مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني22%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62443 / تحميل: 7607
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أقلّ تقدير، إنّما يكمن في مفهومها الرفيع، وما تنطوي عليه من دلالة قاطعة على طهارة الإمام أمير المؤمنين وعصمته، ومن ثَمّ عصمة أهل البيت بالضرورة.

ولم تكن هذه الآية وحدها في الميدان، فبالإضافة إلى آية التطهير والجهود النبويّة الحثيثة التي بذلها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في إبلاغها وتطبيقها على أهل البيت (عليهم السلام)، توالت إلى جوارها روايات كثيرة نعت فيها النبي علي بن أبي طالب بالصدق والطهارة، والنقاء والتزام الحقّ، واستقامة السلوك وطُهر الفطرة، ثمّ توّج ذلك كلّه بالإعلان أنّ عليّاً هو عِدل القرآن، ومعيار الحقّ، والميزان الذي يفرِّق بين الحقّ والباطل، وبين الضلالة والصواب، وهو فصل الخطاب، وفي ذلك دلالة قاطعة على أنّ مَن ينبغي أن يكون الأُسوة والإمام، والقائد والمنار، والزعيم والمولى هو علي بن أبي طالب لا غير.

ثمّ انظروا وتأمّلوا في قوله (صلَّى الله عليه وآله): (عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ)، (عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ)، (عليّ على الحقّ؛ مَن اتّبعه اتّبع الحقّ، ومَن تركه ترك الحقّ)، (عليّ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليّ).

ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ عليّاً ثابت لا يزيغ، صلبٌ لا تتعثّر به خطاه، يقف في علي ذُرى الاستقامة والصلاح، لا يعرف غير الحقّ والصواب.

إنّ عليّاً ليحمل على جبهته الوضيئة عنواناً رفيعاً اسمه (العصمة)، ومن ثمّ ستكون الأمّة في أمان من نفسها، وسلامة من دينها وهي تهتدي بهدى علي، وتقتدي به أسوة ومناراً.

لقد توفّر هذا الفصل على بيان هذه الإشارات تفصيلاً من خلال النصوص الكثيرة التي رصدها (1) .

____________________

(1) راجع: أحاديث العصمة.

٤١

(11)

أحاديث العلم

يتبوّأ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المرجعيّة الفكريّة للأمّة، بالإضافة إلى الزعامة السياسيّة، كما سلفت الإشارة لذلك، فالأُمّة تواجه في معترك حياتها عشرات المعضلات الفكريّة على الصعيدين: الفردي، والاجتماعي؛ فمَن الذي يتولَّى تذليل هذه العقبات؟ ومَن الذي يُميط اللثام عمّا يواجهه المجتمع من مشكلات معرفيّة، ويفسّر للناس آيات القرآن، ويعلّم الأمّة أحكام دينها وكلّ ما يمتّ بصلة إلى المرجعيّة العلميّة والفكريّة؟ ومَن الذي أراد له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أن يتبوّأ هذا الموقع في المستقبل، بحيث تلوذ به الأمّة، وتلجأ إليه بعد رحيل النبي؟

لقد ضمّت المصادر القديمة نصوصاً نبويّة مكثّفة، تدلّ بأجمعها على أنّ النبي اختار علي بن أبي طالب للمرجعيّة العلميّة والفكريّة من بعده، منها الحديث النبوي الكريم: (أنا مدينة العلم، وعليّ بابها)، فعلاوة على شوق علي (عليه السلام) إلى العلم، وتطلّعاته الذاتيّة إلى المعرفة، وتوقه الشديد للتعلّم، واستعداده الخاصّ على هذا الصعيد، كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لا يُخفي حرصه على إعداد علي إعداداً علميّاً خاصّاً، وزقّهِ العلم زقّاً، وإشباع روحه بالمعرفة، والفيض عليه من الحقائق الربّانيّة العُليا.

لقد جاء الكلام النبوي الكريم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها؛ فمَن أراد المدينة فليأتِ الباب)، ليدلّ دلالة قاطعة لا يشوبها أدنى لبس، على أنّ العلم الصحيح

٤٢

عند علي وحسب لا عند سواه (1) .

لقد طلب النبي علي بن أبى طالب في اللحظات الأخيرة من حياته، وراح يسرّ له بينابيع المعرفة، فقال علي بعد ذلك - واصفاً الحصيلة التي طلع بها من إسرار النبي له -: (حدَّثني ألف باب، يَفتح كلُّ باب ألفَ باب)، وهذه هي الحقيقة، يدلّ عليها قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): (أنا دار الحكمة، وعلي بابها).

ثمّ هل انشقّت الحياة الإنسانيّة عن إنسان غير علي يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني)؟ وهل عرفت صفحات التاريخ مَن ينطق بهذا سوى أمير المؤمنين؟ لقد أجمع الصحابة على أعلميّة علي بن أبي طالب، وتركوا للتاريخ شهادة قاطعة تقول: أفضلنا علي. ولِمَ لا يكون كذلك والإمام أمير المؤمنين نفسه يقول: (والله، ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيمَ نزلت، وأين نزلت، وعلى مَن نزلت؛ إنّ ربّي وهب لي قلباً عَقولاً، ولساناً ناطقاً).

وما أسمى كلمات الإمام الحسن (عليه السلام)! وما أجلّ كلامه وهو يقول بعد شهادة أمير المؤمنين: (لقد فارقكم رجل بالأمس، لم يسبقه الأوّلون بعلم ولا يُدركه الآخرون)!

إنّ هذا وغيره - وهو كثير قد جاء في مواضع متعدِّدة - لَيشهد أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قصد من وراء التركيز على هذه النقطة - التي أقرّ بها الصحابة تبعاً للنبي - أن يعلن عمليّاً عن المرجع الفكري للأمّة مستقبلاً، ويحدّد للأمّة بوضوح الينبوع الثرّ، الذي ينبغي أن تُستمدّ منه علوم الدين (2) .

____________________

(1) لمزيد الاطّلاع على توثيق صيغ الحديث وضبط طرقه وأسانيده، وما يتّصل به من نقاط مهمّة راجع: نفحات الأزهار: ج 10 و11 و12.

(2) راجع: القسم الحادي عشر.

٤٣

(12)

أحاديث اثنا عشر خليفة

من بين الأحاديث المهمّة الجديرة بالتأمّل بشأن مستقبل الأمّة، هي تلك التي تتحدّث عن عدد خلفاء الرسول (صلَّى الله عليه وآله).

إنّ هذه الأحاديث الوفيرة التي جاءت في نقول متعدّدة، وطرق مختلفة وصحيحة (1) ؛ لتُشير إلى أنّ خلفاء النبي اثنا عشر خليفة.

تُطالعنا إحدى صيغ الحديث بالنصّ التالي: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش) (2) .

وقد جاء في نصّ آخر بالصيغة التالية: عن جابر بن سمرة قال: كنت مع أبي عند النبي (صلَّى الله عليه وآله) فسمعته يقول: (بعدي اثنا عشر خليفة)، ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟

قال: قال: (كلّهم من بني هاشم) (3) .

وفي نصّ آخر: (يكون من بعدي اثنا عشر أميراً) (4) .

ما الذي قصده رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من هذه الأحاديث؟ هل تحدّث عن واقع سوف

____________________

(1) راجع على سبيل المثال: صحيح مسلم: 3/1451، باب 33 (الناس تبع لقريش والخلافة في قريش)، المعجم الكبير: 2/195 - 199 وص 232؛ الخصال: 466 - 480، إحقاق الحقّ: 13/1 - 48، أهل البيت في الكتاب والسنَّة: 73.

(2) صحيح مسلم: 3/1453/1822.

(3) ينابيع المودّة: 3/290/4.

(4) سنن الترمذي: 4/501/2223.

٤٤

يحصل؟ أم رام الحديث عن حقيقة ينبغي أن تكون؟ هل رام أن يستشرف المستقبل ليشير إلى الذين سيخلفونه في الواقع التاريخي، ويتسنّمون هذا الموقع من بعده؟ أم أنّه استند إلى حقيقة تنصّ صراحة أنّ خلفاءه اثنا عشر خليفة، وأنّ هؤلاء هم الذين ينبغي أن يكونوا خلفاء، ليس من ورائهم أحد حتى آخر الدهر؟

لا يبدو أنّ هناك شكّ في أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان بصدد إعلان الخليفة، وتحديد من يتبوّأ مكانه ويمارس الحاكميّة على الأمّة كما يمارسها هو، ويواصل نهج النبي في الخلافة.

بيد أنّ البعض سعى إلى اصطناع مصاديق لهذا الكلام الإلهي، الذي نطق به الرسول (صلَّى الله عليه وآله) تتطابق ورغباته (1) ، فذهب إلى أنّ المراد من الاثني عشر هم الخلفاء الأربعة، ومعاوية وولده يزيد وهكذا! (2)

وعلى طبق هذا التفسير؛ يكون النبي (صلَّى الله عليه وآله) قد نصَّب هؤلاء خلفاء له، وأهاب بالأمّة اتّباعهم وإطاعتهم والتسليم إليهم! أيْ طاعة يزيد وعبد الملك بن مروان وأضرابهم، ( ... كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) ! (3) .

كيف يمكن تصوّر رسول الكرامة والإنسانيّة، ومبعوث الحريّة والقيم العُليا، وهو يختار لخلافته الظلمة والفسّاق، ويحثّ الأمّة على طاعة المجرمين والفاسدين؟! (4) .

____________________

(1) راجع: الإمامة وأهل البيت: 2/54، حيث توفّر على ذكر هذه المصاديق.

(2) راجع: شرح العقيدة الطحاويّة: 2/736 والإمامة وأهل البيت: 2/56.

(3) الكهف: 5.

(4) راجع: الإمامة وأهل البيت: 2/56 - 76. والكتاب من تأليف الباحث المصري وأستاذ جامعة الإسكندريّة الدكتور محمّد بيومي مهران، من كبار كتّاب أهل السنّة، حيث استعرض ما اقترفه معاوية ويزيد وعبد الملك من فظائع، من خلال الوثائق والنصوص التاريخيّة، ثمّ عاد يطرح على القرّاء السؤال التالي: مع هذا كلّه، هل يقال: إنّ هؤلاء خلفاء النبي؟!

٤٥

لا جدال أنّ من يُذعن لأصل الرواية - ولا مفرّ من ذلك - يتحتّم عليه التسليم لتفسير الشيعة، الذي يذهب إلى أنّ هؤلاء الخلفاء هم عليّ وآل عليّ (عليهم السلام)، كما ذكرت ذلك بعض الروايات عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأتت على أسمائهم صراحة، حيث يمكن أن يُلحظ ما يلي:

1 - إنّهم اثنا عشر معروفون ينطبقون - في عددهم وأسمائهم - مع الحديث.

2 - إنّ الأئمّة من قريش؛ وهم من قريش.

3 - رأينا بعض الروايات تحمل في ذيلها عبارة: (كلّهم من بني هاشم).

والأمر كذلك في عليّ وآل عليّ (عليهم السلام)؛ فهم جميعاً من بني هاشم، يؤيّد ذلك الكلام العُلوي المنيف، الذي يقول فيه أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّ الأئمّة من قريش غُرِسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم) (1) .

4 - إنّهم من أهل بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا يتطابق مع ما سبق، وقد ذكرناه في الصفحات السابقة، كما يتوافق مع نصوص كثيرة ستأتي الإشارة إليها لاحقاً.

5 - كما أنّه يتطابق بدقّة مع ما جاء عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير هذه الجملة - كما سلفت الإشارة لذلك - حيث ذُكرت أسماء هؤلاء الخلفاء الكرام بشكل كامل وتامّ.

6 - على أساس روايات كثيرة تحدّث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن دوام إمامة المهدي (عليه السلام) واستمرارها إلى ما قبل القيامة، والمهدي المنتظر هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأئمّة الاثني عشر في المعتقد الشيعي.

من هذه الروايات:

____________________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 144.

٤٦

(المهدي منّا أهل البيت، يُصلحه الله في ليلة) (1) .

(المهدي من عترتي من ولد فاطمة) (2) .

(لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم، لبعث الله عزّ وجلّ رجلاً منّا، يملؤها عدلاً كما مُلئت جَوراً) (3) .

(لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي بواطئ اسمه اسمي) (4) .

(الأئمّة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين، والتاسع مهديّهم) (5) .

واستكمالاً للحديث في هذا المضمار، نعرض فيما يلي عدداً من النقاط الأُخرى:

1 - يُعدّ حديث (اثنا عشر خليفة)، أو (اثنا عشر أميراً)، المروي عن جابر بن سمرة، من الأحاديث المشهورة التي أُخرجت بطرق متعدّدة، كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك، والذي عليه عقيدة أغلب الذين وثّقوا الحديث، ورووه أنّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أدلى به في (حجّة البلاغ)، بيد أنّ عمليّة دراسة طرق الحديث وتحليل صيغه الروائيّة تدلّ بوضوح، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أدلى بهذا الحديث في مكانين، هما:

أ: مسجد النبي:

وفاقاً لرواية مسلم وأحمد بن حنبل، جاء نصّ جابر بالصيغة التالية: (سمعت

____________________

(1) سنن ابن ماجة: 2/1367/4085، مسند ابن حنبل: 1/183/645، المصنّف لابن أبي شيبة: 8/678/190.

(2) سنن أبي داود: 4/107/4284، والطريف الذي يُلفت النظر في هذا الكتاب، أنّه أورد الرواية مورد البحث - اثنا عشر خليفة - في باب (كتاب المهدي).

(3) مسند ابن حنبل: 1/213/773، سنن أبي داود: 4/107/4283 نحوه.

(4) مسند ابن حنبل: 2/10/3571، مسند البزّار: 5/225/1832 نحوه.

(5) كفاية الأثر: 23.

٤٧

رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم الجمعة عشيّة رجم الأسلمي، يقول: (لا يزال الدين) (1) إلى آخر النصّ.

المعلوم أنّ ماغر بن مالك الأسلمي المذكور في النصّ قد تمّ رجمه بالمدينة جزماً (2) .

علاوة على ذلك، ثمّة نصوص أُخرى، تتحدّث صراحة أنّ الراوي سمع الحديث في مسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله)، كما في قوله: (جئت مع أبي إلى المسجد والنبي يخطب) إلى آخر الحديث (3) ، حيث يدلّ لفظ (المسجد) في الرواية على المسجد النبوي ظاهراً.

ب: حجّة البلاغ:

هذه المجموعة من الأخبار مرويّة عن جابر بن سمرة بن جندب أيضاً، وقد ذكر فيها أنّه سمع مقالة النبي هذه في ذلك الموسم العظيم (4) (حجّة البلاغ أو حجّة الوداع)، وفي الموقف بعرفات (5) .

2 - إنّ استثمار رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) للموسم، وتوظيفه لاجتماع الأمّة العظيم في عرفات؛ لكي يُعلن هذه الحقيقة ويصدع بها، لهو أمر خليق بالاعتبار، وينطوي على الدروس والعِبَر؛ فقد حرص النبي (صلَّى الله عليه وآله) على أن يستفيد من هذا الحشد الكبير في الإعلان عن (حديث الثقلين)، وذلك في واحدة من المرّات المتكرّرة التي كان النبي قد أعلن فيها هذا الحديث المصيري على الأمّة.

____________________

(1) صحيح مسلم: 3/1453/10، مسند ابن حنبل: 7/410/20869، مسند أبي يعلي: 6/473/7429؛ الخصال: 473/30.

(2) راجع: صحيح البخاري: 5/2020/4969 و4970 وصحيح مسلم: 3/1319 - 1323.

(3) المعجم الكبير: 2/197/1799.

(4) راجع: مسند ابن حنبل: 7/405/20840 و20843 وص 408/20857 وص 430/20992 والمعجم الكبير: 2/197/1800.

(5) راجع: مسند ابن حنبل: 7/418/20922 وص 424/20959 و20960 وص 429/20991.

٤٨

بشكل عامّ، عندما نطلّ على هذه المراسم نجدها شهدت عرض (الثقلين) بوصفهما معاً السبيل إلى هداية الأمّة، وفي المشهد ذاته تمّ تحديد مصاديق العترة والإعلان عنها بوضوح، وفي الذروة الأخيرة من هذا الموسم سجّل المشهد نزول آية (إكمال الدين) وإعلان الولاية، هذا الإعلان الذي ترافق مع إنذار للنبي (صلَّى الله عليه وآله)، يفيد أنّ عدم إبلاغه ما أُنزل إليه من ربّه يتساوق مع ضياع الرسالة وعدم إبلاغها بالمرّة.

بعبارة أُخرى: كأنّ المشهد يُخبرنا بوقائعه وما حصل فيه، أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كان في الموسم هذا بشأن أن يُلقي على الأمّة نظرة مستأنفة في جميع محتويات الرسالة، ويستعيد أُمور هذا الدين، وقد راح في الأيّام الأخيرة من سفره يركّز على الحجّ والولاية أكثر.

لننظر إلى الإمام الباقر (عليه السلام) وهو يقول: (حجّ رسول الله...) (1) .

3 - تنطوي بعض صيغ الحديث ونقوله على نقطة تستثير السؤال وتستحقُّ التأمّل؛ فقد انطوت بعض نقول الحديث على جملة: (كلّهم من قريش) ، وهي تدلّ على أنّ جابراً لم يسمع هذه الجملة، فسأل عنها أباه، فذكر له أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال في تتمّة الحديث: (كلّهم من قريش) أو (كلّهم من بني هاشم).

هذه الصيغ على ثلاثة أضرب، هي:

أ: إنّ جابراً قال فقط: (ثمّ قال كلمة لم أفهمها) (2) .

أو: (ثمّ تكلّم بكلمة خفيت عليّ) (3) ، من دون إيضاح علّة خفاء الصوت،

____________________

(1) راجع: واقعة الغدير.

(2) مسند ابن حنبل: 7/427/20976.

(3) مسند ابن حنبل: 7/427/20977.

٤٩

وسبب عدم السماع.

ب: وفي بعضها عزى جابر عدم سماعه تتمّة الحديث إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله) قائلاً: (ثمّ خفّض صوته، فلم أدرِ ما يقول) (1) .

أو: ثمّ همس رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما الكلمة التي همس بها النبي (صلَّى الله عليه وآله)؟) (2) .

أو: ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: قد سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول: (يكون بعدي اثنا عشر أميراً)، فما الذي أخفى صوته؟ قال: (كلّهم من قريش) (3) .

ج: ذكر في بعضها أنّ سبب عدم سماع كلام النبي كان لغط الناس واهتياجهم؛ حيث ضاع كلام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ولم يعد يُسمع وسط ضجيج الحاضرين وصراخهم.

والذي يبعث على الدهشة والأسى، أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) في الوقت الذي كان يتحدّث فيه إلى الناس، نجد الذين يستمعون إليه يرفعون أصواتهم خلافاً لصريح الأمر الإلهي: ( ... لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ... ) (4) ، وقد علت أصواتهم وزاد اهتياجهم، حتى لم يعد يتميّز كلام النبي وما يقوله في هذا الضجيج، بحيث لم يكن بمقدور الراوي - جابر - أن يتابع بقيّة الكلام، فلاذ بالآخرين، فذكروا له أنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال: (كلّهم من قريش).

لقد جاءت صيغ متعدّدة تدلّ على هذا المعنى، منها:

____________________

(1) المعجم الكبير: 2/197/1799.

(2) المعجم الكبير: 2/196/1794.

(3) المعجم الكبير: 2/253/2062.

(4) الحجرات: 2.

٥٠

(ثمّ لغط القوم وتكلّموا، فلم أفهم قوله بعد (كلّهم)) (1) .

(فقال كلمة صمّنيها الناس) (2) .

(ثمّ تكلّم بكلمة أصمّنيها (3) الناس، فقلت لأبي - أو لابني -: ما الكلمة التي أصمّنيها الناس؟ قال: كلّهم من قريش) (4) .

كما جاء أيضاً: (فصرخ الناس، فلم أسمع ما قال) (5) .

وبتأمّل ما أوردناه يهتدي الباحث إلى نقاط، لا يخلو ذكرها من فائدة:

1 - تحظى قضيّة الخلافة ومستقبل الأمّة ومصيرها بعد النبي (صلَّى الله عليه وآله) بحسّاسيّة فائقة؛ بحيث كان النبي عندما يصل إلى النقطة الجوهريّة ويبلغ لبّ المسألة يخفض صوته، حتى لكأنّه يهمس، وفي موقع آخر كان الناس يبادرون إلى اللغط وإثارة الضوضاء حال سماعهم الكلام النبوي، يُظهرون بذلك إباءهم له.

2 - تذكر بعض الروايات في تصوير الحالة (خفض الصوت)، وبعضها الآخر ذكرت (اللغط والضجيج)، حيث يرتبط كلّ وصف من هذه الأوصاف بمورد من موارد النقل، فجابر يذكر أنّه لم يسمع الكلام النبوي في المسجد؛ لأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) خفض صوته. أمّا في الحديث الذي جاء في مسند أحمد بن حنبل، فقد ذكر جابر أنّه لم يسمع الكلام للغط القوم وهياجهم.

والظاهر أنّ خفض النبي صوته كان في المسجد النبوي في المدينة، ولغط الناس وهياجهم كان في حجّة الوداع، كما أشارت لذلك الروايات المتقدّمة.

____________________

(1) مسند ابن حنبل: 7/430/20991، المعجم الكبير: 2/196/1795.

(2) صحيح مسلم: 3/1453/9، مسند ابن حنبل: 7/428/20980 وفيه (أصمّنيها).

(3) أصمّنيها الناس: أي شغلوني عن سماعها، فكأنّهم جعلوني أصمَّ (لسان العرب: 12/343).

(4) مسند ابن حنبل: 7/435/21020؛ الخصال: 472/23.

(5) الخصال: 473/29.

٥١

3 - إنّه لأمر حريٌّ بالانتباه ما جاء في أحد النقول، من أنَّ النبيّ قال عندما أخفى صوته: (كلّهم من بني هاشم).

والحقّ، لا يستبعد أن تكون تتمّة الكلام - على وجه الحقيقة - هي جملة: (كلّهم من بني هاشم)، التي أثارت الهياج، وعلا كلام كثيرين عند سماعها، فلم يذعنوا لها، وأبوا قبولها، والنقطة التي تزيد من قوّة هذا الاستنتاج، هي مشهد السقيفة وما جرى في ذلك اليوم من حوادث، ففي صراع يوم السقيفة لم يستند أيّ من أطراف اللعبة على مثل هذا الكلام، ولم يذكر أحد أنّه سمع النبيّ، يقول: (كلّهم من قريش) ، برغم أنّ هذا الكلام كان يمكن أن يكون مؤثّراً في حسم الموقف.

لهذا كلّه؛ يمكن القول: إنّ تتمّة الحديث النبوي كانت: (كلّهم من بني هاشم) لا غير، ثمّ بمرور الوقت، وعندما حانت لحظة تدوين الحديث قدّروا أنّ من (المصلحة) استبدال (كلّهم من بني هاشم) بتعبير (كلّهم من قريش) !

مهما يكن الأمر، ينطوي هذا الحديث بنقوله الكثيرة وطرقه المتعدّدة التي أيّدها محدّثو أهل السنّة أيضاً، ينطوي على رسالة واحدة لا غير، هي الإعلان عن ولاية عليّ بن أبي طالب وأولاده، والتصريح بخلافة عليّ (عليه السلام) بعد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بلا فصل؛ ومن ثمّ فهو دليل آخر على السياسة النبويّة الراسخة في تحديد مستقبل الحكم وقيادة الأمّة من بعده.

٥٢

(13)

حديث السفينة

والنبيّ (صلَّى الله عليه وآله) يعيش بين الأمّة كان يُمسك بجميع الأُمور، ويُشرف على الشؤون كافّة، ولم يكن المجتمع الإسلامي على عهد النبيّ قد اتّسع بعدُ، بيد أنّ هذا المجتمع الفتيّ كان يواجه مصاعب كثيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويعاني عدداً من الانحرافات، فتيّار النفاق - مثلاً - كانت بذوره الأُولى قد نشأت في تضاعيف ذلك المجتمع، وهكذا لاحت أيضاً إرهاصات ارتداد البعض انطلاقاً من المجتمع ذاته.

لقد كان الرسول القائد ينظر ليومٍ تغيب فيه هذه الشعلة المتوهّجة، ويفقد المجتمع وجود النبيّ، فيما ينبغي للأمَّة أن تشقّ طريقها من بعده، وتواصل الدرب.

إنّ كلّ ما توفّرنا على ذكره يُشير إلى التخطيط لمستقبل الأمّة وتدبير غدها الآتي؛ هذا الغد الذي سينشقّ عن أجواء تتفجّر جوانبها بالفتنة، وتضطرم بالعواصف العاتية وأمواج الضلال.

على ضوء هذه الخلفيّة؛ انطلقت كلمات رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تُدلّ الأمّة على الملاذ الآمِن، الذي تعتصم به من الفتن والضلال فيما اشتهر بـ (حديث السفينة)، الذي جاء في أحد نصوصه: (ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مَثل سفينة نوح؛ مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها هلك).

ما أروعه من تشبيه دالّ وموقظ، يبعث على التيقّظ والحذر!

فرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يتطلّع صوب المستقبل من وراء حُجب الغيب، فيبصره مليئاً بالفتن والضلالات التي يشبّهها بالأمواج المتلاطمة العاتية، أمواج مهولة تُغرق

٥٣

مَن يعرض لها، وتدفعه نحو قاع سحيق، وما أكثر من يتسلّق الأوهام حذر هذه الأمواج، بيد أنّها سُرعان ما تفترسه وتأتي عليه في ملاذه الواهن، فيُدركه الغرق ويصير هباءً ضائعاً.

فإذاً، ينبغي أن تكون الأمّة على حذر، وأن تُدرك أنّ طريق النجاة الوحيد يكمن في ركوب (السفينة)، واللوذ بأهل البيت (عليهم السلام)، والاعتصام بحُجْزتهم، والتمسّك بتعاليمهم وسنّتهم.

ليس هناك شكّ في دلالة الحديث على وجوب إطاعة أهل البيت (عليهم السلام)، وإلاّ هل لعاقل تأخذه أمواج عاتية، فيُشرف حتماً على الغرق والضياع، ثمّ يتردّد في النجاة، ولا يركب سفينة الإنقاذ؟!

من جهة أُخرى، إنّ التطلّع صوب هذه السفينة يستتبع الهداية بالضرورة والنجاة من أمواج الفتن والضلالات، فالسفينة منجية؛ وإذاً فهؤلاء الكرام معصومون منزّهون عن الزلل والخطأ (1) .

____________________

(1) لمزيد الاطّلاع على متن حديث السفينة وسنده وطرقه وما يتّصل به من بحوث راجع: نفحات الأزهار: الجزء الرابع، وأهل البيت في الكتاب والسنّة: 95.

٥٤

(14)

حديث الثقلين

من بين الخطوات التي تدبّرها الرسول القائد لمستقبل الأمّة، للحؤول دون تفشِّي الضلالة، وشيوع الجهل في وسطها، وانحدارها إلى هوّة الحيرة والضياع، هي جهوده التي بذلها لتعيين المرجعيّة الفكريّة، وتحديد مسار ثابت للحركة الفكريّة، وبيان كيفيّة تفسير القرآن والرسالة والمصدر الذي يستمدّ منه ذلك.

هذه الحقيقة ربّما عبّرت عن نفسها بأنصع وجه في (حديث الثقلين).

لقد تضوّعت مواطن كثيرة بشذى الحديث؛ حيث صدع به النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) مراراً بمحتوى واحد وصيغ بيانيّة متعدّدة، وفي مواضع مختلفة: في عرفة، ومسجد الخيف، وفي غدير خمّ، كما أتى على ذكره في آخر كلام له وهو على مشارف الرحيل وقد ثقل عليه المرض، في الحجرة الشريفة، وغير ذلك.

وبالإضافة إلى أهل البيت (عليهم السلام) فقد روى الحديث عدد كبير من الصحابة، كما ذهب إلى صحّته كثير من التابعين والعلماء (1) .

إنّ للحديث صيغاً متعدّدة، جاء في إحداها: (إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (2) .

____________________

(1) راجع: نفحات الأزهار: 2/90، وأهل البيت في الكتاب والسنّة: 135.

(2) سنن الترمذي: 5/663/3788.

٥٥

كلام عظيم، ومنقبة شاهقة، وفضيلة سامية لا نظير لها، وهداية تبعث على السعادة، وتوجيه يعصم من الضلالة والردى.

النقطة الأهمّ التي يحويها هذا الكلام النبوي العظيم، والحقيقة العظمى التي يجهر بها دون لبس، هي مرجعيّة أهل البيت (عليهم السلام)، والحثّ على وجوب اتّباعهم والائتمام بهم في الأقوال والأفعال، وقد صرّح بهذه الحقيقة الرفيعة عدد كبير من العلماء، منهم سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني؛ أحد كبار متكلِّمي أهل السنّة، حين قال: (إنّه (صلَّى الله عليه وآله) قرنهم بكتاب الله في كون التمسّك بهما منقذاً من الضلالة، ولا معنى للتمسّك بالكتاب إلاّ الأخذ بما فيه من العلم وآلهداية، فكذا في العترة) (1) .

على صعيد آخر، تتمثّل أهمّ مهامّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) ومسؤوليّاته بالهداية وإزالة الضلالة. هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى؛ فإنّ ما يأتي في طليعة واجبات الأمّة وأكثرها بداهة، هو ضرورة تمسّكها بكلّ ما يبعث على الهداية، ويعصم من الضلال، وهذا ما فعله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تماماً، وهو يضع المسلمين أمام هذا الواجب، في قوله: (ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا)، وعندئذ هل يسع إنسان أن يتردّد في وجوب اتّباع (العترة) الهادية، والتسليم إليها وهي العاصمة عن الضلال؟!

ممّا يدلّ عليه الحديث أيضاً، أنّ التمسّك بهذين الثقلين الكريمين يكفي لبلاغ المقصد الأسنى وتحصيل الهداية، وأن ليس وراءهما إلاّ الضلال ( ... فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ

____________________

(1) شرح المقاصد: 5/303. ولمزيد الاطّلاع على آراء عدد من علماء أهل السنّة راجع: نفحات الأزهار: 2/248.

٥٦

إِلاَّ الضَّلاَلُ... ) (1) .

من جهة أُخرى يسجّل حديث الثقلين (عصمة) العترة من دون لبس وغموض؛ فمن زاوية عدّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) التمسّك بها واجباً ضروريّاً من دون أيّ قيد أو شرط، فهل من المنطقي أو المعقول أن نتصوّر النبيّ يدفع الأمّة إلى التمسَّك بمرجعيّة أشخاص، ويحثّها على التمسّك بتعاليمها دون قيد أو شرط، وأشخاص هذه المرجعيّة يعيشون الضلال؟ ثمّ إنّ هذه العترة هي عدل قرآن ( لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) (2) ، فهكذا العترة أيضاً.

وأخيراً دلّ الحديث على أنّ التمسّك بالعترة هو سدّ يحول دون الضلالة، فإذا ما كان الضلال سائغاً بحقّ هذه المرجعيّة فهل يمكنها أن تكون عاصمة عن الضلال؟!

فالعترة - إذاً - معصومة جزماً بدلالات الحديث.

____________________

(1) يونس: 32.

(2) فصّلت: 42.

٥٧

(15)

حديث الغدير

ذكرنا أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أكّد منذ الأيّام الأُولى التي صدع فيها بالرسالة، على الإمامة ومستقبل الأمّة من بعده، وشهدت له المواطن جميعاً، وهو يُعلن (الحقّ)، ويحدّد أمام الجميع الإمامة من بعده بأعلى خصائصها، وبمزاياها المتفوّقة، ولم يتوانَ عن ذلك لحظة، ولم يُضِع فرصة إلاّ وأفاد منها في إعلان هذا (الحقّ) والإجهار به.

وفي الحجّة الأخيرة التي اشتهرت بـ (حجّة الوداع)، بلغت الجهود النبويّة ذروتها، وقد جاءه أمر السماء بإبلاغ الولاية، لتكتسب هذه الحجّة عنوانها الدالّ، وهى تسمَّى (حجّة البلاغ) (1) .

لنشاهد المشهد عن كثب، ونتأمّل كيف تكوّنت وقائعه الأُولى، فهذا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قد قصد التوجّه للحجّ في السنة العاشرة من الهجرة، وقد نادى منادي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُعلم الناس بذلك، فاجتمع من المسلمين جمع غفير قاصداً مكّة ليلتحق بالنبي (صلَّى الله عليه وآله)، ويتعلّم منه مناسك حجّه.

حجّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالمسلمين، ثمّ قفل عائداً صوب المدينة، عندما حلَّ اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، كانت قوافل الحجيج تأخذ طريقها إلى مضاربها ومواضع سكَّناها، فمنها ما كان يتقدّم على النبيّ، ومنها ما كان يتأخّر عنه، بيد أنّها لم تفترق بعدُ، إذ ما يزال يجمعها طريق واحد.

حلّت قافلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بموضع يقال له: (غدير خمّ) في وادي الجحفة، وهو مفترق تتشعّب فيه طرق أهل المدينة

____________________

(1) راجع: كتاب (الغدير): 1/9.

٥٨

والمصريّين والعراقيّين.

الشمس في كبد السماء تُرسل بأشعّتها اللاهبة، وتدفع بحممها صوب الأرض، وإذا بالوحي يغشى النبيّ ويأتيه أمر السماء، فيأمر أن يجتمع الناس في المكان المذكور.

ينادي منادي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بردّ مَن تقدّم من القوم، وبحبس مَن تأخّر؛ ليجتمع المسلمون على سواء في موقف واحد، ولا أحد يدري ما الخبر.

منتصف النهار في يوم صائف شديد القيظ، حتى إنّ الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدّة الحرّ، فيما يلوذ آخرون بظلال المراكب والمتاع.

راحت الجموع المحتشِّدة تتحلّق أنظارها بنبيّها الكريم، وهو يرتقي موضعاً صنعوه له من الرحال وأقتاب الإبل.

بدأ النبيّ خطبته، فراحت الكلمات تخرج من فؤاده وفمه صادعة رائعة، حمد الله وأثنى عليه، ثمّ ذكر للجمع المحتشِّد أنّ ساعة الرحيل قد أزِفت، وقد أوشك أن يُدعى فيُجيب، على هذا مضت سنّة البشر قبله من نبيّين وغير نبيّين.

أمَّا وقد أوشك على الرحيل، فقد طلب من الحاضرين أن يشهدوا له بأداء الرسالة، فهبّت الأصوات تُجيب النبيّ على نسق واحد: (نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت؛ فجزاك الله خيراً) .

ما لهذا جمَعَهم في هذه الظهيرة القائضة، بل هو يعدّهم لنبأٍ مُرتقب، ويُهيّئ النفوس لبلاغ خطير هذا أوانُه، تحدّث إليهم مرّات عن صدقه في (البلاغ)، كما تكلّم عن (الثقلين) وأوصى بهما، ثمّ انعطف يحدّثهم عن موقعه الشاهق العليّ في الأمّة، وطلب منهم أن يشهدوا بأولويّته على أنفسهم، حتى إذا ما شهدوا له بصوت واحد، أخذ بعضد عليّ بن أبي طالب ورفعه، فزاد من جلال المشهد

٥٩

وهيبته، ثمّ راح ينادي بصوت عالي الصدح قويَّ الرنين: (فمَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه).

قال هذه الجملة، ثمّ كرّرها ثلاثاً، وطفق يدعو لمَن يوالي عليّاً، ولمَن ينصر عليّاً، ولمَن يكون إلى جوار عليّ.

تبلّج المشهد عن نداء نبوي أعلن فيه رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) ولاية عليّ وخلافته، على مرأى من عشرات الأُلوف، وقد اجتمعوا للحجّ من جميع أقاليم القبلة، وصدع بـ (حقّ الخلافة) و(خلافة الحقّ).

فهل ثَمّ أحد تردّد في مدلول السلوك النبوي، وأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) نصَّب بهذه الكلمات عليّ بن أبي طالب وليّاً وإماماً؟

أبداً، لم يسجّل المشهد التاريخي يومئذ مَن استراب بهذه الحقيقة أو شكّ فيها، حتى أولئك النفر الذين أخطأوا حظّهم، وعتت بهم أنفسهم، فأنفوا عن الانقياد، حتى هؤلاء لم يستريبوا في محتوى الرسالة النبويّة، ولم يشكّوا بدلالتها، إنّما انكفأت بهم البصيرة، فراحوا يتساءلون عن منشأ هذه المبادرة النبويّة، وفيما إذا كانت من عند نفس النبيّ أم وحياً نازلاً من السماء.

انجلى المشهد عن عليّ بن أبي طالب وهو متوّج بالولاية والإمارة، فانثال عليه كثيرون يهنّئونه من دون أن تلوح في أُفق ذلك العصر أدنى شائبة تؤثّر في نصاعة هذه الحقيقة أو تشكّك فيها، فهذا هو عمر بن الخطّاب نهض من بين الصفوف المهنّئة، وقد خاطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (هنيئاً لك يا بن أبي طالب، أصبحت اليوم وليَّ كلّ مؤمن) (1) .

____________________

(1) راجع: حديث الغدير/التهنئة القياديّة.

٦٠

- ٢ -

وقد أثبت العلم التجريبي أن خصائص هذه العناصر غير نهائية وغير ثابتة، بل يمكن تبدل بعضها ببعض، وهذا التبدل بعضه يتم بصورة تلقائية، وبعضه يمكن إحداثه بالوسائل العلمية. فعنصر اليورانيوم - مثلاً - يطلق انواعاً ثلاثة من الأشعة، منها أشعة (الفا) وهي عبارة عن ذرات عنصر الهليوم، ويتحول اليورانيوم تدريجياً إلي راديوم، ويتحول الراديوم - بعد عدة تحولات عنصرية - إلي عنصر الرصاص.

وقد تمكن العالم الطبيعي (رذرفورد) من تحويل عنصر إلى عنصر آخر بجعل ذرات الهليوم تصطدم بذرات الآزوت، فنتجت ذرة هيدروجين من ذرة الازوت، وتحولت ذرة الازوت إلى اوكسجين.

وهكذا غدا من الثابت أن خصائص العناصر ليست ذاتية للعناصر.

- ٣ -

وقد استطاع العلم التجريبي - على ضوء نسبية آينشتين - أن ينزع عن الكتلة صفتها المادية، ويحولها إلى طاقة، فلم يعد في الكون عنصران متميزان: أحدهما المادة المحَّسة، والآخر الطاقة غير المحسَّة، بل غدت المادة عبارة عن طاقة مركزة، فإن كتلة الجسم نسبية، وليست ثابتة، فهي تزيد بزيادة السرعة، كما اكدت التجارب التي أجراها علماء الفيزياء الذرية. ولما كانت كتلة الجسم تزداد بازدياد حركته - وليست الحركة

٦١

إلا مظهراً من مظاهر الطاقة - فالكتلة المتزايدة في الجسم هي إذن طاقته المتزايدة، وذلك وفقاً للمعادلة التالية:

الطاقة = كتلة المادة × مربع سرعة الضوء: «١٨٦٠٠٠» ميلٍ في الثانية. كما أنه : الكتلة المادة = الطاقة مربع سرعة الضوء.

وإذن، فنفس صفة «المادية» صفة عرضية، وليست ذاتية للمادة المتطورة.

- ٤ -

على ضوء الحقائق السابقة.

١ - إن المادة الأصلية للكون المادي ترجع إلى حقيقة واحدة مشتركة.

٢ - إن خواص المركبات التي تتكون من العناصر - هذه الخواص ليست ذاتية بالنسبة إلى المادة الأصلية، وإنما هي عارضة عليها بسبب التركيب، وليس عن الطبيعة الاساسية المكوِّنة للمركب.

٣ - إن خواص العناصر البسيطة التي يتكون منها العالم المادي أيضاً ليست ذاتية لتلك العناصر وليست نهائية بدليل تحول بعض العناصر إلى بعض آخر كما رأينا.

٤ - وأخيراً إن صفة «المادية» ليست ذاتية للمادة المحسوسة، لأنها تتحول - في نهاية المطاف - إلى طاقة.

٦٢

وإذن، فليست لدينا «حقيقة نهائية» هي المادة. وليست لدينا حقيقة نهائية. هي الطاقة.

النتيجة

- ٥ -

ان المادة لا يمكن ان تكون هي العلة النهائية للكون، لان الكون يحتوي على حشد هائل من المظاهر المتنوعة، والانواع المتباينة، وهي ترجع باجمعها إلى حقيقة واحدة كما رأينا. ولا يمكن للحقيقة الواحدة أن تختلف آثارها وتتباين افعالها، إذ لو أمكن ذلك لأمكن أن تكون الحقيقة الواحدة متناقضة الظواهر، ولكن هذا مستحيل لانه يؤدي الى القضاء على نتائج العلوم الطبيعية جميعاً، لأن هذه العلوم قائمة - كما رأينا سابقاً - على أساس قانون التناسب الذي يقضي بأن الحقيقة الواحدة لها آثار واحدة وثابتة لا تتغير، فقد بينا أن التجربة في العلم الطبيعي لا تتناول إلا نماذج ضئيلة من المادة المدروسة، وتعمم نتائج التجربة الى جميع المادة المدروسة بمقتضى قانون التناسب، فلو فرضنا إمكان تناقض ظواهر الحقيقة الواحدة لما أمكن وضع أي قانون علمي عام، وبذلك تنهار العلوم كلية.

واذن، فهذا الفرض - ان التنوع من خصائص المادة الذاتية - فرض مستحيل.

واذن، من المستحيل أيضاً أن تكون المادة هي العلة النهائية للكون،

٦٣

لأن هذا الفرض يؤدي بنا الى الاستحالة العقلية كما رأينا، ويصدم حقائق التجربة الواقعية.

واذن، فاذا كانت المادة غير صالحة لأن تكون علة نهائية، فلا بد أن تكون هذه العلة النهائية فوق المادة وفوق الطبيعة.

- ٦ -

هل بقي علينا شيء؟

نعم بقي علينا أن نناقش - بصورة مباشرة - موقف الماركسية من هذه المسألة لنفضح قصورها وعجزها وسطحيتها.

تقول الماركسية في تصوير نشوء الكون عن المادة: ان الاشياء تنتج عن حركة في المادة، وان حركة المادة ناشئة ذاتياً عن المادة نفسها لاحتوائها على النقائض في داخلها، وقيام الصراع بين تلك النقائض.

ونغض النظر الآن عن بطلان المبدأ الماركسي (مبدأ التناقض) ونناقش هذه المسألة وفقاً لهذا المبدأ لنرى إن كانت الماركسية قادرة على تفسير نشوء الكون من المادة وفقاً لمبادئها؟

لقد أوضح العلم كما أشرنا - إلى أن العناصر التي يتألف منها الكون ابتداء من الهيدروجين وحتى نهاية السلسلة تعود إلى مادة واحدة بسيطة مشتركة بين الجميع (ولنغض النظر عن ان هذه المادة الاساسية عبارة عن

٦٤

طاقة) فنسأل: كيف وجدت العناصر الاساسية للكون؟

سنقول - مع الماركسية - إن التناقضات الداخلية في المادة الأساسية ( ولا نعرف من أين جاءت هذه التناقضات في المادة الاساسية البسيطة المتجانسة) - إن التناقضات الداخلية ولدت أبسط العناصر (الهيدروجين) وبالتناقضات الداخلية في الهيدروجين تولد عنصر ارقى منه واكثر تعقيداً، وهو عنصر الهليوم، وتستمر التناقضات تفعل فعلها في الهليوم وما يتولد منه حتى يصل التطور إلى ذروته في العنصر الثاني بعد المئة النوبليوم.

هذا هو التفسير يقدمه الديالكتيك ليفسر به ديناميكية المادة.

ولكن بطلان هذا التفسير يتضح حين نلاحظ أن الهيدروجين لو كان مشتملاً بصورة ذاتية على نقيضه، ومتطوراً بسبب ذلك فلماذا لم تتكامل جميع ذرات الهيدورجين وتتحول إلى هليوم، ولماذا تحول بعضها إلى عنصر الهليوم وبقي الاخر محتفظاً بخواصه العنصرية بالرغم من تناقضاته الداخلية التي حولت أجزاء منه إلى هليوم.

إن هذا المثال يمكن تطبيقه على جميع العناصر الاثنين والمئة، وهو يكشف عن بطلان التفسير الماركسي لديناميكية المادة.

وكما اتضح بطلان التفسير المادي على مستوى العناصر يتضح بطلانه بصورة جلية على مستوى المركبات، ولنأخذ الماء مثلاً على ذلك: الماء مركب من أُوكسجين وهيدروجين ولنفرض وفقاً للتفسير الماركسي أحد هذين العنصرين إثباتاً والاخر نفياً نتج عنهما مركب الماء.

ونتساءل: إذا كان هذا التفاعل يتم بصورة ذاتية بين عنصري

٦٥

الاكسجين والهيدورجين، فلماذا اختص بقسم معين منها، وبقيت الأقسام الاخرى متحررة من أسر هذا القانون، فيوجد اكسجين حر، ويوجد هيدروجين حر، ويوجد ماء.

إن هذا المثال - ويمكن تطبيقه على كل مركب في الكون - يكشف بوضوح عن بطلان التفسير الماركسي لديناميكية المادة.

* * *

الحقيقة هي أن المادة ليست ديناميكية، وليست هي نفسها سبباً ذاتياً لاكتساب خصائصها وتنوعها، فقد عرفنا النتتائج العلمية أن جميع خصائص المادة عرضية.

١ - خصائص المركبات صفات عرضية لها جاءت بسبب تركب العناصر. فخاصة السيلان في الماء عرضية جاءت من اتحاد عناصره، وإذا فرزناها ترجع إلى حالتها الغازية وتنعدم خاصة السيلان.

٢ - خصائص العناصر نفسها صفات عرضية لها، فاليورانيوم مثلاً خصائصه من اختزانه لانواع أشعته، فاذا فقدها يتحول إلى الراديوم الذي يتحول بدوره - بعد عدة تحولات إلى رصاص.

٣ - خصوصية «المادية» في المادة البسيطة نفسها صفة عرضية لها، فقد عرفنا أنها تتحول إلى طاقة، وتتكون من الطاقة.

وإذن: فليست المادة ديناميكية بذاتها تولد تفاعلاتها وتنوعاتها وظواهرها بنفسها، لأن كل ذلك (حتى ماديتها) شيء عرضي لها.

وهكذا يظهر بجلاء ووضوح عجز الماركسية عن تفسير نشوء الكون

٦٦

من المادة، وتسقط بصورة مزرية فكرة أن المادة هي العلة الاولى.

وهكذا ننتهي بصورة حتمية إلى الايمان باللّه علة نهائية للكون.

ويجب أن نوضح هنا ان ايماننا باللّه لا يعني أن الاسباب الطبيعية لا معنى لها ولا أهمية لها، وانما يعني أن التنوع والتطور الظاهر والخفي في الكون يعود إلى اسباب طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادة، وهذه الاسباب تتصاعد متولدة من بعضها حتى تصل في النهاية إلى علة وراء الطبيعة هي اللّه تعالى.

الاسلام والعلم

يرى المؤلف في ص ٢١

«أن الدين - كما يدخل في صميم حياتنا، وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي - يتعارض مع العلم، ومع المعركة العلمية قلباً وقالباً، روحاً ونصاً».

نناقش فيما يلي الأدلة التي ساقها المؤلف على رأيه هذا لنكشف عن خطأه، وعن جهله بموضوع نقده (الدين الاسلامي).

- ١ -

يذكّر المؤلف قارئه بالصراع الذي حدث بين العلم والدين في أُوربا، ونحن نقول له: إن الصراع حدث بين علماء عصر النهضة وكنيسة القرون الوسطى لأسباب لا مجال لذكرها الان، وليس بين العلم والاسلام. وحدث في أُوربا وليس في العالم الاسلامي، والاسلام ليس ملزماً بتبرير

٦٧

مواقف لم يتخذها هو في مناطق جغرافية لم يصل إليها، وفي مجتمعات لم يطبعها بطابعه.

وما يدعيه المؤلف من أن في العالم العربي معركة تدور في الخفاء بين الدين والعلم شيء لا نعرفه ولا نحسه، ولا يعرفه احد ولا يحسه - نعم تدور في العالم العربي معركة - ظاهرة وليست خفية - بين الاسلام وبين الالحاد متمثلاً في الماركسية ومشتقاتها. والماركسية ليست علماً: ليست علماً بعد أن افتضح عجزها عن تفسير تطور الكون والحياة والمجتمع، وبعد أن اضطر قادتها إلى تغييرها وتبديلها حتى لم يبق منها في بعض المناطق إلا اسمها، ليست علماً وانما هي مجموعة من الأخطاء في الفكر اطلق عليها إسم العقيدة. وإن صداقتنا مع المعسكر الشرقي لا تعني تبعيتنا له في عقائده وطرائقه التي اتضح لمفكرينا وعلمائنا بطلانها. إننا أصدقاء، نعم، ولكن عقيدتنا وجذورنا التاريخية ستبقى هي التي تكوّن شخصيتنا الحضارية المستقلة. وتدور في العالم الاسلامي معركة بين الاسلام وبين تيار الانحلال والاباحية الجنسية، والانهيار الاخلاقي الوافد إلينا من الغرب، وتدور في العالم الاسلامي معركة بين الاسلام وبين الاستعمار بشتىٍ اشكاله والوانه: العسكري، والاقتصادي، والفكري، من أي مصدر جاء.

- ٢ -

(ص ٢٢) أ : «ويحوي الدين الاسلامي آراء ومعتقدات تشكل

٦٨

جزءً لا يتجزأ منه عن نشوء الكون وتركيبه وطبيعته، عن تاريخ الانسان وأصله وحياته خلال العصور».

لا أدري أين وجد المؤلف هذه «الموسوعة الدينية عن الكون» نشوئه، وتركيبه، وطبيعته. الحق أن الموجود في القرآن والسنة الصحيحة لا يعدو الأفكار العامة عن نشوء الكون، وأنه نشأ بارادة اللّه، وعن اصل تكوين هذه السلالة البشرية الموجودة الان، وهي لا تتنافى مع اية حقيقة علمية قائمة على الاطلاق - كما سنرى.

نعم، ربما يكون المؤلف قد استقى بعض معلوماته الدينية من اشخاص أو مصادر متأثرة بالاسرائيليات كبعض العجائز المتأثرات كثيراً بهذا النوع من القصص فيروينها لاطفالهن، كما لا يزال يؤمن كثير من المتعلمين عندنا ببعض الفرضيات «العلمية» التي شاع في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، والتي تجاوزها العلم منذ عقود من السنين ولكن افكار متعلمينا لا تزال متشبثة بها بالرغم من الشكوك الكبيرة التي تحيط بانقاضها الباقية ك‍«الداروينية» و«المادية الجدلية»، ولا يفوتنا أن نذكِّر المؤلف وغيره بأن كثرة أشياع فكرة ما لا تعني أنها حقيقة، وأن القوة المادية لا يمكن أن تسبغ صفة الحقيقة على أية فكرة، إن الفكرة حينئذٍ تكون أداة سياسية، لا حقيقية علمية.

ب - بالنسبة إلى منهج البحث في كل من العالم والدين، قال المؤلف:

«إن الاسلام والعلم في هذا الأمر على طرفي نقيض، فبالنسبة للدين

٦٩

الاسلامي (كما بالنسبة لغيره) إن المنهج القويم للوصول إلى مثل هذه المعارف والقناعات هو الرجوع إلى نصوص معينة تعتبر مقدسة أو منزلة، أو الرجوع إلى كتابات الحكماء والعلماء الذين درسوا وشرحوا هذه النصوص».

أُكرر قولي عن المؤلف بأنه لا يعرف الاسلام (موضوع نقده).

أولاً: ليس في الاسلام افكار تفصيلية حاسمة حول الكون، وطبيعته وتركيبه وتفاعلاته، ومن هنا فليس ثمة موضوع لاتهام المؤلف للاسلام.

ثانياً: إن النصوص الدينية التي تكون مورداً للدراسة والفحص والتعمق فيها هي نصوص الدين، أي ما يتناول العقيدة والشريعة، وليس لأجل اكتشاف أسرار الطبيعة المادية. إن المنهج في استكشاف اسرار الطبيعة المادية هو التجربة وليس دراسة النصوص. إن علماء المسلمين العظام الذين نبغوا في جميع مجالات العلوم الطبيعية في المغرب والمشرق (الخوارزمي، ابن خلدون، ابن سينا، ابن الهيثم، جابر بن حيان، الطوسي وغيرهم، وغيرهم) هؤلاء العلماء الذين بنت أوربا نهضتها علي ثمرات بحوثهم العلمية توصلوا إلى نتائجهم العلمية الباهرة لا بدراسة القرآن والحديث يا دكتور، وإنما باتباع النهج العلمي في البحث والتجربة. إن دور الدين في تكوينهم العلمي هو انه الهمهم ودلهم على قداسة هذا النوع من البحث العلمي وعظمته وكوّن في عقولهم المنهج التجريبي عن طريق الأمر بالبحث والتأمل والنظر في ظواهر الطبيعة وأسرار الانسان، وذلك كما ورد كثيراً في الحديث وفي الآيات الكونية في القرآن.

لقد كان هؤلاء علماء في الفلك والطب والجغرافيا، والكيمياء والفيزياء

٧٠

والاجتماع البشري، وغير ذلك، وكانوا مع ذلك مسلمين صالحين يتلقى المجتمع والدولة على صعيد رجال الدين ورجال الدنيا نتاجهم بالاحترام والتقدير والاعجاب، بل وينفقون الاموال الطائلة عليهم وعلى بحوثهم، وعلى تيسير وسائل البحث العلمي لهم من مكتبات ومستشفيات، ومراصد، وغيرها.

هل سمع الدكتور أن عالماً مسلماً اضطهد لعلمه، لاكتشاف من اكتشافاته، أو لرأي من آرائه كما حدث في أمكنة أُخرى؟ لم يحدث هذا أبداً يا دكتور (فلماذا تقيس الدين الاسلامي إلى غيره) عفواً، فما بالي أسألك، والذي يبدو لي من كلامك انك جاهل بالتاريخ العلمي للمسلمين كجهلك بالدين.

ولا ينقضي تعجبي من أحد المدافعين عن الدكتور (ملحق النهار / ١٨ ك٢ ١٩٧٠) الذي أراد - بدافع من حقده على الاسلام أو جهله به - أن يلحق بالاسلام التهمة العالقة بغيره، فادعى أن الامويين قتلوا العلماء القائلين بحرية الفكر، ويا ليته جاء على ذلك بشاهد من التاريخ يثبت دعواه. نعم، كان الامويون يلتزمون بمبدأ الجبرية لغايات سياسية ولكن التاريخ لا يحدثنا انهم قتلوا القائلين بحرية الانسان. على اننا لا نستطيع اعتبار الامويين ممثلين امناء للاسلام - إن

موضوعنا هو الاسلام كما ورد في مصادره الاساسية.

- ٣ -

أ - « من الامور الجوهرية التي يشدد عليها الدين الاسلامي أن جميع الحقائق الاساسية التي تمس حياة

٧١

الانسان في الدنيا والآخرة قد كشفت مرة واحدة في نقطة معينة وحاسمة في التاريخ - نزول القرآن وربما الكتب الاخرى قبله - ».

من أين جاء المؤلف بهذه الفكرة عن الاسلام؟ ومن قال له أن جميع المعارف التي تتعلق بحياة الانسان في الدنيا قد اكتشفت بنزول القرآن؟ ولماذا اشتغل المسلمون بشتى العلوم إذن إذا كانت هذه هي عقيدتهم؟ لا استطيع الا أن اكرر اتهامي للمؤلف بأنه جاهل بموضوع نقده بصورة تبعث على الأسف. كلا يا استاذ هذه الخرافة التي ذكرتها ليست من الاسلام في شيء. إن المعرفة في الاسلام عملية اقتحام واكتشاف للمجهول. وقوله تعالى:

«َ ما فَرّطْنا في الكتَاب منْ شيء(١) » الذي استشهدت به، لا يعني ميادين العلوم والحقائق الكونية، إن كلمة «شيء» في الآية حين توضع في اطارها - الدين - تعني القواعد العامة المعلقة بامور العقيدة والشريعة، ولكن المشكلة انك لا تعرف الاسلام من مصادره الاساسية.

ب - «اما الدين فبطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن، يعيش في الحقائق الأزلية، وينظر إلى الوراء ليستلهم مهده».

إن الدين ثابت في عقائده وتشريعاته، ولكنه يدفع إلى الحركة في

____________________

(١) سورة الأنعام، آية: ٣٨.

٧٢

الكون، والتقدم في الحياة، وبناء الحضارة، ودليل ذلك تاريخ المسلمين الحضاري حين كان الإسلام يحركهم ويدفع بهم نحو بناء الحضارة وصنع التاريخ.

وتلح على ذهني أن المؤلف استقي أفكاره هذه من المستشرق ه‍ أ جيب في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» فإن هذا المستشرق في بعض فصول كتابه المذكور وجه إلى الاسلام هذا الاتهام الذي ردده المؤلف هنا.

ج - «في الواقع أصبح الاسلام الايديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه، والمرتبطة صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد».

إن الاسلام ليس حليفاً لأي نظام غير عادل، وإذا كانت بعض الدول «تظهر» الإسلام كحليف لها فما ذاك إلا لأنها سخرت الإسلام لخدمة مآربها، كما تظهر الحكومات الاشتراكية الإسلام كحليف لها، والحقيقة هي أن الإسلام مع نفسه فقط.

ولا تفوتنا هنا أن ننبه على تناقض من تناقضات المؤلف الكثيرة، فهو في هذا الموضع يتهم الإسلام بأنه حليف الاستعمار والرجعية، ولكنه في ص ٤٥ - ٥١، تحت عنوان «التوفيق التبريري» يقول ان الإسلام يتخذ سنداً للرجعية وللاشتراكية وللديمقراطيات الشعبية، وللليبرالية. ونسأل المؤلف: هل هذه المواقف تشكل اتهاماً للاسلام الذي لا ينسجم إلا مع نفسه فقط أو تشكل اتهاماً بالجهل أو بالنفاق لاولئك الذين يظهرونه بمثل هذه المظاهر «ملاحظة: نذكر المؤلف بأن حكومة ستالين في الاتحاد

٧٣

السوفياتي استعانت بالروح الديني عند المسلمين التابعين لها في الحرب العالمية الثانية»

هذه هي الأدلة التي ساقها المؤلف للتدليل على أن الإسلام يقف ضد العلم، وقد رأينا مدى تفاهتها، وكشفها عن جهل المؤلف بموضوع نقده.

* * *

وقد استطرد المؤلف في ص ٢٤ - ٣٣، في أفكار يبدو أنه أراد أن يعزز بها أدلته الثلاثة، ونحن نستعرضها فيما يلي لبيان زيفها وبطلانها:

أ - «وهناك تشابه بين الدين والعلم في أن كليهما يحاول أن يفسر الأحداث وأن يحدث الأسباب ص٢٤».

هذا خطأ. ان الدين الإسلامي لا يحاول أن يفسر الظواهر الطبيعية، ولا يحاول أن يجعل نفسه بديلاً عن العلم. ان الدين كما ذكرنا عقيدة وشريعة توجه سلوك الانسان وحياته، وموضوع العلم هو الطبيعة يكتشفها ويسخرها للانسان، ودور الدين في العملية دور الاثارة، والتوجية وبعث الاهتمام بالطبيعة، ونحو اكتناه المعنى الذي يكمن فيها، ومن يلاحظ الآيات الكونية في القرآن يرى الشاهد على ما نقول. وبهذا ينكشف أن كل النائج التي رتبها المؤلف على مقدمته السابقة خيال محض من عنده وليس من الإسلام.

ب - «خلق اللّه هذا الكون في فترة معينة من الزمن بقوله كن فكان. أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها الأساسية منذ أن خلقها اللّه، أي أنها تحتوي الآن على نفس الاجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي

٧٤

كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها، أما النظرية العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت منذ البداية كما هي عليه الان».

١ - نكرر ان العقيدة الأساسية في الإسلام هي أن علل التكوين المتصاعدة في عالم الطبيعة تنتهي إلى اللّه، وما ورد في القرآن،

( إنما أَمرُه إذا أرادَ شَيْئاً أن يَقُولَ له كن فيكون ) (١)

____________________

(١) ورد أمر الخلق (كن) في القرآن الكريم في سبع سور، في ثمان آيات، هي كما يلي

١ - «بديع السماوات والارض. واذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

البقرة (مدنية - ٢) الاية: ١١٧

والآية إخبار من اللّه تعالى عن قدره المطلقة على الخلق بصيغة الغالب.

٢ - «قالت: رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر. قال: كذلك اللّه يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

آل عمران ( مدنية - ٣) الآية: ٤٧

٣ - « إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»

آل عمران (مدنية - ٣) الآية ٥٩

إخبار من اللّه تعالى في مورد خاص (خلق آدم وعيسى) عن قدرته المطلقة على الخلق.

٤ - «وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون، قوله الحق...»

الانعام (مكية - ٦) الآية: ٧٣

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٥ - «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»

النحل (مكية - ١٦) الآية: ٤٠ إخبار من اللّه تعالى عن قدرته المطلقة على الخلق في مقام بيان قدرته المطلقة على بعث الأموات.

٦ - «ما كان اللّه أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

مريم (مكية - ١٩) الآية ٣٥

إخبار من اللّه تعالى بصيغة الغائب عن قدرته المطلقة على الخلق في مقام بطلان قول النصارى في عيسى بن مريم انه ابن اللّه.

٧ - «إنما أمره إذا أراد شيئاً ان يقول له كن فيكون»

يس (مكية - ٣٦) الآية: ٨٢

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في الاحتجاح على المشركين بشأن احياء الموتى وبعثهم.

٨ - «هو الذي يحيي ويميت، فاذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

المؤمن (مكية - ٤٠) الآية: ٦٨

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في مواجهة المشركين.

٧٥

وغيرها من الآيات التي ورد فيها هذا التعبير، لاتدل على أن الكون خلق بصورة دفعية على نحو مكتمل، وإنما تدل على قدرة اللّه الكلية الشاملة، بل لعلها على التدريج في الخلق أكثر دلالة بقرينة قوله:

( إذا أرادَ شَيْئاً )

٢ - أما أن الطبيعة وجدت بصورة مكتملة، وحافظت على سماتها الاساسية منذ أن خلقها اللّه... فهذا غير صحيح، وليس في الاسلام ما يشير إلى ذلك، بل في القرآن ما يدل صراحة على أن الطبيعة مرت في أدوار وأطوار حتى اكتملت في صورتها الحاضرة، وعلى المؤلف ان يرجع إلى القرآن الصحيح ليصحح رأيه.

٧٦

٣ - يقول المؤلف أن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء. ونحن نسأل المؤلف: إذا كانت العلوم ترفض الخلق من لا شيء، فكيف وجد الكون اذن؟ ومن اين وجد؟ وهذا الشيء الذي وجد منه الكون مَن أوجده؟ لقد رأينا في مطلع هذا الحديث أن الذي اوجده هو اللّه تعالى.

٤ - تعرض لذكر خلق آدم، والجنة والطرد منها، ونرجئ الحديث عن ذلك إلى موعدنا معه في مكان آخر من كتابه تعرض فيه لهذه المسائل.

٥ - بعد كل ما ذكرنا فما هي قيمة ما نقله المؤلف عن «رسل» وهل هو إلا تهريج في وجه المنطق والحقيقة.

٦ - في ص ٢٩ - ٣١ تحدث المؤلف عن التوتر الذي يعاني منه المثقف الحديث بسبب التعارض القائم بين ثقافته العلمية وبين تراثه الديني - ان هذا التوتر يا دكتور ليس ناشئاً من تعارض حقيقي بين العلم وبين الاسلام، وانما هو ناشيء من أن كثيراً مما تسمونه «علماً» ليس إلا افتراضات لم تتأكد صحتها، أو ثبت بطلانها، وان الدين كما تفهمونه ليس مستنداً على مصادره الاساسية، وانما على الأباطيل التي الصقت به على مدى القرون من الاسرائيليات وغيرها.

العلم، العلم الحقيقي والدين الصافي لا يتعارضان وإنما يتكاملان في تنشئة الانسان وتقدمه.

خلق الانسان

المعتقد الاسلامي الاساسي الذي هو من ضروريات الدين هو أن الانسان وكل شيء في الكون مخلوق للّه سبحانه وتعالى.

أما تفاصيل كيفية الخلق وابتدائها فليس فيها نص صريح قاطع غير قابل للتأويل. وكيفية الخلق وابتدائها ليست من أُصول الدين التي يتحتم الاعتقاد بتفاصيلها ومميزاتها، بل يتقبلها المسلم كما جائت به ظواهر الكتاب والسنة الصحيحة وما لا يتنافي مع المسلمات العلمية اليقينية..

بعد هذا التمهيد نواجه ثلاث مسائل:

١ - وجود الانسان على الأرض هل ابتدأ بالسلالة الانسانية الموجودة الآن، أو سبقتها سلالات أُخرى غيرها انقرضت وبادت؟

٢ - نشأة السلالة الانسانية الموجودة الان.

٣ - الداروينية في علم الأحياء.

٧٧

- ١ -

لم يتعرض القرآن الكريم بصراحة ووضوح لبيان أن هذه السلالة البشرية الموجودة الان هي السلالة الوحيدة التي ظهرت على الأرض، أو أن ثمة سلالات بشرية أُخرى ظهرت على هذه الأرض، وعاشت ثم انقرضت، ثم تكرر ظهور السلالات البشرية وانقراضها، ونسلنا البشري الحاضر هو آخر هذه السلالات.

قلت إن القرآن لم يتعرض بصراحة ووضوح لبيان هذه النقطة، وإن كان التحليل الدقيق لقوله تعالى في سورة البقرة، وهي قوله تعالى:

( وإذ قال رَبّكَ للمَلائكَةِ إني جاعل في الأرَضِ خَليفَةً. قالُوا: أتجعَلُ فيها مَن يُفْسد فيها ويسفكُ الدّماءَ، ونحنُ نُسبّحُ بحمدِكَ ونقدّسُ لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون ) (١) .

أقول: ان التحليل الدقيق لهذه الآية ربما يدل على أن سلالة انسانية سابقة على هذه السلالة، وجدت على ظهر الأرض، وعاشت، ثم انقرضت. وليس هنا مجال استعراض تحليل الآية المذكورة.

نعم في بعض الأخبار الواردة عن طريق أهل البيت(ع) وعن طريق غيرهم ما يدل بصراحة ووضوح على أن السلالة البشرية الموجودة الآن ليست هي الوحيدة التي وجدت على هذه الأرض من النوع الانساني،

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٠.

٧٨

وإنما سبقتها سلالات كثيرة انقرضت قبل وجودها:

١ - روي عن الإمام جعفر الصادق (ع)، قال: «لعلك ترى أن اللّه لم يخلق بشراً غيركم؟ بلى واللّه. لقد خلق ألف ألف آدم. أنتم في آخر أولئك الآدميين».

٢ - ذكر الشعراني في كتابه: «اليواقيت والجواهر/ ج ١ ص ٤٩» عن محيي الدين بن عربي حديثاً رواه عن ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال: «ان اللّه تعالى خلق مئتي ألف آدم».

٣ - وعن الإمام الباقر (ع): «لقد خلق اللّه في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض، فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه، ثم خلق اللّه عزوجل آدم أبا البشر، وخلق ذريته منه».

هذه نماذج من النصوص التي تدل بصراحة على تقدم سلالات بشرية، غير السلالة الحالية، في سكنى هذه الأرض، وانقراضها قبل ظهور هذه السلالة.

ولم يتح لنا الوقت لدراسة هذه النصوص من حيث السند والشكل والمضمون وتحليل دلالاتها، ونرجو ان تتاح لنا الفرصة لذلك.

- ٢ -

إن ظواهر القرآن والسنة الصحيحة تدل على أن السلالة البشرية الموجودة الآن تنتهي إلى آدم وحواء «لم يرد في القرآن! اسم حواء»

٧٩

ونحن هنا أمام أربع احتمالات.

١ - آدم رمز للنوع الانساني كله.

٢ - آدم عدد من أفراد النوع الانسان نظراً لتعدد الوان البشر ورسوسهم.

٣ - آدم فرد إنساني واحد. وهذا ينطوي على احتمالين:

أ - إنسان كامل تطور من نوع حيواني آخر كالقردة العليا مثلاً.

ب - إنسان كامل عقلياً تولد من زوج إنساني غير متكامل عقلياً وهذا بدوره تطور من زوج أحط منه عقلياً، وهذا بدوره تطور لزوج ادنى منه... وهكذا حتى تنتهي السلسلة إلى أبسط أنواع الحياة.

٤ - أن آدم وزوجه هما الابوان الأولان لهذه السلالة الانسانية، وهما لم يتكونا بالتناسل، وإنما خلقا من الأرض.

هذه هي الصورة المحتملة لمسألة المخلوق الأول، وابتداء خلق النوع الانساني - هذه السلالة الموجودة الآن بخصوصها، أو جميع السلالات السابقة ايضاً - واكرر أنه ليس من ضروريات الدين الاعتقاد بتفاصيل مسألة كيفية الخلق الأول، ما دام الاعتقاد الضروري الاساسي موجوداً، وهو أن اللّه خالق كل شيء، الانسان وغيره.

إلا اننا حين نعود إلى الفروض المتقدمة لفحصها نجد أن ظواهر القرآن تدل على الفرض الرابع، وتدفع بظاهرها الفروض الاخرى - ولا مجال

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174