مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني33%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62444 / تحميل: 7607
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وتضمن هذه المعاهدات امتيازات اقتصادية وسياسية وعسكرية للدولة المستعمرة سابقاً، كما أعادت القوى الرأسمالية المالية والصناعية تنظيم نفسها في تكتلات (تروست) ذات قدرة مالية وسياسية واقتصادية هائلة احتكرت تجارة المواد الخام والمنتجات الصناعية في العالم. مما جعل الدول المتحررة (المستعمرة سابقاً) تقف عاجزة في غالب الأحيان تقف عاجزة أمام سياسة الأسعار التي تفرضها الاحتكارات الرأسمالية الكبرى، فتجد نفسها مضطرة إلي أن تبيع سلعتها (فوسفات، نفط، حديد، كبريت، اورانيوم، بن، شاي، كاكاو الخ) لتمول مشروعات التنمية ولتنفق على جهازها الاداري وعلى (جيشها).

وحين تطمح بعض الدول إلى امتلاك ناصية الأُمور، وتقرر الاستيلاء على ثروتها الوطنية، والاستقلال في التصرف فيها بما يضمن مصالح شعبها أو تقترح اسعاراً عادلة لسلعتها لا تعدم الدول الاستعمارية والاحتكارات العالمية وسائل متنوعة تشل فيها قدرة الدولة الضعيفة على تسويق سلعتها، وتخلق لها المتاعب الداخلية التي قد تؤدي إلى قلب نظام حكمها واستبداله بنظام آخر مطواع (واقعي وأكثر تعقلاً) ومن ثم أكثر اضطراراً للبيع بالسعر الذي تراه الاحتكارات مناسباً.

كما عملت القوى الاستعمارية السابقة على إثارة النزاعات الاقليمية والعنصرية، والدينية، والقبلية بين الدول المتخلفة في العالم الثالث، مستغلة للتوصل إلى ذلك ما غرسته أثناء الاستعمار من مفاهيم ثقافية لها طابع التفريق والتقسيم في شعوب هذه الدول، دافعة بها من خلال هذه النزاعات إلى الحروب الأهلية والاقليمية، وإلى توريطها في منازعات وأزمات سياسية كبرى بين بعضها وفي داخل كل دولة منها، ملجئة لأنظمتها المختلفة

٢١

الضعيفة إلى البحث لدى الدول المستعمرة السابقة عن محالفات سياسية تقوي مركزها في الداخل أمام شعبها أو فريق منه وأمام خصومها في الخارج، ودافعة لها إلى البحث، بأي ثمن، عن السلاح الذي تحتكر صنعه الدول الاستعمارية، باذلة في سبيل الحصول عليه ثمن موادها الخام، معطلة مشاريع التنمية لشعوبها وأوطانها، مزدادة فقراً وتخلفاً ومن ثم عجزاً عن المقاومة، ومن ثم خضوعاً لما تمليه إرادات القوى الرأسمالية واحتكاراتها الكبرى... مستمتعة بحرية وسيادة وهميتين!!؟؟

وقد كانت حصيلة المسلمين عامة والعرب منهم بوجه خاص من بلاء هذا الاستعمار الرأسمالي كبيرة جداً، لقد تسلطت القوى الرأسمالية على جميع العالم الإسلامي تقريباً، بل على جميعه إذا اعتبرنا السيطرة غير المباشرة، وقد خرب الاستعمار في العالم الإسلامي كلما استطاع ان يخربه وكان أعظم تخريبه في شخصية الانسان المسلم. وأعظم محن العالم الاسلامي من الاستعمار محنة فلسطين التي تعتبر أعظم محن المسلمين في التاريخ - حتى بالقياس إلى ضياع الأندلس - فقد طرد الاستعمار القديم بالتعاون مع الصهيونية شعبها المسلم، وأسكن فيها اليهود الذين نفروا إليها من جميع بقاع الدنيا لينشئوا ما أسموه ب‍ (دولة اسرائيل) مدفوعين بأحلام خرافية استمدوها من ثوراتهم، وقد ثبت الاستعمار الجديد هذه الدولة، ووفر لها أسباب القوة والتسلط، فشتت بها العرب، واستنفذ توراتهم - وعلى رأسها ثروة النفط - بالسلاح الذي يبيعه إياهم ليحموا أنفسهم من طليعته وربيبته التي غرسها في قلب وطنهم. وحرمهم الاستقرار السياسي، وجعلهم طيلة ثلث قرن يعيشون في ظل الخوف من عدوان اسرائيل التي شجعها الاستعمار الجديد على أن تحتل في النهاية جميع أرض فلسطين

٢٢

وجزءً من سوريا ومصر والاردن(١) .

هذه هي الرأسمالية التي تقود خطاها في استغلال العالم قيم الجاهليلة: المادية، والحيوانية، واللاأخلاقية، وروح العدوان(٢) .

* * *

لقد كانت الماركسية أحد التعابير السياسية - الفكرية عن صرخات العذاب التي أطلقتها الطبقة العاملة في اوربا ضد رأسمالية القرن التاسع عشر الطاغية الباغية على شعوبها وعلى العالم. ولكن النظام الذي بني على قواعدها ومبادئها سرعان ما مارس في الداخل والخارج سياسات إن كانت قد تجنبت الوقوع في بعض المآخذ على الرأسمالية في صيغتها القديمة أو صيغتها الجديدة، فانها لم تعدم أخطاء كبرى في سياستها تجاه شعوبها وتجاه شعوب العالم الثالث، وكشفت عن طموحات للسيطرة وبسط النفوذ جعلتها في نظر شعوب العالم الثالث قوة ينبغي الحذر منها، لأن طموحاتها في السيطرة السياسية والاقتصادية تماثل الطموحات التي تحرك القوى الرأسمالية نحو العالم الثالث، وترسم خططها في التعامل معه.

وكانت ثورات شعوب العالم الثالث صرخات العذاب الأليم التي تطلقها هذه الشعوب ضد الرأسمالية الأوربية ممثلة بالاستعمار.

____________________

(١) وها هي دولة الصهاينة تحتل أخيراً جبل عامل (لبنان الجنوبي) فتشرد عشرات الالوف من قراهم وتقتل المئات، وتهدم مئات المنازل وتضع باحتلالها الجنوب في غمرة أخطار سياسية غامضة طالما حذرنا منها، نسأل اللّه أن يرزقنا البصيرة لنواجه مسؤولياتنا بشجاعة، ونتحمل واجباتنا بإخلاص.

(٢) عن طبيعة الجاهلية وتركيبها لاحظ كتابنا (بين الجاهلية والاسلام) نشر دار الكتاب اللبناني - دار الكتاب المصري ١٣٩٥ هجري = ١٩٧٥ م فصل الجاهلية الحديثة.

٢٣

وكانت أوربا الرأسمالية - الاستعمارية - إلى حين الحرب العالمية الثانية - تحكم العالم الثالث وفقاً لمعادلة متضادة الطرفين، غدا من المستحيل بعد الحرب الاستمرار فيها. كانت تحكم العالم بروحية وأُسلوب العلم الحديث في التنظيم المجتمعي واستثمار الطبيعة والطاقة، هذا العلم الذي وضع الانسانية في العصر الذري - من جهة - وبروح وأُسلوب عصر الانطلاق الاستعماري الاعظم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد في مجال العلاقات الدولية، من جهة أُخرى، وقد ولدت هذه المعادلة تناقضاً في الواقع بين القوى التي تنسج الواقع وتولد الافكار - وهي قوى العلم المنفتح - وبين الأفكار التي يراد صياغة الواقع وفقاً لها. لقد غدا الاستمرار في هذه المعادلة مستحيلاً بعد الحرب العالمية الثانية، إن افكار الواقع كانت تضغط باتجاه اسلوب اكثر أخلاقية في العلاقات الدولية على خلاف رغبات القوى الرأسمالية التي كانت تضغط بالقوة المسلحة لرسم واقع العلاقات الدولية على ضوء افكار القرن التاسع عشر.

وقد تمثلت المعالم العامة لهذا الاسلوب الأخلاقي في العلاقات الدولية في الامال التي اختلجت بها قلوب مئات الملايين من شعوب العالم الثالث نتيجة لما ولدته الحرب العالمية الثانية بما رافقها من عنف ووحشية في الصراع المجنون بين النازية والديمقراطيات الغربية والاتحاد السوفياتي - في هذه الشعوب من وعي لواقعها الأليم، كما وانها رفعت درجة أحساسها بقهرها وذلها وانحطاط حياتها، وكونت لديها آمالاً جديدة في الحرية والعدالة والرخاء عززتها وعود المنتصرين، وقد دفعت هذه الامال الجديدة الزاهية، والتطلعات إلى نظام عالمي جديد بالشعوب المقهورة إلى أن تبحث لنفسها عن صيغ في التعاون الدولي تحق آمالها وتطلعاتها.

٢٤

ولكن العالم الغربي حاول أن يحتال على هذه الحقيقة، وأن يقف في وجه حركة التاريخ، وأن يجهض القوى الروحية العظمى التي اختلج بها العالم الثالث مندفعاً نحو الانعتاق باستعمال أساليب القمع المباشر تارة وأساليب الاستعمار الجديد تارة أُخرى، وساعده علي ذلك أن القوة العالمية الاخرى (العالم الاشتراكي) سقط - كما ذكرنا - في إغراء التسلط العسكري والسياسي وبسط النفوذ مما أعطى كلتا القوتين العظميين قدرة على المساومة مع غريمتها لتحقيق أهدافها.

وهكذا اكتشف العالم الثالث أنه وقع بين فكي كماشة فتكتلت شعوبه المستقلة وتلك التي كانت لا تزال مقهورة ومستعمرة تخوض ثورات دامية في سبيل التحرر الوطني. تكتلت في تجمع عالمي يمثل أخلاقية جديدة في السياسة الدولية، تجعل العلاقات الدولية قائمة على العدل والأخلاق وحكم القانون، فكان مؤتمر باندونج الذي وضعت فيه مبادئ الحياد الايجابي وعدم الانحياز بين القوتين العظميين في العالم.

وهكذا ولد في باندونج مفهوم جديد للسياسة الدولية والعلاقات بين الدول يقوم على رؤية روحية - أخلاقية، في مقابل المفهوم السائد الذي يقوم على منطق القوة.

لقد كان مؤتمر باندونج صرخة عذاب أيضاً أطلقها العالم الثالث الذي اكتشف أنه وقع بين فكي كماشة النظاميين الأعظمين - الرأسمالي والاشتراكي - بحثاً عن وضعية جديدة في السياسة تضمن لوحداته السياسية معاملة أكثر عدلاً، ووضعاً أكثر أمناً، وحركة أكثر حرية في رسم سياساتها الوطنية والخارجية.

٢٥

ولكن روح باندونج، والنزعة التي حركت ضمائر مئات الملايين من البشر في العالم الثالث نحو بناء قوة عالمية ثالثة لا تقوم على مبادئ القوة والسيطرة، وانما تقوم على مبادئ الاخلاق والقانون والتعاون - هذه الروح وهذا الطموح لا يناسب مصالح مراكز الثقل في النظام الرأسمالي العالمي والنظام الاشتراكي العالمي، فعملت مراكز الثقل في النظامين على أجهاض محاولات بناء هذه القوة العالمية الثالثة مستغلة تخلف هذه الشعوب، ضعف أنظمة الحكم فيها، وفقرها، وعجزها العلمي والتقني الذي قصر بها عن استغلال ثرواتها بنفسها، وألجأها إلى عرض هذه الثروات في السوق العالمي الذي تحكم اقتصادياته احتكارات الرأسمالية الكبرى، ومؤسسات الاقتصاد في النظام الاشتراكي، فعادت، نتيجة لذلك، القوتان العظميان إلى العالم الثالث.

ولئلا تعود فكرة القوة الجديدة في المجتمع الدولي إلى الظهور بصورة فاعلة استخدمت القوى العالمية القادرة كل الوسائل لايجاد حالات العداء المسلح بين مجموعات انظمة العالم الثالث، فنشبت الحروب الاقليمية التي زادت هذه الشعوب ضعفاً واتكاءً على القوى الرأسمالية أو على القوى الاشتراكية العالمية، واستنزفت قدرتها الاقتصادية، وخلقت حواجز من الشك والعداء والمصالح الوطنية الاقليمية تحول دن أي تحرك جاد وفعال ومستمر في اتجاه تكوين قوة عالمية ضاغطة تحقق التوازن في السياسة الدولية لمصلحة العالم الثالث. وبدلاً من ذلك اتفقت الدولتان العظميان على سياسة الوفاق التي تعني - بشكل أو بآخر - وصايتهما على العالم الثالث.

وقد وضعت المبادئ الاولى لسياسة الوفاق منذ عبرت إرادة العالم الثالث عن نفسها في مؤتمر باندونج سنة ١٩٥٥ م ، وذلك في مؤتمر جنيف

٢٦

الذي عقد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وانكلترا ورنسا وأنهى الحرب الباردة بين الشرق والغرب مفتتحاً عهداً جديداً من الانفراج الدولي تحت شعار (التعايش المشترك).

وقد كشفت التعليقات الغربية بمناسبة صفقة الاسلحة التشيكية مع مصر عن حقيقة ما كان يسمى آنذاك (روح جنيف) وأنه كان في الحقيقة بداية الطريق التي سلكتها القوتان العطميان لفرض وصايتهما أو نفوذهما - بشكل أو بآخر - على العالم.

فقد صرح سيرأنتوني ايدن رئيس الوزراء البريطاني في خطبة ألقاها في بورتموث في ٨ / ١٠ / ١٩٥٥ معلقاً على صفقة الأسلحة التشيكية - قال:

«هذه بالضبط فرصة أمام الدول الكبرى لكي تتفق على أن تحاول التحكم في نفسها وتتحد لكي تتحكم في الاخرين، وفي هذا يكمن في رأيي التفسير الحق لفكرة جنيف..»

وكتبت صحيفة المانشستر جارديان في عددها الصادر في ١٩ / ١٠ / ١٩٥٥ م معلقة على الصفقة بقولها:

«ربما كان من الخير أن يتفق الغرب مع روسيا في الشرق الأوسط على أساس سياسة جديدة لاتسمح لدول صغيرة في هذه المنطقة من العالم بأن تقوم بمحاولات خطيرة، وهي للأسف غير جديرة بتحمل المسؤولية».

وكتبت صحيفة لوموند الفرنسية في عددها الصادر في ٢٢ / ١٠ / ١٩٥٥ معلقة على الصفقة بقولها:

«ان نشاط انجلترا الدبلوماسي فيما يخص العالم العربي يجب أن يتجه

٢٧

إلى اقناع الاتحاد السوفياتي بالاعتراف بالوضع الراهن في الشرق الأوسط، في نطاق مناقشات بين الأربعة الكبار».

* * *

إن العالم الثالث الان محكوم بقانون سياسة الوفاق بين القوتين العظميين، وهي سياسة لحظت فيها مصالح القوتين العظميين بالدرجة الأولى. وهي سياسة مبنية على منطق القوة. ومن الطبيعي أن البديل الصالح لسياسة الوفاق ليس اللاوفاق الذي قد يؤدي بالعالم كله إلى كارثة نووية تقضي على الجنس البشري، وإنما البديل لسياسة الوفاق هو التوصل إلى قاعدة في السياسة الدولية والعلاقات بين الدول والكتل الدولية تقوم على مبادئ الأخلاق والقانون ويكون لها مضمون روحي. إن البديل لسياسة الوفاق هو الطموح النبيل لشعوب العالم الثالث نحو عالم لا تقوم العلاقات فيه على منطق القوة والسيطرة. وإذا كانت الأديان قادرة على أن تقدم لهذه القاعدة مضموناً أخلاقياً وروحياً فان الاسلام أقدر هذه الأديان على ذلك لأنه بحكم تكوينه العقيدي والتشريعي، وبحكم تجربته التاريخية قادر على أن يقدم المضمون الاخلاقي- الروحي في صيغة عملية تتصل بالواقع المادي والنفسي للانسان. ويبقى لكل دين دوره في إغناء التجربة الانسانية في محيطه الثقافي وفي العالم.

إن العالم الثالث المسحوق تحت وطأة تخلفه المادي والتنظيمي داخل وحداته السياسية، هذا التخلف الناشيءَ عن عجزه وعن تدخل القوى العظمى في شؤونه، هذا العالم الثالث سيبقى نقطة الخطر ومبعث الأمل.

٢٨

هو نقطة الخطر لأنه ساحة تصفية و تسوية الصراعات بين القوى العالمية الكبري التي تتعامل مع بعضها ومع العالم الثالث بمنطق القوة، وأقل خلل في حسابات التصفية والتسوية قد يقود العالم كله إلى كارثة نووية.

وقد وصل العالم إلى حافة الكارثة عدة مرات في ربع القرن الأخير بسبب المواجهات بين القوى الكبرى على أرض العالم الثالث.

وهو مبعث الأمل لأن وضعه الحاضر وتطلعات شعوبه يقدمان الفرصة للقوى العظمى في العالم لتعادل منطق القوة في السياسة بمنطق الاخلاق والقانون في العلاقات بين الدول، وبذلك (تؤنسن السياسة) لا حسب مفهوم الحضارة الحديثة حيث تكون السياسة إنسانية داخل كل وطن لشعب ذلك الوطن وتفقد إنسانيتها خارج حدود وطنها لتغدو سياسة قوة، وإنما حسب مفهوم الأخلاق والقانون الذين يعطيان للسياسة بعداً إنسانياً علي صعيد الجنس البشري كله. وتبعاً لذلك يجعلان العلاقات البشرية على مستوى الدول والجماعات اكثر دفئاً ومودة بما لها من مضمون روحي افتقده عالم القوة، عالم الحضارة الحديثة منذ زمن بعيد، ولا يزال الذخيرة التي مثلت إنسانية العالم الثالث فيوجه جميع محاولات التشويه والمسخ التي تعرض لها إنسانه، كما لا يزال هذا المضمون الروحي لصيغة في العلاقات الدولية قائمة على الأخلاق والقانون هو الشرط الاساسي لخلاص الحضارة الحديثة وإنسانها من أزمة الانسان الحديث التي قادته إليها النظرة المادية إلى الكون والحياة والانسان، وما ترتب على ذلك من اتباع منطق القوة في العلاقات البشرية.

إن صرخات العذاب التي تطلقها شعوب العالم الثالث ستظل تدوي في

٢٩

آذان عالم (منطق القوة) مهما حاول قادة عالم منطق القوة أن يحتالوا على العالم الثالث لاسكات صرخات عذابه التي يواجه بها عالم الأقوياء القساة الماديين الانانيين، ان العالم الثالث يتحدى، وخلاص الانسانية يتوقف على نوع الاستجابة.

٢ ـ الماركسية والعلم والسياسة

الموقف المنطقي الأمين والأخلاقي في قضايا السياسة الداخلية والخارجية هو أن تنطلق النظرية السياسية من الموقف الفلسفي، وأن تبنى الممارسة السياسية الداخلية وعلى المستوى الدولي على نظرية سياسية نابعة من نظرية فلسفية شاملة إلى الكون والحياة والانسان.

والماركسية تدعي لنفسها هذا الشرف.

تدعي أولاً أنها فلسفة كونية شاملة تقدم التفسير الصحيح لجميع الظواهر في الطبيعة و المجتمع.

وتدعي ثانياً أن نضالها السياسي ليس ناشئاً من طموحات فردية أو جماعية أو فئوية لا صلة لها بالواقع الموضوعي للمجتمع، كما تتهم بذلك الجماعات السياسية المنافسة لها - وإنما هو حركة مبنية على فلسفة في المجتمع هي المادية التاريخية، نابعة عن فلسفة عامة وشاملة للكون بما فيه

٣٠

من طبيعة وإنسان، هي المادية الديالكتيكية. ولذا فإن القوانين الاساسية في المادية الديالكتيكية (قانون حركة التطور، وقانون تناقضات التطور، وقانون قفزات التطور، وقانون الارتباط العام) هذه القوانين أملى الايمان بها الفكر الفلسفي العلمي السليم، ومن ثم اتخذناها سلاحاً نظرياً في تعاملنا مع الطبيعة والمجتمع، في عملنا العلمي في الطبيعة وفي عملنا السياسي في المجتمع.

الماركسية اذن تدعي لنفسها هذا الشرف، ولكنها دعوى يقوم واقع الممارسة السياسية على خلافها، فإننا بمراجعة بسيطة نكتشف أن الماركسية لا تبني مواقفها السياسية على أساس من تفكيرها الفلسفي وإنما تحاول أن تجعل من التفكير الفلسفي مبرراً لعملها السياسي، مما يحملها في كثير من الحالات على الاعتساف والتزوير لصياغة افكار تدَّعي لها صفة الحقيقة لتكون سنداً لمواقفها السياسية.

وهذا ما يظهر بجلاء كبير عند مراجعة الخلفية السياسية للمواقف الفلسفية التي اعلنتها الماركسية في كثير من الحالات، ومن هذا الباب اعتبارها القوانين الأربعة السالفة الذكر أُسساً مطلقة الاعتبار وثابتة للمادية الديالكتية، فان الباحث يلمس وراء هذا الموقف أو ذاك الرغبة في تبرير العمل السياسي، فيما هم يوهمون الناس بأن العمل السياسي على هذا النحو المميز جاء نتيجة حتمية للضرورة العلمية التي لا تدحض.

وسيأتي البحث النقدي الفلسفي لقوانين الديالكتيك، أما هنا فغايتنا الكشف عن الحافز السياسي إلى وضع هذه القوانين وإعطائها صفة الحقيقة العلمية، وما هي في الحقيقة سوى أدوات سياسية.

والآن إلى شيء من التفصيل.

٣١

١ ـ المدلول السياسي لقانون حركة التطور

لماذا تذهب الماركسية خلافاً للحقيقة الموضوعية - إلى أن قانون الحركة يتجاوز الواقع الموضوعي المادي إلى عالم الفكر فترى أن الفكر ينمو ويتغير بالحركة كما تنمو المادة وتتغير بالحركة؟

ويكشف لنا التحليل عن جواب هذا التساؤل في مجالين:

الأول - ظن الماركسية عندما وضعت قانونها هذا كانت تعلم أنها ستخوض صراعاً مع الفلسفة الميتافيزيقية، ومع المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنتسب - حقاً أو باطلاً - إلى هذه الفلسفة.

والفلسفة الميتافيزيقية تستند إلى جملة من الحقائق المطلقة والنهائية غير القابلة للجدل. والاعتراف بأن قانون الحركة لا يتعدى عالم المادة إلى عالم الفكر يعني أن ثمة حقائق فكرية مطلقة وحينئذٍ لا يمكن للماركسية تجاهلها، بل لا بد لها من الايمان بها وهذا يعني قوة في موقف الميتافيزيقية

٣٢

ومن ثم قوة في موقف مؤسساتها في المجتمع.

أما إعلان أن قانون الحركة شامل يستوعب عالم المادة وعالم الفكر معاً فيقضي بأنه لا توجد حقائق مطلقة في عالم المادة وكذلك في عالم الفكر، وهذا يجعل الماركسية في وضع أفضل في المعترك السياسي، ويجرد الميتافيزيقية من ركائزها الأساسية، ويجعلها تمثل مرحلة - مرحلة فقط - في سير الطبيعة والانسان نحو التكامل والتطور الصاعد أبداً ودائماً.

وهكذا يكون الطموح السياسي هو الذي أملى على آباء المادية الديالكتيكية موقفهم الفلسفي، وليس العكس. لم يكن الموقف السياسي في حقيقة الأمر نتيجة للموقف الفلسفي

الثاني:

نفي وقوع خطأ في المواقف السياسية خلال النضال من أجل فرض السيطرة. فكل موقف سياسي صواب، وإذا انكشف خطأه كل صواباً نسبياً. وهكذا تجد المعاهدة مع هتلر ومهادنة النازية مكاناً لها في خانة الحقيقة، كما تجد السياسة الاقتصادية الجديدة مكاناً لها في خانة الحقيقة، وبذلك يمكن أن تكون المواقف السياسية المتناقضة صحيحة كلها، كما أننا نسبغ صفة الحقيقة على نظرية نيوتن وعلى نسبية انيشتين معاً.

الحقيقة هي أن اعتبار الماركسية قانون الحركة شاملاً لعمليات الفكر ناشئ من الرغبة في إيجاد التبرير السياسي وان أدى ذلك إلى تجاوز الحقيقة الفلسفية.

٢ ـ المدلول السياسي لقانون تناقضات التطور

لقد اعتمدت الماركسية في العمل السياسي مبدأ صراع الطبقات في المجتمع، وجعلت همها الأعظم رفع درجة الصراع في المجتمعات المضطربة، وتحريك الصراع في المجتمعات التي تتمتع بالاستقرار، والمضي في تأجيج الأحقاد الطبقية والفئوية إلى أن تصل بالمجتمع إلى حالات الانقسام والعداء ومن ثم تفجير الصراع بالثورات والحروب الأهلية، وإن توقف ذلك على تأييد أنظمة الحكم الرجعية، وتأييد الحكام الطغاة، ومحاربة الأنظمة التقدمية على غير الأسلوب الماركسي واسقاط الحكام ذوي النزعات الاصلاحية، وذلك لأجل أن تساهم أنظمة الحكم الرجعية والحكام الطغاة في إنزال أفدح الظلم بالفئات الاجتماعية الأقل حظاً من خيرات الانتاج العام للثروة، فتزداد نقمة هذه الفئات، ويؤدي ذلك إلي ارتفاع حدة الصراع الطبقي، وهذا يعجل بالثورة التي تؤدي إلى سيطرة الماركسية على

٣٣

السلطة. بينما تعمل أنظمة الحكم التقدمية - غير الماركسية - والحكام ذووا النزعات الاصلاحية على انصاف الفئات المحرومة، ويؤدي ذلك إلى شعورها بالانصاف والعدالة، فينزع من صدورها الغل والحقد، ويدفع بها نحو التعاون مع غيرها من الفئات بدل الصراع، وهذا ما يبعد فرصة استيلاء الماركسيين على السلطة.

لقد اعتمدت الماركسية هذا المبدأ في عملها السياسي. ولكنه - كما يرى الجميع - مبدأ غير أخلاقي وغير انساني، وهو معرض للادانة من أي إنسان مستقيم الفكر والضمير انطلاقاً من لا أخلاقية المبدأ المذكور ولا إنسانيته. ولذا فثمة عاملان يحملان الماركسية على أن تجد سنداً فلسفياً - علمياً لهذا المبدأ: الأول - هو دفع الاعتراض الأخلاقي عليه فإن القوانين العلمية لا تخضع للاعتبارات الأخلاقية، إنها حتمية ولا شأن فيها للاختيار البشري والضمير، ولذا فلا مجال للاعتراض على هذا المبدأ من الناحية الأخلاقية. الثاني - هو إعطاء المبدأ صفة العلمية والحقيقة الفلسفية لئلا يخطر في بال أحد من الناس أنه مجرد تغطية أدبية إنشائية لأسلوب سياسي، وبذا يكتسب المبدأ قوة التأثير باعتباره حقيقة علمية فلسفية ويدفع عنه صفة اللاأخلاقية واللا إنسانية.

* * *

إن الصراع والتنافي موجود في المجتمع السياسي بلا شك، ولكن التعاون موجود في المجتمع السياسي أيضاً، فالصراع والتنافي ليس قانوناً عاماً وشاملاً وثابتاً في حركة التاريخ وإنما هو أحد مظاهرها، والتاريخ يتحرك وينمو من خلال تفاعل جملة من العوامل.

٣٤

أما في الطبيعة فالقانون الظاهر هو قانون التكامل، وليس مبدأ التناقض، وتطور الطبيعية ونموها يتم من خلال تكامل قواها وعناصرها وتعاونها، وليس من خلال تناقضها، وما يبدو تناقضاً في الطبيعة فيكشف - حين دراسته على ضوء شروط التناقض - أنه ليس من التناقض في شيء، وإنما اعتبره الماركسيون تناقضاً بسبب جهلهم بقانون التناقض أو بسبب حرصهم على أيجاد المبرر الفلسفي لعملهم السياسي كما ذكرنا.

ويبدو أن واضعي أُسس الماركسية غفلوا عن أن هذا القانون يقضي عليهم بأحد أمرين كلاهما نفي للماركسية.

أحدهما - أن نفرض أن قانون تناقضات التطور يستمر حتى بعد تكوّن المجتمع الشيوعي الكامل، وهذا يقضي بأن يعمل هذا، القانون عمله في نفي الماركسية نحو مرحلة تتجاوزها في نمو التاريخ، وهذا يعني أن الماركسية مرحلة وليست نهاية حركة التاريخ، وهكذا تأتي مرحلة تاريخية تلغي الشيوعية وتكون اكثر تطوراً، وتقدماً منها على اعتبار أن حركة التاريخ تسير في خط صاعد دائماً؟؟.

وثانيهما - أن نفترض أن قانون تناقضات التطور يتوقف عن العمل ويبطل أثره. وحينئذٍ فهل يكفّ المجتمع عن الحركة؟ وهل تتوقف حركة التاريخ عند حدٍّ لا تتعداه؟ أي الأفتراضين يختار الماركسيون يكون ابطالاً لدعواهم وفلسفتهم من أصلها.

٣ ـ المدلول السياسي لقانون قفزات التطور

اعتمدت الماركسية في عملها السياسي لتسلم السلطة مبدأ الانقلاب المسلح والثورة، ورفضت مبدأ العمل الديمقراطي البرلماني الذي اعتمده الفكر السياسي في أوربا، ومن ثم فهي تحارب الاصلاحيين الذين ينتهجون سبيل التغيير التدريجي السلمي ليصلوا بالمجتمع السياسي إلى مستويات أفضل في اوضاعه الحياتية، وترى أن تغيير المجتمع السياسي وتحقيق العدالة لا يكون إلا بالعنف والثورة التي تجتث جميع قواعد المجتمع من جذورها دفعة واحدة. والنصوص الماركسية الأساسية في هذه المسألة واضحة صريحة لاتترك مجالاً للتأويل، قال ماركس وانجلز:

«ولا يتدنى الشيوعيون إلى اخفاء آرائهم، ومقاصدهم، ومشاريعهم، يعلنون صراحة أن أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها إلا بهدم كل النظام الاجتماعي

٣٥

التقليدي بالعنف والقوة»(١)

وقال لينين:

«إن الثورة البروليتارية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البرجوازي بالعنف»(٢)

ولكن العنف الثوري يقابله في العمل السياسي الأسلوب الديمقراطي الذي يعتمد التغيير عن طريق التشريع، وتكوين القناعات لدى فئات المجتمع السياسي للقبول بالتغيير، وهذا الأسلوب هو الذي يتبعه الخصوم السياسيون للماركسية في كل مجتمع.

وقد رأى المفكرون السياسيون أن يلتمسوا لموقفهم السياسي سنداً علمياً - فلسفياً يحقق لهم هدفين:

الأول - إسكات خصومهم السياسيين في الجدل حول أُسلوب التغيير السياسي للمجتمع بأن الثورة المسلحة والقضاء على المؤسسات القديمة بالعنف ليس أمراً خاضعاً للاختيار البشري الذي يسمح بالجدل وتفضيل أُسلوب على آخر، وإنما هو قانون حتمي ثابت في الطبيعة والتاريخ، ولذا فلا مناص من المصير إليه.

الثاني - إظهار أن مواقفهم السياسية نابعة من موقف علمي - فلسفي، وليست نتيجة اختيارات آنية تمليها الضرورات السياسية في الحياة المتغيرة المتقلبة للمجتمع السياسي.

____________________

(١) البيان الشيوعي، ص:٨.

(٢) اسس اللينينية، ص: ٦٦.

٣٦

لأجل جميع ذلك اخترعت الماركية مبدأ قفزات التطور، زاعمة أن التغييرات التي تحدث نتيجة لقانوني الحركة وتناقضات التطور لا تحدث في الطبيعة والمجتمع تدريجياً وإنما تحدث دفعة واحدة وبشكل فوري ثوري يغير في لحظة الوضعية والبنية القديمة بوضعية وبنية جديدة تفرضها القفزة في الطبيعة والثورة في المجتمع السياسي.

ولم تقدم الماركسية أي دليل على دعواها هذه. وإنما عرضت جملة من الأمثلة التي يكشف النقد الموضوعي زيفها وخطأها.

وسيتضح بطلان هذا المبدأ من الناحية الفلسفية في المباحث الآتية، وكل ما نريد توضيحه هنا هو أن هذا المبدأ كسائر المبادئ الاسس في الماركسية ليس علمياً ولا فلسفياً وإنما هو تغطية وتبرير لأسلوب في العمل السياسي هو الثورة المسلحة التي قد تكون ضرورية حين تفشل جميع الوسائل في الاصلاح السلمي، ولكنها مع توفر امكانات الاصلاح والتغيير نحو الافضل بالأساليب السلمية تكون، بلا ريب، عملاً غير اخلاقي ومن ثم غير شرعي.

٤ ـ المدلول السياسي لقانون الارتباط العام

قانون الارتباط العام قانون صحيح وصادق في الطبيعة والمجتمع، وقد سبقت الواقعية الإلهية إلى الكشف عن هذا القانون. ولكنه يستند إلى أساس العلية، لا إلى ما تدعيه الماركسية من مبدأ التناقض، وسيأتي في الابحاث التالية بيان وجه الحق في الأساس الذي يستند إليه هذا القانون، أما هنا فنريد أن نكشف عن المدلول السياسي لهذا القانون في التطبيق الماركسي.

الماركسيون ينتفعون بجميع الفرص التي يتيحها لهم أي نظام سياسي يعملون في ظله: فهم، مثلاً، ينتفعون بحرية الكلام، والتظاهر، والتنظيم الحزبي والنقابي وغير ذلك من الحريات التي يتيحها لهم النظام الديمقراطي البرلماني إذا كانوا يعملون في ظل نظام كهذا كما تنتفع بها سائر الجماعات السياسية التي تعمل في ظل هذا النظام. وهذا أمر طبيعي،

٣٧

فمن الأصول الأساسية التي يقوم عليها النظام البرلماني هو اتاحة هذه الحريات للجماعات السياسية العاملة في المجتمع، ومن حق هذه الجماعات أن تستفيد في عملها السياسي من هذه الحريات.

ولكن الماركسية عندما تنتصر تتخذ من مسألة الحريات موقفاً آخر، فهي تصادر حرية الجماعات السياسية الأخرى في المجتمع في التعبير عن الرأي، والتنظيم الحزبي والنقابي وغير ذلك، وتستأثر لأجهزتها وحدها بكل هذه الحريات. بدعوى أن هذه الجماعات السياسية الأخرى تمثل تطلعات سياسية معادية للشعب (ولا حرية لأعداء الشعب). والحقيقية هي أن الجماعات السياسية قد لا تكون عدوة للتطلعات الشعبية وكل ذنبها أنها تعتمد عقيدة سياسية غير الماركسية، ولكن هذا وحده في نظر الماركسية، سبب كافٍ لمصادرة حرياتها.

والماركسية تستند في موقفها هذا إلى رغبة طبيعية، ولكنها غير عادلة، وفقاً للشعارات التي تنادي بها، في الإستئثار بالسلطة وفي تفويت جميع الفرص التي تتيح للشعب أن يطلع على وجهات نظر أُخرى في قضاياه الحياتية والسياسية. وهي تعلم أن قانون الارتباط العام يقضي بأن لكل نشاط إنساني في الطبيعة أو المجتمع أثراً ينعكس على شبكة العلاقات بين الأشياء والمواقف والجماعات. وأن الجماعات السياسية الاخرى في المجتمع إذا اتيحت لها الحريات السياسية فستكشف أخطار الممارسات التي يقوم بها النظام الحاكم، وهذا يؤدي الى تكوين قناعات لدى الشعب لن تكون في مصلحة هذا النظام الذي سيفقد تدريجياً سلطته وقدرته على التأثير، ولذا فهي تصادر حريات الاخرين لتحول بينهم وبين الانتفاع

٣٨

بقانون الارتباط العام في التأثير على الوضع السياسي للمجتمع، وتعطي لنفسها حرية الانتفاع بقدرة التأثير التي يوفرها هذا القانون.

إن الماركسية، حين تحكم، تمنع عن الآخرين ما تطالب به هي، وتحصل عليه في الغالب، حين يكونون حاكمين.

إن الماركسية تستثمر قانون الارتباط العام لمصلحتها وحدها حين تكون هي الحاكمة، بينما يكون إستثمار هذا القانون في العمل السياسي ممكنا لجميع الفئات السياسية في ظل الانظمة التي تعطي الحرية لجميع الفئات السياسية.

إن الماركسية لم تكتشف قانون الارتباط العام، ولكنها برعت في استخدامه على الصعيد السياسي.

خلاصة

في الأبحاث الآتية نقد شامل لأهم الركائز التي يقوم عليها الفكر المادي من خلال المسائل التي اثيرت في نقد الفكر الديني. ولذا لم يكن من مقصدي في الأبحاث الانفة إلا الكشف عن الخلفية السياسية التي أملت على المادية الديالكتيكية صياغة مبادئها الاساسية في الطبيعة والمجتمع، مرجئاً البحث الفلسفي إلى موضعه من هذا الكتاب.

وأود أن أُنبه هنا إلى أن المادية بجميع مظاهرها رأسمالية كانت أو ديالكتية أو غيرهما، بالاضافة إلى أنها خطأ علمي وفلسفي، مخالفة للطبيعة الانسانية ولأعمق واصدق ما يشتمل عليه التكوين الانساني من معنى، ومن ثم فإنها لن تؤدي إلا إلى انحطاط النوع الانساني في معناه وفي جوهره وإن أدت إلى تفوق بعض فئاته في الشأن المادي ولكن بثمن باهظ هو شقاء مئات الملايين من البشر، بل الوف الملايين إذا أخذنا بنظر الاعتبار التضخم السكاني في العالم الثالث.

٣٩

القِسمُ الثَاني مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني (تصفية حساب صغير)

في الابحاث الاتية ما يكشف بوضوح عجز الماركسية - على افتراض تسليم جميع مقدماتها - عن تقديم تفسير مقنع لنشأة الكون. وسنرى أنها تعمد إلى غيبيٍّة تتناقض مع أحكام العقل. وسأكشف من الزيف العلمي والتضليل الفلسفي في الماركسية.

وقد أعلن الأستاذ نسيب نمر (في مجلة الأحد/ ٢٩ آذار ١٩٧٠ - العدد / ٩٧٢) بعد أن انكشف عجز الماركسية وإفلاسها - براءة الماركسية من الدكتور صادق جلال العظم ومن أفكاره، بدعوى أن أفكاره ليست ماركسية بدرجة كافية، وأنه لم يتناول موضوعه تناولاً علمياً صحيحاً، وإلا لما تغلب عليه ناقده محمد مهدي شمس الدين.

ولا أدري لماذا طبل الماركسيون هنا وفي كل مكان للدكتور وزمروا، واعتبروا كتابه نموذجاً رائعاً للفكر الماركسي في مقابل الفكر الديني، ورأوا فيه انتصاراً كاسحاً للماركسية على الدين. كان هذا موقفهم قبل أن نذيع سلسلة مقالاتنا في نقد الكتاب موضوع البحث، فلما تبين من خلال هذه المقالات البؤس الفكري الذي يظهر جلياً في الكتاب المذكور،

٤٠

أقلّ تقدير، إنّما يكمن في مفهومها الرفيع، وما تنطوي عليه من دلالة قاطعة على طهارة الإمام أمير المؤمنين وعصمته، ومن ثَمّ عصمة أهل البيت بالضرورة.

ولم تكن هذه الآية وحدها في الميدان، فبالإضافة إلى آية التطهير والجهود النبويّة الحثيثة التي بذلها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في إبلاغها وتطبيقها على أهل البيت (عليهم السلام)، توالت إلى جوارها روايات كثيرة نعت فيها النبي علي بن أبي طالب بالصدق والطهارة، والنقاء والتزام الحقّ، واستقامة السلوك وطُهر الفطرة، ثمّ توّج ذلك كلّه بالإعلان أنّ عليّاً هو عِدل القرآن، ومعيار الحقّ، والميزان الذي يفرِّق بين الحقّ والباطل، وبين الضلالة والصواب، وهو فصل الخطاب، وفي ذلك دلالة قاطعة على أنّ مَن ينبغي أن يكون الأُسوة والإمام، والقائد والمنار، والزعيم والمولى هو علي بن أبي طالب لا غير.

ثمّ انظروا وتأمّلوا في قوله (صلَّى الله عليه وآله): (عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ)، (عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ)، (عليّ على الحقّ؛ مَن اتّبعه اتّبع الحقّ، ومَن تركه ترك الحقّ)، (عليّ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليّ).

ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ عليّاً ثابت لا يزيغ، صلبٌ لا تتعثّر به خطاه، يقف في علي ذُرى الاستقامة والصلاح، لا يعرف غير الحقّ والصواب.

إنّ عليّاً ليحمل على جبهته الوضيئة عنواناً رفيعاً اسمه (العصمة)، ومن ثمّ ستكون الأمّة في أمان من نفسها، وسلامة من دينها وهي تهتدي بهدى علي، وتقتدي به أسوة ومناراً.

لقد توفّر هذا الفصل على بيان هذه الإشارات تفصيلاً من خلال النصوص الكثيرة التي رصدها (1) .

____________________

(1) راجع: أحاديث العصمة.

٤١

(11)

أحاديث العلم

يتبوّأ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المرجعيّة الفكريّة للأمّة، بالإضافة إلى الزعامة السياسيّة، كما سلفت الإشارة لذلك، فالأُمّة تواجه في معترك حياتها عشرات المعضلات الفكريّة على الصعيدين: الفردي، والاجتماعي؛ فمَن الذي يتولَّى تذليل هذه العقبات؟ ومَن الذي يُميط اللثام عمّا يواجهه المجتمع من مشكلات معرفيّة، ويفسّر للناس آيات القرآن، ويعلّم الأمّة أحكام دينها وكلّ ما يمتّ بصلة إلى المرجعيّة العلميّة والفكريّة؟ ومَن الذي أراد له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أن يتبوّأ هذا الموقع في المستقبل، بحيث تلوذ به الأمّة، وتلجأ إليه بعد رحيل النبي؟

لقد ضمّت المصادر القديمة نصوصاً نبويّة مكثّفة، تدلّ بأجمعها على أنّ النبي اختار علي بن أبي طالب للمرجعيّة العلميّة والفكريّة من بعده، منها الحديث النبوي الكريم: (أنا مدينة العلم، وعليّ بابها)، فعلاوة على شوق علي (عليه السلام) إلى العلم، وتطلّعاته الذاتيّة إلى المعرفة، وتوقه الشديد للتعلّم، واستعداده الخاصّ على هذا الصعيد، كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لا يُخفي حرصه على إعداد علي إعداداً علميّاً خاصّاً، وزقّهِ العلم زقّاً، وإشباع روحه بالمعرفة، والفيض عليه من الحقائق الربّانيّة العُليا.

لقد جاء الكلام النبوي الكريم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها؛ فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب)، ليدلّ دلالة قاطعة لا يشوبها أدنى لبس، على أنّ العلم الصحيح

٤٢

عند علي وحسب لا عند سواه (1) .

لقد طلب النبي علي بن أبى طالب في اللحظات الأخيرة من حياته، وراح يسرّ له بينابيع المعرفة، فقال علي بعد ذلك - واصفاً الحصيلة التي طلع بها من إسرار النبي له -: (حدَّثني ألف باب، يَفتح كلُّ باب ألفَ باب)، وهذه هي الحقيقة، يدلّ عليها قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): (أنا دار الحكمة، وعلي بابها).

ثمّ هل انشقّت الحياة الإنسانيّة عن إنسان غير علي يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني)؟ وهل عرفت صفحات التاريخ مَن ينطق بهذا سوى أمير المؤمنين؟ لقد أجمع الصحابة على أعلميّة علي بن أبي طالب، وتركوا للتاريخ شهادة قاطعة تقول: أفضلنا علي. ولِمَ لا يكون كذلك والإمام أمير المؤمنين نفسه يقول: (والله، ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيمَ نزلت، وأين نزلت، وعلى مَن نزلت؛ إنّ ربّي وهب لي قلباً عَقولاً، ولساناً ناطقاً).

وما أسمى كلمات الإمام الحسن (عليه السلام)! وما أجلّ كلامه وهو يقول بعد شهادة أمير المؤمنين: (لقد فارقكم رجل بالأمس، لم يسبقه الأوّلون بعلم ولا يُدركه الآخرون)!

إنّ هذا وغيره - وهو كثير قد جاء في مواضع متعدِّدة - لَيشهد أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قصد من وراء التركيز على هذه النقطة - التي أقرّ بها الصحابة تبعاً للنبي - أن يعلن عمليّاً عن المرجع الفكري للأمّة مستقبلاً، ويحدّد للأمّة بوضوح الينبوع الثرّ، الذي ينبغي أن تُستمدّ منه علوم الدين (2) .

____________________

(1) لمزيد الاطّلاع على توثيق صيغ الحديث وضبط طرقه وأسانيده، وما يتّصل به من نقاط مهمّة راجع: نفحات الأزهار: ج 10 و11 و12.

(2) راجع: القسم الحادي عشر.

٤٣

(12)

أحاديث اثنا عشر خليفة

من بين الأحاديث المهمّة الجديرة بالتأمّل بشأن مستقبل الأمّة، هي تلك التي تتحدّث عن عدد خلفاء الرسول (صلَّى الله عليه وآله).

إنّ هذه الأحاديث الوفيرة التي جاءت في نقول متعدّدة، وطرق مختلفة وصحيحة (1) ؛ لتُشير إلى أنّ خلفاء النبي اثنا عشر خليفة.

تُطالعنا إحدى صيغ الحديث بالنصّ التالي: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش) (2) .

وقد جاء في نصّ آخر بالصيغة التالية: عن جابر بن سمرة قال: كنت مع أبي عند النبي (صلَّى الله عليه وآله) فسمعته يقول: (بعدي اثنا عشر خليفة)، ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟

قال: قال: (كلّهم من بني هاشم) (3) .

وفي نصّ آخر: (يكون من بعدي اثنا عشر أميراً) (4) .

ما الذي قصده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من هذه الأحاديث؟ هل تحدّث عن واقع سوف

____________________

(1) راجع على سبيل المثال: صحيح مسلم: 3/1451، باب 33 (الناس تبع لقريش والخلافة في قريش)، المعجم الكبير: 2/195 - 199 وص 232؛ الخصال: 466 - 480، إحقاق الحقّ: 13/1 - 48، أهل البيت في الكتاب والسنَّة: 73.

(2) صحيح مسلم: 3/1453/1822.

(3) ينابيع المودّة: 3/290/4.

(4) سنن الترمذي: 4/501/2223.

٤٤

يحصل؟ أم رام الحديث عن حقيقة ينبغي أن تكون؟ هل رام أن يستشرف المستقبل ليشير إلى الذين سيخلفونه في الواقع التاريخي، ويتسنّمون هذا الموقع من بعده؟ أم أنّه استند إلى حقيقة تنصّ صراحة أنّ خلفاءه اثنا عشر خليفة، وأنّ هؤلاء هم الذين ينبغي أن يكونوا خلفاء، ليس من ورائهم أحد حتى آخر الدهر؟

لا يبدو أنّ هناك شكّ في أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان بصدد إعلان الخليفة، وتحديد من يتبوّأ مكانه ويمارس الحاكميّة على الأمّة كما يمارسها هو، ويواصل نهج النبي في الخلافة.

بيد أنّ البعض سعى إلى اصطناع مصاديق لهذا الكلام الإلهي، الذي نطق به الرسول (صلَّى الله عليه وآله) تتطابق ورغباته (1) ، فذهب إلى أنّ المراد من الاثني عشر هم الخلفاء الأربعة، ومعاوية وولده يزيد وهكذا! (2)

وعلى طبق هذا التفسير؛ يكون النبي (صلَّى الله عليه وآله) قد نصَّب هؤلاء خلفاء له، وأهاب بالأمّة اتّباعهم وإطاعتهم والتسليم إليهم! أيْ طاعة يزيد وعبد الملك بن مروان وأضرابهم، ( ... كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) ! (3) .

كيف يمكن تصوّر رسول الكرامة والإنسانيّة، ومبعوث الحريّة والقيم العُليا، وهو يختار لخلافته الظلمة والفسّاق، ويحثّ الأمّة على طاعة المجرمين والفاسدين؟! (4) .

____________________

(1) راجع: الإمامة وأهل البيت: 2/54، حيث توفّر على ذكر هذه المصاديق.

(2) راجع: شرح العقيدة الطحاويّة: 2/736 والإمامة وأهل البيت: 2/56.

(3) الكهف: 5.

(4) راجع: الإمامة وأهل البيت: 2/56 - 76. والكتاب من تأليف الباحث المصري وأستاذ جامعة الإسكندريّة الدكتور محمّد بيومي مهران، من كبار كتّاب أهل السنّة، حيث استعرض ما اقترفه معاوية ويزيد وعبد الملك من فظائع، من خلال الوثائق والنصوص التاريخيّة، ثمّ عاد يطرح على القرّاء السؤال التالي: مع هذا كلّه، هل يقال: إنّ هؤلاء خلفاء النبي؟!

٤٥

لا جدال أنّ من يُذعن لأصل الرواية - ولا مفرّ من ذلك - يتحتّم عليه التسليم لتفسير الشيعة، الذي يذهب إلى أنّ هؤلاء الخلفاء هم عليّ وآل عليّ (عليهم السلام)، كما ذكرت ذلك بعض الروايات عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأتت على أسمائهم صراحة، حيث يمكن أن يُلحظ ما يلي:

1 - إنّهم اثنا عشر معروفون ينطبقون - في عددهم وأسمائهم - مع الحديث.

2 - إنّ الأئمّة من قريش؛ وهم من قريش.

3 - رأينا بعض الروايات تحمل في ذيلها عبارة: (كلّهم من بني هاشم).

والأمر كذلك في عليّ وآل عليّ (عليهم السلام)؛ فهم جميعاً من بني هاشم، يؤيّد ذلك الكلام العُلوي المنيف، الذي يقول فيه أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّ الأئمّة من قريش غُرِسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم) (1) .

4 - إنّهم من أهل بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا يتطابق مع ما سبق، وقد ذكرناه في الصفحات السابقة، كما يتوافق مع نصوص كثيرة ستأتي الإشارة إليها لاحقاً.

5 - كما أنّه يتطابق بدقّة مع ما جاء عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الجملة - كما سلفت الإشارة لذلك - حيث ذُكرت أسماء هؤلاء الخلفاء الكرام بشكل كامل وتامّ.

6 - على أساس روايات كثيرة تحدّث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن دوام إمامة المهدي (عليه السلام) واستمرارها إلى ما قبل القيامة، والمهدي المنتظر هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأئمّة الاثني عشر في المعتقد الشيعي.

من هذه الروايات:

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 144.

٤٦

(المهدي منّا أهل البيت، يُصلحه الله في ليلة) (1) .

(المهدي من عترتي من ولد فاطمة) (2) .

(لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم، لبعث الله عزّ وجلّ رجلاً منّا، يملؤها عدلاً كما مُلئت جَوراً) (3) .

(لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي بواطئ اسمه اسمي) (4) .

(الأئمّة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين، والتاسع مهديّهم) (5) .

واستكمالاً للحديث في هذا المضمار، نعرض فيما يلي عدداً من النقاط الأُخرى:

1 - يُعدّ حديث (اثنا عشر خليفة)، أو (اثنا عشر أميراً)، المروي عن جابر بن سمرة، من الأحاديث المشهورة التي أُخرجت بطرق متعدّدة، كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك، والذي عليه عقيدة أغلب الذين وثّقوا الحديث، ورووه أنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أدلى به في (حجّة البلاغ)، بيد أنّ عمليّة دراسة طرق الحديث وتحليل صيغه الروائيّة تدلّ بوضوح، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أدلى بهذا الحديث في مكانين، هما:

أ: مسجد النبي:

وفاقاً لرواية مسلم وأحمد بن حنبل، جاء نصّ جابر بالصيغة التالية: (سمعت

____________________

(1) سنن ابن ماجة: 2/1367/4085، مسند ابن حنبل: 1/183/645، المصنّف لابن أبي شيبة: 8/678/190.

(2) سنن أبي داود: 4/107/4284، والطريف الذي يُلفت النظر في هذا الكتاب، أنّه أورد الرواية مورد البحث - اثنا عشر خليفة - في باب (كتاب المهدي).

(3) مسند ابن حنبل: 1/213/773، سنن أبي داود: 4/107/4283 نحوه.

(4) مسند ابن حنبل: 2/10/3571، مسند البزّار: 5/225/1832 نحوه.

(5) كفاية الأثر: 23.

٤٧

رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم الجمعة عشيّة رجم الأسلمي، يقول: (لا يزال الدين) (1) إلى آخر النصّ.

المعلوم أنّ ماغر بن مالك الأسلمي المذكور في النصّ قد تمّ رجمه بالمدينة جزماً (2) .

علاوة على ذلك، ثمّة نصوص أُخرى، تتحدّث صراحة أنّ الراوي سمع الحديث في مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، كما في قوله: (جئت مع أبي إلى المسجد والنبي يخطب) إلى آخر الحديث (3) ، حيث يدلّ لفظ (المسجد) في الرواية على المسجد النبوي ظاهراً.

ب: حجّة البلاغ:

هذه المجموعة من الأخبار مرويّة عن جابر بن سمرة بن جندب أيضاً، وقد ذكر فيها أنّه سمع مقالة النبي هذه في ذلك الموسم العظيم (4) (حجّة البلاغ أو حجّة الوداع)، وفي الموقف بعرفات (5) .

2 - إنّ استثمار رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) للموسم، وتوظيفه لاجتماع الأمّة العظيم في عرفات؛ لكي يُعلن هذه الحقيقة ويصدع بها، لهو أمر خليق بالاعتبار، وينطوي على الدروس والعِبَر؛ فقد حرص النبي (صلَّى الله عليه وآله) على أن يستفيد من هذا الحشد الكبير في الإعلان عن (حديث الثقلين)، وذلك في واحدة من المرّات المتكرّرة التي كان النبي قد أعلن فيها هذا الحديث المصيري على الأمّة.

____________________

(1) صحيح مسلم: 3/1453/10، مسند ابن حنبل: 7/410/20869، مسند أبي يعلي: 6/473/7429؛ الخصال: 473/30.

(2) راجع: صحيح البخاري: 5/2020/4969 و4970 وصحيح مسلم: 3/1319 - 1323.

(3) المعجم الكبير: 2/197/1799.

(4) راجع: مسند ابن حنبل: 7/405/20840 و20843 وص 408/20857 وص 430/20992 والمعجم الكبير: 2/197/1800.

(5) راجع: مسند ابن حنبل: 7/418/20922 وص 424/20959 و20960 وص 429/20991.

٤٨

بشكل عامّ، عندما نطلّ على هذه المراسم نجدها شهدت عرض (الثقلين) بوصفهما معاً السبيل إلى هداية الأمّة، وفي المشهد ذاته تمّ تحديد مصاديق العترة والإعلان عنها بوضوح، وفي الذروة الأخيرة من هذا الموسم سجّل المشهد نزول آية (إكمال الدين) وإعلان الولاية، هذا الإعلان الذي ترافق مع إنذار للنبي (صلَّى الله عليه وآله)، يفيد أنّ عدم إبلاغه ما أُنزل إليه من ربّه يتساوق مع ضياع الرسالة وعدم إبلاغها بالمرّة.

بعبارة أُخرى: كأنّ المشهد يُخبرنا بوقائعه وما حصل فيه، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان في الموسم هذا بشأن أن يُلقي على الأمّة نظرة مستأنفة في جميع محتويات الرسالة، ويستعيد أُمور هذا الدين، وقد راح في الأيّام الأخيرة من سفره يركّز على الحجّ والولاية أكثر.

لننظر إلى الإمام الباقر (عليه السلام) وهو يقول: (حجّ رسول الله...) (1) .

3 - تنطوي بعض صيغ الحديث ونقوله على نقطة تستثير السؤال وتستحقُّ التأمّل؛ فقد انطوت بعض نقول الحديث على جملة: (كلّهم من قريش) ، وهي تدلّ على أنّ جابراً لم يسمع هذه الجملة، فسأل عنها أباه، فذكر له أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال في تتمّة الحديث: (كلّهم من قريش) أو (كلّهم من بني هاشم).

هذه الصيغ على ثلاثة أضرب، هي:

أ: إنّ جابراً قال فقط: (ثمّ قال كلمة لم أفهمها) (2) .

أو: (ثمّ تكلّم بكلمة خفيت عليّ) (3) ، من دون إيضاح علّة خفاء الصوت،

____________________

(1) راجع: واقعة الغدير.

(2) مسند ابن حنبل: 7/427/20976.

(3) مسند ابن حنبل: 7/427/20977.

٤٩

وسبب عدم السماع.

ب: وفي بعضها عزى جابر عدم سماعه تتمّة الحديث إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله) قائلاً: (ثمّ خفّض صوته، فلم أدرِ ما يقول) (1) .

أو: ثمّ همس رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما الكلمة التي همس بها النبي (صلَّى الله عليه وآله)؟) (2) .

أو: ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: قد سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول: (يكون بعدي اثنا عشر أميراً)، فما الذي أخفى صوته؟ قال: (كلّهم من قريش) (3) .

ج: ذكر في بعضها أنّ سبب عدم سماع كلام النبي كان لغط الناس واهتياجهم؛ حيث ضاع كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ولم يعد يُسمع وسط ضجيج الحاضرين وصراخهم.

والذي يبعث على الدهشة والأسى، أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الوقت الذي كان يتحدّث فيه إلى الناس، نجد الذين يستمعون إليه يرفعون أصواتهم خلافاً لصريح الأمر الإلهي: ( ... لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ... ) (4) ، وقد علت أصواتهم وزاد اهتياجهم، حتى لم يعد يتميّز كلام النبي وما يقوله في هذا الضجيج، بحيث لم يكن بمقدور الراوي - جابر - أن يتابع بقيّة الكلام، فلاذ بالآخرين، فذكروا له أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال: (كلّهم من قريش).

لقد جاءت صيغ متعدّدة تدلّ على هذا المعنى، منها:

____________________

(1) المعجم الكبير: 2/197/1799.

(2) المعجم الكبير: 2/196/1794.

(3) المعجم الكبير: 2/253/2062.

(4) الحجرات: 2.

٥٠

(ثمّ لغط القوم وتكلّموا، فلم أفهم قوله بعد (كلّهم)) (1) .

(فقال كلمة صمّنيها الناس) (2) .

(ثمّ تكلّم بكلمة أصمّنيها (3) الناس، فقلت لأبي - أو لابني -: ما الكلمة التي أصمّنيها الناس؟ قال: كلّهم من قريش) (4) .

كما جاء أيضاً: (فصرخ الناس، فلم أسمع ما قال) (5) .

وبتأمّل ما أوردناه يهتدي الباحث إلى نقاط، لا يخلو ذكرها من فائدة:

1 - تحظى قضيّة الخلافة ومستقبل الأمّة ومصيرها بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله) بحسّاسيّة فائقة؛ بحيث كان النبي عندما يصل إلى النقطة الجوهريّة ويبلغ لبّ المسألة يخفض صوته، حتى لكأنّه يهمس، وفي موقع آخر كان الناس يبادرون إلى اللغط وإثارة الضوضاء حال سماعهم الكلام النبوي، يُظهرون بذلك إباءهم له.

2 - تذكر بعض الروايات في تصوير الحالة (خفض الصوت)، وبعضها الآخر ذكرت (اللغط والضجيج)، حيث يرتبط كلّ وصف من هذه الأوصاف بمورد من موارد النقل، فجابر يذكر أنّه لم يسمع الكلام النبوي في المسجد؛ لأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) خفض صوته. أمّا في الحديث الذي جاء في مسند أحمد بن حنبل، فقد ذكر جابر أنّه لم يسمع الكلام للغط القوم وهياجهم.

والظاهر أنّ خفض النبي صوته كان في المسجد النبوي في المدينة، ولغط الناس وهياجهم كان في حجّة الوداع، كما أشارت لذلك الروايات المتقدّمة.

____________________

(1) مسند ابن حنبل: 7/430/20991، المعجم الكبير: 2/196/1795.

(2) صحيح مسلم: 3/1453/9، مسند ابن حنبل: 7/428/20980 وفيه (أصمّنيها).

(3) أصمّنيها الناس: أي شغلوني عن سماعها، فكأنّهم جعلوني أصمَّ (لسان العرب: 12/343).

(4) مسند ابن حنبل: 7/435/21020؛ الخصال: 472/23.

(5) الخصال: 473/29.

٥١

3 - إنّه لأمر حريٌّ بالانتباه ما جاء في أحد النقول، من أنَّ النبيّ قال عندما أخفى صوته: (كلّهم من بني هاشم).

والحقّ، لا يستبعد أن تكون تتمّة الكلام - على وجه الحقيقة - هي جملة: (كلّهم من بني هاشم)، التي أثارت الهياج، وعلا كلام كثيرين عند سماعها، فلم يذعنوا لها، وأبوا قبولها، والنقطة التي تزيد من قوّة هذا الاستنتاج، هي مشهد السقيفة وما جرى في ذلك اليوم من حوادث، ففي صراع يوم السقيفة لم يستند أيّ من أطراف اللعبة على مثل هذا الكلام، ولم يذكر أحد أنّه سمع النبيّ، يقول: (كلّهم من قريش) ، برغم أنّ هذا الكلام كان يمكن أن يكون مؤثّراً في حسم الموقف.

لهذا كلّه؛ يمكن القول: إنّ تتمّة الحديث النبوي كانت: (كلّهم من بني هاشم) لا غير، ثمّ بمرور الوقت، وعندما حانت لحظة تدوين الحديث قدّروا أنّ من (المصلحة) استبدال (كلّهم من بني هاشم) بتعبير (كلّهم من قريش) !

مهما يكن الأمر، ينطوي هذا الحديث بنقوله الكثيرة وطرقه المتعدّدة التي أيّدها محدّثو أهل السنّة أيضاً، ينطوي على رسالة واحدة لا غير، هي الإعلان عن ولاية عليّ بن أبي طالب وأولاده، والتصريح بخلافة عليّ (عليه السلام) بعد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بلا فصل؛ ومن ثمّ فهو دليل آخر على السياسة النبويّة الراسخة في تحديد مستقبل الحكم وقيادة الأمّة من بعده.

٥٢

(13)

حديث السفينة

والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يعيش بين الأمّة كان يُمسك بجميع الأُمور، ويُشرف على الشؤون كافّة، ولم يكن المجتمع الإسلامي على عهد النبيّ قد اتّسع بعدُ، بيد أنّ هذا المجتمع الفتيّ كان يواجه مصاعب كثيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويعاني عدداً من الانحرافات، فتيّار النفاق - مثلاً - كانت بذوره الأُولى قد نشأت في تضاعيف ذلك المجتمع، وهكذا لاحت أيضاً إرهاصات ارتداد البعض انطلاقاً من المجتمع ذاته.

لقد كان الرسول القائد ينظر ليومٍ تغيب فيه هذه الشعلة المتوهّجة، ويفقد المجتمع وجود النبيّ، فيما ينبغي للأمَّة أن تشقّ طريقها من بعده، وتواصل الدرب.

إنّ كلّ ما توفّرنا على ذكره يُشير إلى التخطيط لمستقبل الأمّة وتدبير غدها الآتي؛ هذا الغد الذي سينشقّ عن أجواء تتفجّر جوانبها بالفتنة، وتضطرم بالعواصف العاتية وأمواج الضلال.

على ضوء هذه الخلفيّة؛ انطلقت كلمات رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تُدلّ الأمّة على الملاذ الآمِن، الذي تعتصم به من الفتن والضلال فيما اشتهر بـ (حديث السفينة)، الذي جاء في أحد نصوصه: (ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مَثل سفينة نوح؛ مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها هلك).

ما أروعه من تشبيه دالّ وموقظ، يبعث على التيقّظ والحذر!

فرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يتطلّع صوب المستقبل من وراء حُجب الغيب، فيبصره مليئاً بالفتن والضلالات التي يشبّهها بالأمواج المتلاطمة العاتية، أمواج مهولة تُغرق

٥٣

مَن يعرض لها، وتدفعه نحو قاع سحيق، وما أكثر من يتسلّق الأوهام حذر هذه الأمواج، بيد أنّها سُرعان ما تفترسه وتأتي عليه في ملاذه الواهن، فيُدركه الغرق ويصير هباءً ضائعاً.

فإذاً، ينبغي أن تكون الأمّة على حذر، وأن تُدرك أنّ طريق النجاة الوحيد يكمن في ركوب (السفينة)، واللوذ بأهل البيت (عليهم السلام)، والاعتصام بحُجْزتهم، والتمسّك بتعاليمهم وسنّتهم.

ليس هناك شكّ في دلالة الحديث على وجوب إطاعة أهل البيت (عليهم السلام)، وإلاّ هل لعاقل تأخذه أمواج عاتية، فيُشرف حتماً على الغرق والضياع، ثمّ يتردّد في النجاة، ولا يركب سفينة الإنقاذ؟!

من جهة أُخرى، إنّ التطلّع صوب هذه السفينة يستتبع الهداية بالضرورة والنجاة من أمواج الفتن والضلالات، فالسفينة منجية؛ وإذاً فهؤلاء الكرام معصومون منزّهون عن الزلل والخطأ (1) .

____________________

(1) لمزيد الاطّلاع على متن حديث السفينة وسنده وطرقه وما يتّصل به من بحوث راجع: نفحات الأزهار: الجزء الرابع، وأهل البيت في الكتاب والسنّة: 95.

٥٤

(14)

حديث الثقلين

من بين الخطوات التي تدبّرها الرسول القائد لمستقبل الأمّة، للحؤول دون تفشِّي الضلالة، وشيوع الجهل في وسطها، وانحدارها إلى هوّة الحيرة والضياع، هي جهوده التي بذلها لتعيين المرجعيّة الفكريّة، وتحديد مسار ثابت للحركة الفكريّة، وبيان كيفيّة تفسير القرآن والرسالة والمصدر الذي يستمدّ منه ذلك.

هذه الحقيقة ربّما عبّرت عن نفسها بأنصع وجه في (حديث الثقلين).

لقد تضوّعت مواطن كثيرة بشذى الحديث؛ حيث صدع به النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) مراراً بمحتوى واحد وصيغ بيانيّة متعدّدة، وفي مواضع مختلفة: في عرفة، ومسجد الخيف، وفي غدير خمّ، كما أتى على ذكره في آخر كلام له وهو على مشارف الرحيل وقد ثقل عليه المرض، في الحجرة الشريفة، وغير ذلك.

وبالإضافة إلى أهل البيت (عليهم السلام) فقد روى الحديث عدد كبير من الصحابة، كما ذهب إلى صحّته كثير من التابعين والعلماء (1) .

إنّ للحديث صيغاً متعدّدة، جاء في إحداها: (إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (2) .

____________________

(1) راجع: نفحات الأزهار: 2/90، وأهل البيت في الكتاب والسنّة: 135.

(2) سنن الترمذي: 5/663/3788.

٥٥

كلام عظيم، ومنقبة شاهقة، وفضيلة سامية لا نظير لها، وهداية تبعث على السعادة، وتوجيه يعصم من الضلالة والردى.

النقطة الأهمّ التي يحويها هذا الكلام النبوي العظيم، والحقيقة العظمى التي يجهر بها دون لبس، هي مرجعيّة أهل البيت (عليهم السلام)، والحثّ على وجوب اتّباعهم والائتمام بهم في الأقوال والأفعال، وقد صرّح بهذه الحقيقة الرفيعة عدد كبير من العلماء، منهم سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني؛ أحد كبار متكلِّمي أهل السنّة، حين قال: (إنّه (صلَّى الله عليه وآله) قرنهم بكتاب الله في كون التمسّك بهما منقذاً من الضلالة، ولا معنى للتمسّك بالكتاب إلاّ الأخذ بما فيه من العلم وآلهداية، فكذا في العترة) (1) .

على صعيد آخر، تتمثّل أهمّ مهامّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) ومسؤوليّاته بالهداية وإزالة الضلالة. هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى؛ فإنّ ما يأتي في طليعة واجبات الأمّة وأكثرها بداهة، هو ضرورة تمسّكها بكلّ ما يبعث على الهداية، ويعصم من الضلال، وهذا ما فعله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تماماً، وهو يضع المسلمين أمام هذا الواجب، في قوله: (ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا)، وعندئذ هل يسع إنسان أن يتردّد في وجوب اتّباع (العترة) الهادية، والتسليم إليها وهي العاصمة عن الضلال؟!

ممّا يدلّ عليه الحديث أيضاً، أنّ التمسّك بهذين الثقلين الكريمين يكفي لبلاغ المقصد الأسنى وتحصيل الهداية، وأن ليس وراءهما إلاّ الضلال ( ... فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ

____________________

(1) شرح المقاصد: 5/303. ولمزيد الاطّلاع على آراء عدد من علماء أهل السنّة راجع: نفحات الأزهار: 2/248.

٥٦

إِلاَّ الضَّلاَلُ... ) (1) .

من جهة أُخرى يسجّل حديث الثقلين (عصمة) العترة من دون لبس وغموض؛ فمن زاوية عدّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) التمسّك بها واجباً ضروريّاً من دون أيّ قيد أو شرط، فهل من المنطقي أو المعقول أن نتصوّر النبيّ يدفع الأمّة إلى التمسَّك بمرجعيّة أشخاص، ويحثّها على التمسّك بتعاليمها دون قيد أو شرط، وأشخاص هذه المرجعيّة يعيشون الضلال؟ ثمّ إنّ هذه العترة هي عدل قرآن ( لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) (2) ، فهكذا العترة أيضاً.

وأخيراً دلّ الحديث على أنّ التمسّك بالعترة هو سدّ يحول دون الضلالة، فإذا ما كان الضلال سائغاً بحقّ هذه المرجعيّة فهل يمكنها أن تكون عاصمة عن الضلال؟!

فالعترة - إذاً - معصومة جزماً بدلالات الحديث.

____________________

(1) يونس: 32.

(2) فصّلت: 42.

٥٧

(15)

حديث الغدير

ذكرنا أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أكّد منذ الأيّام الأُولى التي صدع فيها بالرسالة، على الإمامة ومستقبل الأمّة من بعده، وشهدت له المواطن جميعاً، وهو يُعلن (الحقّ)، ويحدّد أمام الجميع الإمامة من بعده بأعلى خصائصها، وبمزاياها المتفوّقة، ولم يتوانَ عن ذلك لحظة، ولم يُضِع فرصة إلاّ وأفاد منها في إعلان هذا (الحقّ) والإجهار به.

وفي الحجّة الأخيرة التي اشتهرت بـ (حجّة الوداع)، بلغت الجهود النبويّة ذروتها، وقد جاءه أمر السماء بإبلاغ الولاية، لتكتسب هذه الحجّة عنوانها الدالّ، وهى تسمَّى (حجّة البلاغ) (1) .

لنشاهد المشهد عن كثب، ونتأمّل كيف تكوّنت وقائعه الأُولى، فهذا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد قصد التوجّه للحجّ في السنة العاشرة من الهجرة، وقد نادى منادي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُعلم الناس بذلك، فاجتمع من المسلمين جمع غفير قاصداً مكّة ليلتحق بالنبي (صلَّى الله عليه وآله)، ويتعلّم منه مناسك حجّه.

حجّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالمسلمين، ثمّ قفل عائداً صوب المدينة، عندما حلَّ اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، كانت قوافل الحجيج تأخذ طريقها إلى مضاربها ومواضع سكَّناها، فمنها ما كان يتقدّم على النبيّ، ومنها ما كان يتأخّر عنه، بيد أنّها لم تفترق بعدُ، إذ ما يزال يجمعها طريق واحد.

حلّت قافلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بموضع يقال له: (غدير خمّ) في وادي الجحفة، وهو مفترق تتشعّب فيه طرق أهل المدينة

____________________

(1) راجع: كتاب (الغدير): 1/9.

٥٨

والمصريّين والعراقيّين.

الشمس في كبد السماء تُرسل بأشعّتها اللاهبة، وتدفع بحممها صوب الأرض، وإذا بالوحي يغشى النبيّ ويأتيه أمر السماء، فيأمر أن يجتمع الناس في المكان المذكور.

ينادي منادي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بردّ مَن تقدّم من القوم، وبحبس مَن تأخّر؛ ليجتمع المسلمون على سواء في موقف واحد، ولا أحد يدري ما الخبر.

منتصف النهار في يوم صائف شديد القيظ، حتى إنّ الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدّة الحرّ، فيما يلوذ آخرون بظلال المراكب والمتاع.

راحت الجموع المحتشِّدة تتحلّق أنظارها بنبيّها الكريم، وهو يرتقي موضعاً صنعوه له من الرحال وأقتاب الإبل.

بدأ النبيّ خطبته، فراحت الكلمات تخرج من فؤاده وفمه صادعة رائعة، حمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر للجمع المحتشِّد أنّ ساعة الرحيل قد أزِفت، وقد أوشك أن يُدعى فيُجيب، على هذا مضت سنّة البشر قبله من نبيّين وغير نبيّين.

أمَّا وقد أوشك على الرحيل، فقد طلب من الحاضرين أن يشهدوا له بأداء الرسالة، فهبّت الأصوات تُجيب النبيّ على نسق واحد: (نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت؛ فجزاك الله خيراً) .

ما لهذا جمَعَهم في هذه الظهيرة القائضة، بل هو يعدّهم لنبأٍ مُرتقب، ويُهيّئ النفوس لبلاغ خطير هذا أوانُه، تحدّث إليهم مرّات عن صدقه في (البلاغ)، كما تكلّم عن (الثقلين) وأوصى بهما، ثمّ انعطف يحدّثهم عن موقعه الشاهق العليّ في الأمّة، وطلب منهم أن يشهدوا بأولويّته على أنفسهم، حتى إذا ما شهدوا له بصوت واحد، أخذ بعضد عليّ بن أبي طالب ورفعه، فزاد من جلال المشهد

٥٩

وهيبته، ثمّ راح ينادي بصوت عالي الصدح قويَّ الرنين: (فمَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه).

قال هذه الجملة، ثمّ كرّرها ثلاثاً، وطفق يدعو لمَن يوالي عليّاً، ولمَن ينصر عليّاً، ولمَن يكون إلى جوار عليّ.

تبلّج المشهد عن نداء نبوي أعلن فيه رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) ولاية عليّ وخلافته، على مرأى من عشرات الأُلوف، وقد اجتمعوا للحجّ من جميع أقاليم القبلة، وصدع بـ (حقّ الخلافة) و(خلافة الحقّ).

فهل ثَمّ أحد تردّد في مدلول السلوك النبوي، وأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) نصَّب بهذه الكلمات عليّ بن أبي طالب وليّاً وإماماً؟

أبداً، لم يسجّل المشهد التاريخي يومئذ مَن استراب بهذه الحقيقة أو شكّ فيها، حتى أولئك النفر الذين أخطأوا حظّهم، وعتت بهم أنفسهم، فأنفوا عن الانقياد، حتى هؤلاء لم يستريبوا في محتوى الرسالة النبويّة، ولم يشكّوا بدلالتها، إنّما انكفأت بهم البصيرة، فراحوا يتساءلون عن منشأ هذه المبادرة النبويّة، وفيما إذا كانت من عند نفس النبيّ أم وحياً نازلاً من السماء.

انجلى المشهد عن عليّ بن أبي طالب وهو متوّج بالولاية والإمارة، فانثال عليه كثيرون يهنّئونه من دون أن تلوح في أُفق ذلك العصر أدنى شائبة تؤثّر في نصاعة هذه الحقيقة أو تشكّك فيها، فهذا هو عمر بن الخطّاب نهض من بين الصفوف المهنّئة، وقد خاطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (هنيئاً لك يا بن أبي طالب، أصبحت اليوم وليَّ كلّ مؤمن) (1) .

____________________

(1) راجع: حديث الغدير/التهنئة القياديّة.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174