأُطر الاجتماعيّة والاقتصاديّة المنبثقة من الشريعة الإسلاميّة، كأنّها تعتني بالتوزيع لا على أساس أنّ للإسلام نظريّة توزيعيّة؛ لأنّه سينتج عن ذلك أنّ له تصوّراً شموليّاً في مجال إدارة اقتصاديّات المجتمع الإسلامي، أو أيّ مجتمع إنسانيّ، وإنّما على أساس أنّه ذو محتوى أخلاقي (1) يعتمد دالّة الإحسان في تغطية حاجة ذوي الدخل المحدود، أو ممّن يُطلق عليهم شرائح ما دون الكفاية.

لأجل ذلك تتّجه الدراسات الموضوعيّة الواعية والمخلصة إلى طرح هذا المنظور، واستبداله بتوجّه يرمي إلى اكتشاف مفاصل نظريّة اقتصاديّة كاملة، تقوم على أساس معايير الكتاب والسنّة وبقيّة مصادر الحُكم الشرعي فقط.

والإنتاج هو أوّل هذه المفاصل، والوصول إلى تحديد سماته يحتاج إلى استقراء مباحث فقهيّة، وعقائدية، وتحليلها تحليلاً يتّخذ من الفحص عن الأثر الاقتصادي لتلك الأحكام فرضيّته المركزيّة.

ويُشكّل إحياء الأراضي المَوات واحداً من الموضوعات التي تدور حول محور الإنتاج وعناصره، كما أنّه يبرز أنّ الإسلام ينفرد عن النُظم الاقتصاديّة المعاصرة في أنّه يهتمّ بتوزيع عناصر الإنتاج قبل الإنتاج نفسه، ويرتّب عليه توزيع النواتج الماديّة لعمليّة الإنتاج الفعلي، وهذا ما نتبيّنه في أقوال الفقهاء المُتعلّقة باكتساب حقّ الملكيّة في الأرض المُحياة أو اكتساب حقّ الاختصاص.

____________________

(1) اُنظر في هذا الاتّجاه:

أ - رودنسون (مكسيم)، الإسلام والرأسماليّة.

ب - أوستري (جاك)، الإسلام والتطوّر الاقتصادي.

جـ - سعد (أحمد صادق)، النمط الآسيويّ للإنتاج.

د - أبحاث مجلّة دراسات عربيّة حول كتاب الخراج، العدد: 1، 2، السنة: 19، ص: 4 - 89.

٧٠

إنّ صورة الإحياء مبسّطة في مفهوم اقتصادي مبسّط أيضاً، وهو تحريض التشريع وتشجيعه للمُستخلَف - الإنسان المُسلم - لكي يضيف وحدات العمل إلى عنصر الطبيعة؛ ليلبّي حاجة نفسيّة هي التملّك، وحاجة مادّية هي تحقيق الربـح، وحاجة اجتماعيّة هي توسيع نواتج الدخل القومي وتعميقها بموازاة زيادة معدّلات السُكّان.

إنّ هذه الدراسة ومثيلاتها ربّما توصلنا إلى تحديد لمَسات مُشتركة، لتشكيل نظريّة إنتاجيّة في الإسلام تقوى على محاورة نظريّات الإنتاج في المدارس الاقتصاديّة العالميّة؛ لذا فإنّ أسباب اختياري للموضوع تتمثّل في ما يأتي:

1 - تناول أبرز جزء فقهيّ وتحليل مقتضياته؛ لكي يلامس مقولة الإنتاج في الفكر الاقتصادي العالمي.. مستنداً إلى الكتاب والسنّة.

2 - تخليص ما يُدّعى من إسقاطات معاصرة من النظريّات الاقتصاديّة الوضعيّة على التوزيع الإسلامي لعناصر الإنتاج أو نواتج الدخل.

3 - يتناسب تحليل المغزى الاقتصادي مع عصر البحث الذي يُسمّى عصر السباق بين النموّ الاقتصادي وزيادة السكّان، ويبيّن أُسلوب الإسلام في رسم معادلاته لحلّ هذه المعضلة، بما يسهم في معالجة قضيّة (أو أزمة) التنمية في العالم الثالث.

4 - يسهم البحث في تقديم ورقة ذات علاقة بمشكلة الأمن الغذائي في العالم الثالث، أو في دول العجز منها.

ومن أسباب الاختيار نستطيع اشتقاق أهداف البحث، وهي: تحليل آليّة آراء الفقهاء في إحياء الأراضي الموات للوصول إلى تشكيل محاور نظريّة الإنتاج الإسلاميّة.

حدود البحث ومنهجه

تسهم مجموعة من الموضوعات في الوصول إلى هذا الهدف، ومنها: مباحث البيع، ومباحـث فلسفـة الاستخـلاف (1) ، ومباحث النجاسات وبيع

____________________

(1) الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصادي العربي الإسلامي، ص: 25، السبهاني (عبد الجبّار)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام (رسالة ماجستير)، ص: 115.

٧١

المِيتَة والانتفاع بها، ومباحث الزكاة، ومباحث الصيد والذبائح، وباب البيوع والسَلَم والقِراض - المُضاربة - ومباحث الحَجْر والمُساقاة والمزارعة، وإحياء الأرضي الموات. إلاّ أنّني فضّلت الموضوع الأخير؛ لأنّه أكثر الموضوعات استيعاباً لتحقيق الهدف، ولأنّ للبحث وقتاً ومطلوباً لا يتّسعان للمرور على هذه الموضوعات جميعاً.

فحدود البحث: معرفة آراء الفقهاء في إحياء الأراضي الموات وأدلّتهم، وتحليلها مع أدلّتها وبيان مقتضياتها الاقتصاديّة؛ لاستنتاج محاور النظريّة الإنتاجيّة في الإسلام.

ومن حدود البحث يتحدّد المنهج الذي سيُتّبع للوصول إلى حلّ مشكلة البحث، فسيُقسم إلى: ثلاثة مباحث، ومقدّمة، وخاتمة.

تتناول المقدّمة أهمّية البحث وأسباب اختياره وحدوده ومنهجه وإشارة إلى الدراسات السابقة.

  أمّا المبحث الأوّل فسيكون: نظرة الإسلام إلى الأرض وفلسفة الإحياء.

بينما سيكون المبحث الثاني: سمات الأرض الموات وشروط صحّة الإحياء.

  وسيكون المبحث الثالث: مفهوم الإحياء والنتائج المترتّبة عليه.

ثمّ سيصار في الخاتمة إلى تحديد النتائج المركزيّة التي ستُجمع مِن أواخر المباحث.

٧٢

المبحث الأوّل

أوّلاً: نظرة الإسلام إلى الأرض الموات

قال تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود: 61].

وقال: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ.... ) [الأنعام: 165].

وقال جلّ شأنه: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مَا فِي السّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان: 20].

ترتكز نظرة الإسلام إلى الأرض على مجموعة من الحقائق، أهمّها:

إنّ الأرض كلّها لله يورثها عباده الصالحين، وإنّها، وإن خضعت لمدّةٍ ما لسيطرة غير المسلم..، فعلى كيفيّة عودتها تترتّب تكييفات الحكم الشرعي لملكيّتها.

فما أُخذ بقتال، فإنّ العامر منه - الأرض المُنتجة - يكون لمجموع المسلمين، لمَن حضر منهم ولمَن لَحِق بهم، بأن يثبت عليه حقّ اسمه الخراج، وهو (الريع المُطلق)، والريع التفاضلي في ما كان أكثر إنتاجاً، مدفوعاً لصالح المجتمـع. أمّا الموات منها ومِن الأرض الصلحيّة، والتي أسلم عليها أهلها، فإنّها عند الفقهاء بين مذهبين:

المذهب الأوّل: إنّها مشتركات عامّة قابلة للإحياء؛ للخروج من مجال الإباحة العامّة إلى مِلك الفرد المُحترم.

المذهب الثاني: إنّها مِلك المنصب الإلهيّ (للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخُلفائه وأُولي الأمر إلى يـوم القيامـة)، ملكيّة جهة (إدارة) يُملّكونها لمَن يُحييها بالشروط التي اشترطها الفقهاء للإحياء.

٧٣

إلى المذهب الأوّل: ذهب المالكيّة (1) ، والشافعيّة (2) ، والظاهريّة (3) ، والحنابلة في قولٍ لهم (4) .

وإلى المذهب الثاني: ذهب الإماميّة في أرجح أقوالهم (5) ، والحنفيّة (6) إلاّ أبا يوسف (7) ، والزيديّة في قولٍ من أقوالهم (8) .

أدلّة المذهب الأوّل

1 - استدلّ أصحاب المذهب الأوّل بأنّ هذه الأرض هي في الأصل مِلك مُباح؛ بناءً على أصل (ما لم يثقل بالاختصاصات العامّة كالمساجد، أو الخاصّة كالملك المحترم باقٍ على أصل الإباحة).

2 - وإنّ عموم الآيات القرآنيّة دالّة على ذلك.. لقوله تعالى: ( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) [الجاثية: 13]، ( أَنّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ ) [الأنبياء: 105]، وفيها دلالة على الشركة في ما لم يرد عليه حقّ مِلك أو اختصاص أو مَرفَق عامّ.

3 - واستدلّوا بقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (*) : (مَن أحيا أرضاً مَيتة فهي له، وليس لعرق ظالم حقّ) (9) ، رواه أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، وصحّحه السيوطي في الجامع الصغير. فالحديث يخلو من إحالة الأرض للمنصب وإبقائها على الشركة العامّة.

4 - واستدلّوا بحديثه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي يقول فيه: (مَن أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة) (10) . صحّحه السيوطي.

5 - واستدلّوا بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من سَبق إلى مَن لم يَسبق إليه مُسلم فهو له) (11) .

____________________

(*) قال الهراسي محقّق الأموال: أعلّ الترمذي الحديث بالإرسال؛ لأنّه أُرسل مِن طريق هاشم بن عروة عن أبيـه، ورجّح الدارقطني إرساله، واختلف فيه على هشام بن عروة اختلافاً كثيراً...

اُنظر: أبو عبيد، الأموال، ص: 302.                  (1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/66.

(2) الماوردي، الأحكام السلطانيّة، الشافعي، الأُم: 4/41.

(3) ابن حزم، المُحلّى: 8/233.                       (4) ابن قُدامة، المغني: 5/ 543.

(5) العاملي، مفتاح الكرامة.                            (6) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/192.

(7) أبو يوسف، الخراج، ص: 64.                     (8) المرتضى، البحر الزخّار: 4/86.

(9) السيوطي، الجامع الصغير: 2/161، واُنظر: أبو داود: 2/50.

(10) المصدر نفسه: 2/161، والترمذي رقمه 1392.

(11) المصدر نفسه: 2/173، وأخرجه الموطأ من مرسل عروة: 4/1495.

٧٤

6 - وما روي عن عائشة (رضي الله عنها) أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (مَن أحيا أرضاً ليست لأحد فهو أحقّ بها) (1) .

تترتّب على هذا الرأي دلالة مفادها أنّ الأرض المَوات - كما هي دلالة الأدلّة - مالٌ مُباح يُملَك بالاستيلاء عليه، غير أنّ هذا الاستيلاء لا يكون بوضع اليد فقط، بل بإحياء الأرض، فالأحاديث علّقت التملّك على الإحياء الذي جاء في متن الأحاديث مُطلقاً غير مُقيّد بصفة مُعيّنة، وما لم يُحدّده الشرع لا يُقيّد إلاّ بدليل مُعتبر، ويذهب ابن قُدامة إلى أنّ متن الأحاديث عامّ، فلا يصحّ اشتراط إذن الإمام أو غيره عملاً بإحالة ملكيّتها إليه (2) .

أدلّة المذهب الثاني

1 - حيث ثبت أنّ الله تعالى مالك كلّ شيء، فإنّه - جلّ اسمه - يهب مُلكه لمَن يشاء، ويستخلف عليه مَن يشاء بوساطة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومَن يقوم مقامه.. لذا كانت الأرض الموات مملوكة للإمام أو وليّ الأمر ملكيّة جهة (إدارة)، ومتروكة لنظره يجعلها وِفق ما تحدّده الشريعة ومصلحة المسلمين؛ لأنّ حقّ الله في المِلك لرسوله ثُمّ لولي الأمر بعده؛ لخبر معاذ بن جبل (رضي الله عنه) أنّه روى عن النبيّ قوله: (ما كان لله من حقّ فإنّما هو لوليّـه)، مصداقاً لقوله تعالى: ( قُلْ هِيَ لِلّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) [الأعراف: 32]، ولقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (موتان الأرض لله ولرسوله، ثمّ هي لكم من بعدي) .

2 - استدلّ أبو حنيفة (رحمه الله) بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ( ليس للمرء إلاّ ما طابت به نفس إمامه) (3) (*) .

3 - استدلّ الإماميّة بالحديث المُسند عن أبي خالد الكابلي، عن الباقر (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام) قال: (وجدنا في كتاب عليّ (عليه السلام): (فمَن أحيا أرضاً

____________________

(*) قال الهيثمي في (مجمع الزوائد): فيه عمرو بن واقد، وهو متروك: 5/331.

(1) أبو عبيد، الأموال، ص: 298، علّق في الهامش أنّه رواه البخاري بلفظ (مَن عَمّر أرض).

(2) اُنظر: المُغني: 5/543، الماوردي، الأحكام السلطانيّة، ص: 171، أبو يوسف، (م. س)، ص: 64.

(3) أخرجه الطبراني، في المُعجم الكبير، الحديث رقم 3533.

٧٥

مِن المسلمين فليُعمرها، وليؤدّ خراجها إلى الإمام) (1) ، ودلالة الحديث أنّ الأرض الموات بالأصالة للإمام.

ونتيجة لذلك، فإنّ مَن قام بإحياء الأرض وعمارتها، فقد اكتسب فيها علاقة على مستوى الحقّ دون المِلك، وهذا لا يتعارض مع بقاء رقبة الأرض في مِلك الإمام.

4 - إنّ الإماميّة والزيديّة يرون أنّ الأرض المَوات من الأنفال، وحيث أنّ الله تعالى قد أضاف الأنفال إدارةً للرسـول، فما كان له من جهة المنصب كان لوليّه.

وتتجلّى الثمرة في الخلاف في مباحث كثيرة من كتاب الإحياء، فأصحاب الرأي الأوّل لا يرون شرط الإذن، ويرى أصحاب الرأي الثاني أنّ اكتساب الحقّ أو المِلك موقّوف على إذن الوليّ، وعلى المذهب الأوّل لا يجوز للإمام تقبيل الأرض لمَن يشاء طالما هي من المشتركات العامّة، فسلطته في تقبيلها مقيّدة، بينما هي مطلقة عند أصحاب المذهب الثاني، وأهمّ النتائج التي يفرزها الخلاف تتمثّل في موضع ضمان التلف في الأرض غير المحرزة ذلك:

(إنّ المال المتقوّم هو ما كان محرزاً فعلاً ومحلاًّ لانتفاع معتاد شرعاً حال السعة والاختيار، هذا النوع إذا تعدّى عليه آخر وأتلفه ضمنه. أمّا غير المتقوّم، فهو المال الذي لم يكن مملوكاً لأحد، كالسمك في الماء، والطير في الهواء، أو غير منتفع به شرعاً فلا ضمان على مُتلفه) (2) .

يقول الدكتور زيدان: (لا يعدّ مالاً السمك في الماء والمعدن في باطن الأرض؛ لعدم تقوّمه)؛ لفقدانه شرط الحيـازة. (وغير المتقوّم لا حماية له ولا حُرمة، وبالتالي لا يضمن مُتلفه أيّ شيء، فإذا أتلف الإنسان سمكة في الماء أو حيواناً غير مملوك في الفلاة، فلا ضمان على المتلف) (3) .

وهذه النتيجة، على رأي مَن يرى أنّ الأرض الموات ممتلكات مشتركة بين الناس، أو بين المسلمين، على خلاف بين الفقهاء، يقتضي أن يحكم بوصفها مالاً غير مُحرز، وبالتالي هو مضطرّ لإسقاط التصرّفات الجنائيّة إذا

____________________

(1) الحرّ العاملي، الوسائل، ج17، الباب 3: باب إحياء الموات، الحديث رقم 2.

(2) مدكور (محمّد سلام)، المدخل للفقه الإسلامي، ص: 476.

(3) زيدان (عبد الكريم)، المدخل لدراسة الشريعة الإسلاميّة، ص: 221.

٧٦

أتلفها الفرد - من جهة ضمان التلف - على الأقلّ، في حين نجد ذلك عند أصحاب المذهب الثاني الذي يرى ملكيّة الأرض الموات أصلاً لمنصب الإمامة جهة (إدارة)، فإنّه سيتحقّق الإحراز في حال منتفع به شرعاً، ولا ضرورة بعد ذلك لإسقاط التصرّف الجنائي في إتلاف الأرض.

إنّ هذه النتيجة من مقتضيات المذهب الثاني، وهي تحمي الأرض غير المستثمرة من إزالة الخصوبة، أو أيّة أفعال تؤدّي إلى تدمير وإهدار قيمة الإنتاجيّة قبل استغلالها.

وبهذا أجد أنّ أصحاب المذهب الثاني أَولى وأحقّ، وسيتبيّن ذلك في مباحث الإحياء الأُخرى.

النتيجةُ الاقتصاديّةُ المُستلّة مِن الرأي الثاني

بناءً على اعتبار أنّ الأصل في ملكيّة الأرض الموات للدولة، فإنّ ذلك يعطيها صلاحية استيعاب تطوّرات الأنشطة الاقتصاديّة في تخصيص الموارد والتوزيع الابتدائي لوسائل الإنتاج وفق أولويّات التنمية، وإيصال الخدمات للأراضي المستصلحة، كما أنّ هذا الرأي منسجم مع مَن يرى ضرورة التخطيط الاقتصادي في نمط الإدارة الإسلاميّة للنشاط، ويكوّن هذا الرأي مستنداً فقهيّاً لمعاقبة المحجِر فوق ثلاث سنين أو المعطّل للأرض، ومنسجم مع مَن يرى أنّ مِن مقاصد الشريعة التوزيع المتكافئ للفُرص الإنتاجيّة لتحقيق التوازن؛ ذلك لأنّ إطلاق يد المُحيي في اكتساب ملكيّة ما أحيا من الأرض مع تطوّر التقنيّات الزراعيّة حالياً، ربّما يؤدّي بنا إلى ظهور الإقطاعيّات الكبيرة بما يسبّب التفاوت في الثـروة (1) .

ولأجل ذلك تبنّت القوانين المعاصرة هذا الاتجاه (2) .

ثانياً: الأساس الفلسفي للإحياء

ترتكز المحاور الاقتصاديّة الإسلاميّة على نظريّة الاستخلاف وقوانينها المركزيّة، فحيث أنّ الملكيّة المُطلقـة لله تعالـى، وأنّ الله سخّر للإنسان ما في

____________________

(1) المياحي (عبد الأمير)، التنمية في الاقتصاد الإسلامي، ص: 120.

(2) مدكور (محمد سلام)، الإباحة عند الأُصوليّين، ص: 176، واُنظر: شرح المادة 784 مِن القانون المدني المصري.

٧٧

الكون جميعاً وهيّأه له، ثمّ أنابه واستخلفه عليه بعد أن زوّده بالقدرة، فقد أمره بإعمار الأرض، قال تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود: 61]، قال المفسّرون: أي أمركم بعمارتها (1) ، وذكر الجصّاص تفسيرها قائلاً:

( ( اسْتَعْمَرَكُمْ ): أي أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه دلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية) (2) .

وإلى مثل هذا ذهب المفسّرون في المراد من الآية، فهي في مرادها تكاد تكون محلّ اتّفاق بين المفسّرين، غير أنّ هذا الوجوب مجاله المُجتَمع من جهة تكليف أُولي الأمر بضرورة الإعمار، والأفراد على سبيل السعة والاختيار. فوق ما جعل حديث الإحياء في مفردةِ (فهي له)، أي الأرض، من دوافع وحوافز حقوقيّة مُنسجمة مع الفطرة البشريّة، فقد رتّب الله تحقّق ملكيّة الفرد للأرض على إحيائها مِن قِبله؛ لذلك فإنّ الباحث يرى أنّ الحكم بالإحياء ليس ممّا أسّسته السنّة بوصفها مشرّعة لبعض الأحكام كما يرى الآخرون...، إنّما هنا مؤكّدة للقرآن في أمر الله تعالى بإعمار الأرض.

كلّ الخلاف في المسألة أنّه عموم وخصوص من وجه، فقد أمر القرآن الإنسان المسلم بإعمار الأرض عامّة وإدامة إعمارها، بينما توجّه الحديث إلى إحياء المُعطّل من الأرض، وإدخاله في مجال العامر، فعن محمّد الباقر (عليه السـلام)، عن آبائه، عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: (مَن أحيا مواتاً فهو له)، وكشف إجماع المسلمين على جوازه واكتساب الحقّ بسببه إجماعاً مُحصّلاً ومنقولاً وكاشفاً عن رأي المعصوم؛ لذا نرى أنّ السنّة في موضوع الإحياء بيانيّة الوظيفة.

وخلاصة البحث في الأُسس الفلسفيّة:

إنّ إحياء الأرض عمل أمَرَ به الشارع، فهو على سبيل الوجوب العامّ حصراً لوليّ الأمر، وعلى الوجوب الخاصّ في حالات السعة والاختيار، وأنّ الله تعالى قد رغّب به وأثاب عليه، فربط النشاط الاقتصادي بالأجر الأُخرويّ، ثمّ رتّب على عمليّة نقل الأرض مِن مجال التعطيل إلى مجال التوظّف، حقوقاً مُكتسبة على الأرض للمُحيي. كلّ ذلك لأجل:

____________________

(1) الطبرسي، مجمع البيان: 1/74.

(2) الجصاص، أحكام القرآن: 3/165، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 9/56، الطبرسي، (م. س): 12/178.

٧٨

1 - خلق الفُرص الإنتاجيّة المتجدّدة قبالة مبدأ الإسلام في عدم الوقوف أمام زيادة السكّان، مِن خلال موقف المجتهدين من تحديد النسل.

2 - خلق مبدأ الإحياء؛ ليسهم في امتصاص فائض العمل (البطالة).

3 - زيادة القيَم المُنتجة سنويّاً.

4 - إحداث تغييرات إيجابيّة في جانب العَرض من خلال اكتشاف المُحيي للأرض لفرص جديدة وتشغيلها.

5 - إحداث تغييرات في جانب الطلب؛ لأنّ النواتج المتولّدة عنه تسهم في توزيع الدخول بما يصعد من وتائر الاستهلاك المُباح الذي سيشجّع الإنتاج على التواصل والتجدّد.

6 - توفير الاحتياجات الغذائيّة للعاملين داخل القطاع الزراعي أو خارجه.

7 - توفير الموادّ الأوّليّة للصناعات من خلال إحياء الموارد في الأرض.

8 - يظهر جليّاً أنّ مبدأ الإحياء يُقلّل من تحكّم مقولة الرَيع، الأمر الذي يؤدّي إلى تقليل تكاليف السِلع الزراعيّة، بما يقلّل من الأسعار، ويوجّه الموجودات النقديّة والعينيّة (رأس المال)، لا لشراء أرض جديدة أو استئجارها، إنّما لخلق أرض مُنتجة جديدة، أي أنّه يدفع التراكم المالي الموجود في الأنشطة التنمويّة الفعليّة (1) .

____________________

(1) اُنظر: عبد الله (إسماعيل صبري)، نحو نظام اقتصادي عالمي، ص: 211.

٧٩

المبحث الثاني

أوّلاً: سِمات الأرض المَوات

يُعرّف الفقهاء ماهّية الأرض الموات بأنّها: (ما لا يُنتفع به لعطلته؛ إمّا لانقطاع الماء عنه، أو لاستيلاء الماء عليـه، أو لاستيجامة، أو غيرها من موانع الانتفاع) (1) ، وعُرّفت بأنّها: (ما لا مالك لها ولا ينتفـع بهـا أحـد) (2) ، وأُضيف لها قيد الخارجة عن العمران.

وقسمّوها إلى موات أصلي وعارض، فالأصليّ: ما لا مالك له، وغير المنتفع به لعلّة.

  والعارض: ما أحياه شخص وترَكه حتى تأبّد أو اندرس، فأصبح خراباً لا يُنتفع به. والعارض إمّا أرضٌ ذات أثر جاهلي ولا يُعلم أنّ مسلماً ملَكها فهي مِن الموات، و إمّا أحياها مسلم ولكنّه غير معيّن، وفي هذه اختلفت الفقهاء.

فذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والإماميّة إلى أنّها تُعدّ من الموات الذي يصحّ إحياؤه، بينما عدّها الشافعي ومحمّد بن الحسن وسحنون مالاً ضائعاً مرجعه بيت المال. أمّا إذا كان محييها معيّناً وتركها حتى خربت، فإنّ الإماميّة - في مشهور قولهم - ومالكاً يعدّونها مواتاً، بينما يتوقّف في ذلك فقهاء آخرون (3) .

من خلال ما مرّ، نجد أنّ المحور الذي ركّز عليه الفقهاء في مصداقيّة الأرض التي تُعدّ مواتاً لتصير موضوعاً للقضاء النبوي، بأن يتملّكها محييها هو (العطلة: عدم الانتفاع)، الذي ربّما من لوازمه المنفكّة عدم وجود المالك أو إعراضه عنها، على أن يكون مانع الانتفاع ممّا يزول بالعمل البشري، والمحور الثاني (لم يكن عليها يد مالك، ولم تتحمّل حقوقاً خاصّة أو عامّة).

وعلى هذا، فالأراضي الموات قد تكون:

____________________

(1) النجفي (محمّد حسن)، جواهر الكلام: 38/8.

(2) اُنظر: زيدان (عبد الكريم)، (م. س)، ص: 255، موسوعة عبد الناصر للفقـه الإسلامـي: 4/125، الإمام الشافعي، الأمّ: 4/41.

(3) جميل (هاشم)، مسائل في الفقه المقارن: 2/73 و74.

٨٠