مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني22%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62457 / تحميل: 7608
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وتبين عجز الماركسية وإفلاسها، تبرأ الماركسيون من الدكتور ومن كتابه، واعلنوا بلسان الاستاذ نسيب نمر أنه لا يمثلهم ولا يمثل فكرهم.. لماذا؟!!

هل هذا تكتيك ماركسي للماركسية التي تتخطى ذاتها باستمرار؟!، وإذن فلنسمّ ما كتبه الاستاذ نسيب نمر في شأن مقالاتي وكتاب نقد الفكر الديني نوعاً من تخطي الذات!!

وقد تحدث الاستاذ نسيب نمر عما أتيح لي من حرية، وعما تعرض له الاستاذ صادق جلال العظم من مصادرة لحريته. وهذا ما أثار عجبي ودهشتي، فلقد أُتيح للدكتور من حرية التعبير عن الرأي ما لم يتيج لي عشر معشاره، وأتيح لافكاره من فرص الذيوع والانتشار ما لم يتح لاحاديثي في الرد عليه. لقد ناصرته الصحافة على اختلاف ميولها واتجاهاتها، وانبرت للدفاع عنه ولشرح أفكاره كل المؤسسات الاعلامية والحزبية الموالية لخطه الفكري، ونهجه السياسي. وكم روجت له هذه الأوساط وهللت في الصحافة والنوادي الثقافية.

وأما ما تعرض له من ملاحقة، وتعرض له كتابه من منع ومصارة، فقد قلت في مطلع أحاديثي أنه أمر لا موجب له ولا داعي إليه. وعلى أي حال فقد كان هذا الاجراء فرصة أتاحت للكتاب ذيوعاً وانتشاراً ما كان ليحصل عليهما لو أن الكتاب ترك وشأنه دون اعتراض.

مدخل

شُغِلتُ بعض الوقت عن قراءة كتاب الدكتور صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني» وقدرت في نفسي أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون كأمثالٍ له ألفناها في السنوات الأخيرة، هي حصيلة أفكار شبابنا الذي تعلم في أوربا فأخذ منها - إلى جانب علومها - أوهامها وتصوراتهما الخاطئة عن الدين بوجه عام، دون أن يكون قد وعى من تراثه ومن عقيدته ومن تاريخه ما يعصمه من الزلل، ويحمله على غربلة ما يسمع ويرى ويلقّن، فأخذ كل شيء على انه حقيقة، وطفق يروجها في وطنه، بعد أن شُدِه بحضارة أوربا المادية، الغالبة الآن على كل شيء، وبعد أن رأى أن مُثَلها ومفاهيمها وأخلاقها تكتسح أمامها كل المواضعات والأعراف والتقاليد سيئة كانت أو حسنة، جميلة كانت أو قبيحة.

وهذه الكتب أيضاً حصيلة موجة الالحاد التي انطلقت في السنين الأخيرة، وشملت قطاعاً كبيراً من الشباب المتعلم - ولا أقول المثقف - الشباب الذي لم يتزود بأي معرفة دينية علمية على الاطلاق، والذي

٤١

يُحشى فكره بافكار الملاحدة الأجانب في صيغ جازمة. ومسلمات حاسمة.

ومن الغريب في ظواهر هذه الموجة الالحادية انها تسمح لنفسها بالشك في المسيحية والاسلام وتحاول تمهيدها بالضلالات التي تنشرها، والأباطيل التي تروج لها. دون أن تمس اليهودية بشيء، وإن مستها بكلمة فانها تصاغ بمنتهى الرقة والعذوبة، ولا أعرف سرّاً لهذه الظاهرة إلا فكرة ماركس أو انجلز - لا أتذكر - «إن اليهود إذا فقدوا دينهم فقدوا أنفسهم».

قدرت في نفسي أن الأمر في هذا الكتاب لايعدو أن يكون كذلك، ولكن بعض الاصدقاء ألحوا عليّ أن انتزع نفسي من بعض مشاغلي على الأقل لبعض الوقت، وأن اتفرغ لقراءة الكتاب والتعليق عليه، لأنه «خطير» يجب أن يناقش وتفضح أكاذيبه وأباطيله، وهكذا استجبت لهم، وخصصت للكتاب وقتاً في جملة أوقاتي، وجعلت النظر فيه من بعض أعمالي.

وعندما قرأت الكتاب لم يتغير حكمي عليه قياساً على نظائره وأمثاله، فهو لايعدو أن يكون ترديداً أميناً لأفكار عصر النهضة الأوربية عن الدين وعن أساسه، وعن أهدافه... هذه الافكار التي اندفع إليها بلا تبصر علماء ذلك الحين تحت وطأة الصراع بينهم وبين الكنيسة في ذلك الحين. والكتاب إن تميز على أمثاله بشيء فهو يتتميز بالوقاحة الزائدة، وسوء الأدب في التعبير. إنه عمل تافه يتسم بالنزق الفكري، والعاطفية والفجاجة في كثير من موارده، ولا يخلو عن كثير من التناقضات.

وقد كنت أقرأ الكتاب وأُعلق عليه، فاجتمعت لي من تعليقاتي عليه

٤٢

هذه الحصيلة التي يراها القارئ، والتي عساه أن يجد فيها ما يجعله يوافقني في أن الكتاب المذكور لا يستحق كل هذه الضجة التّي أُثيرت حوله وحول كاتبه، فإنه لا يعدو - كما قلت - أن يكون كسائر الكتابات من هذا النوع تمر دون أن تنال من الدين أي منال، لأن الدين ينبع من فطرة في الانسان لا تقوى على اقتلاعها الترهات والاباطيل مهما كسبت ثوب العلم زوراً وبهتاناً، واسبغ عليها شكل الحقيقة كذباً وهذياناً.

ولا بد لي - قبل الدخول في نقد الكتاب - أن أقدم بعض الملاحظات حول طبيعة الموضوع المبحوث عنه «الدين» وحول مدى اهلية الدكتور المؤلف لتحمل المهمة التي كرس كتابه لأجلها.

أ - أهلية المؤلف

هل الدكتور مؤهل للكتابة عن نقد الفكر الديني؟

هذا أول سؤال يواجهنا.

يفترض فيمن يكتب عن شيء - نقداً أو تأييداً - أن يكون ملماً بصورة كافية بالموضوع الذي يكتب عنه، وأن يكون مطلعاً عليه اطلاعاً تاماً، وذلك ليكون مؤهلاً للحكم له أو عليه. فهل الدكتور بهذه المثابة من المعرفة الدينية؟.

لقد ظهر لي من قراءة كتابه أن معرفته الدينية بالاسلام ساذجة وسطحية إلى أبعد الحدود. إنها التصورات التي امتصها خياله وعقله من مجتمعه ومن

٤٣

أهله، وليست معرفة مبنية على المعاناة والدراسة والبحث.

إن فكرته عن الاسلام أخذها - ليس عن مصادر الاسلام الاساسية «القرآن الكريم والسنة الصحيحة» وانما أخذها عن العجائز واشباه العجائز وعن الجهال وأشباه الجهال، وعن الكتابات المتأثرة بالأفكار الاسرائيلية، والقصص التي لم تثبت إسلامياً من مصادر الاسلام الصحيحة.

وسيمر علينا خلال نقدنا التحليلي للكتاب كثير من الأمثلة الدالة على أن المؤلف ينقد موضوعاً لا يعرفه معرفة كافية. إنه يعرف الاسلام معرفة مشوهة، ويريد أن يجعل الاسلام من خلال معرفته المشوهة - موضوعاً لنقده، مستخدماً في ذلك الآراء التي استعارها من أولئك الذين أطلقوها ضد الدين في فترة الصراع بين الكنيسة وملوك الحكم المطلق في أوربا، تلك الآراء التي تجاوزها الفكر واثبت زيف كثيرٍ منها، وفجاجته، وإغراقه في الذاتية والعاطفية.

سنرى أن الفصل الذي عقده المؤلف تحت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» لا يكشف عن بؤس الفكر الديني، ولا يكشف عن بؤس الفكر العلمي وإنما يكشف عن البؤس الفكري للدكتور المؤلف.

ب - وظيفة الدين، ما هي؟

إن الدين عقيدة إلهية ينبثق عنها نظام كامل للحياة الانسانية. يقوِّم السلوك الانساني، ويرسم المناهج الصحيحة لهذا السلوك، ويرفع الكائن البشري من مستوى الحيوانية إلى مستوى الانسانية العالية.

٤٤

وليست وظيفة الدين أن يقدم تفسيراً تفصيلياً للكون: كيف نشأ؟ وما هي الأطوار التي مرّ فيها؟ وما هي العناصر التي يتكوّن منها؟ وما هي التفاعلات بين هذه العناصر؟ إلى غير ذلك من هذه المسائل. وليس في الاسلام شيء من ذلك إذا ما رجعنا إلى المصادر الاساسية للاسلام.

كل ما يقوله الدين في هذا المجال أنه يرد الكون إلى علة علياً إنه يعتبر «اللّه» هو السبب النهائي الاعمق والأعلى للتكوين «ويحتم على تسلسل العلل والاسباب أن يتصاعد إلى قوة فوق الطبيعة وفوق المادة» أما المسائل المتقدمة وأمثالها فهي مجال العلم.

وموقف الدين الاسلامي من العلم يتكون من عنصرين:

الأول: التشجيع على البحث والمعرفة، وذلك بفتح الآفاق أمام العقل البشري، وإزالة المعوقات التي تعترض طريقه وتعرقل سيره «حرم الاسلام السحر، والشعبذة، والكهانة، والقيافة»(١) فالاسلام يشجع،

____________________

(١) وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة في مناسبات عدة وجه اللّه فيها الانسان إلى طلب المعرفة والبحث في الكون المادي والحياة الانسانية والحيوانية والنباتية المحيطة به. وبين اللّه تعالى في طائفة اخرى من الآيات أن الكون المادي كله مسخر للانسان لينتفع به، ولا يمكن ذلك بطبيعة الحال إلا بعد اكتشافه، واكتشاف القوانين التي تيسر التعامل معه.

والطائفة الاولى من الآيات هي آيات التفكر، منها الآيات التالية:

١ - «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.

الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات =

٤٥

____________________

= والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» آل عمران (مدنية - ٣) الآية ١٩٠ - ١٩١.

٢ - «اللّه الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات: لعلكم بلقاء ربكم توقنون. وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون» الرعد (مكية - ١٣) الآيات: ٢ - ٤

٣ - «والانعام خلقها لكم فيها دفء، ومنافع، ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون. وعلى اللّه قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين. هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» النحل (مكية - ١٦) ٥ - ١١.

٤ - «واللّه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعونوإن لكن في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً، إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك ذلا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه منه شفاء للناس. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» النحل/ الآية ٦٥ - ٦٩.

= ٥ - «أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق اللّه السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى..» الروم (مكية - ٣٠) الآية: ٨.

٦ - «اللّه سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره، ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون». الجاثية (مكية - ٤٥) الآية - ١٢-١٣.

والطائفة الثانية من الآيات هي آيات التسخير، وقد مر بعضها في آيات التفكر، ومنها مما لم يتقدم ذكره الآيات التالية.

١ - «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره» الحج (مدنية - ٢٢) الآية: ٦٥.

٢ - «ألم تروا أن اللّه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة...» لقمان (مكية - ٣١) الآية: ٢٠.

٤٦

ولا يخطط، لأن التخطيط ليس من وظيفته وإنما هو وظيفة العقل الباحث، ولأن للعلم قوانين تطوره الخاصة التي تنجم عن تطور المعرفة، وتنوع الاكتشافات.

الثاني: إن موقف الدين الاسلامي بالنسبة إلى كشوف العلم وانتصاراته موقف مؤيد - واكرر: بالنسبة إلى العلم، أي إلي ما ثبت باليقين والحس والتجربة، فهو يعترف به، ويباركه ويعتبره مظهراً من مظاهر خلافة الانسان في الأرض. أما الظنون، أما الفرضيات والنظريات فلا قيمة لها، ولا تنال من الدين الاحترام بوصفها علماً لأنها ليست علماً، وإنما هي ظنون «إن الظَّنَّ لا يُغنِي مِنَ الحَقَّ شيئاً»(١)

____________________

(١) سورة النجم، الآية: ٢٨ وقد وردت المقابلة في القرآن دائماً بين العلم الصحيح (الحق) في جميع الحقول أو في حقل بعينه، وبين الظنون والأوهام غير الثابتة، والتي هي، في أحسن الأحوال، «مشاريع» تفتقر إلى مزيد من البحث لاثباتها أو نفيها.

٤٧

إن الفرضية والنظرية مجرد «مشروع» وليست حقيقة نهائية حتى تؤخذ مأخذ القبول المطلق، وإلا فاذا أردنا أن نظفي على الفرضيات قداسة الحقيقة «المعرفة العلمية النهائية الجازمة» نكون قد نقضنا بذلك المنهج العلمي الذي - لا يجيز لنا الايمان الا بما ثبت باليقين صحته وصدقه.

* * *

إن ما أشرت إليه من جهل المؤلف بموضوع بحثه «الدين الاسلامي» يكشف عن نفسه بوضوح في كثير من الموارد التي ينسب فيها إلي الإسلام أنه يقدّم «نصوصاً مقدسة» تفسر الظواهر الكونية، وهو مخطئ في نسبته ذلك إلى الاسلام.

وما أشرت إليه من بؤس المؤلف الفكري يكشف عن نفسه بوضوح عندما يفترض في الدين موضوعاً غير موجود في الدين وينقده بفرضية من الفرضيات، ونظرية من النظريات التي لم تثبت صحتها، ولم ترتفع عن درجة «الظن» إلى درجة «اليقين».

ج - مَنْهَجة البحث

تحت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» عالج المؤلف موقف الدين (الاسلامي على الاخص) من العلم، وموقف العلم من الدين في اثنتين وستين صفحة من كتابه.

وقد انطلق في بحثه هذا من فرضية لم يبرهن على صحتها (وما اكثر ما لديه من فرضيات لا تزيد عن كونها دعاوى بلا برهان) - أقول انطلق من فرضية لم يبرهن عليها وهي:

٤٨

أن النظرة العصرية «يسميها هو علمية» حق بجميع ما اشتملت عليه وأدت اليه، وأن الفكر الديني باطل كله، ابتداء من قضية وجود اللّه إلى إصغر قضية دينية، ورتب على هذه االفرضية العارية عن البرهان أن على الفكر العصري أن ينقد الفكر الديني.

إن أبسط الناس ثقافة لا يستطيع أن يوافق المؤلف على هذا الموقف. وإلا، فاذا كانت المسألة تقوم على مجرد الافتراض والادعاء فلماذا لا يكون الصحيح هو العكس، وهو أن على الفكر الديني الصحيح الأصيل أن يقوم بنفس المهمة تجاه الافكار العصرية القائمة على الهوى وعلى سوء الفهم لقضايا الدين والعلم.

أعتقد أن المؤلف انطلق في هذه المسألة بسبب تشبع فكره «بكليشهات» انصاف المثقفين عن العلم وعن التفكير العلمي وعن قوة العلم وانتصاره، دون أن تكون لديهم القدرة على التمييز بين العلم وبين الفرضيات والنظريات، أضف إلى ذلك ما ذكرناه عن ضحالة تفكيره ومعرفته فيما يتصل بالدين ومصادره الاساسية ووظيفته، فوقع في هذا الخطأ الذي أشرنا إليه.

وعلى أي حال فقد أثار المؤلف في مقدم بحثه قضية الصراع بين الدين والعلم، وعالج في نهاية البحث مسألة وجود اللّه.

وأعتقد ان الترتيب الطبيعي للبحث يقضي بالعكس: أن نبحث أولاً مسألة وجود اللّه، وبعد ذلك تكون جميع القضايا ثانوية، لأن قضية وجود اللّه هي اساس الفكر الديني ، فاذا خرجنا منها برأي حاسم استطعنا أن نصفي بقية المسائل بسهولة.

٤٩

مسألة العلة الأولى اللّه ام المادة؟

أ - تمهيد

ب - العلة الاولى

ج - اللّه أم المادة؟

٥٠

في الصفحات (٢٥ - ٢٩ ) عرض المؤلف باسلوب غير علمي لمسألة وجود اللّه، وخلقه للكون، وعرض للمسألة أيضاً في الصفحات (٧٤ - ٧٨ ) عند مناقشته لرأي وليم جيمس. وقد لخص رأيه في المسألة في صفحة (٢٨ - ٢٩) بالنص التالي:

«في الواقع علينا أن نعترف - بكل تواضع - بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون. عندما تقول لي إن اللّه هو علة وجود المادة الاولى التي يتألف منها الكون، وأسألك بدوري: وما علة وجود اللّه. إن اقصى ما تستطيع الاجابة به: «لا أعرف، إلا أن اللّه موجود غير معلول» ومن جهة أُخرى عندما تسألني: وما علة وجود المادة الأولى؟ فان اقصى ما استطيع الاجابة به «لا أعرف، إلا أنها غير معلولة الوجود» في نهاية الأمر اعترف كل منا بجهله حيال المصدر الأول للاشياء. ولكنك اعترفت بذلك بعدي بخطوة واحدة، وادخلت عناصر غيبية لا لزوم لها لحل المشكلة. والخلاصة، وإذا قلنا أن المادة الاولى قديمة وغير محدثة، أو ان اللّه قديم وغير محدث نكون

٥١

قد اعترفنا بأننا لا نعرف ولن نعرف كيف يكون الجواب على مشكلة المصدر الاول للاشياء. فالافضل اذن أن نعترف بجهلنا صراحة ومباشرة عوضاً عن الاعتراف به بطرق ملتوية».

وهكذا نرى المؤلف يسجل على نفسه بصراحة ووضوح أنه يجهل حقيقة المصدر الأول للاشياء: أهو اللّه أم المادة؟

ومع ذلك فهو يصرح في كل صفحة تقريباً من صفحات كتابه بأنه (المؤلف) مادي، وبأن الحقيقة النهائية هي المادة، ويختم كتابه بالعبارة التالية:

«ومن المؤكد أن المادية الديالكتيكية هي أنجح محاولة نعرفها اليوم في صياغة صور كونية متكاملة تناسب هذا العصر وعلومه».

وهكذا يقع المؤلف في التناقض.

إن تبني مفهوم معين للكون ينبع بالضرورة من تبني قرار حاسم بالنسبة إلى العلة الاولى للكون:

إن الاعتراف باللّه علةً أُولى يُلزِم بتبنِّى المفهوم الألهي للكون.

والاعتراف بالمادة علةً يُلزِم بتبنِّي المفهوم المادي للكون.

وعدم الجزم بالعلة الاولى للكون - كما يكشف عنه المؤلف في نصه الذي نقلناه - يجعل من المستحيل منطقياً تبنِّي أي من المفهومين - الالهي أو المادي للكون، إذ لا يمكن بناء نتيجة بدون مقدماتها.

أما أن نعلقَ الحكم في مسألة العلة الاولى للكون، لاننا (في زعم المؤلف) نجهلها، ثم نجزم بالمفهوم المادي للكون كما صنع المؤلف فهذا

٥٢

تناقض ومحال يكشف كما قلت واكرر عن البؤس الفكري للمؤلف. إن تعليق الحكم في العلة الاولى يقتضينا أن نعلق ايضاً الحكم في طبيعة مفهومنا عن الكون: مادي هو أم إلهي؟

* * *

ويقع المؤلف في تناقض آخر بالنسبة إلى مسألة العلة الاولى، فبعد أن اعترف بصراحة في النص السابق بأنه يجهل الجواب عن مشكلة المصدر الأول للاشياء، نراه في صفحة(٧٨) يصرح بإنه يعرف المصدر الأول للاشياء، وينفي وجود اللّه بشكل حاسم، ويعبر عن رأيه هنا بالنص التالي:

«إن المفكر الذي لا يعتقد بوجود اللّه أو يعلق الحكم حول الموضوع بأسره قد لا يفعل ذلك من جهة تكوينه العاطفي... إنه يفعل ذلك لأنه القناعات الفكرية التي تشكلت لديه على أسس علمية واضحة لا تسمح له بأن يعتقد بوجود اللّه دون أن يقع في تناقض ذاتي ودون أن يضحي بوحدة تفكيره ومنطقه».

نتساءل: كيف علق الحكم سابقاً في هذه المسألة، وكيف جزم بالعدم هنا؟

إنه علق الحكم سابقاً لأنه لا دليل على الوجود (في زعمه) ولا دليل على العدم، ومع أنه لم يقدم أي دليل على العدم نراه جزم هنا بعدم وجود اللّه.

* * *

٥٣

إن المصور لا يستطيع أن يلتقط صورة دقيقة لجسم مّا يريد تصويره ما لم يضبط - بدقة متناهية - زاوية الرؤية بين عدسته وبين الجسم المراد تصويره، فاذا ما أخل بهذا الشرط الاساسي حصل على صورة مشوهة، أو لم يحصل على صورة اطلاقاً.

والأمر في عمليات الفكر يشبه هذا المثال. فاذا أردنا اكتشاف حقيقة ما أو البرهنة على فرضية ما فعلينا ان نفكر فيها من الزاوية الملائمة لها، المتفقة مع طبيعتها - أما حين نفكر فيها من زاوية أُخرى، أو نطبق عليها شروطاً لا تتفق مع طبيعتها فاننا نخفق في مهمتنا، ويؤدي ذلك بنا في النهاية الى الضلال وسوء الفهم كما حدث للمؤلف

ان الشك في وجود علة نهائية للكون، أو الاعتراف بذلك والشك بانها اللّه أو المادة ينتج لدى رجل الفكر من أحد عاملين: إما عن قصور فكري، وإما عن سوء استخدام للفكر بالطريقة الصحيحة. إن ما يبدو لي هو أن المؤلف قد نظر الى مسألة وجود اللّه من غير الزاوية الصحيحة. فادى به ذلك إلى الوقوع في الخطأ: تعليق الحكم في هذه المسألة، أو الجزم بعدم وجود اللّه، فله رأيان في المسألة كما رأينا.

إن هذا يكشف عن أن المولف يعاني من اهتزاز فكري حيال هذه المسألة.

وعلى أي حال فهذه المسألة تبحث على مرحلتين.

الأولى: هل نحن بحاجة إلى الالتزام بعلة أُولى للكون أم لا؟

الثانية: إذا آمنا بلزوم علة أُولى للكون، فهل هذه العلة الاولى هي اللّه كما تقول الفلسفة الالهية أم المادة كما تقول الفلسفة المادية؟

٥٤

أ - مسألة العلة الاولى

- ١ -

إن مبدأ العلية (توقف كل موجود ممكن على علة لوجوده) من البديهيات التي يدركها العقل البشري. إن الانسان يجد في صميم طبيعته ما يدفعه إلى تعليل الاشياء والظواهر، واكتشاف أسبابها. وقد اعترف المؤلف في ص ٢٥ بأن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء».

وكل معرفة بشرية نظرية أو تطبيقية تتوقف على التسليم بمبدأ العلية والاذعان لقوانينه:

١ - مبدأ العلية «إن لكل شيء سبباً».

٢ - قانون الحتمية «إن كل سبب يولد النتيجة الحتمية له بصورة ضرورية ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن اسبابها»

٣ - قانون التناسب بين الاسباب والنتائج: «إن كل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة يلزم أن تتفق ايضاً في الاسباب والنتائج».

٥٥

وهكذا يتوقف على التسليم بمبدأ العلية وقوانينه:

١ - إثبات الواقع الموضوعي للاحساس في التجربة الشخصية المادية.

٢ - النظريات والقوانين العلمية المستندة إلى التجربة.

٣ - جواز الاستدلال وانتاجه في أي ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية ولولا مبدأ العلية لما أمكن إثبات شيء من ذلك.

- ٢ -

وهنا يواجهنا سؤال أساسي:

هل مبدأ العلية قائم على أساس تجريبي أو على أساس فلسفي؟

الحق أن مبدأ العلية ليس مبدأً يستند إلى الحس، ولا إلى التجربة وإنما هو مبدأ عقلي ضروري فوق الحس وفوق التجربة.

ليس مبدأ العلية برهاناً حسياً لأن الحس لا يكتسب صفة الحقيقة الموضوعية إلا عن طريق مبدأ العلية، فليس من المعقول أن يكون مبدأ العلية مديناً للحس في ثبوته.

وليس مبدأ العلية نظرية علمية تجريبية، لأن جميع النظريات العلمية تتوقف عليه. فإن كل استنتاج علمي قائم على التجربة يواجه المشكلة التالية، وهي: أن التجربة التي يستند عليها الاستنتاج محدودة بنماذج معينة، فكيف تكون بمجردها دليلاً على نظرية عامة؟ والحل الوحيد لهذه

٥٦

المشكلة في العلية وقوانينها: مبدأ العلية. قانون الحتمية. قانون التناسب

فإذا افترضنا أن مبدأ العلية نفسه، مرتكز على التجربة فسنواجه مشكلة العموم والشمول من جديد على صعيد مبدأ العلية نفسه، وذلك لأن التجربة ليست مستوعبة للكون، فكيف تعتبر دليلاً على نظرية عامة، وقد كنا نحل هذه المشكلة في مختلف النظريات العلمية بالاستناد إلى مبدأ العلية، بصفته الدليل الكافي على عموم النتيجة وشمولها، وأما إذا اعتبر نفس هذا المبدأ تجريبياً، وواجهنا مسألة العموم والشمول بالنسبة إليه، فسوف نعجز نهائياً عن الجواب عنه.

وإذن، فلا بد أن يكون مبدأ العلية فوق التجربة، وقاعدة أساسية للاستنتاجات التجريبية عامة.

وأخيراً، إن مبدأ العلية مبدأ ضروري لا يمكن الاستدلال على رده، وذلك لأن الدليل علة للعلم بالشيء المستدل عليه، وإذن محاولة الاستدلال على رد مبدأ العلية تنطوي على الاعتراف بمبدأ العلية وتطبيقه.

والخلاصة: أن مبدأ العلية ليس مبدأً حسياً، وليس مبدأ تجريبياً، ولا يمكن نقضه بأي دليل، وإنما هو مبدأ عقلي ضروري فوق الحس والتجربة، وثابت بصورة متقدمة على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الانسان.

- ٣ -

بعد أن آمنا بمبدأ العلية وقوانينه، وأنه مبدأ عقلي ضروري، تخضع

٥٧

له جميع الموجودات الممكنة ولا تستغني عنه، نتساءل:

لماذا تحتاج الأشياء إلي علل، ولماذا لا توجد الأشياء بدون علل؟

وقد أجاب عن ذلك الفيلسوف الاسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي) بما ملخصه: إن علاقة العلية بين العلة والمعلول هي ارتباط بين شيئين، وللارتباط مظاهر متنوعة، ولكنها جميعاً ترجع إلى نوعين.

احدهما: أن يكون لكل من الشيئين المرتبط أحدهما بالآخر وجود مستقل سابق على حصول الارتباط: يكون القلم - مثلاً موجوداً بصورة مستقلة، ويكون الكاتب موجوداً بصورة مستقلة، ثم يحصل الارتباط بينهما حين يستخدم الانسان القلم للكتابة. ويكون القماش - مثلاً - موجوداً بصورة مستقلة، ويكون الشخص موجوداً بصورة مستقلة أيضاً، ثم يحصل الارتباط بينهما حين يلبس الشخص القماش ثياباً، وهكذا.

ثانيهما: أن لا يكون لأحد الشيئين وجود مستقل عن وجود الاخر وهذا هو رباط العلية، مثلاً (ب) ارتبط ب‍ (ا) برباط العلية، ففي هذه الحالة لا يكون له (ب) وجود مستقل عن وجود (ا) وإنما حقيقة وجود (ب) عبارة عن ارتباطه وعلاقته ب (ا) فلو انقطع هذا الارتباط انقطع وجود (ب) بالضرورة - وهذا بخلاف ما إذا كان الارتباط ليس على نحو العلية، فان انقطاع الارتباط بين القلم والكاتب لا يؤثر على الوجود المستقل لكل منهما، وإنما يحتفظ كل واحد منهما بوجوده المستقل قبل الارتباط ومعه وبعده، بينما المعلول وجود منبثق عن العلة حال ارتباطه بها أما قبل ذلك فلا وجود له ابداً، وأما بعد انقطاع الارتباط فينعدم فوراً.

٥٨

وإذن: فالحقائق الخارجية ليست في الواقع إلا تعلُّقات وارتباطات، فالتعلق والارتباط مقوم لكيانها ووجودها، والسر في احتياجها إلى العلة أن وجودها وكيانها عبارة عن الارتباط والتعلق بمنبع وجودها المباشر، وهو العلة.

- ٤ -

إن مبدأ العلية في الكون يقودنا الى قانون النهاية: «إن العلل المتصاعدة التي ينبثق بعضهاعن بعض، يجب أن تكون لها بداية، أي علة أُولى لم تنبثق عن علة سابقة».

وذلك لأن العلل لا يمكن أن تتصاعد بشكل لا نهائي، فإن الموجودات المعلولة كلها ارتباطات، وهي تحتاج إلى حقيقة مستقلة تنتهي إليها، وإلا فإن سؤال «لماذا؟» يبقى قائماً بالنسبة إلى كل موجود، وإذن، فإن عقلنا يقودنا إلى الايمان بسبب أول متحرر من مبدأ العلية، مستقل بذاته عن كل شيء، وبذلك لا نواجه بالنسبة إليه سؤال «لماذا؟».

* * *

إن خضوع الكون كله لمبدأ العلية وقوانينه قادنا بصورة حتمية إلى الايمان بعلة أُولى واجبة الوجود بالذات، غير محتاجة إلى علة، ولا يسع الانسان الا الاذعان لهذه الضرورة العقلية لأن رفضها يؤدي إلى التسلسل اللانهائي المستحيل.

٥٩

ب - اللّه أم المادة

- ١ -

يتألف الكون المنظور من عدد من العناصر الأساسية بلغ عدد ما اكتشف منها حتى الان عنصرين ومائة عنصر رتبت في جدول حسب تسلسل وزنها الذري. ويقع الهدروجين في أول هذا الجدول لأنه أخف العناصر في وزنه الذري، فهو يحتوي في نواته على شحنة واحدة موجبة، يحملها بروتون واحد، ويحيط بها الكترون واحد ذو شحنة سالبة، ويقع في نهاية الجدول النوبليوم - فمرقمه الذري (١٠٢) أي أن نواته تشتمل على (١٠٢) وحدة من وحدات الشحنة الموجبة، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الالكترونات ذات الشحنات السالبة.

في حدود ما وصل إليه العلم الان هذه العناصر هي المواد الاساسية التي يتألف منها الكون المادي، وهذا الحشد الهائل من الحقائق والانواع المختلفة يرجع لدى التحليل إلى تلك العناصر.

٦٠

- ٢ -

وقد أثبت العلم التجريبي أن خصائص هذه العناصر غير نهائية وغير ثابتة، بل يمكن تبدل بعضها ببعض، وهذا التبدل بعضه يتم بصورة تلقائية، وبعضه يمكن إحداثه بالوسائل العلمية. فعنصر اليورانيوم - مثلاً - يطلق انواعاً ثلاثة من الأشعة، منها أشعة (الفا) وهي عبارة عن ذرات عنصر الهليوم، ويتحول اليورانيوم تدريجياً إلي راديوم، ويتحول الراديوم - بعد عدة تحولات عنصرية - إلي عنصر الرصاص.

وقد تمكن العالم الطبيعي (رذرفورد) من تحويل عنصر إلى عنصر آخر بجعل ذرات الهليوم تصطدم بذرات الآزوت، فنتجت ذرة هيدروجين من ذرة الازوت، وتحولت ذرة الازوت إلى اوكسجين.

وهكذا غدا من الثابت أن خصائص العناصر ليست ذاتية للعناصر.

- ٣ -

وقد استطاع العلم التجريبي - على ضوء نسبية آينشتين - أن ينزع عن الكتلة صفتها المادية، ويحولها إلى طاقة، فلم يعد في الكون عنصران متميزان: أحدهما المادة المحَّسة، والآخر الطاقة غير المحسَّة، بل غدت المادة عبارة عن طاقة مركزة، فإن كتلة الجسم نسبية، وليست ثابتة، فهي تزيد بزيادة السرعة، كما اكدت التجارب التي أجراها علماء الفيزياء الذرية. ولما كانت كتلة الجسم تزداد بازدياد حركته - وليست الحركة

٦١

إلا مظهراً من مظاهر الطاقة - فالكتلة المتزايدة في الجسم هي إذن طاقته المتزايدة، وذلك وفقاً للمعادلة التالية:

الطاقة = كتلة المادة × مربع سرعة الضوء: «١٨٦٠٠٠» ميلٍ في الثانية. كما أنه : الكتلة المادة = الطاقة مربع سرعة الضوء.

وإذن، فنفس صفة «المادية» صفة عرضية، وليست ذاتية للمادة المتطورة.

- ٤ -

على ضوء الحقائق السابقة.

١ - إن المادة الأصلية للكون المادي ترجع إلى حقيقة واحدة مشتركة.

٢ - إن خواص المركبات التي تتكون من العناصر - هذه الخواص ليست ذاتية بالنسبة إلى المادة الأصلية، وإنما هي عارضة عليها بسبب التركيب، وليس عن الطبيعة الاساسية المكوِّنة للمركب.

٣ - إن خواص العناصر البسيطة التي يتكون منها العالم المادي أيضاً ليست ذاتية لتلك العناصر وليست نهائية بدليل تحول بعض العناصر إلى بعض آخر كما رأينا.

٤ - وأخيراً إن صفة «المادية» ليست ذاتية للمادة المحسوسة، لأنها تتحول - في نهاية المطاف - إلى طاقة.

٦٢

وإذن، فليست لدينا «حقيقة نهائية» هي المادة. وليست لدينا حقيقة نهائية. هي الطاقة.

النتيجة

- ٥ -

ان المادة لا يمكن ان تكون هي العلة النهائية للكون، لان الكون يحتوي على حشد هائل من المظاهر المتنوعة، والانواع المتباينة، وهي ترجع باجمعها إلى حقيقة واحدة كما رأينا. ولا يمكن للحقيقة الواحدة أن تختلف آثارها وتتباين افعالها، إذ لو أمكن ذلك لأمكن أن تكون الحقيقة الواحدة متناقضة الظواهر، ولكن هذا مستحيل لانه يؤدي الى القضاء على نتائج العلوم الطبيعية جميعاً، لأن هذه العلوم قائمة - كما رأينا سابقاً - على أساس قانون التناسب الذي يقضي بأن الحقيقة الواحدة لها آثار واحدة وثابتة لا تتغير، فقد بينا أن التجربة في العلم الطبيعي لا تتناول إلا نماذج ضئيلة من المادة المدروسة، وتعمم نتائج التجربة الى جميع المادة المدروسة بمقتضى قانون التناسب، فلو فرضنا إمكان تناقض ظواهر الحقيقة الواحدة لما أمكن وضع أي قانون علمي عام، وبذلك تنهار العلوم كلية.

واذن، فهذا الفرض - ان التنوع من خصائص المادة الذاتية - فرض مستحيل.

واذن، من المستحيل أيضاً أن تكون المادة هي العلة النهائية للكون،

٦٣

لأن هذا الفرض يؤدي بنا الى الاستحالة العقلية كما رأينا، ويصدم حقائق التجربة الواقعية.

واذن، فاذا كانت المادة غير صالحة لأن تكون علة نهائية، فلا بد أن تكون هذه العلة النهائية فوق المادة وفوق الطبيعة.

- ٦ -

هل بقي علينا شيء؟

نعم بقي علينا أن نناقش - بصورة مباشرة - موقف الماركسية من هذه المسألة لنفضح قصورها وعجزها وسطحيتها.

تقول الماركسية في تصوير نشوء الكون عن المادة: ان الاشياء تنتج عن حركة في المادة، وان حركة المادة ناشئة ذاتياً عن المادة نفسها لاحتوائها على النقائض في داخلها، وقيام الصراع بين تلك النقائض.

ونغض النظر الآن عن بطلان المبدأ الماركسي (مبدأ التناقض) ونناقش هذه المسألة وفقاً لهذا المبدأ لنرى إن كانت الماركسية قادرة على تفسير نشوء الكون من المادة وفقاً لمبادئها؟

لقد أوضح العلم كما أشرنا - إلى أن العناصر التي يتألف منها الكون ابتداء من الهيدروجين وحتى نهاية السلسلة تعود إلى مادة واحدة بسيطة مشتركة بين الجميع (ولنغض النظر عن ان هذه المادة الاساسية عبارة عن

٦٤

طاقة) فنسأل: كيف وجدت العناصر الاساسية للكون؟

سنقول - مع الماركسية - إن التناقضات الداخلية في المادة الأساسية ( ولا نعرف من أين جاءت هذه التناقضات في المادة الاساسية البسيطة المتجانسة) - إن التناقضات الداخلية ولدت أبسط العناصر (الهيدروجين) وبالتناقضات الداخلية في الهيدروجين تولد عنصر ارقى منه واكثر تعقيداً، وهو عنصر الهليوم، وتستمر التناقضات تفعل فعلها في الهليوم وما يتولد منه حتى يصل التطور إلى ذروته في العنصر الثاني بعد المئة النوبليوم.

هذا هو التفسير يقدمه الديالكتيك ليفسر به ديناميكية المادة.

ولكن بطلان هذا التفسير يتضح حين نلاحظ أن الهيدروجين لو كان مشتملاً بصورة ذاتية على نقيضه، ومتطوراً بسبب ذلك فلماذا لم تتكامل جميع ذرات الهيدورجين وتتحول إلى هليوم، ولماذا تحول بعضها إلى عنصر الهليوم وبقي الاخر محتفظاً بخواصه العنصرية بالرغم من تناقضاته الداخلية التي حولت أجزاء منه إلى هليوم.

إن هذا المثال يمكن تطبيقه على جميع العناصر الاثنين والمئة، وهو يكشف عن بطلان التفسير الماركسي لديناميكية المادة.

وكما اتضح بطلان التفسير المادي على مستوى العناصر يتضح بطلانه بصورة جلية على مستوى المركبات، ولنأخذ الماء مثلاً على ذلك: الماء مركب من أُوكسجين وهيدروجين ولنفرض وفقاً للتفسير الماركسي أحد هذين العنصرين إثباتاً والاخر نفياً نتج عنهما مركب الماء.

ونتساءل: إذا كان هذا التفاعل يتم بصورة ذاتية بين عنصري

٦٥

الاكسجين والهيدورجين، فلماذا اختص بقسم معين منها، وبقيت الأقسام الاخرى متحررة من أسر هذا القانون، فيوجد اكسجين حر، ويوجد هيدروجين حر، ويوجد ماء.

إن هذا المثال - ويمكن تطبيقه على كل مركب في الكون - يكشف بوضوح عن بطلان التفسير الماركسي لديناميكية المادة.

* * *

الحقيقة هي أن المادة ليست ديناميكية، وليست هي نفسها سبباً ذاتياً لاكتساب خصائصها وتنوعها، فقد عرفنا النتتائج العلمية أن جميع خصائص المادة عرضية.

١ - خصائص المركبات صفات عرضية لها جاءت بسبب تركب العناصر. فخاصة السيلان في الماء عرضية جاءت من اتحاد عناصره، وإذا فرزناها ترجع إلى حالتها الغازية وتنعدم خاصة السيلان.

٢ - خصائص العناصر نفسها صفات عرضية لها، فاليورانيوم مثلاً خصائصه من اختزانه لانواع أشعته، فاذا فقدها يتحول إلى الراديوم الذي يتحول بدوره - بعد عدة تحولات إلى رصاص.

٣ - خصوصية «المادية» في المادة البسيطة نفسها صفة عرضية لها، فقد عرفنا أنها تتحول إلى طاقة، وتتكون من الطاقة.

وإذن: فليست المادة ديناميكية بذاتها تولد تفاعلاتها وتنوعاتها وظواهرها بنفسها، لأن كل ذلك (حتى ماديتها) شيء عرضي لها.

وهكذا يظهر بجلاء ووضوح عجز الماركسية عن تفسير نشوء الكون

٦٦

من المادة، وتسقط بصورة مزرية فكرة أن المادة هي العلة الاولى.

وهكذا ننتهي بصورة حتمية إلى الايمان باللّه علة نهائية للكون.

ويجب أن نوضح هنا ان ايماننا باللّه لا يعني أن الاسباب الطبيعية لا معنى لها ولا أهمية لها، وانما يعني أن التنوع والتطور الظاهر والخفي في الكون يعود إلى اسباب طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادة، وهذه الاسباب تتصاعد متولدة من بعضها حتى تصل في النهاية إلى علة وراء الطبيعة هي اللّه تعالى.

الاسلام والعلم

يرى المؤلف في ص ٢١

«أن الدين - كما يدخل في صميم حياتنا، وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي - يتعارض مع العلم، ومع المعركة العلمية قلباً وقالباً، روحاً ونصاً».

نناقش فيما يلي الأدلة التي ساقها المؤلف على رأيه هذا لنكشف عن خطأه، وعن جهله بموضوع نقده (الدين الاسلامي).

- ١ -

يذكّر المؤلف قارئه بالصراع الذي حدث بين العلم والدين في أُوربا، ونحن نقول له: إن الصراع حدث بين علماء عصر النهضة وكنيسة القرون الوسطى لأسباب لا مجال لذكرها الان، وليس بين العلم والاسلام. وحدث في أُوربا وليس في العالم الاسلامي، والاسلام ليس ملزماً بتبرير

٦٧

مواقف لم يتخذها هو في مناطق جغرافية لم يصل إليها، وفي مجتمعات لم يطبعها بطابعه.

وما يدعيه المؤلف من أن في العالم العربي معركة تدور في الخفاء بين الدين والعلم شيء لا نعرفه ولا نحسه، ولا يعرفه احد ولا يحسه - نعم تدور في العالم العربي معركة - ظاهرة وليست خفية - بين الاسلام وبين الالحاد متمثلاً في الماركسية ومشتقاتها. والماركسية ليست علماً: ليست علماً بعد أن افتضح عجزها عن تفسير تطور الكون والحياة والمجتمع، وبعد أن اضطر قادتها إلى تغييرها وتبديلها حتى لم يبق منها في بعض المناطق إلا اسمها، ليست علماً وانما هي مجموعة من الأخطاء في الفكر اطلق عليها إسم العقيدة. وإن صداقتنا مع المعسكر الشرقي لا تعني تبعيتنا له في عقائده وطرائقه التي اتضح لمفكرينا وعلمائنا بطلانها. إننا أصدقاء، نعم، ولكن عقيدتنا وجذورنا التاريخية ستبقى هي التي تكوّن شخصيتنا الحضارية المستقلة. وتدور في العالم الاسلامي معركة بين الاسلام وبين تيار الانحلال والاباحية الجنسية، والانهيار الاخلاقي الوافد إلينا من الغرب، وتدور في العالم الاسلامي معركة بين الاسلام وبين الاستعمار بشتىٍ اشكاله والوانه: العسكري، والاقتصادي، والفكري، من أي مصدر جاء.

- ٢ -

(ص ٢٢) أ : «ويحوي الدين الاسلامي آراء ومعتقدات تشكل

٦٨

جزءً لا يتجزأ منه عن نشوء الكون وتركيبه وطبيعته، عن تاريخ الانسان وأصله وحياته خلال العصور».

لا أدري أين وجد المؤلف هذه «الموسوعة الدينية عن الكون» نشوئه، وتركيبه، وطبيعته. الحق أن الموجود في القرآن والسنة الصحيحة لا يعدو الأفكار العامة عن نشوء الكون، وأنه نشأ بارادة اللّه، وعن اصل تكوين هذه السلالة البشرية الموجودة الان، وهي لا تتنافى مع اية حقيقة علمية قائمة على الاطلاق - كما سنرى.

نعم، ربما يكون المؤلف قد استقى بعض معلوماته الدينية من اشخاص أو مصادر متأثرة بالاسرائيليات كبعض العجائز المتأثرات كثيراً بهذا النوع من القصص فيروينها لاطفالهن، كما لا يزال يؤمن كثير من المتعلمين عندنا ببعض الفرضيات «العلمية» التي شاع في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، والتي تجاوزها العلم منذ عقود من السنين ولكن افكار متعلمينا لا تزال متشبثة بها بالرغم من الشكوك الكبيرة التي تحيط بانقاضها الباقية ك‍«الداروينية» و«المادية الجدلية»، ولا يفوتنا أن نذكِّر المؤلف وغيره بأن كثرة أشياع فكرة ما لا تعني أنها حقيقة، وأن القوة المادية لا يمكن أن تسبغ صفة الحقيقة على أية فكرة، إن الفكرة حينئذٍ تكون أداة سياسية، لا حقيقية علمية.

ب - بالنسبة إلى منهج البحث في كل من العالم والدين، قال المؤلف:

«إن الاسلام والعلم في هذا الأمر على طرفي نقيض، فبالنسبة للدين

٦٩

الاسلامي (كما بالنسبة لغيره) إن المنهج القويم للوصول إلى مثل هذه المعارف والقناعات هو الرجوع إلى نصوص معينة تعتبر مقدسة أو منزلة، أو الرجوع إلى كتابات الحكماء والعلماء الذين درسوا وشرحوا هذه النصوص».

أُكرر قولي عن المؤلف بأنه لا يعرف الاسلام (موضوع نقده).

أولاً: ليس في الاسلام افكار تفصيلية حاسمة حول الكون، وطبيعته وتركيبه وتفاعلاته، ومن هنا فليس ثمة موضوع لاتهام المؤلف للاسلام.

ثانياً: إن النصوص الدينية التي تكون مورداً للدراسة والفحص والتعمق فيها هي نصوص الدين، أي ما يتناول العقيدة والشريعة، وليس لأجل اكتشاف أسرار الطبيعة المادية. إن المنهج في استكشاف اسرار الطبيعة المادية هو التجربة وليس دراسة النصوص. إن علماء المسلمين العظام الذين نبغوا في جميع مجالات العلوم الطبيعية في المغرب والمشرق (الخوارزمي، ابن خلدون، ابن سينا، ابن الهيثم، جابر بن حيان، الطوسي وغيرهم، وغيرهم) هؤلاء العلماء الذين بنت أوربا نهضتها علي ثمرات بحوثهم العلمية توصلوا إلى نتائجهم العلمية الباهرة لا بدراسة القرآن والحديث يا دكتور، وإنما باتباع النهج العلمي في البحث والتجربة. إن دور الدين في تكوينهم العلمي هو انه الهمهم ودلهم على قداسة هذا النوع من البحث العلمي وعظمته وكوّن في عقولهم المنهج التجريبي عن طريق الأمر بالبحث والتأمل والنظر في ظواهر الطبيعة وأسرار الانسان، وذلك كما ورد كثيراً في الحديث وفي الآيات الكونية في القرآن.

لقد كان هؤلاء علماء في الفلك والطب والجغرافيا، والكيمياء والفيزياء

٧٠

والاجتماع البشري، وغير ذلك، وكانوا مع ذلك مسلمين صالحين يتلقى المجتمع والدولة على صعيد رجال الدين ورجال الدنيا نتاجهم بالاحترام والتقدير والاعجاب، بل وينفقون الاموال الطائلة عليهم وعلى بحوثهم، وعلى تيسير وسائل البحث العلمي لهم من مكتبات ومستشفيات، ومراصد، وغيرها.

هل سمع الدكتور أن عالماً مسلماً اضطهد لعلمه، لاكتشاف من اكتشافاته، أو لرأي من آرائه كما حدث في أمكنة أُخرى؟ لم يحدث هذا أبداً يا دكتور (فلماذا تقيس الدين الاسلامي إلى غيره) عفواً، فما بالي أسألك، والذي يبدو لي من كلامك انك جاهل بالتاريخ العلمي للمسلمين كجهلك بالدين.

ولا ينقضي تعجبي من أحد المدافعين عن الدكتور (ملحق النهار / ١٨ ك٢ ١٩٧٠) الذي أراد - بدافع من حقده على الاسلام أو جهله به - أن يلحق بالاسلام التهمة العالقة بغيره، فادعى أن الامويين قتلوا العلماء القائلين بحرية الفكر، ويا ليته جاء على ذلك بشاهد من التاريخ يثبت دعواه. نعم، كان الامويون يلتزمون بمبدأ الجبرية لغايات سياسية ولكن التاريخ لا يحدثنا انهم قتلوا القائلين بحرية الانسان. على اننا لا نستطيع اعتبار الامويين ممثلين امناء للاسلام - إن

موضوعنا هو الاسلام كما ورد في مصادره الاساسية.

- ٣ -

أ - « من الامور الجوهرية التي يشدد عليها الدين الاسلامي أن جميع الحقائق الاساسية التي تمس حياة

٧١

الانسان في الدنيا والآخرة قد كشفت مرة واحدة في نقطة معينة وحاسمة في التاريخ - نزول القرآن وربما الكتب الاخرى قبله - ».

من أين جاء المؤلف بهذه الفكرة عن الاسلام؟ ومن قال له أن جميع المعارف التي تتعلق بحياة الانسان في الدنيا قد اكتشفت بنزول القرآن؟ ولماذا اشتغل المسلمون بشتى العلوم إذن إذا كانت هذه هي عقيدتهم؟ لا استطيع الا أن اكرر اتهامي للمؤلف بأنه جاهل بموضوع نقده بصورة تبعث على الأسف. كلا يا استاذ هذه الخرافة التي ذكرتها ليست من الاسلام في شيء. إن المعرفة في الاسلام عملية اقتحام واكتشاف للمجهول. وقوله تعالى:

«َ ما فَرّطْنا في الكتَاب منْ شيء(١) » الذي استشهدت به، لا يعني ميادين العلوم والحقائق الكونية، إن كلمة «شيء» في الآية حين توضع في اطارها - الدين - تعني القواعد العامة المعلقة بامور العقيدة والشريعة، ولكن المشكلة انك لا تعرف الاسلام من مصادره الاساسية.

ب - «اما الدين فبطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن، يعيش في الحقائق الأزلية، وينظر إلى الوراء ليستلهم مهده».

إن الدين ثابت في عقائده وتشريعاته، ولكنه يدفع إلى الحركة في

____________________

(١) سورة الأنعام، آية: ٣٨.

٧٢

الكون، والتقدم في الحياة، وبناء الحضارة، ودليل ذلك تاريخ المسلمين الحضاري حين كان الإسلام يحركهم ويدفع بهم نحو بناء الحضارة وصنع التاريخ.

وتلح على ذهني أن المؤلف استقي أفكاره هذه من المستشرق ه‍ أ جيب في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» فإن هذا المستشرق في بعض فصول كتابه المذكور وجه إلى الاسلام هذا الاتهام الذي ردده المؤلف هنا.

ج - «في الواقع أصبح الاسلام الايديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه، والمرتبطة صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد».

إن الاسلام ليس حليفاً لأي نظام غير عادل، وإذا كانت بعض الدول «تظهر» الإسلام كحليف لها فما ذاك إلا لأنها سخرت الإسلام لخدمة مآربها، كما تظهر الحكومات الاشتراكية الإسلام كحليف لها، والحقيقة هي أن الإسلام مع نفسه فقط.

ولا تفوتنا هنا أن ننبه على تناقض من تناقضات المؤلف الكثيرة، فهو في هذا الموضع يتهم الإسلام بأنه حليف الاستعمار والرجعية، ولكنه في ص ٤٥ - ٥١، تحت عنوان «التوفيق التبريري» يقول ان الإسلام يتخذ سنداً للرجعية وللاشتراكية وللديمقراطيات الشعبية، وللليبرالية. ونسأل المؤلف: هل هذه المواقف تشكل اتهاماً للاسلام الذي لا ينسجم إلا مع نفسه فقط أو تشكل اتهاماً بالجهل أو بالنفاق لاولئك الذين يظهرونه بمثل هذه المظاهر «ملاحظة: نذكر المؤلف بأن حكومة ستالين في الاتحاد

٧٣

السوفياتي استعانت بالروح الديني عند المسلمين التابعين لها في الحرب العالمية الثانية»

هذه هي الأدلة التي ساقها المؤلف للتدليل على أن الإسلام يقف ضد العلم، وقد رأينا مدى تفاهتها، وكشفها عن جهل المؤلف بموضوع نقده.

* * *

وقد استطرد المؤلف في ص ٢٤ - ٣٣، في أفكار يبدو أنه أراد أن يعزز بها أدلته الثلاثة، ونحن نستعرضها فيما يلي لبيان زيفها وبطلانها:

أ - «وهناك تشابه بين الدين والعلم في أن كليهما يحاول أن يفسر الأحداث وأن يحدث الأسباب ص٢٤».

هذا خطأ. ان الدين الإسلامي لا يحاول أن يفسر الظواهر الطبيعية، ولا يحاول أن يجعل نفسه بديلاً عن العلم. ان الدين كما ذكرنا عقيدة وشريعة توجه سلوك الانسان وحياته، وموضوع العلم هو الطبيعة يكتشفها ويسخرها للانسان، ودور الدين في العملية دور الاثارة، والتوجية وبعث الاهتمام بالطبيعة، ونحو اكتناه المعنى الذي يكمن فيها، ومن يلاحظ الآيات الكونية في القرآن يرى الشاهد على ما نقول. وبهذا ينكشف أن كل النائج التي رتبها المؤلف على مقدمته السابقة خيال محض من عنده وليس من الإسلام.

ب - «خلق اللّه هذا الكون في فترة معينة من الزمن بقوله كن فكان. أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها الأساسية منذ أن خلقها اللّه، أي أنها تحتوي الآن على نفس الاجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي

٧٤

كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها، أما النظرية العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت منذ البداية كما هي عليه الان».

١ - نكرر ان العقيدة الأساسية في الإسلام هي أن علل التكوين المتصاعدة في عالم الطبيعة تنتهي إلى اللّه، وما ورد في القرآن،

( إنما أَمرُه إذا أرادَ شَيْئاً أن يَقُولَ له كن فيكون ) (١)

____________________

(١) ورد أمر الخلق (كن) في القرآن الكريم في سبع سور، في ثمان آيات، هي كما يلي

١ - «بديع السماوات والارض. واذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

البقرة (مدنية - ٢) الاية: ١١٧

والآية إخبار من اللّه تعالى عن قدره المطلقة على الخلق بصيغة الغالب.

٢ - «قالت: رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر. قال: كذلك اللّه يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

آل عمران ( مدنية - ٣) الآية: ٤٧

٣ - « إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»

آل عمران (مدنية - ٣) الآية ٥٩

إخبار من اللّه تعالى في مورد خاص (خلق آدم وعيسى) عن قدرته المطلقة على الخلق.

٤ - «وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون، قوله الحق...»

الانعام (مكية - ٦) الآية: ٧٣

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٥ - «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»

النحل (مكية - ١٦) الآية: ٤٠ إخبار من اللّه تعالى عن قدرته المطلقة على الخلق في مقام بيان قدرته المطلقة على بعث الأموات.

٦ - «ما كان اللّه أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

مريم (مكية - ١٩) الآية ٣٥

إخبار من اللّه تعالى بصيغة الغائب عن قدرته المطلقة على الخلق في مقام بطلان قول النصارى في عيسى بن مريم انه ابن اللّه.

٧ - «إنما أمره إذا أراد شيئاً ان يقول له كن فيكون»

يس (مكية - ٣٦) الآية: ٨٢

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في الاحتجاح على المشركين بشأن احياء الموتى وبعثهم.

٨ - «هو الذي يحيي ويميت، فاذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

المؤمن (مكية - ٤٠) الآية: ٦٨

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في مواجهة المشركين.

٧٥

وغيرها من الآيات التي ورد فيها هذا التعبير، لاتدل على أن الكون خلق بصورة دفعية على نحو مكتمل، وإنما تدل على قدرة اللّه الكلية الشاملة، بل لعلها على التدريج في الخلق أكثر دلالة بقرينة قوله:

( إذا أرادَ شَيْئاً )

٢ - أما أن الطبيعة وجدت بصورة مكتملة، وحافظت على سماتها الاساسية منذ أن خلقها اللّه... فهذا غير صحيح، وليس في الاسلام ما يشير إلى ذلك، بل في القرآن ما يدل صراحة على أن الطبيعة مرت في أدوار وأطوار حتى اكتملت في صورتها الحاضرة، وعلى المؤلف ان يرجع إلى القرآن الصحيح ليصحح رأيه.

٧٦

٣ - يقول المؤلف أن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء. ونحن نسأل المؤلف: إذا كانت العلوم ترفض الخلق من لا شيء، فكيف وجد الكون اذن؟ ومن اين وجد؟ وهذا الشيء الذي وجد منه الكون مَن أوجده؟ لقد رأينا في مطلع هذا الحديث أن الذي اوجده هو اللّه تعالى.

٤ - تعرض لذكر خلق آدم، والجنة والطرد منها، ونرجئ الحديث عن ذلك إلى موعدنا معه في مكان آخر من كتابه تعرض فيه لهذه المسائل.

٥ - بعد كل ما ذكرنا فما هي قيمة ما نقله المؤلف عن «رسل» وهل هو إلا تهريج في وجه المنطق والحقيقة.

٦ - في ص ٢٩ - ٣١ تحدث المؤلف عن التوتر الذي يعاني منه المثقف الحديث بسبب التعارض القائم بين ثقافته العلمية وبين تراثه الديني - ان هذا التوتر يا دكتور ليس ناشئاً من تعارض حقيقي بين العلم وبين الاسلام، وانما هو ناشيء من أن كثيراً مما تسمونه «علماً» ليس إلا افتراضات لم تتأكد صحتها، أو ثبت بطلانها، وان الدين كما تفهمونه ليس مستنداً على مصادره الاساسية، وانما على الأباطيل التي الصقت به على مدى القرون من الاسرائيليات وغيرها.

العلم، العلم الحقيقي والدين الصافي لا يتعارضان وإنما يتكاملان في تنشئة الانسان وتقدمه.

خلق الانسان

المعتقد الاسلامي الاساسي الذي هو من ضروريات الدين هو أن الانسان وكل شيء في الكون مخلوق للّه سبحانه وتعالى.

أما تفاصيل كيفية الخلق وابتدائها فليس فيها نص صريح قاطع غير قابل للتأويل. وكيفية الخلق وابتدائها ليست من أُصول الدين التي يتحتم الاعتقاد بتفاصيلها ومميزاتها، بل يتقبلها المسلم كما جائت به ظواهر الكتاب والسنة الصحيحة وما لا يتنافي مع المسلمات العلمية اليقينية..

بعد هذا التمهيد نواجه ثلاث مسائل:

١ - وجود الانسان على الأرض هل ابتدأ بالسلالة الانسانية الموجودة الآن، أو سبقتها سلالات أُخرى غيرها انقرضت وبادت؟

٢ - نشأة السلالة الانسانية الموجودة الان.

٣ - الداروينية في علم الأحياء.

٧٧

- ١ -

لم يتعرض القرآن الكريم بصراحة ووضوح لبيان أن هذه السلالة البشرية الموجودة الان هي السلالة الوحيدة التي ظهرت على الأرض، أو أن ثمة سلالات بشرية أُخرى ظهرت على هذه الأرض، وعاشت ثم انقرضت، ثم تكرر ظهور السلالات البشرية وانقراضها، ونسلنا البشري الحاضر هو آخر هذه السلالات.

قلت إن القرآن لم يتعرض بصراحة ووضوح لبيان هذه النقطة، وإن كان التحليل الدقيق لقوله تعالى في سورة البقرة، وهي قوله تعالى:

( وإذ قال رَبّكَ للمَلائكَةِ إني جاعل في الأرَضِ خَليفَةً. قالُوا: أتجعَلُ فيها مَن يُفْسد فيها ويسفكُ الدّماءَ، ونحنُ نُسبّحُ بحمدِكَ ونقدّسُ لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون ) (١) .

أقول: ان التحليل الدقيق لهذه الآية ربما يدل على أن سلالة انسانية سابقة على هذه السلالة، وجدت على ظهر الأرض، وعاشت، ثم انقرضت. وليس هنا مجال استعراض تحليل الآية المذكورة.

نعم في بعض الأخبار الواردة عن طريق أهل البيت(ع) وعن طريق غيرهم ما يدل بصراحة ووضوح على أن السلالة البشرية الموجودة الآن ليست هي الوحيدة التي وجدت على هذه الأرض من النوع الانساني،

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٠.

٧٨

وإنما سبقتها سلالات كثيرة انقرضت قبل وجودها:

١ - روي عن الإمام جعفر الصادق (ع)، قال: «لعلك ترى أن اللّه لم يخلق بشراً غيركم؟ بلى واللّه. لقد خلق ألف ألف آدم. أنتم في آخر أولئك الآدميين».

٢ - ذكر الشعراني في كتابه: «اليواقيت والجواهر/ ج ١ ص ٤٩» عن محيي الدين بن عربي حديثاً رواه عن ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال: «ان اللّه تعالى خلق مئتي ألف آدم».

٣ - وعن الإمام الباقر (ع): «لقد خلق اللّه في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض، فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه، ثم خلق اللّه عزوجل آدم أبا البشر، وخلق ذريته منه».

هذه نماذج من النصوص التي تدل بصراحة على تقدم سلالات بشرية، غير السلالة الحالية، في سكنى هذه الأرض، وانقراضها قبل ظهور هذه السلالة.

ولم يتح لنا الوقت لدراسة هذه النصوص من حيث السند والشكل والمضمون وتحليل دلالاتها، ونرجو ان تتاح لنا الفرصة لذلك.

- ٢ -

إن ظواهر القرآن والسنة الصحيحة تدل على أن السلالة البشرية الموجودة الآن تنتهي إلى آدم وحواء «لم يرد في القرآن! اسم حواء»

٧٩

ونحن هنا أمام أربع احتمالات.

١ - آدم رمز للنوع الانساني كله.

٢ - آدم عدد من أفراد النوع الانسان نظراً لتعدد الوان البشر ورسوسهم.

٣ - آدم فرد إنساني واحد. وهذا ينطوي على احتمالين:

أ - إنسان كامل تطور من نوع حيواني آخر كالقردة العليا مثلاً.

ب - إنسان كامل عقلياً تولد من زوج إنساني غير متكامل عقلياً وهذا بدوره تطور من زوج أحط منه عقلياً، وهذا بدوره تطور لزوج ادنى منه... وهكذا حتى تنتهي السلسلة إلى أبسط أنواع الحياة.

٤ - أن آدم وزوجه هما الابوان الأولان لهذه السلالة الانسانية، وهما لم يتكونا بالتناسل، وإنما خلقا من الأرض.

هذه هي الصورة المحتملة لمسألة المخلوق الأول، وابتداء خلق النوع الانساني - هذه السلالة الموجودة الآن بخصوصها، أو جميع السلالات السابقة ايضاً - واكرر أنه ليس من ضروريات الدين الاعتقاد بتفاصيل مسألة كيفية الخلق الأول، ما دام الاعتقاد الضروري الاساسي موجوداً، وهو أن اللّه خالق كل شيء، الانسان وغيره.

إلا اننا حين نعود إلى الفروض المتقدمة لفحصها نجد أن ظواهر القرآن تدل على الفرض الرابع، وتدفع بظاهرها الفروض الاخرى - ولا مجال

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174