مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني22%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65381 / تحميل: 8208
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

موقفان:

وإذن، فثمة موقفان لابليس نتجا عن هذه التجربة، وكلاهما سلبيان:

احدهما موقفه من آدم، وهو موقف احتقار، لأنه لاحظ أن آدم - في نظره من عنصر منحط: «طين، صلصال من حمأٍ «مسنون»

وثانيهما موقفه من اللّه تعالى، وهو موقف التكبر، فقد رفض امتثال الأمر الإلهي تكبراً منه: «لم أكُنْ لأسْجُدَ لبشرٍ... انا خير منه».

الحرية وشبهة الإغواء:

وهذان الموقفان قد اتخذهما ابليس بحريته، ولم تتدخل الارادة الإلهية التكوينية في حمله على اتخاذ موقف اتخذه.

يدلنا على ذلك - مضافاً إلى المبدأ العام الذي قدمناه في مطلع هذا الحديث - يدلنا على ذلك أيضاً أن ابليس علل موقفه السلبي من السجود بانه خير من آدم، فهو لأنه خير من آدم - في زعمه - يكن عاطفة الاحتقار له، من هنا تكبر على اللّه فرفض امتثال أمره القاضي بالسجود لآدم.

قد يقال هنا استناداً إلى النص القرآني: أن ابليس كان مسيراً في موقفه، وأنه لم يتخذ قرار الرفض بحرية. والنص القرآني هو قوله تعالى:

( ...قَالَ: رَبّ بما أَغْوَيْتنَي لأُزَيِنَنّ لَهُمْ في الأرضِ وَلأُغْوِيَنّهُم أجْمعَين ) (١) .

____________________

(١) سورة الحجر الآية ٣٩.

١٠١

١ ( صراطكَ المُسْتَقيم. ثُمّ لآتيَنّهُم من بين أيْديهم وَمِنْ خلِفْهِم وَعَنْ أيمَانِهم وَعَن شَمَائلهم وَلا تَجِدُ أكثَرهُم شَاكرين ) (١) .

٢( ... قَالَ: فَأخرُج منها فَانّك رَجيم. وأنّ عليَكَ اللعْنَةَ إلى يومِ الدّين. قَالَ: رَبّ فَأنظرني إلى يَومِ يِبُعَثونَ. قَالَ: فإنّكَ منَ المُنظرين. إلى يومِ الوَقتِ المَعلُوم. قَال: رَبّ بمَا أَغَوَيتنَي لأُزيّنَنّ لَهُم في الأرْضِ وَلأغوينّهم أجمَعين إلاّ عِبَادكَ منهم المُخلصين ) (٢) .

٣( قَالَ: فَبعزّتك لأغوِيَنّهُم أجمَعين. إلاّ عبَادَكَ منهُم المُخلَصين ) (٣) .

٤( قال: أَرأَيتَكَ هَذا الذي كرَّمتَ عَليَّ لئن أَخرتَنِ إلى يوم الِقيامَة لأحتِنكنَّ ذُرِّيِّتَه إلا قليلاً ) (٤) .

تُعلِّمنا هذه الآيات كيف أن ابليس غدا عاملاً شريراً في العالم الانساني، ومن خلال الصراع مع إغوائه وإضلاله يمارس الانسان حرية الاختيار بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال.

ولم يترك الانسان معزولاً أمام قوّة الشر الجديدة التي نشأت بسبب موقف ابليس. وإنما عزز موقف الانسان في مقابل قوة الشر: عزز بالفطرة المستقيمة التي فطر عليها والتي بها يدرك وبها يميز بين الحق

____________________

(١) سورة الاعراف الآية ١٣ - ١٧.

(٢) سورة الحجر الآية ٣٤ - ٤٠.

(٣) ص ٨٢ - ٨٣.

(٤) سورة الاسراء الآية ٦٢.

١٠٢

والباطل٧ وهذه الفطرة قوة داخلية تعين الانسان الذي يختار طريق الحق على التمييز وعلى إدراك المواقف الصالحة. وعزز بعامل خارجي هو قوى خيّرة سخرها اللّه تعالى لتعزز موقف الانسان أمام اغراءات الشر وتثبته، وقد عبر اللّه عنها في قوله تعالى:

( إنَّ الذيَن قَالوا ربُّنا اللّهُ ثُمّ استَقاموا تَتَنزَّلُ عَلَيهم المَلائكَةُ أن لا تَخاَفُوا وَلا تَحزنُوا وابشروا بالجِنّةِ التي كُنتُم تُوعدُون. نَحنُ أولياءكُم في الحيَاةِ الدُنيا ) .(١)

واللّه سبحانه وتعالى قبل كل شيء وفوق كل شيء يمنح المعونة والتسديد والهداية والتوفيق لمن يؤثر الاستقامة والصلاح. قال تعالى:

( والّذينَ جَاهَدُوا فينا لَنَهديَنّهم سُبُلنَا وإنّ اللّه لمَعَ المُحسنين ) (٢) .

***

بقي علينا - قبل انهاء هذا الموجز عن قصة ابليس القرآنية - أن نبحث عن أُمور: الأول إن ابليس أُمر بالسجود فلمن السجود؟. والثاني أن معنى السجود ما هو؟ والثالث عن مغزى السجود ما هو؟

١ - لمن السجود؟

إن الآيات التي ورد فيها أمر الملائكة وابليس بالسجود في سورة

____________________

(١) سورة حم السجدة الآية ٣٠ - ٣١.

(٢) سورة العنكبوت الآية ٦٩.

١٠٣

البقرة (آية ٣٤) وسورة الاعراف (آية ١٠) وسورة الاسراء (آية ٦١) وسورة الكهف (آية ٥١) وسورة طه (آية ١١٦) ورد فيها الأمر بالسجود لآدم، ففي هذه الآيات يرد هذا النص:( قُلنَا للمَلائكةِ اسجُدُوا لآدَمَ.. ) . ولكن الأمر بالسجود ورد في سورة ص (آية ٧١ - ٧٢) بالصورة التالية:( ... إنّي خَالق بَشَراً من طينٍ، فإذا سَوّيتهُ وَنَفختُ فيهِ من روُحي فَقَعُوا له سَاجدين ) وفي سورة الحجر (آية ٢٨ - ٢٩):( ... إنّي خَالق بَشَراً من صَلصَالٍ من حمأٍ مَسنُون. فإذا سَوّيتُه وَنفَختُ فيهِ من روُحي فقعوا لهُ سَاجدين ) .

والظاهر أن المراد بالبشر في الآيتين الآخيرين هو آدم. والتعبير عنه بالبشر في الآيتين ربما يكون المراد منه الاشارة إلى معنى سننبه عليه فيها بعد.

وهنا يواجهنا سؤال: هل السجود كان لآدم بما هو شخص أو أن السجود للنوع الانساني، وآدم رمز للنوع؟

يبدو أن الهدف من السجود كان تعظيم النوع الانساني كله، ولاظهار فضل الخليقة الانسانية على الخلائق الاخرى كلها، ولم يكن آدم إلا رمزاً ومثالاً للنوع الانساني.

تدلنا على ذلك الآية الحادية عشرة من سورة الاعراف:( وَلقَد خلقَنَاكُم، ثُمّ صَوّرنَاكُم، ثُم قُلنا للمَلائكةِ اسجدُوُا لآدَمَ... )

١٠٤

فان الخطاب: «وَلَقَد خلَقنَاكُم ثُمّ صَورنَاكُم...» لجميع النوع الانساني، ومن بعد هذا الخطاب جاء قوله تعالى: «..ثم قلنا للملائكة اسجدوا..» فالسجود لآدم بما هو ممثل للنوع الذي خلقه اللّه وصوره.

وهذا المعني - وهو أن السجود ليس لآدم باعتباره شخصاً، وإنما السجود للنوع الانساني وآدم رمز ممثل لهذا النوع - هذا المعنى يظهر بصورة جلية في الآيات المتعلقة بالموضوع في سورة البقرة (٣٠ - ٣٤) ففي الآيات بين اللّه انه سيجعل في الأرض خليفة، ومن المعلوم أن خلافة اللّه في الأرض ليست مختصة بآدم، وانما هي ثابتة لجميع افراد النوع الانساني. وبعد أن بين اللّه في تلك الآيات هذه الحقيقة - الخلافة في الأرض - امر الملائكة بالسجود لآدم، فالسجود لآدم باعتبار الخلافة، ولما لم يكن هذا الاعتبار مختصاً به، بل هو شامل لجميع ذريته، فالسجود إذن لجميع ذرية آدم أي للنوع الانساني كله، لأن مقياس عظمة هذا النوع وكرامته وهو خلافة اللّه في الارض موجود في جميع الافراد.

٢ - معنى السجود:

العبادة هي ان يجعل الانسان نفسه في مقام العبودية للّه تعالى، وحقيقة العبودية هي التسليم المطلق والاستسلام الكامل لارادته تعالى. فالعابد هو الذي يجعل نفسه في مقام الطاعة المطلقة والانقياد التام لأوامر اللّه ونواهيه.

ويعبر عن العبادة باشكال شتى من جملتها الحركات الجسدية، ومن جملة الحركات الجسدية السجود.

١٠٥

فالسجود في بعض الحالات يكون تعبيراً جسدياً عن العبادة، كالسجود في الصلاة الاسلامية، وهو في هذه الحالة وضع الجبهة على الأرض تذللاً وتخشعاً للّه تعالى.

ويمكن أن يكون السجود تعبيراً عن الاحترام والتعظيم فقط، وحينئذٍ يتجرد من معنى العبادة، ومثال ذلك ما ورد في قصة يوسف:( ...وَرَفَع أبَوَيهِ عَلى العَرشِ وَخَرّوا لَه سُجّداً ) (١) . فان يعقوب وابناءه لم يسجدوا ليوسف سجود عبادة، كيف ويعقوب نبي؟، بل سجدوا شكراً للّه وتعظيماً وتكريماً ليوسف على منزلته التي بلغها في مصر.

ويمكن أن يكون السجود تعبيراً عن السخرية والاستهزاء بالمسجود له.

وإذن فالسجود بما هو حركة جسدية معينة لا يلازم معنى العبادة دائماً، بل قد يفارقه كما رأينا. فيمكن أن تكون عبادة ويمكن أن لا تكون عبادة، وذلك بحسب المعنى الذي تتضمنه وترمز إليه.

إلا أنه ينبغي التنبيه على أن السجود في الذوق الاسلامي المستفاد من الكتاب والسنة لا يكون إلا للّه تعالى بنحو العبادة، ولا يجوز السجود لغير اللّه تعالى: بقصد التعظيم والتكريم الا بأمر إلهي خاص.

وهنا نصل إلى بحث مشكلة سجود الملائكة لآدم.

فسجود الملائكة لآدم باعتباره ممثلاً للنوع الانساني ثم وفقاً لأمر إلهي خاص، وهو بهذا الاعتبار ينطوي على جهتين: الاولى أنه عبادة للّه تعالى من حيث كونه طاعة لأمره بالسجود. والثانية انه تعظيم للنوع الانساني.

____________________

(١) سورة يوسف الآية ١٠٠.

١٠٦

لاعبادة - وإقرار بسيادته وافضليته من حيث اختيار اللّه له للخلافة في الأرض.

***

بهذا البيان يتضح لنا خطأ المؤلف (في ص ٩٠، وغيرها) حين يكرر في اكثر من موضع ما يفيد ان السجود لا يكون إلا عبادة، وأن ابليس لم يسجد، لأنه لم يرد ان يشرك بعبادته للّه احداً، وسنعالج هذه النقطة في موضعآخر أيضاً.

٣ - مغزى السجود:

إن الغاية من أمر الملائكة وإبليس بالسجود للحقيقة الانسانية ممثلة في آدم هي اظهار ان جميع القوى الكونية مسخرة لأجل الانسان وتقدمه، وذلك لأن الملائكة أسباب إلهية وأعوان للانسان على تقدمه الروحي والمادي، وسعادته الاخروية والدنيوية. وذلك لأجل تأكيد معنى خلافته في الأرض.

ومن هنا فرفض إبليس للسجود - وهذه هي الغاية من السجود - تعبير منه عن رفضه الاعتراف بالمنزلة التي أعطاها اللّه للانسان، ورفضه لأن يجعل نفسه حيث أراده اللّه أن يكون: عاملاً في سبيل تقدم الانسان وسعادته الروحية والمادية.

وقد أدرك إبليس المنزلة العالية التي جعلها اللّه للانسان، وأدرك أن الأمر بالسجود نتيجة لذلك، فرفض الاعتراف بهذه الحقيقة، وبدلاً

١٠٧

من أن يجعل نفسه عاملاً في سبيل تقدم الانسان جعل نفسه - على الضد من ذلك - عاملاً في سبيل تأخر الانسان وشتاته قال تعالى على لسان إبليس يوضح موقفه:( قَالَ: أرَأيتَكَ هَذا الّذي كَرّمتَ عَليّ لَئن أخّرتَنِ إلى يَومِ القيَامَةِ لأحتَنِكَنِّ ذُرّيَتَه إلا قليلاً ) (١) .

***

بعد هذا الاستعراض السريع لأبعاد مسألة إبليس من وجهة النظر الإسلامية نعود إلى المؤلف، فنقف معه على بعض الأخطاء التي تورط فيها في فهمه لهذه القصة وذلك نتيجة لعدم اطلاعه على المصطلحات وعدم معاناته للمصادر الأساسية التي يجب أن تعتمد في هذه الدراسة.

***

قال المؤلف (في ص ٨٩):

«تبدو قصة إبليس كما وردت في هذه الآيات (القرآنية) بسيطة في ظاهرها. ولقد أمره اللّه أن يقع ساجداً لآدم فرفض، وكان ما كان من شأنه. غير أنا لو أردنا أن نتجاوز هذه النظرة السطحية الى مشكلة إبليس لرجعنا إلى فكرة هامة قال بها بعض العلماء المسلمين، وهي التمييز بين الأمر الإلهي وبين المشيئة والارادة الإلهية، فالأمر بطبيعة الحال اما أن يطاع وينفذ

____________________

(١) سورة الاسراء الآية ٦٢.

١٠٨

واما أن يعصي وللمأمور الخيار في ذلك. اما المشيئة الإلهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات لأنها بطبيعتها لا ترد... لقد شاء اللّه وجود أشياء كثيرة غير انه أمر عباده بالابتعاد عنها، كما أنه أمرهم بأشياء ولكنه أرادهم ان يحققوا أشياء اخرى، لذلك باستطاعتنا القول بأن اللّه أمر إبليس بالسجود لآدم، ولكنه شاء له أن يعصى الأمر، ولو شاء اللّه لإبليس أن يقع ساجداً لوقع ساجداً لتوه، إذ لا حول ولا قوة للعبد على رد المشيئة الإلهية».

هذا النص هو العمود الفقري في نظرية المؤلف عن قصة إبليس من وجهة النظر الإسلامية، وسيتضح لنا مدى خطأ المؤلف في فهمه لهذه القصة، وسيتضح لنا أن نتيجة انكشاف خطأه هو تساقط جميع النتائج التي رتبها على هذا الأساس:

١ - يعترف المؤلف بأن قصة إبليس - من خلال النصوص القرآنية - تبدو واضحة وبسيطة، ولا تشكل أي مأساة، وليس فيها أي تعقيد ولا غموض. ولكن بما أن المؤلف يريد أن يحصل على «بطولة فكرية» فهو يستعين ب‍ «بعض العلماء المسلمين» لينظر إلى القصة من زاوية أُخرى ونسأل المؤلف أولاً: من هم هؤلاء العلماء المسلمون (لا بد أن الحلاج منهم!! ‍‍‍)؟ وثانياً: ماذا يقول هؤلاء العلماء المسلمون؟ انه لم يبين لنا قولهم لنرى ما إذا كان قد فهم نصوصهم إذا كانوا من العلماء المسلمين حقاً. وثالثاً: فلنفترض انه يوجد علماء مسلمون أخطأوا في الفهم، فخلطوا بين مجال عمل الارادة التشريعية، ومجال عمل الارادة

١٠٩

التكوينية، فهل من العلم وهل من المنهج العلمي أن نصدر أحكاماً حاسمة اعتماداً على قول بعض العلماء ونترك فهم أكثر العلماء، مع اعترافنا بأن القصة في مصدرها الأساسي (القرآن) تبدو واضحة وبسيطة، ليس فيها أي عنصر مأساوي. ولكن عفواً، لقد غفلت عن ان المؤلف يريد أن يحصل على «بطولة فكرية» باكتشافه لعنصر المأساة في قصة إبليس، وستفوته هذه الفرصة لو انه سلك في بحثه مسلك العلماء الامناء للمنهج العلمي، فلنترك المنهج العلمي، ولنلفق، ولنصرف النصوص عن دلالاتها، ولنستعين بمصادر أجنبية عن طبيعة بحثنا، كل ذلك من أجل أن نحصل - بهذه الأساليب - على بطولة فكرية.

٢ - ان اللّه لم يأمر عباده بأشياء أراد عدم وجودها، ولم ينه عن أشياء أراد وجودها. وهذا الفهم من المؤلف فهم خاطئ نتيجة لخلطه بين مجال الارادة التشريعية ومجال الارادة التكوينية. ان اللّه أمر عباده ونهاهم وأعطاهم حرية الاختيار، وحقق لهم أقصى الحرية حين يسر لهم أن يحققوا ارادتهم وينتقلوا بها من المجال النظري المحض إلى مرحلة التنفيذ في عالم الواقع، أما الأشياء التي يريدها اللّه بالارادة التكوينية فهي ليست أفعال العباد كما رأينا.

وإذن، فقد أمر اللّه إبليس بالسجود لآدم بالأمر التشريعي، وترك له حرية اختيار قراره باطاعة هذا الأمر او عصيانه، وحينما اختار إبليس المعصية وعدم السجود مارس حريه المطلقة، وترتب على ذلك نتيجة المعصية، وهي الطرد واللعنة، وذلك لأن الحرية تلازمها المسؤولية.

٣ - لقد رتب المؤلف (في ص ٩٠ وما بعدها) ثلاث نتائج على

١١٠

تحليله السابق الذي بينا وجه الخطأ فيه:

النتيجة الأولى : ان إبليس وان خالف الأمر الإلهي إلا انه كان منسجماً مع المشيئة الالهية.

ونقول : هذا خطأ، فقد بينا أن المشيئة (الارادة التكوينية) لا دخل لها في أفعال العباد، وإنما أمر اللّه إبليس بالسجود، وترك له حرية الاختيار، وقد اختار العصيان.

النتيجة الثانية : ان إبليس لو وقع ساجداً لآدم لخرج عن حقيقة التوحيد (...) إذ أن السجود لغير اللّه لا يجوز على الاطلاق لأنه شرك به (...) نستنتج إذن أن موقف إبليس يمثل «الاصرار المطلق على التوحيد».

هذا خطأ: لما بيناه من أن الخروج عن حقيقة التوحيد بالسجود لغير اللّه إنما يكون لو كان السجود لغير اللّه بنحو العبادة، وأما إذا كان بنحو التعظيم والتكريم فلا يعد عبادة، ومن ثم فلا يكون خروجاً عن حقيقة الوحيد، وقد أطاع الملائكة الأمر الإلهي بالسجود فلم يخرجوا عن حقيقة التوحيد، بل أكدوا إخلاصهم في التوحيد بخضوعهم للأمر الإلهي، أما إبليس فقد واجه الأمر الإلهي بالكبرياء، واظهار «الأنا» كما بينا ونبين فيما يأتي. موقف إبليس لا يمثل «الاصرار المطلق على التوحيد» وإنما يمثل خلق التكبر والكفر بأجلى صوره، وأحط معانيه. ولو كان موقف إبليس ناجماً عن اصراره على الوحيد لعلل موقفه بالتزام خط التوحيد المطلق، ولكنه لم يعلل موقفه بذلك، وإنما علله بأنه خير من آدم لأن آدم من طين أو من صلصال،( .. قال: أرَأيتَكَ هَذا الذي كَرّمتَ عَليّ، لَئن أخرّتَنِ إلى يَومِ القيامَة

١١١

لأحتَنكَنّ ذُرّيتَه إلا قَليلاً ) (١) .

تناقض:

ومن تناقضات المؤلف انه يقول في هذه الفقرة عن ابليس انه مثل الاصرار المطلق على الوحيد، بينما يصرح في الفقرة التي بعدها أن إبليس برر موقفه - لا بالتوحيد - وإنما بالعنصرية، وانه حلق من نار بينما خلق آدم من طين.

النتيجة الثالثة : ذكر المؤلف حجتين استند إليهما إبليس في رفض السجود.

الاولى : ان إبليس مخلوق من عنصر أعلى في مرتبة الكمال من عنصر آدم.

الثانية : أن آدم وذريته سيعيثون في الأرض فساداً.

والمؤلف مخطئ في تحليله المذكور.

اما بالنسبة إلى الحجة الاولى نقول للمؤلف: انه ليس في الإسلام - ولا في أي دين آخر فيما أعلم - سلم تقييمي للعناصر والأجسام يجعل أحدها أفضل من الآخر، وليس لدينا في الإسلام نصوص توحي بذلك فضلاً عن أن تدل عليه. ليست النار أفضل من الطين، ولا الطين أحط من النار، ولا لأي عنصر فضل على أي عنصر آخر. ولكن ما العمل إذا كان المؤلف يتعسف ليختلق خيالات تجعل فكرته منسجمة.

وأما بالنسبة إلى الحجة الثانية: فإن الاعتراض هو من الملائكة، وإبليس

____________________

(١) سورة الاسراء الآية ٦٢.

١١٢

كما بينا ليس منهم، فقد قالوا عندما علموا بخلق آدم وخلافته في الأرض، وسيادته عليهم: «أتَجعَلُ فيها مَن يُفسدُ فيها وَيَسفكُ الدّماء...» وقد بين اللّه لهم السر في تفضيل النوع الانساني:

( ... وَعَلّم آدَمَ الأسمَاء كُلّها ثُم عَرَضَهم عَلى المَلائكةِ فَقَالَ أنبئُوني بأسماءِ هَؤُلاءِ إن كُنتم صَادقين. قَالُوا سُبحانَكَ لا علم لَنَا إلا ما عَلّمتَنَا إنّكَ أنتَ العَليم الحكيم. قَالَ يَا آدَمُ أنبئَهُم بأسمَائهم فَلمَا أنبَأَهُم بأسمَائهم، قَالَ ألم أقُل لَكُم إني أعلَمُ غَيبَ السّموات والأرض وَأعلَمُ ما تُبدونَ ومَا كنتم تَكتُمون ) (١) .

ثم انه كان على إبليس أن يطيع الأمر الإلهي كما اطاعه الملائكة بعد أن بين اللّه لهم، فكان عصيانه إستكباراً موجباً للعقاب.

***

قال المؤلف (في ص ٩٢):

«لذلك سنرى فيما بعد أن أمر السجود لم يكن أمر مشيئة، وإنما كان أمر ابتلاء».

هنا يكشف المؤلف - كما في كثير من كتابه - عن عدم وضوح المفاهيم لديه.

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٠ - ٣٣.

١١٣

إن أمر الابتلاء (الأمر الامتحاني) قسم من الأمر الشريعي وهو أمر صوري المقصود منه في الحقيقة تربية الارادة الانسانية على الاذعان المطلق لارادة اللّه. وكشف حقيقة العبد لمجتمعه، ومدى ثباته على الطاعة وتحمله لكل شيء في سبيلها. (ومن نماذج هذا الأمر الامتحاني أمر ابراهيم بذبح ولده).

هذا هو الأمر الامتحاني أو أمر الابتلاء كما يسميه المؤلف.

بينما نلاحظ أن الأمر بالسجود لآدم ليس أمراً ابتلائياً صورياً وإنما هو أمر حقيقي المطلوب تنفيذه وجعله حقيقة معاشه، ولو كان امراً ابتلائياً لما تم سجود الملائكة لآدم، ولاكتفى منهم باظهار استعدادهم للسجود كما اكتفى من ابراهيم باظهار عزمه تنفيذ أمر الذبح.

ولم يختص إبليس - دون الملائكة - بأمر مستقل حتى يقال انه وحده أُمر ابتلائي، بل ثمة أمر واحد، وجه إلى الملائكة وإبليس معاً: أطاعه الملائكة، وعصاه إبليس.

***

على هذا الضوء:

خلاصة المؤلف الي ذكرها (في ص ٩٢ - ٩٣ ) غير صحيحة.

ان قصة إبليس هي قصة كل مخلوق عاقل مدرك يوضع امام الاختيار بين الخير والشر، فيختار الشر والجريمة. وقد اتضح مما ذكرنا أيضاً أن مناقشة المؤلف للعقاد (ص ٩٤ - ٩٦) غير صحيحة أيضاً، فإنها مبنية على المقدمات والنائج التي بينا بطلانها سابقاً.

***

١١٤

في (ص ١٠٥ - ١٠٦ ) يصور المؤلف إبليس وهو مسوق إلى قدر محتوم لا فكاك منه، ويستشهد على ذلك بحديث قدسي، وكلام للحلاج، وبآية «انا كل شيء خلقناه بقدر» وقد بينا رأينا في مستهل هذا الحديث في قيمة ما يسمى بالأحاديث القدسية، وكذلك في فهم الحلاج لقصة إبليس. أما الآية فهي بعيدة جداً عن الدلالة على مقصد المؤلف. ان القدر في الآية من المقدار - وتعني النظام وعدم الفوضى والعبث، ولا تعني الجبر، وقد بحثنا هذا الموضوع في موضع سابق من هذا الحديث، وبينا أن إرادة اللّه التكوينية لا دخل لها بأفعال العباد.

وكلام المؤلف (في ص ١٠٧) عن المقارنة بين آدم وإبليس خطأ أيضاً، فقد نهى اللّه آدم عن الأكل من الشجرة وتركه حراً، وحين خالف آدم الآمر الإلهي وتلقى نتيجة مخالفته تاب، فتاب اللّه عليه. وكذلك الحال بالنسبة إلى إبليس لقد أمر اللّه إبليس بالسجود لآدم وتركه حراً، فعصى وتلقى نتيجة عصيانه، ولم يتب وإنما أصر على موقفه فتحمل مسؤولية هذا الموقف.

كبرياء ابليس:

في (ص ١٠٨ - ١١٠) عالج المؤلف عاطفة الكبرياء عند إبليس باعتباره بطلاً مأساوياً. ويميز بين نوعين من الكبرياء: أحدهما الكبرياء التي تعني التعجرف وثانيهما الكبرياء المأساوية. ويرى المؤلف أن كبرياء إبليس من النوع الثاني.

أما نحن فنرى ان كبرياء إبليس من النوع الأول. يتضح ذلك حين

١١٥

نحلل عاطفة الكبرياء. ان الكبرياء تعني رفض الواقع والتعالي عليه. ولكن تارة يكون حقاً فتكون الكبرياء عجرفة، وأُخرى يكون الواقع فاسداً وظالماً وباطلاً وحينئذٍ تكون الكبرياء بطولة وتكون تعبيراً عن الكرامة.

على هذا الضوء تبدو لنا كبرياء إبليس عجرفة لا مبرر لها. انه أُمر بالسجود لآدم من قبل السلطة التي لها حق الأمر وهي اللّه، فهذا اذن واقع، وهو واقع حق، فإن آدم جعله اللّه خليفه في الأرض وسخر جميع القوى الكونية ومنها الملائكة وابليس لخدمته ومعونته على بلوغ الكمال في تحقيق هذه الغاية، ولكن إبليس غروراً منه، رفض الانصياع إلى هذا الواقع، ولم يستجب له، فكان تكبره عجرفة سخيفة، بينما كان اعتراف آدم بواقعه فضيلة خلصته من الذنب والمعصية.

بين قصة ابراهيم وقصة ابليس

في الصفحات (٩٩ - ١٠٠ و ١٠٢ - ١٠٣ و ١١٢ وما بعدها) قارن المؤلف بين قصة إبراهيم في أمره بذبح ولده، وبين قصة إبليس في أمره بالسجود. وخرج من هذه المقارنة بأن قصني إبليس وابراهيم متشابهتان في ان كل واحدة منهما مأساة، إلا أن العنصر المأساوي في قصة ابليس أبلغ وأعظم.

ونحن نرى أن المؤلف مخطئ في المقارنة، وبالتالي فهو مخطئ في الاستنتاج، لأنه ليس ثمة أية علاقة بين قصة ابراهيم وبين قصة ابليس، بل نلاحظ أن بينهما جملة من الفوارق:

الأول : ان امر ابراهيم بذبح ولده اسماعيل كان امراً امتحانياً (كما انكشف فيها بعد - «وفديناه بذبح عظيم» والأمر الامتحاني يراد منه - كما ذكرنا آنفاً - تربية إرادة ابراهيم واسماعيل على الطاعة المطلقة والاذعان التام للارادة الالهية من جهة، واظهار فضلهما للمجتمع بانقيادهما التام لارادة اللّه تعالى من جهة أُخرى.

١١٦

وأما أمر ابليس والملائكة بالسجود لآدم فكان تكليفاً حقيقياً يراد منه تحقيق مضمونه في الخارج، وتحويله إلى عمل معاش.

الثاني : ان ابراهيم حين تلقى الأمر الالهي بذبح ولده ( ولم يكن يعلم انه امر امتحاني بطبيعة الحال) سرعان ما عزم على تنفيذ هذا الأمر. قال اللّه تعالى في حكاية حال ابراهيم في موقفه ذاك:

( .. فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعيَ قَالَ يَا بُنَيّ إنّي أرَى في المَنَامِ أنّي أذبَحُك فَانظُر مَاذَا تَرى. قَالَ: يَا أبَتِ افعَل مَا تُؤمَر سَتَجُدني إنشَاء اللّه منَ الصّابرين. فَلَمّا أسلَما وَتَلّهُ للجَبين )

اما ابليس فحين تلقى الأمر الالهي بالسجود، رفض اطاعة هذا الأمر، ولم يرفض لأنه حريص على الوحيد المطلق - كما يكرر المؤلف الذي بينا خطأ نظريته هذه - أولاً: لأن السجود المأمور به لا ينافي التوحيد، ولذلك بقي الملائكة موحدين بعد أن سجدوا. وثانياً: لأن ابليس لم يعلل موقفه السلبي بهذه العلة، وانما علل موقفه بالعنصرية، والتكبر، واحتقار آدم.

الثالث : ان عاقبة انقياد ابراهيم لتنفيذ الأمر الالهي هي الكرامة والسعادة، قال اللّه تعالى:( ... فَلَمّا أسلَما وَتَلّهُ للجبَين. وَنادينَاهُ أن يَا إبراهيم قَد صَدَّقت الرّؤيا إنّا كَذَلك نَجزِي المُحسنين. إنّ هَذا لَهُوَ البَلاءُ

____________________

(١) سورة الصافات الآية ١٠٢ - ١٠٣.

١١٧

المُبين* وَفَديناهَ بذبحٍ عَظيم*وَتَرَكنَا عَلَيه في الآخرين*سَلام عَلى إبراهيم*إنا كَذَلك نَجزي الُمحسنين*إنّهُ من عبَادِنا المؤمنين ) (١)

هذه هي عاقبة ابراهيم. اما عاقبة ابليس فكانت على العكس من ذلك: لعنة، وطرداً ورجماً.

واختلاف النتيجتين ليس إلا لاختلاف الموقفين: موقف ابراهيم موقف الطاعة، وموقف ابليس موقف الجحود والطغيان.

اذن لا علاقة بين قصة ابراهيم التي هي قصة القداسة والطاعة المطلقة، وبين قصة ابليس التي هي قصة الجحود والعصيان والجريمة.

وإلى اللقاء مع المؤلف في الحديث عن «المكر الإلهي».

____________________

(١) سورة الصافات الآية ١٠٣ - ١١١.

١١٨

المكر الالهي

- ١ -

حاول المؤلف (في ص ١١٩ - ١٢٨) «إيجاد تعليل ديني مقبول» لما فهمه - خطأً - من قصة إبليس. وبعد أن استعرض في (ص ١١٩ - ١٢٠) ما سماه «المفارقات» في قصة إبليس، وعلاقته باللّه، قال: «أعتقد أن الصفة الإلهية التي نبحث عنها للاجابة على هذه الأسئلة هي صفة المكر».

ثم عرض بعض الآيات التي ورد فيها لفظ المكر والاستهزاء والاملاء والخديعة. واستخلص منها أن اللّه يمكر بعباده و«لم يكن أمر الابتلاء اذن سوى أداة المكر الإلهي، غايتها نفيذ أحكام المشيئة، وتبريرها أمام مخلوقاته، فتصبح بذلك مقبولة في أعينهم (...) ولكن المكر الإلهي يتدخل ليجعل الأُمور تبدو للعباد على غير ما هي عليه، أي ليجعل المشيئة وكأن لها غايات ومبررات وأسباباً (...) رددنا مراراً أن اللّه هو صانع الخير والشر (...) ولكن من مكره أراد للعباد أن يعتقدوا غير ذلك..» (ص ١٢٣ - ١٢٥).

١١٩

وقد عزز المؤلف هذه الأحكام الإعتباطية التي لا أساس لها من الصحة اطلاقاً بالاستشهاد بالنصوص الصوفية وما يسمى بالأحاديث القدسية، وقد نبهنا فيما سبق على أن هذه الشواهد عديمة القيمة من حيث كونها مصدر لفهم القصة القرآنية.

يبدو اللّه في الإسلام من خلال استنتاجات المؤلف بعد «اكتشافه» للمكر الإلهي - يبدو اللّه كائناً شريراً، مخادعاً، عابثاً، لاعباً، يبدو اللّه وكأنه أحد آلهة اليونان القديمة في أن فيه كثيراً من نقائص البشر، وليس فيه الكثير من كمالاتهم.

والمؤلف مخطئ في بحثه، وفي فهمه لما أسماه «المكر الإلهي»، وفي استنتاجاته أخيراً بطبيعة الحال.

ولكن من أين جاء الخطأ؟.

لقد قلت أكثر من مرة في الحلقات المتقدمة من هذا البحث أن المؤلف جاهل بموضوع نقده، وهو الدين الإسلامي، وأُضيف هنا إلى ما تقدم أن المؤلف غير متمكن - بصورة باعثة على الأسف - من لغة القرآن وأساليبه البلاغية.

هو غير متمكن من اللغة العربية، ودليلي على ذلك كثرة الأخطاء التي يقع فيها باستمرار. ولو كان المؤلف يكتب بلغة غير لغته لما اغتفر له ذلك، لأنه يكتب في موضوع من أخطر موضوعات الفكر الانساني، فكيف وهو يكتب بلغته هو، لغة بلده وقومه، ويتناول بكتابته نقد نصوص مكتوبة باللغة نفسها.

١٢٠

عن أي شيء يكشف هذا؟ انه يكشف عن أن عقل المؤلف قد تكون في مناخ غير عربي، ويبرر لنا القول بأن المؤلف ليس مؤهلاً للكتابة عن نقد الفكر الديني الإسلامي.

وهو غير متمكن من لغة القرآن وأساليبه البلاغية. ودليلي على ذلك كثير من الشواهد الصغيرة التي مرت عليّ في كتابه، ودليلي الكبير على ذلك بحثه عن المكر الإلهي، موضوع حديثنا الآن. إن القرآن ليس كلاماً بسيطاً عادياً ليمكن تناوله وفهمه ببساطة وكأننا نتحدث مع بعضنا، أو كأننا نقرأ جريدة. إن القرآن عند المؤمن به وحي إلهي معجز في بلاغته، وعند غير المؤمن به كلام يعتبر نموذجاً أعلى اللبلاغة العربية، ولذا فلا بد - لأجل فهمه بشكل صحيح - من الاحاطة التامة بقواعد البلاغة العربية، وأساليب البيان العربي. إن أي أُستاذ للأدب لا يجرؤ على تناول نص أدبي عادي بالنقد ما لم يتخذ له أهبته، ويستعد له بما يلزمه من معرفة، فكيف بالمؤلف وهو يتناول النصوص القرآنية دون أن يملك الأداة الي تجعله قادراً على فهمها بصورة صحيحة.

وثمة شيء أساسي اخر يجب أن يتحلى به الباحث - ناقداً كان أو غير ناقد - عندما يتناول نصاً من النصوص، وهو الأمانة الفكرية: يجب أن يعرض النص بتمامه ليحيط بجميع عناصره، ويفهم جميع علاقاته الداخلية، وبذلك يستطيع أن يكوّن عنه فكرة صحيحة أو مقاربة. أما أن يبتر النص، ويختار منه المقطع الذي يؤيد هواه، فهذا ليس من الأمانة الفكرية في شيء. انه أحق أن يسمى تزويراً فكرياً. وسنرى في هذا الحديث أن الأمانة الفكرية كانت عنصراً مفقوداً عند المؤلف - ربما بسبب عدم تمكنه من لغة القرآن وأساليبه البلاغية - فإنه في نقله للآيات

١٢١

القرآنية التي جعلها شواهد على «اكتشافه» للمكر الإلهي، لم ينقل النصوص كاملة، وإنما وقع اختياره منها على مقاطع معينة توهم انها تؤيد هواه ونظريته، وعزلها عن علاقاتها بغيرها من المقاطع الأُخرى في النص الذي تناول الواقعة.

- ٢ -

لقد وردت مشتقات مادة (م ك ر) في ست وعشرين آية من القرآن، وذلك في السور التالية:

«آل عمران. الأنعام. الأعراف. الأنفال. يونس. يوسف. الرعد. إبراهيم. النحل. النمل. المؤمن. نوح. فاطر. سبأ».

ومشتقات هذه المادة ليست مضافة إلى اللّه تعالى في جميع مواردها، وإنما هي مضافة إلى اللّه بشكل أو بآخر في ست آيات فقط، وهي الآيات التالية:

١ - في شأن عيسىعليه‌السلام ، وإرساله إلى بني إسرائيل، ودعوته لهم إلى الايمان، وكفرهم به:( ... وَمَكَرُوا، وَمَكَرَ اللّه، واللّه خَيرُ الماكرِين ) (١) .

٢ - في شأن أهل القرى: ابتداءً من الآية (٥٩ - ٦٤ - أعراف)

____________________

(١) سورة الأعراف ٥٥٤.

١٢٢

ذكر اللّه طرفاً من قصة نوح مع قومه، وكفرهم به وعقابهم. وفي الآيات (٦٥ - ٧٢) ذكر اللّه طرفاً من قصة النبي هود مع قومه عاد، وكفرهم به، وعقابهم وفي الآيات (٧٣ - ٧٩) ذكر اللّه قصة النبي صالح مع قومه ثمود وكفرهم به. وفي الآيات (٨٠ - ٨٤) ذكر اللّه طرفاً من قصة النبي لوط مع قومه وكفرهم به وعقابهم. وفي الآيات (٨٥ - ٩٣) ذكر اللّه طرفاً من قصة النبي شعيب مع قومه، وانقسامهم بين الكفر والايمان، وعقاب الكافرين منهم. وفي الآيتين (٩٤ - ٩٥) ذكر اللّه قاعدة عامة في الرسل والانبياء مع أقوامهم، وكيف يربي اللّه الانسان ليعي ويؤمن، ثم بعد هذا البيان عن أهل القرى، قال اللّه تعالى:

( وَلَوَ أنّ أهلَ القُرى آمَنُوا وَاتقّوا لَفَتَحَنا عَليَهم بَرَكاتٍ منَ السّمَاءِ والأرضِ، وَلكَن كَذّبُوا فَأخذنَاهُم بمَا كَانُوا يَكسبون. أفَأمنَ أهلُ القُرى أن يأتيهُم بأسُنَا بَيَاتاً وَهُم نَائمون؟ أَوَ أمِنَ أهلُ القُرى أن يَأتيَهُم بأسُنا ضُحىً وَهُم يَلعَبُون؟ أفَأمنُوا مَكرَ اللّه؟ فَلا يأمَنُ مَكرَ اللّه إلا القَومُ الخَاسروُن ) (١) .

٣ - في قوم ثمود ونبيهم صالح، ودعوته لهم إلى الايمان وكفرهم به وتآمرهم على قتله:

( ... وَمكرَوُا مَكراً، وَمَكَرنا مَكراً وَهُم

____________________

(١) سورة الاعراف الآية ٩٦ - ٩٩.

١٢٣

لا يَشعُرونَ. فَانظُركَيفَ كَانَ عَاقبةُ مَكرهم أنّا دَمّرناهم وَقَومَهم أجمَعين ) (١) .

٤ - في شأن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش، وتآمرهم عليه، ونجاته منهم بالهجرة إلى المدينة:( وإذ يمَكُرُ بكَ الّذيِنَ كَفَروا ليثبتُوك أو يَقتُلُوكَ أو يُخرجُوكَ، وَيمَكُرونَ وَيَمكُر اللّه، واللّه خَيرُ المَاكرين ) (٢) .

٥ - ابتداءً من أول سورة يونس يعرض اللّه تعالى صوراً من مواقف المشركين من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن ويذكِّر المشركين بما حدث لأسلافهم من مكذبي الرسالات، ويسفه وثنيتهم، ويذكر طلبهم للمعجزات، ثم يقول تعالى:( وَإذا أذَقنَا النّاسَ رحمَةً من بَعدِ ضَرّاء مَسّتهُم إذَا لَهُم مَكر في آياتنَا قُلِ اللّه أسرَعُ مَكراً، إنّ رُسُلَنَا يَكتُبُونَ مَا تمكُرون ) (٣) .

٦ - بعد أن ذكر اللّه في اول السورة الدلائل الكونية على وجوده وقدرته، وسَّفه افكار الملحدين للحياة الاخرة، واستعجالهم للعذاب مع علمهم بما حدث لمن قبلهم من الامم المشركة، وطلبهم للمعجزات، ثم يذكر الآيات الكونية الدالة على وجوده وقدرته وحكمته وصوراً عن مواقف المؤمنين باللّه، وصورة عن موقف المشركين وعاقبتهم( أولئِكَ

____________________

(١) سورة النحل الآية ٥٠ - ٥١.

(٢) سورة الانفال الآية ٣٠.

(٣) سورة يونس الآية ٢١.

١٢٤

لَهُمُ اللّعنَةُ وَلَهُم سُوء الدّار ) ثم يذكر طلبهم للمعجزة، ثم يذكر المؤمنين، ويذكر استهزاء الامم السابقة بانبيائها، وكيف «زُيّنَ للّذينَ كَفَرُوا مَكرهُم». والجنة وعد بها المتقون، والقرآن، والرسل السابقين، ثم يقول تعالى:

( وَقَدَ مَكَرَ الذينَ من قبَلهم فَللّهِ المكرُ جَميعاً، يَعلَمُ مَا تَكسِبُ كُلّ نَفسٍ، وَسَيَعلمُ الكُفّار لمن عُقبَى الدّار ) (١) .

***

هذه هي الآيات التي ورد فيها المكر منسوباً إلى اللّه تعالى. أما الآيات الاخرى التي وردت فيها صفة الاستهزاء والمخادعة منسوبتين إلى اللّه فموعدنا معها بعد الحديث عن «المكر الإلهي». فلنحاول الآن أن نفهم كيف ينسب اللّه المكر إلى نفسه، وما المراد من ذلك؟.

- ٣ -

إن المكر من العبد هو الحيلة والخديعة. والمكر من اللّه هو المجازاة والعقوبة على الذنب. والتعبير عن المجازاة والعقوبة على الذنب في هذه الموارد بلفظ «المكر» مظهر من مظاهر البلاغة العربية. وهذا النحو من البيان يسمى في البلاغة العربية «المشاكلة» و«المجانسة» وذلك

____________________

(١) سورة الرعد الآية ٤٢.

١٢٥

بان يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته. وهو كثير الورود في الشعر الجاهلي من ذلك قول يزيد بن نوفل الكلابي مخاطباً الحارث بن ابي شمر الغساني وكان قد اغتصب ابنة الشاعر فخاطبه بقصيدة منها:

يا حار أيقن أن ملكك زائل

واعلم بأن كما تدين تدان(١)

والدين هنا هو الجزاء، ومعنى البيت (كما تجزي تجزى) مع أن فعل الحارث الغساني مع الشاعر ليس بجزاء، وانما هو عدوان، ولكن الشاعر عبر عن العدوان والجزاء بمادة واحدة. تدين تدان.

ومن ذلك قول المنخل اليشكري:

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فعبر عن الجزاء على الجهالة بالجهالة، مع أن مراده من قوله «فنجهل..» ليس جهالة العدوان وإنما الجزاء على العدوان.

وقد ورد كثير من ذلك في شعر ما بعد الاسلام أيضاً.

وورد هذا النحو من البيان في القرآن في عدة مواضع.

منها قوله تعالى:...( تَعلَمُ مَا في نَفسي وَلا أعلَمُ مَا في نَفسك ) (٢) . والمراد: ولا أعلم ما عندك، وعبر بالنفس للمشاكلة، وإلا فليس للّه نفس.

____________________

(١) لسان العرب: مادة «دان».

(٢) سورة المائدة الآية ١٩.

١٢٦

ومنها قوله تعالى:( نَسُوا اللّه فَأنسَاهُم أَنفُسَهم ) (١) . والمراد من «أَنساهم أنفسهم» أهملهم، وعبر عن الاهمال بالانساء لوقوعه في صحبته مراعاة للمشاكلة والمجانسة.

ومنها قوله تعالى:( فَمَنِ اعتَدى عَلَيكُم فَاعتدُوا عَلَيه بمثلِ ما اعتَدى عَلَيكُم ) (٢) . فعبر في هذه الآية بالاعتداء عن الجزاء على الاعتداء مراعاة للمشاكلة.

ومنها قوله تعالى:( وَجَزاءُ سَيّئةٍ سَيّئةٌ مثلُها ) (٣) . فعبر عن جزاء السيئة بالسيئة أيضاً.

ومنها قوله تعالى:( وإن عَاقَبتُم فَعَاقبُوا بمثلِ مَا عُوقبم به ) (٤) فعبر عن الجزاء على الاعتداء بالعقوبة كما عبر عن الاعتداء نفسه بالعقوبة.

ومن ذلك الآيات التي ورد فيها نسبة المكر إلى اللّه تعالى، ففي جميع هذه الآيات يأتي المكر منسوباً إلى اللّه في مقابل مكر الكافرين، وكفرهم وجحودهم، فهو تعبير عن الجزاء والعقاب الذي أنزله اللّه بهم لمكرهم، بل هو النتيجة الطبيعة لمكرهم واحتيالهم وخداعهم، واستعمل في هذه الآيات لفظ المكر للمشاكلة والمجانسة.

والآن نستعرض كل واحدة من الآيات الست التي ذكرناها ونحللها لنكشف بوضوح عن هذا المعني.

____________________

(١) سورة الحشر الآية ١٩ -

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٤.

(٣) سورة الشورى الآية ٤٠.

(٤) سورة النحل الآية ١٢٦.

١٢٧

- ٤ -

الآية الأُولى:

( ...وَمَكَروا، وَمَكَرَ اللّه، واللّه خَيرُ المَاكرين )

تتحدث الآية عن اليهود الذين كفروا بعيسىعليه‌السلام ، فقد مكروا على عيسىعليه‌السلام بالحيلة لقتله، وجازاهم اللّه على مكروا بالخيبة والخذلان، إذ خلصه منهم وألقى شبهه على شخص اخر. أو أنهم مكروا بالكفر برسالة عيسى والانكار لنبوته فجازاهم اللّه على ذلك بالعقوبة والخذلان.

الآية الثانية:

بينا انفاً طبيعة الجو الذي وردت فيه الآية ومن الواضح أن اسناد المكر إلى اللّه في الآية الأخيرة هو بمعنى المجازاة لأهل القرى على مكرهم وكفرهم وجحودهم، وليس المكر فيها بالمعنى الذي ينسب إلى البشر، وعلى القارئ أن يرجع إلى عرضنا للآية في نطاق جوَّها القرآني ليتبين هذه الحقيقة بوضوح تام.

الآية الثالثة:

وقعت هذه الآية في عرض القرآن لقصة ثمود، وبغيهم، وكفرهم. فبعد أن بين اللّه في الآيات (٤٥ - ٤٩) انشقاقهم القبلي، ودعوة النبي صالح لهم إلى الايمان، وردهم عليه، ذكر اللّه تعالى أن القوى المسيطرة في ذلك المجتمع تامرت على صالح وأهله:

١٢٨

( ... وَكانِ في المَدينةِ تسعَةُ رَهطٍ يُفسدُون في الأرضِ ولا يُصلحون. قَالُوا تَقَاسَمُوا باللّة لَنُبَيّتَنّهُ وَأهلهُ ثُم لَنَقُولنّ لوَليّه مَا شَهدنا مَهلكَ أهلِه، وإنّا لَصَادِقُون ) .

هذه المؤامرة سماها اللّه «مكراً»، فقال: «ومكروا مكراً..»

وأخبرنا اللّه أنه جزاهم على مكرهم بالمؤمنين بالعذاب والعقوبة، وسمى هذا الجزاء مكراً للمجانسة والمشاكلة فقال تعالى: «... وَمَكَرنا مَكراً وَهُم لا يَشَعُرونَ، فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقبَةُ مَكرهم أنّا دَمّرناهُم وَقومَهم أجمَعين».

الآية الرابعة:

في هذه الآية أخبرنا اللّه تعالى كيف أن مشركي قريش اجتمعوا يتآمرون على النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فمن قائل اقتلوه، ومن قائل اسجنوه، ومن قائل انفوه عن بلادكم(١)

لقد سمى اللّه تعالى هذه المؤامرة «مكراً»: «وَإذ يَمكُرُ بكَ الّذينَ كَفَرُوا ليُثبتُوكَ، أو يَقتُلوكَ، أو يُخرجُوكَ. وِيمكُرُون...».

ولكن اللّه خلصه من كيدهم ومكرهم، ومكنه من الهجرة إلى المدينة دون أن يتمكنوا من قتله، وقد عبر اللّه عن هذا التدبير، وهذا الصنيع

____________________

(١) تفصيل المؤامرة، ومبيت الإمام علي بن ابي طالب على فراش النبي، وهجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مذكور في كتب التاريخ من ذلك: سيرة ابن هشام بحقيق السقا والأبياري وشلبي الطبعة الثانية ١٣٦٥ - ١٩٥٥ / ج ١ ص ٤٨٠ - وما بعدها.

١٢٩

الجميل ب«المكر» أيضاً، وذلك للمشاكلة والمجانسة كما قلنا، فقال: «... وَيمكُرُ اللّه واللّه خَيرُ المَاكرين».

الآية الخامسة:

( ...وإذَا أذَقنَا النّاسَ رَحمَة من بَعدِ ضَرّاء مَسّتهُم إذا لَهُم مَكرو في آيَاتنَا. قُلِ اللّه أسَرعُ مَكراً. إنّ رُسُلَنَا يَكتُبُونَ ما تمكُرُون ) .

بينا فيما سبق طبيعة الجو الذي وردت فيه الآية.

إن المراد بالناس في هذه الآية غير المؤمنين منهم. وتبين الآية ظاهرة سلوكية لدى هؤلاء الناس: فحين تتبدل حالهم بعد العسر يسراً، وبعد الضيق سعة وبحبوحة «يمكرون» في آيات اللّه، ويحتالون على تزويرها، ويخادعون فيها، بدل أن يقابلوها بالشكر، إزاء هذا الموقف من هؤلاء الناس يقول اللّه:

«... قُلُ اللّهُ أَسَرُع مكراً» يعني أسرع جزاء على المكر، فالمكر المنسوب إلى اللّه هنا - كما في مواضع أُخر - هو الجزاء على المكر. فهم بدل أن يقابلوا النعمة بالشكر قابلوها بالمكر، وجزاؤهم على مكرهم مرصود لهم «إنّ رُسُلَنَا يَكتُبُونَ مَا تمكُرُون». وسريع الحلول بهم «قل اللّه اسرع مكراً».

واستعمال المكر هنا منسوباً إلى اللّه انما هو للمشاكلة والمجانسة اللفظية كما مثلنا في مواضع أُخر.

١٣٠

الآية السادسة:

(وَقَد مَكَرَ الذينَ من قَبلهم، فللّه المَكرُ جَميعاً، يَعلَمُ مَا تَكسبُ كُلّ نَفس وَسَيَعلمُ الكُفّارُ لمَن عُقبَى الدّار).

بينا فيما سبق الجو العام للآية:

في هذه الآية أخبر اللّه تعالى أن الكفار الذين كانوا قبل هؤلاء الكفار من العرب قد مكروا بالمؤمنين، واحتالوا على خنق الرسالة الإلهية بقتل اتباعها المؤمنين وتعذيبهم وتشريدهم. فبين أن «للّه المكر جميعاً» أي أن بيده الجزاء والعقوبة على هذا المكر الذي يمكره الكافرون بالمؤمنين.

وقوله: «... يَعلَمُ مَا تَكسبُ كُلّ نَفسٍ. وَسَيَعلَمُ الكُفّارُ لمَن عُقبَى الدّار». بيان لطبيعة المراد من المكر المنسوب إلى اللّه تعالى وأنه الجزاء على اضطهاد الكافرين للمؤمنين.

وقد عبر عن الجزاء بالمكر للمجانسة والمشاكلة كما قلنا.

***

ويبدو أن الراغب الإصفهاني (الحسين بن محمد بن المفضل - ت: ٥٦٥ ه‍) قد فهم من استعمال «المكر» تارة في الحيلة والخديعة للتوصل إلى مقاصد شريرة، وأُخرى في الجزاء العادل على الشر، أو في الردع عن فعل الشر، وكشف الاساليب الشريرة للمجرمين - يبدو أن الراغب الإصفهاني قد فهم من تنوع استعمال المكر أن للمكر معنيين، فقد قال في كتابه «المفردات في غريب القرآن»:

١٣١

(المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة) وذلك ضربان: ضرب محمود، وذلك أن يتحرى به فعل جميل، وعلى ذلك قال: «واللّه خَيرُ المَاكرين» ومذموم، وهو أن يتحرى به فعل قبيح. قال: «ولا يَحيق المَكرُ السّيّيء إلا بأهلهِ» «وَإذ يَمكُرُ بكَ الذيِنَ كَفَروا» «فانظُر كَيفَ كَانَ عَاقبَدُ مَكرهم» وقال في الأمرين: «وَمَكَروا مَكراً ومَكرنا مَكراً».

ومما يعزز فهم الراغب الاصفهاني لاستعمال «المكر» منسوباً إلى الذات الإلهية بمعنى يختلف عن استعماله منسوباً إلى الكافرين بالأنبياء والرسالات أن مكر اليهود بالنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وصف في بعض الآيات بأنه مكر سيء، قال تعالى:

( ... وأقسمُوا باللّه جهَدَ أيمَانهم لَئن جاءَهُم نَذير لَيَكُونَنّ أهدَى من إحدى الأُمَمِ، فَلَما جَاءهُم نَذير مَا زَادَهُم إلا نُفُوراً. إستكبَاراً في الأرضِ وَمَكرَ السّيء، ولا يَحيقُ المكر السّيء إلا بأهله فَهَل يَنظُرونَ إلا سُنّةَ الأوّلين؟ فَلَن تَجدَ لسُنة اللّه تَبديِلاً، وَلَن تَجدَ لِسُنّةِ اللّه تَحويلا ) (١) .

***

____________________

(١) سورة فاطر الآية ٤٢ - ٤٣.

١٣٢

من هذا البيان يتضح مدى خطأ المؤلف في فهم «المكر الإلهي» وأسباب هذا الخطأ. ويتضح أن المؤلف فشل في إيجاد «تعليل ديني مقبول» لما فهمه - خطأ - من قصة إبليس. لقد أخطأ في فهم أصل القصة، وأخطأ في فهم «المكر»المنسوب إلى الذات الإلهية في القرآن. وما توهمه المؤلف اكتشافاً كبيراً تبين انه لم يكن شيئاً على الاطلاق. لقد كان خطأ وحسب.

- ٥ -

بقي علينا أن نصحح فهم المؤلف لبعض الآيات الأُخرى التي ذكرها في معرض حديثه عن «المكر الإلهي» والتي رأى أنها تتفق في مدلولها مع الآيات التي نسب فيها المكر إلى الذات الإلهية. وسنرى انه أخطأ في فهم هذه الآيات كما أخطأ في فهم آيات «المكر الإلهي» وسنرى انه بتر بعض الآيات وعزلها عن جوها العام ليتأتى له الاستعانة بها على إثبات دعواه.

قال المؤلف (ص ١٢١):

«نجد أيضاً بعض الآيات تنسب إلى الذات الإلهية صفة مشابهة هي صفة الاستهزاء (...) وأوردت بعض الآيات المعنى نفسه دون ذكر المكر الإلهي وتخصيصه..».

وقد ذكر المؤلف الآيات التي اعتبرها شواهد على دعواه عن المكر الإلهي، وسنذكر الآيات التي ذكرها، ونكشف عن خطأه في فهمه لها.

١٣٣

الآية الاولى:

ذكرها المؤلف هكذا:( اللّه يَسَتهزئُ بهم وَيمُدّهُم في طُغيَانهم يَعمهُون ) (١) .

وهذه الآية من جملة مقطع ورد في بيان حال المنافقين وملامحهم، ومواقفهم المخادعة والمراوغة من المؤمنين، وسخريتهم منهم. وأول المقطع المذكور:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا باللّه وَباليومِ الآخر وَما هُم بمؤمنين ) (٢) . ثم يبين اللّه خداعهم، وفساد نواياهم، وافسادهم في الأرض، واستكبارهم عن الايمان الحقيقي، وتسميتهم للمؤمنين سفهاء، ثم يقول تعالى:

( وَإذا لَقُوا الّذيِنَ آمَنُوا قَالوا آمَنّا، وَإذا خَلُوا إلى شَيَاطينهم قَالُوا إنّا مَعَكُم، إنّما نَحنُ مُستَهزؤن. اللّه يَستَهزيء بهم وَيمُدُّهُم في طُغيانهم يَعمهُون. أولئكَ الّذينَ اشتَروا الضّلالَةَ بالهُدى فَمَا رَبحَت تجَارَتُهُم وَمَا كَانوا مُهتَدينَ ) (٣)

هذا هو الجو العام للآية، وهذه هي علاقاتها الداخلية.

وقد سمى اللّه جزاؤهم على نفاقهم، ومواقفهم الملتوية من العقيدة واتباعها، واستهزاءهم بالمؤمنين - سمى اللّه ذلك الجزاء استهزاء مراعاة

____________________

(١) سورة البقرة الآية ١٥.

(٢) سورة البقرة الآية ٨.

(٣) سورة البقرة الآية ١٤ - ١٦.

١٣٤

للمشاكلة والمجانسة، كما تقدم في كلامنا عن المكر الإلهي، وقدمنا الشواهد عليه من القرآن والشعر الجاهلي.

الآية الثانية:

( وَلا يَحسَبَنّ الّذين كَفَروا أنّما نمُلي لَهُم خَيراً لأنفُسهم إنما نمُلي لَهُم ليزدادوا إثماً، وَلَهُم عَذاب مُهين ) (١) .

هذه الآية وردت في شأن المنافقين الذين تخلفوا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في معركة أُحد وغزوة حمراء الأسد. وهي جزء من مقطع يعالج هذا الموقف من مواقف النبي والمسلمين مقابل المشركين.

فقد بين اللّه سبب النكبة في أُحد، وموقف المنافقين حينذاك، (الآيات: ١٦٥ - ١٦٨) ثم بين اللّه منزلة الشهداء العظيمة، ومدح الذين استجابوا لدعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غزوة حمراء الأسد على ما بهم من جراح وتعب (الآيات: ١٦٩ - ١٧٤). ثم بين حال المنافقين في هذا الموقف فقال تعالى مخاطباً النبي محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( وَلا يَحزُنكَ الّذينَ يُساَرعُونَ في الكُفرِ إنّهُم لَن يَضُرّوا اللّه شيئاً، يُريدُ اللّه ألا يَجعلَ لَهُم حَظاً في الآخرةِ، وَلَهُم عَذاب عَظيم. إنّ الّذين اشتَروا الكُفر بالإيمان لَن يَضُروا اللّه شيَئاً، وَلُهم

____________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٧٨.

١٣٥

عَذَاب أليم. وَلا يَحسَبنّ الذين كَفَروا أنما نملي لَهُم خيَراً لأنفُسهم إنما نُملي لَهُم ليَزدادوا إثماً وَلَهُم عَذَاب مهين. مَا كَان اللّه لِيذرَ المؤمنين عَلى ما أنتم عَليهِ حَتّى يَميزَ الخَبيث منَ الطّيّب.. ) (‍١)

هذا هو الجو العام للآية.

ومنه يتضح أن اللّه تعالى لا يريد أن يملي (يمهل) لغاية أن يزداد الكافرون إثماً بحيث يكون الغرض والعلة في إمهالهم هو أن يزدادوا إثماً، وإنما يملي (يمهل) اللّه الانسان ليتيح له الفرصة التامة لتلقي الهداية والاقرار بالحق، ويعرضه لأنواع التجارب ليعطيه القدرة على الاختيار والحرية. وحينئذٍ، فإذا اختار طريق الهدى فقد فاز، وإذا اختار طريق الضلالة فقد هلك، وحينئذٍ تكون عاقبة امهاله وبالاً عليه، لأنه لم ينتفع من الفرصة التي اتيحت له، كما تكون عاقبة امهاله المؤمن خيراً وبركة عليه لأنه انتفع من الفرصة التي اتيحت له.

فاللام في قوله تعالى: «ليزدادوا إثماً» ليست لام الغاية والغرض والعلة، وإنما هي لام العاقبة، وذلك مثل قوله تعالى في قصة موسى وفرعون،( فَالتَقَطَه آلُ فرعوَن ليَكُون لَهُم عَدُواً وَحَزَناً ) (٢) . فإن التقاط آل فرعون لموسى لم يكن من أجل أن يجعلوا من موسى عدواً لهم، ولكن عاقبة التقاطهم له هي انه كان لهم عدواً وحزناً. ومن ذلك أيضاً قول أحد الشعراء الجاهلين:

____________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٧٦ - ١٧٩.

(٢) سورة القصص الآية ٨.

١٣٦

وأم سماك فلا تجزعي

فللموت ما تلد الوالدة

فليس مراده أن الغرض والعلة من الولادة هي الموت، وإنما مراده ان عاقبة كل مولود هي الموت.

وهكذا الحال في الآية الكريمة.

الآية الثالثة:

( وإذا أردَنا أن نُهلكَ قَرية أمَرنا مُترَفيها فَفَسقُوا فيها، فَحَقّ عَلَيهَا العَذابُ، فَدمّرناهَا تَدميرا ) (١) .

إن هذه الآية لا تدل من قريب ولا من بعيد على ما ذهب اليه وهم المؤلف. وإنما هي من جملة الشواهد على المبدأ القرآني: «مبدأ أثر التغيير الداخلي في حركة التاريخ». وقد شرحته في كتاب لي بعنوان «مقدمة لدراسة تاريخ الثورات في الاسلام» آمل ان انجزه قريباً، وأذكر هنا ما تسمح به هذه العجالة.

ان الآية السابقة على هذه الآية هي قوله تعالى:

( مَنِ اهتَدى فَإنما يَهتَدي لنَفسه، وَمَن ضَلّ فَإنما يَضِلّ عَليَها، وَمَا كُنّا مُعَذّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسُولا ) (٢) .

____________________

(١) سورة الاسراء الآية ١٦ -

(٢) سورة الإسراء الآية ١٥.

١٣٧

فهذه الآية تقرر مبدأ الحرية الداخلية: حرية الارادة والاختيار، ومن ثم تقرر مبدأ التبعة الفردية والمسؤولية الشخصية. ودور الرسول هو دور الهادي والمرشد لا غير، واللّه لا يرغم العبد على فعل شيء أو تركه.

على ضوء هذه الآية يجب أن تفهم الآية التالية لها، وهي موضوع البحث، وذلك وفقاً للمبدأ القرآني: «مبدأ أثر التغيير الداخلي في حركة التاريخ»:

يعطي اللّه الفرصة ويهيء الظروف المناسبة للمجتمع، ليحرز المجتمع التقدم المادي والمعنوي، وليحافظ على مستوى هذا التقدم: «.. وَمَا كُنّا مُعَذّبين حَتّى نَبعَثَ رَسُولاً» هذا الرسول يأمر بالاصلاح ويأمر بالنظام العادل، ويخطط الشكل الذي يضمن للمجتمع بقاءه وتقدمه.

وهذا الرسول يتوجه بتعاليمه إلى المجتمع كله، إلا أنه يتوجه بصورة خاصة إلى الطبقة المسيطرة في المجتمع «المترفين».

وحين لا يطيع هؤلاء، ويستمرون مغرقين في الترف الذي يقودهم إلى الانحلال، ويستمرون مغرقين في الطغيان الذي يقودهم إلى اذلال الانسان، ولا يتحرك المجتمع ولا يحاول التغيير بل يستمر في رضوخه، وفي خضوعه، حينئذٍ.. حينئذٍ تتوفر الشروط الموضوعية لانحلال المجتمع: من شيوع الترف، وسيادة المترفين المطلقة، والانقسام الطبيعي الحاد، وحينئذٍ يحصل الانحلال والانهيار والهلاك.

وقد ورد هذا القانون في القرآن مطبقاً على حالات تاريخية معينة في أكثر من موضع، منها قوله تعالى:

١٣٨

( ألَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبّكَ بعَادٍ. إرَمَ ذاتِ العمَاد. التّي لَم يُخلق مثلُها في البلادِ. وثمودَ الّذينَ جَابُوا الصّخرَ بالوَاد. وَفرعَونَ ذي الأوتَاد. الذينَ طَغَوا في البلاد. فَأكثروا فيها الفَسَاد. فَصَبّ عَلَيهم رَبّكَ سَوطَ عَذاب. إنّ رَبّك لَبالمرصاد ) (١) .

***

بقي علينا أن نحلل بعض النواحي التعبيرية في الآية موضوع البحث. والذي يسترعي النظر من هذه الجهة أمران.

الأمر الأول: قوله تعالى: «وإذا أرَدنَا أن نُهلكَ..».

فهم المؤلف من «أردنا» الارادة الإلهية الفعلية للاهلاك، وهذا خطأ. الحقيقة هي أن استعمال «أردنا» في الآية موضوع البحث من قبيل قولنا: «إذا أراد المريض أن يموت ظهرت عليه الأعراض الفلانية» و«إذا أرادت السماء أن تمطر انتشر فيها الغيوم» والمراد من الارادة في هذين الموردين هو اجتماع الشروط الموضوعية للموت والمطر. وقد ورد نظير هذا التعبير في القرآن في قصة موسى وصاحبه:( ...فَوَجَدَا فيها جدَاراً يُريدُ أن يَنقَضّ فَأقامه ) (٢) ومن الواضح أنه

____________________

(١) سورد الفجر الاية ٦ - ١٤.

(٢) سورة الكهف الآية ٧٧

١٣٩

لا معنى لنسبة الارادة الفعلية إلي الجدار، وإنما المراد أن الشروط الموضوعية لانقضاض الجدار قد توفرت.

والتعبير ب‍ «أردنا» في الآية موضوع البحث من هذا القبيل، فإن المراد أن الشروط الموضوعية لهلاك القرية قد توفرت، بسبب العصيان والطغيان.

ونسبة الارادة هنا إلى اللّه «أردنا» وليس إلى القرية «ارادت» للاشارة إلى أن هذا القانون هو قانون كوني أوجده اللّه تعالى، فالنسبة إلى اللّه من حيث أنه أوجد النظام الكوني من جملة قوانين الاجتماع الانساني ونمو المجتمعات وانحلالها.

الأمر الثاني: قوله تعالى: «... أمَرنا مُترَفيها فَفَسَقُوا فيها..».

توهم المؤلف أن المراد أن اللّه أمرهم بأن يفسقوا. وهذا خطأ. الحقيقة أن هذا الاستعمال من باب «أمرته فعصاني» أي أمرناهم بواسطة رسلنا بالطاعة والاستقامة «.. وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً» ولكنهم عصوا، واستمروا على غيهم، فتمت بمعصيتهم الشروط الموضوعية للانحلال والدمار.

وإلا فكيف يعقل أن يكون اللّه قد أمرهم بالفسق، وهو القائل:

( قل أنّ اللّه لا يَأمُرُ بالفَحشَاء... ) (١) .

( قُل إنّمَا حَرمّ رَبي الفَواحشَ مَا ظَهَر منهَا

____________________

(١) سورة الاعراف الآية ٢٨.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174