مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني0%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف: محمد مهدي شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 174
المشاهدات: 59355
تحميل: 6644

توضيحات:

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59355 / تحميل: 6644
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

عن أي شيء يكشف هذا؟ انه يكشف عن أن عقل المؤلف قد تكون في مناخ غير عربي، ويبرر لنا القول بأن المؤلف ليس مؤهلاً للكتابة عن نقد الفكر الديني الإسلامي.

وهو غير متمكن من لغة القرآن وأساليبه البلاغية. ودليلي على ذلك كثير من الشواهد الصغيرة التي مرت عليّ في كتابه، ودليلي الكبير على ذلك بحثه عن المكر الإلهي، موضوع حديثنا الآن. إن القرآن ليس كلاماً بسيطاً عادياً ليمكن تناوله وفهمه ببساطة وكأننا نتحدث مع بعضنا، أو كأننا نقرأ جريدة. إن القرآن عند المؤمن به وحي إلهي معجز في بلاغته، وعند غير المؤمن به كلام يعتبر نموذجاً أعلى اللبلاغة العربية، ولذا فلا بد - لأجل فهمه بشكل صحيح - من الاحاطة التامة بقواعد البلاغة العربية، وأساليب البيان العربي. إن أي أُستاذ للأدب لا يجرؤ على تناول نص أدبي عادي بالنقد ما لم يتخذ له أهبته، ويستعد له بما يلزمه من معرفة، فكيف بالمؤلف وهو يتناول النصوص القرآنية دون أن يملك الأداة الي تجعله قادراً على فهمها بصورة صحيحة.

وثمة شيء أساسي اخر يجب أن يتحلى به الباحث - ناقداً كان أو غير ناقد - عندما يتناول نصاً من النصوص، وهو الأمانة الفكرية: يجب أن يعرض النص بتمامه ليحيط بجميع عناصره، ويفهم جميع علاقاته الداخلية، وبذلك يستطيع أن يكوّن عنه فكرة صحيحة أو مقاربة. أما أن يبتر النص، ويختار منه المقطع الذي يؤيد هواه، فهذا ليس من الأمانة الفكرية في شيء. انه أحق أن يسمى تزويراً فكرياً. وسنرى في هذا الحديث أن الأمانة الفكرية كانت عنصراً مفقوداً عند المؤلف - ربما بسبب عدم تمكنه من لغة القرآن وأساليبه البلاغية - فإنه في نقله للآيات

١٢١

القرآنية التي جعلها شواهد على «اكتشافه» للمكر الإلهي، لم ينقل النصوص كاملة، وإنما وقع اختياره منها على مقاطع معينة توهم انها تؤيد هواه ونظريته، وعزلها عن علاقاتها بغيرها من المقاطع الأُخرى في النص الذي تناول الواقعة.

- ٢ -

لقد وردت مشتقات مادة (م ك ر) في ست وعشرين آية من القرآن، وذلك في السور التالية:

«آل عمران. الأنعام. الأعراف. الأنفال. يونس. يوسف. الرعد. إبراهيم. النحل. النمل. المؤمن. نوح. فاطر. سبأ».

ومشتقات هذه المادة ليست مضافة إلى اللّه تعالى في جميع مواردها، وإنما هي مضافة إلى اللّه بشكل أو بآخر في ست آيات فقط، وهي الآيات التالية:

١ - في شأن عيسىعليه‌السلام ، وإرساله إلى بني إسرائيل، ودعوته لهم إلى الايمان، وكفرهم به:( ... وَمَكَرُوا، وَمَكَرَ اللّه، واللّه خَيرُ الماكرِين ) (١) .

٢ - في شأن أهل القرى: ابتداءً من الآية (٥٩ - ٦٤ - أعراف)

____________________

(١) سورة الأعراف ٥٥٤.

١٢٢

ذكر اللّه طرفاً من قصة نوح مع قومه، وكفرهم به وعقابهم. وفي الآيات (٦٥ - ٧٢) ذكر اللّه طرفاً من قصة النبي هود مع قومه عاد، وكفرهم به، وعقابهم وفي الآيات (٧٣ - ٧٩) ذكر اللّه قصة النبي صالح مع قومه ثمود وكفرهم به. وفي الآيات (٨٠ - ٨٤) ذكر اللّه طرفاً من قصة النبي لوط مع قومه وكفرهم به وعقابهم. وفي الآيات (٨٥ - ٩٣) ذكر اللّه طرفاً من قصة النبي شعيب مع قومه، وانقسامهم بين الكفر والايمان، وعقاب الكافرين منهم. وفي الآيتين (٩٤ - ٩٥) ذكر اللّه قاعدة عامة في الرسل والانبياء مع أقوامهم، وكيف يربي اللّه الانسان ليعي ويؤمن، ثم بعد هذا البيان عن أهل القرى، قال اللّه تعالى:

( وَلَوَ أنّ أهلَ القُرى آمَنُوا وَاتقّوا لَفَتَحَنا عَليَهم بَرَكاتٍ منَ السّمَاءِ والأرضِ، وَلكَن كَذّبُوا فَأخذنَاهُم بمَا كَانُوا يَكسبون. أفَأمنَ أهلُ القُرى أن يأتيهُم بأسُنَا بَيَاتاً وَهُم نَائمون؟ أَوَ أمِنَ أهلُ القُرى أن يَأتيَهُم بأسُنا ضُحىً وَهُم يَلعَبُون؟ أفَأمنُوا مَكرَ اللّه؟ فَلا يأمَنُ مَكرَ اللّه إلا القَومُ الخَاسروُن ) (١) .

٣ - في قوم ثمود ونبيهم صالح، ودعوته لهم إلى الايمان وكفرهم به وتآمرهم على قتله:

( ... وَمكرَوُا مَكراً، وَمَكَرنا مَكراً وَهُم

____________________

(١) سورة الاعراف الآية ٩٦ - ٩٩.

١٢٣

لا يَشعُرونَ. فَانظُركَيفَ كَانَ عَاقبةُ مَكرهم أنّا دَمّرناهم وَقَومَهم أجمَعين ) (١) .

٤ - في شأن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش، وتآمرهم عليه، ونجاته منهم بالهجرة إلى المدينة:( وإذ يمَكُرُ بكَ الّذيِنَ كَفَروا ليثبتُوك أو يَقتُلُوكَ أو يُخرجُوكَ، وَيمَكُرونَ وَيَمكُر اللّه، واللّه خَيرُ المَاكرين ) (٢) .

٥ - ابتداءً من أول سورة يونس يعرض اللّه تعالى صوراً من مواقف المشركين من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن ويذكِّر المشركين بما حدث لأسلافهم من مكذبي الرسالات، ويسفه وثنيتهم، ويذكر طلبهم للمعجزات، ثم يقول تعالى:( وَإذا أذَقنَا النّاسَ رحمَةً من بَعدِ ضَرّاء مَسّتهُم إذَا لَهُم مَكر في آياتنَا قُلِ اللّه أسرَعُ مَكراً، إنّ رُسُلَنَا يَكتُبُونَ مَا تمكُرون ) (٣) .

٦ - بعد أن ذكر اللّه في اول السورة الدلائل الكونية على وجوده وقدرته، وسَّفه افكار الملحدين للحياة الاخرة، واستعجالهم للعذاب مع علمهم بما حدث لمن قبلهم من الامم المشركة، وطلبهم للمعجزات، ثم يذكر الآيات الكونية الدالة على وجوده وقدرته وحكمته وصوراً عن مواقف المؤمنين باللّه، وصورة عن موقف المشركين وعاقبتهم( أولئِكَ

____________________

(١) سورة النحل الآية ٥٠ - ٥١.

(٢) سورة الانفال الآية ٣٠.

(٣) سورة يونس الآية ٢١.

١٢٤

لَهُمُ اللّعنَةُ وَلَهُم سُوء الدّار ) ثم يذكر طلبهم للمعجزة، ثم يذكر المؤمنين، ويذكر استهزاء الامم السابقة بانبيائها، وكيف «زُيّنَ للّذينَ كَفَرُوا مَكرهُم». والجنة وعد بها المتقون، والقرآن، والرسل السابقين، ثم يقول تعالى:

( وَقَدَ مَكَرَ الذينَ من قبَلهم فَللّهِ المكرُ جَميعاً، يَعلَمُ مَا تَكسِبُ كُلّ نَفسٍ، وَسَيَعلمُ الكُفّار لمن عُقبَى الدّار ) (١) .

***

هذه هي الآيات التي ورد فيها المكر منسوباً إلى اللّه تعالى. أما الآيات الاخرى التي وردت فيها صفة الاستهزاء والمخادعة منسوبتين إلى اللّه فموعدنا معها بعد الحديث عن «المكر الإلهي». فلنحاول الآن أن نفهم كيف ينسب اللّه المكر إلى نفسه، وما المراد من ذلك؟.

- ٣ -

إن المكر من العبد هو الحيلة والخديعة. والمكر من اللّه هو المجازاة والعقوبة على الذنب. والتعبير عن المجازاة والعقوبة على الذنب في هذه الموارد بلفظ «المكر» مظهر من مظاهر البلاغة العربية. وهذا النحو من البيان يسمى في البلاغة العربية «المشاكلة» و«المجانسة» وذلك

____________________

(١) سورة الرعد الآية ٤٢.

١٢٥

بان يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته. وهو كثير الورود في الشعر الجاهلي من ذلك قول يزيد بن نوفل الكلابي مخاطباً الحارث بن ابي شمر الغساني وكان قد اغتصب ابنة الشاعر فخاطبه بقصيدة منها:

يا حار أيقن أن ملكك زائل

واعلم بأن كما تدين تدان(١)

والدين هنا هو الجزاء، ومعنى البيت (كما تجزي تجزى) مع أن فعل الحارث الغساني مع الشاعر ليس بجزاء، وانما هو عدوان، ولكن الشاعر عبر عن العدوان والجزاء بمادة واحدة. تدين تدان.

ومن ذلك قول المنخل اليشكري:

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

فعبر عن الجزاء على الجهالة بالجهالة، مع أن مراده من قوله «فنجهل..» ليس جهالة العدوان وإنما الجزاء على العدوان.

وقد ورد كثير من ذلك في شعر ما بعد الاسلام أيضاً.

وورد هذا النحو من البيان في القرآن في عدة مواضع.

منها قوله تعالى:...( تَعلَمُ مَا في نَفسي وَلا أعلَمُ مَا في نَفسك ) (٢) . والمراد: ولا أعلم ما عندك، وعبر بالنفس للمشاكلة، وإلا فليس للّه نفس.

____________________

(١) لسان العرب: مادة «دان».

(٢) سورة المائدة الآية ١٩.

١٢٦

ومنها قوله تعالى:( نَسُوا اللّه فَأنسَاهُم أَنفُسَهم ) (١) . والمراد من «أَنساهم أنفسهم» أهملهم، وعبر عن الاهمال بالانساء لوقوعه في صحبته مراعاة للمشاكلة والمجانسة.

ومنها قوله تعالى:( فَمَنِ اعتَدى عَلَيكُم فَاعتدُوا عَلَيه بمثلِ ما اعتَدى عَلَيكُم ) (٢) . فعبر في هذه الآية بالاعتداء عن الجزاء على الاعتداء مراعاة للمشاكلة.

ومنها قوله تعالى:( وَجَزاءُ سَيّئةٍ سَيّئةٌ مثلُها ) (٣) . فعبر عن جزاء السيئة بالسيئة أيضاً.

ومنها قوله تعالى:( وإن عَاقَبتُم فَعَاقبُوا بمثلِ مَا عُوقبم به ) (٤) فعبر عن الجزاء على الاعتداء بالعقوبة كما عبر عن الاعتداء نفسه بالعقوبة.

ومن ذلك الآيات التي ورد فيها نسبة المكر إلى اللّه تعالى، ففي جميع هذه الآيات يأتي المكر منسوباً إلى اللّه في مقابل مكر الكافرين، وكفرهم وجحودهم، فهو تعبير عن الجزاء والعقاب الذي أنزله اللّه بهم لمكرهم، بل هو النتيجة الطبيعة لمكرهم واحتيالهم وخداعهم، واستعمل في هذه الآيات لفظ المكر للمشاكلة والمجانسة.

والآن نستعرض كل واحدة من الآيات الست التي ذكرناها ونحللها لنكشف بوضوح عن هذا المعني.

____________________

(١) سورة الحشر الآية ١٩ -

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٤.

(٣) سورة الشورى الآية ٤٠.

(٤) سورة النحل الآية ١٢٦.

١٢٧

- ٤ -

الآية الأُولى:

( ...وَمَكَروا، وَمَكَرَ اللّه، واللّه خَيرُ المَاكرين )

تتحدث الآية عن اليهود الذين كفروا بعيسىعليه‌السلام ، فقد مكروا على عيسىعليه‌السلام بالحيلة لقتله، وجازاهم اللّه على مكروا بالخيبة والخذلان، إذ خلصه منهم وألقى شبهه على شخص اخر. أو أنهم مكروا بالكفر برسالة عيسى والانكار لنبوته فجازاهم اللّه على ذلك بالعقوبة والخذلان.

الآية الثانية:

بينا انفاً طبيعة الجو الذي وردت فيه الآية ومن الواضح أن اسناد المكر إلى اللّه في الآية الأخيرة هو بمعنى المجازاة لأهل القرى على مكرهم وكفرهم وجحودهم، وليس المكر فيها بالمعنى الذي ينسب إلى البشر، وعلى القارئ أن يرجع إلى عرضنا للآية في نطاق جوَّها القرآني ليتبين هذه الحقيقة بوضوح تام.

الآية الثالثة:

وقعت هذه الآية في عرض القرآن لقصة ثمود، وبغيهم، وكفرهم. فبعد أن بين اللّه في الآيات (٤٥ - ٤٩) انشقاقهم القبلي، ودعوة النبي صالح لهم إلى الايمان، وردهم عليه، ذكر اللّه تعالى أن القوى المسيطرة في ذلك المجتمع تامرت على صالح وأهله:

١٢٨

( ... وَكانِ في المَدينةِ تسعَةُ رَهطٍ يُفسدُون في الأرضِ ولا يُصلحون. قَالُوا تَقَاسَمُوا باللّة لَنُبَيّتَنّهُ وَأهلهُ ثُم لَنَقُولنّ لوَليّه مَا شَهدنا مَهلكَ أهلِه، وإنّا لَصَادِقُون ) .

هذه المؤامرة سماها اللّه «مكراً»، فقال: «ومكروا مكراً..»

وأخبرنا اللّه أنه جزاهم على مكرهم بالمؤمنين بالعذاب والعقوبة، وسمى هذا الجزاء مكراً للمجانسة والمشاكلة فقال تعالى: «... وَمَكَرنا مَكراً وَهُم لا يَشَعُرونَ، فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقبَةُ مَكرهم أنّا دَمّرناهُم وَقومَهم أجمَعين».

الآية الرابعة:

في هذه الآية أخبرنا اللّه تعالى كيف أن مشركي قريش اجتمعوا يتآمرون على النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فمن قائل اقتلوه، ومن قائل اسجنوه، ومن قائل انفوه عن بلادكم(١)

لقد سمى اللّه تعالى هذه المؤامرة «مكراً»: «وَإذ يَمكُرُ بكَ الّذينَ كَفَرُوا ليُثبتُوكَ، أو يَقتُلوكَ، أو يُخرجُوكَ. وِيمكُرُون...».

ولكن اللّه خلصه من كيدهم ومكرهم، ومكنه من الهجرة إلى المدينة دون أن يتمكنوا من قتله، وقد عبر اللّه عن هذا التدبير، وهذا الصنيع

____________________

(١) تفصيل المؤامرة، ومبيت الإمام علي بن ابي طالب على فراش النبي، وهجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مذكور في كتب التاريخ من ذلك: سيرة ابن هشام بحقيق السقا والأبياري وشلبي الطبعة الثانية ١٣٦٥ - ١٩٥٥ / ج ١ ص ٤٨٠ - وما بعدها.

١٢٩

الجميل ب«المكر» أيضاً، وذلك للمشاكلة والمجانسة كما قلنا، فقال: «... وَيمكُرُ اللّه واللّه خَيرُ المَاكرين».

الآية الخامسة:

( ...وإذَا أذَقنَا النّاسَ رَحمَة من بَعدِ ضَرّاء مَسّتهُم إذا لَهُم مَكرو في آيَاتنَا. قُلِ اللّه أسَرعُ مَكراً. إنّ رُسُلَنَا يَكتُبُونَ ما تمكُرُون ) .

بينا فيما سبق طبيعة الجو الذي وردت فيه الآية.

إن المراد بالناس في هذه الآية غير المؤمنين منهم. وتبين الآية ظاهرة سلوكية لدى هؤلاء الناس: فحين تتبدل حالهم بعد العسر يسراً، وبعد الضيق سعة وبحبوحة «يمكرون» في آيات اللّه، ويحتالون على تزويرها، ويخادعون فيها، بدل أن يقابلوها بالشكر، إزاء هذا الموقف من هؤلاء الناس يقول اللّه:

«... قُلُ اللّهُ أَسَرُع مكراً» يعني أسرع جزاء على المكر، فالمكر المنسوب إلى اللّه هنا - كما في مواضع أُخر - هو الجزاء على المكر. فهم بدل أن يقابلوا النعمة بالشكر قابلوها بالمكر، وجزاؤهم على مكرهم مرصود لهم «إنّ رُسُلَنَا يَكتُبُونَ مَا تمكُرُون». وسريع الحلول بهم «قل اللّه اسرع مكراً».

واستعمال المكر هنا منسوباً إلى اللّه انما هو للمشاكلة والمجانسة اللفظية كما مثلنا في مواضع أُخر.

١٣٠

الآية السادسة:

(وَقَد مَكَرَ الذينَ من قَبلهم، فللّه المَكرُ جَميعاً، يَعلَمُ مَا تَكسبُ كُلّ نَفس وَسَيَعلمُ الكُفّارُ لمَن عُقبَى الدّار).

بينا فيما سبق الجو العام للآية:

في هذه الآية أخبر اللّه تعالى أن الكفار الذين كانوا قبل هؤلاء الكفار من العرب قد مكروا بالمؤمنين، واحتالوا على خنق الرسالة الإلهية بقتل اتباعها المؤمنين وتعذيبهم وتشريدهم. فبين أن «للّه المكر جميعاً» أي أن بيده الجزاء والعقوبة على هذا المكر الذي يمكره الكافرون بالمؤمنين.

وقوله: «... يَعلَمُ مَا تَكسبُ كُلّ نَفسٍ. وَسَيَعلَمُ الكُفّارُ لمَن عُقبَى الدّار». بيان لطبيعة المراد من المكر المنسوب إلى اللّه تعالى وأنه الجزاء على اضطهاد الكافرين للمؤمنين.

وقد عبر عن الجزاء بالمكر للمجانسة والمشاكلة كما قلنا.

***

ويبدو أن الراغب الإصفهاني (الحسين بن محمد بن المفضل - ت: ٥٦٥ ه‍) قد فهم من استعمال «المكر» تارة في الحيلة والخديعة للتوصل إلى مقاصد شريرة، وأُخرى في الجزاء العادل على الشر، أو في الردع عن فعل الشر، وكشف الاساليب الشريرة للمجرمين - يبدو أن الراغب الإصفهاني قد فهم من تنوع استعمال المكر أن للمكر معنيين، فقد قال في كتابه «المفردات في غريب القرآن»:

١٣١

(المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة) وذلك ضربان: ضرب محمود، وذلك أن يتحرى به فعل جميل، وعلى ذلك قال: «واللّه خَيرُ المَاكرين» ومذموم، وهو أن يتحرى به فعل قبيح. قال: «ولا يَحيق المَكرُ السّيّيء إلا بأهلهِ» «وَإذ يَمكُرُ بكَ الذيِنَ كَفَروا» «فانظُر كَيفَ كَانَ عَاقبَدُ مَكرهم» وقال في الأمرين: «وَمَكَروا مَكراً ومَكرنا مَكراً».

ومما يعزز فهم الراغب الاصفهاني لاستعمال «المكر» منسوباً إلى الذات الإلهية بمعنى يختلف عن استعماله منسوباً إلى الكافرين بالأنبياء والرسالات أن مكر اليهود بالنبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وصف في بعض الآيات بأنه مكر سيء، قال تعالى:

( ... وأقسمُوا باللّه جهَدَ أيمَانهم لَئن جاءَهُم نَذير لَيَكُونَنّ أهدَى من إحدى الأُمَمِ، فَلَما جَاءهُم نَذير مَا زَادَهُم إلا نُفُوراً. إستكبَاراً في الأرضِ وَمَكرَ السّيء، ولا يَحيقُ المكر السّيء إلا بأهله فَهَل يَنظُرونَ إلا سُنّةَ الأوّلين؟ فَلَن تَجدَ لسُنة اللّه تَبديِلاً، وَلَن تَجدَ لِسُنّةِ اللّه تَحويلا ) (١) .

***

____________________

(١) سورة فاطر الآية ٤٢ - ٤٣.

١٣٢

من هذا البيان يتضح مدى خطأ المؤلف في فهم «المكر الإلهي» وأسباب هذا الخطأ. ويتضح أن المؤلف فشل في إيجاد «تعليل ديني مقبول» لما فهمه - خطأ - من قصة إبليس. لقد أخطأ في فهم أصل القصة، وأخطأ في فهم «المكر»المنسوب إلى الذات الإلهية في القرآن. وما توهمه المؤلف اكتشافاً كبيراً تبين انه لم يكن شيئاً على الاطلاق. لقد كان خطأ وحسب.

- ٥ -

بقي علينا أن نصحح فهم المؤلف لبعض الآيات الأُخرى التي ذكرها في معرض حديثه عن «المكر الإلهي» والتي رأى أنها تتفق في مدلولها مع الآيات التي نسب فيها المكر إلى الذات الإلهية. وسنرى انه أخطأ في فهم هذه الآيات كما أخطأ في فهم آيات «المكر الإلهي» وسنرى انه بتر بعض الآيات وعزلها عن جوها العام ليتأتى له الاستعانة بها على إثبات دعواه.

قال المؤلف (ص ١٢١):

«نجد أيضاً بعض الآيات تنسب إلى الذات الإلهية صفة مشابهة هي صفة الاستهزاء (...) وأوردت بعض الآيات المعنى نفسه دون ذكر المكر الإلهي وتخصيصه..».

وقد ذكر المؤلف الآيات التي اعتبرها شواهد على دعواه عن المكر الإلهي، وسنذكر الآيات التي ذكرها، ونكشف عن خطأه في فهمه لها.

١٣٣

الآية الاولى:

ذكرها المؤلف هكذا:( اللّه يَسَتهزئُ بهم وَيمُدّهُم في طُغيَانهم يَعمهُون ) (١) .

وهذه الآية من جملة مقطع ورد في بيان حال المنافقين وملامحهم، ومواقفهم المخادعة والمراوغة من المؤمنين، وسخريتهم منهم. وأول المقطع المذكور:( وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا باللّه وَباليومِ الآخر وَما هُم بمؤمنين ) (٢) . ثم يبين اللّه خداعهم، وفساد نواياهم، وافسادهم في الأرض، واستكبارهم عن الايمان الحقيقي، وتسميتهم للمؤمنين سفهاء، ثم يقول تعالى:

( وَإذا لَقُوا الّذيِنَ آمَنُوا قَالوا آمَنّا، وَإذا خَلُوا إلى شَيَاطينهم قَالُوا إنّا مَعَكُم، إنّما نَحنُ مُستَهزؤن. اللّه يَستَهزيء بهم وَيمُدُّهُم في طُغيانهم يَعمهُون. أولئكَ الّذينَ اشتَروا الضّلالَةَ بالهُدى فَمَا رَبحَت تجَارَتُهُم وَمَا كَانوا مُهتَدينَ ) (٣)

هذا هو الجو العام للآية، وهذه هي علاقاتها الداخلية.

وقد سمى اللّه جزاؤهم على نفاقهم، ومواقفهم الملتوية من العقيدة واتباعها، واستهزاءهم بالمؤمنين - سمى اللّه ذلك الجزاء استهزاء مراعاة

____________________

(١) سورة البقرة الآية ١٥.

(٢) سورة البقرة الآية ٨.

(٣) سورة البقرة الآية ١٤ - ١٦.

١٣٤

للمشاكلة والمجانسة، كما تقدم في كلامنا عن المكر الإلهي، وقدمنا الشواهد عليه من القرآن والشعر الجاهلي.

الآية الثانية:

( وَلا يَحسَبَنّ الّذين كَفَروا أنّما نمُلي لَهُم خَيراً لأنفُسهم إنما نمُلي لَهُم ليزدادوا إثماً، وَلَهُم عَذاب مُهين ) (١) .

هذه الآية وردت في شأن المنافقين الذين تخلفوا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في معركة أُحد وغزوة حمراء الأسد. وهي جزء من مقطع يعالج هذا الموقف من مواقف النبي والمسلمين مقابل المشركين.

فقد بين اللّه سبب النكبة في أُحد، وموقف المنافقين حينذاك، (الآيات: ١٦٥ - ١٦٨) ثم بين اللّه منزلة الشهداء العظيمة، ومدح الذين استجابوا لدعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى غزوة حمراء الأسد على ما بهم من جراح وتعب (الآيات: ١٦٩ - ١٧٤). ثم بين حال المنافقين في هذا الموقف فقال تعالى مخاطباً النبي محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( وَلا يَحزُنكَ الّذينَ يُساَرعُونَ في الكُفرِ إنّهُم لَن يَضُرّوا اللّه شيئاً، يُريدُ اللّه ألا يَجعلَ لَهُم حَظاً في الآخرةِ، وَلَهُم عَذاب عَظيم. إنّ الّذين اشتَروا الكُفر بالإيمان لَن يَضُروا اللّه شيَئاً، وَلُهم

____________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٧٨.

١٣٥

عَذَاب أليم. وَلا يَحسَبنّ الذين كَفَروا أنما نملي لَهُم خيَراً لأنفُسهم إنما نُملي لَهُم ليَزدادوا إثماً وَلَهُم عَذَاب مهين. مَا كَان اللّه لِيذرَ المؤمنين عَلى ما أنتم عَليهِ حَتّى يَميزَ الخَبيث منَ الطّيّب.. ) (‍١)

هذا هو الجو العام للآية.

ومنه يتضح أن اللّه تعالى لا يريد أن يملي (يمهل) لغاية أن يزداد الكافرون إثماً بحيث يكون الغرض والعلة في إمهالهم هو أن يزدادوا إثماً، وإنما يملي (يمهل) اللّه الانسان ليتيح له الفرصة التامة لتلقي الهداية والاقرار بالحق، ويعرضه لأنواع التجارب ليعطيه القدرة على الاختيار والحرية. وحينئذٍ، فإذا اختار طريق الهدى فقد فاز، وإذا اختار طريق الضلالة فقد هلك، وحينئذٍ تكون عاقبة امهاله وبالاً عليه، لأنه لم ينتفع من الفرصة التي اتيحت له، كما تكون عاقبة امهاله المؤمن خيراً وبركة عليه لأنه انتفع من الفرصة التي اتيحت له.

فاللام في قوله تعالى: «ليزدادوا إثماً» ليست لام الغاية والغرض والعلة، وإنما هي لام العاقبة، وذلك مثل قوله تعالى في قصة موسى وفرعون،( فَالتَقَطَه آلُ فرعوَن ليَكُون لَهُم عَدُواً وَحَزَناً ) (٢) . فإن التقاط آل فرعون لموسى لم يكن من أجل أن يجعلوا من موسى عدواً لهم، ولكن عاقبة التقاطهم له هي انه كان لهم عدواً وحزناً. ومن ذلك أيضاً قول أحد الشعراء الجاهلين:

____________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٧٦ - ١٧٩.

(٢) سورة القصص الآية ٨.

١٣٦

وأم سماك فلا تجزعي

فللموت ما تلد الوالدة

فليس مراده أن الغرض والعلة من الولادة هي الموت، وإنما مراده ان عاقبة كل مولود هي الموت.

وهكذا الحال في الآية الكريمة.

الآية الثالثة:

( وإذا أردَنا أن نُهلكَ قَرية أمَرنا مُترَفيها فَفَسقُوا فيها، فَحَقّ عَلَيهَا العَذابُ، فَدمّرناهَا تَدميرا ) (١) .

إن هذه الآية لا تدل من قريب ولا من بعيد على ما ذهب اليه وهم المؤلف. وإنما هي من جملة الشواهد على المبدأ القرآني: «مبدأ أثر التغيير الداخلي في حركة التاريخ». وقد شرحته في كتاب لي بعنوان «مقدمة لدراسة تاريخ الثورات في الاسلام» آمل ان انجزه قريباً، وأذكر هنا ما تسمح به هذه العجالة.

ان الآية السابقة على هذه الآية هي قوله تعالى:

( مَنِ اهتَدى فَإنما يَهتَدي لنَفسه، وَمَن ضَلّ فَإنما يَضِلّ عَليَها، وَمَا كُنّا مُعَذّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسُولا ) (٢) .

____________________

(١) سورة الاسراء الآية ١٦ -

(٢) سورة الإسراء الآية ١٥.

١٣٧

فهذه الآية تقرر مبدأ الحرية الداخلية: حرية الارادة والاختيار، ومن ثم تقرر مبدأ التبعة الفردية والمسؤولية الشخصية. ودور الرسول هو دور الهادي والمرشد لا غير، واللّه لا يرغم العبد على فعل شيء أو تركه.

على ضوء هذه الآية يجب أن تفهم الآية التالية لها، وهي موضوع البحث، وذلك وفقاً للمبدأ القرآني: «مبدأ أثر التغيير الداخلي في حركة التاريخ»:

يعطي اللّه الفرصة ويهيء الظروف المناسبة للمجتمع، ليحرز المجتمع التقدم المادي والمعنوي، وليحافظ على مستوى هذا التقدم: «.. وَمَا كُنّا مُعَذّبين حَتّى نَبعَثَ رَسُولاً» هذا الرسول يأمر بالاصلاح ويأمر بالنظام العادل، ويخطط الشكل الذي يضمن للمجتمع بقاءه وتقدمه.

وهذا الرسول يتوجه بتعاليمه إلى المجتمع كله، إلا أنه يتوجه بصورة خاصة إلى الطبقة المسيطرة في المجتمع «المترفين».

وحين لا يطيع هؤلاء، ويستمرون مغرقين في الترف الذي يقودهم إلى الانحلال، ويستمرون مغرقين في الطغيان الذي يقودهم إلى اذلال الانسان، ولا يتحرك المجتمع ولا يحاول التغيير بل يستمر في رضوخه، وفي خضوعه، حينئذٍ.. حينئذٍ تتوفر الشروط الموضوعية لانحلال المجتمع: من شيوع الترف، وسيادة المترفين المطلقة، والانقسام الطبيعي الحاد، وحينئذٍ يحصل الانحلال والانهيار والهلاك.

وقد ورد هذا القانون في القرآن مطبقاً على حالات تاريخية معينة في أكثر من موضع، منها قوله تعالى:

١٣٨

( ألَم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبّكَ بعَادٍ. إرَمَ ذاتِ العمَاد. التّي لَم يُخلق مثلُها في البلادِ. وثمودَ الّذينَ جَابُوا الصّخرَ بالوَاد. وَفرعَونَ ذي الأوتَاد. الذينَ طَغَوا في البلاد. فَأكثروا فيها الفَسَاد. فَصَبّ عَلَيهم رَبّكَ سَوطَ عَذاب. إنّ رَبّك لَبالمرصاد ) (١) .

***

بقي علينا أن نحلل بعض النواحي التعبيرية في الآية موضوع البحث. والذي يسترعي النظر من هذه الجهة أمران.

الأمر الأول: قوله تعالى: «وإذا أرَدنَا أن نُهلكَ..».

فهم المؤلف من «أردنا» الارادة الإلهية الفعلية للاهلاك، وهذا خطأ. الحقيقة هي أن استعمال «أردنا» في الآية موضوع البحث من قبيل قولنا: «إذا أراد المريض أن يموت ظهرت عليه الأعراض الفلانية» و«إذا أرادت السماء أن تمطر انتشر فيها الغيوم» والمراد من الارادة في هذين الموردين هو اجتماع الشروط الموضوعية للموت والمطر. وقد ورد نظير هذا التعبير في القرآن في قصة موسى وصاحبه:( ...فَوَجَدَا فيها جدَاراً يُريدُ أن يَنقَضّ فَأقامه ) (٢) ومن الواضح أنه

____________________

(١) سورد الفجر الاية ٦ - ١٤.

(٢) سورة الكهف الآية ٧٧

١٣٩

لا معنى لنسبة الارادة الفعلية إلي الجدار، وإنما المراد أن الشروط الموضوعية لانقضاض الجدار قد توفرت.

والتعبير ب‍ «أردنا» في الآية موضوع البحث من هذا القبيل، فإن المراد أن الشروط الموضوعية لهلاك القرية قد توفرت، بسبب العصيان والطغيان.

ونسبة الارادة هنا إلى اللّه «أردنا» وليس إلى القرية «ارادت» للاشارة إلى أن هذا القانون هو قانون كوني أوجده اللّه تعالى، فالنسبة إلى اللّه من حيث أنه أوجد النظام الكوني من جملة قوانين الاجتماع الانساني ونمو المجتمعات وانحلالها.

الأمر الثاني: قوله تعالى: «... أمَرنا مُترَفيها فَفَسَقُوا فيها..».

توهم المؤلف أن المراد أن اللّه أمرهم بأن يفسقوا. وهذا خطأ. الحقيقة أن هذا الاستعمال من باب «أمرته فعصاني» أي أمرناهم بواسطة رسلنا بالطاعة والاستقامة «.. وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً» ولكنهم عصوا، واستمروا على غيهم، فتمت بمعصيتهم الشروط الموضوعية للانحلال والدمار.

وإلا فكيف يعقل أن يكون اللّه قد أمرهم بالفسق، وهو القائل:

( قل أنّ اللّه لا يَأمُرُ بالفَحشَاء... ) (١) .

( قُل إنّمَا حَرمّ رَبي الفَواحشَ مَا ظَهَر منهَا

____________________

(١) سورة الاعراف الآية ٢٨.

١٤٠