مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني22%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65382 / تحميل: 8208
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وتضمن هذه المعاهدات امتيازات اقتصادية وسياسية وعسكرية للدولة المستعمرة سابقاً، كما أعادت القوى الرأسمالية المالية والصناعية تنظيم نفسها في تكتلات (تروست) ذات قدرة مالية وسياسية واقتصادية هائلة احتكرت تجارة المواد الخام والمنتجات الصناعية في العالم. مما جعل الدول المتحررة (المستعمرة سابقاً) تقف عاجزة في غالب الأحيان تقف عاجزة أمام سياسة الأسعار التي تفرضها الاحتكارات الرأسمالية الكبرى، فتجد نفسها مضطرة إلي أن تبيع سلعتها (فوسفات، نفط، حديد، كبريت، اورانيوم، بن، شاي، كاكاو الخ) لتمول مشروعات التنمية ولتنفق على جهازها الاداري وعلى (جيشها).

وحين تطمح بعض الدول إلى امتلاك ناصية الأُمور، وتقرر الاستيلاء على ثروتها الوطنية، والاستقلال في التصرف فيها بما يضمن مصالح شعبها أو تقترح اسعاراً عادلة لسلعتها لا تعدم الدول الاستعمارية والاحتكارات العالمية وسائل متنوعة تشل فيها قدرة الدولة الضعيفة على تسويق سلعتها، وتخلق لها المتاعب الداخلية التي قد تؤدي إلى قلب نظام حكمها واستبداله بنظام آخر مطواع (واقعي وأكثر تعقلاً) ومن ثم أكثر اضطراراً للبيع بالسعر الذي تراه الاحتكارات مناسباً.

كما عملت القوى الاستعمارية السابقة على إثارة النزاعات الاقليمية والعنصرية، والدينية، والقبلية بين الدول المتخلفة في العالم الثالث، مستغلة للتوصل إلى ذلك ما غرسته أثناء الاستعمار من مفاهيم ثقافية لها طابع التفريق والتقسيم في شعوب هذه الدول، دافعة بها من خلال هذه النزاعات إلى الحروب الأهلية والاقليمية، وإلى توريطها في منازعات وأزمات سياسية كبرى بين بعضها وفي داخل كل دولة منها، ملجئة لأنظمتها المختلفة

٢١

الضعيفة إلى البحث لدى الدول المستعمرة السابقة عن محالفات سياسية تقوي مركزها في الداخل أمام شعبها أو فريق منه وأمام خصومها في الخارج، ودافعة لها إلى البحث، بأي ثمن، عن السلاح الذي تحتكر صنعه الدول الاستعمارية، باذلة في سبيل الحصول عليه ثمن موادها الخام، معطلة مشاريع التنمية لشعوبها وأوطانها، مزدادة فقراً وتخلفاً ومن ثم عجزاً عن المقاومة، ومن ثم خضوعاً لما تمليه إرادات القوى الرأسمالية واحتكاراتها الكبرى... مستمتعة بحرية وسيادة وهميتين!!؟؟

وقد كانت حصيلة المسلمين عامة والعرب منهم بوجه خاص من بلاء هذا الاستعمار الرأسمالي كبيرة جداً، لقد تسلطت القوى الرأسمالية على جميع العالم الإسلامي تقريباً، بل على جميعه إذا اعتبرنا السيطرة غير المباشرة، وقد خرب الاستعمار في العالم الإسلامي كلما استطاع ان يخربه وكان أعظم تخريبه في شخصية الانسان المسلم. وأعظم محن العالم الاسلامي من الاستعمار محنة فلسطين التي تعتبر أعظم محن المسلمين في التاريخ - حتى بالقياس إلى ضياع الأندلس - فقد طرد الاستعمار القديم بالتعاون مع الصهيونية شعبها المسلم، وأسكن فيها اليهود الذين نفروا إليها من جميع بقاع الدنيا لينشئوا ما أسموه ب‍ (دولة اسرائيل) مدفوعين بأحلام خرافية استمدوها من ثوراتهم، وقد ثبت الاستعمار الجديد هذه الدولة، ووفر لها أسباب القوة والتسلط، فشتت بها العرب، واستنفذ توراتهم - وعلى رأسها ثروة النفط - بالسلاح الذي يبيعه إياهم ليحموا أنفسهم من طليعته وربيبته التي غرسها في قلب وطنهم. وحرمهم الاستقرار السياسي، وجعلهم طيلة ثلث قرن يعيشون في ظل الخوف من عدوان اسرائيل التي شجعها الاستعمار الجديد على أن تحتل في النهاية جميع أرض فلسطين

٢٢

وجزءً من سوريا ومصر والاردن(١) .

هذه هي الرأسمالية التي تقود خطاها في استغلال العالم قيم الجاهليلة: المادية، والحيوانية، واللاأخلاقية، وروح العدوان(٢) .

* * *

لقد كانت الماركسية أحد التعابير السياسية - الفكرية عن صرخات العذاب التي أطلقتها الطبقة العاملة في اوربا ضد رأسمالية القرن التاسع عشر الطاغية الباغية على شعوبها وعلى العالم. ولكن النظام الذي بني على قواعدها ومبادئها سرعان ما مارس في الداخل والخارج سياسات إن كانت قد تجنبت الوقوع في بعض المآخذ على الرأسمالية في صيغتها القديمة أو صيغتها الجديدة، فانها لم تعدم أخطاء كبرى في سياستها تجاه شعوبها وتجاه شعوب العالم الثالث، وكشفت عن طموحات للسيطرة وبسط النفوذ جعلتها في نظر شعوب العالم الثالث قوة ينبغي الحذر منها، لأن طموحاتها في السيطرة السياسية والاقتصادية تماثل الطموحات التي تحرك القوى الرأسمالية نحو العالم الثالث، وترسم خططها في التعامل معه.

وكانت ثورات شعوب العالم الثالث صرخات العذاب الأليم التي تطلقها هذه الشعوب ضد الرأسمالية الأوربية ممثلة بالاستعمار.

____________________

(١) وها هي دولة الصهاينة تحتل أخيراً جبل عامل (لبنان الجنوبي) فتشرد عشرات الالوف من قراهم وتقتل المئات، وتهدم مئات المنازل وتضع باحتلالها الجنوب في غمرة أخطار سياسية غامضة طالما حذرنا منها، نسأل اللّه أن يرزقنا البصيرة لنواجه مسؤولياتنا بشجاعة، ونتحمل واجباتنا بإخلاص.

(٢) عن طبيعة الجاهلية وتركيبها لاحظ كتابنا (بين الجاهلية والاسلام) نشر دار الكتاب اللبناني - دار الكتاب المصري ١٣٩٥ هجري = ١٩٧٥ م فصل الجاهلية الحديثة.

٢٣

وكانت أوربا الرأسمالية - الاستعمارية - إلى حين الحرب العالمية الثانية - تحكم العالم الثالث وفقاً لمعادلة متضادة الطرفين، غدا من المستحيل بعد الحرب الاستمرار فيها. كانت تحكم العالم بروحية وأُسلوب العلم الحديث في التنظيم المجتمعي واستثمار الطبيعة والطاقة، هذا العلم الذي وضع الانسانية في العصر الذري - من جهة - وبروح وأُسلوب عصر الانطلاق الاستعماري الاعظم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد في مجال العلاقات الدولية، من جهة أُخرى، وقد ولدت هذه المعادلة تناقضاً في الواقع بين القوى التي تنسج الواقع وتولد الافكار - وهي قوى العلم المنفتح - وبين الأفكار التي يراد صياغة الواقع وفقاً لها. لقد غدا الاستمرار في هذه المعادلة مستحيلاً بعد الحرب العالمية الثانية، إن افكار الواقع كانت تضغط باتجاه اسلوب اكثر أخلاقية في العلاقات الدولية على خلاف رغبات القوى الرأسمالية التي كانت تضغط بالقوة المسلحة لرسم واقع العلاقات الدولية على ضوء افكار القرن التاسع عشر.

وقد تمثلت المعالم العامة لهذا الاسلوب الأخلاقي في العلاقات الدولية في الامال التي اختلجت بها قلوب مئات الملايين من شعوب العالم الثالث نتيجة لما ولدته الحرب العالمية الثانية بما رافقها من عنف ووحشية في الصراع المجنون بين النازية والديمقراطيات الغربية والاتحاد السوفياتي - في هذه الشعوب من وعي لواقعها الأليم، كما وانها رفعت درجة أحساسها بقهرها وذلها وانحطاط حياتها، وكونت لديها آمالاً جديدة في الحرية والعدالة والرخاء عززتها وعود المنتصرين، وقد دفعت هذه الامال الجديدة الزاهية، والتطلعات إلى نظام عالمي جديد بالشعوب المقهورة إلى أن تبحث لنفسها عن صيغ في التعاون الدولي تحق آمالها وتطلعاتها.

٢٤

ولكن العالم الغربي حاول أن يحتال على هذه الحقيقة، وأن يقف في وجه حركة التاريخ، وأن يجهض القوى الروحية العظمى التي اختلج بها العالم الثالث مندفعاً نحو الانعتاق باستعمال أساليب القمع المباشر تارة وأساليب الاستعمار الجديد تارة أُخرى، وساعده علي ذلك أن القوة العالمية الاخرى (العالم الاشتراكي) سقط - كما ذكرنا - في إغراء التسلط العسكري والسياسي وبسط النفوذ مما أعطى كلتا القوتين العظميين قدرة على المساومة مع غريمتها لتحقيق أهدافها.

وهكذا اكتشف العالم الثالث أنه وقع بين فكي كماشة فتكتلت شعوبه المستقلة وتلك التي كانت لا تزال مقهورة ومستعمرة تخوض ثورات دامية في سبيل التحرر الوطني. تكتلت في تجمع عالمي يمثل أخلاقية جديدة في السياسة الدولية، تجعل العلاقات الدولية قائمة على العدل والأخلاق وحكم القانون، فكان مؤتمر باندونج الذي وضعت فيه مبادئ الحياد الايجابي وعدم الانحياز بين القوتين العظميين في العالم.

وهكذا ولد في باندونج مفهوم جديد للسياسة الدولية والعلاقات بين الدول يقوم على رؤية روحية - أخلاقية، في مقابل المفهوم السائد الذي يقوم على منطق القوة.

لقد كان مؤتمر باندونج صرخة عذاب أيضاً أطلقها العالم الثالث الذي اكتشف أنه وقع بين فكي كماشة النظاميين الأعظمين - الرأسمالي والاشتراكي - بحثاً عن وضعية جديدة في السياسة تضمن لوحداته السياسية معاملة أكثر عدلاً، ووضعاً أكثر أمناً، وحركة أكثر حرية في رسم سياساتها الوطنية والخارجية.

٢٥

ولكن روح باندونج، والنزعة التي حركت ضمائر مئات الملايين من البشر في العالم الثالث نحو بناء قوة عالمية ثالثة لا تقوم على مبادئ القوة والسيطرة، وانما تقوم على مبادئ الاخلاق والقانون والتعاون - هذه الروح وهذا الطموح لا يناسب مصالح مراكز الثقل في النظام الرأسمالي العالمي والنظام الاشتراكي العالمي، فعملت مراكز الثقل في النظامين على أجهاض محاولات بناء هذه القوة العالمية الثالثة مستغلة تخلف هذه الشعوب، ضعف أنظمة الحكم فيها، وفقرها، وعجزها العلمي والتقني الذي قصر بها عن استغلال ثرواتها بنفسها، وألجأها إلى عرض هذه الثروات في السوق العالمي الذي تحكم اقتصادياته احتكارات الرأسمالية الكبرى، ومؤسسات الاقتصاد في النظام الاشتراكي، فعادت، نتيجة لذلك، القوتان العظميان إلى العالم الثالث.

ولئلا تعود فكرة القوة الجديدة في المجتمع الدولي إلى الظهور بصورة فاعلة استخدمت القوى العالمية القادرة كل الوسائل لايجاد حالات العداء المسلح بين مجموعات انظمة العالم الثالث، فنشبت الحروب الاقليمية التي زادت هذه الشعوب ضعفاً واتكاءً على القوى الرأسمالية أو على القوى الاشتراكية العالمية، واستنزفت قدرتها الاقتصادية، وخلقت حواجز من الشك والعداء والمصالح الوطنية الاقليمية تحول دن أي تحرك جاد وفعال ومستمر في اتجاه تكوين قوة عالمية ضاغطة تحقق التوازن في السياسة الدولية لمصلحة العالم الثالث. وبدلاً من ذلك اتفقت الدولتان العظميان على سياسة الوفاق التي تعني - بشكل أو بآخر - وصايتهما على العالم الثالث.

وقد وضعت المبادئ الاولى لسياسة الوفاق منذ عبرت إرادة العالم الثالث عن نفسها في مؤتمر باندونج سنة ١٩٥٥ م ، وذلك في مؤتمر جنيف

٢٦

الذي عقد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وانكلترا ورنسا وأنهى الحرب الباردة بين الشرق والغرب مفتتحاً عهداً جديداً من الانفراج الدولي تحت شعار (التعايش المشترك).

وقد كشفت التعليقات الغربية بمناسبة صفقة الاسلحة التشيكية مع مصر عن حقيقة ما كان يسمى آنذاك (روح جنيف) وأنه كان في الحقيقة بداية الطريق التي سلكتها القوتان العطميان لفرض وصايتهما أو نفوذهما - بشكل أو بآخر - على العالم.

فقد صرح سيرأنتوني ايدن رئيس الوزراء البريطاني في خطبة ألقاها في بورتموث في ٨ / ١٠ / ١٩٥٥ معلقاً على صفقة الأسلحة التشيكية - قال:

«هذه بالضبط فرصة أمام الدول الكبرى لكي تتفق على أن تحاول التحكم في نفسها وتتحد لكي تتحكم في الاخرين، وفي هذا يكمن في رأيي التفسير الحق لفكرة جنيف..»

وكتبت صحيفة المانشستر جارديان في عددها الصادر في ١٩ / ١٠ / ١٩٥٥ م معلقة على الصفقة بقولها:

«ربما كان من الخير أن يتفق الغرب مع روسيا في الشرق الأوسط على أساس سياسة جديدة لاتسمح لدول صغيرة في هذه المنطقة من العالم بأن تقوم بمحاولات خطيرة، وهي للأسف غير جديرة بتحمل المسؤولية».

وكتبت صحيفة لوموند الفرنسية في عددها الصادر في ٢٢ / ١٠ / ١٩٥٥ معلقة على الصفقة بقولها:

«ان نشاط انجلترا الدبلوماسي فيما يخص العالم العربي يجب أن يتجه

٢٧

إلى اقناع الاتحاد السوفياتي بالاعتراف بالوضع الراهن في الشرق الأوسط، في نطاق مناقشات بين الأربعة الكبار».

* * *

إن العالم الثالث الان محكوم بقانون سياسة الوفاق بين القوتين العظميين، وهي سياسة لحظت فيها مصالح القوتين العظميين بالدرجة الأولى. وهي سياسة مبنية على منطق القوة. ومن الطبيعي أن البديل الصالح لسياسة الوفاق ليس اللاوفاق الذي قد يؤدي بالعالم كله إلى كارثة نووية تقضي على الجنس البشري، وإنما البديل لسياسة الوفاق هو التوصل إلى قاعدة في السياسة الدولية والعلاقات بين الدول والكتل الدولية تقوم على مبادئ الأخلاق والقانون ويكون لها مضمون روحي. إن البديل لسياسة الوفاق هو الطموح النبيل لشعوب العالم الثالث نحو عالم لا تقوم العلاقات فيه على منطق القوة والسيطرة. وإذا كانت الأديان قادرة على أن تقدم لهذه القاعدة مضموناً أخلاقياً وروحياً فان الاسلام أقدر هذه الأديان على ذلك لأنه بحكم تكوينه العقيدي والتشريعي، وبحكم تجربته التاريخية قادر على أن يقدم المضمون الاخلاقي- الروحي في صيغة عملية تتصل بالواقع المادي والنفسي للانسان. ويبقى لكل دين دوره في إغناء التجربة الانسانية في محيطه الثقافي وفي العالم.

إن العالم الثالث المسحوق تحت وطأة تخلفه المادي والتنظيمي داخل وحداته السياسية، هذا التخلف الناشيءَ عن عجزه وعن تدخل القوى العظمى في شؤونه، هذا العالم الثالث سيبقى نقطة الخطر ومبعث الأمل.

٢٨

هو نقطة الخطر لأنه ساحة تصفية و تسوية الصراعات بين القوى العالمية الكبري التي تتعامل مع بعضها ومع العالم الثالث بمنطق القوة، وأقل خلل في حسابات التصفية والتسوية قد يقود العالم كله إلى كارثة نووية.

وقد وصل العالم إلى حافة الكارثة عدة مرات في ربع القرن الأخير بسبب المواجهات بين القوى الكبرى على أرض العالم الثالث.

وهو مبعث الأمل لأن وضعه الحاضر وتطلعات شعوبه يقدمان الفرصة للقوى العظمى في العالم لتعادل منطق القوة في السياسة بمنطق الاخلاق والقانون في العلاقات بين الدول، وبذلك (تؤنسن السياسة) لا حسب مفهوم الحضارة الحديثة حيث تكون السياسة إنسانية داخل كل وطن لشعب ذلك الوطن وتفقد إنسانيتها خارج حدود وطنها لتغدو سياسة قوة، وإنما حسب مفهوم الأخلاق والقانون الذين يعطيان للسياسة بعداً إنسانياً علي صعيد الجنس البشري كله. وتبعاً لذلك يجعلان العلاقات البشرية على مستوى الدول والجماعات اكثر دفئاً ومودة بما لها من مضمون روحي افتقده عالم القوة، عالم الحضارة الحديثة منذ زمن بعيد، ولا يزال الذخيرة التي مثلت إنسانية العالم الثالث فيوجه جميع محاولات التشويه والمسخ التي تعرض لها إنسانه، كما لا يزال هذا المضمون الروحي لصيغة في العلاقات الدولية قائمة على الأخلاق والقانون هو الشرط الاساسي لخلاص الحضارة الحديثة وإنسانها من أزمة الانسان الحديث التي قادته إليها النظرة المادية إلى الكون والحياة والانسان، وما ترتب على ذلك من اتباع منطق القوة في العلاقات البشرية.

إن صرخات العذاب التي تطلقها شعوب العالم الثالث ستظل تدوي في

٢٩

آذان عالم (منطق القوة) مهما حاول قادة عالم منطق القوة أن يحتالوا على العالم الثالث لاسكات صرخات عذابه التي يواجه بها عالم الأقوياء القساة الماديين الانانيين، ان العالم الثالث يتحدى، وخلاص الانسانية يتوقف على نوع الاستجابة.

٢ ـ الماركسية والعلم والسياسة

الموقف المنطقي الأمين والأخلاقي في قضايا السياسة الداخلية والخارجية هو أن تنطلق النظرية السياسية من الموقف الفلسفي، وأن تبنى الممارسة السياسية الداخلية وعلى المستوى الدولي على نظرية سياسية نابعة من نظرية فلسفية شاملة إلى الكون والحياة والانسان.

والماركسية تدعي لنفسها هذا الشرف.

تدعي أولاً أنها فلسفة كونية شاملة تقدم التفسير الصحيح لجميع الظواهر في الطبيعة و المجتمع.

وتدعي ثانياً أن نضالها السياسي ليس ناشئاً من طموحات فردية أو جماعية أو فئوية لا صلة لها بالواقع الموضوعي للمجتمع، كما تتهم بذلك الجماعات السياسية المنافسة لها - وإنما هو حركة مبنية على فلسفة في المجتمع هي المادية التاريخية، نابعة عن فلسفة عامة وشاملة للكون بما فيه

٣٠

من طبيعة وإنسان، هي المادية الديالكتيكية. ولذا فإن القوانين الاساسية في المادية الديالكتيكية (قانون حركة التطور، وقانون تناقضات التطور، وقانون قفزات التطور، وقانون الارتباط العام) هذه القوانين أملى الايمان بها الفكر الفلسفي العلمي السليم، ومن ثم اتخذناها سلاحاً نظرياً في تعاملنا مع الطبيعة والمجتمع، في عملنا العلمي في الطبيعة وفي عملنا السياسي في المجتمع.

الماركسية اذن تدعي لنفسها هذا الشرف، ولكنها دعوى يقوم واقع الممارسة السياسية على خلافها، فإننا بمراجعة بسيطة نكتشف أن الماركسية لا تبني مواقفها السياسية على أساس من تفكيرها الفلسفي وإنما تحاول أن تجعل من التفكير الفلسفي مبرراً لعملها السياسي، مما يحملها في كثير من الحالات على الاعتساف والتزوير لصياغة افكار تدَّعي لها صفة الحقيقة لتكون سنداً لمواقفها السياسية.

وهذا ما يظهر بجلاء كبير عند مراجعة الخلفية السياسية للمواقف الفلسفية التي اعلنتها الماركسية في كثير من الحالات، ومن هذا الباب اعتبارها القوانين الأربعة السالفة الذكر أُسساً مطلقة الاعتبار وثابتة للمادية الديالكتية، فان الباحث يلمس وراء هذا الموقف أو ذاك الرغبة في تبرير العمل السياسي، فيما هم يوهمون الناس بأن العمل السياسي على هذا النحو المميز جاء نتيجة حتمية للضرورة العلمية التي لا تدحض.

وسيأتي البحث النقدي الفلسفي لقوانين الديالكتيك، أما هنا فغايتنا الكشف عن الحافز السياسي إلى وضع هذه القوانين وإعطائها صفة الحقيقة العلمية، وما هي في الحقيقة سوى أدوات سياسية.

والآن إلى شيء من التفصيل.

٣١

١ ـ المدلول السياسي لقانون حركة التطور

لماذا تذهب الماركسية خلافاً للحقيقة الموضوعية - إلى أن قانون الحركة يتجاوز الواقع الموضوعي المادي إلى عالم الفكر فترى أن الفكر ينمو ويتغير بالحركة كما تنمو المادة وتتغير بالحركة؟

ويكشف لنا التحليل عن جواب هذا التساؤل في مجالين:

الأول - ظن الماركسية عندما وضعت قانونها هذا كانت تعلم أنها ستخوض صراعاً مع الفلسفة الميتافيزيقية، ومع المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنتسب - حقاً أو باطلاً - إلى هذه الفلسفة.

والفلسفة الميتافيزيقية تستند إلى جملة من الحقائق المطلقة والنهائية غير القابلة للجدل. والاعتراف بأن قانون الحركة لا يتعدى عالم المادة إلى عالم الفكر يعني أن ثمة حقائق فكرية مطلقة وحينئذٍ لا يمكن للماركسية تجاهلها، بل لا بد لها من الايمان بها وهذا يعني قوة في موقف الميتافيزيقية

٣٢

ومن ثم قوة في موقف مؤسساتها في المجتمع.

أما إعلان أن قانون الحركة شامل يستوعب عالم المادة وعالم الفكر معاً فيقضي بأنه لا توجد حقائق مطلقة في عالم المادة وكذلك في عالم الفكر، وهذا يجعل الماركسية في وضع أفضل في المعترك السياسي، ويجرد الميتافيزيقية من ركائزها الأساسية، ويجعلها تمثل مرحلة - مرحلة فقط - في سير الطبيعة والانسان نحو التكامل والتطور الصاعد أبداً ودائماً.

وهكذا يكون الطموح السياسي هو الذي أملى على آباء المادية الديالكتيكية موقفهم الفلسفي، وليس العكس. لم يكن الموقف السياسي في حقيقة الأمر نتيجة للموقف الفلسفي

الثاني:

نفي وقوع خطأ في المواقف السياسية خلال النضال من أجل فرض السيطرة. فكل موقف سياسي صواب، وإذا انكشف خطأه كل صواباً نسبياً. وهكذا تجد المعاهدة مع هتلر ومهادنة النازية مكاناً لها في خانة الحقيقة، كما تجد السياسة الاقتصادية الجديدة مكاناً لها في خانة الحقيقة، وبذلك يمكن أن تكون المواقف السياسية المتناقضة صحيحة كلها، كما أننا نسبغ صفة الحقيقة على نظرية نيوتن وعلى نسبية انيشتين معاً.

الحقيقة هي أن اعتبار الماركسية قانون الحركة شاملاً لعمليات الفكر ناشئ من الرغبة في إيجاد التبرير السياسي وان أدى ذلك إلى تجاوز الحقيقة الفلسفية.

٢ ـ المدلول السياسي لقانون تناقضات التطور

لقد اعتمدت الماركسية في العمل السياسي مبدأ صراع الطبقات في المجتمع، وجعلت همها الأعظم رفع درجة الصراع في المجتمعات المضطربة، وتحريك الصراع في المجتمعات التي تتمتع بالاستقرار، والمضي في تأجيج الأحقاد الطبقية والفئوية إلى أن تصل بالمجتمع إلى حالات الانقسام والعداء ومن ثم تفجير الصراع بالثورات والحروب الأهلية، وإن توقف ذلك على تأييد أنظمة الحكم الرجعية، وتأييد الحكام الطغاة، ومحاربة الأنظمة التقدمية على غير الأسلوب الماركسي واسقاط الحكام ذوي النزعات الاصلاحية، وذلك لأجل أن تساهم أنظمة الحكم الرجعية والحكام الطغاة في إنزال أفدح الظلم بالفئات الاجتماعية الأقل حظاً من خيرات الانتاج العام للثروة، فتزداد نقمة هذه الفئات، ويؤدي ذلك إلي ارتفاع حدة الصراع الطبقي، وهذا يعجل بالثورة التي تؤدي إلى سيطرة الماركسية على

٣٣

السلطة. بينما تعمل أنظمة الحكم التقدمية - غير الماركسية - والحكام ذووا النزعات الاصلاحية على انصاف الفئات المحرومة، ويؤدي ذلك إلى شعورها بالانصاف والعدالة، فينزع من صدورها الغل والحقد، ويدفع بها نحو التعاون مع غيرها من الفئات بدل الصراع، وهذا ما يبعد فرصة استيلاء الماركسيين على السلطة.

لقد اعتمدت الماركسية هذا المبدأ في عملها السياسي. ولكنه - كما يرى الجميع - مبدأ غير أخلاقي وغير انساني، وهو معرض للادانة من أي إنسان مستقيم الفكر والضمير انطلاقاً من لا أخلاقية المبدأ المذكور ولا إنسانيته. ولذا فثمة عاملان يحملان الماركسية على أن تجد سنداً فلسفياً - علمياً لهذا المبدأ: الأول - هو دفع الاعتراض الأخلاقي عليه فإن القوانين العلمية لا تخضع للاعتبارات الأخلاقية، إنها حتمية ولا شأن فيها للاختيار البشري والضمير، ولذا فلا مجال للاعتراض على هذا المبدأ من الناحية الأخلاقية. الثاني - هو إعطاء المبدأ صفة العلمية والحقيقة الفلسفية لئلا يخطر في بال أحد من الناس أنه مجرد تغطية أدبية إنشائية لأسلوب سياسي، وبذا يكتسب المبدأ قوة التأثير باعتباره حقيقة علمية فلسفية ويدفع عنه صفة اللاأخلاقية واللا إنسانية.

* * *

إن الصراع والتنافي موجود في المجتمع السياسي بلا شك، ولكن التعاون موجود في المجتمع السياسي أيضاً، فالصراع والتنافي ليس قانوناً عاماً وشاملاً وثابتاً في حركة التاريخ وإنما هو أحد مظاهرها، والتاريخ يتحرك وينمو من خلال تفاعل جملة من العوامل.

٣٤

أما في الطبيعة فالقانون الظاهر هو قانون التكامل، وليس مبدأ التناقض، وتطور الطبيعية ونموها يتم من خلال تكامل قواها وعناصرها وتعاونها، وليس من خلال تناقضها، وما يبدو تناقضاً في الطبيعة فيكشف - حين دراسته على ضوء شروط التناقض - أنه ليس من التناقض في شيء، وإنما اعتبره الماركسيون تناقضاً بسبب جهلهم بقانون التناقض أو بسبب حرصهم على أيجاد المبرر الفلسفي لعملهم السياسي كما ذكرنا.

ويبدو أن واضعي أُسس الماركسية غفلوا عن أن هذا القانون يقضي عليهم بأحد أمرين كلاهما نفي للماركسية.

أحدهما - أن نفرض أن قانون تناقضات التطور يستمر حتى بعد تكوّن المجتمع الشيوعي الكامل، وهذا يقضي بأن يعمل هذا، القانون عمله في نفي الماركسية نحو مرحلة تتجاوزها في نمو التاريخ، وهذا يعني أن الماركسية مرحلة وليست نهاية حركة التاريخ، وهكذا تأتي مرحلة تاريخية تلغي الشيوعية وتكون اكثر تطوراً، وتقدماً منها على اعتبار أن حركة التاريخ تسير في خط صاعد دائماً؟؟.

وثانيهما - أن نفترض أن قانون تناقضات التطور يتوقف عن العمل ويبطل أثره. وحينئذٍ فهل يكفّ المجتمع عن الحركة؟ وهل تتوقف حركة التاريخ عند حدٍّ لا تتعداه؟ أي الأفتراضين يختار الماركسيون يكون ابطالاً لدعواهم وفلسفتهم من أصلها.

٣ ـ المدلول السياسي لقانون قفزات التطور

اعتمدت الماركسية في عملها السياسي لتسلم السلطة مبدأ الانقلاب المسلح والثورة، ورفضت مبدأ العمل الديمقراطي البرلماني الذي اعتمده الفكر السياسي في أوربا، ومن ثم فهي تحارب الاصلاحيين الذين ينتهجون سبيل التغيير التدريجي السلمي ليصلوا بالمجتمع السياسي إلى مستويات أفضل في اوضاعه الحياتية، وترى أن تغيير المجتمع السياسي وتحقيق العدالة لا يكون إلا بالعنف والثورة التي تجتث جميع قواعد المجتمع من جذورها دفعة واحدة. والنصوص الماركسية الأساسية في هذه المسألة واضحة صريحة لاتترك مجالاً للتأويل، قال ماركس وانجلز:

«ولا يتدنى الشيوعيون إلى اخفاء آرائهم، ومقاصدهم، ومشاريعهم، يعلنون صراحة أن أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها إلا بهدم كل النظام الاجتماعي

٣٥

التقليدي بالعنف والقوة»(١)

وقال لينين:

«إن الثورة البروليتارية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البرجوازي بالعنف»(٢)

ولكن العنف الثوري يقابله في العمل السياسي الأسلوب الديمقراطي الذي يعتمد التغيير عن طريق التشريع، وتكوين القناعات لدى فئات المجتمع السياسي للقبول بالتغيير، وهذا الأسلوب هو الذي يتبعه الخصوم السياسيون للماركسية في كل مجتمع.

وقد رأى المفكرون السياسيون أن يلتمسوا لموقفهم السياسي سنداً علمياً - فلسفياً يحقق لهم هدفين:

الأول - إسكات خصومهم السياسيين في الجدل حول أُسلوب التغيير السياسي للمجتمع بأن الثورة المسلحة والقضاء على المؤسسات القديمة بالعنف ليس أمراً خاضعاً للاختيار البشري الذي يسمح بالجدل وتفضيل أُسلوب على آخر، وإنما هو قانون حتمي ثابت في الطبيعة والتاريخ، ولذا فلا مناص من المصير إليه.

الثاني - إظهار أن مواقفهم السياسية نابعة من موقف علمي - فلسفي، وليست نتيجة اختيارات آنية تمليها الضرورات السياسية في الحياة المتغيرة المتقلبة للمجتمع السياسي.

____________________

(١) البيان الشيوعي، ص:٨.

(٢) اسس اللينينية، ص: ٦٦.

٣٦

لأجل جميع ذلك اخترعت الماركية مبدأ قفزات التطور، زاعمة أن التغييرات التي تحدث نتيجة لقانوني الحركة وتناقضات التطور لا تحدث في الطبيعة والمجتمع تدريجياً وإنما تحدث دفعة واحدة وبشكل فوري ثوري يغير في لحظة الوضعية والبنية القديمة بوضعية وبنية جديدة تفرضها القفزة في الطبيعة والثورة في المجتمع السياسي.

ولم تقدم الماركسية أي دليل على دعواها هذه. وإنما عرضت جملة من الأمثلة التي يكشف النقد الموضوعي زيفها وخطأها.

وسيتضح بطلان هذا المبدأ من الناحية الفلسفية في المباحث الآتية، وكل ما نريد توضيحه هنا هو أن هذا المبدأ كسائر المبادئ الاسس في الماركسية ليس علمياً ولا فلسفياً وإنما هو تغطية وتبرير لأسلوب في العمل السياسي هو الثورة المسلحة التي قد تكون ضرورية حين تفشل جميع الوسائل في الاصلاح السلمي، ولكنها مع توفر امكانات الاصلاح والتغيير نحو الافضل بالأساليب السلمية تكون، بلا ريب، عملاً غير اخلاقي ومن ثم غير شرعي.

٤ ـ المدلول السياسي لقانون الارتباط العام

قانون الارتباط العام قانون صحيح وصادق في الطبيعة والمجتمع، وقد سبقت الواقعية الإلهية إلى الكشف عن هذا القانون. ولكنه يستند إلى أساس العلية، لا إلى ما تدعيه الماركسية من مبدأ التناقض، وسيأتي في الابحاث التالية بيان وجه الحق في الأساس الذي يستند إليه هذا القانون، أما هنا فنريد أن نكشف عن المدلول السياسي لهذا القانون في التطبيق الماركسي.

الماركسيون ينتفعون بجميع الفرص التي يتيحها لهم أي نظام سياسي يعملون في ظله: فهم، مثلاً، ينتفعون بحرية الكلام، والتظاهر، والتنظيم الحزبي والنقابي وغير ذلك من الحريات التي يتيحها لهم النظام الديمقراطي البرلماني إذا كانوا يعملون في ظل نظام كهذا كما تنتفع بها سائر الجماعات السياسية التي تعمل في ظل هذا النظام. وهذا أمر طبيعي،

٣٧

فمن الأصول الأساسية التي يقوم عليها النظام البرلماني هو اتاحة هذه الحريات للجماعات السياسية العاملة في المجتمع، ومن حق هذه الجماعات أن تستفيد في عملها السياسي من هذه الحريات.

ولكن الماركسية عندما تنتصر تتخذ من مسألة الحريات موقفاً آخر، فهي تصادر حرية الجماعات السياسية الأخرى في المجتمع في التعبير عن الرأي، والتنظيم الحزبي والنقابي وغير ذلك، وتستأثر لأجهزتها وحدها بكل هذه الحريات. بدعوى أن هذه الجماعات السياسية الأخرى تمثل تطلعات سياسية معادية للشعب (ولا حرية لأعداء الشعب). والحقيقية هي أن الجماعات السياسية قد لا تكون عدوة للتطلعات الشعبية وكل ذنبها أنها تعتمد عقيدة سياسية غير الماركسية، ولكن هذا وحده في نظر الماركسية، سبب كافٍ لمصادرة حرياتها.

والماركسية تستند في موقفها هذا إلى رغبة طبيعية، ولكنها غير عادلة، وفقاً للشعارات التي تنادي بها، في الإستئثار بالسلطة وفي تفويت جميع الفرص التي تتيح للشعب أن يطلع على وجهات نظر أُخرى في قضاياه الحياتية والسياسية. وهي تعلم أن قانون الارتباط العام يقضي بأن لكل نشاط إنساني في الطبيعة أو المجتمع أثراً ينعكس على شبكة العلاقات بين الأشياء والمواقف والجماعات. وأن الجماعات السياسية الاخرى في المجتمع إذا اتيحت لها الحريات السياسية فستكشف أخطار الممارسات التي يقوم بها النظام الحاكم، وهذا يؤدي الى تكوين قناعات لدى الشعب لن تكون في مصلحة هذا النظام الذي سيفقد تدريجياً سلطته وقدرته على التأثير، ولذا فهي تصادر حريات الاخرين لتحول بينهم وبين الانتفاع

٣٨

بقانون الارتباط العام في التأثير على الوضع السياسي للمجتمع، وتعطي لنفسها حرية الانتفاع بقدرة التأثير التي يوفرها هذا القانون.

إن الماركسية، حين تحكم، تمنع عن الآخرين ما تطالب به هي، وتحصل عليه في الغالب، حين يكونون حاكمين.

إن الماركسية تستثمر قانون الارتباط العام لمصلحتها وحدها حين تكون هي الحاكمة، بينما يكون إستثمار هذا القانون في العمل السياسي ممكنا لجميع الفئات السياسية في ظل الانظمة التي تعطي الحرية لجميع الفئات السياسية.

إن الماركسية لم تكتشف قانون الارتباط العام، ولكنها برعت في استخدامه على الصعيد السياسي.

خلاصة

في الأبحاث الآتية نقد شامل لأهم الركائز التي يقوم عليها الفكر المادي من خلال المسائل التي اثيرت في نقد الفكر الديني. ولذا لم يكن من مقصدي في الأبحاث الانفة إلا الكشف عن الخلفية السياسية التي أملت على المادية الديالكتيكية صياغة مبادئها الاساسية في الطبيعة والمجتمع، مرجئاً البحث الفلسفي إلى موضعه من هذا الكتاب.

وأود أن أُنبه هنا إلى أن المادية بجميع مظاهرها رأسمالية كانت أو ديالكتية أو غيرهما، بالاضافة إلى أنها خطأ علمي وفلسفي، مخالفة للطبيعة الانسانية ولأعمق واصدق ما يشتمل عليه التكوين الانساني من معنى، ومن ثم فإنها لن تؤدي إلا إلى انحطاط النوع الانساني في معناه وفي جوهره وإن أدت إلى تفوق بعض فئاته في الشأن المادي ولكن بثمن باهظ هو شقاء مئات الملايين من البشر، بل الوف الملايين إذا أخذنا بنظر الاعتبار التضخم السكاني في العالم الثالث.

٣٩

القِسمُ الثَاني مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني (تصفية حساب صغير)

في الابحاث الاتية ما يكشف بوضوح عجز الماركسية - على افتراض تسليم جميع مقدماتها - عن تقديم تفسير مقنع لنشأة الكون. وسنرى أنها تعمد إلى غيبيٍّة تتناقض مع أحكام العقل. وسأكشف من الزيف العلمي والتضليل الفلسفي في الماركسية.

وقد أعلن الأستاذ نسيب نمر (في مجلة الأحد/ ٢٩ آذار ١٩٧٠ - العدد / ٩٧٢) بعد أن انكشف عجز الماركسية وإفلاسها - براءة الماركسية من الدكتور صادق جلال العظم ومن أفكاره، بدعوى أن أفكاره ليست ماركسية بدرجة كافية، وأنه لم يتناول موضوعه تناولاً علمياً صحيحاً، وإلا لما تغلب عليه ناقده محمد مهدي شمس الدين.

ولا أدري لماذا طبل الماركسيون هنا وفي كل مكان للدكتور وزمروا، واعتبروا كتابه نموذجاً رائعاً للفكر الماركسي في مقابل الفكر الديني، ورأوا فيه انتصاراً كاسحاً للماركسية على الدين. كان هذا موقفهم قبل أن نذيع سلسلة مقالاتنا في نقد الكتاب موضوع البحث، فلما تبين من خلال هذه المقالات البؤس الفكري الذي يظهر جلياً في الكتاب المذكور،

٤٠

وتبين عجز الماركسية وإفلاسها، تبرأ الماركسيون من الدكتور ومن كتابه، واعلنوا بلسان الاستاذ نسيب نمر أنه لا يمثلهم ولا يمثل فكرهم.. لماذا؟!!

هل هذا تكتيك ماركسي للماركسية التي تتخطى ذاتها باستمرار؟!، وإذن فلنسمّ ما كتبه الاستاذ نسيب نمر في شأن مقالاتي وكتاب نقد الفكر الديني نوعاً من تخطي الذات!!

وقد تحدث الاستاذ نسيب نمر عما أتيح لي من حرية، وعما تعرض له الاستاذ صادق جلال العظم من مصادرة لحريته. وهذا ما أثار عجبي ودهشتي، فلقد أُتيح للدكتور من حرية التعبير عن الرأي ما لم يتيج لي عشر معشاره، وأتيح لافكاره من فرص الذيوع والانتشار ما لم يتح لاحاديثي في الرد عليه. لقد ناصرته الصحافة على اختلاف ميولها واتجاهاتها، وانبرت للدفاع عنه ولشرح أفكاره كل المؤسسات الاعلامية والحزبية الموالية لخطه الفكري، ونهجه السياسي. وكم روجت له هذه الأوساط وهللت في الصحافة والنوادي الثقافية.

وأما ما تعرض له من ملاحقة، وتعرض له كتابه من منع ومصارة، فقد قلت في مطلع أحاديثي أنه أمر لا موجب له ولا داعي إليه. وعلى أي حال فقد كان هذا الاجراء فرصة أتاحت للكتاب ذيوعاً وانتشاراً ما كان ليحصل عليهما لو أن الكتاب ترك وشأنه دون اعتراض.

مدخل

شُغِلتُ بعض الوقت عن قراءة كتاب الدكتور صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني» وقدرت في نفسي أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون كأمثالٍ له ألفناها في السنوات الأخيرة، هي حصيلة أفكار شبابنا الذي تعلم في أوربا فأخذ منها - إلى جانب علومها - أوهامها وتصوراتهما الخاطئة عن الدين بوجه عام، دون أن يكون قد وعى من تراثه ومن عقيدته ومن تاريخه ما يعصمه من الزلل، ويحمله على غربلة ما يسمع ويرى ويلقّن، فأخذ كل شيء على انه حقيقة، وطفق يروجها في وطنه، بعد أن شُدِه بحضارة أوربا المادية، الغالبة الآن على كل شيء، وبعد أن رأى أن مُثَلها ومفاهيمها وأخلاقها تكتسح أمامها كل المواضعات والأعراف والتقاليد سيئة كانت أو حسنة، جميلة كانت أو قبيحة.

وهذه الكتب أيضاً حصيلة موجة الالحاد التي انطلقت في السنين الأخيرة، وشملت قطاعاً كبيراً من الشباب المتعلم - ولا أقول المثقف - الشباب الذي لم يتزود بأي معرفة دينية علمية على الاطلاق، والذي

٤١

يُحشى فكره بافكار الملاحدة الأجانب في صيغ جازمة. ومسلمات حاسمة.

ومن الغريب في ظواهر هذه الموجة الالحادية انها تسمح لنفسها بالشك في المسيحية والاسلام وتحاول تمهيدها بالضلالات التي تنشرها، والأباطيل التي تروج لها. دون أن تمس اليهودية بشيء، وإن مستها بكلمة فانها تصاغ بمنتهى الرقة والعذوبة، ولا أعرف سرّاً لهذه الظاهرة إلا فكرة ماركس أو انجلز - لا أتذكر - «إن اليهود إذا فقدوا دينهم فقدوا أنفسهم».

قدرت في نفسي أن الأمر في هذا الكتاب لايعدو أن يكون كذلك، ولكن بعض الاصدقاء ألحوا عليّ أن انتزع نفسي من بعض مشاغلي على الأقل لبعض الوقت، وأن اتفرغ لقراءة الكتاب والتعليق عليه، لأنه «خطير» يجب أن يناقش وتفضح أكاذيبه وأباطيله، وهكذا استجبت لهم، وخصصت للكتاب وقتاً في جملة أوقاتي، وجعلت النظر فيه من بعض أعمالي.

وعندما قرأت الكتاب لم يتغير حكمي عليه قياساً على نظائره وأمثاله، فهو لايعدو أن يكون ترديداً أميناً لأفكار عصر النهضة الأوربية عن الدين وعن أساسه، وعن أهدافه... هذه الافكار التي اندفع إليها بلا تبصر علماء ذلك الحين تحت وطأة الصراع بينهم وبين الكنيسة في ذلك الحين. والكتاب إن تميز على أمثاله بشيء فهو يتتميز بالوقاحة الزائدة، وسوء الأدب في التعبير. إنه عمل تافه يتسم بالنزق الفكري، والعاطفية والفجاجة في كثير من موارده، ولا يخلو عن كثير من التناقضات.

وقد كنت أقرأ الكتاب وأُعلق عليه، فاجتمعت لي من تعليقاتي عليه

٤٢

هذه الحصيلة التي يراها القارئ، والتي عساه أن يجد فيها ما يجعله يوافقني في أن الكتاب المذكور لا يستحق كل هذه الضجة التّي أُثيرت حوله وحول كاتبه، فإنه لا يعدو - كما قلت - أن يكون كسائر الكتابات من هذا النوع تمر دون أن تنال من الدين أي منال، لأن الدين ينبع من فطرة في الانسان لا تقوى على اقتلاعها الترهات والاباطيل مهما كسبت ثوب العلم زوراً وبهتاناً، واسبغ عليها شكل الحقيقة كذباً وهذياناً.

ولا بد لي - قبل الدخول في نقد الكتاب - أن أقدم بعض الملاحظات حول طبيعة الموضوع المبحوث عنه «الدين» وحول مدى اهلية الدكتور المؤلف لتحمل المهمة التي كرس كتابه لأجلها.

أ - أهلية المؤلف

هل الدكتور مؤهل للكتابة عن نقد الفكر الديني؟

هذا أول سؤال يواجهنا.

يفترض فيمن يكتب عن شيء - نقداً أو تأييداً - أن يكون ملماً بصورة كافية بالموضوع الذي يكتب عنه، وأن يكون مطلعاً عليه اطلاعاً تاماً، وذلك ليكون مؤهلاً للحكم له أو عليه. فهل الدكتور بهذه المثابة من المعرفة الدينية؟.

لقد ظهر لي من قراءة كتابه أن معرفته الدينية بالاسلام ساذجة وسطحية إلى أبعد الحدود. إنها التصورات التي امتصها خياله وعقله من مجتمعه ومن

٤٣

أهله، وليست معرفة مبنية على المعاناة والدراسة والبحث.

إن فكرته عن الاسلام أخذها - ليس عن مصادر الاسلام الاساسية «القرآن الكريم والسنة الصحيحة» وانما أخذها عن العجائز واشباه العجائز وعن الجهال وأشباه الجهال، وعن الكتابات المتأثرة بالأفكار الاسرائيلية، والقصص التي لم تثبت إسلامياً من مصادر الاسلام الصحيحة.

وسيمر علينا خلال نقدنا التحليلي للكتاب كثير من الأمثلة الدالة على أن المؤلف ينقد موضوعاً لا يعرفه معرفة كافية. إنه يعرف الاسلام معرفة مشوهة، ويريد أن يجعل الاسلام من خلال معرفته المشوهة - موضوعاً لنقده، مستخدماً في ذلك الآراء التي استعارها من أولئك الذين أطلقوها ضد الدين في فترة الصراع بين الكنيسة وملوك الحكم المطلق في أوربا، تلك الآراء التي تجاوزها الفكر واثبت زيف كثيرٍ منها، وفجاجته، وإغراقه في الذاتية والعاطفية.

سنرى أن الفصل الذي عقده المؤلف تحت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» لا يكشف عن بؤس الفكر الديني، ولا يكشف عن بؤس الفكر العلمي وإنما يكشف عن البؤس الفكري للدكتور المؤلف.

ب - وظيفة الدين، ما هي؟

إن الدين عقيدة إلهية ينبثق عنها نظام كامل للحياة الانسانية. يقوِّم السلوك الانساني، ويرسم المناهج الصحيحة لهذا السلوك، ويرفع الكائن البشري من مستوى الحيوانية إلى مستوى الانسانية العالية.

٤٤

وليست وظيفة الدين أن يقدم تفسيراً تفصيلياً للكون: كيف نشأ؟ وما هي الأطوار التي مرّ فيها؟ وما هي العناصر التي يتكوّن منها؟ وما هي التفاعلات بين هذه العناصر؟ إلى غير ذلك من هذه المسائل. وليس في الاسلام شيء من ذلك إذا ما رجعنا إلى المصادر الاساسية للاسلام.

كل ما يقوله الدين في هذا المجال أنه يرد الكون إلى علة علياً إنه يعتبر «اللّه» هو السبب النهائي الاعمق والأعلى للتكوين «ويحتم على تسلسل العلل والاسباب أن يتصاعد إلى قوة فوق الطبيعة وفوق المادة» أما المسائل المتقدمة وأمثالها فهي مجال العلم.

وموقف الدين الاسلامي من العلم يتكون من عنصرين:

الأول: التشجيع على البحث والمعرفة، وذلك بفتح الآفاق أمام العقل البشري، وإزالة المعوقات التي تعترض طريقه وتعرقل سيره «حرم الاسلام السحر، والشعبذة، والكهانة، والقيافة»(١) فالاسلام يشجع،

____________________

(١) وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة في مناسبات عدة وجه اللّه فيها الانسان إلى طلب المعرفة والبحث في الكون المادي والحياة الانسانية والحيوانية والنباتية المحيطة به. وبين اللّه تعالى في طائفة اخرى من الآيات أن الكون المادي كله مسخر للانسان لينتفع به، ولا يمكن ذلك بطبيعة الحال إلا بعد اكتشافه، واكتشاف القوانين التي تيسر التعامل معه.

والطائفة الاولى من الآيات هي آيات التفكر، منها الآيات التالية:

١ - «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.

الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات =

٤٥

____________________

= والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» آل عمران (مدنية - ٣) الآية ١٩٠ - ١٩١.

٢ - «اللّه الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات: لعلكم بلقاء ربكم توقنون. وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون» الرعد (مكية - ١٣) الآيات: ٢ - ٤

٣ - «والانعام خلقها لكم فيها دفء، ومنافع، ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون. وعلى اللّه قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين. هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» النحل (مكية - ١٦) ٥ - ١١.

٤ - «واللّه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعونوإن لكن في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً، إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك ذلا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه منه شفاء للناس. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» النحل/ الآية ٦٥ - ٦٩.

= ٥ - «أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق اللّه السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى..» الروم (مكية - ٣٠) الآية: ٨.

٦ - «اللّه سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره، ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون». الجاثية (مكية - ٤٥) الآية - ١٢-١٣.

والطائفة الثانية من الآيات هي آيات التسخير، وقد مر بعضها في آيات التفكر، ومنها مما لم يتقدم ذكره الآيات التالية.

١ - «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره» الحج (مدنية - ٢٢) الآية: ٦٥.

٢ - «ألم تروا أن اللّه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة...» لقمان (مكية - ٣١) الآية: ٢٠.

٤٦

ولا يخطط، لأن التخطيط ليس من وظيفته وإنما هو وظيفة العقل الباحث، ولأن للعلم قوانين تطوره الخاصة التي تنجم عن تطور المعرفة، وتنوع الاكتشافات.

الثاني: إن موقف الدين الاسلامي بالنسبة إلى كشوف العلم وانتصاراته موقف مؤيد - واكرر: بالنسبة إلى العلم، أي إلي ما ثبت باليقين والحس والتجربة، فهو يعترف به، ويباركه ويعتبره مظهراً من مظاهر خلافة الانسان في الأرض. أما الظنون، أما الفرضيات والنظريات فلا قيمة لها، ولا تنال من الدين الاحترام بوصفها علماً لأنها ليست علماً، وإنما هي ظنون «إن الظَّنَّ لا يُغنِي مِنَ الحَقَّ شيئاً»(١)

____________________

(١) سورة النجم، الآية: ٢٨ وقد وردت المقابلة في القرآن دائماً بين العلم الصحيح (الحق) في جميع الحقول أو في حقل بعينه، وبين الظنون والأوهام غير الثابتة، والتي هي، في أحسن الأحوال، «مشاريع» تفتقر إلى مزيد من البحث لاثباتها أو نفيها.

٤٧

إن الفرضية والنظرية مجرد «مشروع» وليست حقيقة نهائية حتى تؤخذ مأخذ القبول المطلق، وإلا فاذا أردنا أن نظفي على الفرضيات قداسة الحقيقة «المعرفة العلمية النهائية الجازمة» نكون قد نقضنا بذلك المنهج العلمي الذي - لا يجيز لنا الايمان الا بما ثبت باليقين صحته وصدقه.

* * *

إن ما أشرت إليه من جهل المؤلف بموضوع بحثه «الدين الاسلامي» يكشف عن نفسه بوضوح في كثير من الموارد التي ينسب فيها إلي الإسلام أنه يقدّم «نصوصاً مقدسة» تفسر الظواهر الكونية، وهو مخطئ في نسبته ذلك إلى الاسلام.

وما أشرت إليه من بؤس المؤلف الفكري يكشف عن نفسه بوضوح عندما يفترض في الدين موضوعاً غير موجود في الدين وينقده بفرضية من الفرضيات، ونظرية من النظريات التي لم تثبت صحتها، ولم ترتفع عن درجة «الظن» إلى درجة «اليقين».

ج - مَنْهَجة البحث

تحت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» عالج المؤلف موقف الدين (الاسلامي على الاخص) من العلم، وموقف العلم من الدين في اثنتين وستين صفحة من كتابه.

وقد انطلق في بحثه هذا من فرضية لم يبرهن على صحتها (وما اكثر ما لديه من فرضيات لا تزيد عن كونها دعاوى بلا برهان) - أقول انطلق من فرضية لم يبرهن عليها وهي:

٤٨

أن النظرة العصرية «يسميها هو علمية» حق بجميع ما اشتملت عليه وأدت اليه، وأن الفكر الديني باطل كله، ابتداء من قضية وجود اللّه إلى إصغر قضية دينية، ورتب على هذه االفرضية العارية عن البرهان أن على الفكر العصري أن ينقد الفكر الديني.

إن أبسط الناس ثقافة لا يستطيع أن يوافق المؤلف على هذا الموقف. وإلا، فاذا كانت المسألة تقوم على مجرد الافتراض والادعاء فلماذا لا يكون الصحيح هو العكس، وهو أن على الفكر الديني الصحيح الأصيل أن يقوم بنفس المهمة تجاه الافكار العصرية القائمة على الهوى وعلى سوء الفهم لقضايا الدين والعلم.

أعتقد أن المؤلف انطلق في هذه المسألة بسبب تشبع فكره «بكليشهات» انصاف المثقفين عن العلم وعن التفكير العلمي وعن قوة العلم وانتصاره، دون أن تكون لديهم القدرة على التمييز بين العلم وبين الفرضيات والنظريات، أضف إلى ذلك ما ذكرناه عن ضحالة تفكيره ومعرفته فيما يتصل بالدين ومصادره الاساسية ووظيفته، فوقع في هذا الخطأ الذي أشرنا إليه.

وعلى أي حال فقد أثار المؤلف في مقدم بحثه قضية الصراع بين الدين والعلم، وعالج في نهاية البحث مسألة وجود اللّه.

وأعتقد ان الترتيب الطبيعي للبحث يقضي بالعكس: أن نبحث أولاً مسألة وجود اللّه، وبعد ذلك تكون جميع القضايا ثانوية، لأن قضية وجود اللّه هي اساس الفكر الديني ، فاذا خرجنا منها برأي حاسم استطعنا أن نصفي بقية المسائل بسهولة.

٤٩

مسألة العلة الأولى اللّه ام المادة؟

أ - تمهيد

ب - العلة الاولى

ج - اللّه أم المادة؟

٥٠

في الصفحات (٢٥ - ٢٩ ) عرض المؤلف باسلوب غير علمي لمسألة وجود اللّه، وخلقه للكون، وعرض للمسألة أيضاً في الصفحات (٧٤ - ٧٨ ) عند مناقشته لرأي وليم جيمس. وقد لخص رأيه في المسألة في صفحة (٢٨ - ٢٩) بالنص التالي:

«في الواقع علينا أن نعترف - بكل تواضع - بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون. عندما تقول لي إن اللّه هو علة وجود المادة الاولى التي يتألف منها الكون، وأسألك بدوري: وما علة وجود اللّه. إن اقصى ما تستطيع الاجابة به: «لا أعرف، إلا أن اللّه موجود غير معلول» ومن جهة أُخرى عندما تسألني: وما علة وجود المادة الأولى؟ فان اقصى ما استطيع الاجابة به «لا أعرف، إلا أنها غير معلولة الوجود» في نهاية الأمر اعترف كل منا بجهله حيال المصدر الأول للاشياء. ولكنك اعترفت بذلك بعدي بخطوة واحدة، وادخلت عناصر غيبية لا لزوم لها لحل المشكلة. والخلاصة، وإذا قلنا أن المادة الاولى قديمة وغير محدثة، أو ان اللّه قديم وغير محدث نكون

٥١

قد اعترفنا بأننا لا نعرف ولن نعرف كيف يكون الجواب على مشكلة المصدر الاول للاشياء. فالافضل اذن أن نعترف بجهلنا صراحة ومباشرة عوضاً عن الاعتراف به بطرق ملتوية».

وهكذا نرى المؤلف يسجل على نفسه بصراحة ووضوح أنه يجهل حقيقة المصدر الأول للاشياء: أهو اللّه أم المادة؟

ومع ذلك فهو يصرح في كل صفحة تقريباً من صفحات كتابه بأنه (المؤلف) مادي، وبأن الحقيقة النهائية هي المادة، ويختم كتابه بالعبارة التالية:

«ومن المؤكد أن المادية الديالكتيكية هي أنجح محاولة نعرفها اليوم في صياغة صور كونية متكاملة تناسب هذا العصر وعلومه».

وهكذا يقع المؤلف في التناقض.

إن تبني مفهوم معين للكون ينبع بالضرورة من تبني قرار حاسم بالنسبة إلى العلة الاولى للكون:

إن الاعتراف باللّه علةً أُولى يُلزِم بتبنِّى المفهوم الألهي للكون.

والاعتراف بالمادة علةً يُلزِم بتبنِّي المفهوم المادي للكون.

وعدم الجزم بالعلة الاولى للكون - كما يكشف عنه المؤلف في نصه الذي نقلناه - يجعل من المستحيل منطقياً تبنِّي أي من المفهومين - الالهي أو المادي للكون، إذ لا يمكن بناء نتيجة بدون مقدماتها.

أما أن نعلقَ الحكم في مسألة العلة الاولى للكون، لاننا (في زعم المؤلف) نجهلها، ثم نجزم بالمفهوم المادي للكون كما صنع المؤلف فهذا

٥٢

تناقض ومحال يكشف كما قلت واكرر عن البؤس الفكري للمؤلف. إن تعليق الحكم في العلة الاولى يقتضينا أن نعلق ايضاً الحكم في طبيعة مفهومنا عن الكون: مادي هو أم إلهي؟

* * *

ويقع المؤلف في تناقض آخر بالنسبة إلى مسألة العلة الاولى، فبعد أن اعترف بصراحة في النص السابق بأنه يجهل الجواب عن مشكلة المصدر الأول للاشياء، نراه في صفحة(٧٨) يصرح بإنه يعرف المصدر الأول للاشياء، وينفي وجود اللّه بشكل حاسم، ويعبر عن رأيه هنا بالنص التالي:

«إن المفكر الذي لا يعتقد بوجود اللّه أو يعلق الحكم حول الموضوع بأسره قد لا يفعل ذلك من جهة تكوينه العاطفي... إنه يفعل ذلك لأنه القناعات الفكرية التي تشكلت لديه على أسس علمية واضحة لا تسمح له بأن يعتقد بوجود اللّه دون أن يقع في تناقض ذاتي ودون أن يضحي بوحدة تفكيره ومنطقه».

نتساءل: كيف علق الحكم سابقاً في هذه المسألة، وكيف جزم بالعدم هنا؟

إنه علق الحكم سابقاً لأنه لا دليل على الوجود (في زعمه) ولا دليل على العدم، ومع أنه لم يقدم أي دليل على العدم نراه جزم هنا بعدم وجود اللّه.

* * *

٥٣

إن المصور لا يستطيع أن يلتقط صورة دقيقة لجسم مّا يريد تصويره ما لم يضبط - بدقة متناهية - زاوية الرؤية بين عدسته وبين الجسم المراد تصويره، فاذا ما أخل بهذا الشرط الاساسي حصل على صورة مشوهة، أو لم يحصل على صورة اطلاقاً.

والأمر في عمليات الفكر يشبه هذا المثال. فاذا أردنا اكتشاف حقيقة ما أو البرهنة على فرضية ما فعلينا ان نفكر فيها من الزاوية الملائمة لها، المتفقة مع طبيعتها - أما حين نفكر فيها من زاوية أُخرى، أو نطبق عليها شروطاً لا تتفق مع طبيعتها فاننا نخفق في مهمتنا، ويؤدي ذلك بنا في النهاية الى الضلال وسوء الفهم كما حدث للمؤلف

ان الشك في وجود علة نهائية للكون، أو الاعتراف بذلك والشك بانها اللّه أو المادة ينتج لدى رجل الفكر من أحد عاملين: إما عن قصور فكري، وإما عن سوء استخدام للفكر بالطريقة الصحيحة. إن ما يبدو لي هو أن المؤلف قد نظر الى مسألة وجود اللّه من غير الزاوية الصحيحة. فادى به ذلك إلى الوقوع في الخطأ: تعليق الحكم في هذه المسألة، أو الجزم بعدم وجود اللّه، فله رأيان في المسألة كما رأينا.

إن هذا يكشف عن أن المولف يعاني من اهتزاز فكري حيال هذه المسألة.

وعلى أي حال فهذه المسألة تبحث على مرحلتين.

الأولى: هل نحن بحاجة إلى الالتزام بعلة أُولى للكون أم لا؟

الثانية: إذا آمنا بلزوم علة أُولى للكون، فهل هذه العلة الاولى هي اللّه كما تقول الفلسفة الالهية أم المادة كما تقول الفلسفة المادية؟

٥٤

أ - مسألة العلة الاولى

- ١ -

إن مبدأ العلية (توقف كل موجود ممكن على علة لوجوده) من البديهيات التي يدركها العقل البشري. إن الانسان يجد في صميم طبيعته ما يدفعه إلى تعليل الاشياء والظواهر، واكتشاف أسبابها. وقد اعترف المؤلف في ص ٢٥ بأن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء».

وكل معرفة بشرية نظرية أو تطبيقية تتوقف على التسليم بمبدأ العلية والاذعان لقوانينه:

١ - مبدأ العلية «إن لكل شيء سبباً».

٢ - قانون الحتمية «إن كل سبب يولد النتيجة الحتمية له بصورة ضرورية ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن اسبابها»

٣ - قانون التناسب بين الاسباب والنتائج: «إن كل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة يلزم أن تتفق ايضاً في الاسباب والنتائج».

٥٥

وهكذا يتوقف على التسليم بمبدأ العلية وقوانينه:

١ - إثبات الواقع الموضوعي للاحساس في التجربة الشخصية المادية.

٢ - النظريات والقوانين العلمية المستندة إلى التجربة.

٣ - جواز الاستدلال وانتاجه في أي ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية ولولا مبدأ العلية لما أمكن إثبات شيء من ذلك.

- ٢ -

وهنا يواجهنا سؤال أساسي:

هل مبدأ العلية قائم على أساس تجريبي أو على أساس فلسفي؟

الحق أن مبدأ العلية ليس مبدأً يستند إلى الحس، ولا إلى التجربة وإنما هو مبدأ عقلي ضروري فوق الحس وفوق التجربة.

ليس مبدأ العلية برهاناً حسياً لأن الحس لا يكتسب صفة الحقيقة الموضوعية إلا عن طريق مبدأ العلية، فليس من المعقول أن يكون مبدأ العلية مديناً للحس في ثبوته.

وليس مبدأ العلية نظرية علمية تجريبية، لأن جميع النظريات العلمية تتوقف عليه. فإن كل استنتاج علمي قائم على التجربة يواجه المشكلة التالية، وهي: أن التجربة التي يستند عليها الاستنتاج محدودة بنماذج معينة، فكيف تكون بمجردها دليلاً على نظرية عامة؟ والحل الوحيد لهذه

٥٦

المشكلة في العلية وقوانينها: مبدأ العلية. قانون الحتمية. قانون التناسب

فإذا افترضنا أن مبدأ العلية نفسه، مرتكز على التجربة فسنواجه مشكلة العموم والشمول من جديد على صعيد مبدأ العلية نفسه، وذلك لأن التجربة ليست مستوعبة للكون، فكيف تعتبر دليلاً على نظرية عامة، وقد كنا نحل هذه المشكلة في مختلف النظريات العلمية بالاستناد إلى مبدأ العلية، بصفته الدليل الكافي على عموم النتيجة وشمولها، وأما إذا اعتبر نفس هذا المبدأ تجريبياً، وواجهنا مسألة العموم والشمول بالنسبة إليه، فسوف نعجز نهائياً عن الجواب عنه.

وإذن، فلا بد أن يكون مبدأ العلية فوق التجربة، وقاعدة أساسية للاستنتاجات التجريبية عامة.

وأخيراً، إن مبدأ العلية مبدأ ضروري لا يمكن الاستدلال على رده، وذلك لأن الدليل علة للعلم بالشيء المستدل عليه، وإذن محاولة الاستدلال على رد مبدأ العلية تنطوي على الاعتراف بمبدأ العلية وتطبيقه.

والخلاصة: أن مبدأ العلية ليس مبدأً حسياً، وليس مبدأ تجريبياً، ولا يمكن نقضه بأي دليل، وإنما هو مبدأ عقلي ضروري فوق الحس والتجربة، وثابت بصورة متقدمة على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الانسان.

- ٣ -

بعد أن آمنا بمبدأ العلية وقوانينه، وأنه مبدأ عقلي ضروري، تخضع

٥٧

له جميع الموجودات الممكنة ولا تستغني عنه، نتساءل:

لماذا تحتاج الأشياء إلي علل، ولماذا لا توجد الأشياء بدون علل؟

وقد أجاب عن ذلك الفيلسوف الاسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي) بما ملخصه: إن علاقة العلية بين العلة والمعلول هي ارتباط بين شيئين، وللارتباط مظاهر متنوعة، ولكنها جميعاً ترجع إلى نوعين.

احدهما: أن يكون لكل من الشيئين المرتبط أحدهما بالآخر وجود مستقل سابق على حصول الارتباط: يكون القلم - مثلاً موجوداً بصورة مستقلة، ويكون الكاتب موجوداً بصورة مستقلة، ثم يحصل الارتباط بينهما حين يستخدم الانسان القلم للكتابة. ويكون القماش - مثلاً - موجوداً بصورة مستقلة، ويكون الشخص موجوداً بصورة مستقلة أيضاً، ثم يحصل الارتباط بينهما حين يلبس الشخص القماش ثياباً، وهكذا.

ثانيهما: أن لا يكون لأحد الشيئين وجود مستقل عن وجود الاخر وهذا هو رباط العلية، مثلاً (ب) ارتبط ب‍ (ا) برباط العلية، ففي هذه الحالة لا يكون له (ب) وجود مستقل عن وجود (ا) وإنما حقيقة وجود (ب) عبارة عن ارتباطه وعلاقته ب (ا) فلو انقطع هذا الارتباط انقطع وجود (ب) بالضرورة - وهذا بخلاف ما إذا كان الارتباط ليس على نحو العلية، فان انقطاع الارتباط بين القلم والكاتب لا يؤثر على الوجود المستقل لكل منهما، وإنما يحتفظ كل واحد منهما بوجوده المستقل قبل الارتباط ومعه وبعده، بينما المعلول وجود منبثق عن العلة حال ارتباطه بها أما قبل ذلك فلا وجود له ابداً، وأما بعد انقطاع الارتباط فينعدم فوراً.

٥٨

وإذن: فالحقائق الخارجية ليست في الواقع إلا تعلُّقات وارتباطات، فالتعلق والارتباط مقوم لكيانها ووجودها، والسر في احتياجها إلى العلة أن وجودها وكيانها عبارة عن الارتباط والتعلق بمنبع وجودها المباشر، وهو العلة.

- ٤ -

إن مبدأ العلية في الكون يقودنا الى قانون النهاية: «إن العلل المتصاعدة التي ينبثق بعضهاعن بعض، يجب أن تكون لها بداية، أي علة أُولى لم تنبثق عن علة سابقة».

وذلك لأن العلل لا يمكن أن تتصاعد بشكل لا نهائي، فإن الموجودات المعلولة كلها ارتباطات، وهي تحتاج إلى حقيقة مستقلة تنتهي إليها، وإلا فإن سؤال «لماذا؟» يبقى قائماً بالنسبة إلى كل موجود، وإذن، فإن عقلنا يقودنا إلى الايمان بسبب أول متحرر من مبدأ العلية، مستقل بذاته عن كل شيء، وبذلك لا نواجه بالنسبة إليه سؤال «لماذا؟».

* * *

إن خضوع الكون كله لمبدأ العلية وقوانينه قادنا بصورة حتمية إلى الايمان بعلة أُولى واجبة الوجود بالذات، غير محتاجة إلى علة، ولا يسع الانسان الا الاذعان لهذه الضرورة العقلية لأن رفضها يؤدي إلى التسلسل اللانهائي المستحيل.

٥٩

ب - اللّه أم المادة

- ١ -

يتألف الكون المنظور من عدد من العناصر الأساسية بلغ عدد ما اكتشف منها حتى الان عنصرين ومائة عنصر رتبت في جدول حسب تسلسل وزنها الذري. ويقع الهدروجين في أول هذا الجدول لأنه أخف العناصر في وزنه الذري، فهو يحتوي في نواته على شحنة واحدة موجبة، يحملها بروتون واحد، ويحيط بها الكترون واحد ذو شحنة سالبة، ويقع في نهاية الجدول النوبليوم - فمرقمه الذري (١٠٢) أي أن نواته تشتمل على (١٠٢) وحدة من وحدات الشحنة الموجبة، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الالكترونات ذات الشحنات السالبة.

في حدود ما وصل إليه العلم الان هذه العناصر هي المواد الاساسية التي يتألف منها الكون المادي، وهذا الحشد الهائل من الحقائق والانواع المختلفة يرجع لدى التحليل إلى تلك العناصر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174