مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني77%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65402 / تحميل: 8219
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

١

٢

٣

٤

كلمة المؤسسة :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

وبعد :

فلم يعد يستثير القارئ ما يطالعه ـ في عصرنا الحاضر ـ بين الفينة والأُخرى من المغالطات الباهتة ، والمماحكات السقيمة التي ما انفكّ من تقوّلها البعض ممن يرتكز فكرياً وعقائدياً على قواعد مبتدعة مشوّشة تحاول جاهدة ودون جدوى أن تجد لها موطئ قدم في الساحة الإسلامية الفكرية الغنية ، لازدراء الجميع واستهجانهم ما تدعيه وما تتبجح به ، لمعارضته البيّنة الواضحة لجملة بديهيات تواتر الجميع على العمل بها ، والتعبد بمضامينها ، ولثبات صحّتها بالدليلين العقلي والنقلي ، وتعاضد الخلف والسلف على صوابه.

نعم ، لم يعد ذاك ليستثير أحداً الآن ، لتعرض تلك الدعاوى طيلة ما مضى للردّ والمعارضة ، والتفنيد والإبطال ، من قبل عموم علماء المسلمين ومفكرّيهم ، وعلى اختلاف فرقهم ومذاهبهم ، إذ لم يترك لها منفذاً إلا أوصدته ، ولا مدّعىً إلاّ أبطلته ، فسقط ذلك الوهم المبتدع ، وانقلب السحر على الساحر.

ولاغرو في ذلك ، فالفكر الإسلامي الأصيل المتمثل بمدرسة أهل

٥

البيتعليهم‌السلام المنبع والمعين الصافي للرسالة الإسلامية المباركة ، كان وسيبقى هو الأصل الذي لا يعتوره الهزال ، ولا يناله الوهم والتشكيك ، لأنّه مستودع الوحي الإلهي وخزانته ، وأهله تراجمته وأمناؤه ، فلم ولن تنال منه المدّعيات التي تختلقها الأوهام والأهواء ما جهدت ، وان تسربلت وتجلببت بألف ستار وجلباب.

أجل ، أنّ هذا التصور الواقعي لسقوط ما تشكّك به هذه الأفكار الدخيلة على العقيدة الإسلامية المباركة لم يكن ليأتي من فراغ وخواء ، وذلك أمر مفروغ منه ، فلا تبطل المدّعيات إلا الحجج والبراهين والدلائل الصحيحة والثابتة ، وباعتماد المناهج والقنوات العلمية السليمة ، والتي تعدّ الرسالة المائلة بين يدي القارئ الكريم واحدة منها ، فقد سطرت بيد عالم نحرير ، وعلاّمة بارع ، هو المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي ، كانت قد نشرت محقّقة من قبل السيد محمد علي الحكيم ضمن نشرة « تراثنا » الفصلية ، في عدديها ٣٥ ـ ٣٦ ، ربيع الآخر ـ رمضان ١٤١٤ هـ

وباعتماد المشروع الذي شرعت به المؤسسة بتقديم جملة الرسائل المنشورة على صفحات مجلة «تراثنا» كمستلات مستقلّة ، فإنّها تقدّم المستلّ الرابع من هذه الرسائل ، سائلة الباري جل اسمه أن يوفقها لمواصلة هذا المشروع وإتمامه خدمة للتراث الإسلامي الأصيل ، إنه نعم المولى ونعم النصير.

مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام

لإحياء التراث

٦

المقدمة‎ :

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين ، لاسيما بقية الله في الأرضين ، عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وبعد :

فمنذ ظهور الفرقة الضالة المضلة (الوهابية) وحتى أيامنا هذه انبرى علماء الإسلام على مختلف مذاهبهم ، فكتبوا في ردهم ودحض أباطيلهم وشبهاتهم كتباً ورسائل كثيرة(١) ، كان فيها الرد الحاسم القاطع في وجه الوهابية ، فانحصر وجودهم في مهد ظهورهم أرض الحجاز.

__________________

(١) انظر مقال : « معجم ما ألفه علماء الأمة الإسلامية للرد على خرافات الدعوة الوهابية » للسيد عبدالله محمد علي ، المنشور في مجلة « تراثنا » العدد ١٧ ، شوال ١٤٠٩ هـ ، ص ١٤٦ ـ ١٧٨ ، فقد أحصى فيه أكثر من ٢٠٠ كتاب ورسالة في الرد على الوهابية ، لعلماء المذاهب الإسلامية المختلفة.

٧

وما استمر وجود الوهابية في أرض الحجاز إلا بقوّة الحديد والنار ، إذ لم يستطيعوا أن يقارعوا الآخرين بالحجة والبرهان.

ألا أن نشاطها الهدام ونفث سمومها وأباطيلها وشبهاتها لا يزال مستمراً ، مما اقتضى أن نقوم بإحياء رسالة في الردّ عليهم ، لفطحل من فطاحل علماء الإمامية الماضين ، رضوان الله عليهم أجمعين ، ألا وهو : العلاّمة المجاهد ، آية الله العظمى ، الشيخ محمد جواد البلاغي ، قدس سرة الشريف.

ترجمة المؤلف(٢)

نسبه :

هو الشيخ محمد جواد بن حسن بن طالب بن عباس بن إبراهيم بن حسين بن عباس بن حسن(٣) بن عباس بن محمد علي بن محمد البلاغي النجفي الربعي.(٤)

مولده :

ولد في النجف الأشرف سنة ١٢٨٢ هـ في بيت من أقدم بيوتاتها وأعرقها في العلم والفضل والأدب ، والمشهورة بالتقوى واصلاح والسداد ، فقد أنجبت

__________________

(٢) اقتبست هذه الترجمة ـ بتصرف ـ ملفقة من بين عدة مصادر ، أهمها :

أعيان الشيعة ٤ / ٢٥٥ ـ ٢٦٢ ، شعراء الغري ٢ / ٤٣٦ ـ ٤٥٨ ، نقباء البشر في القرن الرابع عشر ١ / ٣٢٣ ـ ٣٢٦ ، الكنى والألقاب ٢ / ٨٣ و ٨٤ ، مقدمة الهدى إلى دين المصطفى ١ / ٦ ـ ٢٠ ، معارف الرجال ١ / ١٩٦ ـ ٢٠٠ ، ريحانة الأدب ١ / ١٧٩ ، ماضي النجف وحاضرها ٢ / ٦١ ـ ٦٦ ، ديوان السيد رضا الهندي : ١٢٥و ١٢٧ ، مجلة رسالة القرآن / العدد العاشر / ١٤١٣ هـ : ٧١ ـ ١٠٤.

(٣) صاحب كتاب «تنقيح المقال» في الأصول والرجال. [ الذريعة ٤ / ٦٦٤ رقم ٢٠٦٩ ].

(٤) نسبة إلى قبيلة ربيعة المشهورة.

٨

هذه الأسرة ـ آل البلاغي ـ عدّة من رجال العلم والدين والأدب وإن اختلفت مراتبهم.

نشأته وشيوخه وسجاياه :

نشأ حيث وُلد ، وأخذ المقدمات عن أعلامها الأفاضل ، ثم سافر إلى الكاظمية سنة ١٣٠٦ هـ وتزوج هناك من ابنة السيد موسى الجزائري الكاظمي.

عاد إلى النجف الأشرف سنة ١٣١٢ هـ فحضر على الشيخ محمد طه نجف والشيخ آقا رضا الهمداني والشيخ الآخوند محمد كاظم الخراساني والسيد محمد الهندي.

هاجر إلى سامرّاء سنة ١٣٢٦ هـ فحضر على الميرزا محمد تقي الشيرازي ـ زعيم الثورة العراقية ـ عشر سنين ، وألف هناك عدة كتب ، وغادرها ـ عند احتلالها من قبل الجيش الإنكليزي ـ إلى الكاظمية فمكث بها سنتين مؤازراً للعلماء في الدعاية للثورة ومحرضاً لهم على طلب الاستقلال.

ثم عاد إلى النجف الأشرف وواصل نشاطه في التأليف ، فكان من أولئك الندرة الأفذاذ الذين أوقفوا حياتهم وكرّسوا أوقاتهم لخدمة الدين والحقيقة ، فلم ير إلا وهو يجيب عن سؤال ، أو يحرر رسالة يكشف فيها ما التبس على المرسل من شك ، أو يكتب في أحد مؤلفاته.

وقد وقف بوجه النصارى وأمام تيار الغرب الجارف ، فمثل لهم سمو الإسلام على جميع الملل والأديان حتى أصبح له الشأن العظيم والمكانة المرموقة بين علماء النصارى وفضلائها.

كما تصدى للفرق المنحرفة الهدامة الأخرى ـ كالبابية والقاديانية والوهابية والإلحادية وغيرها ـ فكتب في ردهم ودحض شبهاتهم ، وفضح توافه مبانيهم ومعائب أفكارهم عدة كتب ورسائل قيمة.

وقد كان من خلوص النية وإخلاص العمل بمكان حتى أنه كان لا يرضى

٩

أن يوضع اسمه على تآليفه عند طبعها ، وكان يقول : «إني لا أقصد ألا الدفاع عن الحق ، لا فرق عندي بين أن يكون باسمي أو اسم غيري».

حتى أن يوسف إليان سركيس في كتابه : «معجم المطبوعات» ذكر كتاب «الهدى إلى دين المصطفى» لشيخنا البلاغي ـ رضوان الله عليه ـ في آخر الجزء الثاني ضمن الكتب المجهولة المؤلف(٥) ، وربما كانقدس‌سره يذيل بعضها بأسماء مستعارة كـ : كاتب الهدى النجفي ، وعبدالله العربي ، وغيرها.

ومع كل ذلك أصبح اسمه ناراً على علم ، وبلغت شهرته أقاصي البلاد ، وذلك لما عالجه من المعضلات العملية والمناقشات الدينية ، حتى أنّ أعلام أوربا كانوا يفزعون إليه في المسائل العويصة ، كما ترجمت بعض مؤلفاته إلى الإنكليزية للاستفادة من مضامينها الراقية.

كان يجيد اللغات العبرانية والفارسية والإنكليزية ـ بعد لغته الأم العربية ـ ولذلك برع في الرد على أهل الكتاب ودحض أباطيلهم وكشف خفايا دسائسهم.

كما كان متواضعاً للغاية ، يقضي حاجاته بنفسه ، ويختلف إلى الأسواق بشخصه لابتياع ما يلزم أله ، وكان يحمله إليهم بنفسه ويعتذر لمن يروم مساعدته بحمله عنه فيقول له : «رب العيال أولى بعياله».

وكان يقيم صلاة الجماعة في المسجد القريب من داره ، فيأتم به أفاضل الناس وخيارهم ، وبعد الفراغ من الصلاة كان يدرس كتابه «آلاء الرحمن».

كان لين العريكة ، خفيف الروح ، منبسط الكف ، لا يمزح ولا يحب أن يمزح أحد أمامه ، تبدو عليه هيبة الأبرار ، وتقرأ على أساريره صفات أهل التقى والصلاح.

له في سيد الشهداء الإمام أبي عبدالله الحسينعليه‌السلام عقيدة

__________________

(٥) معجم المطبوعات العربية والمعربة ٢ / ٢٠٢٤.

١٠

راسخة ، وحب ثابت ، فكم له أمام المناوئين للإمام الحسينعليه‌السلام من مواقف مشهودة ، ولولاه لأمات المعاندون الشعائر الحسينية والمجالس العزائية ، ولكنه تمسك بها والتزم بشعائرها ، وقام بها خيرقيام.

فكان هذا العلامة البطل ـ على شيخوخته وضعفه وعجزه ـ يمشي حافياً أمام الحشد المتجمهر للعزاء ، قد حل أزراره ويضرب على صدره ، وخلفه اللطم والأعلام ، وأمامه الضرب بالطبل.

ومن آثاره الباقية :

إقامة المأتم في يوم عاشوراء في كربلاء ، فهو أول من أقامه هناك ، وعنه أخذ حتى توسع فيه ووصل إلى ما هو عليه اليوم.

وكذا تحريض علماءالدين وإثارة الرأي العام ضد البهائية في بغداد ، وإقامة الدعوى في المحاكم لمنع تصرفهم في الملك الذي استولوا عليه ـ في محلة الشيخ بشار في الكرخ ـ واتخذوه حظيرة لهم لإقامة شعائر الطاغوت ، فقضت المحاكم بنزعه منهم ، واتخذه ـ رضوان الله عليه ـ مسجداً تقام فيه الصلوات الخمس والمآتم الحسينية في ذكرى الطف وشعائر أهل البيتعليهم‌السلام .

أقوال العلماء والأدباء فيه :

قال السيد محسن الأمين العاملي : «كان عالماً فاضلاً ، أديباً شاعراً ، حسن العشرة ، سخيّ النفس ، صرف عمره في طلب العلم وفي التأليف والتصينف ، وصنف عدة تصانيف في الردود ، صاحبناه في النجف الأشرف أيّام إقامتنا فيها ورغب في صحبة العامليين فصاحبناه ، وخالطناه حضراً وسفراً عدّة سنين إلى وقت هجرتنا من النجف فلم نرمنه إلا كل خلق حسن وتقوى وعبادة وكل صفة تحمد ، وجرت بيننا وبينه بعد خروجنا من النجف مراسلات

١١

ومحاورات شعرية ومكاتبات في مسائل علمية».(٦)

وقال الشيخ عباس القمي : «بطل العلم الشيخ محمد الجواد ولقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ ضعيفاً ناحل الجسم ، تفانت قواه في المجاهدات ، وكان في آخر أمره مكباً على تفسير القرآن المجيد بكل جهد أكيد».(٧)

وقال الشيخ آقا بزرك الطهراني : « كان أحد مفاخر العصر علماً وعملاً وكان من أولئك الأفذاذ النادرين الذين أوقفوا حياتهم وكرّسوا أوقاتهم لخدمة الدين الحنيف والحقيقة فهو أحد نماذج السلف التي ندر وجودها في هذا الزمن ».(٨)

وقال الشيخ محمد حرز الدين : « عالم فقيه كاتب ، وأديب شاعر ، بحاثة أهل عصره ، خدم الشريعة المقدسة ، ودين الإسلام الحنيف ، بل خدم الإنسانية كاملة بقلمه ولسانه وكل قواه ».(٩)

وقال الميرزا محمد علي التبريزي المدرس : « فقيه أصولي ، حكيم متكلم ، عالم جامع ، محدث بارع ، ركن ركين لعلماء الإمامية ، وحصن حصين للحوزة الإسلامية ، ومروج للعلوم القرآنية ، وكاشف الحقائُق الدينية ، وحافظ للنواميس الشرعية ، ومن مفاخر الشيعة »(١٠) .

وقال الملا علي الواعظ الخياباني التبريزي : «هو العلم الفرد العلاّمة ، المجاهد ، آية الله ، وجه فلاسفة الشرق ، وصدر من صدورعلماء الإسلام ، فقيه أصولي ، حكيم متكلّم ، محدث محقق ، فيلسوف بارع ، وكتبه الدينية هي التي أبهجت الشرق وزلزلت الغرب وأقامت عمد الدين الحنيف ، فهو حامية

__________________

(٦) أعيان الشيعة ٤ / ٢٥٥.

(٧) الكنى ولألقاب ٢ / ٨٣ ـ ٨٤.

(٨) نقباء البشر في القرن الرابع عشر ١ / ٣٢٣.

(٩) معارف الرجال ١ / ١٩٦.

(١٠) ريحانة الأدب ١ / ١٧٩.

١٢

الإسلام ، وداعية القرن ، رجل البحث والتنقيب ، والبطل المناضل ، والشهم الحكيم »(١١) .

وقال الشيخ جعفر النقدي : « عالم عيلم مهذب ، وفاضل كامل مذرب ، وآباؤه كلهم من أهل العلم »(١٢) .

وقال الأستاذ علي الخاقاني : « من أشهر مشاهير علماء عصره ، مؤلف كبير ، وشاعر مجيد أغنتنا آثاره العلمية عن التنويه بعظمته وعلمه الجم وآرائه الجديدة المبتكرة ، فلقد سد شاغراً كبيراً في المكتبة العربية الإسلامية بما أسداه من فضل فيما قام به من معالجة كثير من المشاكل العلمية والمناقشات الدينية ، وتوضيح التوحيد ودعمه بالآراء الحكيمة قبال الثالوث الذي هدّه بآثاره وقلمه السيال كان عظيماً في جميع سيرته ، فقد ترفع عن درن المادة ، وتردى بالمثل العالية التي أوصلته في الحياة ـ ولا شك بعد الممات ـ أرفع الدرجات وقد حضرت(١٣) مع من حضر برهة من الزمن فإذا به بحر خضمّ لا ساحل له ، يستوعب الخاطرة ، ويحوم حول الهدف ، ويصور الموضوع تصويراً قوياً كانت حياته مليئة بالمفاخر والخدمات الصادقة »(١٤) .

وقال الشيخ جعفر باقر آل محبوبة : « ركن الشيعة وعمادها ، وعزّ الشريعة وسنادها ، صاحب القلم الذي سبح في بحر العلوم الناهل من موارد المعقول والمنقلول؛ كم من صحيفة حبرها ، وألوكة حررها ، وهو بما حبر فضح الحاخام والشماس ، وبما حرر ملك رق الرهبان والأقساس ، كان مجاهداً بقلمه طيلة عمره ، وقد أوقف حياته في الذب عن الدين ، ودحض شبه المادّيّين والطبيعيين ؛ فهو جنة حصينة ، ودرع رصينة ، له بقلمه مواقف فلت جيوش

__________________

(١١) علماء معاصرين : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(١٢) شعراء الغري ٢ / ٤٣٧.

(١٣) أي : درسه في تفسير القرآن الكريم من كتابه « آلاء الرحمن ».

(١٤) شعراء الغريّ ٢ / ٤٣٧ ـ ٤٣٩.

١٣

الإلحاد ، وشتتت جيوش العادين على الإسلام والطاعنين فيه حضرت بعض دورسه واستفدت منه مدّة ، كان نحيف البدن ، واهي القوى ، يتكلّف الكلام ، ويعجز في أكثر الأحيان عن البيان ، فهو بقلمه سحبان الكتابة ، عنده أسهل من الخطابة»(١٥) .

وقال المحامي توفيق الفكيكي : «كان ـ رحمه الله تعالى ـ داعي دعاة الفضيلة ، ومؤسس المدرسة السيّارة للهداية والإرشاد وتنوير الأفكار بأصول العلم والحكمة وفلسفة الوجود ، فقد أفطمت جوانحه على معارف جمة ، ووسع صدره كنوزاً من ثمرات الثفافة الإسلامية العالية والتربية الغالية ، وقد نهل وعب من مشارع المعرفة والحكمة الصافية حتى أصبح ملاذ الحائدين الذين استهوتهم أهواء المنحرفين عن المحجة البيضاء ، وخدعتهم ضلالات الدّهريّين والمادّيين ...

ومن ملامحه ومخائله الدالّة على كماله النفسي هي : فطرته السليمة ، وسلامة سلوكه الخلقي والاجتماعي ، وحدّة ذكائه ، وقوّة فطنته ، وعفّة نفسه ، ورفعة تواضعه ، وصون لسانه عن الفضول ، ولين عريكته ، ورقّة حاشيته ، وخفة روحه ، وأدبه الجم ، وعذوبة منطقه ، وفيض يده على عسره وشظف عيشه »(١٦) .

وقال عمر رضا كحّالة : « فقيه ، متكلم ، أديب ، شاعر »(١٧) .

وقال خير الدين الزركلي : « باحث إمامي ، من علماء النجف في العراق ، من آل البلاغي ، وهم أسرة نجفيّة كبيرة ، له تصانيف وكان يجيد الفارسية ، ويحسن الإنجليزي ، وله مشاركة في حركة العراق الاستقلالية وثورة عام ١٩٢٠ م »(١٨) .

__________________

(١٥) ماضي النجف وحاضرها ٢ / ٦٢.

(١٦) مقدمة الهدى إلى دين المصطفى ١ / ٧.

(١٧) معجم المؤلّفين ٣ / ١٦٤.

(١٨) الأعلام ٦ / ٧٤.

١٤

فمن كانت هذه مآثره وصفاته وسجاياه فجدير بمتخصّصينا أن يقوموا بدراسة هذه الشخصية الجليلة وآثارها القيّمة ، فهو أحد نماذج السلف التي ندر وجودها في هذا الزمن ، وهو نور من الأنوار التي يهتدى بها في ظلمات الشكّ والحيرة ، وهو بحق من مشاهير علماء الإمامية ، علاّمة جليل ، ومجاهد كبير ، ومؤلف مكثر خبير.

شعره :

كانقدس‌سره مع عظيم مكانته في العلم وتفقّهه في الدين أديباً كبيراً وشاعراً مبدعاً ، من فحول الشعراء ، له نظم رائق سلس متين ، تزخر أشعاره بالعواطف الوجدانية ، والمشاعر الإنسانية ، والتأمّلات الروحية ، وأكثر شعره كان في مدح أهل البيتعليهم‌السلام ورثائهم ، وبقيّته في تهنئة خليل ، أو رثاء عالم جليل ، أو في حالة الحنين إلى الأخلاّء يحتمه عليه واجب الوفاء ، أو في الدفاع عن رأي علمي ، أو شرح عقيدة أو فكرة فلسفية بطريقة المعارضة الشعرية.

فمّما قال في قصيدة في ذكرى مولد الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام ، قوله :

حيّ شعبان فهو شهر سعودي

وعد وصلي فيه وليلة عيديُ

منه حيا(١٩) الصبِّ المشوق ، شذا

الميلاد فيه وبهجة المولود

بهجة المرتضى وقرة عين المـ

ـصطفى ، بل ذخيرة التوحيد

رحمة الله غوثه في الورى شمـ

ـس هذاه وظله الممدود

وهوى خاطري وشائق نفسي

ومناها وعدتي وعديدي

فانجلت كريتي وأزهر روضي

ونمت نبعتي وأورق عودي

__________________

(١٩) أصله : حياء ، وحذفت الهمزة للضرورة.

١٥

طلت فخراً يا ليلة النصف من شعـ

ـبان بيض الأيام بالتسويد

وله من قصيدة في ذكرى مولد الإمام أبي عبدالله الحسينعليه‌السلام في الثالث من شعبان :

شعبان كم نعمت عين الهدى فيه

لولا المحرم يأتي في دواهيه

وأشرق الدين من أنوار ثالثه

لولا تغشاه عاشورٌ بداجيه

وارتاح بالسبط قلب المصطفى فرحاً

لولم يرعه بذكر الطفِّ ناعيه

راه خير وليدٍ يستجار به

وخير مستشهدٍ في الدين يحميه

قرت به عين خيرالرسل ثم بكت

فهل نهنّيه فيه أم نعزّيه

إن تبتهج فاطم في يوم مولده

فليلة الطفّ أمست من بواكيه

أو ينتعش قلبها من نور طلعته

فقد أديل بقاني الدمع جاريه

فقلبها لم تطل فيه مسرته

حتى تنازع تبريح الجوى فيه

بشرى أبا حسنٍ في يوم مولده

ويوم أرعب قلب الموت ماضيه

وله من قصيدة في الإمام الحجة المنتظرعليه‌السلام ـ أيضاً ـ قوله : ‎

رويدكما أيها الباكيان

فما أنتما أوّل الوالهينا

فكم لنواه جرت عبرة

تقلّ لها أدمع العالمينا

جرت ولهاُ قبل يوم الفراق

ولم ترحل العيس بالمزمعينا

فلا نهنه الوجد فيض الدموع

وقد شطت الدار بالظاعنينا

وبان واودعنآ حسرةً

ومن لوعة البين داءً دفينا

أطال نواه ومن نأيه

رزينا بما يستخف الرزينا

نقضي الليالي انتظاراً له

فيا حسرتا ، ونقضي السّنينا

نطيل الحنين بتذكاره

ويا برحاً أن ، نطيل الحنينا

١٦

فَما لقيت فاقدات الحمام

مِنْ الوَجْدِ في نوحها ما لقينا

ومن قصيدة له يرثي بها الإمام الحسينعليه‌السلام قوله :

يا تريب الخدّ في رمضا الطّفوف

ليتني دونك نهباً للسّيوف

يا نصير الدين إذْ عزّ النّصير

وحمى الجار إذا عزّالمجير

وشديد البأس واليوم عسير

وثمال الوفد في العام العسوف

كيف يا خامس أصحاب الكسا

وابن خير المرسلين المصطفى

وابن ساقي الحوض في يوم الظّما

وشفيع الخلق في اليوم المخوف

ياصريعاّ ثاوياّ فوق الصّعيد

وخضيب الشّيب من فيض الوريد

كيف تقضي بين أجناد يزيد

ظامياً تسقى بكاسات الحتوف

كيف تقضي ظامياً حول الفرات

دامياً تنهل منك الماضيات

وعلى جسمك تجري الصافنات

عافر الجسم لقيً بين الّصفوف

يامريع الموت في يوم الطّعان

لا خطا نحوك بالرّمح سنان

لا ولا شمر دنا منك فكان

ماأمار الأرض هولاً بالرّجوف

سيدي أبكيك للشيب الخضيب

سيدي أبكيك للوجه التريب

سيدي أبكيك للجسم السليب

من حشا حران بالدمع الذروف

سيدي إن منعوا عنك الفرات

وسقوا منك ظماء المرهفات

فسنسقي كربلا بالعربرات

وكفا من علق القلب الأسوف

سيدي أبكيك منهوب الرحال

سيدي أبكيك مسبيّ العيال

بين أعداك على عجف الجمال

في الفيافي بعد هاتيك السّجوف

سيدي إن نقض دهراً في بكاك

ما قضينا البعض من فرض ولاك

أو عكفنا عمرنا حول ثراك

ماشفى غلّتنا ذلك العكوف

١٧

لهف نفسي لنساك المعولات

واليتامي إذ غدت بين الطّغاة

باكياتٍ شاكياتٍ صارخاتْ

ولّهاّ حولك تسعى وتطوف

ومن شعر الإمام البلاغي ـ رضوان الله عليه ـ الذي سارت به الركبان ، قصيدته التي نظمها رداً على قصيدة أحد علماء بغداد المنكرين لوجود الإمام الثاني عشر المهدي المنتظرعليه‌السلام ، والتي بعثها إلى علماء النجف الأشرف عام ١٣١٧ هـ ، التي يقوم فيها :

أيا علماء العصر يا من لهم خبر

بكل دقيقٍ حار في مثله الفكر

لقد حار مني الفكر في القائم الذي

تنازع فيه الناس والتبس الأمر

فأجابه العلامة البلاغي بقصيدة طويلة تقع في أكثر من مائة بيت ، وهي من عيون شعره ، ومطلعها :

أطعت الهوى فيهم وعاصاني الصّبر

فها أنا ما لي فيه نهي ولا أمر

أنست بهم سهل القفار ووعرها

فما راعي منهنَّ سهلٌ ولا وعر

أخا سفرٍ ولهان أغتنم الّسرى

من الليل تغليساً إذا عرّس السّفر

ومنها قوله :

وفي خبر الثقلين هادٍ إلى الذي

تنازع فيه الناس والتبس الأمر

١٨

إذا قال خير الرّسل لن يتفرّقا

فكيف إذن يخلو من العترة العصر

وما إن تمسّكتم بتينك إنهم

هم السادة الهادون والقادة الغرّ

ومنها قوله أيضاً :

وغاب بأمرالله للأجل الذي

يراه له في علمه وله الآمر

وأوعده أن يحيي الدين سيفه

وفيه لدين المصطفى يدرك الوتر

ويخدمه الأملاك جنداً وإنّه

يشدّ له بالروح في ملكه أزر

وإن جميع الأرض ترجع ملكه

ويملأها قسطاً ويرتفع المكر

فأيقن أن الوعد حقّ وأنّه

إلى وقت عيسى يستطيل له العمر

فسلّم تفويضاً إلى الله صابراُ

وعن أمره منه النهوض أو الصبر

ولم يك من خوف الأذاة اختفاؤه

ولكن بأمر الله خير له السّتر

وحاشاه من جبنٍ ولكن هُوَ الذي

غدا يختشيه من حوى البرّ والبحر

١٩

أكل اختفاءٍ خِلْتَ مِن خيفة الأذى؟!

فربّ اختفاءٍ فيه يستنزل النصر

وكلّ فرارٍ خلت جبناً فربّما

يفرّ أخو بأسٍ ليمكنه الكرّ

فكم قد تمادت للنّبيّين غيبة

على موعدٍ فيها إلى ربّهم فرّوا

وإن بيوم الغار والشعب قبله

غناءً كما يغني عن الخبر الخبر

ولم أدر لم أنكرت كون اختفائه

بأمر الّذي يعيى بحكمته الفكر؟!

أتحصر أمرالله في العجز أم لدى

إقامة ما لَفَّقْتَ أقعدك الحصر؟!

فذلك أدهى الداهيات ولم يقل

به أحدٌ إلاّ أخو السَّفَهِ الغمر

ودونك أمر الأنبياء وما لقوا

ففيهِ لذي عينين يتّضح الأمر

فمنهم فريق قد سقاهم(٢٠) حمامهم

ـ بكأس الهوان ـ القتل والذبح والنشر

أيعجز ربّ الخلق عن نصر حزبه

على غيرهم؟! كلاّ ، فهذا هو الكفر

__________________

 (٢٠) أي : أمرالله.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وتبين عجز الماركسية وإفلاسها، تبرأ الماركسيون من الدكتور ومن كتابه، واعلنوا بلسان الاستاذ نسيب نمر أنه لا يمثلهم ولا يمثل فكرهم.. لماذا؟!!

هل هذا تكتيك ماركسي للماركسية التي تتخطى ذاتها باستمرار؟!، وإذن فلنسمّ ما كتبه الاستاذ نسيب نمر في شأن مقالاتي وكتاب نقد الفكر الديني نوعاً من تخطي الذات!!

وقد تحدث الاستاذ نسيب نمر عما أتيح لي من حرية، وعما تعرض له الاستاذ صادق جلال العظم من مصادرة لحريته. وهذا ما أثار عجبي ودهشتي، فلقد أُتيح للدكتور من حرية التعبير عن الرأي ما لم يتيج لي عشر معشاره، وأتيح لافكاره من فرص الذيوع والانتشار ما لم يتح لاحاديثي في الرد عليه. لقد ناصرته الصحافة على اختلاف ميولها واتجاهاتها، وانبرت للدفاع عنه ولشرح أفكاره كل المؤسسات الاعلامية والحزبية الموالية لخطه الفكري، ونهجه السياسي. وكم روجت له هذه الأوساط وهللت في الصحافة والنوادي الثقافية.

وأما ما تعرض له من ملاحقة، وتعرض له كتابه من منع ومصارة، فقد قلت في مطلع أحاديثي أنه أمر لا موجب له ولا داعي إليه. وعلى أي حال فقد كان هذا الاجراء فرصة أتاحت للكتاب ذيوعاً وانتشاراً ما كان ليحصل عليهما لو أن الكتاب ترك وشأنه دون اعتراض.

مدخل

شُغِلتُ بعض الوقت عن قراءة كتاب الدكتور صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني» وقدرت في نفسي أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون كأمثالٍ له ألفناها في السنوات الأخيرة، هي حصيلة أفكار شبابنا الذي تعلم في أوربا فأخذ منها - إلى جانب علومها - أوهامها وتصوراتهما الخاطئة عن الدين بوجه عام، دون أن يكون قد وعى من تراثه ومن عقيدته ومن تاريخه ما يعصمه من الزلل، ويحمله على غربلة ما يسمع ويرى ويلقّن، فأخذ كل شيء على انه حقيقة، وطفق يروجها في وطنه، بعد أن شُدِه بحضارة أوربا المادية، الغالبة الآن على كل شيء، وبعد أن رأى أن مُثَلها ومفاهيمها وأخلاقها تكتسح أمامها كل المواضعات والأعراف والتقاليد سيئة كانت أو حسنة، جميلة كانت أو قبيحة.

وهذه الكتب أيضاً حصيلة موجة الالحاد التي انطلقت في السنين الأخيرة، وشملت قطاعاً كبيراً من الشباب المتعلم - ولا أقول المثقف - الشباب الذي لم يتزود بأي معرفة دينية علمية على الاطلاق، والذي

٤١

يُحشى فكره بافكار الملاحدة الأجانب في صيغ جازمة. ومسلمات حاسمة.

ومن الغريب في ظواهر هذه الموجة الالحادية انها تسمح لنفسها بالشك في المسيحية والاسلام وتحاول تمهيدها بالضلالات التي تنشرها، والأباطيل التي تروج لها. دون أن تمس اليهودية بشيء، وإن مستها بكلمة فانها تصاغ بمنتهى الرقة والعذوبة، ولا أعرف سرّاً لهذه الظاهرة إلا فكرة ماركس أو انجلز - لا أتذكر - «إن اليهود إذا فقدوا دينهم فقدوا أنفسهم».

قدرت في نفسي أن الأمر في هذا الكتاب لايعدو أن يكون كذلك، ولكن بعض الاصدقاء ألحوا عليّ أن انتزع نفسي من بعض مشاغلي على الأقل لبعض الوقت، وأن اتفرغ لقراءة الكتاب والتعليق عليه، لأنه «خطير» يجب أن يناقش وتفضح أكاذيبه وأباطيله، وهكذا استجبت لهم، وخصصت للكتاب وقتاً في جملة أوقاتي، وجعلت النظر فيه من بعض أعمالي.

وعندما قرأت الكتاب لم يتغير حكمي عليه قياساً على نظائره وأمثاله، فهو لايعدو أن يكون ترديداً أميناً لأفكار عصر النهضة الأوربية عن الدين وعن أساسه، وعن أهدافه... هذه الافكار التي اندفع إليها بلا تبصر علماء ذلك الحين تحت وطأة الصراع بينهم وبين الكنيسة في ذلك الحين. والكتاب إن تميز على أمثاله بشيء فهو يتتميز بالوقاحة الزائدة، وسوء الأدب في التعبير. إنه عمل تافه يتسم بالنزق الفكري، والعاطفية والفجاجة في كثير من موارده، ولا يخلو عن كثير من التناقضات.

وقد كنت أقرأ الكتاب وأُعلق عليه، فاجتمعت لي من تعليقاتي عليه

٤٢

هذه الحصيلة التي يراها القارئ، والتي عساه أن يجد فيها ما يجعله يوافقني في أن الكتاب المذكور لا يستحق كل هذه الضجة التّي أُثيرت حوله وحول كاتبه، فإنه لا يعدو - كما قلت - أن يكون كسائر الكتابات من هذا النوع تمر دون أن تنال من الدين أي منال، لأن الدين ينبع من فطرة في الانسان لا تقوى على اقتلاعها الترهات والاباطيل مهما كسبت ثوب العلم زوراً وبهتاناً، واسبغ عليها شكل الحقيقة كذباً وهذياناً.

ولا بد لي - قبل الدخول في نقد الكتاب - أن أقدم بعض الملاحظات حول طبيعة الموضوع المبحوث عنه «الدين» وحول مدى اهلية الدكتور المؤلف لتحمل المهمة التي كرس كتابه لأجلها.

أ - أهلية المؤلف

هل الدكتور مؤهل للكتابة عن نقد الفكر الديني؟

هذا أول سؤال يواجهنا.

يفترض فيمن يكتب عن شيء - نقداً أو تأييداً - أن يكون ملماً بصورة كافية بالموضوع الذي يكتب عنه، وأن يكون مطلعاً عليه اطلاعاً تاماً، وذلك ليكون مؤهلاً للحكم له أو عليه. فهل الدكتور بهذه المثابة من المعرفة الدينية؟.

لقد ظهر لي من قراءة كتابه أن معرفته الدينية بالاسلام ساذجة وسطحية إلى أبعد الحدود. إنها التصورات التي امتصها خياله وعقله من مجتمعه ومن

٤٣

أهله، وليست معرفة مبنية على المعاناة والدراسة والبحث.

إن فكرته عن الاسلام أخذها - ليس عن مصادر الاسلام الاساسية «القرآن الكريم والسنة الصحيحة» وانما أخذها عن العجائز واشباه العجائز وعن الجهال وأشباه الجهال، وعن الكتابات المتأثرة بالأفكار الاسرائيلية، والقصص التي لم تثبت إسلامياً من مصادر الاسلام الصحيحة.

وسيمر علينا خلال نقدنا التحليلي للكتاب كثير من الأمثلة الدالة على أن المؤلف ينقد موضوعاً لا يعرفه معرفة كافية. إنه يعرف الاسلام معرفة مشوهة، ويريد أن يجعل الاسلام من خلال معرفته المشوهة - موضوعاً لنقده، مستخدماً في ذلك الآراء التي استعارها من أولئك الذين أطلقوها ضد الدين في فترة الصراع بين الكنيسة وملوك الحكم المطلق في أوربا، تلك الآراء التي تجاوزها الفكر واثبت زيف كثيرٍ منها، وفجاجته، وإغراقه في الذاتية والعاطفية.

سنرى أن الفصل الذي عقده المؤلف تحت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» لا يكشف عن بؤس الفكر الديني، ولا يكشف عن بؤس الفكر العلمي وإنما يكشف عن البؤس الفكري للدكتور المؤلف.

ب - وظيفة الدين، ما هي؟

إن الدين عقيدة إلهية ينبثق عنها نظام كامل للحياة الانسانية. يقوِّم السلوك الانساني، ويرسم المناهج الصحيحة لهذا السلوك، ويرفع الكائن البشري من مستوى الحيوانية إلى مستوى الانسانية العالية.

٤٤

وليست وظيفة الدين أن يقدم تفسيراً تفصيلياً للكون: كيف نشأ؟ وما هي الأطوار التي مرّ فيها؟ وما هي العناصر التي يتكوّن منها؟ وما هي التفاعلات بين هذه العناصر؟ إلى غير ذلك من هذه المسائل. وليس في الاسلام شيء من ذلك إذا ما رجعنا إلى المصادر الاساسية للاسلام.

كل ما يقوله الدين في هذا المجال أنه يرد الكون إلى علة علياً إنه يعتبر «اللّه» هو السبب النهائي الاعمق والأعلى للتكوين «ويحتم على تسلسل العلل والاسباب أن يتصاعد إلى قوة فوق الطبيعة وفوق المادة» أما المسائل المتقدمة وأمثالها فهي مجال العلم.

وموقف الدين الاسلامي من العلم يتكون من عنصرين:

الأول: التشجيع على البحث والمعرفة، وذلك بفتح الآفاق أمام العقل البشري، وإزالة المعوقات التي تعترض طريقه وتعرقل سيره «حرم الاسلام السحر، والشعبذة، والكهانة، والقيافة»(١) فالاسلام يشجع،

____________________

(١) وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة في مناسبات عدة وجه اللّه فيها الانسان إلى طلب المعرفة والبحث في الكون المادي والحياة الانسانية والحيوانية والنباتية المحيطة به. وبين اللّه تعالى في طائفة اخرى من الآيات أن الكون المادي كله مسخر للانسان لينتفع به، ولا يمكن ذلك بطبيعة الحال إلا بعد اكتشافه، واكتشاف القوانين التي تيسر التعامل معه.

والطائفة الاولى من الآيات هي آيات التفكر، منها الآيات التالية:

١ - «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.

الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات =

٤٥

____________________

= والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» آل عمران (مدنية - ٣) الآية ١٩٠ - ١٩١.

٢ - «اللّه الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات: لعلكم بلقاء ربكم توقنون. وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون» الرعد (مكية - ١٣) الآيات: ٢ - ٤

٣ - «والانعام خلقها لكم فيها دفء، ومنافع، ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون. وعلى اللّه قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين. هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» النحل (مكية - ١٦) ٥ - ١١.

٤ - «واللّه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعونوإن لكن في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً، إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك ذلا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه منه شفاء للناس. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» النحل/ الآية ٦٥ - ٦٩.

= ٥ - «أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق اللّه السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى..» الروم (مكية - ٣٠) الآية: ٨.

٦ - «اللّه سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره، ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون». الجاثية (مكية - ٤٥) الآية - ١٢-١٣.

والطائفة الثانية من الآيات هي آيات التسخير، وقد مر بعضها في آيات التفكر، ومنها مما لم يتقدم ذكره الآيات التالية.

١ - «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره» الحج (مدنية - ٢٢) الآية: ٦٥.

٢ - «ألم تروا أن اللّه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة...» لقمان (مكية - ٣١) الآية: ٢٠.

٤٦

ولا يخطط، لأن التخطيط ليس من وظيفته وإنما هو وظيفة العقل الباحث، ولأن للعلم قوانين تطوره الخاصة التي تنجم عن تطور المعرفة، وتنوع الاكتشافات.

الثاني: إن موقف الدين الاسلامي بالنسبة إلى كشوف العلم وانتصاراته موقف مؤيد - واكرر: بالنسبة إلى العلم، أي إلي ما ثبت باليقين والحس والتجربة، فهو يعترف به، ويباركه ويعتبره مظهراً من مظاهر خلافة الانسان في الأرض. أما الظنون، أما الفرضيات والنظريات فلا قيمة لها، ولا تنال من الدين الاحترام بوصفها علماً لأنها ليست علماً، وإنما هي ظنون «إن الظَّنَّ لا يُغنِي مِنَ الحَقَّ شيئاً»(١)

____________________

(١) سورة النجم، الآية: ٢٨ وقد وردت المقابلة في القرآن دائماً بين العلم الصحيح (الحق) في جميع الحقول أو في حقل بعينه، وبين الظنون والأوهام غير الثابتة، والتي هي، في أحسن الأحوال، «مشاريع» تفتقر إلى مزيد من البحث لاثباتها أو نفيها.

٤٧

إن الفرضية والنظرية مجرد «مشروع» وليست حقيقة نهائية حتى تؤخذ مأخذ القبول المطلق، وإلا فاذا أردنا أن نظفي على الفرضيات قداسة الحقيقة «المعرفة العلمية النهائية الجازمة» نكون قد نقضنا بذلك المنهج العلمي الذي - لا يجيز لنا الايمان الا بما ثبت باليقين صحته وصدقه.

* * *

إن ما أشرت إليه من جهل المؤلف بموضوع بحثه «الدين الاسلامي» يكشف عن نفسه بوضوح في كثير من الموارد التي ينسب فيها إلي الإسلام أنه يقدّم «نصوصاً مقدسة» تفسر الظواهر الكونية، وهو مخطئ في نسبته ذلك إلى الاسلام.

وما أشرت إليه من بؤس المؤلف الفكري يكشف عن نفسه بوضوح عندما يفترض في الدين موضوعاً غير موجود في الدين وينقده بفرضية من الفرضيات، ونظرية من النظريات التي لم تثبت صحتها، ولم ترتفع عن درجة «الظن» إلى درجة «اليقين».

ج - مَنْهَجة البحث

تحت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» عالج المؤلف موقف الدين (الاسلامي على الاخص) من العلم، وموقف العلم من الدين في اثنتين وستين صفحة من كتابه.

وقد انطلق في بحثه هذا من فرضية لم يبرهن على صحتها (وما اكثر ما لديه من فرضيات لا تزيد عن كونها دعاوى بلا برهان) - أقول انطلق من فرضية لم يبرهن عليها وهي:

٤٨

أن النظرة العصرية «يسميها هو علمية» حق بجميع ما اشتملت عليه وأدت اليه، وأن الفكر الديني باطل كله، ابتداء من قضية وجود اللّه إلى إصغر قضية دينية، ورتب على هذه االفرضية العارية عن البرهان أن على الفكر العصري أن ينقد الفكر الديني.

إن أبسط الناس ثقافة لا يستطيع أن يوافق المؤلف على هذا الموقف. وإلا، فاذا كانت المسألة تقوم على مجرد الافتراض والادعاء فلماذا لا يكون الصحيح هو العكس، وهو أن على الفكر الديني الصحيح الأصيل أن يقوم بنفس المهمة تجاه الافكار العصرية القائمة على الهوى وعلى سوء الفهم لقضايا الدين والعلم.

أعتقد أن المؤلف انطلق في هذه المسألة بسبب تشبع فكره «بكليشهات» انصاف المثقفين عن العلم وعن التفكير العلمي وعن قوة العلم وانتصاره، دون أن تكون لديهم القدرة على التمييز بين العلم وبين الفرضيات والنظريات، أضف إلى ذلك ما ذكرناه عن ضحالة تفكيره ومعرفته فيما يتصل بالدين ومصادره الاساسية ووظيفته، فوقع في هذا الخطأ الذي أشرنا إليه.

وعلى أي حال فقد أثار المؤلف في مقدم بحثه قضية الصراع بين الدين والعلم، وعالج في نهاية البحث مسألة وجود اللّه.

وأعتقد ان الترتيب الطبيعي للبحث يقضي بالعكس: أن نبحث أولاً مسألة وجود اللّه، وبعد ذلك تكون جميع القضايا ثانوية، لأن قضية وجود اللّه هي اساس الفكر الديني ، فاذا خرجنا منها برأي حاسم استطعنا أن نصفي بقية المسائل بسهولة.

٤٩

مسألة العلة الأولى اللّه ام المادة؟

أ - تمهيد

ب - العلة الاولى

ج - اللّه أم المادة؟

٥٠

في الصفحات (٢٥ - ٢٩ ) عرض المؤلف باسلوب غير علمي لمسألة وجود اللّه، وخلقه للكون، وعرض للمسألة أيضاً في الصفحات (٧٤ - ٧٨ ) عند مناقشته لرأي وليم جيمس. وقد لخص رأيه في المسألة في صفحة (٢٨ - ٢٩) بالنص التالي:

«في الواقع علينا أن نعترف - بكل تواضع - بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون. عندما تقول لي إن اللّه هو علة وجود المادة الاولى التي يتألف منها الكون، وأسألك بدوري: وما علة وجود اللّه. إن اقصى ما تستطيع الاجابة به: «لا أعرف، إلا أن اللّه موجود غير معلول» ومن جهة أُخرى عندما تسألني: وما علة وجود المادة الأولى؟ فان اقصى ما استطيع الاجابة به «لا أعرف، إلا أنها غير معلولة الوجود» في نهاية الأمر اعترف كل منا بجهله حيال المصدر الأول للاشياء. ولكنك اعترفت بذلك بعدي بخطوة واحدة، وادخلت عناصر غيبية لا لزوم لها لحل المشكلة. والخلاصة، وإذا قلنا أن المادة الاولى قديمة وغير محدثة، أو ان اللّه قديم وغير محدث نكون

٥١

قد اعترفنا بأننا لا نعرف ولن نعرف كيف يكون الجواب على مشكلة المصدر الاول للاشياء. فالافضل اذن أن نعترف بجهلنا صراحة ومباشرة عوضاً عن الاعتراف به بطرق ملتوية».

وهكذا نرى المؤلف يسجل على نفسه بصراحة ووضوح أنه يجهل حقيقة المصدر الأول للاشياء: أهو اللّه أم المادة؟

ومع ذلك فهو يصرح في كل صفحة تقريباً من صفحات كتابه بأنه (المؤلف) مادي، وبأن الحقيقة النهائية هي المادة، ويختم كتابه بالعبارة التالية:

«ومن المؤكد أن المادية الديالكتيكية هي أنجح محاولة نعرفها اليوم في صياغة صور كونية متكاملة تناسب هذا العصر وعلومه».

وهكذا يقع المؤلف في التناقض.

إن تبني مفهوم معين للكون ينبع بالضرورة من تبني قرار حاسم بالنسبة إلى العلة الاولى للكون:

إن الاعتراف باللّه علةً أُولى يُلزِم بتبنِّى المفهوم الألهي للكون.

والاعتراف بالمادة علةً يُلزِم بتبنِّي المفهوم المادي للكون.

وعدم الجزم بالعلة الاولى للكون - كما يكشف عنه المؤلف في نصه الذي نقلناه - يجعل من المستحيل منطقياً تبنِّي أي من المفهومين - الالهي أو المادي للكون، إذ لا يمكن بناء نتيجة بدون مقدماتها.

أما أن نعلقَ الحكم في مسألة العلة الاولى للكون، لاننا (في زعم المؤلف) نجهلها، ثم نجزم بالمفهوم المادي للكون كما صنع المؤلف فهذا

٥٢

تناقض ومحال يكشف كما قلت واكرر عن البؤس الفكري للمؤلف. إن تعليق الحكم في العلة الاولى يقتضينا أن نعلق ايضاً الحكم في طبيعة مفهومنا عن الكون: مادي هو أم إلهي؟

* * *

ويقع المؤلف في تناقض آخر بالنسبة إلى مسألة العلة الاولى، فبعد أن اعترف بصراحة في النص السابق بأنه يجهل الجواب عن مشكلة المصدر الأول للاشياء، نراه في صفحة(٧٨) يصرح بإنه يعرف المصدر الأول للاشياء، وينفي وجود اللّه بشكل حاسم، ويعبر عن رأيه هنا بالنص التالي:

«إن المفكر الذي لا يعتقد بوجود اللّه أو يعلق الحكم حول الموضوع بأسره قد لا يفعل ذلك من جهة تكوينه العاطفي... إنه يفعل ذلك لأنه القناعات الفكرية التي تشكلت لديه على أسس علمية واضحة لا تسمح له بأن يعتقد بوجود اللّه دون أن يقع في تناقض ذاتي ودون أن يضحي بوحدة تفكيره ومنطقه».

نتساءل: كيف علق الحكم سابقاً في هذه المسألة، وكيف جزم بالعدم هنا؟

إنه علق الحكم سابقاً لأنه لا دليل على الوجود (في زعمه) ولا دليل على العدم، ومع أنه لم يقدم أي دليل على العدم نراه جزم هنا بعدم وجود اللّه.

* * *

٥٣

إن المصور لا يستطيع أن يلتقط صورة دقيقة لجسم مّا يريد تصويره ما لم يضبط - بدقة متناهية - زاوية الرؤية بين عدسته وبين الجسم المراد تصويره، فاذا ما أخل بهذا الشرط الاساسي حصل على صورة مشوهة، أو لم يحصل على صورة اطلاقاً.

والأمر في عمليات الفكر يشبه هذا المثال. فاذا أردنا اكتشاف حقيقة ما أو البرهنة على فرضية ما فعلينا ان نفكر فيها من الزاوية الملائمة لها، المتفقة مع طبيعتها - أما حين نفكر فيها من زاوية أُخرى، أو نطبق عليها شروطاً لا تتفق مع طبيعتها فاننا نخفق في مهمتنا، ويؤدي ذلك بنا في النهاية الى الضلال وسوء الفهم كما حدث للمؤلف

ان الشك في وجود علة نهائية للكون، أو الاعتراف بذلك والشك بانها اللّه أو المادة ينتج لدى رجل الفكر من أحد عاملين: إما عن قصور فكري، وإما عن سوء استخدام للفكر بالطريقة الصحيحة. إن ما يبدو لي هو أن المؤلف قد نظر الى مسألة وجود اللّه من غير الزاوية الصحيحة. فادى به ذلك إلى الوقوع في الخطأ: تعليق الحكم في هذه المسألة، أو الجزم بعدم وجود اللّه، فله رأيان في المسألة كما رأينا.

إن هذا يكشف عن أن المولف يعاني من اهتزاز فكري حيال هذه المسألة.

وعلى أي حال فهذه المسألة تبحث على مرحلتين.

الأولى: هل نحن بحاجة إلى الالتزام بعلة أُولى للكون أم لا؟

الثانية: إذا آمنا بلزوم علة أُولى للكون، فهل هذه العلة الاولى هي اللّه كما تقول الفلسفة الالهية أم المادة كما تقول الفلسفة المادية؟

٥٤

أ - مسألة العلة الاولى

- ١ -

إن مبدأ العلية (توقف كل موجود ممكن على علة لوجوده) من البديهيات التي يدركها العقل البشري. إن الانسان يجد في صميم طبيعته ما يدفعه إلى تعليل الاشياء والظواهر، واكتشاف أسبابها. وقد اعترف المؤلف في ص ٢٥ بأن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء».

وكل معرفة بشرية نظرية أو تطبيقية تتوقف على التسليم بمبدأ العلية والاذعان لقوانينه:

١ - مبدأ العلية «إن لكل شيء سبباً».

٢ - قانون الحتمية «إن كل سبب يولد النتيجة الحتمية له بصورة ضرورية ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن اسبابها»

٣ - قانون التناسب بين الاسباب والنتائج: «إن كل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة يلزم أن تتفق ايضاً في الاسباب والنتائج».

٥٥

وهكذا يتوقف على التسليم بمبدأ العلية وقوانينه:

١ - إثبات الواقع الموضوعي للاحساس في التجربة الشخصية المادية.

٢ - النظريات والقوانين العلمية المستندة إلى التجربة.

٣ - جواز الاستدلال وانتاجه في أي ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية ولولا مبدأ العلية لما أمكن إثبات شيء من ذلك.

- ٢ -

وهنا يواجهنا سؤال أساسي:

هل مبدأ العلية قائم على أساس تجريبي أو على أساس فلسفي؟

الحق أن مبدأ العلية ليس مبدأً يستند إلى الحس، ولا إلى التجربة وإنما هو مبدأ عقلي ضروري فوق الحس وفوق التجربة.

ليس مبدأ العلية برهاناً حسياً لأن الحس لا يكتسب صفة الحقيقة الموضوعية إلا عن طريق مبدأ العلية، فليس من المعقول أن يكون مبدأ العلية مديناً للحس في ثبوته.

وليس مبدأ العلية نظرية علمية تجريبية، لأن جميع النظريات العلمية تتوقف عليه. فإن كل استنتاج علمي قائم على التجربة يواجه المشكلة التالية، وهي: أن التجربة التي يستند عليها الاستنتاج محدودة بنماذج معينة، فكيف تكون بمجردها دليلاً على نظرية عامة؟ والحل الوحيد لهذه

٥٦

المشكلة في العلية وقوانينها: مبدأ العلية. قانون الحتمية. قانون التناسب

فإذا افترضنا أن مبدأ العلية نفسه، مرتكز على التجربة فسنواجه مشكلة العموم والشمول من جديد على صعيد مبدأ العلية نفسه، وذلك لأن التجربة ليست مستوعبة للكون، فكيف تعتبر دليلاً على نظرية عامة، وقد كنا نحل هذه المشكلة في مختلف النظريات العلمية بالاستناد إلى مبدأ العلية، بصفته الدليل الكافي على عموم النتيجة وشمولها، وأما إذا اعتبر نفس هذا المبدأ تجريبياً، وواجهنا مسألة العموم والشمول بالنسبة إليه، فسوف نعجز نهائياً عن الجواب عنه.

وإذن، فلا بد أن يكون مبدأ العلية فوق التجربة، وقاعدة أساسية للاستنتاجات التجريبية عامة.

وأخيراً، إن مبدأ العلية مبدأ ضروري لا يمكن الاستدلال على رده، وذلك لأن الدليل علة للعلم بالشيء المستدل عليه، وإذن محاولة الاستدلال على رد مبدأ العلية تنطوي على الاعتراف بمبدأ العلية وتطبيقه.

والخلاصة: أن مبدأ العلية ليس مبدأً حسياً، وليس مبدأ تجريبياً، ولا يمكن نقضه بأي دليل، وإنما هو مبدأ عقلي ضروري فوق الحس والتجربة، وثابت بصورة متقدمة على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الانسان.

- ٣ -

بعد أن آمنا بمبدأ العلية وقوانينه، وأنه مبدأ عقلي ضروري، تخضع

٥٧

له جميع الموجودات الممكنة ولا تستغني عنه، نتساءل:

لماذا تحتاج الأشياء إلي علل، ولماذا لا توجد الأشياء بدون علل؟

وقد أجاب عن ذلك الفيلسوف الاسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي) بما ملخصه: إن علاقة العلية بين العلة والمعلول هي ارتباط بين شيئين، وللارتباط مظاهر متنوعة، ولكنها جميعاً ترجع إلى نوعين.

احدهما: أن يكون لكل من الشيئين المرتبط أحدهما بالآخر وجود مستقل سابق على حصول الارتباط: يكون القلم - مثلاً موجوداً بصورة مستقلة، ويكون الكاتب موجوداً بصورة مستقلة، ثم يحصل الارتباط بينهما حين يستخدم الانسان القلم للكتابة. ويكون القماش - مثلاً - موجوداً بصورة مستقلة، ويكون الشخص موجوداً بصورة مستقلة أيضاً، ثم يحصل الارتباط بينهما حين يلبس الشخص القماش ثياباً، وهكذا.

ثانيهما: أن لا يكون لأحد الشيئين وجود مستقل عن وجود الاخر وهذا هو رباط العلية، مثلاً (ب) ارتبط ب‍ (ا) برباط العلية، ففي هذه الحالة لا يكون له (ب) وجود مستقل عن وجود (ا) وإنما حقيقة وجود (ب) عبارة عن ارتباطه وعلاقته ب (ا) فلو انقطع هذا الارتباط انقطع وجود (ب) بالضرورة - وهذا بخلاف ما إذا كان الارتباط ليس على نحو العلية، فان انقطاع الارتباط بين القلم والكاتب لا يؤثر على الوجود المستقل لكل منهما، وإنما يحتفظ كل واحد منهما بوجوده المستقل قبل الارتباط ومعه وبعده، بينما المعلول وجود منبثق عن العلة حال ارتباطه بها أما قبل ذلك فلا وجود له ابداً، وأما بعد انقطاع الارتباط فينعدم فوراً.

٥٨

وإذن: فالحقائق الخارجية ليست في الواقع إلا تعلُّقات وارتباطات، فالتعلق والارتباط مقوم لكيانها ووجودها، والسر في احتياجها إلى العلة أن وجودها وكيانها عبارة عن الارتباط والتعلق بمنبع وجودها المباشر، وهو العلة.

- ٤ -

إن مبدأ العلية في الكون يقودنا الى قانون النهاية: «إن العلل المتصاعدة التي ينبثق بعضهاعن بعض، يجب أن تكون لها بداية، أي علة أُولى لم تنبثق عن علة سابقة».

وذلك لأن العلل لا يمكن أن تتصاعد بشكل لا نهائي، فإن الموجودات المعلولة كلها ارتباطات، وهي تحتاج إلى حقيقة مستقلة تنتهي إليها، وإلا فإن سؤال «لماذا؟» يبقى قائماً بالنسبة إلى كل موجود، وإذن، فإن عقلنا يقودنا إلى الايمان بسبب أول متحرر من مبدأ العلية، مستقل بذاته عن كل شيء، وبذلك لا نواجه بالنسبة إليه سؤال «لماذا؟».

* * *

إن خضوع الكون كله لمبدأ العلية وقوانينه قادنا بصورة حتمية إلى الايمان بعلة أُولى واجبة الوجود بالذات، غير محتاجة إلى علة، ولا يسع الانسان الا الاذعان لهذه الضرورة العقلية لأن رفضها يؤدي إلى التسلسل اللانهائي المستحيل.

٥٩

ب - اللّه أم المادة

- ١ -

يتألف الكون المنظور من عدد من العناصر الأساسية بلغ عدد ما اكتشف منها حتى الان عنصرين ومائة عنصر رتبت في جدول حسب تسلسل وزنها الذري. ويقع الهدروجين في أول هذا الجدول لأنه أخف العناصر في وزنه الذري، فهو يحتوي في نواته على شحنة واحدة موجبة، يحملها بروتون واحد، ويحيط بها الكترون واحد ذو شحنة سالبة، ويقع في نهاية الجدول النوبليوم - فمرقمه الذري (١٠٢) أي أن نواته تشتمل على (١٠٢) وحدة من وحدات الشحنة الموجبة، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الالكترونات ذات الشحنات السالبة.

في حدود ما وصل إليه العلم الان هذه العناصر هي المواد الاساسية التي يتألف منها الكون المادي، وهذا الحشد الهائل من الحقائق والانواع المختلفة يرجع لدى التحليل إلى تلك العناصر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174