مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني22%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62440 / تحميل: 7607
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

- ٢ -

وقد أثبت العلم التجريبي أن خصائص هذه العناصر غير نهائية وغير ثابتة، بل يمكن تبدل بعضها ببعض، وهذا التبدل بعضه يتم بصورة تلقائية، وبعضه يمكن إحداثه بالوسائل العلمية. فعنصر اليورانيوم - مثلاً - يطلق انواعاً ثلاثة من الأشعة، منها أشعة (الفا) وهي عبارة عن ذرات عنصر الهليوم، ويتحول اليورانيوم تدريجياً إلي راديوم، ويتحول الراديوم - بعد عدة تحولات عنصرية - إلي عنصر الرصاص.

وقد تمكن العالم الطبيعي (رذرفورد) من تحويل عنصر إلى عنصر آخر بجعل ذرات الهليوم تصطدم بذرات الآزوت، فنتجت ذرة هيدروجين من ذرة الازوت، وتحولت ذرة الازوت إلى اوكسجين.

وهكذا غدا من الثابت أن خصائص العناصر ليست ذاتية للعناصر.

- ٣ -

وقد استطاع العلم التجريبي - على ضوء نسبية آينشتين - أن ينزع عن الكتلة صفتها المادية، ويحولها إلى طاقة، فلم يعد في الكون عنصران متميزان: أحدهما المادة المحَّسة، والآخر الطاقة غير المحسَّة، بل غدت المادة عبارة عن طاقة مركزة، فإن كتلة الجسم نسبية، وليست ثابتة، فهي تزيد بزيادة السرعة، كما اكدت التجارب التي أجراها علماء الفيزياء الذرية. ولما كانت كتلة الجسم تزداد بازدياد حركته - وليست الحركة

٦١

إلا مظهراً من مظاهر الطاقة - فالكتلة المتزايدة في الجسم هي إذن طاقته المتزايدة، وذلك وفقاً للمعادلة التالية:

الطاقة = كتلة المادة × مربع سرعة الضوء: «١٨٦٠٠٠» ميلٍ في الثانية. كما أنه : الكتلة المادة = الطاقة مربع سرعة الضوء.

وإذن، فنفس صفة «المادية» صفة عرضية، وليست ذاتية للمادة المتطورة.

- ٤ -

على ضوء الحقائق السابقة.

١ - إن المادة الأصلية للكون المادي ترجع إلى حقيقة واحدة مشتركة.

٢ - إن خواص المركبات التي تتكون من العناصر - هذه الخواص ليست ذاتية بالنسبة إلى المادة الأصلية، وإنما هي عارضة عليها بسبب التركيب، وليس عن الطبيعة الاساسية المكوِّنة للمركب.

٣ - إن خواص العناصر البسيطة التي يتكون منها العالم المادي أيضاً ليست ذاتية لتلك العناصر وليست نهائية بدليل تحول بعض العناصر إلى بعض آخر كما رأينا.

٤ - وأخيراً إن صفة «المادية» ليست ذاتية للمادة المحسوسة، لأنها تتحول - في نهاية المطاف - إلى طاقة.

٦٢

وإذن، فليست لدينا «حقيقة نهائية» هي المادة. وليست لدينا حقيقة نهائية. هي الطاقة.

النتيجة

- ٥ -

ان المادة لا يمكن ان تكون هي العلة النهائية للكون، لان الكون يحتوي على حشد هائل من المظاهر المتنوعة، والانواع المتباينة، وهي ترجع باجمعها إلى حقيقة واحدة كما رأينا. ولا يمكن للحقيقة الواحدة أن تختلف آثارها وتتباين افعالها، إذ لو أمكن ذلك لأمكن أن تكون الحقيقة الواحدة متناقضة الظواهر، ولكن هذا مستحيل لانه يؤدي الى القضاء على نتائج العلوم الطبيعية جميعاً، لأن هذه العلوم قائمة - كما رأينا سابقاً - على أساس قانون التناسب الذي يقضي بأن الحقيقة الواحدة لها آثار واحدة وثابتة لا تتغير، فقد بينا أن التجربة في العلم الطبيعي لا تتناول إلا نماذج ضئيلة من المادة المدروسة، وتعمم نتائج التجربة الى جميع المادة المدروسة بمقتضى قانون التناسب، فلو فرضنا إمكان تناقض ظواهر الحقيقة الواحدة لما أمكن وضع أي قانون علمي عام، وبذلك تنهار العلوم كلية.

واذن، فهذا الفرض - ان التنوع من خصائص المادة الذاتية - فرض مستحيل.

واذن، من المستحيل أيضاً أن تكون المادة هي العلة النهائية للكون،

٦٣

لأن هذا الفرض يؤدي بنا الى الاستحالة العقلية كما رأينا، ويصدم حقائق التجربة الواقعية.

واذن، فاذا كانت المادة غير صالحة لأن تكون علة نهائية، فلا بد أن تكون هذه العلة النهائية فوق المادة وفوق الطبيعة.

- ٦ -

هل بقي علينا شيء؟

نعم بقي علينا أن نناقش - بصورة مباشرة - موقف الماركسية من هذه المسألة لنفضح قصورها وعجزها وسطحيتها.

تقول الماركسية في تصوير نشوء الكون عن المادة: ان الاشياء تنتج عن حركة في المادة، وان حركة المادة ناشئة ذاتياً عن المادة نفسها لاحتوائها على النقائض في داخلها، وقيام الصراع بين تلك النقائض.

ونغض النظر الآن عن بطلان المبدأ الماركسي (مبدأ التناقض) ونناقش هذه المسألة وفقاً لهذا المبدأ لنرى إن كانت الماركسية قادرة على تفسير نشوء الكون من المادة وفقاً لمبادئها؟

لقد أوضح العلم كما أشرنا - إلى أن العناصر التي يتألف منها الكون ابتداء من الهيدروجين وحتى نهاية السلسلة تعود إلى مادة واحدة بسيطة مشتركة بين الجميع (ولنغض النظر عن ان هذه المادة الاساسية عبارة عن

٦٤

طاقة) فنسأل: كيف وجدت العناصر الاساسية للكون؟

سنقول - مع الماركسية - إن التناقضات الداخلية في المادة الأساسية ( ولا نعرف من أين جاءت هذه التناقضات في المادة الاساسية البسيطة المتجانسة) - إن التناقضات الداخلية ولدت أبسط العناصر (الهيدروجين) وبالتناقضات الداخلية في الهيدروجين تولد عنصر ارقى منه واكثر تعقيداً، وهو عنصر الهليوم، وتستمر التناقضات تفعل فعلها في الهليوم وما يتولد منه حتى يصل التطور إلى ذروته في العنصر الثاني بعد المئة النوبليوم.

هذا هو التفسير يقدمه الديالكتيك ليفسر به ديناميكية المادة.

ولكن بطلان هذا التفسير يتضح حين نلاحظ أن الهيدروجين لو كان مشتملاً بصورة ذاتية على نقيضه، ومتطوراً بسبب ذلك فلماذا لم تتكامل جميع ذرات الهيدورجين وتتحول إلى هليوم، ولماذا تحول بعضها إلى عنصر الهليوم وبقي الاخر محتفظاً بخواصه العنصرية بالرغم من تناقضاته الداخلية التي حولت أجزاء منه إلى هليوم.

إن هذا المثال يمكن تطبيقه على جميع العناصر الاثنين والمئة، وهو يكشف عن بطلان التفسير الماركسي لديناميكية المادة.

وكما اتضح بطلان التفسير المادي على مستوى العناصر يتضح بطلانه بصورة جلية على مستوى المركبات، ولنأخذ الماء مثلاً على ذلك: الماء مركب من أُوكسجين وهيدروجين ولنفرض وفقاً للتفسير الماركسي أحد هذين العنصرين إثباتاً والاخر نفياً نتج عنهما مركب الماء.

ونتساءل: إذا كان هذا التفاعل يتم بصورة ذاتية بين عنصري

٦٥

الاكسجين والهيدورجين، فلماذا اختص بقسم معين منها، وبقيت الأقسام الاخرى متحررة من أسر هذا القانون، فيوجد اكسجين حر، ويوجد هيدروجين حر، ويوجد ماء.

إن هذا المثال - ويمكن تطبيقه على كل مركب في الكون - يكشف بوضوح عن بطلان التفسير الماركسي لديناميكية المادة.

* * *

الحقيقة هي أن المادة ليست ديناميكية، وليست هي نفسها سبباً ذاتياً لاكتساب خصائصها وتنوعها، فقد عرفنا النتتائج العلمية أن جميع خصائص المادة عرضية.

١ - خصائص المركبات صفات عرضية لها جاءت بسبب تركب العناصر. فخاصة السيلان في الماء عرضية جاءت من اتحاد عناصره، وإذا فرزناها ترجع إلى حالتها الغازية وتنعدم خاصة السيلان.

٢ - خصائص العناصر نفسها صفات عرضية لها، فاليورانيوم مثلاً خصائصه من اختزانه لانواع أشعته، فاذا فقدها يتحول إلى الراديوم الذي يتحول بدوره - بعد عدة تحولات إلى رصاص.

٣ - خصوصية «المادية» في المادة البسيطة نفسها صفة عرضية لها، فقد عرفنا أنها تتحول إلى طاقة، وتتكون من الطاقة.

وإذن: فليست المادة ديناميكية بذاتها تولد تفاعلاتها وتنوعاتها وظواهرها بنفسها، لأن كل ذلك (حتى ماديتها) شيء عرضي لها.

وهكذا يظهر بجلاء ووضوح عجز الماركسية عن تفسير نشوء الكون

٦٦

من المادة، وتسقط بصورة مزرية فكرة أن المادة هي العلة الاولى.

وهكذا ننتهي بصورة حتمية إلى الايمان باللّه علة نهائية للكون.

ويجب أن نوضح هنا ان ايماننا باللّه لا يعني أن الاسباب الطبيعية لا معنى لها ولا أهمية لها، وانما يعني أن التنوع والتطور الظاهر والخفي في الكون يعود إلى اسباب طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادة، وهذه الاسباب تتصاعد متولدة من بعضها حتى تصل في النهاية إلى علة وراء الطبيعة هي اللّه تعالى.

الاسلام والعلم

يرى المؤلف في ص ٢١

«أن الدين - كما يدخل في صميم حياتنا، وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي - يتعارض مع العلم، ومع المعركة العلمية قلباً وقالباً، روحاً ونصاً».

نناقش فيما يلي الأدلة التي ساقها المؤلف على رأيه هذا لنكشف عن خطأه، وعن جهله بموضوع نقده (الدين الاسلامي).

- ١ -

يذكّر المؤلف قارئه بالصراع الذي حدث بين العلم والدين في أُوربا، ونحن نقول له: إن الصراع حدث بين علماء عصر النهضة وكنيسة القرون الوسطى لأسباب لا مجال لذكرها الان، وليس بين العلم والاسلام. وحدث في أُوربا وليس في العالم الاسلامي، والاسلام ليس ملزماً بتبرير

٦٧

مواقف لم يتخذها هو في مناطق جغرافية لم يصل إليها، وفي مجتمعات لم يطبعها بطابعه.

وما يدعيه المؤلف من أن في العالم العربي معركة تدور في الخفاء بين الدين والعلم شيء لا نعرفه ولا نحسه، ولا يعرفه احد ولا يحسه - نعم تدور في العالم العربي معركة - ظاهرة وليست خفية - بين الاسلام وبين الالحاد متمثلاً في الماركسية ومشتقاتها. والماركسية ليست علماً: ليست علماً بعد أن افتضح عجزها عن تفسير تطور الكون والحياة والمجتمع، وبعد أن اضطر قادتها إلى تغييرها وتبديلها حتى لم يبق منها في بعض المناطق إلا اسمها، ليست علماً وانما هي مجموعة من الأخطاء في الفكر اطلق عليها إسم العقيدة. وإن صداقتنا مع المعسكر الشرقي لا تعني تبعيتنا له في عقائده وطرائقه التي اتضح لمفكرينا وعلمائنا بطلانها. إننا أصدقاء، نعم، ولكن عقيدتنا وجذورنا التاريخية ستبقى هي التي تكوّن شخصيتنا الحضارية المستقلة. وتدور في العالم الاسلامي معركة بين الاسلام وبين تيار الانحلال والاباحية الجنسية، والانهيار الاخلاقي الوافد إلينا من الغرب، وتدور في العالم الاسلامي معركة بين الاسلام وبين الاستعمار بشتىٍ اشكاله والوانه: العسكري، والاقتصادي، والفكري، من أي مصدر جاء.

- ٢ -

(ص ٢٢) أ : «ويحوي الدين الاسلامي آراء ومعتقدات تشكل

٦٨

جزءً لا يتجزأ منه عن نشوء الكون وتركيبه وطبيعته، عن تاريخ الانسان وأصله وحياته خلال العصور».

لا أدري أين وجد المؤلف هذه «الموسوعة الدينية عن الكون» نشوئه، وتركيبه، وطبيعته. الحق أن الموجود في القرآن والسنة الصحيحة لا يعدو الأفكار العامة عن نشوء الكون، وأنه نشأ بارادة اللّه، وعن اصل تكوين هذه السلالة البشرية الموجودة الان، وهي لا تتنافى مع اية حقيقة علمية قائمة على الاطلاق - كما سنرى.

نعم، ربما يكون المؤلف قد استقى بعض معلوماته الدينية من اشخاص أو مصادر متأثرة بالاسرائيليات كبعض العجائز المتأثرات كثيراً بهذا النوع من القصص فيروينها لاطفالهن، كما لا يزال يؤمن كثير من المتعلمين عندنا ببعض الفرضيات «العلمية» التي شاع في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، والتي تجاوزها العلم منذ عقود من السنين ولكن افكار متعلمينا لا تزال متشبثة بها بالرغم من الشكوك الكبيرة التي تحيط بانقاضها الباقية ك‍«الداروينية» و«المادية الجدلية»، ولا يفوتنا أن نذكِّر المؤلف وغيره بأن كثرة أشياع فكرة ما لا تعني أنها حقيقة، وأن القوة المادية لا يمكن أن تسبغ صفة الحقيقة على أية فكرة، إن الفكرة حينئذٍ تكون أداة سياسية، لا حقيقية علمية.

ب - بالنسبة إلى منهج البحث في كل من العالم والدين، قال المؤلف:

«إن الاسلام والعلم في هذا الأمر على طرفي نقيض، فبالنسبة للدين

٦٩

الاسلامي (كما بالنسبة لغيره) إن المنهج القويم للوصول إلى مثل هذه المعارف والقناعات هو الرجوع إلى نصوص معينة تعتبر مقدسة أو منزلة، أو الرجوع إلى كتابات الحكماء والعلماء الذين درسوا وشرحوا هذه النصوص».

أُكرر قولي عن المؤلف بأنه لا يعرف الاسلام (موضوع نقده).

أولاً: ليس في الاسلام افكار تفصيلية حاسمة حول الكون، وطبيعته وتركيبه وتفاعلاته، ومن هنا فليس ثمة موضوع لاتهام المؤلف للاسلام.

ثانياً: إن النصوص الدينية التي تكون مورداً للدراسة والفحص والتعمق فيها هي نصوص الدين، أي ما يتناول العقيدة والشريعة، وليس لأجل اكتشاف أسرار الطبيعة المادية. إن المنهج في استكشاف اسرار الطبيعة المادية هو التجربة وليس دراسة النصوص. إن علماء المسلمين العظام الذين نبغوا في جميع مجالات العلوم الطبيعية في المغرب والمشرق (الخوارزمي، ابن خلدون، ابن سينا، ابن الهيثم، جابر بن حيان، الطوسي وغيرهم، وغيرهم) هؤلاء العلماء الذين بنت أوربا نهضتها علي ثمرات بحوثهم العلمية توصلوا إلى نتائجهم العلمية الباهرة لا بدراسة القرآن والحديث يا دكتور، وإنما باتباع النهج العلمي في البحث والتجربة. إن دور الدين في تكوينهم العلمي هو انه الهمهم ودلهم على قداسة هذا النوع من البحث العلمي وعظمته وكوّن في عقولهم المنهج التجريبي عن طريق الأمر بالبحث والتأمل والنظر في ظواهر الطبيعة وأسرار الانسان، وذلك كما ورد كثيراً في الحديث وفي الآيات الكونية في القرآن.

لقد كان هؤلاء علماء في الفلك والطب والجغرافيا، والكيمياء والفيزياء

٧٠

والاجتماع البشري، وغير ذلك، وكانوا مع ذلك مسلمين صالحين يتلقى المجتمع والدولة على صعيد رجال الدين ورجال الدنيا نتاجهم بالاحترام والتقدير والاعجاب، بل وينفقون الاموال الطائلة عليهم وعلى بحوثهم، وعلى تيسير وسائل البحث العلمي لهم من مكتبات ومستشفيات، ومراصد، وغيرها.

هل سمع الدكتور أن عالماً مسلماً اضطهد لعلمه، لاكتشاف من اكتشافاته، أو لرأي من آرائه كما حدث في أمكنة أُخرى؟ لم يحدث هذا أبداً يا دكتور (فلماذا تقيس الدين الاسلامي إلى غيره) عفواً، فما بالي أسألك، والذي يبدو لي من كلامك انك جاهل بالتاريخ العلمي للمسلمين كجهلك بالدين.

ولا ينقضي تعجبي من أحد المدافعين عن الدكتور (ملحق النهار / ١٨ ك٢ ١٩٧٠) الذي أراد - بدافع من حقده على الاسلام أو جهله به - أن يلحق بالاسلام التهمة العالقة بغيره، فادعى أن الامويين قتلوا العلماء القائلين بحرية الفكر، ويا ليته جاء على ذلك بشاهد من التاريخ يثبت دعواه. نعم، كان الامويون يلتزمون بمبدأ الجبرية لغايات سياسية ولكن التاريخ لا يحدثنا انهم قتلوا القائلين بحرية الانسان. على اننا لا نستطيع اعتبار الامويين ممثلين امناء للاسلام - إن

موضوعنا هو الاسلام كما ورد في مصادره الاساسية.

- ٣ -

أ - « من الامور الجوهرية التي يشدد عليها الدين الاسلامي أن جميع الحقائق الاساسية التي تمس حياة

٧١

الانسان في الدنيا والآخرة قد كشفت مرة واحدة في نقطة معينة وحاسمة في التاريخ - نزول القرآن وربما الكتب الاخرى قبله - ».

من أين جاء المؤلف بهذه الفكرة عن الاسلام؟ ومن قال له أن جميع المعارف التي تتعلق بحياة الانسان في الدنيا قد اكتشفت بنزول القرآن؟ ولماذا اشتغل المسلمون بشتى العلوم إذن إذا كانت هذه هي عقيدتهم؟ لا استطيع الا أن اكرر اتهامي للمؤلف بأنه جاهل بموضوع نقده بصورة تبعث على الأسف. كلا يا استاذ هذه الخرافة التي ذكرتها ليست من الاسلام في شيء. إن المعرفة في الاسلام عملية اقتحام واكتشاف للمجهول. وقوله تعالى:

«َ ما فَرّطْنا في الكتَاب منْ شيء(١) » الذي استشهدت به، لا يعني ميادين العلوم والحقائق الكونية، إن كلمة «شيء» في الآية حين توضع في اطارها - الدين - تعني القواعد العامة المعلقة بامور العقيدة والشريعة، ولكن المشكلة انك لا تعرف الاسلام من مصادره الاساسية.

ب - «اما الدين فبطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن، يعيش في الحقائق الأزلية، وينظر إلى الوراء ليستلهم مهده».

إن الدين ثابت في عقائده وتشريعاته، ولكنه يدفع إلى الحركة في

____________________

(١) سورة الأنعام، آية: ٣٨.

٧٢

الكون، والتقدم في الحياة، وبناء الحضارة، ودليل ذلك تاريخ المسلمين الحضاري حين كان الإسلام يحركهم ويدفع بهم نحو بناء الحضارة وصنع التاريخ.

وتلح على ذهني أن المؤلف استقي أفكاره هذه من المستشرق ه‍ أ جيب في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» فإن هذا المستشرق في بعض فصول كتابه المذكور وجه إلى الاسلام هذا الاتهام الذي ردده المؤلف هنا.

ج - «في الواقع أصبح الاسلام الايديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه، والمرتبطة صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد».

إن الاسلام ليس حليفاً لأي نظام غير عادل، وإذا كانت بعض الدول «تظهر» الإسلام كحليف لها فما ذاك إلا لأنها سخرت الإسلام لخدمة مآربها، كما تظهر الحكومات الاشتراكية الإسلام كحليف لها، والحقيقة هي أن الإسلام مع نفسه فقط.

ولا تفوتنا هنا أن ننبه على تناقض من تناقضات المؤلف الكثيرة، فهو في هذا الموضع يتهم الإسلام بأنه حليف الاستعمار والرجعية، ولكنه في ص ٤٥ - ٥١، تحت عنوان «التوفيق التبريري» يقول ان الإسلام يتخذ سنداً للرجعية وللاشتراكية وللديمقراطيات الشعبية، وللليبرالية. ونسأل المؤلف: هل هذه المواقف تشكل اتهاماً للاسلام الذي لا ينسجم إلا مع نفسه فقط أو تشكل اتهاماً بالجهل أو بالنفاق لاولئك الذين يظهرونه بمثل هذه المظاهر «ملاحظة: نذكر المؤلف بأن حكومة ستالين في الاتحاد

٧٣

السوفياتي استعانت بالروح الديني عند المسلمين التابعين لها في الحرب العالمية الثانية»

هذه هي الأدلة التي ساقها المؤلف للتدليل على أن الإسلام يقف ضد العلم، وقد رأينا مدى تفاهتها، وكشفها عن جهل المؤلف بموضوع نقده.

* * *

وقد استطرد المؤلف في ص ٢٤ - ٣٣، في أفكار يبدو أنه أراد أن يعزز بها أدلته الثلاثة، ونحن نستعرضها فيما يلي لبيان زيفها وبطلانها:

أ - «وهناك تشابه بين الدين والعلم في أن كليهما يحاول أن يفسر الأحداث وأن يحدث الأسباب ص٢٤».

هذا خطأ. ان الدين الإسلامي لا يحاول أن يفسر الظواهر الطبيعية، ولا يحاول أن يجعل نفسه بديلاً عن العلم. ان الدين كما ذكرنا عقيدة وشريعة توجه سلوك الانسان وحياته، وموضوع العلم هو الطبيعة يكتشفها ويسخرها للانسان، ودور الدين في العملية دور الاثارة، والتوجية وبعث الاهتمام بالطبيعة، ونحو اكتناه المعنى الذي يكمن فيها، ومن يلاحظ الآيات الكونية في القرآن يرى الشاهد على ما نقول. وبهذا ينكشف أن كل النائج التي رتبها المؤلف على مقدمته السابقة خيال محض من عنده وليس من الإسلام.

ب - «خلق اللّه هذا الكون في فترة معينة من الزمن بقوله كن فكان. أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها الأساسية منذ أن خلقها اللّه، أي أنها تحتوي الآن على نفس الاجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي

٧٤

كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها، أما النظرية العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت منذ البداية كما هي عليه الان».

١ - نكرر ان العقيدة الأساسية في الإسلام هي أن علل التكوين المتصاعدة في عالم الطبيعة تنتهي إلى اللّه، وما ورد في القرآن،

( إنما أَمرُه إذا أرادَ شَيْئاً أن يَقُولَ له كن فيكون ) (١)

____________________

(١) ورد أمر الخلق (كن) في القرآن الكريم في سبع سور، في ثمان آيات، هي كما يلي

١ - «بديع السماوات والارض. واذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

البقرة (مدنية - ٢) الاية: ١١٧

والآية إخبار من اللّه تعالى عن قدره المطلقة على الخلق بصيغة الغالب.

٢ - «قالت: رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر. قال: كذلك اللّه يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

آل عمران ( مدنية - ٣) الآية: ٤٧

٣ - « إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»

آل عمران (مدنية - ٣) الآية ٥٩

إخبار من اللّه تعالى في مورد خاص (خلق آدم وعيسى) عن قدرته المطلقة على الخلق.

٤ - «وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون، قوله الحق...»

الانعام (مكية - ٦) الآية: ٧٣

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٥ - «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»

النحل (مكية - ١٦) الآية: ٤٠ إخبار من اللّه تعالى عن قدرته المطلقة على الخلق في مقام بيان قدرته المطلقة على بعث الأموات.

٦ - «ما كان اللّه أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

مريم (مكية - ١٩) الآية ٣٥

إخبار من اللّه تعالى بصيغة الغائب عن قدرته المطلقة على الخلق في مقام بطلان قول النصارى في عيسى بن مريم انه ابن اللّه.

٧ - «إنما أمره إذا أراد شيئاً ان يقول له كن فيكون»

يس (مكية - ٣٦) الآية: ٨٢

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في الاحتجاح على المشركين بشأن احياء الموتى وبعثهم.

٨ - «هو الذي يحيي ويميت، فاذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

المؤمن (مكية - ٤٠) الآية: ٦٨

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في مواجهة المشركين.

٧٥

وغيرها من الآيات التي ورد فيها هذا التعبير، لاتدل على أن الكون خلق بصورة دفعية على نحو مكتمل، وإنما تدل على قدرة اللّه الكلية الشاملة، بل لعلها على التدريج في الخلق أكثر دلالة بقرينة قوله:

( إذا أرادَ شَيْئاً )

٢ - أما أن الطبيعة وجدت بصورة مكتملة، وحافظت على سماتها الاساسية منذ أن خلقها اللّه... فهذا غير صحيح، وليس في الاسلام ما يشير إلى ذلك، بل في القرآن ما يدل صراحة على أن الطبيعة مرت في أدوار وأطوار حتى اكتملت في صورتها الحاضرة، وعلى المؤلف ان يرجع إلى القرآن الصحيح ليصحح رأيه.

٧٦

٣ - يقول المؤلف أن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء. ونحن نسأل المؤلف: إذا كانت العلوم ترفض الخلق من لا شيء، فكيف وجد الكون اذن؟ ومن اين وجد؟ وهذا الشيء الذي وجد منه الكون مَن أوجده؟ لقد رأينا في مطلع هذا الحديث أن الذي اوجده هو اللّه تعالى.

٤ - تعرض لذكر خلق آدم، والجنة والطرد منها، ونرجئ الحديث عن ذلك إلى موعدنا معه في مكان آخر من كتابه تعرض فيه لهذه المسائل.

٥ - بعد كل ما ذكرنا فما هي قيمة ما نقله المؤلف عن «رسل» وهل هو إلا تهريج في وجه المنطق والحقيقة.

٦ - في ص ٢٩ - ٣١ تحدث المؤلف عن التوتر الذي يعاني منه المثقف الحديث بسبب التعارض القائم بين ثقافته العلمية وبين تراثه الديني - ان هذا التوتر يا دكتور ليس ناشئاً من تعارض حقيقي بين العلم وبين الاسلام، وانما هو ناشيء من أن كثيراً مما تسمونه «علماً» ليس إلا افتراضات لم تتأكد صحتها، أو ثبت بطلانها، وان الدين كما تفهمونه ليس مستنداً على مصادره الاساسية، وانما على الأباطيل التي الصقت به على مدى القرون من الاسرائيليات وغيرها.

العلم، العلم الحقيقي والدين الصافي لا يتعارضان وإنما يتكاملان في تنشئة الانسان وتقدمه.

خلق الانسان

المعتقد الاسلامي الاساسي الذي هو من ضروريات الدين هو أن الانسان وكل شيء في الكون مخلوق للّه سبحانه وتعالى.

أما تفاصيل كيفية الخلق وابتدائها فليس فيها نص صريح قاطع غير قابل للتأويل. وكيفية الخلق وابتدائها ليست من أُصول الدين التي يتحتم الاعتقاد بتفاصيلها ومميزاتها، بل يتقبلها المسلم كما جائت به ظواهر الكتاب والسنة الصحيحة وما لا يتنافي مع المسلمات العلمية اليقينية..

بعد هذا التمهيد نواجه ثلاث مسائل:

١ - وجود الانسان على الأرض هل ابتدأ بالسلالة الانسانية الموجودة الآن، أو سبقتها سلالات أُخرى غيرها انقرضت وبادت؟

٢ - نشأة السلالة الانسانية الموجودة الان.

٣ - الداروينية في علم الأحياء.

٧٧

- ١ -

لم يتعرض القرآن الكريم بصراحة ووضوح لبيان أن هذه السلالة البشرية الموجودة الان هي السلالة الوحيدة التي ظهرت على الأرض، أو أن ثمة سلالات بشرية أُخرى ظهرت على هذه الأرض، وعاشت ثم انقرضت، ثم تكرر ظهور السلالات البشرية وانقراضها، ونسلنا البشري الحاضر هو آخر هذه السلالات.

قلت إن القرآن لم يتعرض بصراحة ووضوح لبيان هذه النقطة، وإن كان التحليل الدقيق لقوله تعالى في سورة البقرة، وهي قوله تعالى:

( وإذ قال رَبّكَ للمَلائكَةِ إني جاعل في الأرَضِ خَليفَةً. قالُوا: أتجعَلُ فيها مَن يُفْسد فيها ويسفكُ الدّماءَ، ونحنُ نُسبّحُ بحمدِكَ ونقدّسُ لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون ) (١) .

أقول: ان التحليل الدقيق لهذه الآية ربما يدل على أن سلالة انسانية سابقة على هذه السلالة، وجدت على ظهر الأرض، وعاشت، ثم انقرضت. وليس هنا مجال استعراض تحليل الآية المذكورة.

نعم في بعض الأخبار الواردة عن طريق أهل البيت(ع) وعن طريق غيرهم ما يدل بصراحة ووضوح على أن السلالة البشرية الموجودة الآن ليست هي الوحيدة التي وجدت على هذه الأرض من النوع الانساني،

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٠.

٧٨

وإنما سبقتها سلالات كثيرة انقرضت قبل وجودها:

١ - روي عن الإمام جعفر الصادق (ع)، قال: «لعلك ترى أن اللّه لم يخلق بشراً غيركم؟ بلى واللّه. لقد خلق ألف ألف آدم. أنتم في آخر أولئك الآدميين».

٢ - ذكر الشعراني في كتابه: «اليواقيت والجواهر/ ج ١ ص ٤٩» عن محيي الدين بن عربي حديثاً رواه عن ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال: «ان اللّه تعالى خلق مئتي ألف آدم».

٣ - وعن الإمام الباقر (ع): «لقد خلق اللّه في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض، فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه، ثم خلق اللّه عزوجل آدم أبا البشر، وخلق ذريته منه».

هذه نماذج من النصوص التي تدل بصراحة على تقدم سلالات بشرية، غير السلالة الحالية، في سكنى هذه الأرض، وانقراضها قبل ظهور هذه السلالة.

ولم يتح لنا الوقت لدراسة هذه النصوص من حيث السند والشكل والمضمون وتحليل دلالاتها، ونرجو ان تتاح لنا الفرصة لذلك.

- ٢ -

إن ظواهر القرآن والسنة الصحيحة تدل على أن السلالة البشرية الموجودة الآن تنتهي إلى آدم وحواء «لم يرد في القرآن! اسم حواء»

٧٩

ونحن هنا أمام أربع احتمالات.

١ - آدم رمز للنوع الانساني كله.

٢ - آدم عدد من أفراد النوع الانسان نظراً لتعدد الوان البشر ورسوسهم.

٣ - آدم فرد إنساني واحد. وهذا ينطوي على احتمالين:

أ - إنسان كامل تطور من نوع حيواني آخر كالقردة العليا مثلاً.

ب - إنسان كامل عقلياً تولد من زوج إنساني غير متكامل عقلياً وهذا بدوره تطور من زوج أحط منه عقلياً، وهذا بدوره تطور لزوج ادنى منه... وهكذا حتى تنتهي السلسلة إلى أبسط أنواع الحياة.

٤ - أن آدم وزوجه هما الابوان الأولان لهذه السلالة الانسانية، وهما لم يتكونا بالتناسل، وإنما خلقا من الأرض.

هذه هي الصورة المحتملة لمسألة المخلوق الأول، وابتداء خلق النوع الانساني - هذه السلالة الموجودة الآن بخصوصها، أو جميع السلالات السابقة ايضاً - واكرر أنه ليس من ضروريات الدين الاعتقاد بتفاصيل مسألة كيفية الخلق الأول، ما دام الاعتقاد الضروري الاساسي موجوداً، وهو أن اللّه خالق كل شيء، الانسان وغيره.

إلا اننا حين نعود إلى الفروض المتقدمة لفحصها نجد أن ظواهر القرآن تدل على الفرض الرابع، وتدفع بظاهرها الفروض الاخرى - ولا مجال

٨٠

في هذه العجالة لتحليل ذلك، نعم نتوقف عند الفرض الثالث، لأنه الفرض المقبول اجمالاً في أذهان كثير من المتأثرين بالداروينية، وذلك لنبحث مدى صحة نظرية دارون الاحيائية.

- ٣ -

ملخص نظر دارون في علم الاحياء:

إن الأنواع الحية بما فيها الانسان ترجع إلى كائن حي وحيد الخلية. حدثت في داخل هذا الكائن تغيرات نوعية بشكل بالطفرات أوجبت انقسامه إلى أنواع بعد أن كان وحيد النوع. وهذه الطفرات لا تتم بتوجيه وقصد، وإنما تتم صدفة يحصل صراع - وفقاً لقانون تنازع البقاء - بين الأنواع التي زودتها الطفرة الصدفة بكفاءات نوعية جديدة، وبين تلك التي لم تحظ بذلك، وبحكم قانون بقاء الأصلح تبيد هذه الأنواع أمام الانواع المزودة بالطفرات. وهذه التغيرات المكتسبة بالطفرات الصدفة لا بد من افتراض أنها قابلة للتوريث إلى الاعقاب، وهكذا ينشأ جيل جديد ورث الخصائص النوعية المميزة عن اسلافه. وتستمر الطفرات في الحدوث صدفة ويستمر قانون الوراثة في عمله. ويستمر قانونا تنازع البقاء وبقاء الأصلح في عملهما وتستمر التطورات من خلال ذلك، حتى يصل بنا المطاف إلى الانواع الحية السائدة الان، ومن بينها الانسان، قمة هذه العملية التطورية.

هذا ملخص لنظرية دارون في اكمل صورها، بعد كثير من الاصلاحات التي اضافها خلفاء دارون إليها. فهل هي علم يقيني تماثل أن ٢ + ٢ = ٤ ؟

٨١

كلا، إنها في غالبها ظنون واحتمالات وفرضيات صنفت لأجل تكوين صورة عن عملية التطور التي لا شك فيها إجمالاً، والتي لا تختص بالأنواع الحية وحدها وإنما تشمل الجماد والنبات والحيوان. فعلينا أن نميز بين أصل مسألة التطور وهي قضية مسلمة إجمالاً وبين تفاصيلها كما شرحها دارون وخلفاؤه وهي لا تعدو أن تكون مجموعة من الظنون والاحتمالات، ولا ترقى الى مرتبة العلم واليقين.

والمناقشات التي تدور حول النظرية تكشف عن ضعفها، وعدم تماسكها:

أولاً: لماذا تحدث الطفرة؟ يجيب الداروينيون: انها تحدث صدفة.

ولكن هذا التعليل غير مقنع. إن الطفرة ظاهرة طبيعية لا بد لها من أسباب، فما هي أسبابها؟ لا ندري!!، إذن تعليلنا للتغير النوعي الذي يحدث بأنه طفرة حدثت صدفة، لا يعني اكثر من أننا نجهل سبب التغيير النوعي. وإلا فإذا كانت الصدفة وحدها كافية - علمياً - لتفسير النوع الحيواني فلماذا لا نفسر الظواهر الطبيعية الاخرى بالصدفة ايضاً؟ وإذا كان التعليل بالصدفة يكفي علمياً فلماذا نرفض فكرة أن السلالة البشرية الموجودة الآن تناسلت من أبوين وجدا صدفة، ولم يتسلسلا من نوع اخر؟.

الحقيقة أن التمسك بالصدفة لا يعني شيئاً اكثر من أننا نجهل السبب في حدوث التنوع الحيواني. وهكذا تختفي السمة العلمية من النظرية لتعوذ بالالفاظ التي تخفي عجزها عن البيان العلمي المقنع ثم ما هي الصدفة؟

٨٢

هل في الكون صدفة؟ إن للصدفة قانوناً معينا يكشف لنا عن استحالة تعليل نشوء جزيء واحد من البروتين من المركبات الاساسية في جميع الخلايا الحية - إن العالم الرياضي السويسري (تشارلز يوجين جاي) قام بحساب الفرصة التي يمكن أن تتاح لتكوين جزيء واحد من البروتين صدفة فوجد أنها بنسبة(١) إلى (١٠ ١٦٠) أي بنسبة رقم واحد إلى عشرة مضروباً في نفسه (١٦٠) مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به والتعبير عنه بالكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة اللازمة لحدوث هذا التفاعل لينتج جزيء واحد من البروتين صدفة اكثر مما يتسع له هذا الكون بملايين المرات. ويجب أن يستمر هذا التفاعل بلايين من السنين قدرها العالم المذكور بأنها عشرة مضروبة في نفسها (٢٤٣) (١٠ ٢٤٣) من السنين. كل هذا لانتاج جزيء واحد من البروتين صدفة فإذا قلنا أن التنوع الحيواني في الكون ناشيء عن طريق الصدفة نصل إلى الصفر، أي أن قيمة الاحتمال أو الصدفة تساوي الصفر أي تساوي المحال الرياضي.

ومع ذلك يقول الداروينيون إن النوع الحيواني في الكون وجد صدفة!!

ثم ان هذه التغيرات التي يسميها الداروينيون طفرات، ما الدليل على أنها نقلت كائناً حياً من حالة نوعية إلى حالة نوعية أُخرى؟ لا دليل، إنه مجرد افتراض لا غير، فلم تستطع جميع العلوم التي استعانت بها الداروينية أن تثبت بصورة علمية لا تقبل الشك حلقات الاتصال بين نوع حيواني ونوع آخر.

ان التغيرات موجودة بلا شك، وتدل على تطور في الكفاءات،

٨٣

ولكن في داخل كل نوع، ولاتدل أبداً على الانتقال بسببها من حالة نوعية إلى حالة نوعية أُخرى.

ثانياً - ننتقل إلى مشكلة توريث الصفات المكتسبة بواسطة الطفرات، دون الصفات المكتسبة الاخرى التي ثبت علمياً عدم قابليتها للتوارث. بأي تعليل علمي مقبول نعلل هذا الافتراض الذي يشكل العمود الفقري للنظرية - إلى جانب حكاية الطفرة الصدفة لقد فشل دارون وخلفاؤه في اعداد جواب علمي مقبول وكاف على هذا السؤال. أما علم الوراثة فقد اثبت ان مرد جميع الصفات الوراثية إلى الجينات التي تحويها خلايا التناسل. وقد أوضح العلم أن الجينات لم تشتق من خلايا جسمية بل من «جرمبلازم» الوالدين فالأجداد، وهكذا وعلى هذا الضوء أثبت علم الوراثة بعد التمييز بين الخلايا الجسمية والخلايا التناسلية ان الصفات المكتسبة لاتورث. وهكذا تنهار الداروينية، من هنا لتلجأ إلى فرضية التنوع عن طريق الطفرات، وقد عرفنا قيمة هذه الفرضية آنفاً.

وهكذا تبقى الداروينية - مجرد فرضية لم يحالفها التوفيق.

ثالثاً: نساير الداروينية فنقول: لقد وصل التطور إلى قمته متمثلاً بالعقل الانساني، فكيف حدث ذلك؟ ما هو العقل؟ وما هو سره العجيب؟

إن العلم الحديث لا يعرف شيئاً عن طبيعة العقل. والداروينية كغيرها من الفرضيات عاجزة عن تقديم تفسير لنشأة العقل الانساني المدهش.

هل تفرض الداروينية ان العقل تطور من تطورات المادة نشأ بواسطة

٨٤

الطفرات الصدفة وتنازع البقاء وبقاء الاصلح والتوريث؟..الحق أن أشد مذاهب علم النفس غلواً في المادية «المذهب السلوكي» حاول الجواب وفشل بشكل فاضح.

الخلاصة: إن الداروينية عاجزة عن إثبات دعواها إنها ذات نتائج احتمالية مبنية على مقدمات احتمالية، فهل يصح أن نعتبرها علماً، وان نتخذها سنداً في نقد الافكار الدينية؟ وهل نكون أُمناء حين نسمي الظنون والاحتمالات علماً(١) .

إن الدكتور العظم وقع في الخطأ حين أصدر أحكاماً جازمة مبنية على ما أسماه علماً، وما هو بعلم إن هو إلا ظن واحتمال والظن لا يغني من الحق شيئاً، وندرك مدى خطأه حين يهاجم العقائد مستنداً على هذه النظرية ويهاجم الموفقين بين العلم والدين الذين يرفضون هذه النظرية. انظر ص ٤٢ ، ٤٣ من الكتاب.

____________________

(١) نشرت صحيفة الأهرام القاهرية في عددها الصادر يوم الاربعاء ٢ شوال سنة ١٣٩٢ هجري - ٨ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٧٢ م ، الخبر التالي:

واشنطن، في ٧ - ١ - ٧٢ وكالات الانباء:

أعلن ريتشار دليكي، أحد علماء الانثروبولوجيا - علم الانسان - في كينيا، أنه تم اكتشاف بقايا جمجمة يرجع تاريخها الى مليونين ونصف مليون عام، ويعد أقدم أثر من نوعه للانسان الأول. وقال العالم: ان هذا الاكتشاف يمتد في أثره مليوناً ونصف مليون عام عن أقدم أثر يمكن العثور عليه حتى الآن. وقد تم اكتشاف عظام الجمجمة مع عظام لساق بشرية ترجع إلى نفس الحقبة من التاريخ في جبل حجري بصحراء تقع شرق بحيرة رودلفا في كينيا.

وقال العالم: ان هذا الأثريمكن أن يقلب النظريات القائمة بشأن تطور الانسان عن أجداده فيما قبل التاريخ، وكيف ومتى تم. =

٨٥

____________________

= وقد قدم ريتشارد، (وهو مدير المتحف البريطاني في كينيا) تقريراً عن اكتشافه إلى الجمعية الجغرافية في واشنطن، وقال فيه:

إن نظريات التطور الحالية - وعلى رأسها نظرية دارون - تفيد أن الانسان تطور من مخلوق بدائي كانت له سمات بدنية شبيهة بسمات القرود. وان اقدم اثر للانسان كمخلوق منتصب يسير على رجليه وله مخ كبير يرجع الى نحو مليون سنة، في حين ان الاكتشاف الجديد يدل على أن المخلوق الانساني المنتصب في الساقين لم يتطور عن المخلوق البدائي الذي يشبه القرد، بل كان يعاصره منذ أكثر من مليون ونصف مليون عام، وإنه يمكن على هذا الاعتبار استبعاد المخلوق البدائي الأول على اساس ان الانسان انحدر من سلالته وذكرت الجمعية الجغرافية في تعليقها:

«ان نظرية ليكي تقوم على أساس أن المخلوق البدائي الأول، واسمه العلمي (أوسترالو بيتشيكوس) - وكان اساساً من أكلة النباتات - قد وصل الى مرحلة تطورية مسدودة، بينما استطاع الانسان الذي استعمل اللحم في غذائه، وتمكن من صناعة الادوات الحجرية أن يبقى على قيد الحياة.

وأكد ليكي في تقريره أنه أمكن إعادة بناء جمجمة من شظايا العظام التي عثر عليها، وأنه بالرغم من أن هذه الجمجمة لا تشبه جماجم الجنس البشري المعروف حالياً إلا أنها تختلف كذلك عن جميع اشكال الجماجم التي عثر عليها للانسان الأول، ولذلك لا تتفق مع أي نظرية حالية من تطور الانسان»

وفي ١١ - ٣ - ١٩٧٣ نشرت جريدة الأخبار القاهرية في صفحتها الثالثة تحت عنوان «انتكاسة نظرية الارتقاء» ما يأتي للاستاذ ظفر الاسلام خان - الهندي: «تعرضت نظرية الارتقاء لهزة عنيفة في اوائل الشهر الحالي حين قرر المجلس التعليمي الحكومي بولاية كاليفورنيا الامريكية بأن تشير جميع الكتب المدرسية للعلوم الى نظرية الارتقاء الداروينية بأنها «نظرية افتراضية وليست حقيقية» وجاء في قرار المجلس التعليمي للولاية: «ان ما يمكن معرفته عن اصول الحياة لا يعدو أن يكون مجرد افتراض ذكي - على اكثر تقدير -» وأمر المجلس «باستخدام تعديل على العقائد النظرية المسلم بها الى بيانات قابلة للتعديل وفقاً للظروف».

أوردت هذا الخبر مجلة (الايكونومست) الاسبوعية البريطانية في عددها الصادر في ١٠ مارس سنة ١٩٧٣ نقلنا هذين الخبرين عن الاستاذ الدكتور عبد اللنعم النمر مدير البحوث الاسلامية في الازهر الشريف (خواطر من الدين والحياة) الطبعة الاولى ١٩٧٣ م - دار الكتاب اللبناني - بيروت - لبنان ص ٢١٠ - ٢١٢.

٨٦

الجن والملائكة وابحاث أخرى (الجن والملائكة)

ثمة حقائق أثبتها الوحي ولا سبيل إلى العلم بها عن طريق الحس والتجربة، وهي الحقائق الغيبية. إن الملائكة والجن وابليس والجنة والنار وما إليها ليست أساطير كما يقول المؤلف.

هل النظرة العلمية التجريبية الحسية تنفي وجود هذه الكائنات؟ أو ان الحس والتجربة لم تكتشف هذه الكائنات؟ إن التعبير الصحيح هو الثاني، ولم يقل أحد ان هذه الأشياء يمكن اكتشافها في المختبر، لسبب بسيط جداً، وهو انها خارجة عن نطاق التجربة الحسية. فالرجوع إلى النظرة العلمية الحسية للحكم على ما هو خارج عن نطاقها مسلك غير علمي، ولا ينفي عدم قدرة الحس والتجربة على ملامسة هذه الأشياء ان تكون هذه الأشياء حقيقة أيضاً كالأشياء الحسية.

إن الوحي الصادق الذي ثبت بالبرهان القاطع هو طريقنا إلى العلم بهذه الامور، فاننا إذا آمنا بالعلة الاولى للكون، وهي اللّه. وآمنا بالنبوة والوحي فلا بد لنا من الايمان بالحقائق الغيبية التي اخبرنا الوحي عنها.

٨٧

إننا حين نؤمن بأن شيئاً ما مصدر للمعرفة، فلا بد لنا من الايمان بالمعرفة التي تأتينا من هذا المصدر.

وإذن فالايمان بهذه الامور فرع للايمان بظاهرة الوحي، ومن لا يؤمن بالوحي لا معنى للكلام معه في الفرع وهو ينكر الأصل، وإذا آمنا بالوحي فمن المنطقي حينئذٍ الايمان بالغيب الذي جاء عن طريق الوحي.

والدكتور العظم وامثاله من الماديين الماركسيين وغيرهم حين يردون الكون وظواهره إلى اصل غير معروف وغير معقول، وحين يلوذون بحكاية الصدفة إذا حوصروا واعوزتهم الحجة المقنعة - هؤلاء ايضاً يؤمنون بالغيب الذي يعتقد بمثله المؤمنون بالاديان، فلماذا يكون غيب الماديين حقاً وغيب المؤمنين بالاديان باطلاً؟ مع أن غيب المؤمنين اكثر عقلانية وانسجاماً مع المنطق السليم.

***

من هنا يتضح لنا أن سخرية المؤلف في (٣٧ - ٣٨) لامعنى لها فليس المراد من النص الذي اختاره المؤلف أن بالامكان اكتشاف موجات ضوئية جنِّية وملائكية، وإنما المراد هو أن ثمة عوالم غير منظورة كثيرة وراء عالمنا، فعدم اطلاعنا على تلك العوالم وتركيبها لا ينفي وجود كائنات غير منظورة وذات طبيعة غير إنسانية فيها - وهذا معنى معقول صحيح لا وجه للسخرية منه.

***

النظرة الغائية

وهذا ينقلنا إلى مناقشة المؤلف للنظرة الغائية إلى الكون. إن المؤلف ينفي القصد والغاية من النظام الكوني. إنه نظام وجد صدفة، نعم صدفة، ووجد بهذا الشكل من النظام الدقيق المحكم المتناسق صدفة.

لا يأبى عقل الدكتور «العلمي» أن يؤمن بالصدفة في كل النظام الدقيق الشامل الذي يسيطر على كل ظواهر الطبيعة ويأبى عقله التصديق بالوحي وبالحقائق الغيبية الآتية عن طريق الوحي.

نعود إلى النظرة الغائية. إن النظام الدقيق المحكم الذي يسيطر على الكون يكشف عن القصد والغاية التي تقود الكون نحو النمو والتكامل. إن المؤلف قد نفى هذه النظرة بكلام خطابي عن العلم وعدم إدراكه للغاية والقصد مع قائمة بأسماء علماء الطبيعة والرياضيات (ص - ٣٨ ٣٩).

٨٨

وقد فات الدكتور انه لا منافاة بين النظرة الغائية وبين العلم. إن وظيفة العلم وظيفة وصفية، العلم لا يفسر ولا يفلسف، العلم يحلل ويصف فقط، أما التفسير، اما إدراك المعنى الكامن ولاء الظاهرة الطبيعية، فهو من شأن الفلسفة، من شأن العقل المفكر الواعي، وليس من شأن أنابيب الاختبار وأفران الصهر. إن العلم يستطيع أن يحلل التفاحة إلى عناصرها الأساسية، ويصفها، ولكنه لا يستطيع أن يقول لنا انها جملية أو غير جميلة، لذيذة أو غير لذيذة، فلذلك شأن يتعلق بقوى إدراكية لدى الانسان لا علاقة للعلم التجريبي بها.

***

تدخل القدرة الإلهية في عمل الطبيعة

اعترض المؤلف على قوله تعالى في سورة المؤمن:

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ من سُلالَةٍ من طين. ثم جَعَلْنَاه نُطْفَةً في قرارٍ مَكين. ثم خَلَقْنَا النّطْفةَ عَلَقَةً. فخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فخَلَقْنا المضغة عظاماً. فكسوْنا العظام لحماً. ثم انشأناهُ خلقاً آخر فتباركَ اللّه أحسَنُ الخالقين ) (١) .

اعترض بأن ما تدل عليه الآيات من تدخل الارادة الإلهية في عملية تكون الجنين ينافي ما يقرره علم الأجنة.

ونقول للمؤلف اننا بينا عند الحديث عن المسألة الإلهية ان إيماننا باللّه علةً أُولى للكون لا يعني أننا ننفي العلل الطبيعية من التأثير، كيف ذلك ونحن نشاهد بحسنا وندرك بعقولنا تدخل العلل الطبيعية وعملها؟ وانما يعني ان العلل المتصاعدة لا بد ان تنتهي إلى علة أُولى هي اللّه تعالى.

ونزيد البيان هنا فنقول:

إن الظاهرة تارة تكون خارقة للطبيعية «معجزة» وأُخرى تكون طبيعية. حين تكون الظاهرة خارقة للطبيعة ففي هذه الحالة تكون نتيجة للتدخل الإلهي المباشر. وأما حين تكون الظاهرة طبيعية فهي تتبع بصورة مباشرة أسبابها الطبيعية، ومن ذلك نمو الجنين في الرحم، فإنه تابع

____________________

(١) سورة المؤمن، الآيات: ١٢ - ١٤

٨٩

لأسبابه الطبيعية المباشرة، وإسناد عملية الخلق إلى اللّه في هذه الآيات، إنما هو باعتبار أن اللّه تعالى هو العلة الاولى والنهائية في سلسلة العلل المتصاعدة. فهو سبحانه وتعالى خلق الأسباب وجعل العلل وفقاً لهذا النظام الذي يحكم الكون كله.

***

تزوير وتناقض

يهاجم المؤلف (ص - ٤٢ - ٤٣) المسلمين الذين يرفضون نظرية دارون، ونظرية الحريات العامة في التاريخ كما بشرت بها الثورة الفرنسية، ونظرية فرويد والماركسية ويهاجمهم لأنهم يرفضون العلم في الوقت الذي يدعون ان الاسلام ينسجم مع العلم.

ونقول للمؤلف اننا قد بينا مدى «علمية» نظرية دارون آنفاً فهي ليست علماً بل ظن واحتمال لا يغني عن الحق شيئاً.

ونقول للمؤلف الماركسي: هل تقر عقيدتك الماركسية نظرية الحريات كما بشرت بها الثورة الفرنسية او ان الماركسية تستغل الحريات إلى أن يستولى اتباعها على السلطة فتخنق كل الحريات. هل يتاح لمسلم أن يهاجم الماركسية في دولة شيوعية كما هاجمت أنت الاسلام والمسيحية في كتابك موضوع البحث. هل توجد حريات في المجتمع الشيوعي؟

ونقول للمؤلف الماركسي هل تعترف الماركسية بنظرية فرويد التي قلت عنها (ص - ٤٣) «انها من أهم النتائج التي توصلت إليها البحوث العلمية

٩٠

في مجال الدراسات النفسية». نقول له: هل تقر الماركسية نظرية فرويد في أن المحرك الأساسي للانسان هو الغريزة الجنسية، وتنخلى الماركسية عن مبدئها الاساسي في ان العامل الاقتصادي هو العامل الوحيد في حركة الفرد والمجتمع؟

إن الماركسية ترفض نظرية فرويد فلماذا لا يجوز للمسلم أن يرفضها؟ أو إنها بالنسبة إلى الماركسي تكون سخافة وبالنسبة إلى المسلم تصير علماً..

وأما مدى ما في الماركسية من «علم» فنرجو ان تتاح لنا فرصة الحديث عنه مع المؤلف في الفصل الأخير من كتابه.

***

التوفيق التبريري

في الصفحات (٤٥ - ٥١) انتقد المؤلف المحاولات التي تبذل في الدول الإسلامية لتبرير اشكال الحكم القائمة في كل دولة. ونحن نقول للمؤلف إن الإسلام كدين ليس مسؤولاً عن هذه المحاولات، وإنما المسؤول هو الحكام الذين يريدون أن يبرروا أنفسهم، ومسؤولية المبررين.

وقد عرضنا لهذه المسألة في قسم سابق من حديثنا مع المؤلف، ونبهنا على تناقض المؤلف مع نفسه بين ما ذكره هنا وبين ما ذكره عن هذا الموضوع في ص - ٢٣ - ٢٤.

التوفيق التعسفي

في الصفحات (٥١ - ٥٧) ندد المؤلف بقسوة وسخرية عن

٩١

المحاولات الرامية إلى تقرير أن بعض المكتشفات العلمية الحديثة قد وردت في القرآن.

ونقول للمؤلف: ان المبدأ العام بالنسبة إلى هذه المسألة هو أن القرآن ليس كتاباً في العلوم، ولذا فليس المطلوب منه ان يتضمن مبادئ علوم الطبيعة وغيرها، وإنما هو كتاب هدى ونور، يقوّم السلوك الإنساني ويهديه سواء السبيل.

ولكن هذا المبدأ لا ينفي أبداً أن في القرآن آيات كثيرة تتضمن إشارات واضحة جداً إلى حقائق علمية كشف العلم عنها بصورة نهائية. ان الآيات التي أتحدث عنها لم تسق للتعبير عن الحقيقة العلمية بصورة مباشرة، وإنما سيقت للتعبير عن أغراض أُخرى تتعلق بالانسان وسلوكه، وقدرة اللّه الكلية ولكنها في طيات ذلك تومئ إلى الحقيقة العلمية. والملاحظة الأمينة المحايدة الواعية تكشف عن ذلك بوضوح. ولو كان المقام يتسع لذكر بعض الأمثلة لذكرتها.

إن السخرية التي يلجأ إليها المؤلف لنفي الآراء التي لا تعجبه لا تقوى على دفع هذه الحقيقة. لسنا مع أولئك المتحمسين الذين يريدون أن يجعلوا من القرآن موسوعة علمية، ولكننا أيضاً لانوافق المؤلف على نفيه القاطع.

التوفيق على الطريقة اللبنانية

في الصفحات (٥٧ - ٦٩) استعراض المؤلف المحاولات المبذولة لانشاء حوار إسلامي مسيحي في لبنان والعالم، واعتبرها ظاهرة من ظواهر

٩٢

التفكير المجامل في اذهان المسؤولين عن شؤون الفكر الديني عامة واهتماماتهم».

ونقول: لسنا مع الأب يواكيم مبارك وغيره ممن يرون ان يحصروا الحوار في «المقابلة اللاهوتية البحت» فذلك لا يجدي ولا يفيد.

المفروض انه يوجد إسلام ويوجد مسيحية، وانهما دينان متميزان فلا معنى للمطالبة بوحدتهما في كل شيء، وإلا لكانا ديناً واحداً. إن الحوار ينبغي أن يستهدف اكتشاف المبادئ الكبرى التي تجمعها، المبادئ الكبرى في السلوك وفي احترام الانسان، وفي تيسير حركة التقدم الانساني، والتعايش بين الامم والجماعات الثقافية والدينية المختلفة.

إن الاسلام منذ ظهوره منفتح على المسيحية والمسيحيين، وتاريخه خلال العصور أعظم شاهد على انفتاحه، والمسيحية من خلال تطور الكنيسة تحاول الانفتاح على الاسلام، ونأمل أن يترجم هذا الانفتاح إلى دعم جهود العالمين الاسلامي والعربي بصورة واضحة وصريحة في المسألة الفلسطينية(١) .

تناقض

بعد أن حارب المؤلف الدين من كل الوجوه، ونفى أُسسه على جميع المستويات، ابتداء من اكبر قضاياه «وجود اللّه» إلى أبسط قضية

____________________

(١) لاحظ بحثنا عن الحوار الاسلامي المسيحي الذي نشر بعد كتابة هذه المطارحات في جريدة السفير البيروتية في حلقتين الاولى في العدد ٧٠٨ الاثنين ١٤ ربيع الأول ١٣٩٦ هجري = ١٥ / ٣ / ١٩٧٦ بعنوان (تأملات في صيغة الحوار الاسلامي المسيحي - ازمة الحضارة ومشروع جديد للحوار والثانية في العدد ٧٠٩ الثلاثاء ١٦ / ٣ / ١٩٧٦ بعنوان (تأملات في صيغة الحوار الاسلامي المسيحي - آفاق جديدة لعلاقات الحوار بين الديانتين).

٩٣

دينية، بعد كل هذا عاد في ص ٧٨ إلى القول بأنه «لا يريد نسخ الشعور الديني في تجارب الانسان من الوجود».

ونتساءل: كيف لايعترف بوجود إله، ويرفض وجود عالم غيبي، ومع ذلك يريد بقاء الشعور الديني، من أين يأتي الشعور الديني اذا لم يكن ثمة إله؟

وهذا التناقض شبيه بما ذكره في أول كتابه في (ص ١٧) حيث فرق بين ظاهرتين للدين:

١ - كونه «ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس» والدين بهذا الاعتبار ليس موضوعاً لنقد المؤلف.

٢ - كون الدين «قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا، وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي» وهو بهذا الإعتبار موضوع لنقد المؤلف.

نتساءل أولاً:

لماذا أعفى الدين بالاعتبار الأول من نقده، هل ينسجم فكر المؤلف - وهو الماركسي اللينيني - مع الظاهرة التي يمثلها هؤلاء «القديسون والمتصوفون وبعض الفلاسفة» وهل تسير الحياة الروحية لهؤلاء الذين اعفاهم المؤلف من نقده إلا على أساس المفهوم الإلهي والروحي للكون؟ وهو مفهوم يرفضه المؤلف جملة وتفصيلاً.

ونتساءل ثانياً:

هل الدين بالاعتبار الثاني الذي جعله المؤلف موضوعاً لنقده إلا نتيجة لكونه ظاهرة روحية؟ وهل هو باعتباره ظاهرة روحية تبدو في حياة

٩٤

قلة ضئيلة إلا السبب الفاعل في الحياة الاجتماعية والفكرية لجماهير المعتنقين للدين؟

أَليست هذه القلة الضئيلة من الناس التي اعفاها المؤلف من نقده هي التي أغنت الدين بأفكارها وتأملاتها، وتَقَبّل المجتمع المتدين هذه الأفكار والتأملات فجعلها خميرة لثقافته وروحاً لحضارته.

ان هذه الملاحظة، وأمثالها كثير، تكشف لنا عن مدى تناقضات المؤلف.

وإلى اللقاء مع قصة المؤلف في قصة ابليس

قصة ابليس

يجب أن يكون القرآن هو المادة الأساسية للبحث في قصة إبليس الاسلامية، لأن القرآن الكريم هو المصدر الأصيل الذي لا يرقى إليه الشك حول ملامح هذه القصة من وجهة النظر الإسلامية.

وعلى هذا فيجب أن يكون القرآن هو المادة الأساسية للمؤلف في بحثه الذي كتبه عن إبليس. ولا يجوز - في منطق المنهج العلمي - اعتماد مصادر أُخرى غير موثوقة لهذه القصة، كما هو الشأن في كل بحث يتناول أية مسألة من مسائل المعرفة.

وإذن، فللبحث في قصة إبليس صلة بعلم التفسير، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه: صلته بعلم التفسير من حيث انه يتناول نصاً قرآنياً، وصلته بعلم الفقه من حيث انه يتناول - في النص القرآني - تكليفاً شرعياً بالسجود، تعلق بمخلوق معين هو إبليس، وصلته بعلم اصول الفقه من حيث أنه (بحث المؤلف) يحتاج إلى معرفة بالمصطلحات الخاصة بعلم الفقه والأدلة الشرعية ليستطاع التوصل إلى فهمٍ صحيح للنص.

٩٥

الأمر التشريعي والأمر التكويني «كما سنبينه في الفقرة الثالثة» «وثانياً» انها تعبر عن افكار وتصورات متأثرة بعقائد غريبة عن الاسلام مستمدء من الافلاطونية الحديثة وغيرها. وعلى أي حال فهي ذات منابع غير إسلامية.

وأما الاحاديث المسماة «الاحاديث القدسية» فاغلبها غير اسلامي، وانما تسرب إلى التراث الاسلامي من مصادر هندية وفارسية ويونانية واسرائيلية ونصرانية، ولذا فلا يمكن اعتبارها معبرة عن وجهة النظر الاسلامية الصافية.

إن الذي يعبر عن النظرة الاسلامية - بعد القرآن - هو السنة النبوية الصحيحة التي تثبت للدراسة النقدية فيما يتعلق بالسند والمتن، والشكل والمضمون، أي لما نصطلح عليه بالنقد الخارجي والنقد الداخلي.

والعجيب من المؤلف، وهو يدعي في اكثر من موضع من كتابه تقديس العلم، ويشحن كتابه بالعبارات التي ينعى فيها على مخالفيه في الرأي أنهم لا يتبعون «المنهج العلمي» في كلامهم - من العجيب أنه هو بالذات يترك ابسط مقتضيات المنهج العلمي، وهو التأكد من المصادر التي يعتمد عليها.

مثلاً: من الصحيح أن نعتبر كتاب الطواسين معبراً عن وجهة نظر الحلاج بالذات في قصة ابليس، وذلك فيما إذا أردنا أن نكتب عن شخصية الحلاج وآرائه، وأما نعتبر آراء الحلاج هي آراء الاسلام، وفهم الحلاج هو وجهة النظر الاسلامية، فهذا خطأ كبير يدركه حتى

٩٦

الطلاب الذين يحضرون اطروحة الليسانس حين يرشدهم استاذهم المشرف إلى نوعية المصادر التي تصلح أن تكون مادة للدراسة المنوي انجازها.

٢ - الحرية الداخلية:

إن البحث الذي أداره المؤلف حول قصة ابليس يبتني على نظرية الجبر، وهي فكرة باطلة، وغير إسلامية. في الاسلام: المخلوق العاقل حر، وهو الذي يقرر بحريته واختياره التام موقفه من الاشياء والأحداث. وإرادة اللّه تأتي في مرحلة متأخرة عن اختيار العبد.

إن الفعل الانساني يتم انجازه نتيجة لاختيار المخلوق وحريته الداخلية مضافاً إليها - في مرحلة تالية إرادة اللّه، وذلك وفقاً للمعادلة التالية:

إرادة الانسان + إرادة اللّه - الفعل.

فالفعل مخلوق لارادة اللّه، ولكن ليس ابتداء‍ً، وإنما بعد أن يريده الانسان ويقرره بتمام حريته، فهو - الفعل - نتيجة لعامل الحرية - يتلوه تدخل الاراد ة الالهية في خلق الموقف الذي قرر الانسان اتخاذه.

هذا تبسيط لنظرية أهل البيت (ع) في مسألة حرية الانسان وعلاقتها بالارادة الالهية، وذلك في النص الوارد عنهم «لا جبر ولا تفويض ولكن امر بين الأمرين»، فالمخلوق ليس مجبراً، لاننا بوجداننا ندرك ما نتمتع به من حرية داخلية مطلقة، والمخلوق ليس مفوضاً لا دخل لارادة اللّه في خلق افعاله، وفي تسيير الكون، بل إرادة اللّه حاضرة دائماً، ولكن في مرحلة لاحقة على قرار العبد الذي يتخذه.

٩٧

إن الأمر التشريعي (أو النهي التشريعي) هما الأمر والنهي المتعلقان بأفعال العباد (الانسان والملائكة، الجن، ومنهم إبليس) وفعل العبد (أو تركه) منسوب إلي العبد حقيقة، فهو الذي يفعل، وهو الذي يترك، ويتمتع بالحرية المطلقة في إطاعة الأمر الإلهي والنهي الإلهي وعصيانهما. ولكن العبد عاجز عن خلق أفعاله بنفسه، فهو يمارس حريته بمعونة الارادة الإلهية، فاذا قرر العبد موقفاً معيناً من شيء (والعبد يمارس حرية مطلقة في اتخاذ قراره بدون تدخل للارادة الالهية) حينئذٍ - وبعد أن يتخذ العبد قراره يأتي دور الارادة الالهية في تحقيق قرار العبد باعانته على جعل قراره النظري نافذاً في الواقع. وبهذا يتأكد مبدأ الحرية، اذ بدون تحقيق ارادة العبد تبقى حريته نظرية لا قيمة لها.

وقد بينا هذه الحقيقة في مطلع هذا البحث عند حديثنا عن الحرية الداخلية ان اللّه كلف العباد، وأمرهم بالطاعة، واعطاء الحرية، وجعلهم مسؤولين عن كيفية ممارستهم لحريتهم، فاذا قرروا الطاعة فهم احرار في اتخاذ هذا القرار، وإذا قرروا المعصية فهم احرار في اتخاذ هذا القرار، ويتحملون مسؤوليته، ولأجل أن تتحقق لهم حريتهم الكاملة تتدخل الارادة الإلهية في تنفيذ قراراتهم التي اتخذوها.

على هذا الضوء نصل إلى النتائج التالية:

١ - الارادة التكوينية (يسميها المؤلف «المشيئة») مجال عملها عالم الأشياء.

٢ - الارادة التشريعية (الأمر التشريعي) مجاله أفعال العباد، ولا

٩٨

دخل للارادة التكوينية فيه إلا بالنحو الذي بيناه، وهو كما قلنا لا يتعارض مع مبدأ الحرية، بل يؤكد مبدأ الحرية، ويجعله واقعاً عملياً معاشاً.

٣ - لأن اللّه جعل الانسان حراً، فلا يمكن أن يأمره بشيء تشريعاً، ويريد منه خلافه تكويناً، بل اذا أمره بشيء تشريعاً يترك له حرية اتخاذ قراره، وينفذ له قراره الذي اتخذه.

ومن هنا يتضح مدى الخطأ الذي وقع فيه المؤلف حين قال (في ص ٨٩) «.... لقد شاء اللّه وجود أشياء كثيرة غير انه أمر عباده بالابتعاد عنها، كما انه أمرهم باشياء ولكنه أرادهم ان يحققوا أشياء أُخرى».

***

على ضوء هذه الملاحظات نشرح بإيجاز قصة إبليس من وجهة النظر الاسلامية مستهدين في ذلك بالنص القرآني، وبعد ذلك نوضح أخطاء المؤلف في آرائه وأحكامه الني أطلقها فيما يتعلق بقصة ابليس:

٩٩

( ...فَسَجَدُوا إلا إبْليسَ أبَى واسْتَكْبَر، وكَانَ منَ الكَافرين ) (١) .

وفي بعض آخر من الآيات يقول اللّه على لسان ابليس:

( ....قَالَ يا إبْليسُ مَا لكَ ألا تَكُونَ مَعَ السّاجدين؟ قَالَ: لم أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَه منْ صَلْصَالٍ منْ حمأٍ مَسْنوُن ) (٢) .

( وَإذْ قُلْنَا للمَلائكَةَ اسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبْليسَ قَالَ: أَ أَسْجُدُ لمَنْ خَلَقْتَ طيناً ) (٣)

وفي بعض ثالث من الآيات تبرز «الأنا» عند ابليس في مقابل الذات الالهية:

( قَالَ: مَا مَنَعكَ ألا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ؟ قَالَ أنَا خَيْز منْه خَلَقتْنَي منْ نَارٍ وَخَلَقْتَه منْ طين ) (٤) .

( فَسَجَدَ الملائكَةُ كُلّهم أجْمعَوُن إلا إبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ منَ الكَافرين. قَالَ يَا إبْليس مَا مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لما خَلَقتُ بيَدي أسْتكبرت أمْ كُنْتَ منَ العَالين؟ قَالَ: أنَا خَيْر منْهُ خَلَقْتَني منْ نَارٍ وَخَلَقْتَه من طين ) (٥) .

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٤ ٠

(٢) سورة الحجر الآية ٣٢ - ٣٣.

(٣) سورة الاسراء الآية ٦١.

(٤) سورة الاعراف الآية ١٢.

(٥) سورة الاعراف الآية ٧٥ - ٧٦.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174