مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني22%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62580 / تحميل: 7637
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

تأليف

محمد مهدي شمس الدين

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

تقديم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذه مطارحات في الفكر الديني والفكر المادي كتبت القسم الثاني منها ونشرت معظمه منذ سنين في ملحق جريدة النهار البيروتية في حلقات أُسبوعية فيما بين ٢٢ شباط سنة ١٩٧٠ و ١٧ أيار سنة ١٩٧٠.

وكنت أُقدر ان الحاجة إلى هذه المطارحات قد انتهت بنشرها واذاعتها في الناس عن طريق الصحافة الاسبوعية، ولذا فلا داعي لاعادة نشرها في كتاب.

ولكن نفراً كبيراً كريماً من علماء الدين والمعنيين بقضايا الفكر الاسلامي او الفكر الديني بوجه عام، ومن الطلاب الجامعيين يرون أن الحاجة إلى هذه المطارحات لم تنته بنشرها في الصحافة، بل الحاجة اليها متجددة لأنها ملأت فراغاً كبيراً في هذا الحقل من حقول المواجهة الفكرية بين الدين والمادية، ولأنها أضاءت مساحات كبيرة وهامة، ربما كان غموضها

٣

باعثاً على الحيرة والشك عند المؤمن، وحافزاً على التجني وإطلاق الأحكام الخاطئة على الدين عند من في قلوبهم مرض.

وهم يرون أن هذه الحاجة المتجددة تقضي بنشر هذه المطارحات في كتاب يسهل تداوله والرجوع إليه.

وقد رغب إلى بعض من ذكرت أن أُوضح - في هذه المطارحات - أثر المادية في مأساة العالم الثالث من خلال معاناته الأليمة من الرأسمالية والماركسية. وقد استجبت لهذه الرغبة النبيلة فكتبت القسم الأول من هذه المطارحات عندما قررت نشرها في كتاب.

إن القسم الأول يكمل القسم الثاني. فحين يعرض القسم الثاني للمادية على مستوى الفكر والفلسفة يعرض القسم الأول للمادية على مستوى السياسة والعلاقات الدولية، وبذلك يقدم الوجه التجريبي للمادية في السياسة.

وإذ كنت أُعدّ هذا الكتاب للنشر كانت تدوي في أُذني أنباء العدوان الاسرائيلي على وطني لبنان في أقدس بقاعه، وهي جنوبه - جبل عامل - أرض العلم والتقوى، والانسانية العالية ونبل الأخلاق. وأرى بعيني آثار العدوان الوحشي في عشرات الالوف من النازحين من القرويين المدنيين العزل يتدفقون على بيروت وغيرها فأعيش مأساة العالم الثالث كله في لوحة حية ترسمها الصهيونية بالحديد والنار على لحمي ودمي، أعيش المأساة، لا كشاهد عليها، وإنما كضحية ووقود لها، وأرى كيف أن مادية عصرنا تنفذ فصلاً من جريمتها ضد الانسانية على يد آلة شيطانية من آلاتها الاجرامية المجرمة هي القوة الصهيونية التي تمثل ذراعاً من أذرع المادية التي تسوط بها العالم الثالث... آه ما أشد مرارة الحياة في هذه الأيام

٤

بعد سنوات ثلاث من المعاناة اليومية لآلام الناس في الفتنة اللبنانية البشعة التي هي مشهد آخر من مشاهد تلاعب المادية بمصائر العالم الثالث.

وعلى أي حال فليس أمامنا الآن سوى أن ننتظر ما يقوم به المجتمع الدولي من خلال مجلس الأمن ومنظمة الامم المتحدة تجاه العدوان الاسلاائيلي علينا، وبانتظار ذلك أشعر ان علينا العمل لاعادة النازحين إلى قراهم لئلا تجد الصهيونية أمامها أرضاً خالية من السكان تبعث فيها مطامع جديدة.

ومهما حاولت القوى التي تقف وراء الصهيونية أن تسقي غرسها الشيطاني هذا بدماء العرب وتغذية بأرضهم فلن تستطيع أَبداً أن تجعل الصهيونية أصيلة في فلسطين، ستبقى نبتة غريبة ملعونة ترفضها الأرض، وترفضها الامة، وترفضها حركة التاريخ، وتقتلعها ارادة اللّه بايدي عباده الأبرار وارادتهم وعزمهم. إن الصهاينة يجتمعون في فلسطين لشِّر يومٍ لهم في التاريخ، متى يشرق هذا اليوم...؟ إننا لا نعلم، ولكنه آتٍ لا ريب فيه، ذلك وعد اللّه والله لا يخلف الميعاد:

١ -( وَلا يَحسَبَنّ الذينَ كَفَرا سَبَقُوا إنهم لا يعجزون ) (١) .

٢ -( لا تَحسَبَنّ الذيِنَ كَفَروا مُعْجزينَ في الأرْضِ، وَمَأوَاهُمُ النارُ ولبئسَ المَصير ) (٢) .

إن علينا أن نعدَّ أُمتنا لهذا اليوم الموعود، ونصونها من التلوث والفساد والانحلال بما تفرزه المادية في الثقافة وأساليب الحياة من سموم

____________________

(١) سورة الانفال (مدنية - ٨) الاية ٥٩.

(٢) سورة النور (مدنية - ٢٤) الاية: ٥٧.

٥

تفسد شخصية الانسان وتذهب بأصالته وتجعله بذلك إحدى نفايات أُمته التي تضعف تماسكها، وتوهن قوتها.

* * *

آمل أن تساهم هذه المطارحات في تعزيز المناعة الفكرية أمام غزو المادية من خلال الماركسية أو من خلال الرأسمالية، وفي معونة الباحثين عن ضياء ينير ظلام دروبهم، وعن هدى يخرجهم من ظلمات الكفر أو حيرة الشك إلى نور الإيمان باللّه، والحمد للّه رب العالمين.

بيروت محمد مهدي شمس الدين

ربيع الثاني ١٣٩٨ هجري

آذار (مارس) ١٩٧٨ م

٦

القِسمُ الأوّل

١ - المادية في الرأسمالية والماركسية ومأساة إنسان عصرنا

٢ - الماركسية والعلم والسياسة

المادية في الرأسمالية والماركسية ومأساة إنسان عصرنا

هذا كتاب يتضمن مطارحات بين الفكر المادي - كما تعرضه النظرية الماركسية - والفكر الديني متمثلاً بالاسلام.

وهذه النظرة المادية الخالصة إلى أصل الكون والحياة والانسان هي النقطة الأرخميدية، نقطة الخلاف الرئيسية بين الاسلام وبين الماركسية، وعنها تتفرع الخلافات الاخرى.

ونريد أن نثير هنا سؤالاً هاماً:

إذا كانت الماركسية مادية فهل الرأسمالية - ضدها الايديولوجي وخصمها السياسي - روحانية تؤمن بقوة وراء الطبيعة يرجع إليها الخلق والأمر؟

٧

إذا كانت الماركسية، انطلاقاً من ماديتها، ترفض الايمان باللّه، ومن ثم فهي ترفض الاعتراف بالنبوة والوحي، ومن ثم فهي ترفض الاعتراف بالدين، بل وتحاربه وتعتبره خصماً عليها أن تقضي عليه في ظاهر التركيب المؤسسي الاجتماعي وفي باطن الضمير الانساني لتخلص الانسان من آثاره الضارة في تخدير الشعوب، ولتمكن لنفسها في الوعي الانساني فتدفع بالانسان إلى إسعاد نفسه وعالمه... إذا كانت الماركسية هكذا فهل الرأسمالية مضادة لها في هذه النظرات والمواقف؟ هل تعترف الرأسمالية باللّه؟ ومن ثم فهل تعترف بالنبوة والوحي؟ ومن ثم فهل تعترف بالدين، وكيف تعترف بالدين؟.

الحق أن الرأسمالية ذات مظهر خادع روَّاغ من هذه الجهة تغر الناظر السطحي إليها فيحسب أنها مذهب في الحياة للدين فيه مكان مكين.

ولكن الباحث الذي تتجاوز ملاحظته السطح الخادع سرعان ما يكتشف أن الرأسمالية من هذه الجهة والخلاف بينهما في الاسلوب لا في جوهر الموقف. وسيرى الباحث المتعمق أن الرأسمالية كالماركسية مادية.

فالرأسمالية تتعامل مع الكون والحياة والانسان من منطلق مادي لا يترك مجالاً لمسألة وجود اللّه وما يتفرع عنها من وحي ونبوة وأديان وشرائع دينية. وغاية الفرق بينهما هي:

ان الماركسية نظام فلسفي يدعي لنفسه الشمول. وهذا يقضي منطقياً بأن ينفي كل نظام فكري آخر مغاير له ويدعي مجافاته للحقيقة وبطلانه. ولما كانت عقيدة وجود خالق للكون خارج عنه، على النحو الذي تبشر به الأديان السماوية - مضادة لعقيدة هذا النظام الفلسفي المادي النافية

٨

بِحكم تفسيرها المادي للكون والحياة والانسان - لوجود خالق للكون وما فيه ومن فيه خارج عنه، فلا بد له أن ينفي العقيدة الدينية وأن ينفي كل ما يتفرع عنها من عقيدة بالوحي والنبوة والشرائع والقيم المستمدة من الوحي، ولا بد له من أن يبحث لكل هذه الثوابت في ثقافة الانسان وحضارته على مدى التاريخ عن تفسير مادي يتفق مع أُصوله وقواعده الفلسفية المادية.

أما الرأسمالية فليست نظاماً فلسفياً، إنها طريقة حياة، ولكنها ليست طريقة ساذجة، بل هي قائمة على معطيات فكرية لخليط من الفلسفات أدت جميعها إلى تكوين نظرة مادية إلي الكون والحياة والانسان. فمن المعلوم أن الرأسمالية لم تغد نظاماً ومنهجاً إلا على أنقاض الفكر الديني المسيحي الذي قضت عليه الفلسفات التي رفضت معتقدات الكنيسة ونظامها وأخلاقها، وأحلت محلها نظرة مادية إلى الكون والحياة والانسان، وأنظمة وأخلاقاً مستمدة من هذه النظرة المادية.

ولكن الرأسمالية مع كونها طريقة حياة مادية، تقوم على أفكار مادية، أبقت على الكنيسة بعد أن جردتها من سلطانها الزمني تجريداً كاملاً أو شبه كامل. إلا أنها لم تبق عليها باعتبارها مؤسسة فاعلة في الحياة موجهة لها، منظمة لنشاطاتها، بل باعتبارها مؤسسة تستهوي عقائدها وطقوسها فئة من الناس لا تزال مؤمنة بها. وهذا أمر لا يظير الرأسمالية في شيء ما دامت الكنيسة لا تقحم نفسها في الشؤون التي تقوم عليها طريقة الحياة الرأسمالية ولا تعطل أيَّ نشاط من أنشطتها. بل إن مفكري الرأسمالية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع رأوا أن المؤسسة الدينية ليست عديمة الفائدة في شأن تنفيذ الخطط التي وضعتها الدوائر الرأسمالية لاحتلال العالم القديم والجديد في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية. وليست

٩

عديمة النفع في الصراع الذي تخوضه القوى الرأسمالية مع الطبقة العاملة. كما أنها - كما تبين أخيراً - ليست عديمة النفع في الصراع الايديولوجي ذي الأهداف السياسية والاقتصادية بين الرأسمالية والشيوعية التي لم تقلَّ يوماً ما طموحاً عن غريمتها الرأسمالية إلى احتلال العالم القديم والجديد في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.

وإذن فقد أبقت الرأسمالية على المؤسسة الدينية لا لأن الرأسمالية تؤمن باللّه واليوم الآخر، وتؤمن بالوحي والنبوة، وتؤمن بالأديان والشرائع والقيم الدينية، فهي - باعتبارها طريقة حياة مبنية على نظرة مادية - لا تعني بهذه الامور على الإطلاق. قد يكون في المجتمعات الرأسمالية مؤمنون وقد يكون فيها ملحدون، فهي تتسع لهؤلاء وهؤلاء ولكن هذا لا يعني أنها مبنية على الايمان الديني بوجه من الوجوه. وإنما أبقت على المؤسسات الدينية لأنها - أولاً - ليست موقفاً فلسفياً ينفي ما يخالفه ويضاده من أفكار ومؤسسات من الناحية الفكرية النظرية، ولأنها - ثانياً - قدرت - وهي المسوقة بفكرة الربح - أن المؤسسات الدينية يمكن أن تكون ذات فائدة كبرى، في عمليات احتلال العالم، وفي الصراع الطبقي، وفي الصراع الايديولوجي مع الماركسية في السباق بينهما لاحتلال العالم.

وإذن، فالتفاوت في الموقف من الدين بين الماركسية والرأسمالية ليس ناشئاً من خلاف نظري مبدئي حول الدين، فكلاهما من الناحية النظرية المبدئية في موقع واحد بالنسبة إلي الدين، فهما لا يعترفان به، ولا يأخذان بتوجيهه في سياساتهما الداخلية والخارجية، ومناهجمها الاجتماعية والتعليمية والثقافية والاقتصادية. التفاوت بين الماركسية والرأسمالية بالنسبة إلى الدين هو في الموقف من الناحية العملية، الماركسية تنفيه وتحاربه

١٠

لأنها نظام فلسفي يفترض فيه - كأي نظام فلسفي غيره - أن ينفي ويبطل كل ما عداه من أنظمة ونظريات تفسر الكون والحياة والانسان بطريقة أُخرى. ولكن هذا الموقف المبدئي من الدين لا يمنع الماركسية من مهادنة الدين ومؤسساته ورجاله وتملقهم حين تكتشف حاجاتها إليهم في توجهاتها السياسية وصراعاتها، وحين ترى أن الدين يحقق لها فائدة عملية كما حدث من قيادات الاتحاد السوفياتي اثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها في مناسبات كثيرة جداً. والرأسمالية تنفي الدين وتحارب تدخله في شؤون الحياة والسياسة لأنها طريقة حياة قائمة على نظرة مادية إلى الكون والحياة والانسان. وهذا لا يمنعها من أن تهادنه بالابقاء على مؤسساته وبعض امتيازاتها لأنه ليس لها موقف فلسفي مبدئي منه من جهة ولأنها قد تحقق عن طريقه بعض المنافع التي تعزز قدرتها على الربح وعلى الكسب السياسي من جهة أُخرى. ولكنها تحاربه في رجاله وفي مؤسساته حين يقف من خلال بعض هذه المؤسسات وبعض هؤلاء الرجال أمام عدوانها ونهبها للشعوب المستضعفة وتسلطها السياسي كما حدث في حالات كثيرة في العصر الحديث في اروبا وافريقيا وامريكا اللاتيتية. وقد تحالفه حين تستطيع ترويض رجاله ومؤسساته لتغطية مخططاتها في استعمار الشعوب ونهب خيراتها وربطها بالفلك السياسي للرأسمالية الذي يجعلها أسيرة مواقف الرأسمالية في السياسة العالمية ومؤسساتها الاحتكارية الكبرى.

* * *

هذا هو واقع الأمر في موقف الرأسمالية والماركسية من الدين على رغم المظاهر الخادعة التي قد تنطلي على النظرة الساذجة.

١١

وأذن فهذا الكتاب الذي يدحض المادية الماركسية لا يعني اعترافاً للرأسمالية بالايمان. والدعوة التي يتضمنها هذا الكتاب إلى الايمان بوجود اللّه سبحانه وتعالى موجهة إلى الماديين كيفما كانوا وكانت ماديتهم التي يدَّعونها ماركسيين كانوا أو رأسماليين، كما أنها دعوة موجهة إلى كهنة الفكر الماركسي والفكر المادي الذي افرز الرأسمالية نظاماً سياسياً اقتصادياً، وطريقة حياة.

والدعوة التي يتضمنها هذا الكتاب إلي الايمان بوجود اللّه تعالى لا تقف عند حد هذا الايمان بما هو قناعة عقلية ووجدانية فقط، فقضية وجود اللّه تعالى خالقاً للكون ومدبراً له لا تقف عند الايمان النظري بوجوده لأن هذه القضية من القضايا التي تنبثق عنها وتلازمها بالضرورة قضايا أخرى لا بد من الايمان بها، والاذعان لها، ومن ثم بناء الحياة على هداها.

فالايمان بوجود اللّه تعالى يعني - في حدود إدراك عقلنا البشري - الايمان بوجود علاقات شاملة بين اللّه وبين جميع الكون وما فيه ومن فيه، علاقة ربوبية تغمر الكون كله وتتغلغل في اعماقه وفي جميع ثنايا مظاهر وجوده. ومن بين هذه العلاقات علاقة بالانسان ذات طابع إنساني بشري، وهي علاقة اللّه بالانسان عن طريق النبوة.

فان اللّه تعالى يرسل النبيين مبشرين ومنذرين أدلاء على اللّه بالدين الموحى إليهم من عند اللّه والذي ينظم حياتهم ويقودهم إلى أفضل السبل. هذا الدين - منذ فجر النبوات - هو الاسلام جعل اللّه فيه وبه الهدى والنور لبني الانسان على مدى التاريخ. كل حقبة تاريخية تتلقى الانسانية منه فيها المستوى الذي يلائم نموها الحضاري وتطورها العقلي. فينقلها في

١٢

طريق التكامل إلى مستوى أعلى مما كانت فيه، حتى ختم اللّه تعالى انبياءه الاكرمين بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وختم رسالاته الهادية برسالة الاسلام الكامل المستوعب الشامل لكل حاجات الانسان التشريعية ولكل القيم الأخلاقية التي تجعل الانسان قادراً على بناء حياة طاهرة، كريمة، سعيدة متكاملة، قوية فعالة ذات تأثير حاسم في حركة التاريخ الانساني. وقد جعل اللّه تعالى حقيقة الاسلام وجوهره ومبادئه الكبرى في كتابه الكريم (القرآن العظيم) الذي بيَّن اللّه تعالى أثره في إصلاح حال الانسان وهداية البشرية إلى الحياة السعيدة بقوله مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كما أنه خطاب لكل من انحرفت به الأهواء والفلسفات عن هدى اللّه:

( يَا أهْلَ الكتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُم كَثيراً ممّا كُنْتُم تُخْفُونَ منَ الكتَابِ وَيعَفْوُ عَنْ كَثير. قَدْ جَاءَكُم منَ اللّه نُورٌ وَكتَابٌ مُبين. يَهْدِي به اللّه مِنَ اتَّبَعَ رِضوانَه سُبُلَ السّلامِ وَيُخْرجَهُم من الظّلماتِ إلى النّور بإذْنه ويَهْديهم إلى صِراطٍ مُستْقَيم ) (١) .

إن نداء الايمان هذا، بوجود اللّه تعالى، وما يقضي به هذا الايمان من إيمان بالوحي والنبوة والدين والشريعة - إن هذا النداء موجّه باخلاص وصدق وحب إلى جميع الذين تلفهم الحيرة ويطوّح بهم الضياع في حياة فقدت جوهر معناها الانساني، وفقد الانسان فيها بعده الداخلي

____________________

(١) سورة المائدة (مدنية - ٥ - ) الاية: ١٥ - ١٦.

١٣

فشعر بالفراغ والخواء الذي جعله يفزع من الخلوة إلى نفسه، لأنه يشعر بالوحدة والوحشة واللامعنى، فيحمله ذلك على الفرار من مواجهة ذاته باغراق حواسه ومشاعره في صخب العالم الخارجي. وهكذا يزجي هذا الانسان الحديث حياة بائسة: من الاستغراق في العمل، إلى الاستغراق في اللهو، إلى الاستغراق في كل ما يجعل الانسان يعيش خارج ذاته طيلة يومه إلى أن يستغرقه النوم ليستيقظ على يوم جديد يشهد فراراً جديداً من الذات.

إن الايمان الصحيح، وبناء الحياة على هدى اللّه يمنح الانسان سلام النفس وسلام الحياة وسعادتها، والنجاة في اليوم الاخر.

١ -( يَا قَوْمَنَا أجيبُوا دَاعيَ اللّه وآمنُوا بِهِ يَغْفرْ لَكُم من ذنوبِكم ويُجركُمْ منْ عَذَابٍ أليم. وَمَن لا يُجبْ دَاعي اللّه فَلَيْس بمعْجزٍ في الأرْضِ وَلَيس لَهُ منْ دُونهِ أوْلياءُ أولئكَ في ضَلالٍ مُبين ) (١) .

٢ -( مَنْ عَملَ صَالحَاً من ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَلَنُحْييَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهم بأحسَنِ مَا كَانوا يَعْمَلُون ) (٢) .

* * *

____________________

(١) سورة الأحقاف (مكية - ٤٦) الاية: ٣١ - ٣٢

(٢) سورة النحل (مكية - ١٦) الآية: ٩٧.

١٤

٣ -( وَعَدَ اللّه المؤمنينَ وَالْمُؤمنَاتِ جَنّاتٍ تَجْري منْ تَحْتها الأنهَارُ خَالدينَ فيها وَمَسَاكنَ طَيّبَةً في جَنّاتِ عَدْن. ورَضوان منَ اللّه أكبْر. ذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العظيم ) (١)

* * *

بقيت كلمة ينبغي أن تقال عن دور الرأسمالية في عذاب إنسانها، والانسان في العالم.

لقد بدأت الرأسمالية طريقة حياة ولدت من جهود فكرية متنوعة قام بها علماء اقتصاد، وسياسيون وفلاسفة، وأُدباء وفنانون، ومصلحون اجتماعيون تضافرت جهودهم طيلة عقود كثيرة من السنين لاخراج مجتمعاتهم من نظام الاقطاع ومن سلطة المؤسسات الدينية ورجالها.

ومن المعلوم أن الارادات وحدها لا تغير التاريخ. الارادات حين تتزامن مع تغيرات مناسبة في البيئة الاجتماعية، ويعبِّر عنها أصحابها بالعمل المنهجي فانها حينئذٍ تغير التاريخ. وهكذا كان الأمر في اوربا في نهاية القرون الوسطى.

كانت الحروب الصليبية قد حملت إلى أوربا مع الجنود العائدين بذور التغيير من العالم الاسلامي - العربي، ومن بيزنطة.

ثم سقطت القسطنطينية، واكتشفت أمريكا، واكتشفت طرق جديدة برية وبحرية أثرت على التجارة العالمية، واخترعت الآلة البخارية والنول الميكانيكي، وحققت صناعة السلاح تقدماً في التقنية، وتحسنت وسائل المواصلات... وتفاعل ذلك كله مع أفكار الفلاسفة، ونظريات الاقتصاديين، وصيحات المصلحين الاجتماعيين، وطموحات ملوك الحكم المطلق وساستهم

____________________

(١) سورة التوبة (مدنية - ٩) الاية: ٧٢.

١٥

الأقوياء الدهاة، وأحلام الشعراء والقصاص والفنانين.. تفاعل ذلك كله، فولدت الرأسمالية على مراحل كطريقة حياة وأُسلوب انتاج للسلع.

وبدأت بولادة طريقة الحياة هذه مأساة جديدة في تاريخ الانسان الاوربي، ومن ثم في تاريخ إنسان العالم.

استهلت الرأسمالية عهدها، مدفوعة بشهوة الكسب التي لا يقيدها شيء، هجومها في كل وطن على إنسان وطنها هي، مسلحة بكل قوى الاغراء والقمع: بالمال، والسلاح، والقانون.

فحولت الفلاحين إلى عمال، وأفرغت، بذلك، الريف وضخمت المدن باحياء الصفيح لفلاحي الأمس في ظل أسوء ظروف العيش لهؤلاء العمال الذين وقعوا في المصيدة حين فقدوا من جهة أرضهم التي حولها الاقطاعيون الكبار إلى مراع للماشية لخدمة صناعات النسيج المربحة، وواجهوا من جهة أُخرى الآلة الرأسمالية الوحشية الهائلة دون أن يقدروا على مقاومتها.

وفرض عليهم أن يقبلوا، لقاء عملهم، بأُجور لا تكاد تكفي للقوت الضروري، وتعرضوا لشّتى الخدع في انفاقهم لهذا الأجر الزهيد... وهكذا مضت الآلة الرأسمالية تمتصهم حتى الموت.

وحطمت باندفاعها في التوسع والانتشار بنية الاسرة وفككت عراها حين فرقت بين أفرادها الذين انطلقوا هنا وهناك بحثاً عن العمل والقوت. واضطرت المرأة - أُما وزوجة وفتاة - إلى أن تزاول العمل، وأن تهجر أُسرتها إذا اقتضى الحال ذلك بحثاً عن العمل. وقد تفاعل وضع

١٦

المرأة هذا مع تنامي رغبة الرجال في إطالة فترة العزوبة فراراً من الزواج وما يوجبه من مسؤوليات، فأدى ذلك إلي بدايات الفوضى الجنسية التي تعاظمت باستمرار ولم تقف عند حد حتى الآن، حيث غدت واقعاً معترفاً به، بل يجد في المفكرين والفلاسفة من يفلسفه ويبحث له عن المبررات الأخلاقية.

وأُعيد تعمير أوربا بقوة الانتاج الكبير الذي وفرته الرأسمالية بعرق ودماء الملايين من العمال الذين كان فيهم عدد كبير من العمال الأطفال.

وتفتحت، رويداً رويداً، أعين العمال على بشاعة مأساتهم، ووعوا قساوة الظلم والاستغلال اللذين تمارسها القوى الرأسمالية عليهم، فتحركوا بهدف تغيير واقعهم المرير بالاضرابات والتظاهرات التي كانت تقمع بقوة السلاح من قبل قوى السلطة الشرعية - لأنها محرمة بحكم القانون - ويسقط القتلى بالعشرات والمئات، ويعود العمال صاغرين إلى مصانعهم لأن الاضراب يعني الجوع.

ولكن جهاد العمال في سبيل تحسين أوضاعهم لم يتوقف، ولم تفلح أساليب القمع في أن تضع له حداً، لقد تكتل العمال في جمعيات، ثم في نقابات طالبت الحكومات بسن تشريعات مناسبة للعمال تخفف شيئاً من قسوة واقعهم وتحد من سلطة رأس المال عليهم. فاستيقظت ضمائر نخبة من المفكرين والمصلحين الاجتماعيين على بشاعة ما يحدث وفداحة الظلم الذي يتعرض له هؤلاء العمال فعملوا على تهيئة الضمائر في المجتمع للتغيير في أُسلوب استغلال العمال. وساهمت في ذلك الصحافة اليومية، والشعر والقصة، وتكوَّن بذلك رأي عام في المجتمعات لمصلحة العمال... وبدأت

١٧

تلين قناة الرأسمالية تدريجاً أمام الضغط الهائل الذي مارسته الشعوب على تكتل الرأسماليين، وهكذا وجدت طريقها إلى النور التشريعات التي تصون حقوق العمال وتنصفهم وتحسِّن ظروف العمل.

وأخيراً أدراك علماء الاقتصاد (الحر) الرأسمالي أن السلام الاجتماعي لا يفيد العمال وحدهم، وإنما يعود على العمل بفوائد كبيرة أيضاً، ومن ثم فإنه يزيد الأرباح - هاجس الرأسمالية ومحركها الأعظم - لأنه يقلل من تعطيل المصانع، ويحفظ سلامة الآلات التي كان العمال في بعض الاحيان ينتقمون بتحطيمها، ويجوّد كفاءة العامل... وإذن فتحسين ظروف العمل ورفع مستوى حياة العامل ليس صدقة ولا احساناً وإنما هو استثمار للمال يعود بمزيد من الربح.. وهكذا زادت الفرص أمام العمال في اوطان الرأسمالية لتحسين اوضاعهم، ونعم العمال في مراكز الرأسمالية الكبرى في أوربا وامريكا بمستويات من العيش جيدة، وبظروف عمل مريحة، وبعطلات أطول ومدفوعة الأجر، وبمعاشات تقاعدية، وغير ذلك من الامتيازات.

ولكن حين أذنت مأساة عمال الرأسمالية في أوطانها بالانتهاء تعاظمت مأساة شعوب العالم الثالث التي توجه الوحش الرأسمالي بأنيابه إليها.

ففي سبيل التوسع الصناعي والمواد الخام وزيادة الربح وتصريف الانتاج الذي فاض عن حاجة الأسواق الداخلية في أوربا، تنافست دول أوربا الرأسمالية على آسيا وأفريقيا لأجل فرض السيطرة السياسية والعسكرية التي تضمن حيازة جميع المنافع، فهجمت على هاتين القارتين فاتحة مستعمرة، فارضة سيادة الرجل الأبيض على مئات الملايين من الناس

١٨

بكل ما تعنيه هذه السيادة من تسلط سياسي، واستيطان، ونهب للثروات، وتجارة بالرقيق، والحيلولة دون شعوب القارتين ودون إهمال أي فرصة للنهوض والتحرر، وتحويل المستعمرات إلى أسواق لاستهلاك ما تنتجه مصانع أوربا مع سلع، ونجد دائماً عند جميع القوى الأوربية المستعمرة هما كبيراً وهاجساً دائماً هو الاسلام الذي كان ولا يزال يمثل القوة المعنوية والروحية المقاومة، والصيغة الحضارية البديلة، فكان يخيفها منه أن تتاح له فرصة الانبعاث في قلوب وعقول ابناء المستعمرات فيهدد وجودها، ويدفع بابناء المستعمرات إلى أن يستعيدوا وجودهم المسلوب وحريتهم المصادرة، فيحرروا به أنفسهم من مستعمريهم، ومن هنا فقد تعرض الاسلام في عقول وقلوب أبناء المستعمرات لأكبر عملية تشويه مرت بها عقيدة من العقائد وشريعة من الشرائع على أيدي أعدائها، وذلك لكي يشلّوا فاعليته وتأثيره، ووجهوا همهم إلى السيطرة على التعليم ليحولوا بين ناشئة ابناء المستعمرات المسلمين وبين أن يكون الاسلام: عقيدته، وشريعته، وقيمه ومفاهيمه جزءً من شخصيتهم المعنوية وعاملاً في صيانة هذه الشخصية فلا تهن ولا تستسلم، وقد افلحوا في ذلك إلى حد بعيد.

لقد كانت الرأسمالية - بما هي استعمار واستغلال اقتصادي - لشعوب آسيا وأفريقيا كالحذاء الحديدي الذي يحكى أن الصينين القدماء كانوا يضعون أقدام فتياتهم فيه لغايات جمالية فكان يشوه اقدامهن ويجعلن عاجزات حين يحول بينهن وبين النمو الطبيعي الحر، وهكذا كانت الرأسمالية: منعت شعوب آسيا وأفريقيا من النمو وشوهت صورتها امام نفسها حين غرست فيها روح الشك والشعور بالدونية وامام العالم، ولكي

١٩

تتم المقارنة مع الحذاء الصيني نذكر أن الرأسمالية كانت تمارس عمليتها تحت شعار (رسالة الرجل الأبيض) ولكن من المؤكد أن كهنة الرأسمالية لم يكن لديهم ذرة من حسن النية التي كانت عند الآباء الصينيين تجاه بناتهم.

* * *

وحين تعاظمت موجة النقمة لدي شعوب آسيا وأفريقا تفجرت ثورات هذه الشعوب ضد تسلّط القوى الاستعمارية الرأسمالية، وتكون، على مهل، رأي عام عالمي أدان الاستعمار على أُسس أخلاقية. ولكن القوى الرأسمالية التي كانت بعيدة عن أن تستجيب لداعي الاخلاق اضطرت أن تستجيب لحقائق السياسة الدولية حين وجدت أمامها قوة عالمية أُخرى هي المجموعة الاشتراكية التي ولدت بثورة روسيا سنة ١٩١٧ م بين أطلال عالم الحرب العالمية الاولى. لقد شبت هذه القوة الجديدة عن الطوق، وغدت تنافس الرأسمالية في السباق إلى استثمار العالم وفقاً لمنطق آخر.. حين حدثت هذه المتغيرات بدلت القوى الرأسمالية أساليبها في التعامل مع الشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة، فقلصت على مهل تسلطها العسكري والسياسي المباشر الذي يفرض عليها التزامات مالية تنقص من أرباحها. ويضعها - امام الرأي العام العالمي الرافض للاستعمار - في مواقف محرجة، ويتيح للاتحاد السوفياتي أن يتسلل إلى مواقعها من خلال الامال بالتحرر، واستبدلت بالاستعمار المباشر صيغاً أُخرى للتسلط السياسي والاقتصادي والعسكري تؤمن لها جميع الامتيازات القديمة دون أي مضايقات - هذه الصيغ يجمعها ما يسمى ب (الاستعمار الجديد).

لقد أُبرمت المعاهدات بين الدول الاستعمارية ومستعمراتها السابقة.

٢٠

وتضمن هذه المعاهدات امتيازات اقتصادية وسياسية وعسكرية للدولة المستعمرة سابقاً، كما أعادت القوى الرأسمالية المالية والصناعية تنظيم نفسها في تكتلات (تروست) ذات قدرة مالية وسياسية واقتصادية هائلة احتكرت تجارة المواد الخام والمنتجات الصناعية في العالم. مما جعل الدول المتحررة (المستعمرة سابقاً) تقف عاجزة في غالب الأحيان تقف عاجزة أمام سياسة الأسعار التي تفرضها الاحتكارات الرأسمالية الكبرى، فتجد نفسها مضطرة إلي أن تبيع سلعتها (فوسفات، نفط، حديد، كبريت، اورانيوم، بن، شاي، كاكاو الخ) لتمول مشروعات التنمية ولتنفق على جهازها الاداري وعلى (جيشها).

وحين تطمح بعض الدول إلى امتلاك ناصية الأُمور، وتقرر الاستيلاء على ثروتها الوطنية، والاستقلال في التصرف فيها بما يضمن مصالح شعبها أو تقترح اسعاراً عادلة لسلعتها لا تعدم الدول الاستعمارية والاحتكارات العالمية وسائل متنوعة تشل فيها قدرة الدولة الضعيفة على تسويق سلعتها، وتخلق لها المتاعب الداخلية التي قد تؤدي إلى قلب نظام حكمها واستبداله بنظام آخر مطواع (واقعي وأكثر تعقلاً) ومن ثم أكثر اضطراراً للبيع بالسعر الذي تراه الاحتكارات مناسباً.

كما عملت القوى الاستعمارية السابقة على إثارة النزاعات الاقليمية والعنصرية، والدينية، والقبلية بين الدول المتخلفة في العالم الثالث، مستغلة للتوصل إلى ذلك ما غرسته أثناء الاستعمار من مفاهيم ثقافية لها طابع التفريق والتقسيم في شعوب هذه الدول، دافعة بها من خلال هذه النزاعات إلى الحروب الأهلية والاقليمية، وإلى توريطها في منازعات وأزمات سياسية كبرى بين بعضها وفي داخل كل دولة منها، ملجئة لأنظمتها المختلفة

٢١

الضعيفة إلى البحث لدى الدول المستعمرة السابقة عن محالفات سياسية تقوي مركزها في الداخل أمام شعبها أو فريق منه وأمام خصومها في الخارج، ودافعة لها إلى البحث، بأي ثمن، عن السلاح الذي تحتكر صنعه الدول الاستعمارية، باذلة في سبيل الحصول عليه ثمن موادها الخام، معطلة مشاريع التنمية لشعوبها وأوطانها، مزدادة فقراً وتخلفاً ومن ثم عجزاً عن المقاومة، ومن ثم خضوعاً لما تمليه إرادات القوى الرأسمالية واحتكاراتها الكبرى... مستمتعة بحرية وسيادة وهميتين!!؟؟

وقد كانت حصيلة المسلمين عامة والعرب منهم بوجه خاص من بلاء هذا الاستعمار الرأسمالي كبيرة جداً، لقد تسلطت القوى الرأسمالية على جميع العالم الإسلامي تقريباً، بل على جميعه إذا اعتبرنا السيطرة غير المباشرة، وقد خرب الاستعمار في العالم الإسلامي كلما استطاع ان يخربه وكان أعظم تخريبه في شخصية الانسان المسلم. وأعظم محن العالم الاسلامي من الاستعمار محنة فلسطين التي تعتبر أعظم محن المسلمين في التاريخ - حتى بالقياس إلى ضياع الأندلس - فقد طرد الاستعمار القديم بالتعاون مع الصهيونية شعبها المسلم، وأسكن فيها اليهود الذين نفروا إليها من جميع بقاع الدنيا لينشئوا ما أسموه ب‍ (دولة اسرائيل) مدفوعين بأحلام خرافية استمدوها من ثوراتهم، وقد ثبت الاستعمار الجديد هذه الدولة، ووفر لها أسباب القوة والتسلط، فشتت بها العرب، واستنفذ توراتهم - وعلى رأسها ثروة النفط - بالسلاح الذي يبيعه إياهم ليحموا أنفسهم من طليعته وربيبته التي غرسها في قلب وطنهم. وحرمهم الاستقرار السياسي، وجعلهم طيلة ثلث قرن يعيشون في ظل الخوف من عدوان اسرائيل التي شجعها الاستعمار الجديد على أن تحتل في النهاية جميع أرض فلسطين

٢٢

وجزءً من سوريا ومصر والاردن(١) .

هذه هي الرأسمالية التي تقود خطاها في استغلال العالم قيم الجاهليلة: المادية، والحيوانية، واللاأخلاقية، وروح العدوان(٢) .

* * *

لقد كانت الماركسية أحد التعابير السياسية - الفكرية عن صرخات العذاب التي أطلقتها الطبقة العاملة في اوربا ضد رأسمالية القرن التاسع عشر الطاغية الباغية على شعوبها وعلى العالم. ولكن النظام الذي بني على قواعدها ومبادئها سرعان ما مارس في الداخل والخارج سياسات إن كانت قد تجنبت الوقوع في بعض المآخذ على الرأسمالية في صيغتها القديمة أو صيغتها الجديدة، فانها لم تعدم أخطاء كبرى في سياستها تجاه شعوبها وتجاه شعوب العالم الثالث، وكشفت عن طموحات للسيطرة وبسط النفوذ جعلتها في نظر شعوب العالم الثالث قوة ينبغي الحذر منها، لأن طموحاتها في السيطرة السياسية والاقتصادية تماثل الطموحات التي تحرك القوى الرأسمالية نحو العالم الثالث، وترسم خططها في التعامل معه.

وكانت ثورات شعوب العالم الثالث صرخات العذاب الأليم التي تطلقها هذه الشعوب ضد الرأسمالية الأوربية ممثلة بالاستعمار.

____________________

(١) وها هي دولة الصهاينة تحتل أخيراً جبل عامل (لبنان الجنوبي) فتشرد عشرات الالوف من قراهم وتقتل المئات، وتهدم مئات المنازل وتضع باحتلالها الجنوب في غمرة أخطار سياسية غامضة طالما حذرنا منها، نسأل اللّه أن يرزقنا البصيرة لنواجه مسؤولياتنا بشجاعة، ونتحمل واجباتنا بإخلاص.

(٢) عن طبيعة الجاهلية وتركيبها لاحظ كتابنا (بين الجاهلية والاسلام) نشر دار الكتاب اللبناني - دار الكتاب المصري ١٣٩٥ هجري = ١٩٧٥ م فصل الجاهلية الحديثة.

٢٣

وكانت أوربا الرأسمالية - الاستعمارية - إلى حين الحرب العالمية الثانية - تحكم العالم الثالث وفقاً لمعادلة متضادة الطرفين، غدا من المستحيل بعد الحرب الاستمرار فيها. كانت تحكم العالم بروحية وأُسلوب العلم الحديث في التنظيم المجتمعي واستثمار الطبيعة والطاقة، هذا العلم الذي وضع الانسانية في العصر الذري - من جهة - وبروح وأُسلوب عصر الانطلاق الاستعماري الاعظم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد في مجال العلاقات الدولية، من جهة أُخرى، وقد ولدت هذه المعادلة تناقضاً في الواقع بين القوى التي تنسج الواقع وتولد الافكار - وهي قوى العلم المنفتح - وبين الأفكار التي يراد صياغة الواقع وفقاً لها. لقد غدا الاستمرار في هذه المعادلة مستحيلاً بعد الحرب العالمية الثانية، إن افكار الواقع كانت تضغط باتجاه اسلوب اكثر أخلاقية في العلاقات الدولية على خلاف رغبات القوى الرأسمالية التي كانت تضغط بالقوة المسلحة لرسم واقع العلاقات الدولية على ضوء افكار القرن التاسع عشر.

وقد تمثلت المعالم العامة لهذا الاسلوب الأخلاقي في العلاقات الدولية في الامال التي اختلجت بها قلوب مئات الملايين من شعوب العالم الثالث نتيجة لما ولدته الحرب العالمية الثانية بما رافقها من عنف ووحشية في الصراع المجنون بين النازية والديمقراطيات الغربية والاتحاد السوفياتي - في هذه الشعوب من وعي لواقعها الأليم، كما وانها رفعت درجة أحساسها بقهرها وذلها وانحطاط حياتها، وكونت لديها آمالاً جديدة في الحرية والعدالة والرخاء عززتها وعود المنتصرين، وقد دفعت هذه الامال الجديدة الزاهية، والتطلعات إلى نظام عالمي جديد بالشعوب المقهورة إلى أن تبحث لنفسها عن صيغ في التعاون الدولي تحق آمالها وتطلعاتها.

٢٤

ولكن العالم الغربي حاول أن يحتال على هذه الحقيقة، وأن يقف في وجه حركة التاريخ، وأن يجهض القوى الروحية العظمى التي اختلج بها العالم الثالث مندفعاً نحو الانعتاق باستعمال أساليب القمع المباشر تارة وأساليب الاستعمار الجديد تارة أُخرى، وساعده علي ذلك أن القوة العالمية الاخرى (العالم الاشتراكي) سقط - كما ذكرنا - في إغراء التسلط العسكري والسياسي وبسط النفوذ مما أعطى كلتا القوتين العظميين قدرة على المساومة مع غريمتها لتحقيق أهدافها.

وهكذا اكتشف العالم الثالث أنه وقع بين فكي كماشة فتكتلت شعوبه المستقلة وتلك التي كانت لا تزال مقهورة ومستعمرة تخوض ثورات دامية في سبيل التحرر الوطني. تكتلت في تجمع عالمي يمثل أخلاقية جديدة في السياسة الدولية، تجعل العلاقات الدولية قائمة على العدل والأخلاق وحكم القانون، فكان مؤتمر باندونج الذي وضعت فيه مبادئ الحياد الايجابي وعدم الانحياز بين القوتين العظميين في العالم.

وهكذا ولد في باندونج مفهوم جديد للسياسة الدولية والعلاقات بين الدول يقوم على رؤية روحية - أخلاقية، في مقابل المفهوم السائد الذي يقوم على منطق القوة.

لقد كان مؤتمر باندونج صرخة عذاب أيضاً أطلقها العالم الثالث الذي اكتشف أنه وقع بين فكي كماشة النظاميين الأعظمين - الرأسمالي والاشتراكي - بحثاً عن وضعية جديدة في السياسة تضمن لوحداته السياسية معاملة أكثر عدلاً، ووضعاً أكثر أمناً، وحركة أكثر حرية في رسم سياساتها الوطنية والخارجية.

٢٥

ولكن روح باندونج، والنزعة التي حركت ضمائر مئات الملايين من البشر في العالم الثالث نحو بناء قوة عالمية ثالثة لا تقوم على مبادئ القوة والسيطرة، وانما تقوم على مبادئ الاخلاق والقانون والتعاون - هذه الروح وهذا الطموح لا يناسب مصالح مراكز الثقل في النظام الرأسمالي العالمي والنظام الاشتراكي العالمي، فعملت مراكز الثقل في النظامين على أجهاض محاولات بناء هذه القوة العالمية الثالثة مستغلة تخلف هذه الشعوب، ضعف أنظمة الحكم فيها، وفقرها، وعجزها العلمي والتقني الذي قصر بها عن استغلال ثرواتها بنفسها، وألجأها إلى عرض هذه الثروات في السوق العالمي الذي تحكم اقتصادياته احتكارات الرأسمالية الكبرى، ومؤسسات الاقتصاد في النظام الاشتراكي، فعادت، نتيجة لذلك، القوتان العظميان إلى العالم الثالث.

ولئلا تعود فكرة القوة الجديدة في المجتمع الدولي إلى الظهور بصورة فاعلة استخدمت القوى العالمية القادرة كل الوسائل لايجاد حالات العداء المسلح بين مجموعات انظمة العالم الثالث، فنشبت الحروب الاقليمية التي زادت هذه الشعوب ضعفاً واتكاءً على القوى الرأسمالية أو على القوى الاشتراكية العالمية، واستنزفت قدرتها الاقتصادية، وخلقت حواجز من الشك والعداء والمصالح الوطنية الاقليمية تحول دن أي تحرك جاد وفعال ومستمر في اتجاه تكوين قوة عالمية ضاغطة تحقق التوازن في السياسة الدولية لمصلحة العالم الثالث. وبدلاً من ذلك اتفقت الدولتان العظميان على سياسة الوفاق التي تعني - بشكل أو بآخر - وصايتهما على العالم الثالث.

وقد وضعت المبادئ الاولى لسياسة الوفاق منذ عبرت إرادة العالم الثالث عن نفسها في مؤتمر باندونج سنة ١٩٥٥ م ، وذلك في مؤتمر جنيف

٢٦

الذي عقد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وانكلترا ورنسا وأنهى الحرب الباردة بين الشرق والغرب مفتتحاً عهداً جديداً من الانفراج الدولي تحت شعار (التعايش المشترك).

وقد كشفت التعليقات الغربية بمناسبة صفقة الاسلحة التشيكية مع مصر عن حقيقة ما كان يسمى آنذاك (روح جنيف) وأنه كان في الحقيقة بداية الطريق التي سلكتها القوتان العطميان لفرض وصايتهما أو نفوذهما - بشكل أو بآخر - على العالم.

فقد صرح سيرأنتوني ايدن رئيس الوزراء البريطاني في خطبة ألقاها في بورتموث في ٨ / ١٠ / ١٩٥٥ معلقاً على صفقة الأسلحة التشيكية - قال:

«هذه بالضبط فرصة أمام الدول الكبرى لكي تتفق على أن تحاول التحكم في نفسها وتتحد لكي تتحكم في الاخرين، وفي هذا يكمن في رأيي التفسير الحق لفكرة جنيف..»

وكتبت صحيفة المانشستر جارديان في عددها الصادر في ١٩ / ١٠ / ١٩٥٥ م معلقة على الصفقة بقولها:

«ربما كان من الخير أن يتفق الغرب مع روسيا في الشرق الأوسط على أساس سياسة جديدة لاتسمح لدول صغيرة في هذه المنطقة من العالم بأن تقوم بمحاولات خطيرة، وهي للأسف غير جديرة بتحمل المسؤولية».

وكتبت صحيفة لوموند الفرنسية في عددها الصادر في ٢٢ / ١٠ / ١٩٥٥ معلقة على الصفقة بقولها:

«ان نشاط انجلترا الدبلوماسي فيما يخص العالم العربي يجب أن يتجه

٢٧

إلى اقناع الاتحاد السوفياتي بالاعتراف بالوضع الراهن في الشرق الأوسط، في نطاق مناقشات بين الأربعة الكبار».

* * *

إن العالم الثالث الان محكوم بقانون سياسة الوفاق بين القوتين العظميين، وهي سياسة لحظت فيها مصالح القوتين العظميين بالدرجة الأولى. وهي سياسة مبنية على منطق القوة. ومن الطبيعي أن البديل الصالح لسياسة الوفاق ليس اللاوفاق الذي قد يؤدي بالعالم كله إلى كارثة نووية تقضي على الجنس البشري، وإنما البديل لسياسة الوفاق هو التوصل إلى قاعدة في السياسة الدولية والعلاقات بين الدول والكتل الدولية تقوم على مبادئ الأخلاق والقانون ويكون لها مضمون روحي. إن البديل لسياسة الوفاق هو الطموح النبيل لشعوب العالم الثالث نحو عالم لا تقوم العلاقات فيه على منطق القوة والسيطرة. وإذا كانت الأديان قادرة على أن تقدم لهذه القاعدة مضموناً أخلاقياً وروحياً فان الاسلام أقدر هذه الأديان على ذلك لأنه بحكم تكوينه العقيدي والتشريعي، وبحكم تجربته التاريخية قادر على أن يقدم المضمون الاخلاقي- الروحي في صيغة عملية تتصل بالواقع المادي والنفسي للانسان. ويبقى لكل دين دوره في إغناء التجربة الانسانية في محيطه الثقافي وفي العالم.

إن العالم الثالث المسحوق تحت وطأة تخلفه المادي والتنظيمي داخل وحداته السياسية، هذا التخلف الناشيءَ عن عجزه وعن تدخل القوى العظمى في شؤونه، هذا العالم الثالث سيبقى نقطة الخطر ومبعث الأمل.

٢٨

هو نقطة الخطر لأنه ساحة تصفية و تسوية الصراعات بين القوى العالمية الكبري التي تتعامل مع بعضها ومع العالم الثالث بمنطق القوة، وأقل خلل في حسابات التصفية والتسوية قد يقود العالم كله إلى كارثة نووية.

وقد وصل العالم إلى حافة الكارثة عدة مرات في ربع القرن الأخير بسبب المواجهات بين القوى الكبرى على أرض العالم الثالث.

وهو مبعث الأمل لأن وضعه الحاضر وتطلعات شعوبه يقدمان الفرصة للقوى العظمى في العالم لتعادل منطق القوة في السياسة بمنطق الاخلاق والقانون في العلاقات بين الدول، وبذلك (تؤنسن السياسة) لا حسب مفهوم الحضارة الحديثة حيث تكون السياسة إنسانية داخل كل وطن لشعب ذلك الوطن وتفقد إنسانيتها خارج حدود وطنها لتغدو سياسة قوة، وإنما حسب مفهوم الأخلاق والقانون الذين يعطيان للسياسة بعداً إنسانياً علي صعيد الجنس البشري كله. وتبعاً لذلك يجعلان العلاقات البشرية على مستوى الدول والجماعات اكثر دفئاً ومودة بما لها من مضمون روحي افتقده عالم القوة، عالم الحضارة الحديثة منذ زمن بعيد، ولا يزال الذخيرة التي مثلت إنسانية العالم الثالث فيوجه جميع محاولات التشويه والمسخ التي تعرض لها إنسانه، كما لا يزال هذا المضمون الروحي لصيغة في العلاقات الدولية قائمة على الأخلاق والقانون هو الشرط الاساسي لخلاص الحضارة الحديثة وإنسانها من أزمة الانسان الحديث التي قادته إليها النظرة المادية إلى الكون والحياة والانسان، وما ترتب على ذلك من اتباع منطق القوة في العلاقات البشرية.

إن صرخات العذاب التي تطلقها شعوب العالم الثالث ستظل تدوي في

٢٩

آذان عالم (منطق القوة) مهما حاول قادة عالم منطق القوة أن يحتالوا على العالم الثالث لاسكات صرخات عذابه التي يواجه بها عالم الأقوياء القساة الماديين الانانيين، ان العالم الثالث يتحدى، وخلاص الانسانية يتوقف على نوع الاستجابة.

٢ ـ الماركسية والعلم والسياسة

الموقف المنطقي الأمين والأخلاقي في قضايا السياسة الداخلية والخارجية هو أن تنطلق النظرية السياسية من الموقف الفلسفي، وأن تبنى الممارسة السياسية الداخلية وعلى المستوى الدولي على نظرية سياسية نابعة من نظرية فلسفية شاملة إلى الكون والحياة والانسان.

والماركسية تدعي لنفسها هذا الشرف.

تدعي أولاً أنها فلسفة كونية شاملة تقدم التفسير الصحيح لجميع الظواهر في الطبيعة و المجتمع.

وتدعي ثانياً أن نضالها السياسي ليس ناشئاً من طموحات فردية أو جماعية أو فئوية لا صلة لها بالواقع الموضوعي للمجتمع، كما تتهم بذلك الجماعات السياسية المنافسة لها - وإنما هو حركة مبنية على فلسفة في المجتمع هي المادية التاريخية، نابعة عن فلسفة عامة وشاملة للكون بما فيه

٣٠

من طبيعة وإنسان، هي المادية الديالكتيكية. ولذا فإن القوانين الاساسية في المادية الديالكتيكية (قانون حركة التطور، وقانون تناقضات التطور، وقانون قفزات التطور، وقانون الارتباط العام) هذه القوانين أملى الايمان بها الفكر الفلسفي العلمي السليم، ومن ثم اتخذناها سلاحاً نظرياً في تعاملنا مع الطبيعة والمجتمع، في عملنا العلمي في الطبيعة وفي عملنا السياسي في المجتمع.

الماركسية اذن تدعي لنفسها هذا الشرف، ولكنها دعوى يقوم واقع الممارسة السياسية على خلافها، فإننا بمراجعة بسيطة نكتشف أن الماركسية لا تبني مواقفها السياسية على أساس من تفكيرها الفلسفي وإنما تحاول أن تجعل من التفكير الفلسفي مبرراً لعملها السياسي، مما يحملها في كثير من الحالات على الاعتساف والتزوير لصياغة افكار تدَّعي لها صفة الحقيقة لتكون سنداً لمواقفها السياسية.

وهذا ما يظهر بجلاء كبير عند مراجعة الخلفية السياسية للمواقف الفلسفية التي اعلنتها الماركسية في كثير من الحالات، ومن هذا الباب اعتبارها القوانين الأربعة السالفة الذكر أُسساً مطلقة الاعتبار وثابتة للمادية الديالكتية، فان الباحث يلمس وراء هذا الموقف أو ذاك الرغبة في تبرير العمل السياسي، فيما هم يوهمون الناس بأن العمل السياسي على هذا النحو المميز جاء نتيجة حتمية للضرورة العلمية التي لا تدحض.

وسيأتي البحث النقدي الفلسفي لقوانين الديالكتيك، أما هنا فغايتنا الكشف عن الحافز السياسي إلى وضع هذه القوانين وإعطائها صفة الحقيقة العلمية، وما هي في الحقيقة سوى أدوات سياسية.

والآن إلى شيء من التفصيل.

٣١

١ ـ المدلول السياسي لقانون حركة التطور

لماذا تذهب الماركسية خلافاً للحقيقة الموضوعية - إلى أن قانون الحركة يتجاوز الواقع الموضوعي المادي إلى عالم الفكر فترى أن الفكر ينمو ويتغير بالحركة كما تنمو المادة وتتغير بالحركة؟

ويكشف لنا التحليل عن جواب هذا التساؤل في مجالين:

الأول - ظن الماركسية عندما وضعت قانونها هذا كانت تعلم أنها ستخوض صراعاً مع الفلسفة الميتافيزيقية، ومع المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنتسب - حقاً أو باطلاً - إلى هذه الفلسفة.

والفلسفة الميتافيزيقية تستند إلى جملة من الحقائق المطلقة والنهائية غير القابلة للجدل. والاعتراف بأن قانون الحركة لا يتعدى عالم المادة إلى عالم الفكر يعني أن ثمة حقائق فكرية مطلقة وحينئذٍ لا يمكن للماركسية تجاهلها، بل لا بد لها من الايمان بها وهذا يعني قوة في موقف الميتافيزيقية

٣٢

ومن ثم قوة في موقف مؤسساتها في المجتمع.

أما إعلان أن قانون الحركة شامل يستوعب عالم المادة وعالم الفكر معاً فيقضي بأنه لا توجد حقائق مطلقة في عالم المادة وكذلك في عالم الفكر، وهذا يجعل الماركسية في وضع أفضل في المعترك السياسي، ويجرد الميتافيزيقية من ركائزها الأساسية، ويجعلها تمثل مرحلة - مرحلة فقط - في سير الطبيعة والانسان نحو التكامل والتطور الصاعد أبداً ودائماً.

وهكذا يكون الطموح السياسي هو الذي أملى على آباء المادية الديالكتيكية موقفهم الفلسفي، وليس العكس. لم يكن الموقف السياسي في حقيقة الأمر نتيجة للموقف الفلسفي

الثاني:

نفي وقوع خطأ في المواقف السياسية خلال النضال من أجل فرض السيطرة. فكل موقف سياسي صواب، وإذا انكشف خطأه كل صواباً نسبياً. وهكذا تجد المعاهدة مع هتلر ومهادنة النازية مكاناً لها في خانة الحقيقة، كما تجد السياسة الاقتصادية الجديدة مكاناً لها في خانة الحقيقة، وبذلك يمكن أن تكون المواقف السياسية المتناقضة صحيحة كلها، كما أننا نسبغ صفة الحقيقة على نظرية نيوتن وعلى نسبية انيشتين معاً.

الحقيقة هي أن اعتبار الماركسية قانون الحركة شاملاً لعمليات الفكر ناشئ من الرغبة في إيجاد التبرير السياسي وان أدى ذلك إلى تجاوز الحقيقة الفلسفية.

٢ ـ المدلول السياسي لقانون تناقضات التطور

لقد اعتمدت الماركسية في العمل السياسي مبدأ صراع الطبقات في المجتمع، وجعلت همها الأعظم رفع درجة الصراع في المجتمعات المضطربة، وتحريك الصراع في المجتمعات التي تتمتع بالاستقرار، والمضي في تأجيج الأحقاد الطبقية والفئوية إلى أن تصل بالمجتمع إلى حالات الانقسام والعداء ومن ثم تفجير الصراع بالثورات والحروب الأهلية، وإن توقف ذلك على تأييد أنظمة الحكم الرجعية، وتأييد الحكام الطغاة، ومحاربة الأنظمة التقدمية على غير الأسلوب الماركسي واسقاط الحكام ذوي النزعات الاصلاحية، وذلك لأجل أن تساهم أنظمة الحكم الرجعية والحكام الطغاة في إنزال أفدح الظلم بالفئات الاجتماعية الأقل حظاً من خيرات الانتاج العام للثروة، فتزداد نقمة هذه الفئات، ويؤدي ذلك إلي ارتفاع حدة الصراع الطبقي، وهذا يعجل بالثورة التي تؤدي إلى سيطرة الماركسية على

٣٣

السلطة. بينما تعمل أنظمة الحكم التقدمية - غير الماركسية - والحكام ذووا النزعات الاصلاحية على انصاف الفئات المحرومة، ويؤدي ذلك إلى شعورها بالانصاف والعدالة، فينزع من صدورها الغل والحقد، ويدفع بها نحو التعاون مع غيرها من الفئات بدل الصراع، وهذا ما يبعد فرصة استيلاء الماركسيين على السلطة.

لقد اعتمدت الماركسية هذا المبدأ في عملها السياسي. ولكنه - كما يرى الجميع - مبدأ غير أخلاقي وغير انساني، وهو معرض للادانة من أي إنسان مستقيم الفكر والضمير انطلاقاً من لا أخلاقية المبدأ المذكور ولا إنسانيته. ولذا فثمة عاملان يحملان الماركسية على أن تجد سنداً فلسفياً - علمياً لهذا المبدأ: الأول - هو دفع الاعتراض الأخلاقي عليه فإن القوانين العلمية لا تخضع للاعتبارات الأخلاقية، إنها حتمية ولا شأن فيها للاختيار البشري والضمير، ولذا فلا مجال للاعتراض على هذا المبدأ من الناحية الأخلاقية. الثاني - هو إعطاء المبدأ صفة العلمية والحقيقة الفلسفية لئلا يخطر في بال أحد من الناس أنه مجرد تغطية أدبية إنشائية لأسلوب سياسي، وبذا يكتسب المبدأ قوة التأثير باعتباره حقيقة علمية فلسفية ويدفع عنه صفة اللاأخلاقية واللا إنسانية.

* * *

إن الصراع والتنافي موجود في المجتمع السياسي بلا شك، ولكن التعاون موجود في المجتمع السياسي أيضاً، فالصراع والتنافي ليس قانوناً عاماً وشاملاً وثابتاً في حركة التاريخ وإنما هو أحد مظاهرها، والتاريخ يتحرك وينمو من خلال تفاعل جملة من العوامل.

٣٤

أما في الطبيعة فالقانون الظاهر هو قانون التكامل، وليس مبدأ التناقض، وتطور الطبيعية ونموها يتم من خلال تكامل قواها وعناصرها وتعاونها، وليس من خلال تناقضها، وما يبدو تناقضاً في الطبيعة فيكشف - حين دراسته على ضوء شروط التناقض - أنه ليس من التناقض في شيء، وإنما اعتبره الماركسيون تناقضاً بسبب جهلهم بقانون التناقض أو بسبب حرصهم على أيجاد المبرر الفلسفي لعملهم السياسي كما ذكرنا.

ويبدو أن واضعي أُسس الماركسية غفلوا عن أن هذا القانون يقضي عليهم بأحد أمرين كلاهما نفي للماركسية.

أحدهما - أن نفرض أن قانون تناقضات التطور يستمر حتى بعد تكوّن المجتمع الشيوعي الكامل، وهذا يقضي بأن يعمل هذا، القانون عمله في نفي الماركسية نحو مرحلة تتجاوزها في نمو التاريخ، وهذا يعني أن الماركسية مرحلة وليست نهاية حركة التاريخ، وهكذا تأتي مرحلة تاريخية تلغي الشيوعية وتكون اكثر تطوراً، وتقدماً منها على اعتبار أن حركة التاريخ تسير في خط صاعد دائماً؟؟.

وثانيهما - أن نفترض أن قانون تناقضات التطور يتوقف عن العمل ويبطل أثره. وحينئذٍ فهل يكفّ المجتمع عن الحركة؟ وهل تتوقف حركة التاريخ عند حدٍّ لا تتعداه؟ أي الأفتراضين يختار الماركسيون يكون ابطالاً لدعواهم وفلسفتهم من أصلها.

٣ ـ المدلول السياسي لقانون قفزات التطور

اعتمدت الماركسية في عملها السياسي لتسلم السلطة مبدأ الانقلاب المسلح والثورة، ورفضت مبدأ العمل الديمقراطي البرلماني الذي اعتمده الفكر السياسي في أوربا، ومن ثم فهي تحارب الاصلاحيين الذين ينتهجون سبيل التغيير التدريجي السلمي ليصلوا بالمجتمع السياسي إلى مستويات أفضل في اوضاعه الحياتية، وترى أن تغيير المجتمع السياسي وتحقيق العدالة لا يكون إلا بالعنف والثورة التي تجتث جميع قواعد المجتمع من جذورها دفعة واحدة. والنصوص الماركسية الأساسية في هذه المسألة واضحة صريحة لاتترك مجالاً للتأويل، قال ماركس وانجلز:

«ولا يتدنى الشيوعيون إلى اخفاء آرائهم، ومقاصدهم، ومشاريعهم، يعلنون صراحة أن أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها إلا بهدم كل النظام الاجتماعي

٣٥

التقليدي بالعنف والقوة»(١)

وقال لينين:

«إن الثورة البروليتارية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البرجوازي بالعنف»(٢)

ولكن العنف الثوري يقابله في العمل السياسي الأسلوب الديمقراطي الذي يعتمد التغيير عن طريق التشريع، وتكوين القناعات لدى فئات المجتمع السياسي للقبول بالتغيير، وهذا الأسلوب هو الذي يتبعه الخصوم السياسيون للماركسية في كل مجتمع.

وقد رأى المفكرون السياسيون أن يلتمسوا لموقفهم السياسي سنداً علمياً - فلسفياً يحقق لهم هدفين:

الأول - إسكات خصومهم السياسيين في الجدل حول أُسلوب التغيير السياسي للمجتمع بأن الثورة المسلحة والقضاء على المؤسسات القديمة بالعنف ليس أمراً خاضعاً للاختيار البشري الذي يسمح بالجدل وتفضيل أُسلوب على آخر، وإنما هو قانون حتمي ثابت في الطبيعة والتاريخ، ولذا فلا مناص من المصير إليه.

الثاني - إظهار أن مواقفهم السياسية نابعة من موقف علمي - فلسفي، وليست نتيجة اختيارات آنية تمليها الضرورات السياسية في الحياة المتغيرة المتقلبة للمجتمع السياسي.

____________________

(١) البيان الشيوعي، ص:٨.

(٢) اسس اللينينية، ص: ٦٦.

٣٦

لأجل جميع ذلك اخترعت الماركية مبدأ قفزات التطور، زاعمة أن التغييرات التي تحدث نتيجة لقانوني الحركة وتناقضات التطور لا تحدث في الطبيعة والمجتمع تدريجياً وإنما تحدث دفعة واحدة وبشكل فوري ثوري يغير في لحظة الوضعية والبنية القديمة بوضعية وبنية جديدة تفرضها القفزة في الطبيعة والثورة في المجتمع السياسي.

ولم تقدم الماركسية أي دليل على دعواها هذه. وإنما عرضت جملة من الأمثلة التي يكشف النقد الموضوعي زيفها وخطأها.

وسيتضح بطلان هذا المبدأ من الناحية الفلسفية في المباحث الآتية، وكل ما نريد توضيحه هنا هو أن هذا المبدأ كسائر المبادئ الاسس في الماركسية ليس علمياً ولا فلسفياً وإنما هو تغطية وتبرير لأسلوب في العمل السياسي هو الثورة المسلحة التي قد تكون ضرورية حين تفشل جميع الوسائل في الاصلاح السلمي، ولكنها مع توفر امكانات الاصلاح والتغيير نحو الافضل بالأساليب السلمية تكون، بلا ريب، عملاً غير اخلاقي ومن ثم غير شرعي.

٤ ـ المدلول السياسي لقانون الارتباط العام

قانون الارتباط العام قانون صحيح وصادق في الطبيعة والمجتمع، وقد سبقت الواقعية الإلهية إلى الكشف عن هذا القانون. ولكنه يستند إلى أساس العلية، لا إلى ما تدعيه الماركسية من مبدأ التناقض، وسيأتي في الابحاث التالية بيان وجه الحق في الأساس الذي يستند إليه هذا القانون، أما هنا فنريد أن نكشف عن المدلول السياسي لهذا القانون في التطبيق الماركسي.

الماركسيون ينتفعون بجميع الفرص التي يتيحها لهم أي نظام سياسي يعملون في ظله: فهم، مثلاً، ينتفعون بحرية الكلام، والتظاهر، والتنظيم الحزبي والنقابي وغير ذلك من الحريات التي يتيحها لهم النظام الديمقراطي البرلماني إذا كانوا يعملون في ظل نظام كهذا كما تنتفع بها سائر الجماعات السياسية التي تعمل في ظل هذا النظام. وهذا أمر طبيعي،

٣٧

فمن الأصول الأساسية التي يقوم عليها النظام البرلماني هو اتاحة هذه الحريات للجماعات السياسية العاملة في المجتمع، ومن حق هذه الجماعات أن تستفيد في عملها السياسي من هذه الحريات.

ولكن الماركسية عندما تنتصر تتخذ من مسألة الحريات موقفاً آخر، فهي تصادر حرية الجماعات السياسية الأخرى في المجتمع في التعبير عن الرأي، والتنظيم الحزبي والنقابي وغير ذلك، وتستأثر لأجهزتها وحدها بكل هذه الحريات. بدعوى أن هذه الجماعات السياسية الأخرى تمثل تطلعات سياسية معادية للشعب (ولا حرية لأعداء الشعب). والحقيقية هي أن الجماعات السياسية قد لا تكون عدوة للتطلعات الشعبية وكل ذنبها أنها تعتمد عقيدة سياسية غير الماركسية، ولكن هذا وحده في نظر الماركسية، سبب كافٍ لمصادرة حرياتها.

والماركسية تستند في موقفها هذا إلى رغبة طبيعية، ولكنها غير عادلة، وفقاً للشعارات التي تنادي بها، في الإستئثار بالسلطة وفي تفويت جميع الفرص التي تتيح للشعب أن يطلع على وجهات نظر أُخرى في قضاياه الحياتية والسياسية. وهي تعلم أن قانون الارتباط العام يقضي بأن لكل نشاط إنساني في الطبيعة أو المجتمع أثراً ينعكس على شبكة العلاقات بين الأشياء والمواقف والجماعات. وأن الجماعات السياسية الاخرى في المجتمع إذا اتيحت لها الحريات السياسية فستكشف أخطار الممارسات التي يقوم بها النظام الحاكم، وهذا يؤدي الى تكوين قناعات لدى الشعب لن تكون في مصلحة هذا النظام الذي سيفقد تدريجياً سلطته وقدرته على التأثير، ولذا فهي تصادر حريات الاخرين لتحول بينهم وبين الانتفاع

٣٨

بقانون الارتباط العام في التأثير على الوضع السياسي للمجتمع، وتعطي لنفسها حرية الانتفاع بقدرة التأثير التي يوفرها هذا القانون.

إن الماركسية، حين تحكم، تمنع عن الآخرين ما تطالب به هي، وتحصل عليه في الغالب، حين يكونون حاكمين.

إن الماركسية تستثمر قانون الارتباط العام لمصلحتها وحدها حين تكون هي الحاكمة، بينما يكون إستثمار هذا القانون في العمل السياسي ممكنا لجميع الفئات السياسية في ظل الانظمة التي تعطي الحرية لجميع الفئات السياسية.

إن الماركسية لم تكتشف قانون الارتباط العام، ولكنها برعت في استخدامه على الصعيد السياسي.

خلاصة

في الأبحاث الآتية نقد شامل لأهم الركائز التي يقوم عليها الفكر المادي من خلال المسائل التي اثيرت في نقد الفكر الديني. ولذا لم يكن من مقصدي في الأبحاث الانفة إلا الكشف عن الخلفية السياسية التي أملت على المادية الديالكتيكية صياغة مبادئها الاساسية في الطبيعة والمجتمع، مرجئاً البحث الفلسفي إلى موضعه من هذا الكتاب.

وأود أن أُنبه هنا إلى أن المادية بجميع مظاهرها رأسمالية كانت أو ديالكتية أو غيرهما، بالاضافة إلى أنها خطأ علمي وفلسفي، مخالفة للطبيعة الانسانية ولأعمق واصدق ما يشتمل عليه التكوين الانساني من معنى، ومن ثم فإنها لن تؤدي إلا إلى انحطاط النوع الانساني في معناه وفي جوهره وإن أدت إلى تفوق بعض فئاته في الشأن المادي ولكن بثمن باهظ هو شقاء مئات الملايين من البشر، بل الوف الملايين إذا أخذنا بنظر الاعتبار التضخم السكاني في العالم الثالث.

٣٩

القِسمُ الثَاني مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني (تصفية حساب صغير)

في الابحاث الاتية ما يكشف بوضوح عجز الماركسية - على افتراض تسليم جميع مقدماتها - عن تقديم تفسير مقنع لنشأة الكون. وسنرى أنها تعمد إلى غيبيٍّة تتناقض مع أحكام العقل. وسأكشف من الزيف العلمي والتضليل الفلسفي في الماركسية.

وقد أعلن الأستاذ نسيب نمر (في مجلة الأحد/ ٢٩ آذار ١٩٧٠ - العدد / ٩٧٢) بعد أن انكشف عجز الماركسية وإفلاسها - براءة الماركسية من الدكتور صادق جلال العظم ومن أفكاره، بدعوى أن أفكاره ليست ماركسية بدرجة كافية، وأنه لم يتناول موضوعه تناولاً علمياً صحيحاً، وإلا لما تغلب عليه ناقده محمد مهدي شمس الدين.

ولا أدري لماذا طبل الماركسيون هنا وفي كل مكان للدكتور وزمروا، واعتبروا كتابه نموذجاً رائعاً للفكر الماركسي في مقابل الفكر الديني، ورأوا فيه انتصاراً كاسحاً للماركسية على الدين. كان هذا موقفهم قبل أن نذيع سلسلة مقالاتنا في نقد الكتاب موضوع البحث، فلما تبين من خلال هذه المقالات البؤس الفكري الذي يظهر جلياً في الكتاب المذكور،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174